رواية نيران الغجرية الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم فاطمة أحمد
رواية نيران الغجرية الجزء التاسع والعشرون
رواية نيران الغجرية البارت التاسع والعشرون
رواية نيران الغجرية الحلقة التاسعة والعشرون
زوجة صديقي.
_________________
” أحيانا يجب أن تكون سيئا كي لا تُكسر “
صف السيارة في ساحة القصر على عجل و دلف بخطوات أقرب للركض و على وجهه أمارات القلق ، لا يعلم كيف استطاع القيادة بعد سماعه من زوجة والده بأن ندى حاولت الانتحار فلقد اوشك على التعرض لحادث سير أكثر من مرة وهو يقود بسرعة فائقة.
صعد عمار إلى الطابق العلوي بواسطة المصعد الكهربائي و حينما وصل إلى غرفة ابن عمه وجد الطبيب يقف مع عادل و رأفت و سعاد فتقدم منهم متسائلا بأنفاس لاهثة :
– ايه اللي حصل و ندى مالها هي عاملة ايه دلوقتي.
نظر له عمه شزرا ولم يجبه بينما انشغل الطبيب يإخباره عن صحة ابنة عمه و التي لم تكن حالتها خطيرة لدرجة تستدعي تدخلا جراحيا.
وبعد مغادرته هاجم عادل عمار بحدة قائلا :
– انت جاي تسأل على بنتي ليه مش كفاية اللي عملته فيها عايز منها ايه تاني !
تدخل رأفت يحاول تهدئته قبل تفاقم الجدال :
– ملوش لازمة الكلام ده دلوقتي الحمد لله ندى بخير و حالتها مستقرة و عمار ملوش دعوة باللي حصلها.
– اومال قطعت شرايينها ليه مش بسببه هو و عشان قالها امبارح صريحة مش عايز يتجوزها بعد ما فضحها !
هدر بغضب و استنكار قبل ان يلتفت لعمار مجددا وهو يردف بتحذير :
– من النهارده انا مش عايز اشوفك قريب من بنتي انت ملكش دعوة بيها من هنا ورايح مفهوم.
في نفس اللحظة خرجت فريال من غرفة ابنتها و عندما رأت عمار اشتعلت عيناها بالجنون فصاحت فيه بعصبية :
– انت بتعمل ايه هنا مش روحت للمشردة بتاعتك كل اللي حصل لبنتي بسببك منك لله اتفضحت و حياتها اتدمرت ومحدش هيرضى بيها بعد كده.
كان يستقبل الكلام الذي يسمعه بصمت و دون أن يجيب مراعاة لحالة والديها فطفق يقبض على يده طاحنا ضروسه بحنق إلى أن نفذ صبره فتخلى عن سكوته مرددا بسخرية مشبعة بالغضب :
– ندى لو حاولت تنهي حياتها فده مش بسببي أنا لا ده بسببكو انتو الاتنين.
– عمار كفاية.
حذره رأفت ولكن الأخير تجاهله تابع يلومهم :
– من ليلة الفرح محدش شاغل باله غير بالفضيحة اللي طالتها حسستو ندى انها بقت عالة عليكم و نكرة محدش بينسى فضيحتها ولا حد هيبصلها تاني !
انتي يا فريال هانم بدل ما تواسي بنتك و تهتمي بيها و تحضنيها وتقوليلها كل حاجة هتبقى كويسى قعدتي تزني فوق دماغها انها لازم تتجوزني عشان فضيحتها تتنسى وصلت بيكي بأنك تعايريها وتقوليلها لو خلفت ولد بدالك كانت كرامتي هتبقى محفوظة.
بهتت فريال و نضى الدم من وجهها وهي تسمع لومه خاصة على الكلام الذي قالته البارحة لندى بصوت عال وصل إلى مسامع عمار بالتأكيد.
ولكنها لم تكن تقصد ذلك بالمعنى الحرفي فهي تحب طفلتها كثيرا و يستحيل أن تفضل أي شيء عنها إلا أنها قد غضبت للغاية عندما أخبرت ندى الجميع بأنها لا تود الزواج من عمار …
حينها شعرت بالخنق منها لأنها ضيعت فرصة كبيرة كانت ستوصلها إلى حبيبها لو ضغطت عليه قليلا فقط فصرخت عليها و ألقت عليها كلمات جارحة بدون وعي.
