رواية نيران الغجرية الفصل الثاني والستون 62 بقلم فاطمة أحمد
رواية نيران الغجرية الجزء الثاني والستون
رواية نيران الغجرية البارت الثاني والستون
رواية نيران الغجرية الحلقة الثانية والستون
أنى للماضي أن ينسى.
_________________
كان المشهد يعاد بحذافيره أمامه ، و بنفس التفاصيل حرفيا.
الرجل الذي رافق كوابيسه طوال السنوات السابقة و كان كظل أسود نغص عليه حياته و حولها إلى رماد هو نفسه صاحب اليد التي تقبض على عنقه الآن قصد قطع أنفاسه ، إنه عمه ! شرخ جديد يصيبه وخيانة أخرى تجزعه و لكنها كانت من أسوء الخيانات !
غامت عيناه تحشرج مدمدما بكبت :
– انت اللي كانت أمي بتخون بابا معاه … ازاي …
انقشع غضب عادل و تحول لذهول فأطلق سراحه و تراجع الى الخلف يناظر عمار الذي بدأ يستعيد نفسه و أصبح متأرجحا بين الصدمة و الخذلان ، لم يكفه كل ما جعله يخسره بل اتضح أيضا أنه خان أخاه بأبشع طريقة !
اللعنة كيف حدث هذا ، إنه شقيقه الذي تربى معه و أعطاه محبته كيف خدعه و اِنتهك شرفه ثم تابع حياته ببساطة هكذا ، اتضح أن الوغد الذي بحث عنه طويلا كان يعيش معه تحت نفس السقف و يأكل معه على مائدة واحدة و لكنه لم يعرفه.
يا الهي ما أبشع الحقيقة ، ليته لم يتذكر و ظل يعيش على تلك الكوابيس التي كانت أهون بكثير بل يا ليته مات عندما دفعه عادل من أعلى السلم في ذلك اليوم.
بقي عمار جالسا على الأرض مطالعا الفراغ بنظرات ميتة ووجه متخشب حتى انقشعت الغمامة السوداء عن عينيه و حولها الى عادل الذي تلجلج و تراجع للخلف فنهض الآخر و همهم بصوت قاتم :
– انا افتكرت … انت اللي حاولت تخنقني وبسببك وقعت من على السلم انت اللي … كنت مع أمي و حذرتني مقولش لحد.
– انت بتقول ايه اتجننت يعني انا مش فاهم قصدك.
تهدج عادل بإضطراب ووجه شاحب كالموتى محاولا المراوغة وهو لا يصدق لحد الآن أن اليوم الذي كان يخافه قد وصل و تذكر عمار كل شيء بسبب مواجهتهما إلا أن تقاسيم عمار الذي نهض على قدميه بينت له عدم وجود مجال للكذب أو الإخفاء ، و رغم هذا ظل يردد :
– لسه مبطلتش تخاريفك ديه.
هز الآخر رأسه هاتفا بجنون :
– نفس الوش ونفس الصوت … انا كنت مدرك ان الشخص اللي كان معاها هو حد بعرفه بس تطلع انت …
ارتعشت يده على زناد المسدس مصوبا إياه على عمار لكن في النهاية أخفض هاتفا و هو يتنهد :
– يعني في النهاية افتكرت كل حاجة اهو … ذاكرتك صحيت اخيرا.
تعرف اني بعد الحادث كنت كل يوم بصحى من النوم و اطلع من اوضتي وانا مستعد لأخويا اللي هيجي يحاسبني لاني زقيت ابنه من على السلم بس الأيام عدت وانت كبرت وبقيت معتمد ع نفسك يعني كنت هتواجهني بنفسك لو افتكرت كل حاجة بس بردو توقعاتي متحققتش … لكن دلوقتي اخيرا الانتظار انتهى.
حدجه عمار بذهول و غضب هستيري وهو يسمعه يعترف بكل سفالة ، و في اللحظة التي اقترب منه كي يهاجمه أوقفه عادل مشهرا السلاح ضده :
– اوعى تتحرك والا هفجر دماغك !
جز على أسنانه مضطرا للتوقف مفكرا بأنه على الأقل يجب عليه التريث من أجل لعنه و التأكد من أن عمه سينال جزاءه بما أن عمار سيموت هذه الليلة في كل الأحوال بهذا المسدس المصوب عليه.
لكنه لم يتحمل وهو يهمس بصوت مختنق :
– ليه … يا *** انت ازاي عملت كده ازاي بتخون أخوك … انت خنته مع مراته بدل ما تعتبرها زي أختك.
استهجن عادل و صاح بغضب :
– فيروز مش أختي و مش انا اللي خنت أبوك لأ هو خانني لما اتجوز البنت اللي بحبها و خدها مني !
رمقه الآخر بعدم فهم بينما تابع عمه بألم متذكرا الماضي :
– كانت شركتنا لسه صغيرة لما أبويا حب يستثمر مع شركة صاحبه و اجبرني اروح معاه هو و رأفت علشان نوقع ع العقد وانا رحت غصب عني بس مكنتش اعرف ان اليوم ده هيبقى أجمل يوم فحياتي.
التمعت عيناه بالدموع و ملامحه بالحنين هاتفا :
– شوفتها و انا داخل جري لاني اتأخرت و خبطت فيها ساعتها حسيت بالزمن اتوقف … كانت لابسة فستان أبيض خلاها زي الملاك و عينيها فيهم لمعة قوية بس بتشدك ناحيتها سحرتني بجمالها و شخصيتها ويوم عن يوم اتعلقت بيها اكتر و حبينا بعض بس انا غلطت معاها و كان تمن الغلطة ده غالي.
تحشرج صوته و انقلب وجهه العاشق بهوس لآخر حاقد وهو يضغط على فكه مغمغما :
– رأفت اللي كنت معتبره زي أخويا راح اتقدملها وهي لأنها كانت زعلانة مني حبت تسترد كرامتها وتنتقم مني فوافقت عليه … هو صحيح مكنش بيعرف اننا بنحب بعض لاني سبق وكنت واحد بتاع علاقات عابرة و بحب الجمال ف افتكر ان مشاعري ليها كانت اعجاب سطحي بس معرفش اني كنت بموت كل ليلة وهي معاه في نفس الأوضة.
