رواية نيران الغجرية الفصل الثالث والخمسون 53 بقلم فاطمة أحمد
رواية نيران الغجرية الجزء الثالث والخمسون
رواية نيران الغجرية البارت الثالث والخمسون
رواية نيران الغجرية الحلقة الثالثة والخمسون
: لا ينفع.
__________________
لم تكن مخططة لهذا التصرف بل أرادت فقط ان تحدثه إلا أنها في لحظة لم تستطع منع نفسها من الانجراف خلف مشاعرها الفياضة …
و في غمر العناق وجدت نفسها تلقي بحملها عليه بدلا من أن تكون هي سنده و تواسيه ، و ودت لو تستريح على صدره لما تبقى من عمرها ، أن تنسى كل المشاكل و الحواجز التي تمنعهما عن بعضهما …
غير أن هذا من سابع المستحيلات فجروحهما لا تزال رطبة لم يشفها الزمن بعد ، و كسورهما لم تُجبر ….
تنهدت مريم و ابتعدت عنه لتجده يحدجها مستغربا ثم انقلبت اساريره و هتف ببلادة :
– في لزوم اسألك الحضن ده بريء او وراه حاجة ولا لأ.
قلب عيناها بخنق و مطت شفتها بينما تعلق على كلامه :
– انت عارف اني مبقتش زي الاول خاصة بعد كل حاجة ما اتكشفت و اتوضح سوء الفهم ما بيننا.
تهكم عمار و ردد بنفي :
– لا مفيش حاجة اتوضحت لان مش بمزاجك يا هانم تتهميني و تبرئيني الاول انتي صدقتي اني ممكن اقتل ابني و هربتي بعدها صدقتي كلام ابويا و رجعتي طلعتي فيوم فرحي و فضحتي عيلتي و عملتي كل حاجة عشان تأذيني مبتقدريش تجي دلوقتي و تقولي انك مبقتيش زي الاول و سوء الفهم اتوضح يا مريم … حضنك ده كان ممكن يحل مشاكلنا في الماضي لما كنا مع بعض مش دلوقتي.
انقبض قلبها وشعرت بغصة مؤلمة تحكمه جراء كلمات عمار ولكنها أدركت بأنه يحاول تفريغ غضبه و حزنه بها فعقدت يديها قائلة بهدوء :
– وانا محضنتكش عشان المشاكل تتحل بس انا عارفة كويس معنى انك تخاف تخسر أبوك لاني جربته من قبل بس الفرق بيننا اني ملقتش حد يخفف عليا علشان كده عايزة اكون جمبك زي لما انت كنت معايا في مرض عمي و فرح ابن خالتي … بس كده.
صمت يستمع لكلماتها التي تنطقها بنبرة متحشرجة وقد استدعت ذاكرتها مشهد خسارتها لوالديها في نفس اللحظة نتيجة تعرضهما لحادث سير أودى بحياتهما و تركها يتيمة شكلت عبئا لعمها و زوجته ، ثم ذهب ليجلس على السرير و يرتشف قليلا من كوب القهوة قبل أن تقترب منه مريم متسائلة :
– الدكاترة قالو ايه.
– نوبة قلبية قوية بس حالته مستقرة دلوقتي و هيفضل تحت المراقبة الليلة ديه.
– طيب ازاي ده حصل قصدي هو كان تعبان من الاول ؟
هز رأسه بإيجاب :
– ايوة قلبه ضعيف وانا لما دخلت وواجهته مأنكرش بس اتصدم لما قولتله انك اتسممتي و اتصدم اكتر لما … اتهمته.
حاد بعينيها نحوها و تابع :
– حسيته مش فاهم ولا عارف انا بقول ايه بس مقدرتش اركز من غضبي و قولتله كلام وحش اوي … انا اتسرعت يا مريم ولو طلع مظلوم مش هقدر اعيش مع تأنيب الضمير من جهة ولا هقدر اعيش مع حقيقة انه كدب عليا و طلعني بصورة سيئة.
طالعته مريم بحزن تمكن منها و قسم قلبها لنصفين و شتمت نفسها لأنها أخبرته الحقيقة بهذه الطريقة و تسببت له بكل تلك المواجع بداية من اتهاماتها الباطلة عليه الى حين كشف غدر المقربين اليه.
و لكنها حاولت التماسك قدر الإمكان فربتت على كتفه مهمهمة :
– انا مرضتش اواجهك عشان كده مكنتش عايزاك تحس بالوجع ده ولا اواجهك بالطريقة ديه يا عمار صدقني … و احتمال كبير يطلع ابوك بريء واللي عمل فينا كده حد تاني.
– ايوة يعني مين هو … مين وليه عمل كده هيستفاد ايه لما يقلب حياتي !
