روايات

رواية نيران الغجرية الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم فاطمة أحمد

رواية نيران الغجرية الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم فاطمة أحمد

رواية نيران الغجرية الجزء الثامن والعشرون

رواية نيران الغجرية البارت الثامن والعشرون

نيران الغجرية
نيران الغجرية

رواية نيران الغجرية الحلقة الثامنة والعشرون

حادثة إنتحار.
_____________
“لا تنخدعوا بالمظاهر ، ليس كل الأقوياء أقوياء حقا ! لأن هناك قشرة صلبة نغطي بها أنفسنا لنحمي هشاشتنا من الداخل ، و يحدث في لحظة ما أن تنكسر تلك القشرة ! ” #مقتبس

– أنا عايزة اشتغل في شركتكم.

مرت دقيقة كاملة على نطقها لتلك الجملة ليبلم رأفت وهو يناظرها بخبل و كأنها مختلة عقلية ، انتظر ان تضحك بسخرية و تقول أنها مجرد مزحة سخيفة لكي تستفزه إلا أن ملامحها الجدية رسمت عليه الذهول وهو يسأل نفسه إن كانت قد جُنت !

هل حقا طلبت منه هذه البربرية عديمة المستوى أن يدبر لها عملا في شركة البحيري ، الشركة التي أصغر حمام بها مساحته أكبر من منزلها في القرية !
كيف تجرأت أساسا على نطق هذه الكلمات الغبية ؟!

دلك رأفت عنقه وهو يضحك بخفوت قبل أن يحدق بمريم هامسا :
– انتي اكيد اتجننتي ، مفيش تفسير تاني لسبب طلبك ده.

ازدرد ريقه ثم تابع بأكثر أسلوب مهين على الإطلاق :
– شكل سكوتنا مقوي قلبك و مخليكي تفتكري انك نفسك حاجة مهمة ، انتي مين عشان تعتبي باب شركتي أصلا ؟
بفض النظر عن انك البنت اللي عملت فضيحة تليق بمستواها المنعدم بس انتي مش شايفة نفسك عاملة ازاي شكلك و لبسك و طريقة كلامك
ده انا كل لما افكر ان ابني ربط اسمه بإسم واحدة زيك و انه لمسك بيبقى نفسي امسكه من ايده و اوديه لأقرب مخبر اعمله تحاليل عشان اتأكد انه متعداش منك بأي مرض تقومي تفكري ممكن تجي تشتغلي عندي !
ولا انتي فاكرة عشان بتعرفي كام لغة بقيتي تستاهلي تشتغلي عندي ؟ فوقي يا هانم ده صاحب أصغر وظيفة عندي درس برا و عنده اكتر من شهادة.

كانت ردة فعله كما توقعتها مريم ، فالأخير لا يراها لائقة بهم أبدا سواء كزوجة لعمار أو موظفة في شركته.
لكن إهاناته إستطاعت جرح كبريائها و ضربها في مقتل ، هذا الأشيب عديم الإحترام يستهزئ بها و يخبرها بكل وقاحة أنها فتاة وسخة تحمل أمراضا نقلتها لإبنه ، يهين طبيعتها و بيئتها و يسخر من مؤهلاتها التعليمية.

لم تستغرب مريم ولم تتفاجأ بقوله ، فلقد عانت طوال حياتها من العنصرية خاصة عند دخولها للجامعة الخاصة بالقاهرة ، حين كان جميع الطلاب ينتمون إلى الطبقة الغنية أما هي فكانت من القلة القلائل الذين دخلوا بواسطة المنحة …
لذلك رأت السخرية و الإستهزاء و الإستحقار ممن يصرفون في اليوم الواحد أكثر مما تحصل عليه هي في الشهر الواحد لقاء العمل في المطاعم و المكتبات لكي تستطيع تحمل مصاريف دراستها و إقامتها ، خاصة و ان أصولها تنتمي لقبائل الغجر البربر من وجهة نظرهم.

و رغم أن هالة لم تكن من الطالبات شديدات الثراء إلا أنها كانت ميسورة الحال و ذات مستوى مادي جيد ، فتعرضت هي بدورها إلى التنمر بسبب مرافقتها لفتاة غجرية حالفها الحظ بمخالطة الأغنياء.
لذلك توقعت مسبقا إستحقار السيد رأفت لها ، و لم يجرحها كلامه بقدر ما زاد شعور الحقد بداخلها إتجاهه هو و إبنه و عائلته و المجتمع بأكمله.
و هذا ما سيجعلها تعمل على أن تكون نِدًّا لهم في الأيام القادمة.

إبتسمت مريم ببرود كان كفيلا بجعله يود لو يخنقها ويتخلص منها ، ثم تنهدت وهي تضم يديها أمام صدرها بأريحية :
– بس الست اللي انت بتستحقرها ديه هي نفسها اللي جننت ابنك و خلته يتجوزها رغم ان شاب زيه مش مضطر يتجوز عشان يتسلى ،و هي نفسها اللي خاطر بنفسه و حطها في بيته سنين طويلة وانتو مش عارفين عنها حاجة.
و هي نفسها اللي بتهدد دلوقتي علاقة الأب بإبنه ده لو كان في علاقة اصلا لأن اللي فهمته من عيشي مع عمار انه مبيطيقش حتى يقولك بابا.

– متتجاوزيش حدودك !
غمغم بها رأفت في حدة و استطرد :
– يلا قولي انتي عايزة كام خلينا نخلص.

تهكمت منه بنظراتها ثم أعطته ظهرها وهي تجيبه ببرودة أعصاب :
– وانا لسه عند شرطي يا اما تشغلني عندك و بالمقابل اوعدك اني مش هقول لعمار حاجة يا إما ترفض وبكده هفضحك قدام ابنك و الصحافة.

– وانتي ايه اللي بيخليكي واثقة كده من قوة السر بتاعك لدرجة تستفزيني بيه ماهو ممكن انا مهتمش بيكي و اقولك اعملي اللي تحبيه.