لما حملت و خلفتك مكنتش عارف اذا لازم عليا أحبك لأنك ابن اخويا ولا أكرهك لأنك ابن الراجل اللي سرق حبيبتي مني فقررت اسافر لاني مش هقدر اعيش مع الوجع ده ساعتها اتحركت مشاعر فيروز اخيرا وانا قدرت اجذبها ناحيتي تاني و الباقي انت بتعرفه كويس.
على فكرة من بعد الحادث بدأت فيروز تنفر مني و شويا شويا بدأت لمعة الحب تختفي من عينيها لحد ما قررت تعترف بكل حاجة ….
Flash back
( – سيب ايدي بقولك انت بتعمل ايه !
صاحت بعصبية محاولة التملص من يديه لكنه أوقفها صارخا :
– اسيبك عشان تروحي تعترفي بكل حاجة لرأفت عايزاه يخرب بيتنا.
– أيوة هعترف و اقوله اني كنت بخونه متخفش مش هجيب سيرتك ولا اخربلك بيتك مع مراتك و بنتك بس انا خلاص مبقتش مستحملة اعيش بالذل ده كتير … انا فيروز اللي الكل بيترمى تحت رجليها من نظرة واحدة وسخت نفسي علشان راجل مكنتش عنده جرأة يوقف في وش أخوه ويقوله انه بيحبني و عايز يتجوزني و بسببك ابني وقع من على السلم و اتأذى انت مش شايف حالته بقت عاملة ازاي و كله لأنك رجعت دخلت لحياتي و بوظتها.
هدرت فيروز بحدة لكن عادل رمقها بإستنكار هاتفا :
– بسببي ليه انا غصبتك تخدعي جوزك و توهميه انك مروحة لصاحبتك و تستغلي ابنك عشان تعرفي تطلعي من البيت بسهولة ؟ فوقي يا فيرو احنا كل حاجة عملناها كانت بتخطيط منك.
صعقت ملامحها و تسمرت مكانها تستقبل هذه النظرات و النبرة الجديدة منه ، لقد كان يحدثها بتعجرف و إستحقار ، نعم لقد استشعرت هذا في صوته وكأنه يخبرها أنك انت التي قمت بعدة خطط و خدع لكي تأتِ لي.
فإرتجفت شفتاها و غص قلبها بألم دارته سريعا وهي تقول بنبرتها القوية المعتادة :
– تمام ده غلطي لوحدي وانا مستعدة اتحمله انا هقول لرأفت اني كنت بخونه ومش هتهمني الفضيحة ولا السمعة لاني أذيت نفسي بنفسي لما أذيت جوزي و ابني معايا … هعتذر منه و اديله الحرية يعمل فيا اللي عايزه ممكن يقتلني و ممكن يطلقني و ياخد عمار مني بس صدقني يا عادل انا مبقاش يهمني خالص.
– انتي ليه بتعملي كده مش كنتي بتحبيني و اتفقنا تطلقي منه عشان اتجوزك ليه بتضيعي علينا الفرصة ديه ؟
– انا حتى لو اطلقت منه مش هتجوزك لاني كنت بحبك يا عادل بس بحب ابني اكتر و يوم اللي وقعته من غير رحمة بدأت اكرهك ساعتها.
– يعني كنتي عايزة مني اسيبه عشان يمشي يقول لأبوه اني كنت معاكي انتي مجنونة اساسا كل اللي بيحصل ده بسببك لانك لو متجوزتيش رأفت عناد فيا كنا هنبقى سوى ومع بعض دلوقتي و عمار كان هيبقى مني انا مش من أخويا ! و دلوقتي بردو جاية تعندي معايا.
وضعت يدها على رأسها بعصبية ثم دفعته عنها مرددة :
– انتهى الكلام ما بيننا انا هروح لعند رأفت و اعترفله خليني اخلص من الكابوس ده.
حدجته بغضب و التفت لكي تغادر و قبل أن يمنعها عادل وجدها تتوقف من تلقاء نفسها و عيناها تتدحرجان في المكان بدوار حتى وقعت على الأرض مغشيا عليها ! )
Back
نزلت دمعة حارقة من عينيه مكملا :
– خدتها وجريت بيها للمشفى و ساعتها عرفنا بمرضها و للاسف هي كانت في مرحلة متقدمة جدا منه ومش هنقدر نعالجها يومها فيروز منزلتش ولا دمعة و قالت ان ده عقاب من ربنا على اللي عملته ومش عايزة تموت بسهولة لا هي عايزة تتعذب فكل لحظة عشان تتعاقب … و ماتت بعدها بكام شهر.
كان قلبه كجمرة من النار ألقيت داخل جسده فأحرقته ، شعر بالدموع تخنق عيناه و سوط من اللهيب يجلده بقسوة وهو يستمع لكلامه.
لقد ندمت والدته على خيانتها و فضلت طفلها على حبيبها كانت تريد التكفير عن ذنبها اتجاهه بعد وقوعه لأنه لم يهُن عليها ، و لكن هل هذا يكفي من أجل مسامحتها و نسيان ما حدث ؟
اللعنة لقدر تدمرت حياته و أصبح كالاشيء عانى طويلا من الكوابيس و أفسد علاقته بالمرأة التي يحبها و هذا كله لأن المرأة القوية داست على كبريائها في سبيل من تحبه ثم عندما أرادت التوبة لم يسعفها الوقت و ماتت !
أغمض عيناه ببطء يعتصر دموعه التي أصبحت كالوديان من كثرتها ثم حدق في عادل و همس :
– اقتلني.
– ايه ؟
– لو قتلتني دلوقتي هتقضي حياتك كلها في الحبس بس لو مقتلتنيش اوعدك اني هخليك تموت بأبشع طريقة يا عادل.
شعر بالإستفزاز و العجز يحومان حوله فتلكأت يده على السلاح وهو ينوي فعلا التخلص منه لأنه لا يوجد خيار آخر الآن ، اللعنة كيف وقع في الفخ و انقلبت الأمور عليه كان من المفترض أن يكون هو من يخدع عمار طوال هذه الفترة و يجعله يعيش في حيرة لا يدري من العدو ومن الصديق لكن بسبب غفلة واحدة منه تحطم ما بناه في السنوات الماضية و انقلبت الأدوار ليصبح عادل الضحية.
