روايات

رواية نوسين الفصل الثاني 2 بقلم رحمة سيد

رواية نوسين الفصل الثاني 2 بقلم رحمة سيد

رواية نوسين الجزء الثاني

رواية نوسين البارت الثاني

رواية نوسين
رواية نوسين

رواية نوسين الحلقة الثانية

حتى الان لم تصدق كيف نجووا منهم بإعجوبة من الباب الخلفي بالمطبخ، والذي تجد له فائدة لأول مرة!

كانا قد ابتعدا مسافة بعيدة عن المنزل، فوقفت “نوسين” تضع يدها على صدرها مهدئة ضربات قلبها التي كانت تنافس الثواني في سرعتها، وصارت كمضخة تضخ الخوف بكافة خلايا جسدها..

ثم هتفت قاطعة الصمت بحدة توقعها “عمر” قبل أن تنطق:

-أنت لازم تفهمني كل حاجة حالًا، أنت مين ومين الناس دي وأنا اتورطت في إيه؟

اومأ عمر برأسه وراح يحاول تسكين غضبها:

-اهدي واقعدي هفهمك كل حاجة.

صاحت فيه بذهول ولازالت لم تستوعب ما حدث للتو:

-اهدى إيييه أنا حاسه إني لسه خارجة من فيلم أكشن!

نضحت حروفه بالمرارة وهو يخبرها:

-مش كل حاجة ما حصلتلناش تبقى خيال، أحيانًا بتبقى رحمة ربنا بينا.

أضافت بشيء من المرح مخلوط بتهكم:

-طب ياريت لو خلصت فقرة الحِكم دي ترسيني على الحوار عشان قلبي موغوشني!

تنهد ثم بدأ يقص عليها ما حدث، بدءًا من مشاركته بتلك المصارعة حتى اللحظة التي وجدته فيها، ولكن لم يقص عليها الجانب الاخر من القصة، او اليد الخفية التي بزغت من داخله ودفعته نحو تلك الهوة!

إتسعت حدقتاها في إقرار بصدمة حقيقية، ثم سألته بجدية مفكرة بما جال بخاطرها:

-بس المصارعة ما كلنا بنشوفها مبتبقاش كدا؟

-دي حاجة مختلفة، شبه المصارعة الرومانية او الدموية، وعمومًا من غير تفاصيل كتير مش هتفهميها بس هي حاجة ممنوعة في القانون.

-طب أنت ازاي فكرت كدا بجد ازاي! ماخوفتش على روحك لما روحت وشوفت اللي بيحصل هناك؟!

لوى شفتاه معلقًا في استهزاء وصوتٍ خاوٍ مثله:

-روحي! أنا دلوقتي مجرد جسم بيتحرك من غير روح.

وجدها تنظر حولها مشيرة بيديها في حركة درامية بحتة:

-اعوذ بالله، ابعدوا ابعدوا لا تأذونا ولا نأذيكم.

فردد مستنكرًا:

-في إيه!

استطردت في حروف سيطر عليها الغيظ، وقوامها الأساسي السخرية كما اعتاد منها منذ رآها:

-في إيه أنت، إيه اللي جسم من غير روح وجو العفاريت دا، استهدى بالله كدا واعقل كلامك أنا جتتي بتتلبش من سيرتهم.

صاح فيها غير مصدقًا:

-عفاريت إيه يا مجنونة، قصدي يعني من اللي حصل بقيت كأني ميت.

بملامح ملتوية ساخرة واصلت:

-طب ما تقول عيشتي منيلة بستين نيلة وشوفت سواد، لازم الشاعر اللي جواك يصحى دلوقتي ويقولنا تشبيهات!

-لا لا أنتي في برج طاير من دماغك.

أشارت لنفسها وأكملت في نزق:

-أنا برضو؟ دا أنا أعقل مني مفيش، دا أنا خايفة عليك أحسن الخبث والخبائث مابيهزروش.