رفعت مريم حاجبيها بتسلية مريضة ثم التفتت له هامسة بإستفزاز :
– اللي بيخليني واثقة هو ان السيد رأفت البحيري بنفسه جه لشقتي عشان يساومني ، لو السر ده مش مخوفك صدقني حضرتك مكنتش هتتعب نفسك و تجي تعرض عليا فلوس.
و بالنسبة لعمار فاللي انا متأكدة منه انك انت اخر شخص ممكن هو يثق فيه و يصدقه.

إستشاط رأفت غضبا و انهمرت أنفاسه بحدة جعلته يقترب منها بسرعة و يجذبها من كتفها صارخا :
– انتي ايه محدش مالي عينك ماشية تهددي في الناس مش عارفة انا ممكن اعمل فيكي ايه و اخويا عادل اللي انا ماسكه بالعافية ده ممكن في دقيقتين يخلص عليكي انتي و أهلك وكل اللي معاكي !

حسنا هي لا تنكر أنها باتت ترعب من فكرة تعرض أهلها للأذى ، عمها و صديقتها و أكثر من ساعدها على التخفي في السنة الماضية.
ولكن لا معنى من إظهار خوفها عليهم لأنهم سيستغلون هذا ضدها و تصبح هي في موقف ضعف.

لذلك ارتسمت نفس تلك الإبتسامة البغيضة على محياها متمتمة :
– و ان كان على قرايبيني فلو انت كنت فاكر انك بتقدر تهددني بيهم هتبقى بتغلط عشان انا مبقاش حد يهمني غير نفسي.
و نفسي ديه مفيش حاجة بقت تهمها.

حرك رأسه بإنفعال و ذهول من جنون هذه المرأة المريضة ثم حدق فيها هامسا :
– انتي مش طبيعية … لازم تتعالجي عند دكتور نفسي.

رافق جملته الأخيرة صوت ضجة في الخارج لتهمهم مريم بإستمتاع :
– ابنك العزيز جه المسريحة بدأت تحلو.

بهت رأفت و جفت الدماء في عروقه وهو يرى برعب عمار يقتحم الشقة بهدوء لينظر إليهما و يركز بالتحديد على موضع يده التي يضغط بها على ذراع مريم.
أفلتها ببطء و كان من السهل عليه أن يخفي ملامح ذعره فهو رجل الأعمال الناجح لن يرضى بأن يظهر خوفه أمام بربرية فاقدة لأصول التحضر.

غير أن الحقيقة التي سببت له مرارة في حلقه … و بغض النظر عن إن كان بريئا أم لأ … فإنه في الأخير عمار لن يتردد بتصديق كل شيء من كل شخص ضد والده !
لذلك كان رأفت متأكدا من أن إبنه سيصدق مريم و بدون دليل حتى.

كان الآخر يطالعهما وهما يقفان بجانب بعضهما البعض و ينظران إليه ، والده يقف بجمود يناسب هيبته و الأخرى تبدو على وجهها علامات السخرية فتعجب و زادت حيرته حول ماهية النقاش الذي جمعهما.

حسنا لقد توتر هو عندما علم أن السيد رأفت جاء إلى شقة مريم و للحظة خشي أن تحصل مشادة بينهما و ربما تنطق بكلمات تفقده صوابه فيعمد إلى إيذائها أو حتى إهانتها … و لسبب ما لم يكن عمار ليتقبل هذا !

تنحنح و تقدم بخطوات متزنة حتى اصبح مقابلا لهما ، ثم نظر إلى أبيه هاتفا :
– مكنتش اعرف ان حضرتك جاي لهنا.

تصلب رأفت وهو يرد عليه بثبات :
– وانا مكنتش اعرف اني لازم اخد اذنك قبل ما اروح لأي مكان.

قلبت مريم عينيها بملل منهما فتابع الأخير وهو يشير إليها بإزدراء :
– حبيت اشوف البنت اللي سببتلنا الفضحية و اتكلم معاها يمكن الاقي فيها حاجة تجذب و تخلي الواحد يلعب بسمعة عيلته علشانها بس للأسف ملقتش حاجة مهمة … لو قارنتها بالبنات اللي انت اختلطت بيهم في المجتمع بتاعنا هتطلع بصفر.

شددت مريم على يديها بغيظ و حقد أهوج ولوهلة تراءت لها نظرة عمار الغير راضية عن كلام والده ، و رغم ذلك لم يعلق على إهانته بل غمغم بجلافة :
– عندك حق تحب تشوفها … أول لقاء بينكم طبعا.

أخذ رأفت نفسا هادئا في ظاهره ثم ألقى نظرة على مريم التي إتسعت إبتسامتها اللعوب عند سماع آخر جملة لعمار ، عدل سترته و رفع رأسه لفوق قائلا بصلابة :
– انا همشي دلوقتي و انت لما تخلص حصلني للمكتب عندنا شغل مهم.

طالع مريم بتحذير قابلته هي ببرود قبل أن تتمتم :
– كان الشرف ليا اني اقابل حضرتك … يا رأفت بيه.

لم يلق لتحيتها إكتراثا و همَّ بالمغادرة ، فإزدرأته الأخيرة وهي تفكر أنها ستجعله يصنع لها قريبا الف حساب !
تحركت عيناها ناحية عمار الذي يطالعها بدقة و كأنه يقوم بتعرية دواخلها فحاولت كبح إختلاجاتها و أفكارها الداخلية وهي تتشدق برفعة حاجب :
– انا كنت بفكر انت طالع لمين جلف و بارد كده و دلوقتي عرفت … انت نسخة طبق الأصل عن والدك في الحجم و الطول و نبرة الصوت بعيدا عن ملامح وشك اللي مش شبهه خالص.

علق عليها مباشرة و بدون مواربة :
– انتو كنتو بتتكلمو في ايه ؟

هزت مريم كتفها تصطنع عدم الإكتراث :
– متكلمناش في حاجة مهمة يعني جه و انتقدني شويا و قلل مني عشان انا مش زيكم و قال ازاي اتجرأت افضحكم و هددني لو مبطلتش اللي بعمله هيندمني.