استشفت فريال نظرات الاستنكار من الأفراد المحيطين بها خاصة من عادل الذي تحول غضبه اليها فتلعثمت محاولة طرد عيون الاتهام عنها :
– متحاولش تبرر اللي انت عملته انا مهما قولت ومهما عملت فده عشان مصلحتها ماهو انت مش هتحب بنتي اكتر مني.
هز رأسه برعونة يؤكد كلماتها الأخيرة :
– بالضبط ندى بنتك و الفضيحة فضيحتي انا فلو عايزة تلومي حد لوميني و سيبيها.
سكت يلتقط انفاسه و يرطب حلقه الجاف مردفا وهو يطالع عمه و والده على وجه الخصوص :
– في كتير اهالي بيتجاهلو ولادهم و مبيهتموش باللي بيوجعكم … بس ندى مش هي البنت اللي ممكن تستحمل تعامل قاسي من أهلها عشان كده متوقعوش في الغلط ده.
أغمض رأفت عيناه بحسرة عند إدراكه لتلميح إبنه ثم لاذ بالانسحاب قبل أن يستمع لما يؤلم قلبه أكثر.
غادر عمار إلى غرفته وبمجرد دخوله ألقى سترته على الأرض بهمجية وهو يكاد يصرخ بأعلى صوته.
اللعنة على هذا الأمر ، اللعنة على الدقيقة التي ساير فيها مريم تلك الليلة حتى استطاعت الهرب من الشقة و اقتحام حفل زفافه و فضحه ، و اللعنة عليه ألف مرة لأنه تسبب في وصول ندى إلى هذه الحالة ، بسببه تحولت إبنة عمه من فتاة مرحة وسعيدة إلى أخرى ضعيفة دفعها يأسها إلى رغبتها في الموت !
زفر بعنف و حاوط رأسه بين يديه كمحاولة منه لتخفيف صداعه الذي يتفاقم عند الإنفعال ، لينتبه إلى طرق الباب الذي سبق دخول سعاد بهدوء وعلى وجهها علامات تدل على أشياء كثيرة.
اغمض عمار عيناه و فتحهما مجددا قائلا :
– ايوة يا سعاد هانم ، حضرتك كمان جاية تلوميني ع اللي حصل مفيش داعي انا عارف كويس اني السبب فكل مشكلة.
و على عكس تفكيره قابلته زوجة والده بالإنهار وهي ترد ببساطة :
– مش بسببك انت … الست اللي كتبتها على اسمك و رفضت تطلقها لحد دلوقتي هي السبب في كل اللي حصل و لسه هيحصل لو مبعدتهاش عنك.
لم يعلق الآخر عليها بل اتجه لقسم تبديل الملابس و التقط قميصا بيتيا يرتديه بينما يستمع إلى حديث سعاد العالي :
– مش فاهمة انت ليه لسه مخليها على ذمتك بعد اللي عملته بينا و على فكرة انا مش مقتنعة بقولك انك عايز تخليها تطلب هي الطلاق بنفسها عشان متطولش جنيه واحد منك.
عمار اللي اعرفه كان هيطلق الغجرية ديه فورا و يديها اللي هي عايزاه بعدين يتجوز بنت عمه اللي بتليق عليه … انت كنت بتهتم بسمعة عيلتك و مكانتها بين الناس بس دلوقتي اتغيرت لدرجة مقدرتش اعرفك.
خرج إليها عمار يحدق بها في استهجان قبل ان يراوغها بسؤاله :
– حضرتك عارفاني بس انا لسه معرفتش رأيك الخاص فجوازي و في مريم بالذات.
عقدت حاجبيها بتعجب منه :
– رأيي انا و رأي الكل واحد بعد اللي عملته …
قاطعها هو بهدوء :
– انا بسألك عن رأيك و كنتي بتفكري في مريم ازاي قبل ما تسبب الفضيحة … يا ترى كنتي هتكرهيها كده لو اتعرفتي عليها وهي في شقتي و تحت سيطرتي … ست هادية و لطيفة مبتأذيش غيرها و بتسمع الكلام.
بهتت سعاد من سؤاله و جمدت أطرافها غير قادرة على استيعاب طلبه لرأيها الخاص في مريم … شعرت بأن عمار يحاصرها فتمتمت محاولة الحياد قدر الامكان :
– انا … مكنش هتبقى عندي مشكلة من ناحيتها كشخصية هادية و مبتأذيش ومتسببش مشاكل … بس ..