و الآن ماذا سيفعل و كيف سينجو من قضبان السجن حتى و إن قتله !
لاحظ عمار إضطرابه و حيرته فنضحت منه عيناه مدى رغبته في الإنتقام و أصبحت ملامحه إجرامية تنوي قطع أنفاسه لا محالة ، لذلك قاوم الصداع الذي يكاد يفتك برأسه و تقدم منه بخطوات بطيئة فأطلق عادل رصاصة مرت من جانبه صارخا :
– قولتلك متتحركش انت مبتفهمش !
إبتسم بهوس و قال بينما يلعب على أعصابه :
– مفيش داعي تفكر في طريقة للهروب لأنك وقعت خلاص المفروض تفكر في حياتك اللي هتقضيها بين اربع حيطان و صورتك اللي هتتشوه و عيلتك اللي هتكرهك لما تعرف اللي عملته … صدقني ساعتها محدش هيبص في وشك حتى.
– اخرس انا عادل البحيري اللي لحد امبارح بس كنت مخليك عايش في حيرة و بتعيط على ابنك و مش عارف تقف على رجليك حتى انك أهملت شغلك وكنت هتخسر كل حاجة ايه معقول نسيت بالسرعة ديه.
– بطل تبص لأمجادك في الماضي و تتحسر عليها انا دلوقتي اهو واقف قدامك بعد ما اتجاوزت كل اللي حصلي بس انت بص لحالتك ديه و شوف قد ايه بقيت ضعيف و ذليل جرايمك كلها اتكشفت و طلعت ندل و خاين لأخوك كمان اعتقد مفيش صفة *** من ديه عشت طول عمرك قليل و في المرتبة الثانية و هتفضل كده و نهايتك هتبقى أسوء بكتير كمان.
همهم ببرود مصطنع وهو يتعمد التقليل منه لكي يغضبه لأنه يعلم بأن نرجسية آل البحيري تجعلهم يصابون بالجنون عندما يشعرون بالعجز و الفشل.
فكان له ذلك عندما رأى وجه عادل يحمر بجنون ليقترب منه بغير حساب مزمجرا :
– لا عاش ولا كان اللي يخليني في المرتبة التانية انت فاهم انا طول عمري السيد عليكم و أذكى واحد فيكم و هفضل كده بس انت اللي ….
لم يسعفه الوقت لينهي جملته لأن عمار باغته بضربة على ذراعه جعلته يسقط المسدس و ما كاد يتأوه بألم حتى عاجله بضربة أخرى على رأسه ليرتمي جسده على الأرض ، إنحنى عليه عمار و قبض على عنقه بقوة قاصدا قتله وهو يصرخ بعدائية :
– انا استنيت اليوم ده كتير قضيت طفولتي و شبابي وانا بحاول افتكر وشك و اخيرا افتكرتك وعرفت انك السافل اللي لعب بحياتي و خلى الماضي و الحاضر بتوعي كابوس … انت بتقول كنت بحب فيروز ليه انت بتعرف يعني ايه حب ازاي قدرت تبص في وش اخوك و مراتك و بناتك بعد ما خنت ثقتهم و ضحكت عليهم !
إختنقت أنفاسه و إحمر وجهه بألم فحاول أبعاد يدي عمار عنه لكنه لم ينجح من أول مرة حتى استطاع دفعه و توالت بينهما الضربات و اللكمات و كان عادل ينوي الوصول الى المسدس ولكن الآخر سبقه و ضغط على الزناد ينوي قتله و الإنتقام لكن في اخر لحظة جالت صورة مريم في ذهنه عندما أخبرته قبل مجيئه إلى هنا بأنها تنتظره.
صدقا هو لا يهمه السجن لأنه سينتقم لشرفه ولن يندم لكن هل وغد مثل عادل يستحق أن يضيع حياته مع حبيبته من أجله ؟
و أثناء هذا التفكير سمع صافرات الشرطة فضرب الأرض بقدمه حانقا لأنه لم تسنح له الفرصة لقتله ، أما عادل فعندما رأى السيارات تقترب منه أدرك أنها النهاية لا محالة غير أن غريزة البقاء كانت موجودة بداخله لذلك و كمحاولة بائسة منه هرب الى سيارته صائحا بجنون :
– مستحيل اقع في ايدكم.
تفاجأ عمار و ركب سيارته هو الآخر ثم انطلق يجري خلفه مهمهما :
– مفيش مكان تهرب ليه خلاص كل الطرق اتقفلت في وشك يا عادل.
رن هاتفه بإتصال من وائل و عرف بأنه يطلبه لكي يخبره بإلزامية التوقف و عدم مطاردته لذلك ألقى بالهاتف بعيدا عنه محاولا السيطرة على ألم رأسه و ظل يلحقبه ، بينما عادل فكان يقود بأقصى سرعة لديه وهو يتوعد يداخله على الإنتقام من كل فرد أذاه و أخذ حقه لكن في خضم شروده و نظره المستمر الى الخلف قصد رؤية عمار لم يلاحظ وجود عمود كهربائي أمامه و عند رؤيته انتفض بصدمة و ضغط على الفرامل لكن حركته المفاجئة تسببت في فقدانه السيطرة على القيادة و في لحظة كانت العجلات تحتك في الأرض بقسوة ثم انقلبت سيارته عدة مرات تحت صراخه حتى اصطدمت بالأشجار الموجودة على طرف الطريق وقد تحولت السيارة لخردة !
____________________
” حادث مروري مريع يودي بحياة رجل الأعمال عادل البحيري و يقتله في عين المكان ” ، تلكأت عيناها على الخبر الحصري فشهقت بعنف و انتفضت مكانها مصعوقة مما تقرأه حتى خُيِّل لها بأنها تتوهم و لكن تكرار الخبر في عدة مواقع و قنوات أكد لها بأن هذا صحيح لتضع يدها على فمها بذهول و تهمس :
– عادل بيه اتوفى ازاي لسه من شويا كان مع رأفت بيه في الفرح !
نهضت عن السرير و ارتدت ملابسها على عجل و غادرت البناية متجهة الى المستشفى التي ذكرت في الأخبار فوجدت الصحافة تغزو البوابة الأمامية و السيارات الفاخرة تحيط بالمشفى لتدرك بأن أفراد العائلة متجمعة هنا ، لم تستطع الدخول و فكرت بالإتصال به لكنها تراجعت و قررت الإنتظار الى حين هدوء الوسط.