هدر بعصبية تجلت في نبرة صوته المتشنجة و ضرب بقبضته على السرير لاعنا إياه فقالت مريم :
– عمار كده كده مبقاش في حل غير اننا نجيب سليم ده و نجبره يتكلم مهما كان التمن لانه ممكن يعرف باللي حصل بينك و بين ابوك و يلحق يهرب.
همهم بموافقة :
– ايوة انا كلمت واحد من رجالتي و قولتلهم يدورو عليه عشان محتاجه فموضوع مهم … و كمان سمعت التسجيلات من المايكرفون اللي حطيته في مكاتب الشركة بس موصلتش لحاجة و كأن المجهول ده شيطان مش بيسيب دليل وراه.
تمتمت الأخرى بعقلانية :
– مفيش حد بيعمل جريمة كاملة مسيره يسيب طرف خيط وراه يوصلنا لمكانه ساعتها هيندم ع كل حاجة عملها بس انت متشغلش بالك دلوقتي لازم تريح نفسك.
دلك عمار عنقه مجيبا :
– ماشي انا هتصل بالشوفير عشان يوديكي للشقة الوقت اتأخر.
– هروح بس مش قبل ما تاكل.
هتفت بضحكة وهي تفتح الحقيبة متوسطة الحجم التي جلبتها معها تحت نظراته المتسائلة لتفاجئه بإخراج علب طعام معقمة ليقول بإستنكار :
– ايه ده متقوليش انك جايبالي لانش بوكس زي العيال.
– انت عادة مبترضاش تاكل حاجة لما تبقى مضايق متعصب او زعلان او متوتر فقدرت اتوقع انك قضيت اليوم بطوله مع القهوة و السجاير و بما انك مش بتحب اكل المستشفيات او الفاست فود فنص الليل طبختلك بنفسي.
رددت بثقة وهي تنهض و تجلب الطاولة ذات العجلات لتضع العلب عليها ثم فتحتها واحدة تلوى الأخرى لتصل لأنفه روائح طبخها الشهي الذي اشتاقه مع الأعشاب الخاصة بها فرفع عمار حاجباه مهمهما :
– انتي بتتكلمي جد بقى … بس انا مليش مزاج اكل يعني ندى اقترحت عليا تجيبلي حاجة من البيت وانا مرضتش تعبتي نفسك ع الفاضي.
توقفت مريم مكانها و أغمضت عيناها بغيظ من فظاظته و كلامه الذي لا يمت للذوق بصلة على غير العادة لكنها أدركت انه يتعمد استفزازها فلم ترد اعطاءه الفرصة للنجاح فارسمت ابتسامة حادة على وجهها و ردت :
– بس طبخي مش زي طبخ اي حد انت عارف.
ناولته الملعقة فتذوق قليلا من الحساء و حينها لم يستطع منع نفسه من التلذذ و مدحها :
– شوربة الجبن والفراخ … محدش يقدر يعملها احسن منك فعلا.
فرحت بداخلها على اطرائه و شعرت بنفس أحاسيس الماضي عندما كانت تطبخ له بكل حب وهي تردد كلمات أغانيها الغجرية ثم تجلس أمامه منتظرة منه ان يعطيها رأيه في صنع يدها …
تنهدت بلوعة فاِنتبه اليها عمار و استطاع أن يتوقع ما تفكر به لأنه طرت على باله أيضا ، فتنحنح و سألها بهدوء :
– انتي كمان لسه مكلتيش صح تعالي اقعدي جمبي.
ابتسمت مريم و جلست بجواره ليمر الوقت سريعا وهما يتشاركان نفس الأطباق ونفس المشاعر ، و كل منهما محتار بخصوص الأسرار التي أشعلت النيران عند انكشافها و الحفرة التي تسحبهما للأسفل كل مرة مانعة إياهما من انتشال أنفسهما منها …
و بعد فترة كان عمار يخرج مع مريم من باب المستشفى الخلفي لكي يوصلها الى السيارة و عندما كانت ستركب أمسك يدها هامسا :
– كويس انك جيتي … شكرا يا مريم.
توردت وجنتاها و تسارعت دقات قلبها وهي تشعر بنفسها كمراهقة تجرب الحب لأول مرة فحاولت السيطرة على نفسها و ابتسمت له بخفة لتغادر سريعا و تترك عمار يراقب السيارة حتى اختفت …
ثم وصله اتصال انتشله من هفوة المشاعر التي غرق بها ليفتح الخط و يصله الصوت من الطرف الآخر :
– احنا دورنا على سليم فكل مكان يا باشا بس مقدرناش نلاقيه.
___________________
في اليوم التالي.