وهو يعلم جيدا أساليب تهديد والده و يدرك جيدا أنه قادر على تنفيذ كل كلمة طرحها لسانه … هكذا فكر عمار وهو يتنهد بأريحية بعدما اطمأن بأن النقاش لم يحتد بينهما.
بينما تابعت الأخرى مستدركة :
– بس الصراحة انا كنت فاكرة أن رأفت بيه هيتجرأ و يعمل اكتر من كده … ممكن يغريني بفلوس أو يحاول يقتلني مش بعيد عنكو يعني.

حينها إهتاج عمار من حديثها عن والده فشد ذراعها بغلظة قاصدا إيلامها ثم غمغم من بين أسنانه :
– متجيبيش سيرة والدي … و متفكريش انك مهمة لدرجة يتعب عليكي و يحاول يقتلك انتي ولا تسوي أصلا.

تلجلجت مريم لوهلة عندما ألقى عليها كلماته المهينة ، لا تدري لماذا و لكنها كانت تتوقع منه الصمت و تقبل جميع كلامتها برحابة صدر مثلما كان يفعل مؤخرا.
لذلك تفاجأت من إهانته فإرتفعت غشاوة دموعها لتغطي حدقتيها و تمنعها عن رؤيته بشكل جيد ، و عندما أدركت أنها تنجرف خلف مشاعرها أجبرت عقلها على التيقظ.
لا تدري لما مازالت تتأثر بكلماته و تنزعج من إستهزائه بها ، و لكنها لطالما كافحت من أجل تقوية نفسها ولن تجعله يكسبها.

– بما اني مبسواش حاجة ايه رايك تطلقني و ننهي القصة.
همست ببرود تحسد عليه دارسة معالم وجهه التي إنقبضت فجأة و سرعان ما درأها قائلا بتسلية :
– لا انا مش هطلق مادام انتي عايزة الطلاق يبقى ارفعي عليها قضية خلع.

جزت على أسنانها بغيظ وحدة وهي تشتمه في سرها ، إن خطتها الأساسية تقضي على فضحه معنويا إلى جانبه إفلاسه ماديا ، تتوق لجعل القانون يأمر بمنحها تعويضات مالية ضخمة عند حكم الطلاق و هذا ما لن يحدث إذا رفعت هي قضية الخلع.
و الوغد الخبيث يعلم ذلك جيدا فتعمد التلاعب بها ، حسنا اذا ستجبره عاجلا أم آجلا برفع دعوى طلاق من طرفه حينها ستفعل الازم لكي تملك ثروته.

رشقته مريم بنظرات مبهمة و صامتة ، تحدق في كل إنش منه و تتذكر كم كانت تعشق ملامحه سابقا ، تسعد بسماع نبرة صوته الخشنة وهو يكلمها.
و لكن الآن كل شيء تغير ، لم يعد عمار فارسها كما إعتقدته ، ولم تعد هي تلك الفتاة الساذجة.

– انت ليه بتتعامل ببرود كده ؟
هتفت بهذا السؤال الذي انبلج من شفتيها بنفاذ صبر فعقد الآخر حاجبيه متهكما :
– هو انتي عرفتيني وانا wild man ( رجل جامح ) و بتاع مغامرات مانا طول عمري بارد كده ايه اللي اتغير.

تجاهلت سخريته منها وحتى هي تخلت عن عبثها متسائلة بنبرة مشروخة ، عكست مقدار صراع روحها :
– ازاي قادر تفضل هادي كده بعد اللي حصل ، و ازاي قادر تبصلي بعد اللي عملته معايا ؟

حينها أولى عمار كل إنتباهه إليها و تحفز على أمل أن تخبره ما الدافع لتصرفاتها هاته :
– قصدك عليا لما رفضت اعلن جوازنا و رفضت كمان … البيبي.

شهقت مريم بداخلها عند ذكر كلمته الأخيرة و جاهدت للحفاظ على تصلب وجهها ، ثم أولته ظهرها و تقدمت بضع خطوات للأمام ليتبعها بصمت.
مشت في الصالة لتتوقف عند نقطة معينة و تركز عليها ، إنقبض صدرها ينبه لغصة مؤلمة بقلبها تأوهت لها وهي تهمس :
– في المكان ده … من سنة ونص انا وقعت في المكان ده و سقطت … خسرت ابني هنا.

أغمض عمار عيناه و احتشدت انفاسه عندما دخلا في هذا الموضوع دون إستعداد منه ، بينما تابعت الأخرى وقد إستعادت نبرتها القوية التي كانت عكس عينيها الحمراوتين المتقدتين بالنيران :
– كنت لوحدي بتوجع و بعيط اتصلت بيك لأول مرة في حياتي بس انت …

– خلاص كفاية !
قاطعها بعنف وهو يتنفس بسرعة ، العرق يسيل منه و غصة القلب إنتقلت إليه.
لكنه كان يشعر بالإختناق ، عجز عن التنفس عندما حدثته عن ذلك اليوم الذي غير مسار حياتهما ، هو ليس مستعدا بعد للمواجهة.

لن يستطيع تحمل سرد تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم ، عندما تجاهل ذلك الإتصال بدون أن يعرف إسم المتصل ثم هرع الى الشقة بخوف عليها فوجدها ملقية على الأرض و تنزف.
يومها خسر طفله ، و خسر زوجته ، و خسر براءة علاقته مع إبنة عمه التي قبلته.

جف حلق عمار حتى آلمه فإزدرد ريقه بإضطراب واضح و فتح اول زرين من قميصه يناشد الهواء ، كان ألم رأسه في تلك اللحظة لا يحتمل فأدرك أن نوبته المرضية أصابته مجددا لذلك استدار مغادرا الشقة بدون حرف واحد قبل أن يفقد زمام السيطرة و يتسبب في أذيتها.