– بس ايه ؟ كنتي هترفضيها بردو عشان هي غجرية ومش من مستوانا ؟
قاطعها عمار بلهجة تقريرية تمحي كل سبلها لإظهار العكس ، ثم تابع :
– حضرتك كمان بتفكري في اختلاف الماديات و كون الطرفين مش من نفس المستوى مينفعش يبقو مع بعض ، مش ده هو تفكيرك يا سعاد هانم.
– مش هكدب عليك و اقولك اني من الاول رافضة علاقتكم لا انا و ابوك لما عرفنا بجوازك و بأنها مختفية اقترحت عليه يدور على مراتك و يرجعها و يعلن جوازكم كل اللي فبالي كان ان المشكلة ديه تتحل قبل ما تكبر.
بس بعد اللي حصل يوم الفرح اتأكدت اني كنت غلطانة …
سيبك من فرق المستويات بس واحدة زي مريم بتطلع تفتري على جوزها و عيلته و تسببله فضايح و مشاكل و تخلي بنت عمه تحاول تنتحر عمرها ماهينفع تبقى زوجة اصلا.
أنهت حديثها و رحلت بينما شعر عمار بدوار شديد يصيبه فتأوه و ارتمى على فراشه محاولا إستعاد توازنه.
ثم طفق يردد كلمات السيدة سعاد في عقله ، بالفعل تلك الغجرية سببت له مشاكلا كثيرة أصعبها جعل إبنة عمه تتدمر و تيأس من الحياة.
لا يعلم كيف امتلكت كل هذه الجرأة لأذيته ولكنه يعلم أن تساهله معها دفعها لتخيل نفسها قوية لا شيء يردعها ، صدقا هو يريد محاسبتها على كل ضرر تسببت به ثم تحرير نفسه من هذه العلاقة الزوجية و طردها من حياته إلى الأبد.
إلا أنه لا يستطيع فعل هذا قبل معرفة سبب كل هذا الحقد و الغضب النابعين قلب مريم إتجاهه.
و معرفة المكان الذي كانت تختبئ به و من الذي ساعدها في الهروب و الإختفاء غير أن هذا ليس سهلا فرجاله يبدون فشلا كبيرا في اكتشاف سرها و يخبرونه أنهم عاجزون عن معرفة أين كانت تختبئ مريم ، و هذا شيء مريب لأن هؤلاء الرجال محترفون في عملهم جدا و فشلهم يعني أن هناك شيء مريب يسري أمامه وهو لا يستطيع رؤيته.
و آخر سبب يدفع عمار لعدم تطليقها هو إحساس في أعماق داخله يخبره بإستمرار بوجوب التمسك بها ، و هاهو يدعو ألا يكون هذا الإحساس نابعا من عضو معين بجسده لأنه سيقع في مصيبة كبيرة إن تحرك ناحيتها … وهو قلبه !
________________
انتهت من ارتداء ملابسها و اتجهت لمغادرة المنزل ولكن بمجرد فتحها الباب قابلها الحارس ذو الوجه الجليدي وهو يسألها :
– حضرتك رايحة على فين يا هانم.
رفعت حاجبيها بإستهجان من إستجوابه هذا و ردت عليه :
– خير انت وظيفتك تقف هنا قدام بابي وتخدمني ولا تحقق معايا رايحة فين و جاية منين.
– انا تحت أمرك بس مبقدرش اسمحلك تخرجي من هنا قبل ما اخد اذن عمار بيه.
تأففت مريم بملل وهي ترى الحارس يتصل به و يخبره بشأنها رغبتها في الخروج ، ثم أغلق الخط و نظر إليها هاتفا ببساطة :
– تقدري تنزلي بس بشرط افضل مع حضرتك.
عضت على شفتها الداخلية وهي تشعر بالإستفزاز ولكنها وافقت على أي حال.
غادرت المبنى و بقيت تمشي في الشارع بتريث و وجهها لا يبشر بشيء.
منذ ساعات وهي قلقة وقد أصابتها حالة من البلادة عندما علمت بما حدث لندى البحيري.
فلقد سمعت مكالمة عمار مع زوجة والده خاصة عندما ردد بصوت عال جملة محاولة ندى الانتحار ثم غادر راكضا دون قول كلمة إضافية.
تنهدت مريم وهي تشعر بكتلة نار بداخلها ثم اتجهت لتجلس على أقرب مقعد مقابلة نهر النيل ، و ألقت نظرة عابرة على الحارس فوجدته يقف بعيدا عنها بمسافة لا بأس بها تمنحها بعض الخصوصية.