بعدما سمح له الطبيب بزيارة قصيرة لوالده بشروط ارتدى الزي المعقم حرصا على اتخاذ لوازم الاحتياط ثم دخل الى الغرفة التي يمكث فيها رأفت و وقف أمام السرير بصمت لا تقطعه سوى الأصوات التي تصدرها الأجهزة الطبية بإنتظام …
تأمله عمار بتقاسيم جامدة و مشاعر متخبطة ، لا يصدق ان والده الذي لطالما شهد على قوته و تحمله يرقد الآن على فراش المرض …
ولا يستوعب أنه يقف أمام والده الذي وقع في دائرة الاتهام ، لا يعلم ان كان يجب أن يحزن عليه أم يغضب منه أم يخاف من فقدانه ، داخله يتألم و روحه تتمزق بلا حول ولا قوة و لكن الشيء الوحيد الذي هو متأكد منه أنه لن يستطيع مجابهة الألم اذا اتضح بأن والده هو من قتل طفله … لن يتحمل …
تنهد بوجع و شرد متكلما بصوت لم يكن واضحا بسبب الكمامة التي يضعها :
– زمان وانا ولد صغير كنت شايف قد ايه انت بتحبني صحيح مش فاكر كويس بس اللي مثبت عليه انك مكنتش تقضي يومك من غيري تحضني و تلعب معايا و تجيبلي كل اللي نفسي فيه.
بعدها انت اتغيرت فجأة و بقيت تتحجج علشان تبعدني عنك و شويا شويا بقيت تزعقلي و تقسى عليا انا مكنتش فاهم السبب و ليه بتعامل ابنك بطريقة سيئة بس لانك بتتخانق مع مامته.
ابتلع غصة مؤلمة اعتصرت قلبه و لفحات الماضي تصفع ذاكرته و تخنقه ، ثم تابع بصوت أكثر تحشرجا :
– هو في حد بيقدر يبعد ابنه عنه و يبعته لمكان بعيد بعد موت والدته ؟ انت عملت كده و مكتفيتش لأ كمان كنت حارمني من اني اشوفك.
لما صحابي كانو بيقضو الويكاند في بيوتهم انا كنت بفضل قاعد لوحدي في اوضتي ولما اتصل بيك و اطلب منك تجي توديني عشان مضايق هنا بتقوم انت تبعتلي فلوس و هدايا ع اساس هتعوضني ع غياب أهلي … بس انا مكنتش عايز غيرك يا بابا.
نفث أنفاسه بحرارة كأنه يطرد طاقته السلبية ثم ازدرد لعابه محاولا السيطرة على الرجفة التي شابت صوته و أردف مبتسما بحزن :
– لما عشت مع كل الحاجات الوحشة لوحدي و اتقهرت و زعلت بقيت حاسس اني جماد معنديش مشاعر و لقيت نفسي بصدك وبصد كل اللي بيحاول يقرب مني لحد ما شوفتها ..
البنت الغجرية اللي عينيها كانت بتلمع وهي باصة لشهادتها وكأنها الحياة ساعتها ملكتني و مبقتش قادر افكر في غيرها …
مريم كانت بالنسبة ليا السلام و الحب و الهدوء وصح انا اذيتها اوي بس مكنش قصدي انا كنت بحاول اداوي الجرح اللي فقلبي ومن غير ما احس حبيتها بس انت عملت ايه ؟ استخسرتها فيا و بعدتها عني بحجة انها مش من مستوايا طيب انا هستفاد ايه لو كانت من عيلة غنية بس مبتقدرش تكون زوجة و أم صالحة لولادها ؟
بس تصدق مع ذلك انا مقدرتش اكرهك للاسف رغم كل اللي عملته فيا لسه قلبي بيوجعني لما بحس اني ممكن اخسرك معرفش ليه بس يمكن عشان … عشان لسه متأمل تبقى علاقتنا زي أي أب و ابنه.
سكت يسترجع أنفاسه المتثاقلة ثم نزع الكمامة و اقترب من أذن أبيه هامسا :
– حضرتك قلت انك مش المذنب في قتل ابني تمام يلا اصحى عشان تثبتلي انك مش بتكدب … اصحى عشان تثبت اني مكنتش غلطان لما قعدت مع نفسي مرة و فكرت في اني اصلح علاقتي معاك.
و كان جوابه هو السكون الفضيع ليمرر عمار يده على كتف والده و يغادر الغرفة بل المستشفى كله و بمجرد وصوله للحديقة التابعة لها وضع يده على قلبه يتحسس نبضاته و شهق للهواء يسحب أكبر قدر منه لعله ينجح في إطفاء ناره …
ثم التقط هاتفه و طلب أحد الأرقام ليتكلم مباشرة بعد فتح الخط :
– دكتورة ريماس … انا قدرت اعمل اللي قولتيلي عليه النهارده الصبح.