تصنعت ملامحه الدهشة وهو يردد:

-يا شيخة؟

فأكدت بنبرتها الدرامية المرحة التي تثير الضحك:

-ايوه امال أنت فاكر إيه، ومابيحبوش الناس اللي ترمي بلاها عليهم، يعني هما قاعدين في حالهم دلوقتي تقوم تتهمهم إنهم اعوذ بالله يعني مسيطرين على جسمك، ولما يسيطروا على جسمك بجد بقا نعمل إيه؟ نفضل نلف بيك على الشيوخ والدجالين ويطفوا سجاير تحت باطك عشان يحرقوا الجن؟

قال مصدومًا وشفتاه تتماثل للضحك دونًا عن العبوس رغمًا عنه:

-يطفوا سجاير تحت باطي!!

أكدت بثقة مثيرة للدهشة:

-ايوه أنت مابتتفرجش على تلفزيون ولا إيه!

فهز رأسه نافيًا وقسمات وجهه تُزيف عليها الأسف:

-لا الحقيقة مكنش عندي وقت، ياريت تفيديني بخبرتك الكبيرة مع الخبث والخبائث.

تابعت:

-ويفضلوا يضربوا فيك بالعصايه لحد ما يكسروا عضمك، ومفكر الجن هيسيبك؟ برضو مش هيسيبك و……

قاطعها بنفاذ صبر:

-بس بس إيه راديو!

رفعت حاجبيها معًا في استهجان:

-أنت ملبوس بجد ولا إيه، مش أنت اللي لسه قايلي قولي وفيديني؟!

كانت السخرية من نصيبه هذه المرة حين استطرد:

-لا وأنتي مُطيعة اوي.

-اوي اوي، دا حتى أمي كانت بتقولي إني أكتر واحدة آآ….

قاطعها بشيء من الفظاظة:

-الله يرحمها الحاجة ارتاحت وسابتلنا بلوه.

سألته ذاهلة وكأن لسانها لم يجتمع يومًا مع السخرية في سبيلٍ واحد:

-أنت بتسخر من احزاني؟

ضرب كفًا على كفٍ وهو يردد بضحكة إنفكت كليًا عن المرح:

-شوف البراءة! دا أنتي من ساعة ما شوفتي خلقتي وأنتي مابتعمليش حاجة غير إنك تسخري من احزاني.

تلفظت وهي ترسم مفاجأة وهمية ممزوجة بالمرح:

-أنا يابني!

استكانت ملامح “عمر” للحظات، ورأت في انعكاس عينيه تشوش أفكاره، قبل أن يعلن عن احدهم متسائلًا بشرود:

-أنتي ازاي كدا؟

هزت رأسها دون فهم:

-كدا إيه بالظبط؟

راح يوضح لها في حيرة حقيقية من أمرها:

-ازاي قادرة تهزري وتتريقي وسط اللي حصل دا، أنتي مش خايفة؟

هزت كتفاها معًا بلامبالاة:

-هخاف من إيه، أحنا هربنا منهم خلاص مش هيوصلولنا وهيمشوا من مكان ما جم.

ثم خفتت نبرتها لتميل لنغمة مُظلمة تسرب منها الوجع النفسي المُبطن:

-وبعدين دا طبعي، مابعرفش أعبر عن فرح او خوف او زعل إلا بالسخرية والهزار.

صمتت برهه ومن ثم تابعت بالتواءة شبح ضحكة تهكمية مريرة:

-وماعنديش حد يبكي على الأطلال ورايا لو حصلي حاجة اصلًا.

لم ينبس ببنت شفه، فقط عيناه الناعسة كانت ثابتة بتركيز على لون البُندق في عينيها والذي بدا له مُحترقًا في تلك اللحظات، يحاول سبر أغوارها..

فأثار الارتباك في نفسها، وهي تتساءل بغيظ داخلي كيف لعيناه أن تكون لها هذا التأثير عليها ؟ فهذه ليست المرة الاولى التي ترى فيها رجل بعيونٍ ملونة! تبًا له ولعينيه.

تنحنحت وهي تحك جبهتها، وتسأله مُغيرة مجرى حديثها:

-المهم خلينا في المهم، زمانهم مشيوا ارجع بيتي بقا صح؟

انتشلته المفاجأة من قاع أفكاره صادمة إياه بأرض الواقع بعنف، فصاح فيها:

-ترجعي فين هو أنا كنت واخدك دريم بارك؟ كل الأكشن اللي حصل دا مأثرش فيكي؟!