*** داخل المستشفى كانت العائلة منهارة و تحت الصدمة سعاد تقف بجانب رأفت الذي كادت خفقات قلبه تتوقف لكنه تماسك بصعوبة ، و فريال التي تكفلت أختها بتهدئتها أما ندى فتعرضت لإنهيار عصبي ووقعت مغشيا عليها ليسندها يوسف و يحتضنها مواسيا إياها وهو لا يكاد يصدق بأن الزفاف إنقلب الى جنازة بهذه السرعة و تحولت الفرحة لحزن و فقدان.
و من بعيد كان عمار واقفا يحدق فيهم بجمود و نظرات ميتة خالية من الحياة ، لا يزال يتذكر ما حدث قبل ساعات حينما واجه عمه فإعترف له بجرائمه و خيانته و قبل أن يأخذ جزاءه و يعاقب تعرض لحادث فضيع أودى بحياته على الفور !
لقد كان الحادث مريعا جدا و شعر للحظة بأن القدر أنصفه و حقق له كلامه عندما أخبر عادل بأنه سيموت بأبشع الطرق ، هو يكاد لا يصدق لغاية الآن من الأساس لدرجة ظن فيها بأنه يحلم في لحظة واحدة انقلبت حياته و أدرك بأن عشيق والدته هو عمه الذي كان يعتبره مثل أب له و في اللحظة الموالية وجده جثة هامدة داخل سيارته دون حتى أن يتسنى له معاقبته بما يستحق ، لقد مات بسرعة وهو لم يستحق هذا الشرف أبدا !
تنهد عمار بشحوب و إرهاق ليفيق على لمسة من يد أحدهم فإستدار ووجد وائل الذي كان يطالعه بشفقة داراها سريعا وهو يغمغم بهدوء :
– البقاء لله.
أومأ ببطء متمتما :
– انا مش فايق دلوقتي ممكن …
قاطعه الآخر سريعا :
– انا جيت علشان أعزيك يا عمار و هنبقى نتكلم في موضوعنا فوقت تاني … بس دلوقتي انت لازم تقعد و ترتاح لان حالتك مش بخير.
جلس عمار على المقعد خلفه بينما طالعه وائل وهو لا يدري ما يجب عليه قوله الآن ، لقد خططا معا لسحب الإعتراف الصوتي من عادل و اتفقا على مكان اللقاء و فعلا تحصل على التسجيل الصوتي لكن قام عمار فجأة بإغلاق الخط فلم يتمكنا من التنصت عليهما أكثر كما أغلق الجهاز الذي يوصله إلى موقعه فوجد صعوبة في الوصول لمكانهما بعدما غير مكان اللقاء في آخر لحظة لسبب هو لا يعلمه.
لكن الذي يدركه جيدا بأنه قد حدث شيء كبير بينهما و أدى ذلك لإنهيار عمار بهذا الشكل فلا يعقل أن يكون جامدا هكذا وهو يعلم منذ وقت طويل بأن عمه هو نفس الشخص الذي كان يترصد له و أذاه بأبشع الطرق …
بعد دقائق غادر وائل و بقي عمار بمفرده ، أسند رأسه على الحائط خلفه و أغمض عيناه يتذكر ما حدث و كل كلمة قالها عادل قبل وفاته و يكاد لا يصدق بأنه حقيقي !
فكيف ترتفع مستوى الدناءة في الشخص لدرجة أن يقيم علاقة مع زوجة أخيه بحجة أنها كانت حبيبته يا الهي كم هذا مقرف يقسم بأن مجرد التفكير في هذا الأمر يجعله يشعر بالغثيان و رغبة في التقيؤ حسنا ربما لو توقفت جرائمه عند قتل طفله لحزن على موته لمجرد أنه كان يعتبره أبا في يوم من الأيام.
و لكن الآن بعدما عرف بحقيقته القذرة يحزن فقط لأنه لم يستطع قتله بنفسه.
بعد قليل جاء يوسف و قام بتعزيته فشكره بهدوء و أوصاه بعدم الاتصال بوليد فهو لا يريد إفساد فرحته في اليوم الذي انتظره طويلا و كان له ذلك و بينما يجلس عمار وحيدا شعر فجأة بيد توضع على وجهه و اعتقد أنها مريم ففتح عيناه سريعا لكن ظنه خاب عندما رأى سعاد التي طالعته بحنانها المعتاد.
اضطربت ملامح وجهه و خفق قلبه بتوتر متسائلا :
– في ايه بابا كويس ؟
كاد ينهض ليطمئن عليه خوفا من أن يكون قد تعب ثانية لكن سعاد أوقفته قائلة :
– أبوك كويس يا حبيبي انا جيت اطمن عليك لاني شايفاك عامل ازاي دلوقتي.
ترقرقت عيناها الحمراوتان بالدموع و تحشرج صوتها الباكي :
– احنا كلنا عايشين في صدمة ومش مصدقين ان عادل اتوفى ده كان معانا من كام ساعة بس ده قضاء ربنا ومبنقدرش نعترض عليه.
هز رأسه بخفوت لتمرر يدها على وجهه متابعة حديثها الذي يبعث في نفسه الراحة دائما لطالما كانت هي مثل البلسم على جراحه تسنده و تطيب روحه حتى وهي في أعز إحتياجها للمساندة تماما مثلما كانت جدته صحيح أن بعضا من الذين جمعته معهم قرابة الدم غدروا به ولكن الله عوضه باِمرأة مثل السيدة سعاد وقد اعتبرته هي إبنها و فعلت المستحيل لتكسب حبه و احترامه !
ربتت عليه سعاد مجددا و نهضت لكي تغادر لكنه أمسكها بتلقائية هاتفا :
– ماما … متمشيش.
وقفت مكانها متسمرة بصدمة و خُيل لها بأنها تتوهم لكن لمسته ليدها جعلتها تلتفت إليه بعينان متسعتان فوجدته ينظر إليها مغمغما :
– لما جيتي لبيتنا اول مرة انا كنت كاره وجودك ومش متقبلك افتكرتك هتؤذيني و تبعدي بابا عني بس لما شوفت حنانك و عطفك اللي مشفتوش من أقرب الناس ليا و مساندتك و حنانك عرفت ان مش شرط تبقى بيننا صلة دم علشان تعتبريني ابنك وانا اعتبرك والدتي … انتي أمي.