ابتسمت الطبيبة برضا فأكمل عمار :
– انا قدرت احكي كل اللي عايزه … الكلام اللي مكنتش بتجرأ اقوله بيني وبين نفسي حتى انا روحت قولته لأبويا بس هو مكنش سامعني.
هزت رأسها و تمتمت بعملية :
– انت لسه داخل في مرحلة انك تعبر عن اللي فقلبك للطرف اللي عنده مكانة مهمة فحياتك و مع الوقت هتبقى قادر تاخد و تدي و تسمع و تتكلم معاه كفاية انك عملت خطوة كبيرة زي ديه.
– ايوة معاكي حق.
– قولي انت حاسس ب ايه دلوقتي.
جلس عمار على إحدى المقاعد و تنهد بينما يجيبها :
– كأن جبل اتشال من صدري حرفيا … يعني لما بدأت اتكلم معاه كنت حاسس بتقل كبير بس شويا شويا بدأ لساني ينطق الكلام من غير حساب ولا تخطيط و قولتله كمان اني مستعد اسمع تبريراته و اصدق براءته … يا ترى هو بجد بريء ؟
ردت عليه ريماس بسؤال مماثل :
– انت شايف ايه ؟
اكتست الحيرة تقاسيم وجهه و شرد في رأفت وكيف رآه عندما واجهه آخر مرة ليعبس قائلا :
– مش عارف يعني لما بفتكر شكله و صدمته لما قولتله ع اللي حصل ل ابني وكمان سعاد هانم قالت انهم مكنوش بيعرفو بحمل مريم اصلا غير لما واجهوني بحس اني اتسرعت و ممكن ميكونش رأفت بيه اللي عملها … اقصد ان صحيح هو غلط في حقي كتير بس مش لدرجة يتمادى و يأذيني بالطريقة ديه.
ومن جهة صدمتي فيه و فالكلام اللي قاله لمريم و أنه بعدني عنها وخلاها ترسم عني صورة وحشة ده مخليني اقول ان اللي بتهون عليه سمعة ابنه و مشاعره ممكن يعمل اي حاجة تانية.
– عمار انت زعلك و خيبة أملك بأبوك مخلية عقلك الباطني عايز يلاقي سبب اضافي عشان تكره ابوك فرسملك امكانية انه ممكن يكون المجرم.
طبعا انا مش هنكر ان في احتمالية ابوك يبقى مذنب بس لازم تتأكد بالدلائل و متخليش غضبك منه يظلمه في حاجة هو بريء فيها … مهمتك دلوقتي تدور ع الحقيقة ديه أهم من اي حاجة تانية دلوقتي.
اومأ بإقتناع و ظل يتحدث معها لبضع دقائق اخرى حتى أغلق الخط و دخل الى المستشفى مجددا ، مر الوقت سريعا و خرج الطبيب من الغرفة مبشرا إياهم بأن المريض قد أفاق فاِنتشرت الفرحة بينهم و شعر عمار وكأن الحياة عادت اليه و لكن رغم هذا رفض الدخول و رؤيته فدلف أفراد العائلة على دفعات بطلب من الطبيب الذي أخبرهم بأن التجمعات ليست جيدة له.
و بعد مغادرة عادل و صديقيه الى الشركة و عودة فريال مع ابنتها للقصر ظل عمار واقفا أمام باب الغرفة حتى دنت منه سعاد مرددة بعتاب :
– انت مش عايز تدخل تشوف ابوك ليه يا عمار مش عايز تطمن عليه.
تنحنح و رد عليها مبررا :
– انا اتطمنت عليه من الدكتور و مش عايز ادخل لاني …
صمت بدون أن يستطيع الشرح فملست سعاد على وجهه بينما تكمل بدلا عنه :
– خايف عليه يتعب تاني لما يشوفك لانكم سبق و اتخانقتو وهو تعب بسبب الخناقة ديه ؟
اندهش عمار من مدى استطاعتها قراءة ما يفكر به ثم أبعد عيناه عنها فأثبت لها صدق كلامها لتبتسم قائلة :
– ابوك نفسه سأل عليك اول ما صحي و طلب يشوفك يلا يا حبيبي خلاص حصل اللي حصل واحنا مبنقدرش نرجع الماضي صحيح انا مش فاهمة اتخانقتو ع ايه بس عارفة كويس انك مكنتش عايزه يتأذى متفضلش تلوم في نفسك بس كمان حاول متكلموش في اللي حصل ماشي.
تردد لبضع لحظات ثم حسم أمره و دخل الى الغرفة التي نقلوه اليها بعدما استفاق ، وجد رأفت بوجه شاحب و جسد مرهق يستلقي على السرير وهو يطالع السقف و حينها تذكر عمار الكلمات التي رددها بكل قسوة ” شايف واحد عديم الرحمة كل همه مصلحته حتى لو هيأذيني … شايف واحد قاتل ..
