رواية نيران الغجرية الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم فاطمة أحمد
رواية نيران الغجرية الجزء الثالث والعشرون
رواية نيران الغجرية البارت الثالث والعشرون
رواية نيران الغجرية الحلقة الثالثة والعشرون
نيران الغجرية.
_________________
إن مقولة :” أنظر للجزء المملوء من الكأس ، ولا تهتم بالجزء الفارغ …
لم تكن مجرد عبارة ، هناك جزء فارغ فعلا ، و و شخص فارغ لا يستحقك !”
صدر صوت عال إثر صفقه لباب الشقة بعنف ، مناقض تماما لهدوئه وهو يلج إلى الداخل ممسكا بيدها ، ملامحه جامدة جمود الصقيع ، و عيناه ملبدتان بقتامة كغيوم تنذر بِهبوب عاصفة رعدية …
و فجأة تغير كل شيء ، عندما دفعها إلى الحائط غارزا أظافره بكتفها فتأوهت بصمت و ناظرته بسوداوتيها الخائفتين وكأنها ترى وحشا أمامها ، أو هذا ما بدى له.
ثم أدهشها عندما إبتسم بريبة وهمس وهو يمرر أنامله على وجنتها هامسا بإسمها ببطء بعث الرجفة داخلها :
– مريم الحلوة.
لم تعلق بل اكتفت بمطالعته ليضحك بهوس و ينزل بيده إلى عنقها مكملا :
– بنت الغجر تعبت من الهرب …. و رجعت علشان ترتاح.
و هنا فقط ، إختفت إبتسامته و حلت محلها ملامح مرعبة و كأن هناك شياطين عاتمة إكتنفته و سيطرت على روحه.
ثم أطبق بحركة بسيطة على مجرى تنفسها ، و زادت حتى أصبحت قبضته تضغط عليها بعنف ، فإحتبست أنفاسها و جحظت عيناها بهلع شبيه بذلك اليوم حينما رآها مع إبن عمها فحاول خنقها …
و كم جعله هذا ينتشي إلى درجة لا يستطيع أحد تصورها ، فهاهي الغجرية عادت باصمة على عقد عذابها … عذابها الذي سيحرص على جعله درسا كافيا لها.
نفث أنفاسه في وجهها بغضب وهو يغمغم بسوداوية :
– كنتي فين طول المدة ديه … ردي عليا !
صرخ في آخر جملة تزامنا مع إغماض عينيها و إرتخاء جسدها لتسقط مغشيا عليها بين يديه ، فشهق عمار عائدا إلى صوابه و خاف من أن يكون قد بالغ في تعنيفها لدرجة إغمائها هكذا.
فطرق بيده على وجنتها عدة مرات هاتفا بإسمها قبل أن يحملها و يتجه بها صوب السرير يضعها عليه بعناية.
ناداها مجددا فهمهمت مريم و إفترقت جفونها ببطئ شديد هامسة بصوت مبحوح :
– ع … عمار.
ثم أغمضت عيناها من جديد.
أخذ عمار نفسا عميقا بعد تأكده من سلامتها ثم جلس مقابلا لها وهو يشد على شعره بجنون غير مصدق لما يحدث.
تذكر ما عايشه منذ ساعة عندما إتصل به أحد رجاله و أخبره أن المرأة التي كلفهم بالبحث عنها ها هي تجلس على ضفة نهر النيل فلم يدري كيف سيطر على صدمته و تمالك نفسه ليغادر القصر دون أن ينتبه أحد.
و حينما وصل حيث المكان المطلوب ظل دقائق يتأملها من بعيد غير مصدق إلى أنها أمامه ثم نهب الأرض نهبا وهو يتقدم نحوها حتى جذبها إليه يطالع صدمتها برؤيته ، فأمسك ذراعها و تحرك دون كلمة واحدة و على عكس ما توقع فلقد كانت صامتة ولم تتحدث قط حتى ظن أنها أصيبت بالبكم !
تأوه عمار بإختناق وهو يرخي ربطة عنقه ثم إلتقت عيناه بوجهها الساكن ، اللعنة كم إشتاق إلى هذه الملامح و هذا الشعر و الجسد.
بقدر غضبه إلا أنه لم ينكر فرحته المجنونة وهو يراها في بيته و على فراشه مجددا ، يكاد يظن أنه يعيش إحدى أحلام اليقظة و أنها غير موجودة.