شردت في أفكارها و سرحت بعيدا ، لماذا ارادت ندى الخلاص من حياتها ؟ هل هذا بسبب ما تعرضت له من تعليقات بعد إفساد ليلة زفافها هل وصلت لدرجة من اليأس أدت بها للإنتحار.
فكرة أن أحدا حاول قتل نفسه بسببها تجعل اللهيب يسري في عروقها ، مهما كرهت مريم عائلة البحيري إلا أنها لم تتمنى أبدا حصول هذا الأمر.
إن إنتقامها الحقيقي كان من عمار نفسه لأنه سحقها سابقا بإهاناته و قتله لجنينها ثم مضى في حياته كأن شيئا لم يكن ، صحيح أنها دعست على أشخاص غيره في طريقها للنيل منه و لكنها لم تود أذيتهم.
و مهما اغتاظت من ندى ، إلا أنها لا تنكر حقيقة بأنها بريئة و خُدعت من طرف ابن عمها !
تأففت مريم و أعادت رأسها للخلف متطلعة إلى من حولها ، ثم التقطت هاتفها و طلبت رقم هالة لترد بعد ثوان :
– الو مريم ازيك يا حبيبتي.
– كويسة وانتي عاملة ايه.
– نشكر ربنا بس انا ليه حاسة نبرة صوتك مختلفة خير في حاجة.
تساءلت هالة بتحفز بعدما أثار همس صديقتها الخافت تحفظها ، لتجيبها الأخرى بهوان :
– عمار جه عندي النهارده الصبح عشان يستجوبني بعدين مرات ابوه اتصلت بيه و قالتله ان ندى بنت عمه حاولت تنتحر.
سمعت شهقتها الهلعة يتبعها سؤالها :
– بجد طب هي عاملة ايه دلوقتي ايه اللي حصلها.
– معرفش.
– اتصلي بعمار و اسأليه.
ضغطت مريم على أسنانها بضيق من هذا الإقتراح و رفضته بحدة :
– مستحيل يا هالة … انا اتصلت بيه مرة واحدة في حياتي ومش هرجع اعملها طول عمري.
كانت تقصد ذلك اليوم عندما هاجمها الألم الفضيع ببطنها فطلبت رقمه لكي يأت وينقذها لكنه تجاهل الإتصال ، و الحال أن الشخص الذي اتصلت تستنجد به هو الذي كان السبب في حالتها.
هزت هالة رأسها بتفهم ثم تمتمت بتردد :
– هي ايه اللي خلاها تعمل كده معقول عشان اللي حصل يوم الفرح.
أغمضت عينيها بإستياء مردفة :
– الظاهر علشان كده … بسببي انا حاولت تنتحر.
– متفكريش بالطريقة ديه يا مريم.
مسحت مريم على وجهها بإنفعال وهتفت :
– ازاي هنكر الحقيقة يا هالة انا مهما كان معايا حق مبيخفيش حقيقة اني دمرت سعادة بنت بريئة و خليتها … خليتها تعمل نفس اللي انا عملته من سنة ونص لما هربت و حاولت اقتل نفسي !
مع آخر جملة لها كانت الدموع الساخنة تشق وجهها و تنزل عليه بإنسياب مخلفة عينان حمراوتان و وتيرة أنفاس متسارعة بسبب عودة تلك الذكرى البغيضة التي عاشتها في الماضي.
وضعت مريم يدها على موضع قلبها الذي غصها الآن فسارعت هالة بقول ما يخفف عنها :
– يا حبيبتي انتي مكنش في نيتك تضريها أبدا عمار هو السبب في كل اللي حصلها ، بعدين فكري بأنك عملتي فيها خير و كشفتيلها حقيقة الراجل اللي كانت هتتجوزه.
انتي لو مفضحتيهمش في يوم الفرح كانت ندى هترتبط بواحد كادب عليها و خدع بنات كتير قبلها و ظلمهم و رماهم احنا لو هنحلل الوضع كويس هنلاقي انك ساعدتيها و انقذتيها من واحد زيه مبيخافش ربنا و مفيش رحمة في قلبه.
ساهم كلامها في تخفيف عذاب الضمير الذي تشعر به إتجاه تلك الفتاة ، ولعل صديقتها محقة فهي بفضحها لعمار قد حمتها ندى و أي أنثى أخرى كان من الممكن ان ترتبط به في المستقبل ، غير أنها متأكدة بأن عائلة البحيري لن يكون لها نفس التفكير.