انت اكبر بلاء في حياتي مش هسامحك على اي حاجة عملتهالي … انا بكرهك ! “
دار بحدقتيه في المكان عندما تفطن لنظرات والده اليه ثم تقدم بخطوات بطيئة حتى وصل اليه و قال بثبات مزيف :
– حمد لله على سلامتك.
تأوه رأفت ببعض الألم ليجيب :
– عمار ابني … صدقني انا معملتش حاجة لإبنك … انا … مستحيل اعمل كده اا…
قاطعه الآخر على الفور عندما بدأ يسعل :
– مش وقته الكلام ده صحتك أولى دلوقتي و هنبقى نتكلم في الموضوع التاني لما تخف.
أطلق آنة تنبع من وجع صدره ليوافقه على قوله مؤقتا ، قبل أن يردف على حين غرة :
– قبل ما يغمى عليا سمعتك بتناديلي يا بابا.
اندهش عمار و رمش بعينيه وهو يمرر بصره على أي شيء ما عداه ثم دلك رقبته متمتما بإضطراب :
– انا اتصدمت لما لقيتك وقعت بين ايديا ومبقتش عارف اعمل ايه يعني مكنتش متوقع ولا عايزك تتعب بس الإحساس اللي عشته في اللحظة اياها كان أسوء حاجة عدت عليا فحياتي و لقيت نفسي برمي اي كلام وخلاص …
لم يكن عمار يدرك بأنه في خضم محاولة منه لتبرير انفعاله أو حتى الاعتذار عما بدر منه في تلك المواجهة التي حدثت في غرفة المكتب غير أن أحاسيسه التي عادت لتتخبط بداخله مجددا منعته عن المواصلة وهي تصور له بأن والده هو المذنب وهو من يجب عليه الإعتذار ليس العكس …
لذلك استأذن و خرج مقابلا السيدة سعاد في طريقه لكنه اكتفى بهز رأسه لها و الذهاب أما هي فدخلت الى زوجها و سألته :
– عمار خرج وهو متنرفز انتو مرجعتوش تخانقتو تاني صح.
نفى رأفت مستطردا :
– لا متخانقناش … عايز أسألك … عمار كلمك او لمحلك عن حاجة غريبة مفهمتهاش ؟
مطت شفتها ناكرة ثم استدركت بتذكر :
– مقالش هو فضل ساكت اغلب الوقت … بس سألني امتى عرفنا انه متجوز و حاجات تانية مركزتش فيها اوي ، في مشكلة ؟
امتنع عن الإجابة و اكتفى بطمأنتها بصمت قبل أن يعاود مطالعة السقف محدثا نفسه :
– الواضح في اسرار كتيرة لازم اكشفها …
_________________
مر أسبوع على رأفت وهو في المشفى بعدما أكد له الطبيب بضرورة العناية به جيدا في هذه الفترة و رغم امتعاضه من هذا لأنه بطبيعته لا يحب أن يكون ضعيفا الى هذه الدرجة إلا أنه اضطر للموافقة.
و حينما تحسنت حالته أخرجوه من المستشفى وسط الضجيج الذي تسبب به الجمع الغفير من الصحافة المكتظة أمام الباب الخارجي بسبب انتشار أخبار أخرى مفادها بأن رجل الأعمال رأفت البحيري تعرض لوعكة صحية بسبب مشكلة كبيرة اندلعت بينه و بين إبنه من أجل الأموال غالبا فجاءت لتستنبط مدى صحة هذا الخبر غير مهتمين بالظروف التي يمر بها المريض.
إستطاعت العائلة الوصول الى القصر أخيرا وبعد الإطمئنان عليه هاهو عمار يجلس في غرفة والده لكي يعطي له الدواء ثم عدل الوسادة خلف ظهره و قال :
– هنبه ع الشغالين يجولك في ميعاد الدوا مع اني مش فاهم ليه رفضت نجيب nurse من المشفى عشان تساعدك اكتر.
– مفيش داعي لكل ده انا كويس بعدين انت و سعاد موجودين ملهاش لازمة نكبر الموضوع.
– طيب براحتك بس لو عزت اي حاجة كفاية انك تدوس ع الريموت ده تمام و انا او اي حد تاني هيجي فورا.
قالها عمار وهو يشير الى جهاز الإستدعاء الذي وضعه فوق الكوميدينو ثم استقام واقفا و كاد يخرج إلا أن رأفت أوقفه وهو يمسك يده مرددا :
– تعالى اقعد يا عمار … و اشرحلي ايه اللي بيحصل بالضبط و ايه اللي كنت بتقوله في اوضة المكتب.