و لكن عند التركيز بها أكثر ، و سماع صوت أنفاسها الثابتة و خشخشة خلاخيلها التي كانت تتحرك أدرك عمار أنها حقيقة … حقيقة موشومة بالكذب و الألاعيب حضرت متأخرة زيادة عن اللزوم !
انتفض ينحني عليها و مقلتاه تنهلان كل إنش من وجهها بشوق ، يده لم تترك جزءا من وجهها و جسدها إلا و لمسته كأنه يؤكد لنفسه بأنه يراها بالفعل.
سحقا بقدر غضبه منها يشعر بالحنين إليها و رغم ذلك لم تنطفئ نيرانه بعد لن يهدأ قبل إستجوابها و معرفة أين كانت و كيف إستطاعت الإختفاء بهذه البراعة و لماذا ؟!!
إنتشله من ظلماته صوت أنينها الخفيض وهي تحرك جفونها حتى إستطاعت فتحهما لتجده يشرف عليها من الأعلى مطالعا إياها فشهقت و استندت على يدها محاولة الجلوس.
و بمجرد أن إعتدلت وجدت عمار يسحبها نحوه و يقبلها بوحشية هلعت منها ، غلغل أصابعه بداخل شعرها بعنف مقصود و قبض بيده الأخرى على خصرها حتى شعرت بعظامها تكاد تنفلق إلا أنه لم يتركها بل ظل يقبلها حتى إنقطعت أنفاسهما و هنا إنفصل عنها لتصدر مريم شهقة قوية تتوسل منها الهواء.
تأوهت بألم عندما أمسكها من ذراعيها صارخا بجنون وقد إنفلتت أعصابه من عقالها :
– كـنـتـي فين ردي عليا ! انطقي و إلا هقتلك اتكلمي !
نزلت خيوط شفافة من عينيها وهي تخفض رأسها فنهض و رمى أول شيء قابل يده مكملا بهستيريا :
– انتي ازاي جتلك الجرأة ترجعي تظهري قدامي تاني من بعد ما هربتي فهميني !!
شياطينه إستعرت بداخله و أصبح من المستحيل السيطرة عليها كل الأفكار السوداء تغزو عقله الآن جزء منه يحرضه على تعنيفها و الجزء الآخر يناشد هدوءه و تعامله معها بروية بقدر إشتياقه لها !
إلا أن عمار فشل في تهدئة نفسه بل زادت نيرانه إشتعالا وهو يهدر بقسوة :
– سنة ونص و انتي مختفية أنا قلبت الدنيا عليكي و كل مرة بفكر ان ممكن تكوني اتأذيتي ببقى هتجنن و انتي … انتي …
إنقض عليها يوقفها معتصرا لحمها بين أصابعه هامسا :
– كنتي مع مين الفترة ديه كلها ؟ ردي عليا مين اللي ساعدك تسيبيني و متسأليش على اللي حصلي مين ده ؟!
أخيرا فتحت مريم فمها و تبعثرت حروفها وهي تبرطم بإختناق :
– كنت في قرية قريبة من القرية اللي عايش فيها عمي … عند واحدة زميلتي من الكلية و …
– كــدابــة !
زمجر عمار بشراسةة وهو يضغط على ذراعيها و يخضها بخشونة مقصودة متابعا :
– متكدبيش يا مريم أنا بعرف كل زمايلك و بعرف كل اللي كنتي بتتواصلي معاهم و …..
إنتفضت مريم و حاولت وضع يديها على صدره تملسه بلهفة :
– صدقني يا عمار أنا مبكذبش عليك ده اللي حصل فعلا … زميلتي ديه من أقرب صحابي و كان بقالي فترة طويلة مكلمتهاش بس لما شافتني افتكرتني و أنا من غير ما أحس لقيت نفسي بطلب منها تبعدني عن هنا وهي مرفضتش و خدتني معاها ساعدتني.
كان سيسألها عن التفاصيل أكثر لكن عند ذكر أنها كانت بحاجة للمساعدة و الإبتعاد أعتصر قلبه لدرجة شعوره بغصة مؤلمة تطبق على أنفاسه فهمهم بأنفاس مضطربة :
– عملتي كده ليه … فهميني يا مريم انتي سبتي دبلتك و روحتي ليه إيه اللي خلاكي تعملي كده معقول عشان خسرتي البيبي … طيب ما هو كمان إبني.