راقبته مريم بقهر وهو يخرج ، كان من الواضح أنه لم يتحمل سماع تفاصيل ذلك اليوم إذا كيف بها وهي من عاشته كل ثانية.
رأت مقطع فيديو له وهو يخونها مع إبنة عمه ، ثم أصابها ألم مميت و أدركت أنها تخسر طفلها ، أتصلت به و كلها أمل أن يأت وينقذهما ، ثم أجهضت و أدركت أنه هو من … هو من …

شهقت مريم بتعجب من نفسها حينما عجزت عن قول أن عمار من قتل طفلها لما أرسل لها تلك الشوكولا المسمومة ، لا تدري لماذا ولكنها عندما قصدت ذكر ذلك اليوم حدقت بتركيز في عينيه لكي ترى لمعة الخوف أو الذنب.
و لكنها لم تجدها …

كل ما رأته كان الألم و الضيق ، و كأنه حزين على إبنه الذي توفي قبل أن يرى النور ، لقد جاهدت مريم لسحب الكلام منه إلا أنه ظل صامتا ، وجهه مصبوغ بكل التعبيرات إلا تعبير الأب القاتل لإبنه ، كيف يستطيع التمثيل بهذه البراعة إلى هذه الدرجة !

إنتفضت عندما سمعت صوت الباب يفتح مجددا و يدخل عمار منه ، تأهبت مريم للجدال منه قائلة :
– كأنك استحليت البيت زيادة عن اللزوم ! بحب افكرك اننا مش وضع يسمحلك تجيلي امتى ما تحب.

تجاهلها الأخير و كأنها هواء ثم توجه إلى غرفة النوم و منه إلى قسم تبديل الملابس.
فتح الخزانة و أخرج منها صندوقا صغيرا ، مرر أصابعه عليه ثم إنتشل خاتم الأوبال و خلخالها المفضل و خبأه في جيب سترته قبل أن تدخل مريم و تهتف بضيق :
– انا بكلمك على فكرة انت رجعت ليه و بتعمل ايه ؟!

و للمرة الثانية يتجاهلها و يغادر الغرفة ليقف بمنتصف الصالة ، وزع بصره في ارجاء الشقة و فكر بأنه عليه تصليح نظام كاميرات المراقبة لكي يقدر على رؤية ما تفعله بدون المجيء إلى هنا أو إستجواب ذلك الحارس.
فالنظام معطل منذ سنة ونصف و بالطبع تراجع عن فكرة تصليحه بعد إختفاء مريم.

و حتى هاتفها الجديد هذا يجب عليه إيجاد فرصة مناسبة ليضع جهاز التنصت عليه ، هو متأكد بأن مريم ستكون أكثر حذرا هذه المرة لذلك وجب عليه عدم لفت الإنتباه.

– عمار !
صرخت مريم بجنون وقد بدأت تفكر بجدية بأنه عليها ضربه بأي شيء صلب على رأسه لعلها ترتاح منه ، اللعنة إنه يتجاهلها رسميا و يتعمد إغاظتها !

كادت تتكلم و لكنه قاطعها ببرود :
– انا همشي دلوقتي ، لو حبيتي تطلعي لأي مكان براحتك بس اوعى تفكري تقربي من فرد يخص عيلتي و بالمناسبة جو الاعلام و السوشيال ميديا مبقاش نافع شوفيلك طريقة غير عشان تشوهي سمعتي.

و فور إنهاء جملته تحرك مغادرا ، و للمفاجأة إلتقى عند باب الشقة بأكثر شخص يكرهه في العالم ، صديقته زوجته المتبجحة هالة !

شهقت هالة برعب عند تصادم جسدهما ثم تمالكت نفسها و هتفت من بين أسنانها :
– أهلا وسهلا أستاذ عمار … متوقعتش الاقيك هنا.

رد عليها الآخر بإستهزاء :
– البيت ده بيتي و المفروض انا اللي اقولك الكلام ده مش العكس.

رشقها بنظرة مستحقرة بادلته إياها هالة بنظرة مغتاظة قبل أن يتجاوزها هامسا بنبرة غير مسموعة :
– أفعى.

وفي نفس الوقت همست هي :
– طاووس !

______________

طالت الدقائق وهو على نفس وضعيته ، مستند على كرسي مكتبه و يده تعبث بقلم ما و لكن نظراته الشاردة مسلطة على الاشيء.
بينما الآخر يجلس على الكرسي المقابل له تماما و يضيق حاجبيه بحنق و تحفز حتى قال :
– يعني ايه ؟ هتدخل بنت الشوارع ديه لشركتنا و تخليها قريبة مننا رغم اللي عملته في بنتي يا رأفت !

زفر بوجوم مغمغما :
– معنديش حل غير ده يا عادل ، اللي اسمها مريم جاية و مصممة تنتقم ولو عمار عرف اني افتريت عليه و قليت منه في نظرها هيقطع علاقته بيا نهائيا ! مريم بتهددني وهي عارفة نقطة ضعفي.

انتفض عادل بعصبية و هتف بعصبية :
– و تطلع مين ديه علشان تهدد عيلة البحيري في ايه يا رأفت ديه واحدة لا راحت ولا جت مجرد غجرية ملهاش لازمة و اخرها يتمتعو بيها في السرير انت عاملها قيمة كده ليه !

تبلم رأفت وهو يستمع لحديث أخيه و يعلم جيدا أنه محق في غضبه ، فليس من السهل أن يقبل بدخول من دمرت حياة إبنته إلى الشركة و لكن بعد تفكيره وجد أن هذا هو أنسب حل.

فعادل لم يشهد على كيف كان عمار أقرب للجنون وهو يبحث عن زوجته الضائعة ، ولم يرى كيف كان ينظر إليها اليوم و يتأكد من سلامتها عندما جاء يركض خوفا من أن يصيبها والده بمكروه.
لم ينتبه في غمرة غضبه يوم الزفاف إلى عمار الذي أبعد مريم عن الصحافة و الحضور و أدخلها لغرفته ليس لكي يصرخ عليها و يسبها بل لأنه خاف عليها من عائلته حتى أنه امر الحراس تلك الليلة بأن يتبعوها ولا يتركوها بمفردها.