تضايق و اختنق صدره من ذكر نفس الموضوع و كان سينكر ولكن والده شدد عليه مصرا على فهم كل شيء فتأفف و عاد ليجلس على مضض مغمغما :
– عايز اشرحلك ايه … مثلا اني عرفت ب ان حضرتك سبق و شوفت مريم و كدبت عليها بخصوصي و خليتها تصدق عني حاجات مش صحيحة في الوقت اللي كنت انا بدور عليها زي المجنون وحطيت ثقتي فيك بس انت خذلتني للمرة المليون و علشان كده سمحت لمريم تدخل للشركة مقابل انها تسكت.
احتكمته غصة في قلبه فإنكمش وجهه بألم و لكنه قاوم ذلك وهو يهتف :
– كل واحد مننا عنده وجهة نظر خاصة في طريقة حمايته للناس اللي بيحبهم و ديه كانت طريقتي عشان احميك يا عمار ايوة غلطت و لفيت و كدبت بس انا عملت كل ده عشان انقذك من الحالة اللي كنت هتقع فيها بسبب حبك لواحدة مختلفة عنك في كل حاجة.
لأن لا مريم كانت هتقدر تتأقلم مع حياتك ولا انت كنت هتتعود عليها بعد انت ماقررت تعلن جوازكم وتعيشو مع بعض ع العلن … و مش ندمان لأني أب ومهما حصل ما بيننا هتفضل أوليتي و هتفهم كلامي لما تبقى أب انت كمان.
تهكم عمار في وجهه وهو يضغط على وتره الحساس فعلق :
– انا كنت هبقى أب بس مسمحوليش و قتلوه قبل مايشوف الدنيا.
اعتدل رأفت في جلسته و برزت ملامح الجدية عليه بينما يسأله بترقب :
– وصلنا لموضوعنا الأساسي … ايه قصة السم ديه و طلعت منين مش المفروض مراتك سقطت بسبب مشاكل صحية عندها و ليه اتهمتني انا ازاي فاكر اني ممكن اقتل حفيدي اللي ياما اتمنيته وكنت بسعى لأنك تتجوز بس علشان اشيل ابنك بين ايديا.
تحول الأمر الى عتاب في النهاية بدون قصد و لكن رأفت لم ييستطع هضم فكرة أن ابنه يظنه بهذه البشاعة فزفر عمار بتردد من اخباره لأنه لم يتأكد لحد الآن اذا كان بريئا حقا أم يدعي ذلك.
إلا انه استسلم و رضخ لرأفت ليجيبه :
– انا عرفت من حوالي شهرين ان مريم اتسممت هي اعترفتلي بنفسها ومش عارف اذا كانو قاصدين يتهموني عشان تبعد عني ولا لأ لأن الممرضة جت و قاتلها جوزك سمع بأنك اتسممتي بس معملش حاجة فنفس الوقت اللي الدكتور جه و قالي انها سقطت لأسباب صحية تانية علشان كده مريم هربت … هي افتكرت اني قتلت ابننا و بكلام حضرتك معاها اتأكدت.
– ايه الكلام ده انت متأكد منه يمكن تكون لعبة جديدة منها.
– ايوة اتأكدت من السجلات الطبية و في حاجات تانية ظهرت و أكدتلي اكتر.
دفعات من الصدمة كانت تنهمر عليه واحدة تلوَ الأخرى دون رحمة ومع كل حرف من عمار كان رأفت يدرك كم أنه كان بعيدا كل البعد عن حياة إبنه ، فبينما يسعى هو للنجاح في الحياة العملية و المحافظة على سمعة العائلة و الإزدهار أكثر كان ولده يعاني وهو لم يرَ ذلك.
و تلك الغجرية هاقد اتضحت أسباب تصرفاتها و رغم أنه لا يزال يكرهها و يود ابتعادها عنهم إلا أن رأفت لم يستطع منع الشعور بالشفقة اتجاهها من التسلل لقلبه فهي امرأة قُتل طفلها و عاشت الكثير و هذا يمنحها الحق فيما فعلته … لأنه لو كان مكانها لفعل أكثر !
هز رأسه مهمهما بإنهاك :
– مين اللي عمل كده و ليه و ازاي.
– في الاول انت قولي ايه قصتك مع سليم وليه كنت بشوفك معاه في اخر فترة.
– سليم جه لمكتبي و قالي ان عنده مشاكل مادية و محتاج فلوس بس لسه مقبضش قمت اديته سلفة هيرجعها لما يقبض منك لانه مش عايزك تعرف.
و لما رجع السلفة طلبت منه يعملي خدمة بدل الشوفير بتاعي لانه كان تعبان بعدها طلب قرض كبير و رفض يقولي السبب بس لما ضغطت عليه قالي ان اخوه اتورط مع ناس لعب معاها قمار ولازم يدفعلهم فأسرع وقت الصراحة صعب عليا وحبيت اساعده بما انه مساعدك المخلص فأديته المبلغ و قولتله يرجعهم ع مهله.