فهي شبه متأكدة بأنهم سيحاولون الإنتقام منها بأسوء صورة و من الممكن أيضا أن تفسد خطة عملها في شركتهم ، و عمار لن يكون هادئا معها ككل مرة ، فهلعه على ابنة عمه صباحا و ركضه إليها يشير إلى أنه يحبها كثيرا و بالتالي سيزداد بغضه عليها.
و رغم أن غضبهم هذا سيكون في صالح مريم لأنها ستستغل فرصة أذيتهم لها إن فكروا بالأمر و ستسفاد ، إلا أن غصة مؤلمة تملكت قلبها وهي تفكر في أمر ما ترجمته على لسانها وهي تقول لهالة بروح منطفئة :
– عارفة … لما اتصلو بعمار و عرفوه بأن ندى حاولت تقتل نفسها انا شوفت خوف كبير في عينيه.
خوف و رعب مشوفتهمش عليه قبل كده ناحيتي ازاي اتنفض و طلع يجري عشان يلحقها … ساعتها انا افتكرت يوم الحادثةدة لما كنت بسقط و اتصلت بيه بس مردش عليا.
الباب كان مقفول و صوتي مش طالع لبرا وقتها انا رغم شوفت فيديو لعمار وهو بيخوني بس طلبت رقمه عشان يجي ينقذ ابني وهو …
عضت مريم على شفتها بمحاولة بائسة لكتم شهقاتها المندلعة بخزي رغما عنها مع أنها وعدت نفسها ألا تبكي بسببه مجددا ولكن تلك الذكرى القاسية لا تنفك تجلدها بسياط من نار كلما خطرت على بالها ، مسحت على وجهها و تابعت بنبرة مرتجفة :
– طلبته لأول مرة في حياتي وهو مجاش غير بعد ما خسرت ابني و في الاخر اكتشفت انه كان تخطيط منه وهو اللي سممني يا هالة !
أنهت كلماتها وهي على حافة الإنهيار بينما جزت هالة على أسنانها و ازداد حقدها على ذلك المجرم اللعين ، كم حذرت مريم منه سابقا وكم حاولت إقناعها بأنه ليس كما يبدو غير أن صديقتها كانت غارقة في وهم الحب و العجز ، لم تستطع إدراك حجم خطورته و هاهي تعاني من دناءته معها.
رطبت شفتيها و تمتمت بنبرة جعلتها هادئة قدر الإمكان :
– متعمليش كده في نفسك يا حبيبتي و متعذبيش قلبك انتي هتاخدي حقك منه و حق كل وجع حسيتي بيه لان ده وقت هو يزعل مش انتي.
و متشغليش بالك ببنت عمه هي بنت عيلة معروفة و اكيد كان هيوصلنا خبر لو حصلت حاجة خطيرة صح.
همهمت بأمل و اغلقت الخط بعد توديعها ، ثم شردت في المنظر أمامها وهي تعود بذاكرتها إلى ما قبل سنة ونصف ، و بالضبط يوم إجهاضها …
flash back
( تمشي في الشوارع برداء المشفى و هي حافية القدمين ، شعرها الطويل مشعث ووجهها شاحب ليس به ما يدل على الحياة.
بخطوات متمايلة كانت تتخبط لا تعرف لنفسها طريقا ولا وجهة تذهب إليها فلقد خسرت كل شيء ولم يعد هناك ملاذ يحتويها.
لقد خانها زوجها ، و بمنتهى بشاعة العالم أرسل لها هدية مسمومة و قتل طفلها دون ذرة ضمير ثم إدعى الحزن عليها ، بفعلته قتلها هي أيضا و مثَّل بجثتها.
الفرق فقط أن جنينها رحل من هذه الدنيا قبل أن يرى ضوءها أما هي لا تزال تتنفس عاجزة عن رؤية شيء غير الظلام ، أدركت هذا بعدما خسرت طفلها ، فلم تجد نفسها سوى وهي تهرب إلى أبعد مكان تستطيع الوصول إليه.
ظلت مريم تمشي و تمشي ، تترنح يمينا وشمالا وشفتيها مزمومتان لا تسمع منهما شهقة ، الناس ينظرون إليها بأعين فضولية و أخرى حذرة ، ربما اعتبروها مشردة أو هاربة من المصحة العقلية.