شهقت بكبت و انهالت عليه تعانقه بقوة و تبكي بتأثر ، لقد انتظرت أن تسمع هذه الكلمة طويلا منذ زواجها الأول و الذي انتهى بالطلاق لأنها لا تستطيع الإنجاب و عندما طلب رأفت يدها للزواج علمت جيدا بأنه يريدها لكي نقطة الفراغ في حياته فقط ورغم هذا وافقت لأنها ستحظى بتجريب إحساس الأمومة و يشهد الله عليها أنها لا ترى عمار سوى كإبن لها.
ابتعدت عنه بعد دقائق وضمت وجهه مهمهمة :
– انا مش عارفة ازعل ع اللي حصل ولا افرح لأنك اعتبرتني أمك بس صدقني انت حققتلي اللي بقالي سنين بحلم بيه.
قبل جبينها بإحترام و أجابها بصوت مبحوح :
– و حضرتك ادتيلي الحب اللي بيحتاجه كل طفل انا عارف اني كنت سيء معاكي و جرحتك اكتر من مرة لما كنت في فترة مراهقتي و أذيتك بالكلام بس حضرتك عمرك ما حسستيني اني مش ابنك و سامحتيني على اغلاطي علشان كده انا مهما شكرتك هيفضل قليل في حقك.
أمسك يدها و قبلها فإعتصرت سعاد دموعها و طلبت منه بنبرة أقرب للرجاء :
– قولي الكلمة ديه تاني خليني اسمعها منك.
– ماما.
قالها عمار بغير تردد و عانقها مجددا وهو يشعر براحة كبيرة ، هذه أول مرة يسمح فيها لأحد بالإقتراب منه عندما يكون غاضبا ومنكسرا حتى أنه منذ قليل فقط كان يتوق لمغادرة المستشفى و البقاء بمفرده تحت سيطرة هواجسه لكنه علم كم يحتاج لشخص يقف بجانبه الآن و كانت هي … والدته التي لم تلده !
بعد دقائق ابتعدت عنه و مسحت دموعها مرددة :
– انا مش عايزة اسيبك لوحدك هنا بس لازم اشوف باباك.
– وانا هجي معاكي علشان اطمن عليه.
نهض ليسير بجوارها لكن سعاد أوقفته متحججة بأنه لا داعي لهذا الأمر الآن ثم ذهبت و تركته مستغربا لكن استغرابه زال و حل مكانه التشتت عندما لمح مريم من بعيد تسير ناحيته بلهفة فعقد حاجبه معتقدا بأنه يتوهم حتى وقفت هي أمامه و عانقته سريعا دون أن تقول كلمة.
ظل الآخر صامتا للحظات و يداه في الهواء ليستوعب في النهاية بأنها حقيقية ، ابتعدت عنه بعد ثوان هامسة :
– انت كويس انا قلقت عليك و معرفتش …
– انتي دخلتي ازاي ؟
عاجلها بالسؤال بجمود فإبتسمت مجيبة :
– انا كنت قاعدة برا و شافني واحد من الحرس بتوع عيلتك اتصل بمرات والدك المدام سعاد وبعد ما خلص كلام معاها جه لعندي وساعدني ادخل اكيد هي اللي قالتله يعمل كده.
هز رأسه بإيجاب لتلاحظ مريم سوء حالته فأمسكت يده و أخذته لرواق فارغ و ظلت تردد عليه كلمات التعزية و المواساة حتى غمغم فجأة بصوت قاتم :
– طلع عمي الراس المدبر اللي عمل الجرايم ديه في حقنا و سممك و قتل ابننا وكان ورا كل حاجة حصلتلنا.
شهقت مريم … و تصلبت مكانها كما لو أنها تلقت رصاصة أبادتها ، مادت بها الدنيا وشعرت بنغزة تصيب منتصف قلبها فإتسعت عيناها مصعوقة و ارتدت للخلف تهمس بتقطع :
– ايه … مين …
– انا كشفته من وقت طويل وكنت مستني الفرصة عشان نجمع كل الدلائل ضده … هو مات قدام عينيا.
رد عليها بوجوم و طفق يسرد لها كل ما حدث بداية من حل شفرة سليم الى مواجهة عمه حكى لها كل شيء محتفظا بالسر الأخير لنفسه … و عندما انتهى نظر اليها ووجدها تطالع الفراغ بجمود ، بأعين دامعة و روح مفطورة.
لا تصدق بأن ذلك الوغد الذي قتل طفلها و حرمها من إحساس الأمومة كان يتواجد من حولها لأشهر طويلة و يتعجرف عليها ملقيا عليها نظرات مشمئزة و تلميحات مهينة كأنها هي من أخطأت بحقه وليس العكس !
عم زوجها هو المجرم لقد كان أمامها وهي لم تعرفه و عندما أدركت هويته كانت قد فقدت الفرصة في الإنتقام و أخذ قصاص جنينها لأنه مات و انتهى الأمر !
لمعت عيناها بالغضب و قبضت على تلابيب قميص عمار مهمهمة بتحشرج و دون وعي لكلماتها :
– انت ازاي … ازاي خبيت عليا و ليه … ليه حرمتني من فرصة اني انتقم منه يا عمار … ازاي سمحتله يموت قبل ما يتعاقب !
طالعها بملامح باردة دارى خلفها إنكساره ثم قال :
– مش هلومك لان معاكي حق في غضبك انا خبيت عليكي عشان متفقديش اعصابك قدامه قبل ما ندبر ريكورد ليه وهو بيعترف بجرايمه بس فجأة الموضوع طلع عن سيطرتي وهو حاول يهرب بس عربيته اتقلبت في اخر لحظة … فياريت تقدري وضعي حاليا و تبطلي تلوميني لان حالتي مش هتبقى أسوء من حالتي.