أجابته صريحة:

-لا أثر بس مش اوي يعني.

وقبل أن ينفجر بوجهها تشدقت مسرعة:

-وبعدين زمانهم مشيوا أكيد مش هيسيبوا كل اللي وراهم ويفضلوا يدوروا علينا.

-الله أعلم، دول ناس مش سهلة ومينفعش الواحد يخاطر بنفسه معاهم.

-طب والحل؟

هز كتفاه معًا بقلة حيلة:

-مش عارف.

سألته بحروف ساخطة وكأنها المُبتلى وليست البلاء:

-امال نجيب مين يعرف؟

قال والتبرم يتشبع حروفه:

-جيبي اللي خرجني من هناك وخلاني إنسحبت من الماتش ودا ممنوع وعرض نفسه وعرضني للخطر.

زفرت بصوت مسموع ولم تنطق هذه المرة، فأضاف هو بشرود حائر:

لكن عارفة المُضحك إيه، إن اللي كنت بجري له من كام ساعة بس، هو اللي بجري منه دلوقتي.

-هو إيه دا؟

-الموت، كنت عايزه وبجري له بكل الطرق، لكن دلوقتي ماقدرش أسيبك لهم وذنبك يبقى في رقبتي.

هزت “نوسين” رأسها بنفاذ صبر، اليائس سيظل يائس مهما مرغت أنفه في وحل من التفاؤل!

ثم أردفت بنبرة ذات مغزى وهي تحرك يدها في محاولة لتهوية وجهها:

-أنا هتمشى خطوتين هنا أشم شوية هوا عشان كلامك طبق على نَفَسي جابلي ضيق تنفس.

لم يُعلق بشيء وشرد يحاول تنظيم كم الأفكار المهتاجة التي جعلت من رأسه ساحة لتتطاحن فيها، وكذلك هي.. رفعت هاتفها لتتصل بأحدهم كأول خطوة أوحى لها عقلها أن تسير نحوها.

                                  ****

بعد فترة صغيرة..

عادت له بملامح منتفخة منتشية بنصر لم يستطع عمر تخميين ماهيته، ثم سألته مباشرةً:

-لاقيت حل ؟

هز رأسه نافيًا بهدوء:

-لا للأسف.

تابعت بنفس ذات النظرة التي شابهت الطاووس حين ينتفخ ريشه:

-أنا بقا لاقيت، تعالى ورايا.

-استني هنا، هو إيه اللي تعالى ورايا، هو أنتي سايقة جاموسة، ولا مديرتي في الشغل ولا حاجة؟

ضيقت عيناها وكأنها تقيمه ثم نفت برأسها:

-لا أنت ماتنفعش.

سألها ببلاهه لحظية دون استيعاب:

-مانفعش لإيه؟ أبقى جاموسة؟

-لا دي سهلة أي حد ينفع فيها، ماينفعش تشتغل عندي، أنت نايتي خالص، بونيتين نيموك ساعتين، دا أنت لو خبطت في مفتاح من اللي بنصلح بيهم بالغلط احتمال يجيلك ارتجاج في المخ.

كاد يخرج عن طور التحضر والرقي الذي يحاول أن يسلكه معها منذ رآها، وشيطانه يوسوس له أن يتركها وسط هذا الظلام ربما يأكلها ذئب ويرتاح منها ومن لسانها.

ولكنه حجم شياطين غضبه بسيطرة تُحسب له:

-هي الأخت شغالة إيه معلش؟

وكالعادة لم يسلم من سلاطة لسانها حين اجابته بفخر تطرف بالمرح:

-شغلانة لو اشتغلتوها تبقوا عُمد.

وقبل أن يتحدث قاطعته بصرامة زائفة:

-هنقعد نرغي كتير لحد ما يجي قاطع طريق يجيب أجلنا احنا الاتنين ونخلص؟!

زمجر بنفاذ صبر:

-ياريت، يااارب

سارت أمامه وهي تشير له بإصبعها مُحذرة بصوتٍ حازم وكأنها إندمجت في “فيلم الأكشن” و تحاول إتقان دور زعيمة العصابة:

-اسمعني كويس في اللي هقوله بقا عشان مش عايزه غلطة.