– انت اديتله الفلوس امتى ؟
– تقريبا فليلة اخر حفلة اتعملت بس انا مش فاهم انت بتسأل ليه و مال سليم في الموضوع ؟
ازدرد عمار ريقه ليبلل حنجرته الجافة و ضغط على قبضة يده بغضب بينما يرد من بين أسنانه :
– سليم متعاون مع الكلب اللي عمل فينا ده كله … هو حطلي ال GPS فعربيتي و جاب سباك لشقتي عشان يركب جهاز تنصت وهو اللي بعت الشوكولا المسمومة لمريم وخلاها تسقط و كمان عرفت ان الدكتور اللي عالجها صديق مقرب لسليم و بعتله فلوس اكتر من مرة.
– عمار انت بتقول ايه معقول سليم !
– ايوة هو و بقالي كتير بعمل تتبع لخطواته بس شكل السيد بتاعه ذكي جدا و خلاه ياخد احتياطاته و يمكن كمان كشفو اني بقيت اعرف كل حاجة عشان كده سليم مختفي من اسبوع ومش عارف هو فين.
صمت عمار بعدما تملك منه الضيق و أحس بكتلات نار تحرق دماءه فبدأ يأخذ أنفاسا عميقة منتظمة كما علمته ريماس سابقا حتى هدأ قليلا و التف الى والده مردفا :
– لما عرفت من مريم الحقيقة مبقتش قادر اتحكم في اعصابي و انت كنت الوحيد اللي ممكن اقدر افرغ فيه غضبي عشان كده اتهمتك و قولتلك كلام مهما كان ما بيننا بس مكنش ينفع يطلع من لساني … انا يعني … لما قولت اني بكرهك مكنتش …
توقفت الحروف في حلقه و أبت الخروج وكأن حاجزا حديديا يمنعها فعادت لتُختزن داخل قلبه كسابق الحروف التي لطالما أراد إخراجها وفشل في ذلك ، غير أن رأفت الذي رأى الندم و الحرج في عينيه أدرك جيدا ما يفكر به فاِبتسم بإنهاك هاتفا :
– انا عارف انك مكنتش بتقصد انت زي أمك لما كانت بتعصب بترمي اي كلام عشان تجرح اللي قدامها و قلبها يبرد بس انا فهمت انك مقصدتش اول ما ناديتلي بابا لما وقعت.
رفع عمار رأسه اليه بدهشة و استغراب ليتابع الآخر :
– ديه كانت اخر كلمة سمعتها قبل مايغمى عليا ساعتها حتى لو مُت كنت هموت وانا مرتاح لاني اخيرا سمعت الكلمة اللي بقالي سنين طويلة بتمنى تقولهالي.
تمتم بدموع التأثر متذكرا انه سمع ايضا كل ما قاله عمار عندما دخل لغرفة العناية المشددة حينها كان هو متأرجحا بين الخيال و الواقع و اعتقد بعد استيقاظه أنه كان يحلم إلا أن سعاد أخبرته بأن عمار هو الوحيد الذي دخل اليه وعندما خرج لاحظت عيناه الحمراوتان و كأنه يسعى لكبت دموعه …
يتذكر رأفت جيدا كل كلمة خرجت منه و كيف حكى له عن طفولته و عن أنه لم يرد سوى وجوده في حياته لكنه بالمقابل تلقى الخيبة و الخداع منه و أبعد حبيبته عنه ومع ذلك لم يستطع كرهه … عمار لا يزال يعتبره والده وهو سيفعل المستحيل من الآن فصاعدا ليعيده اليه !
__________________
بعد حديثه مع والده الذي تلقى من الصدمات ما يكفي ووعده بأن يتعاون معه و يظل الحديث سرا بينهما هاهو يذهب الى الشركة و يدخل لمكتبه و خلفه مساعدته سلمى التي أبدت فرحتها بعودته و سألته عن صحة السيد رأفت فطمأنها و قال ريثما ينزع جاكيته و يجلس :
– في حاجة حصلت في غيابي.
ردت عليه بعملية :
– حضرتك الاخبار اللي بتقول ان رأفت بيه تعب بسبب مشاكل في الشغل أثرت علينا شويا و خلت بعض المستثمرين عايزين يتأكدو من السيولة اللي عندنا بس عادل بيه و سعد الدين بيه حلو الوضع و أكدو ان كل اللي اتقال كدب ، كمان المستر يوسف و وليد بيه حضرو كل ال meetings المطلوبة يعني الشغل ماشي كويس.
اه صحيح المتدربة مريم بقت من الtrainees الأساسيين و انضمت للاجتماعات مع يوسف بيه اكتر من مرة.