إن عمار وقع في فخ تلك الهمجية و الشيء الذي يمنعه عنها الآن هو غضبه منها و عدم معرفته اين كانت مختفية طوال هذه المدة ، و على رأفت أن يبقي الوضع هكذا !
كما يجب عليه تصليح ما فعلته و إنقاذ سمعة عائلته و هذا لن يتم إلا إذا كانت قريبة منهم.

رفع يده يدلك رقبته المتشنجة ثم نظر إلى عادل مبررا :
– انا مش عاملها قيمة بس منكرش ان بسبب الفضيحة اللي عملتها البنت ديه مكانتنا اتضررت و سمعتنا بقت في الاراضي و الحل منش اننا نقتلها زي ما انت كنت بتخطط.

تجهم عادل وقد جفت الحروف في لسانه فتابع رأفت :
– انت فاكر انك لما تخطط يحصل تسرب غاز في شقتها و تختنق و تموت المشكلة كده هتتحل ؟ لو ده حصل و مريم اتوفت كله هيقدر يعرف بسهولة انه احنا اللي عملنا كده متنساش ان سيرتها لسه الناس منستهاش كليا و عمار كمان هيشك فينا.

احتدت عينا و طحن ضروسه متمتما بكبت :
– و احنا مالنا و مال الناس محدش هيقدر يثبت علينا حاجة و عمار هيزعل شويا و ينسى و يرجع يتجوز بنتي و القصة تخلص ع كده …
اسمعني يا رأفت انا لسه لحد دلوقتي واخد بعين الاعتبار انه عمار يبقى ابن اخويا و خطيب بنتي علشان كده مقولتش ليه حرف واحد بس ده ميعنيش اني هكست و منتقمش من عديمة النسب ديه انت فاهم !

– تنتقم ماشي و انا كمان هنتقم بس بالعقلا ومن غير تسرع احنا لو دخلنا مريم للشركة و شغلناها معانا هندي طابع كويس للناس أنه الكلام اللي طلع علينا كدب و اننا مقللناش منها و احترمناها و الدليل اهو دبرنا شغل ليها لما عرفنا انها اتظلمت.

سكت عادل بجمود يستمع لها بينما أردف رأفت بمنطقية :
– من ساعة الفضيحة عيلتنا و حتى شغلنا اتضرر المستثمرين سحبو الأسهم بتاعتهم و السعملاء بيضغطو علينا الوضع معقد اوي و مجلس الإدارة رافع شكاوي على عمار لأنه مقصر في الشغل ك Executive Director ( مديرر تنفيذي ) وهما عارفين كويس انه مش هيعرف يركز في حالته ديه.

– و المشكلة هتتحل لو شغلناها عندنا ؟

إعتدل رأفت في جلسته و انحنى بإتجاه عادل قليلا وقد بدأ يستشف إقتناعه ، ثم هز رأسه وهو يتشدق بتأكيد :
– زي ما قولتلك لو احنا شغلنا مريم هنحسن صورتنا قدام الناس بإعتبارنا ادينا فرصة لواحدة معندهاش مكانة انها تثبت نفسها و هنوضحلهم اننا متسامحين و رغم الفضايح اللي عملتها الا ان عيلة زينا مرضتش تنزل لمستواها ده اوللا
و ثانيا احنا بالطريقة ديه هنخليها قدام عنينا و كل خطوة منها هتبقى معروفة …. طول ما هي تحت مراقبتنا هنقدر نعرف نقط قوتها و نقط ضعفها.
مريم مع الوقت هتشوف فرق المستوى بيننا و بينها ومش هتقدر تستحمل ده بس احنا مش هنرحمها … هنضربها من الجانب اللي بيوجع ومش هتلاقي اللي يسندها وهي شايفة عمار و ندى متجوزين و مبسوطين … ساعتها احنا هنخلص عليها.

كل حرف خرج منه وهو يقطر عزما على تدميرها و طردها من حياة إبنه عمار ، يعلم رأفت جيدا أنه يستطيع إنهاء حياتها بمجرد كلمة منه ، أو إيذاء أحبابها و جعلها معدمة لا تملك قطعة نقدية واحدة.
لكن حينئذ سيظهر عمار لكي ينقذها ، وسيخسره اذا نطقت بحرف واحد على حقيقة ماضيه التي لا تدرك انها كانت مجرد إفتراءات مفتعلة من رأفت.

أما اذا اراد ألا يخسر إبنه ، فيسعى لتدميرها تدريجيا و بدون أن تشعر ، سيحسن صورته و يظهرها ككاذبة للجميع ، سيبعد عمار عنها و ينسيه فيها سواء بتزويجه من ندى او من امرأة أخرى.
سيجعل ولده يشمئز من تلك الغجرية و يكرهها حينها هي لن تتحمل ذلك القدر من الخسارة و عاجلا او آجلا ستطلب هي الطلاق بما أن عمار لا يريد ذلك.
و حينها لن تحصل على فلس واحدة منهم ، و عندما تنوي إخبار عمار بإفتراءات والده ، لن يصدقها و سيتهمها بأنها تكذب ثأرا لخسارتها.

______________
وافق عادل على كلام شقيقه ، فجمعا أفراد العائلة بما فيهم ندى أما عمار فكان لا يزال بالخارج ، ثم حدثوهم عن قرار تشغيل مريم في الشركة.

ثارت ثائرة الجميع بالطبع ، ولم يتقبل احد هذه الفكرة ، فكيف سيرضخون لتلك الغجرية معدومة القيمة و يجعلونها مقربة إليهم لهذه الدرجة بدلا من إذلالها و طردها.