لأول مرة منذ مقابلتها اليوم شعر بتصلبها أسفل يديه و إرتعاشها بجمود سرعان ما إضمحل عندما نزلت دموعها و مالبثت أن أجهشت في البكاء :
– كنت موجوعة أوي … للحظة فكرت ان حياتي انتهت خلاص و معرفتش أعمل ايه و لقيت نفسي طالعة اجري بس ربنا سترها معايا و لقيت المساعدة أنا قضيت المدة ديه عايشة مع صاحبتي و أمها فنفس الشقة مقابل أدفع الايجار و أنا اشتغلت علشان أقدر اتكفل بمصاريفي بس …
توقفت و رفعت رأسها له ممررة يدها على وجهه برقة :
– مقدرتش انساك … كل يوم و كل ليلة كنت بفكر فيك حسيت بالندم لأني سبتك و حبيت ارجع بس كل مرة بخاف و اتراجع لحد ما رجعت القاهرة من يومين و عرفت انك … انك هتتجوز.
تجمد جسده و إنطفأت لمعة زيتونيته الغاضبة عند سماع هذه الكلمات منها ، و لأول مرة يقف عاجزا بهذا الشكل عن تفسير موقفه بل حتى النظر إلى عينيها.
و أخيرا نفث عمار نفسا عميقا مغمغما بتوجس من ردة فعلها :
– أنا فرحي النهارده … بعد ساعتين بالضبط.
راقب ملامحها وهي تتحول إلى الصدمة و علامات الألم ترتسم بوضوح على وجهها ، ثم لوت شفتها بإبتسامة منكسرة وهي تهتف بتأكيد أكثر منه تساؤلا :
– و العروسة هي بنت عمك ندى صح ؟
اومأ بإيجاب و مد يده ليلمسها فإنتفضت مريم مبتعدة عنه تردد بحرقة :
– كنت عارفة ان ده هيحصل و أنا اللي رجعت زي الغبية و يوم فرحك كمان كان لازم افهم من الأول انك بتحب بنت عمك و انا ولا حاجة بالنسبالك …
قاطعها عمار بلوعة :
– لأ يا مريم انتي مراتي انا دورت عليكي كتير اوي و عمري ما نسيتك صحيح أنا هتجوز بس انتي هتفضلي معايا مش هسيبك تضيعي مني تاني.
حاولت التملص منه إلا أنه لم يسمح لها و بعد محاولات طفيفة إستطاع عمار جعلها تتوقف عن الصراخ و البكاء فجلس معها على السرير ثم ضغط بيده على وجهها متمتما :
– اهدي و خلينا نتفاهم.
– نتكلم في ايه ؟ خلاص انت هتكتب كتابك و تعمل فرح كبير و أنا هفضل نكرة ملهاش لازمة.
تكلمت بنبرة مبهمة إستغرب منها.
تنهد بحدة و شدد ضغطه على وجنتيها هامسا :
– متقوليش على نفسك كده انتي مراتي الأولى و كون اني لسه لحد دلوقتي محاسبتكيش على اللي عملتيه و ببررلك كمان ده بيعني انه ليكي معزة كبيرة في قلبي.
بس انا خلاص خطبت ندى و هتجوزها مينفعش اتراجع قبل ساعتين من الفرح أنا مبقدرش أعمل فيها كده.
لم تعلق عليه و أخفضت عينيها فأحس بإستجابتها ليقرر تطبيق الإبتزاز العاطفي عليها و إستغلال تشتتها فهمهم بتريث :
– مريم انتي قولتيلي من قبل أنك بتحبيني و استحملتي العيشة ديه علشاني … ردي عليا انتي لسه بتحبيني ؟
إعتقد أنها ستنكر في البداية و لكنها لم تفعل بل هزت رأسها مومئة بإيجاب دون تردد فإبتسم براحة و إستطرد :
– طيب اللي بيحب حد بيعمل أي حاجة علشان يبقى مبسوط و مرتاح معقول انتي مش عايزة راحتي.
– يعني انت هتبقى مرتاح و مبسوط لما تتجوز واحدة غيري ؟
سألته بجفاء فأحس بخلاياه ترتد بعنف و أعصابه تشتد ليطلق زفيرا غاضبا مدعيا الهدوء :
– لأ …. هبقى كده لما انتي تفهميني و تقدري موقفي يا مريم.
إلتزمت الأخرى الصمت ثم أطرقت رأسها للأسفل تاركة إياه يتلضى بنيرانه العاتية متحفزا لكل حركة تصدر منها ، حتى تنهدت هامسة :
– لو كان ده بيريحك … فأنا موافقة.