إلى هنا ولم يحتمل، إنفجر غضبه وبحركة مباغتة قبض على إصبعها بقوة وهو يهدر فيها بغل:

-بت، أنا ساكت وعاصر على نفسي شوال لمون من ساعة ما جمعتنا أقذر ساعة في تاريخ البشرية، فـ اقفي معووج واتكلمي عدل، ماتختبريش صبري أكتر من كدا.

سحبت إصبعها مسرعة وكأنه سيلتهمه في التو، ورددت بنبرة بريئة منخفضة بعيدة كل البعد عن سابقتها:

-مالك بس يا أستاذ، خلي خُلقك استرتش شوية.

رفع حاجبه الأيسر يتابع البراءة التي سارعت لتطفو على ملامحها وحروفها:

-دلوقتي بقيت أستاذ، ناس ماتجيش غير بالعين الحمرا صحيح، قولي يلا الحل يا ست العاقلين.

غمغمت بصوت مكتوم:

-اللهي تحمر لحد ما تبقى أكبر حمار.

سألها بتحذير خفي:

-بتقولي إيه؟

عادت لذات البراءة المُستفزة:

-أنا؟ خالص مابقولش، أنا بس عندي سؤال بسيط خالص، ليه العين الحمرا؟ ليه مش الخضرا مثلًا او الصفرا؟ دا الأحمر لون كيوت.

احمرت عيناه بغضب شابه بركان على وشك الانفجار، فتمتمت مسرعة:

-غيرت رأيي، الاحمر لون زي الزفت.

اخذ شهيق بصوتٍ عالٍ، قبل أن يهتف فيها بأخر ذرة صبر:

-قولي الحل.

تشدقت على مضض:

-أنا ليا خالة عايشة في اسكندرية، لوحدها وعندها زهايمر، هنروح أنا وأنت نقعد عندها كام يوم، وهنقول إنك آآ….

سألها مترقبًا:

-إني إيه؟

فأجابت مسرعة وكأنها تخشى فرار حروفها الجريئة من حافة لسانها:

-إنك جوزي.

-نعم ياختي!

صاح بها مذهولًا، فراحت تبرر له:

-مفيش حل غير كدا، هي أصلًا بتنسى كتير ولو قولتلها إنك جوزي هتصدقني، وهنقول إن بيتنا حصل فيه حريقة فـ هنقعد عندها كام يوم لحد ما يتجدد، وأنت بليل هتبات في اوضة فوق على السطوح، كأنك في شغل، وطول النهار هتبقى معانا عادي، أصل احنا مش عايشين في امريكا عشان ادخل عليها وفـ إيدي واحد زي القمر واقولها هاي يا أنطي دا واحد صاحبي لسه عرفاه أمبارح، ولا الجيران يشوفوا واحدة شابة جميلة زيي جايه مع واحد غريب وحالي يتوقف، اينعم أنت كدا كدا هتوقفه بس مش مشكلة هبقى اقولهم اتطلقت.

كان متسع الحدقتين، والدهشة تغرق فيهما، متعجبًا من قدرتها على نسج الكذبات بمنتهى السهولة والذكاء!

ثم لم يمنع نفسه من القول بتهكم:

-كاااات، هايل يا فنانة، أنتي موهبة مدفونة في الإخراج.

كانت ملامحها منعقدة في غضب طفولي بعض الشيء لأنه لم يقدر أفكارها العبقرية، فيما استطرد عمر بجدية وملل هذه المرة:

-هو دا اللي ناقص، إنك تورطيني في جوازة!

-إيه يا عم توم كروز حد قالك إني هموت وأتجوزك بجد، دي كذبة بيضة عشان مضطرين!

صاحت فيه مغتاظة، فضرب كف فوق كفٍ وأضاف بحسم:

-لا بيضة ولا سوده، أنا مش هعمل الهبل دا طبعًا.