شرح رأفت وجهة نظره و ساعده عادل ، وقد بدا حديثهما مقنعا نوعا ما إلا أن فريال ظلت معترضة بتصميم و هاجمت رأفت بقولها :
– انا مش موافقة على الكلام ده ، انت ازاي عايز تشغلها عندنا وهي خربت حياة بنتي و فضحتنا ولا عشان هي مرات ابنك عايزها تفضل قريبة منه مش كفاية للي حصل لندى بسبب عمار ده كمان عايز تخلي معدومة الاصل ديه قدام عينيه !

هنا تدخلت سعاد التي أغلقت هاتفها بعدما راسلت عمار و نظرت اليها بتحذير هاتفة :
– فريال اعرفي انتي بتكلمي مين و بتقولي ايه متنسيش نفسك و تتسرعي ، اهو رأفت بيقول ده عشان مصلحتنا و اكيد خد القرار مع اخوه بعد تفكير طويل.

غمغم رأفت مجددا بحزم :
– احنا لازم علينا نعمل كده على الاقل في الفترة ديه ولما يتصلح الوضع هنرجعها للمكان اللي جت منه ، بس مع ذلك لازم نسأل عن رأي ندى.

التف الجميع إليها وهي واقفة في الزاوية بصمت لا تستوعب ما تقوله العائلة ، ثم رفعت وجهها إلى عمها و دمعت عيناها بألم وسخرية كأنها تقول ” هل تذكرتم للتو ان تسألوا عن رأيي ”
و قبل أن تجيب هدر عادل مقاطعا اياها :
– هي مش هتقول كلام غير اللي انا قولته ديه بنتي و بتعرف انها لازم توافق عشان المياه ترجع لمجاريها و تتجوز ابن عمها.

في هذه اللحظة سمعوا صوت احتكاك عجلات سيارة في الاسفلت و بعد دقائق ولج عمار و على وجهه أمارات الغضب و الذهول ، اقترب من التجمع و نظر لوالده متشدقا من بين أسنانه :
– اتمنى اللي سمعته عن قرارك يكون مجرد هزار او فكرة اتقالت من غير تفكير من حضرتك او مثلا استعجلتو يوم April Fool عشان نرخم على بعض و نتسلى يا رأفت بيه.

تغاضى الأخير عن الجزء الثاني من جملة عمار الوقحة و أجابه بجدية متناهية :
– لا مش هزار ولا كدبة ابريل انا فعلا قررت اشغل مريم عندنا.

انفلتت زمام عمار و فتح فمه ينوي القاء كلمات حادة ولكنه تمالك نفسه و طلب منه التكلم على انفراد إلا أن رافت رفض متشبثا بقراره القاطع :
– مفيش كلام تاني هنقوله غير اللي قولته قدام الكل هنا القرار ده لمصلحتنا يا عمار عشان نرجع سمعتنا.

تطايرت الشياطين في عيني عمار و خُيِّل له رؤية النيران تشتعل حوله مسببة الحرارة التي يشعر بها جسده الآن ، مرر نظره على جميع أفراد العائلة و على ندى بصورة خاصة لكي يرى ردة فعلها على ما يقال فوجدها واقفة جوار أختها بصمت و استسلام مستفزين.
نفث أنفاسه بقوة و هتف بهدوء محاولا ثني رأفت عن قراره :
– اولا مريم مش عايزة غير انها تفضحنا و تخسرنا ماديا لما اطلقها يبقى خطة الشغل ديه مش هتمشي معاها لانها هتفيدنا احنا مش هي.
و ثانيا حتى لو وافقت على كلامك هي هتشتغل ف ايه يا رأفت بيه ولو مثلا خدت اي شغلانة هي هتستفاد من ايه فكل ده عشان تجي لشركتنا ؟ و بعدين منين جتلك الفكرة ديه اصلا !

– مريم بعقلها الصغير هتفتكر انها بتقدر تستغل فرصة الشغل و تعمل لنفسها قيمة بس لما تدخل لشركتنا هتلاقي ان الوضع هناك مختلف عن البيئة اللي اتربت وسطيها و هتعرف انها ولا تسوا حاجة قدامنا وهي من نفسها هتطلب الطلاق و تمشي.
ولو على الشغل ف انا عارف انها دارسة لغات و هحطها في اي مكان يناسبها و زي ما قولتلك لما هي تفشل هتستسلم و تمشي.
و ثانيا انا كنت بفكر في الموضوع ده من كام يوم ولما روحت قابلتها النهارده و سمعت تهديداتها الغبية اتأكدت اني لازم اعمل كده عشان تفضل تحت مراقبتنا و منها هنستفاد و صورتنا تتحسن قدام الناس و الشغل يرجع لطبيعته … انت فاهمني ؟

حرك عمار رأسه بإنكار وهو يكاد يجن غير مستوعب لما يحدث ، مريم تعمل كموظفة في شركته و تبقى تحت اعينه طوال اليوم ؟
من أين أتت هذه الفكرة و كيف خطرت على بال والده من الأساس !
رأفت الذي يعرفه كان سيفعل كل شيء من أجل أن يرسلها من المدينة و حتى من اجل أن يمحي وجودها من الحياة لكنه الآن متفق مع عمه على هذه الفكرة الغريبة ، و الأغرب حقا أنه يجب عليه تقبل هذا الشيء !

تنحنح ينظف حنجرته ثم تمتم بإقتضاب وهو يطالعه بقوة :
– بما انكم مصممين ماشي انا موافق ، بس على فكرة الحجج ديه انا مقتنعتش بيها اوي و هبقى ادور على السبب الحقيقي ورا اللي بيحصل ده.

إن عرف السبب الحقيقي حينها سيخسر إبنه للأبد … فكر رأفت بهذا الشكل وهو يدرس إحتمالية وصول عمار إلى الحقيقة ولكنه طمأن نفسه بأن مريم ليس من مصلحتها البوح بالسر حاليا و كذلك هو حريص على تعطيل رجال عمار عن معرفة مكان إختبائها الفترة الماضية و بذلك ولده لن يعرف أين اختفت مريم ومن ساعدها في ذلك و كيف ان اباه نفسه أبعدها عنه.