نزع يدها من قميصه و استند على الجدار خلفه بدون حرف اضافي لتنظر له مريم وقد استوعبت بأن الشخص الذي تكرهه و تحزن لأنها لم تجد فرصة للانتقام منه هو عم عمار الذي عاش معه تحت سقف واحد حتى كاد يتزوج إبنته ، فوهنت ساقاها و تهدل كتفاها مستسلمة للخدر الذي شاب جسدها و مرت الدقائق عليهما وهما صامتان لا تسمع سوى أصوات أنفاسهما …
– أنا حاسس نفسي في لعبة.
همهم بنبرة خالية من الحياة وهو ينظر اليها بملامح متخشبة ثم تابع مبتسما بهوس :
– لعبة مين اكتر حد ممكن يؤذي عمار و يخونه و اللي يكسب يتفضل و يطعنني في ظهري بشرط اللعيبة تكون بتقربلي.
أمطرت عيناها بالدموع من حالته وهي تدرك جيدا أنه ليس في وضع متوازن و التاع قلبها الذي تأرجح بين عيش ألمها على صغيرها أو مواساته بحكم أن المجرم الذي بحثا عنه طويلا كان عمه ، ثم درأت عنها حيرتها و اختارت الوقوف بجانبه في هذه اللحظة ووضع غضبها و حزنها جانبا لكنها رأت شفتاه تتسعان في بإبتسامة مزدرئة مغمغما بجمود فضيع :
– محدش منهم نظيف … ولا بيستاهل حبي ليه.
– عمار اهدا أرجوك.
غمغمت باكية وهي تحاول إحتضان رأسه حتى ترحمه من وطأة بشاعة الموقف الذي أقحم فيه ، لكنه كان متخشبا كالجثة بعينان حمراوتين خاويتين و سرعان ما نظر اليها هاتفا بكبرياء مكسور :
– متخفيش عليا مش هموت نفسي … انا عمار البحيري اللي محدش بيقدر يكسره و بالنسبة ليا الموت أهون من كل اللي عشته.
انشطر قلبها نصفين محدقة فيه بنحيب وصل لمسامعه فإستقام في وقفته و حاول إبعادها عنه لكي يغادر فهو لن يتحمل فكرة أن تراه بهذا الضعف ، لقد سبق و عاش كل أوجاعه بمفرده لن يسمح لأحد بإقتحام قوقعته حتى لو كانت المرأة التي يحبها.
و لكن مريم أوقفته هاتفة بدموع :
– انا عارفة انت بتحس ب ايه يا عمار ممكن وجعك مختلف عن وجعي لأنك اتخذلت من أقرب الناس ليك ومش هقدر أفهمك بس انت مش مضطر تعيش ألمك لوحدك شاركني فيه و خليني اشيل عنك شويا زعق و اتعصب و هزق و كسر بس متفضلش جامد كده.
كلماتها كانت كالقطرة التي أفاضت الكأس فأخذ نفسا عميقا ساحبا إياه لرئتيه و أشاح وجهه ليدرأ عنها ضعفه و لكنه لم يلاحظ أن غشاوة عينيه لم تعد كذلك عندما سقطت عبراته أمامها مبللة وجهه فصعقت مريم و جزعت من تلك الدموع الحارة الغاضبة و ارتجفت يداها بهول ما تراه.
لقد بكى ، شهقت بلوعة وهي تفكر أن هذه أول مرة ترى فيها دموعه فضمت وجهه بين يديها و أجبرته على النظر ناحيتها متمتمة بحرقة :
– انت إنسان عندك طاقة محددة ومش مجبور تفضل قوي ع طول خليني اشيل عنك الحمل ولو لمرة واحدة.
تهدل كتفه و خذله تماسكه المصطنع لتنهمر دموعه أكثر و يهمس :
– مريم انا تعبت … بجد تعبت ومش قادر استحمل اكتر من كده حاسس اني مش هقدر اقف على رجليا تاني خلاص انتهيت.
هزت مريم رأسها تنفي سريعا و ضغطت عليه هاتفة :
– بس انا معاك دايما ومش هسيبك ولا هخذلك تاني …هبقى رجليك لو مش هتقدر تمشي و عيونك لو مش قادر تشوف و لسانك اذا حسيت نفسك مش عارف تتكلم … أنا بحبك و هفضل جمبك و اسندك لما تحس نفسك مش قادر تستحمل.
كانت تتكلم بقوة غير مبالية لكمية الدموع المتساقطة على وجهها فناظرها عمار بشك و عدم تصديق بعدما تزعزعت ثقته بها و بالجميع مجددا بسبب ما عرفه و لكنه في هذه اللحظة كان يحتاجها أكثر مما مضى ، و قرر رمي حمله على أحد غيره و مشاركته ألمه لأول مرة فإستسلم لها و أنحنى برأسه على كتفها فإلتقفته مريم سريعا محتضنة إياه و بداخلها تتمنى لو تنتقل كل أوجاعه إليها …
__________________
مر أسبوع على إقامة جنازة عادل البحيري و هدأت الأوضاع في الخارج و تناسى الجميع موضوع وفاة رجل الأعمال لينشغلوا بأمور أخرى …
ولكن الوضع كان مختلفا داخل قصر آل البحيري بعدما كُشف بأن عادل كان يقود بسرعة جنونية في مكان معاكس لوجهته اليومية و أن سيارات الشرطة كانت تلحق به رفقة عمار أيضا فإنقضت عليه فريال تصرخ و تتهمه بأنه من تسبب في قتل عمه انتقاما منه بسبب خلافاتهم في العمل إلا أن هذا الأخير لم يظهر رد فعل بل بقي يحدجها بنظرات أربكتها و جعلتها تقول بحدة :
– انت ساكت لأنك مش لاقي حاجة تقوله صح متفاجئ لأننا كشفناك على حقيقتك !
هاجمته منال التي جاءت للبلد عند سماعها بموت أبيها فصاحت بغضب :
– ما تنطق يا عمار و تقول ليه البوليس كان بيجري ورا بابا وانت معاهم و ازاي عمل الحادث وهو طول عمره بيعرف يسوق.
بقي صامتا فقرر رأفت تولي زمام الحديث هذه المرة و نطق بالذي فاجأهم جميعا حتى ابنه نفسه :
– عادل و عمار كانو سوى ليلة الحادث صحيح لأن ابني كان بيحاول يومها يسحب منه اعتراف ع جرايمه اللي عملها في حقه و حق عيلتنا كلها.