و لكنها لم تهتم بهم ، في الحقيقة لم تعد تهتم بأي شيء في حياتها البائسة ، و الأجدر أن تتخلص منها على الأقل سيتخلص العالم من غبية مثلها خُدعت بزوجها المجرم و أحبته ، فهي لن تستطيع فعل شيء له ، على الأقل ستنجو بهربها منه !
بعد دقائق طويلة كانت تقف على حافة جسر يطل على النهر ، و راحت تطالعه بنظرات ميتة حتى اتخذت قرارها و استعدت للقفز.
غير أنها عندما أوشكت على شعرة من رمي نفسها ، شعرت بيد تلتقفها و تحيط بخصرها مبعدة إياها من الخصر فصاحت مريم بهلع وقد إعتقدت بأن عمار :
– لأ ابعد عني سيبني.
– اهدي يا فندم اهدي متخافيش.
تابعت مريم الصراخ بحرقة وهي تتلوى و تنازع لإبعاد يدي المجهول الذي لم ترى وجهه بعد بينما تستمع لكلماته :
– صدقيني مفيش حاجة مستاهلة تعملي كده في نفسك يا …
صمت الشاب عندما إلتفتت إليه على حين غرة و رآها ثم فغر فاه بدهشة منقطعة النظير وهو يهمس بصوته الذي بدى مألوفا لها :
– ايه ده انا مش مصدق معقول ديه انتي … مريم !
و كان إسمها على لسانه آخر ما التقطته أذناها قبل أن تغمض عينيها و يرتخي جسدها ساقطا بين ذراعيه … ).
back
شهقت مريم للهواء وهي تعود إلى حاضرها ، فلاحظت يدا تمتد أمامها فجأة حاملة منديلا ورقيا لترفع رأسها تريد معرفة صاحبه و كانت صدمتها الكبرى عندما رأت آخر شخص يمكن أن تتوقع وجوده في هذه اللحظة … يوسف !
إبتسم لها الأخير وهو يحدق بها ، لقد كان مارا على هذا المكان بسيارته قبل قليل عندما لف رأسه للخارج بتلقائية فوقعت أنظاره عليها.
كانت تتحدث على الهاتف مع أحدهم و تبكي ثم شردت في شيء ما لدرجة أنها لم تنتبه عندما ترجل مقتربا من الحارس الشخصي والذي كان يعلم أنه صديق سيِّده فسمح له بالتحدث معها.
إستفاقت مريم من صدمتها وهي تراه يهمهم مشيرا إلى المنديل في يده فتنحنحنت و التقطته منه ماسحة به دموعها بضيق ، هذا الشاب صديق عمار المقرب مؤكد سيخبره بأنه رآها تبكي و الآخر سيسخر منها مستنكرا هذه المرأة الباكية التي تتوعده.
غير أنها لم تبد ردة فعل حينما جلس يوسف بجوارها يهتف بنبرة عادية :
– ديه تاني مرة نلتقي في المكان ده.
لاذت بالصمت متعمدة عدم الإجابة عليه فتابع هو :
– لما قولتيلي اسمك مريم و بعدين مشيتي ساعتها انا فكرت مش هرجع اشوفك تاني … It was a big shock to me لما اكتشفت انك مرات صاحبي السرية و فضحتيه يوم فرحه.
تململت مريم في مكانها بإنفعال ولكنها لم تحبذ إظهار ذلك له فهي لم تتوقع ابدا أن تلتقي به لثالث مرة وبمحض الصدفة أيضا لذلك وجوده بقربها الآن ليس مريحا بالنسبة إليها مع أنه لا يبدو كشخص مؤذ إلا أنها لا تثق به كونه أعز صديق لأكثر رجل دمر حياتها.
إستطاع يوسف بشكل ما أن يقرأ أفكارها و يعلم ما يجول في بالها فإبتسم وهو يهتف بنبرة صادقة :
– على فكرة انا بجد شوفتك صدفة يعن عمار مبعتنيش ليكي ، Don’t worry.
– مين قالك اني قلقانة ؟ انا بس متفاجئة عشان متوقعتش ارجع اشوفك و نلتقي هنا.
أجابته بنزق وهي تحدجه بتطليعات حادة أثارت إعجابه لتتابع هي مستطردة :
– بعدين انا عارفة ان عمار مش من النوع اللي بيبعت حد يقعد يكلم … مراته.
همهم بإيجاب ثم باغتها بسؤال لم تضع له حسابا من قبل :
– طب مادام انتي عارفة عمار كويس كده ليه خليتي الناس تفتري عليه و تطلع اشاعات بأنه كان يضربك و يعنفك و يأذيكي جسديا و نفسيا و مأنكرتيش اللي بيقولوه مع ان الكل عارف ان عمار مش من النوع اللي بيمارس ال violence against Woman ( العنف ضد المرأة ) ، خاصة لو الست ديه تبقى مراته.