– انتي بتتكلمي بجد ؟
هتف بها في صدمة وقد شعر بوجود خطب ما بها فرغم أنه كان يود كثيرا أن توافق و حتى لو لم تفعل كان سيجبرها على تقبل ذلك رغما عنها …
إلا أن إستسلامها هكذا بعيدا عن الجدال حال دون شعوره بالرضا الذي يطمح إليه.
إنسل عمار من شروده عندما إنتبه إلى مريم وهي تردف ناظرة إلى عينيه مباشرة :
– أنا بحبك يا عمار رغم انك وجعتلي قلبي لسه بحبك و زي ما استحملت تعيش معايا بالسر هستحمل تتجوز عليا … المهم انك متسيبنيش.
و أخيرا إنبثقت الإبتسامة من شفتيه وهو يتأملها ، لا تزال مريم هشة سهلة الإنقياد تحت إمرته ، لا تزال تتمنى رضاه.
ربما هذا بسبب إدراكها لخطئها بالهروب منه ، أو محاولة لإستعطافه لكي لا يحاسبها على فعلتها لاحقا ، و لكن هذا ليس مهما الآن.
و كان رده عليها أنه دنى منها حتى حطت أنفاسه الثائرة على صفحة وجهها ، ثم ضمه بين يديه مطبقا على شفتيها يقبلها بنهم إستعر به أياما طويلة و توهج أكثر الآن ….
بينما إستكانت هي لمقاييده فلم يغفل عن عدم إستجابتها له ، فرجح ذلك إلى أنها لا تزال حزينة بزواجه من أخرى رغم طاعتها له حاليا.
حررها بعد دقائق حينما فقد زمام تحكمه على نفسه و شرع محاولا إزاحة طرفي فستانها لتضع مريم يدها على صدره متمتمة بأنفاس متسارعة :
– انت … اتأخرت على ميعادك.
كتم عمار تأففا مغتاظا ثم هز رأسه و انتصب واقفا يسحبها معه لتقابله :
– انا همشي دلوقتي بس هحاول أجيلك بكره الصبح قبل ما … نسافر أنا و ندى.
همهمت بإيجاب و ضمها مجددا يدس أنفه في حضنها مشبعا أنفه من عبقها قبل أن ينسل منها ثم يمرر أنامله على بشرتها المتوهجة :
– مريم … انتي متأكدة انك كويسة و موافقة على جوازي.
– معنديش صلاحية أمنعك أساسا.
أجفلته بهمستها التي إكتسبت لمحة جامدة جعد حاجبيه لها فتغافل عنها و إسترق النظر إلى عنقها الذي يحمل آثار أصابعه.
من الجيد أن مريم لم تلاحظ تحت خضم كل هذا التوتر عنفه معها و تجاهلته ، فكر بذلك ثم غمغم :
– أنا رايح … خدي بالك من نفسك.
ثم إلتف مغادرا عنها بخطوات هادئة و حين وصل للباب ألقى نظرة أخيرة عليها ثم فتحه و عاود إغلاقه عقب خروجه.
و هنا فقط … إختفت غشاوة الحزن عن عينيها الدامعتين و ظهرت آخرى جامدة ترسل نيرانا بقدر خمودها منذ قليل …
ثم رفعت أصبعها تتحسس عنقها المتورم و إرتسمت إبتسامة غامضة على تقاسيمها …
________________________
إقتحم القصر بهدوء بعدما إتصل برجاله و كلفهم بوضع حراسة مشددة تحت العمارة و مراقبة الداخلين و الخارجين و خاصة أي سيدة تحمل نفس مواصفات زوجته …
ثم مرر عينيه في المكان بسأم مدركا لنافورة التقريع التي ستنفجر فور أن تراه عائلته ، بعدما أخرج هاتفه عقب مغادرته للشقة فوجد كمية مهولة من الرسائل و الإتصالات من والده و زوجته و يوسف و وليد ، بالتأكيد إنتبهوا إلى إختفائه و توجسوا خيفة من ذلك.
و بالفعل قابلته سعاد تسأله بإنفعال عن سبب إختفائه المفاجئ فأجابها كاذبا بأنه تذكر بعض الأعمال المعلقة فأنجزها سريعا.
صعد إلى فوق و عند مروره من غرفة ندى سمع صوت ضحكاتها مع صديقاتها ، و هنا إلتصقت قدماه بالأرض و تشنجت عضلات وجهه يهمس لنفسه : مالذي تفعله أنت ؟
شهق عمار بلوعة و دخل إلى غرفته بعنف شاهقا أنفاسا حادة ، ما هذا الذي يرتكبه الآن كيف سيعقد بعد دقائق عقد زواج مبني على الكذب و يخدع ندى.