تحرك عمار ليذهب و لكن اوقفته فريال التي ظلت معترضة بعض الشيء :
– ماشي انا هتفهم انكم هتشغلوها عشان مصلحة العيلة و سمعتها بس انتو ايه عرفكو ان البنت ديه هتفضل واقفة مكانها ماهي اكيد هتحاول تأذينا تاني و ترجع تقرب من عمار ساعتها ازاي هيتجوز ندى ؟

انتبهت العيون عليها وهي تلقي عليهم هذا الإحتمال و خاصة ندى التي ضغطت بأظافر يدها اليمنى على باطن يدها اليسرى بقوة آلمتها إلا أنها ليست بقدر ألم كرامتها وهي واقفة بين عائلتها الآن تسمعهم وهو يتناقشون حولها و يخططون مكانها وكأنها هواء لا تراه العين المجردة.

لو كانت سلعة لتمتعت بقيمة أكبر من التي منحتها عائلتها لها بعد ليلة الزفاف المشؤومة ، و لكن لا ، أولا قرروا جلب عدوتها إلى شركتهم تنعم بالرخاء قربا من خطيبها.
ثم يحرجونها الآن وهم يضعون أمام عمار احتمالية هروبه منها و رفضه الزواج إن تأثر مجددا بتلك الهمجية ، لو انشقت الأرض الآن و ابتلعتها لكان أكرم لها !

قاطع عادل الصمت الذي ساد في الوسط :
– لا مش هيحصل ومش هيتأثر بيها تاني لان بعد ما تخلص المشكلة ديه عمار هيتجوز ندى في فرح كبير ينسي الكل في الفضيحة.

أكد رأفت كلامه بإبتسامة :
– طبعا و ساعتها المياه هترجع لمجاريها و هنتخيل اننا معشناش الحاجات ديه قبل كده.

وافقه الجميع إلا ان الطامة الكبرى كانت عندما زلزل عمار كلماته التي ألقاها بجمود :
– عن اي جواز انتو بتتكلمو هو لسه في خطوبة اصلا بيني و بين ندى مش كل حاجة انتهت خلاص ؟

انتفض عادل بصدمة سيطر عليها الغضب سريعا فزمجر بخشونة وهو يهتف :
– عيد الكلام ده تاني ! خطوبة ايه اللي انتهت انت هتستعبط.

أوقفه رأفت الذي ذُهل أصلا من إنكاره لعلاقته مع خطيبته و استدار اليه منبها اياه بالصمت غير أن عمار تجاهله و تابع مضيقا حاجبيه بإستنكار :
– هو مش حصلت فضيحة كبيرة يوم الفرح و انا طلعت مخبي سر كبير عن ندى و عن العيلة كلها ازاي هتأمنوني عليها تاني ده بدل ما تقول بنفسك يا عمي ان اللي كان بيني و بين بنتك انتهى لما كشفت كدبي عليكم.
و بعدين انا و ندى اتكلمنا النهارده الصبح و مجبناش سيرة الفرح و معتقدش انها هتبقى عايزة تتجوزني تاني … ندى بتستاهل أحسن مني و انا متأكد ان ده نفس تفكيرها دلوقتي.

تعالت الأصوات ثانية فصرخت ندى وهي تتدخل أخيرا منهية النقاش الحاد بغية الحفاظ على ما تبقى من كرامتها المسلوبة :
– عمار عنده حق في كل كلمة قالها ، هو غلط معايا لما خبى عليا جوازه عشان كده علاقتنا انتهت و انا … مبقتش عايزاه !

هتفت بصوت مختنق غالبه البكاء ثم اتجهت ناحية المصعد الكهربائي لتركبه و تصعد إلى غرفتها الموجودة في الطابق الثاني من القصر ، رمت نفسها على فراشها تضع يديها على أذنيها تحمي نفسها مما ستسمعه بعد قليل و بالفعل لم تمر الدقائق حتى اقتحمت فريال حجرتها صائحة بغضب :
– مبسوطة انتي باللي عملتيه ايه الغباء اللي قولتيه تحت ده مش احنا كنا متفقين تحاولي ترجعي عمار ليكي عشان يتجوزك.

دلفت منال خلفها و هتفت محاولة تهدئة والدتها :
– calm down mom خلينا نفهم سبب الكلام اللي قالته الاول اكيد ندى اتضايقت من عمار لما انكر علاقته بيها و ليها حق الصراحة … مع ان من بعد دلوقتي مفيش حاجة هتنظف سمعتها بعد اللي حصل.

توالت الإتهامات ، و الكلمات عديمة الرحمة التي سمعتها من والدتها و شقيقتها ، و كأنها ليست نفس العائلة التي كانت تدللها و تحرص على راحتها.
فجأة أصبحت عبءً عليهم و نقطة سوداء لطخت صورتهم البيضاء ، لم يهتم أحد بها ، لم يسألها عن مشاعرها.
فقط حديث عن السمعة و الشرف ، و كم تمنت ندى في هذه اللحظة أن تموت !
________________

صباح يوم جديد ، تستقبله وهي تقف على شرفة الصالة ككل مرة ، بيدها كوب من القهوة الساخنة ترتشف منها بتريث وهي تطالع المنظر أمامها مستسلمة لتلك النسمة الباردة الخاصة بأول أيام فصل الخريف.

و أفكارها غارقة مثل العادة ، في ما حدث و مالذي سيحدث ، و بين هذا و ذاك سافرت بها ذاكرتها إلى ليلة البارحة ، عندما تلقت إتصالا من رأفت البحيري يخبرها فيه أنها ستتقدم لطلب العمل الأسبوع القادم في الشركة.
و ستخضع لمقابلة مع المسؤول المختص ليرى ملفها و يطرح عليها بعض الأسئلة كإجراء روتيني يطبق على الجميع.
حيث أكد لها أنه لن يتدخل أو يحاول إفشالها في المقابلة فهي ستعمل لديه بكل الأحوال و لكن اللقاء سيحدد ماهية وظيفتها.