هنا استخدمت المسكنة الانثوية كأخر سلاح في يديها لمجابهته، وهو يتابعها بغير تصديق، يكتشف فيها مواهب متعددة اخرهم التمثيل البارع :

-لو يرضيك إنك تسيب أنثى وحيدة مكسورة الجناح للذئاب البشرية دول عشان ينقضوا عليها، وذنبها الوحيد إن مشاعرها الطيبة البريئة غلبتها وصعبت عليها وحاولت تنقذك، ماتعملش الهبل دا وأمشي يا آآ..

ثم ضيقت عيناها متسائلة بجدية وكأنها انتبهت لشيء اهم الان:

-أنت اسمك إيه صحيح؟

اجاب بابتسامة مُظلمة ساخرة:

-عمر، عمر يا فنانة.

فأكملت بأداءها الدرامي:

-امشي يا عمر، امشي.

هز رأسه نفيًا في قلة حيلة وداخله مؤيد لما تقول حتى وإن كان في ثوب السخرية، ومن ثم أخبرها بتهكم:

-لا أمشي إيه بقا، دا أنا لو مشيت بعد العرض المُبهر دا الفنانة ميرڤت أمين تيجي تقيم عليا الحد انتقامًا لتلميذتها الممتازة.

                                  ****

في نفس المكان الذي يُقام فيه مباريات المصارعة..

وقف “سلطان” أمام مكتبه، ويداه ترتفع وتهبط ببطء ضاربة المكتب بحدة تنم عن تفاعل مشاعر الغضب والسخط داخله مع أفكار عقله الوليدة في كل ثانية تمر دون أن يجد “عمر” كـ شرارات نارية كاد ينتج عنها إنفجار وشيك يدمر الأخضر واليابس…

فيما وقف ذراعه الأيمن ورجله المُخلص أمامه، يراقب ضربات يده شاعرًا أن الضربة التالية ربما تكون على وجهه هو ولكن بطريقة أكثر شراسة وقوة بسبب فشله!

قطع سيل أفكاره صوت “سلطان” الذي كان هادئ هدوء ما قبل العاصفة:

-يعني مش بس فشلتوا إنكم تحافظوا على وجوده لحد ما يفوق من الاغماء، لأ كمان فشلتوا ترجعوه.

فهز الاخر رأسه نافيًا، وحاول القول بثقة أثبتت حروفه المُلجلجة افتقارها حاليًا:

-كلها مسألة وقت بس يا سلطان بيه وهنلاقيه ونرجعه.

فاستدار “سلطان” نحوه متسائلًا بحروف تحوي بين ثناياها الكثير من المعاني:

-أنت عارف لو ملاقيتوهوش، أحنا هيبقى إيه وضعنا؟

اومأ برأسه مؤكدًا، فهو يحفظ قوانينهم عن ظهر قلب:

-عارف يا باشا، هتبقى مصيبة على الكل، لأنه كان مفروض يخسر ويموت او يكسب ومكافأة الفوز هتسكته، لكن دلوقتي ممكن يقول أي تفاصيل لأي حد عن اللي بيحصل هنا.

هز سلطان رأسه مؤيدًا ما يقول، ثم أضاف عليه بما تُمليه عليه الاحتمالات:

-وكمان البت اللي خدته احنا منعرفش مين دي، وعرفت منين إنه هنا، أكيد في حاجة وراها خلتها تتصرف بالثقة دي وقتها.

وما أن أنهى كلامه حتى أشار بأصابعه في وجهه آمرًا بجمود:

-عايزه يكون قدامي في أقرب وقت وإلا ماتلوموش إلا نفسكم على استهتاركم وفشلكم.

                                    ****

بدأت الشمس تُولد من رحم الظلام شيئًا فشيء، لتبزغ بضوءها الخفيف الذي يعطي الجو مظهر يُسر العين وينثر السكينة والراحة في النفس..

وصلا بعد فترة بسلام اخيرًا لمحافظة الاسكندرية، والتي لم تكن بعيدة كثيرًا عن موطن عيشهم، وتوجها نحو منزل “خالة” نوسين..