مريم عادت إليه ولا يوجد داع لتعقيد حياتها أكثر ، أما عروسه فهي إبنة عمه التي يعزها …
الفتاة الوحيدة التي تعامله بأريحية و تسعى للتخفيف عنه دائما ، كيف سيجعلها زوجة ثانية له دون مراعاة قرابتهما ، كلا هي لا تستحق أن يرتكب هذا الفعل المشين بها أبدا …
فتح الباب تزامنا مع همس جملته الأخيرة فإلتف ليرى رأفت ينهب المسافة بينهما وهو يقترب منه جازا على أسنانه :
– أنت روحت فين و مكنتش بترد علينا ليه انت عارف أنا عملت ايه علشان محدش يحس بغيابك …
قاطعه عمار بوجوم :
– أنا هلغي الفرح لأن الجوازة ديه مش هتحصل … مريم رجعت و أنا مبقتش لاقي سبب يخليني اخبي على بنت عمي الحقيقة !!
****
بدأ الحفل ، و إكتضت ساحة الزفاف الضخمة المصممة بحرفية ساحرة بالمصورين و الصحفين ، و المدعوين ذوي النفوذ الضخمة من رجال أعمال و شخصيات هامة في البلد.
وسط حراسة أمنية مشددة سهرت على حماية خصوصية الحفل و ذلك بمنع المعازيم من إلتقاط الصور عبر هواتفهم و منع دخول أي شخص إلا بعد التأكد من حمله لدعوة زفاف الإبن الوحيد لرجل الأعمال رأفت على الإبنة الصغرى لعادل البحيري.
سكن الضجيج لوهلة قاطعته شهقات إنبهار ثم تعالت التصفيقات من كل صوب عند ظهور العروس المنتظرة ، ندى بفستانها ذو التصميم الإيطالي ناصع البياض يلتف حول قدها بنعومة و يهبط إلى الأسفل بتدرجات خفيفة.
و قد أظهرت فتحته من الأعلى بشرتها الصافية و عقد الألماس الذي يحيط بعنقها مع أقراطها باهضة الثمن.
إشرأبت كل الأعناق نحوها تطالع العروس التي تشبهت بالأميرات ، ندى البحيري من الفتيات اللواتي نادرا ما تجمعن بين أكثر من ميزة فهي ذات حسب و نسب و جاه ناهيك عن حظها في إمتلاك جمال يجعل الناظر يسبح بإسم خالقها و أكثر ما يميزها رقتها و فن تعاملها مع الآخرين …
طالعت الأخيرة بطرف عينيها إنبهار المعازيم و إبتسمت بثقة قبل أن تلتمع مقلتيها عند رؤيتها له يتقدم مع عمها بكامل أناقته ، و فجأة تخللت فرحتها بعض التوجس عند ملاحظتها لوجوم عمار المختبئ خلف إبتسامته الواهية و فكرت في أنه يبدو مستاء قليلا و لكن سرعان ما درأت عنها هذه الهواجس مقررة الإستمتاع بليلتها المنتظرة …
وقف عمار أمامها و عيناه متشحتان بالجمود ليسمع عادل يهتف بتفاخر :
– أنا هديك النهارده أغلى جوهرة عندي بنتي الغالية اللي كان صعب عليا افرط بيها بس أنا بثق فيك و علشان كده قبلت أجوزهالك … خلي بالك منها يا عمار و متزعلهاش يابني.
نظر إلى عمه الذي وقف بجانب إبنته يحيطها بذراعيه بسعادة و على الجهة الأخرى وقفت زوجته فريال أما منال فكانت تقف إلى جانب السيدة سعاد ترحب بالضيوف.
ثم أجلى بنظرات على عدسات الصحافة و تنحنح بخشونة هاتفا :
– ندى في عينيا يا عمي متشلش هم.
ضم رأسها بيديه و طبع قبلة على جبينها هامسا لها بأنها تبدو كالملائكة وسط التصفيقات التي إنبعثت و ملأت الأجواء ، قادها إلى الكرسي الخاص و ذهب هو يستقبل التهاني حتى قابله يوسف و وليد بوجه مترقب.
رفع عمار حاجبه مستهجنا :
– في ايه انتو هتاكلوني ؟
سارع يوسف بسؤاله مباشرة و دون تلميحات :
– انت طلعت و روحت فين فجاة عمي و طنط سعاد رنو علينا و سألونا اذا كنت معانا ها انطق انت كنت فين.