– ايه الكلام اللي بتقوله ده !
تنهد رأفت و بدأ بسرد كل الحقائق عليهم دون أن يهمل تفصيلا واحدا لدرجة أن وجه عمار شحب وهو يتخيل بأن والده كشف خيانة شقيقه مع زوجته و سيدلي بهذا الخبر عليهم ومع أن هذا لم يحدث و لم يخبرهم أيضا بمسألة إجهاض مريم إلا أنه كان متفاجئا و يتساءل كيف علم بكل شيء هكذا ، ساد الصمت في الأجواء لتنهض ندى و تصرخ بعصبية :
– انتو كدابين اختلاسات ايه و قتل ايه عايزين تفترو على بابا براحتكم لانه ميت ومش هيعرف يدافع نفسه معقول تنزلو للمستوى ده.
تابعت منال بنفس العصبية :
– هو ازاي اقنعك يا عمي بالكدبة ديه حضرتك مصدق ان أخوك اختلس و عمل حاجات غير قانونية.
– عمار مقاليش حاجة بالعكس هو كان ناوي يخبي الحقيقة عشان ميشوهش صورة ابوكم في عينيكم بس وائل اللي كان بيحقق في القضية ديه قالي ع كل حاجة يوم الجنازة فحال لو حبينا نرفع قضية و نحجز على أملاكه كتعويض … عمار رفض و قال انه مش عايز حاجة فكان لازم وائل يكلمني بما اني أكبر واحد في العيلة وانا كمان مش عايز حاجة يا منال لاني بعتبرك انتي و ندى زي بناتي بالضبط و فريال زي أختي و عارف انكم ملكوش دعوة باللي عمله عادل … وبتقدرو تشوفو الاثباتات بعينيكم لو مش مصدقين.
هنا تكلم عمار بهدوئه المعتاد بينما يحدجها هي من بين الجميع :
– بس اكيد فريال هانم مش محتاجة دليل يا بابا لانها عارفة كل حاجة من الاول مش كده.
اتسعت عيناها بذهول و تلجلجت نافية بدفاع :
– لا طبعا انا …
– مفيش داعي تكدبي لاني سمعتكم من اسبوعين وانتو بتتكلمو في الموضوع دخو بتحذريه يكشف نفسه.
توالت الصدمات على أفراد العائلة ولم تجد الأخرى ما تدافع عن نفسها به فطأطأت رأسها تعطي بذلك اعترافا صريحا عن صدق حديثه إلا أن منال التي رفضت تلقي هذه ” الإهانة ” اقتربت منه صائحة :
– لو كلامك صحيح ليه متواصلتش مع البوليس مباشرة انت قعدت تلعب عليه وتوقعه في الفخ ليه يا عمار.
– عشان كان عندي حساب تاني معاه.
– حساب ايه ؟ والله لو عايز تصفي حسابك مع كل واحد أذاك كان المفروض تبدأ بمراتك اللي فضحتنا و أهانتك و خلت اللي ما يسوا يتفرج عليك و يفتري ع عيلتنا مش هي كمان عملت المسرحية ديه علشان الفلوس و التعويضات لما عرفت انك خلاص هتتجوز غيرها ؟
هدرت منال مستهزئة فجز على أسنانه و اقترب منها مزمجرا بخشونة :
– لو هم مريم الفلوس مكنتش رضيت بالشروط اللي حطيتها في اول جوازنا ولا رضيت تعيش في الخفاء بس هي كرهتني و حبت تنتقم مني لأني اذيتها وجرحتها وكمان لان الجنين اللي سقطته مكنش بسبب مشاكل صحية زي ما انا كنت فاكر … لا الحادثة كانت مقصودة و ابننا مات بسبب أبوكي اللي بعتلها شوكولاطة مسمومة مع سليم و أوهمها اني انا اللي عملت كده.
انتفضت النساء بصدمة ليكمل بعنهجية و فقدان أعصاب :
– بسبب ابوكي مراتي فضلت سنة ونص وهي بتعاني لوحدها سقطت وعرفت انها مش هتقدر تحمل تاني بسهولة علشان كده حبت تنتقم مننا وعندها حق لانها مشافتش الخير من ساعة لما كتبت كتابي عليها.
تبلمت منال و انتهت الحروف من لسانها مثل الجميع و أولهن سعاد التي ضربت يدها على صدرها مصعوقة بهذه الحقيقة كيف لا وهي تعلم جيدا معنى الحرمان من الأولاد لكن الفرق أن مريم كانت ستنجب لولا أنها تسممت و من عم زوجها أيضا يا الهي مالذي يحدث في هذا القصر لقد اتضح بأن الأسس التي قام عليها مهترئة !
لم يهتم عمار بصدمتهم و غادر القصر وبعد ساعات كان يقف بجوار ريماس في أحد الأماكن العامة و يقول بتجهم :
– انا قولتلهم كل حاجة مكنتش عايز اتكلم لان المسألة ديه حساسة بالنسبة لمريم وعارف انها مش هتحب تتحط في موضع الضعيفة قدام عيلتي بس انا متحملتش ظلمهم ليها اكتر من كده كفاية انها معاتبتنيش ع سكوتي طول المدة ديه و وقفت جمبي في الوقت اللي كانت فيه اكتر واحدة محتاجة لحد يواسيها.
زفر بضيق و نظر له مستطردا :
– وكمان انا حاسس نفسي مش قادر ابص في وش حد بعد ما عرفت ان أمي كانت … بتخون والدي مع أخوه مش قادر اتعايش مع الحقيقة ديه ولولا الجلسات اللي عملناها الاسبوع اللي فات كان ممكن اعمل حاجة فنفسي.
هزت رأسها بتفهم وهي ترمقه بنظرات ثابتة متذكرة اياه عندما جاءها منهارا و غاضبا يصرخ مرددا بأن كل الناس مخادعون ولا يستحقون ذرة حب أو ثقة … يومها انصدمت هي عندما علمت بأن الرجل الذي لم يترك شيئا سليما في حياته و أذاه بكل الطرق الممكنة هو عمه ! و بصعوبة كبيرة استطاعت تهدئته لكنها لم تقدر على جعله يخرج من قوقعة الإزدراء التي أغرق نفسه بها فهو يشعر بالذنب لأنه عجز عن محاسبة عمه قبل موته كما أنه مشفق على والده الذي تلقى الخيانة من الطرفين.