كان منزل متوسط يوحي بالحالة المتوسطة لأصحابه، بداية من بابه الرئيسي العملاق المكون من الحديد الذي غلب عليها الصدأ حتى دخلا معًا ليقابلا السلم الرخامي فبالرغم من حالته الجيدة إلا أنهما قابلا بعض الدرجات المكسورة فكادت نوسين تتعثر عدة مرات، مدت يدها تستند على العمود الحديدي المائل بجانبها إلا أنها لم ترمي كامل جسدها عليه بسبب تحذيره من خلفها:

-حاسبي عشان مش ثابت كويس.

أومأت برأسها ثم تابعت الصعود للطابق الرابع وكانت أنفاسها هي تحديدًا منقطعة، لاحظت ثبات أنفاسه فانتشرت امارات الغيظ فوق وجهها ونطقت بعفوية:

-ماشاء الله مضروب ونَفَسك زي الاسد.

رمقها بامتعاض لتعبيرها الفج ثم تابع نظراته لباب الشقة الخشبي المتهالك بعض الشيء بتفكير فقطعته عليه بثرثتها كعادتها:

-على فكرة هي مش خالتي خالتي، هي بنت خالة أمي، المهم خالتي دي بقا الزهايمر شديد عليها شوية بعيد عنك، لكن رغم كدا أنا الوحيدة اللي عمرها ما تنساني، اصل أنا الغالية امال، دي كانت على طول تقولي آآ….

قاطعها عمر حين جذبها من ذراعها بحركة مباغتة حتى كادت تصطدم بصدره، فارتعدت خلاياها تأثرًا من لمسته العارضة لجسدها العذري، ورفعت بُندقيتاها له التي شابهت قطة مذعورة في تلك اللحظات، ليقول هو غافلًا عما تشعر به:

-أسمك إيه؟

انتفضت مبتعدة عنه وهي تردد بغضب ظاهري تخفي به ارتباكها:

-في إيه! دي مش مسكة واحد بيسأل واحدة عن أسمها، دي مسكة واحدة قفش واحدة مُتلبسة في قضية اداب.

عقد ذراعيه وقد شعر لجزء من الثانية بشيء ضئيل داخله مُستمتع بمشاكستها، قبل أن يخنقه الجمود المُظلم الذي عاد يسيطر على كل إنش داخله من جديد :

-معلش أصلي تخيلي معرفش أسم الواحدة اللي هقول عليها مراتي.

استطردت بهدوء:

-نوسيـن.

-نعم؟

سألته بتحدٍ:

-إيه في حاجة؟

سخر منها دون وجود حقيقي للمرح في قسماته:

-أسمك دا ولا تعويذة؟

فرفعت إصبعها بوجهه من جديد وهي تصيح فيه بشراسة:

-لا بقولك إيه كله إلا أسمي دا أسم ألاجا وآآ….

قاطعها حين نظر لإصبعها وتمتم من بين أسنانه بلهجة مُهددة:

-تاني برضو؟

فسارعت بسحب إصبعها للخلف، وهزت رأسها مُعللة:

-ما أنت اللي بتعصبني، الله!

لم تهتز معالمه الصلدة وهو يأمرها بكمدٍ دفين:

-اطلعي.

بعد عدة طرقات على الباب فتحت خالتها الباب، لتظهر امامهم امرأة في اواخر عقدها السابـع، ترتدي جلباب ذو ورود مزرقشة بألوان تحمل بهجة مفرطة لا تنتمي لفصول عمرها، وتضع أحمر شفاه فاقع اللون، فيما ترمقهما بنظراتٍ متفحصة رافعة حاجبها الأيسر.

فاندفعت نحوها نوسين، مرددة أسمها بشجن تعمدت إظهاره للواقف خلفها:

-خالتي حبيبتي.

تصنمت الاخرى لثوانٍ وكأن إندفاع “نوسين” باغتها، قبل أن تدفعها بعيدًا عنها وتصيح بحروف مرتابة، مضيقة عينيها:

-أنتي مين يا بت؟

سؤالها كان بمثابة ألغام جمدتهما مكانهما وكأنهما يدرسان الخطوة التالية، ولكنها لم تمهلهما الوقت حين صرخت بهيستيرية وهي تحاول تخطيهما والركض نحو الباب:

-حرااااااامية إلحقوووني.