إنزعج من نبرة الإستجواب هذه إلا أنه إدعى الامبالاة مغمغما :
– كان عندي شوية مشاغل خلصتهم و جيت.
إقتضب وجه وليد بحيرة لم تطمس ضيقه رغم ذلك :
– مشاغل ايه ديه اللي احنا ملناش علم بيها يا بني ده احنا افتكرناك هربت من فرحك و قعدنا ندور عليك !
وضع يوسف يده على كتف رفيقه متمتما :
– خلاص يا وليد مش وقته الناس بدأت تبص علينا و العروسة شكلها خدت بالها.
حول عمار حدقتاه إلى ندى و أرسل لها إبتسامة مصطنعة قبل أن ينشغل مع من يلقون عليه المباركات.
و بعد قليل كانت تقام مأدبة عشاء ضخمة ضمت عددا هائلا من المعازيم و بدأت السهرة التي ساهم في إحيائها العديد من فنانين و المطربين إلى أن حان وقت مراسم عقد القران.
تملص رأفت مع سعاد من الحشود و ذهبا إلى عمار لإخباره بوجوب كتب الكتاب الآن فأومأ بتريث و أشار إلى ندى بلباقة لتتقدم قبله.
تخللت يدها بداخل ذراعه و سارت بجانبه و مع كل خطوة قادها فيها عمار كانت ذكرياته منذ ساعات قليلة تغزوه بقوة …
Flash back
( إلتف ليرى رأفت ينهب المسافة بينهما وهو يقترب منه جازا على أسنانه :
– أنت روحت فين و مكنتش بترد علينا ليه انت عارف أنا عملت ايه علشان محدش يحس بغيابك …
قاطعه عمار بوجوم :
– أنا هلغي الفرح لأن الجوازة ديه مش هتحصل … مريم رجعت و أنا مبقتش لاقي سبب يخليني اخبي على بنت عمي الحقيقة !!
توسعت عينا رأفت و تشنجت أضلاعه وكأن الصدمة شلت حركته ، إرتد خطوة للخلف هامسا بتقطع :
– ا … ايه ؟
رفع رأسه له و إستطرد :
– امتى و ازاي ديه كانت … ديه كانت مختفية !
إستغرب عمار ردة فعله وقد بدى و كأنه خائف أكثر منه منذهل و لكنه أجابه على أي حال :
– من كام ساعة بس ، لقيتها في الشارع و وديتها على شقتنا القديمة اللي بنعمله ده غلط أنا لازم اوقف اللي بيحصل.
تدارك رأفت صدمته و بدأ يفيق لما يحدث فأمسك بذراعه يمنعه من التحرك و هدر في حدة :
– انت اتجننت جاي دلوقتي تقولي هلغي الفرح ايه ناوي تفضحنا ؟
نفث عمار أنفاسا متسارعة بغضب وهو يهتف بتجلد :
– نلغيه دلوقتي أحسن ما أخدع ندى و اضطر أعيش و أنا مخبي عليها و على الناس الحقيقة اللي هي أن مريم …
قاطعه رأفت برعونة قاسية :
– لسه بتقولي مريم ! تطلع مين مريم ديه و تجي ايه جمب بنت عمك عشان تبطل تتجوزها علشانها هي رجعت ظهرت دلوقتي ليه أساسا ولا لما عرفت بجوازتك جاية و ناوية تبتزك عايزة فلوس صح ؟
إحمرت عيناه و تشنجت قسمات وجهه من إهانته لها ولكنه حاول إبتلاع كلماته و عدم التطاول عليه فتسمع باقي العائلة بما يجري ، و كذلك عجزا عن إجابته فحتى هو لا يعلم سبب عودة مريم في هذا التوقيت بالذات.
و إن كان قدومها قبل يومين من الزفاف و ظهورها قبيل ساعات قليلة محض صدفة أم مخطط له ، و لكن مريم لا تجيد حياكة الخطط وهو سيعلم عاجلا أم آجلا بما تخفيه ، ليس الآن.
أغمض عيناه يكبت رغبة كبيرة في الصراخ ثم حاول تهدئة أعصابه لذلك دلك عنقه بحركات عشوائية هامسا :
– انا اللي لقيتها مش هي اللي جاتلي … و أنا مبقارنهاش مع ندى لأن واحدة منهم بتبقى مراتي و التانية بنت عمي اللي عماله اخدع فيها و ده غلط اللي بنعمله ده كله غلط ندى متبستاهلش تدخل كزوجة تانية وهي مش عارفة …. ولا مريم بتستاهل.