تنهدت و تمتمت بتعقل :
– بطل تلوم نفسك يا عمار مش ذنبك ان والدتك اتجهت للطريق الغلط بحجة الحب و ممكن موت عمك فحادثة العربية كان لحسن حظك عشان متستسلمش لغضبك و تعمله حاجة فتضيع حياتك و بالنسبة لمريم فهي بتحبك و فاهمة ان خيانة المقربين منك بتوجعك ب اعتبار ان عمها اتخلى عنها ومقدرش يحميها وقت تحرش ابنه بيها ووقت ضغطه عليها عشان توافق تتجوزك.
– بس انا حاسس اني … معرفش بس كأن بقى في جوايا فراغ كبير مش قادر امليه … ببقى عايز انسى كل حاجة و ابعد عن هنا بس فنفس الوقت مبقدرش.
– انت عايز تنسى ماضيك و تكمل حياتك طبيعي بس متنساش ان مفيش حاضر و مستقبل بدون ماضي يا عمار و مهما كان اللي عشته خليه يبقى دافع عشان تكمل و متهربش منه ولا تتجاهل وجوده حاول تتقبله و متلومش نفسك عليه … زي ما بيقولو ” ادفع نفسك كل يوم فسقوط ريشة لا يعني سقوط الطائر ”
هتفت ريماس بتلقائية ليلتفت اليها ويحدجها لحظات قبل أن يهمس بشرود :
– الجملة ديه انا سامعها من قبل.
– اكيد قريتها في كتاب من كتب مراتك.
– لأ … انا سمعتها مقريتهاش وكمان من وقت طويل.
قالها بتشتت و استدرك مردفا :
– و عينيكي دول … كأني شايفهم من قبل كمان.
تلجلجت ريماس و لم تسعها خبرتها المهنية لإخفاء الإرتباك الواضح على تقاسيمها فسألها عمار بتشكك :
– هو احنا اتعاملها مع بعض قبل كده ؟ ليه حاسس اني شوفتك من فترة طويلة.
حسنت لم يعد هناك مفر إذا ، تنهدت ريماس بإستسلام و نظرت له مبتسمة :
– كان في مكتبة في المدرسة الداخلية بتاعتك بتقضي وقتك فيها أيام الويكاند انت فاكرها ؟
– ايوة.
– طيب فاكر حفيدة صاحب المكتبة اللي كانت بتجي تقعد معاك و ترشحلك كتب هي قرأتها و تجبرك تقراها و بتمتحنك فيها كمان.
اتسعت زيتونيتاه بدهشة و نظر اليها متذكرا تلك المراهقة الجميلة التي كانت تهون عليه وحدته حينما كان والده يرفض قضاء أيام عطل الأسبوع في القصر فيبقى وحيدا في تلك المدرسة ، بالفعل كانت تجلس بجواره و تحكي له عن كتبها و تشرحها له ثم تحضر كوبين من الشوكولاطة الساخنة و تقضي الوقت معه وهي تستمع لصوته وهو يقرأ لها من كتبه المفضلة ، هل يعقل أن تكون هي ريماس ؟ نعم إنها نفسها بشعرها البني الحريري و لون عينيها الممزوج بين الأخضر و الرمادي يا الهي كيف لم يستطع معرفتها من قبل.
لاحظت ريماس تجمده و اعتقدت أنه غضب منها فقالت بتوتر :
– بص انا عارفة انك مبتحبش تحكي مشاكلك لواحد انت بتعرفه بس صدقني انا كنت ناسياك خالص ولما جت ليا اول مرة افتكرتك بحكم اني كنت بسمع عن اسم عيلتك كتير و مكنتش عايزة اقولك عشان تحس براحة وانت بتتعالج عندي يعني مش علشان ااا …
قطعت كلماتها فجأة عندما ابتسم عمار ثم ضحك مرددا بغير تصديق :
– بجد انتي نفس البنت اللي انا كنت بستناها كل ويكاند عشان تجي للمكتبة ؟ في ثالث سنة ليا سمعت ان جدك اتقاعد و زعلت لاني مش هقدر اشوفكم انتو الاتنين بس متوقعتش اني ارجع اشوفك عمي عيسى فين دلوقتي.
– جدو اتوفى من 4 سنين مع الاسف.
– بجد انا مكنتش اعرف البقاء لله.
ردد بحزن لكونه ذلك العجوز كان يحمل في قلبه محبة ألقاها عليه بدون حساب في أيام مراهقته و كان يجلب له سائر الكتب التي يريدها لذلك كان يحبه حقا وكم أراد لو استمر في العمل ليراه دائما.
أخذ نفسا عميقا و نظر لريماس قائلا بصدق :
– مش هقدر ازعل منك لاني متأكد انك خبيتي عليا عشان اخد راحتي معاكي و من حسن حظي ان القدر جمعني بيكي تاني وكنتي السبب في اني اتحسن … ثم استطرد ضاحكا بخفة :
– وانا بقول ازاي الدكتورة ديه بتقدر تفهمني بسرعة اتاري متعودة من زمان من لما كنتي بتقعدي تصرعيني بكلامك وتقوليلي احكيلي ايه اللي مضايقك انتي فاكرة.
ضحكت ريماس بدورها مومئة بإيجاب و وضعت يدها على خاصته هاتفة بصوتها الرقيق :
– وقت اللي شوفتك اول مرة حسيت اني بعرفك و قدرت افتكرك بسرعة تصدق اني فضلت زعلانة فترة طويلة عشان مبقتش اقدر اقعد معاك بس لما جت للعيادة فرحت و اتوترت فنفس الوقت … و دلوقتي انا مبسوطة لانك عرفتني.
طالعها عمار بإبتسامته المهلكة و اقترب منها يعانقها بتلقائية مرددا :
– وانا كمان مبسوط اوي تعرفي عايز اعرفك ع مريم بس بخاف تتفقو عليا.
بادلته الأخرى العناق وهي تضحك ليبتعد عنها بعد لحظات في نفس الوقت الذي اختفت فيه ابتسامته … وهو يرى مريم تقف بجوار صديقتها و تطالعه بصدمة !!
_____________________
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نيران الغجرية)