تسارع نسق أنفاسها و احتدت ملامحها وهي تضغط بيدها على أطراف المقعد الجالسة عليه فإنتفضت واقفة ترمقه بعصبية قبل ان تهدر :
– انت مين عشان تحكم عليا وتتهمني ب الكدب و الافترا فهمني انت معشتش اللي انا عشته ولا شوفت اللي انا شوفته يبقى ملكيش الحق تكلمني بالطريقة ديه خالص !
اتسعت عينا يوسف بذهول من هجومها المفاجئ عليه بسبب فهمها الخاطئ لكلامه و توتر من الموقف برمته فإستقام واقفا وهو يرفع يديه محاولا تهدئتها :
– calm down please انتي فهمتيني غلط مش قصدي اتهمك بالكدب ، لو سمحتي اقعدي وخلينا نتكلم بهدوء الناس بدأت تبص علينا و الحارس بتاعك كمان.
لاحظت مريم أيضا النظرات المتطفلة و المصوبة عليهما بسبب صوتها العالي فزفرت الهواء و عادت إلى مكانها متمتمة :
-sorry … انا بتعصب شويا لما الموضوع ده بيتذكر و بيتحط اللوم عليا بس مقصدتش اتطاول عليك.
هز يوسف رأسه بتفهم لها :
– ولا يهمك … بصي انا مش عارف ايه اللي حصل بينكو و خلاكو توصلو للمرحلة ديه بس اتمنى متعتبرنيش عدو ليكي بسبب مشاكلك مع عمار.
مطت مريم شفتيها و التفتت له متسائلة بغرابة :
– المفروض انا اللي اقولك كده لاني عملت مشاكل لصاحبك المقرب انت ازاي بتكلمني عادي بدل ما تكرهني.
إنسابت ضحكة خفيفة على تفكيرها فأجاب موضحا بصدق :
– عمار نفسه مش معتبرك عدوة ليه و محاولش يأذيكي وفكل مرة بيمنع والده و عمه من انهم يعملولك حاجة اطلع مين انا عشان اكرهك …
بعدين احنا الرجال مش زيكم انتو ال ladies مش مضطرين نكره حد لان واحد من طرفنا عنده مشاكل معاه فهمتيني.
شردت مريم في جملته القائلة عن منع عمار لأهله من أذيتها و فكرت بأنها وسيلة من وسائله الخبيثة لإظهار نفسه كرجل نبيل متحضر ، ثم ابتسمت عند جملته الثانية و تذكرت هالة صديقتها التي تتفاعل مع كل مشاعرها اتجاه عمار فإذا كانت هي سعيدة منه هالة ستسعد و اذا غضبت منه الأخرى ستغضب و اذا كرهته ستكره و هكذا …
استفاقت من تفكيرها على كلام يوسف وهو يتساءل :
– اه صحيح هو انتي كنتي عارفة انا مين لما شوفتيني اول مرة ؟
هزت كتفيها ببساطة :
– لأ خالص في اليوم ده انا كنت مستعجلة ولما انت نزلت من العربية حسيت اني شايفاك قبل كده و فجأة افتكرتك صورك مع عمار ع السوشيال ميديا و عرفتك انت مين.
– علشان كده انتي كنتي متوترة اوي جوا العربية و طلعتي من المشفى من غير ما اخد بالي منك ؟
– اه.
ردت عليه بدون إهتمام ففغر فاه متعجبا من هذه الفتاة غريبة الأطوار قبل ان يستجمع نفسه و يغمغم :
– انا سمعت انك هتبدأي شغل في الشركة الاسبوع الجاي … ممكن اعرف انتي ايه مؤهلاتك لو مفيهاش ازعاج ؟
اومأت بإيجاب متحدثة بإبتسامة :
– انا داخلة جامعة خاصة بمنحة كنت بطلع الاولى ع الدفعة كل سنة و اتخرجت بأعلى تقدير و بعرف اتكلم ب 5 لغات و حاليا بتعلم لغة جديدة و قربت اتمكن منها.
– Omg Are you serious مريم !
ضحكت على تعابيره و ردت عليه :
– yes I am ، مش باين عليا صح.