تجاهل رأفت ذكر سيرة تلك البربرية و جرب التريث و الشرح له بشكل جيد :
– اسمعني يا عمار احنا وصلنا لنقطة مبنقدرش نتراجع منها خلاص كتب الكتاب فاضل عليه كام ساعة بس ولو اتلغى احنا هنتفضح و ندى هتتفضح و ممكن يحصلها حاجة.
وهنت ثورة عمار و بدأت إنفعالاته في الإنخماد ليدرك الآخر ذلك فتابع الضغط عليه :
– انت فاكر انك لو لغيت الفرح هتحميها ؟ بالعكس انت كده بتدمرها سيرتها هتبقى على كل لسان و الناس مش هترحمها هيطلعو عليكم إشاعات كتيرة خاصة انكم عايشين في بيت واحد انت راجل و سمعتك مش هتتأذى كتير بس ندى ست وممكن يقولو عليها أي حاجة … ده مش بعيد يفترو عليها ويقولو انك غلطت معاها علشان كده اتخليت عنها في آخر لحظة.
– بس أنا مش هسمح…
قاطعه بحزم :
– انت مش هتقدر توقفهم ولا تمنعهم من انهم يتكلمو لو عايز تحمي عيلتك و بنت عمك بالأخص ف لازم تكمل و لو على مراتك الأولى انت ممكن بعد وقت تعرف ندى بالماضي بتاعك ساعتها حتى لو حبت تطلق ده مش هيشكل خطر على سمعتها زي دلوقتي لو طلعت وقولت انك بطلت تتجوزها … )
Back
و إختار الصمت … من أجله و من أجل عائلته و إبنة عمه … و من أجل مريم.
مع الأسف لن يستطيع مجابهة ألسنة الناس و منعهم من التطاول بالكلام عليهم لو قرر إلغاء الزفاف لذلك سوف يصمت ، سيتزوج من إمرأة أخرى ، سيخدع إبنة عمه سيصمت لا خيار له غير هذا.
تنفس عمار بسخط مكبوت و إستمع إلى صوت التصفيقات من كل حدب فأشاح وجهه منتبها للمأذون الذي أرخى المنديل الأبيض على يده المتعاقدة مع يد والد العروس و أرهف الجميع السمع و النظر إلى طقوس عقد القران …
و فجأة توقف كل شيء ، عندما انتظر المدعوون ترديد عمار لتعهدات الزواج وراء المأذون إلا أنه لم يفعل ، بل كان يستمع بخبل إلى صوت ما ، صوت مميز يستحيل أن يخطئه …
و شيئا فشيئا ارتفعت الأصوات حتى تأكد أنه لا يتوهم فمادت به للأرض و صمت أذناه بطنين عنيف.
فرفع رأسه كالملسوع وقد توسعت عيناه فطفق يحوم بها هنا و هناك يطالع بنظرات مضطربة الموجودين يبحث عن صاحبة الخلخال الذي يرن ، ووجدها ..
كانت تتقدم بخطوات متمهلة نحو المنصة بفستانها الأحمر ذو التصميم الغجري بحمالات تنزل على الكتفين مظهرة القلادة ذات العقيق التي تزين عنقها ، و أقراط ثقيلة تتحرك بإتزان مع شعرها المموج و رغم قناع الوجه الذي لا يظهر سوى عينيها الكحيلتين و شفتيها الملونتين بالأحمر القاني إلا أنه عرفها !
داهمه إحساس أن قلبه سيتوقف لا محالة ، تزامنا مع همسة من أبيه الذي تعجب جموده على حين غرة ، لكن عمار لم يكن مدركا لما يحدث أو حتى لندى التي ألقت عليه نظرات مستغربة متوجسة …
فقد هب واقفا يطالعها كالمهووس الذي لا يكاد يميز بين الخيال والحقيقة ، و في لحظة واحدة ، تحطم الخيال و تحول إلى كابوس تجلى في مريم وهي تنزع القناع عن وجهها الجامد بشر ثم تكمل خطواتها الرشيقة !
– مريم !
همس عمار بجنون فأجفل رأفت و تشنجت قسماته ، أما عادل فإنتصب واقفا يبرطم بتحفز :
– ممكن افهم في ايه الناس بتبص علينا.