فزع كلاً منهما حرفيًا وإنقضا عليها يحاولان إيقافها بينما نوسين تهتف متوسلة لها بصوت على مشارف البكاء:

-حرامية إيه يا خالتي أنتي فقدتي الذاكرة خالص ولا إيه يقطعه الزهايمر، أنا نوسين، نوسين يا خالتي بنت صباح.

استكانت خالتها شيئًا فشيء وكأن الأسم أنار عتمة عقلها الذي غادرته معظم الذكريات ككهف مهجور!

ثم إلتوت شفتاها في ابتسامة بطيئة وهي تهمس بفرح متحسسة بشرتها الناعمة:

-برقوقة!

تجمدت “نوسيـن” مكانها، لم تكن تتوقع ابدًا أن تتذكر ذلك اللقب اللعين!

ثم ابتلعت ريقها وقالت برجاء تخفى وسط حروفها:

-برقوقة مين يا خالتي أنا نوسين.

فضربت وجنتها برفق مواصلة بنفس الابتسامة:

-ايوه افتكرتك برقوقة الشقية.

أغمضت نوسين عيناها بسخط على الحظ، وعلى القابع جوارها الذي سيشمت بها بالتأكيد، وعلى البرقوق !

فيما لكزها عمر بذراعه وغمغم بمكر لمع بحدقتيه:

-ما تردي يا برقوقة.

هزت كتفاها بلامبالاة فشلت في إتقانها هذه المرة:

-برقوقة مين، دي مش أنا يابني أكيد تقصد حد تاني.

لم يستطع تحجيم لسانه الذي أصر على مشاكستها:

-كدا برضو تستعري من لقبك يا برقوقة، دا حتى لقب كله ڤيتامينات.

دفعته نوسين نحو الخارج وهي تقول بعصبية هوجاء:

-يلا نمشي، يلا نمشي بقولك غلطت في العنوان دي مش خالتي ولا أعرفها أساسًا.

أوقفتها خالتها حين أمسكت بذراعها، وملامحها تصرخ بالصرامة:

-برقوقة! رايحة فين، ومين دا؟

استدارت لها على مضض، واستطردت مُرغمة بينما تود البكاء حرفيًا:

-دا جوزي يا خالتي.

فمد عمر يده ليصافحها متمتمًا بابتسامة سمجة:

-ازي حضرتك، أنا جوز برقوقة.

استحالت محياها للتعجب قبل أن ينطلق السؤال من فوهة شفتيها المزمومتين:

-جوزها، أنتوا اتجوزتوا امتى؟

-من حوالي ٥ شهور كدا، تعالي معايا نقعد جوه ندردش براحتنا وتقوليلي أنتي متشيكة كدا ومستنية مين يا شقية.

هتفت بها نوسين التي حاوطت خالتها بذراعيها تناغشها بمرح اعتادت حروفها على الانسياق في مداره.

                                    ****

بعد قليل…

كانت “نوسين” تعد بعض اكواب الشاي كما طلبت منها خالتها التي كانت تنتظرها بالخارج جوار عمر، فعَلى رنين هاتفها معلنًا وصول اتصال..

نظرت نوسين نحو مدخل المطبخ وكأنها تتأكد من عدم تواجد أي شخص قريب، ثم أجابت بصوت خفيض:

-ايوه.

استمتعت لحديث الطرف الاخر ثم ردت بكلمات بها نثرات من الغضب والقلق المدفونين:

-على فكرة اللي أنا فيه دلوقتي بسببك.

-………..

-لا أحنا ماتفقناش على كدا ابدًا.

-…………

-أنا حاسه إني اتدبست في موضوع ماكنش ليا أي علاقة بيه.

-………….

-ماشي أما نشوف ربنا يسترها.

وفي حين كانت تستمع للجملة الأخيرة من الطرف الاخر، لمحت بطرف عينيها ظل احدهم يقبع خلفها، فارتعدت فرائصها وارتعش قلبها بخوف حقيقي من إنكشاف كل شيء قبل بدايته حتى!

ثم بدأت تستدير نحوه ببطء بأقدام كالهلام كادت تُسقطها حرفيًا من فرط ما شعرت به هذه اللحظات، و……….

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نوسين)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!