– لا مقصدش بس يعني انتي مؤهلاتك هايلة متوقعتش تكوني متعلمة اكتر من لغة.
همهمت موافقة لكلامه و أخبرته بأنها كانت تحلم بدخول عالم الشركات و بناء منصب قوي فيه ولكن للاسف زواجها حال دون ذلك ، فرد عليها الآخر بأنها تستطيع تحقيق حلمها ان كانت ذو ارادة و عزيمة وهو سيحرص على ذلك اذا نجحت في كسب وظيفة داخل شركة البحيري كونه المسؤول عن قسم الترجمة و مؤهلاتها هي من الممكن أن تمنحها مكانا معه.
استمر حديثهما لبضع دقائق أخرى قبل أن يتذكر الحلق الخاص بها و الذي وجده بالصدفة فكاد يخبرها عنه إلا أنها قاطعته مستدركة :
– صحيح انا سمعت ان ندى بنت عم عمار تعبت و كنت عايزة اطمن عليها … الصراحة هي حاولت …
قاطعها يوسف قائلا :
– حاولت تنتحر … ايوة انا عرفت النهارده الصبح لاني كنت مع عادل بيه لما جاله الخبر ندى حبت تقتل نفسها بسبب الضغوط اللي بتتعرضلها بس اطمني هي كويسة دلوقتي و حالتها مستقرة الحمد لله.
أخرجت مريم نفسا عميقا وهي تضع يدها على صدرها متمتمة بالشكر قبل أن تهمس :
– الحمد لله انا كنت خايفة تحصلها حاجة بسببي … مهما كان اللي بيني وبين عمار بس عمري ما فكرت اضرها ولا اضر حد بريء.
– I khnow this , و بقيت متأكد كمان بعد قعدتنا ديه ان اللي بتعمليه ده كله بدافع وجع كبير انتي عشتيه بس لو عايزة نصيحتي انسي اللي بتخططي ليه و حاولي تبني مستقبلك في الشركة بدل افكار الانتقام ديه.
ابتسمت مريم ووافقته الرأي هاتفة :
– انا عملت الي عملته خلاص ومن النهارده هركز على نفسي وبس و اشتغل و انجح طبعا لو رأفت بيه و عادل بيه متراجعوش عن موافقتهم بعد اللي حصل لبنتهم.
صمت يوسف يفكر قليلا ثم همهم يطمئنها :
– متشغليش بالك من الناحية ديه يا مريم انتي استعدي للانترڤيو وبس.
– ماشي.
تنهد و انتصب واقفا وهو يقول :
– الوقت اتأخر ولازم اروح للمكتب عندنا شغل كتير النهارده.
ثم مد يده إليها مبتسما :
– nice to meet you too.
صافحته بود وهي ترجع خصلاتها إلى الخلف و قالت :
– وانا اتبسطت اوي بالقعدة معاك … Take Care of yourself ( إعتني بنفسك ).
ودعها و استقل سيارته ليغادر تاركا إياها تطالع فراغه ثم رمقت الحارس بطرف عينها قبل ان تلتف لمياه النهر وقد لاحت إبتسامة ماكرة على وجهها.
الفرصة التي كانت تنتظرها جاءتها على طبق من فضة بدون معناة ، ذلك الشاب اللطيف حد السذاجة قد إستطاعت خداعه برسم البراءة عليها و أخذته لصفها بثرثرتها عن طموحاتها و أحلامها.
صحيح ان حادثة اصطدامه بها تلك الليلة لم تكن بتخطيط منها ، غير أنها علمت هويته بمجرد رؤيته لأنها كانت تتابع جميع أخبار عائلة البحيري و اقربائهم و أصدقائهم ، لذلك انسحبت من المستشفى ركضا.
ثم أدركت بعد ذلك كم هو عاطفي يشفق على الضعفاء و يدعمهم خاصة النساء منهم لذلك قررت بأنها لن تتوانى عن إستغلال هذه النقطة لصالحها و هاهي نجحت في ذلك و قريبا سيصبحا صديقين و يضمن لها عملا في الشركة.
تنهدت مريم و أراحت رأسها على يدها وهي تهمس :
– اللعب الحقيقي بدأ دلوقتي.
________________
ستووب انتهى البارت
رايكم بيه وتوقعاتكم ؟
عمار هيعمل ايه مع ندى و مريم
مريم عايزة ايه من يوسف و بتخطط ل ايه ؟ تتوقعو مين اللي ساعد مريم يوم كانت هتنتحر ؟
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نيران الغجرية)