همهم مستطردا :
– طيب املي عليا List of works بتاعت النهارده خليني اشوف عندي ايه.
– في ميتينج واحد لمراجعة الميزانية مع عملاء شركة *** بعد 10 دقايق يافندم حضرتك لو تعبان ومش عايز تنضم مع المجلس هقو….
قاطعها عمار وهو ينهض :
– لا انا مستعد مفيش داعي نضيع وقت اكتر.
بعد انتهاء الاجتماع وعودته للمكتب طلبته سلمى على الهاتف و أخبرته بأن مريم تود مقابلته فسمح لها لتدخل الأخيرة على الفور و تقترب منه بلهفة لم تحاول اخفاءها :
– انت كويس انا قلقت عليك بقالك اسبوع مختفي ومقدرتش اشوفك وكمان متصلتش بيا.
رفع عمار حاجباه ساخرا منها :
– هو مين اللي مفروض يتصل بالتاني لو كنتي قلقانة عليا بجد كنتي سألتي.
مطت شفتها بعبوس :
– لا انا كنت بسأل وليد بيه و يوسف بيه وكمان بتابع الnews من ع السوشيال.
أحس أنها تتعمد استفزازه بكلامها الغبي فاِعتدل في جلسته عاقدا حاجبيه :
– بتسألي اصحابي و بتابعي اخباري من السوشيال انتي مسمعتيش بإختراع اسمه تلفون بتقدري تطلبي رقمي منه و تكلميني ؟ انتي شكلك رايقة النهارده و عايزة تضيعي وقتك بس معلش مليش مزاج تقدري تتفضلي.
اندهشت مريم من تقلبه السريع وكيف انتقل من قمة البرود لقمة الضيق في أقل من دقيقة فقالت برفعة حاجب :
– انت عارف ان حكاية انقلاب مزاجك ف كام ثانية ديه حاجة مش طبيعية صح ؟
تذكر عمار كلام ريماس عندما كان يجلس معها في مرة من المرات بكل هدوء و فجأة غضب حين سألته عن كونه متأكد من شيء ما و قال لها بأنه راشد كفاية ليكون متأكدا فاِبتسمت و قالت له بأنه ذو مزاج غير معتدل لا تعرف متى يكون هادئا و متى ينفعل ، لاحظت مريم شروده و ابتسامه كأنه يتذكر حدثا ما بينما يردد :
– ايوة عارف قالولي قبل كده.
من الذي أخبره بذلك هل ندى أم تلك المدعوة ريماس التي سمعته يكلمها اكثر من مرة و يراسلها ايضا أم اِمرأة اخرى ؟ كتمت مريم هذا السؤال بداخلها وهي تضغط على نفسها كي لا تشتمه لتردف :
– طيب بعد اذنك انا عندي شغل.
استدارت بإتجاه الباب فنهض عمار و لحق بها ليمسكها قبل المغادرة ، قبض على ذراعها و لفها ناحيته فشهقت مريم بفزع :
– في ايه.
حدق بها الآخر بزيتونيته و همس بنفس متسارع :
– قالولي انك بقيتي من المتدربين الأساسيين و من أول المرشحين اللي هيستلمو الوظيفة بعد فترة التربص ما تخلص … برافو عليكي.
ابتسمت بفرحة سرعان ما تحولت لعبوس وهي تقول :
– بس رأفت بيه مش هيسمحلي لأني خلفت ال deal اللي كان مابيننا و قولتلك ع اللي حصل و كمان عادل بيه هيستغل اي فرصة عشان يطلعني من المولد بلا حمص.
– ايه اللي جاب الحمص لكلامنا مش فاهم.
ردد بعدم معرفة للمثل المتداول بين عامة الشعب فضحكت مريم وهي تردف :
– متشغلش بالك قولي انت قدرت تعرف حاجة جديدة.
ترك يدها و عاد وجهه للجمود وهو يخبرها بأن رأفت بريء و هناك أحد آخر متورط و بينما هما يتحدثان وصله اتصال من وائل ففتح الخط و فعل مكبر الصوت :
– اهلا يا وائل.
– ايوة يا عمار عامل ايه طمني ع صحة والدك.
– بخير الحمد لله بس انت باين عليك مضايق خير في حاجة حصلت ؟
سأله عمار بعدما تبينت له نبرة الإنزعاج ليحمحم الآخر و يغمغم بجدية :
– الصراحة حصل … احنا لقينا سليم.
اتسعت عينا مريم و نظرت لزوجها الذي جز على أسنانه هاتفا :
– لقيته فين و مع مين … هو فين دلوقتي.
تنحنح وائل متنهدا :
– مش عارف اقولهالك ازاي والله … احنا اه لقينا سليم بس مش هنستفاد … لانه عمل حادث بالعربية امبارح بالليل و اتوفى …
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نيران الغجرية)