لم يجبه أي احد منهما فالصدمة عقدت لسانيهما و أخيرا تدارك عمار نفسه فهب نازلا من على المنصة ينهب الأرض بخطوات واسعة بإتجاهها تحت همسات الحضور.
كل العيون كانت تراقبها ، رأفت الذي هاجمته ذكرى مع تلك البربرية قبل سنة فكاد يصاب بأزمة قلبية ، و سعاد و فريال رغم أنهما رأياها من خلال الصور فقط ولا يذكران شكلها كثيرا إلا أن ردة فعل عمار أوضحت لهما عن هويتها.
و ندى التي تمتلك قدرة فائقة على تذكر الوجوه و الأصوات قد عرفتها على الفور و تذكرتها وهي بين يدي عمار الذي كان يقبلها بجنون في رواق المطعم ففغرت فاها و إرتدت إلى الخلف بلا وعي.
ومن بين كل تلك الوجوه التي تعرف مريم سواء كزوجة أو عشيقة … لم ينتبه أحد إلى الأعين التي تطالعها بذهول وعدم تصديق عند رؤيتها للمرة الثالثة هذا الأسبوع فإتضح أنها على معرفة بأقرب أصدقائه … إنها عينا يوسف !
وصل عمار إلى يتأملها برعونة وقد إحتد نسق أنفاسه فهمس بحدة :
– انتي بتعملي ايه هنا ؟
ربما جاءت إلى هنا لكي تذرف الدموع و تترجاه ألا يتزوج نعم بالطبع ما ستفعله هو يعرفها جيدا.
إلا أن صدمته التالية كانت وهي تتملص ببرود من يده الممسكة بذراعها و هبت تصعد على درجات المنصة تحت أنظار الحضور وقبل أن يستطيع أحد إيقافها إنتشلت مكبر الصوت الموضوع على الطاولة و إستدارت إلى الأعين التي تراقبها و عدسات الصحفيين على وجه الخصوص فظهر خاتم “الأوبال” الذي يزين يدها بشكل واضح.
و إبتسمت ، تلك الإبتسامة التي تحمل شرا و حقدا و إستمتاعا مريضا بما سيحدث الآن ، ثم ركزت مقلتيها الجامدتين على عمار وهي تتشدق بكلماتها :
– مساء النور ، أولا انا بتمنى تكونو مبسوطين بالحفلة الجميلة ديه اللي اتعملت علشان فرح إبن أكبر رجال الأعمال على بنت عمه و حبيبته ندى البحيري.
صمتت لثانيتين تراقب ردود الفعل خاصة على عمار الذي وقف متصنما كالحجر ولم يقوى حتى على التحرك ، ثم تابعت بنبرة مستهزئة :
– مع اني زعلانة من عمو رأفت علشان معزمنيش أشارك أقرب الناس لقلبي في أهم يوم ليهم بس مع ذلك أنا جيت بنفسي ماهو مش معقول محضرش فرح … جوزي.
شهقات متفرقة صدعت في المكان و علتها أصوات الكاميرات وهي تلتقط الصور بجنون ثم همهمات مذهولة و أخرى مستنكرة لما يجري و أعين تطالعها كأنها مريضة عقلية فتابعت مريم بعدما ألقت نظرة بطرف عينها على العروس المدمرة تماما :
– نسيت أعرفكم بنفسي … انا مريم عبد الرحمن ده كان اسمي الكامل قبل ما اتجوز أنا و عمار البحيري من 4 سنين عشت فيهم معاه في السر لأنه كان مكسوف يعلن عن جوازه من واحدة ليها أصول غجرية و بتنتمي لطبقة مش من مستواه و اختار يخدع بنت عمه و ياخدها زوجة مثالية ليه و وسيلة يفتخر بيها قدام المجتمع.
أنا طبعا فرحانة علشانه لأنه حتى لو أنكر وجودي في حياته بس مش هبقى زيه و أعمل نفسي مبعرفوش و علشان السبب ده أنا هنا النهارده حبيت أعمل بأصلي و أباركله و اتمناله حياة زوجية سعيدة مع مراته الجديدة و امشي فورا اصل مش عايزة ادايق حد بوجودي … الف مبروك يا حبيبي و سهرة ممتعة للكل !!
__________________
ستوووب انتهى البارت
اخيرا وصلنا للمقطع اللي بيمثل عنوان الرواية
اتوقعتو يحصل ايه قبل ما تقرو آخر مشهد من الفصل ؟
ايه سبب اللي عملته مريم و عيلة البحيري هتقابل الفضيحة ديه ازاي ؟
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نيران الغجرية)