إبتسمت مريم بدهاء وهي تأخذ آخر رشفة من كوب القهوة ، مفكرة في أنها نجحت في تحقيق الكثيرة خلال فترة وجيزة.
هي تعلم أن موافقة رأفت و شقيقه ليست هدنة للسلام كما زعما ، بل هما يخططان لأذيتها و سحقها بعد تحسين صورتهم الإجتماعية على حسابها.
ولكنها لا تلومهما ، فحتى هي لا تسعى للعمل من أجل بناء شخصيتها و مكانتها فقط ، هي تخطط للكثير و لن تتوانى عن التنفيذ من أجل الحصول على ما تريد ، لن تترك فرصتها للحظ مرة أخرى.

سرحت أفكار مريم في دوامتها مجددا ، و مر الوقت وهي على هذه الحال حتى رأت سيارة عمار الفاخرة تدلف ساحة المبنى ، فإبتسمت و نظرت إلى ساعة يدها فوجدتها العاشرة صباحا لتهمس :
– توقيت مثالي ، طاقة الانسان بتبقى في أعلى مستوياتها في الساعة ديه.

بعد دقائق سمعت صوته وهو يتحدث مع الحارس بكلمات مبهمة لم تتضح لأذنيها جيدا ، ثم فتح الباب و دخل بخطوات هادئة.
كان يبحث بعينيه عنها في الشقة بحدة تناقض برود ملامحه حتى رآها على الشرفة ةهي توليه ظهرها ، فقبض على فكه و إتجه نحوها ليمسك ذراعها و يسحبها نحوه على حين غرة.

شهقت مريم بخفة وهي تجد نفسها ملتصقة بصدره و عيناها تقابلان مروج حدقتيه الزيتونيتان المشتعلتان بالغضب.
إهتز قلبها من مكانه لثوان تأثرا بهذا القرب المفاجئ فدرأته سريعا وهي تتمتم :
– خير جاي و انت متعصب النهارده.
– وصلني خبر انك هتشتغلي عندنا في الشركة.

– اه يبقى اكيد جيت تباركلي.
همهمت ساخرة فشد عمار عليها بقوة آلمتها ثم غمغم بقتامة :
– لا أنا جاي عشان اعرف السبب اللي خلا رأفت البحيري يرضى يشغل واحدة فضحته و أهانت عيلته ، والدي اللي بعرفه كان هيبعتك في اول فرصة للعالم التاني او على الاقل يرجعك للقرية بتاعتك بس اللي حصل كان عكس كده تماما.

رفعت مريم حاجبيها هامسة :
– طالما مستغرب اسأل أبوك بنفسك.

– مريم !
هس بإسمها بتحذير فتأففت بينما تفلت ذراعها من يده و تهتف :
– تمام والدك جه امبارح و عرض عليا فلوس عشان امشي و انا رفضت و قولتله مش ناوية اسيب القاهرة ومش هبطل اللي بعمله فعرض عليا اشتغل عنده شرط انكر كل الاتهامات و الافتراءات اللي اتعرضت ليها عيلتك و الباقي انت عارفه كويس.

ألقى عليها نظرة تأكدت من خلالها انه لم يصدقها بينما عمار يكاد يجن ليعرف ما تخفيه ، لقد قضى ليلة أمس ساهرا وهو يحاول حزر ما حدث بين مريم و والده حتى اقترح فكرة العمل بل و كيف وافق عمه عادل عليها ولم يبد اعتراضا.
ما هذا السر الذي بينهم حتى يتفقوا على تنفيذ قرارات عجيبة يبقى هو وسطها مثل الأصم الأعمى الذي لا يفقه شيئا بما يدور حوله.

نفث عمار أنفاسه المتسارعة بعصبية و هدر بنزق بينما يجذبها من ذراعها مجددا متجاهلا رنين هاتفه :
– انتي فاكرة نفسك ذكية و عرفتي توقعيني انا و عيلتي صح ؟ فوقي يا غبية و بطلي تخيلاتك مهما عملتي ومهما قولتي مستحيل تضغطي على رأفت البحيري و تجبريه يعمل حاجة مش عايزها إلا لو هو بنفسه عايز كده … انتي بتأذي نفسك يا مريم !

تملك السخط منها و تخلت عن برودها المزيف فأبعدته عنها هاتفة بإنفعال :
– انا عارفة و فاهمة انا بعمل ايه كويس ومش محتاجة نصايحك ولا قلقك الكداب عليا اساسا انت اكتر حد أذاني فحياتي لما ..

تعالى صوت رنين هاتف للمرة الثالثة و تجاهله بينما يحدق بها منتظرا أن تكمل حديثها لعله يعلم سبب حقدها عليه إلى هذه الدرجة إلى أن مريم عادت إلى رشدها و أشاحت وجهها عنه مردفة بخنق :
– تلفونك بيرن اظاهر في مكالمة مهمة.

في خضم جدالهم و ضيق عمار من الإتصالات المتكررة غفل الإثنان عن جملة مريم المشبعة بالغيرة وهي تتخيل أن تلك الأميرة المدللة هي من تطلبه بإصرار هكذا مثلما كانت تفعل سابقا.
ليتنهد الأخير و يفتح الخط يهتف بهدوء :
– أيوة يا سعاد هانم.
أتاه صوتها غير واضح بسبب ضجة غريبة حولها فعقد حاجبيه و ابتعد خطوتين عن مريم مرددا بنبرة أعلى :
– سعاد هانم انا مش سامع حضرتك كويس ايه اللي بيحصل عندك ؟

– عمار انت فين ؟ لازم تجي بسرعة.
تحفزت حواسه بتأهب عند سماع نبرتها المنفعلة و قبل أن يستفسر تابعت سعاد بما أطاح بصوابه :
– ندى حاولت تنتحر … احنا لقيناها مقطعة شرايينها وغرقانة في دمها !
_____

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نيران الغجرية)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى