روايات

رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) الفصل الثامن عشر 18 بقلم أمل نصر

رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) الفصل الثامن عشر 18 بقلم أمل نصر

رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) الجزء الثامن عشر

رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) البارت الثامن عشر

نسائم الروح (ميراث الندم 2)
نسائم الروح (ميراث الندم 2)

رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) الحلقة الثامنة عشر

(داخل غرفة معتمة، وجدرانها المتشققة رسمت لوحات من البؤس من حوله، يشعر برطوبة الأرض من أسفله، وروائح مقرفة تملأ رئتيه إشمئزاز وتقزز، والأكثر والأبشع، هو تحرك هذه الجدران وكأن فرد ما يحركها بالبطيء، رويدًا رويدًا، لتضيق وتضيق وتضيق، ثم انحسار انفاسه داخل صدره ، حتى توشك على خروج الروح من جسده، يود النداء او الاستغاثة بأحد ما ينجده، يتطلع الى السقف بأمل يريد النجاة، لكن صوته محبوس لا يخرج من حنجرته، يستمر في محاولاته دون جدوى حتى يستسلم حين يغلبه اليأس، مقررا بداخله انها النهاية، ليرخي مقاومته في انتظارها، علٌه يجد الراحة بعدها، ولكن فجأة يتغير كل ذلك، ويعود كل شيء لأصله، ويجده امامه! بهيئته الوسيمة كعادته، يظهر له من العدم، جالسًا على عقبيه، مقربًا وجهه منه، بابتسامة قميئة يحدثه:

– ما انا قولتلك من الأول اتجوزها يا عمر)

– اصحى يا عمر، اصحى انت في كابوس
تلك الكلمات التي اخترقت أسماعه، ليستعيد وعيه مع موصلتها لهزهزة جسده الضخم، ليستقيظ فجأة بنظرة حادة اجفلتها لتتراجع بوجهها عنه وتستقيم واقفة، فينتبه هو لنومته جالسًا على الاَريكة، ثم مخاطبة زوجته له بتوتر:

– انا صحيت من نومي على الأصوات اللي كانت طالعة منك، أصلي مكنتش اعرف انك جاعد هنا في الصالة والنوم غلبني وانا مستنياك ليلة امبارح فى أوضتي

ابتلع ريقه بتوجس ليسألها مستفسرًا :
– وانا كنت بجول ايه؟ ولا الساعة كام دلوك؟
– الساعة دلوك داخلة على تلاتة، وع اللي كنت بتخترف بيه؛ صراحة مكنش مفهوم معظم كلامك، غير جولة لأ، والباجي كان همهمة، أو بتزوم جافل خشمك اكنك كنت بتحارب…. ولا بتتعرك مع حد……

طريقتها في الشرح، وارتباكها في النظر اليه والى هيئته، والتي يعلم تمام العلم الاَن انها مزرية،
لتواصل معبرة عن قلقها:
– شكلك حلمت بكابوس عفش، انا بجول تاجي تريح على فرشتك وتكمل نومك على سريرك ، بدل الكنبة اللي اكيد اثرت على ضهرك.

اومأ لها بهز رأسه مخرجًا زفرات متتالية، يردد بصوت متحشرج:
– ماشي ماشي تمام ، روحي اسبجيني انتي وانا جاي وراكي.

حينما ظلت واقفة دون حراك اعاد عليها الأمر مرة أخرى:
– خلاص جولت جاي وراكي يا هدير، روحي ياللا من جدامي.

اضطرت تحت ضغطه، وحتى لا تثير غضبه ان تستجيب ذاهبة نحو غرفتها، وربما اخذتها فرصة لتهرب من امامه، وقد تمكن منها الجزع من وقت ما استيقظت من نومها على أصوات غريبة أوقفت قلبها في البداية، قبل ان تتمالك لترى من اين تأتي.
هالها ما رأته، وقد بدا وكأنه يصارع الغرق وسط امواج عاتية، يقاوم الاختناق او الموت، لا تعلم، ولكنها خافت منه وعليه.

اما هو فقد تجمد بعض الوقت ناظرًا في أثرها، باستيعاب بطيء، انه الاَن في منزله، وفي بلدته، مع امرأة مختلفة، حر ويفعل ما يشاء، رغم تشتته الاَن والقلق الذي استبد به، ليجعل ارتخاء جسده، كمن اصابه الشلل، وقد عادت اسوء الصور بذهنه تذكره بما حدث، زوجته العزيزة تظنه حلم ، ولا تعلم انه كان حقيقة بالفعل!

زفر بقوة يطرد انفاس كالدخان من صدره عبر انفه، متذكرًا أخر ما قام به قبل ان يغلبه النعاس هنا في جلسته، بعدما راسل من كانت سببًا في كل ما عاناه السنوات الاَخيرة من أجل الوصول لها، ومع ذلك لم يصل إليها.

نظر بشاشة الهاتف، فتأكد اليه انها شاهدتها، تلك الصورة التي أتى بها من كاميرات المبنى، اثناء لقاءه بها يوم زيارة الطبيبة، ليبعثها الاَن بغرض ان يجس نبضها في البداية، ولكنها لم ترد، لم تستفسر، لم تسب او تشتم، اللعنة، كيف لها ان تتجاهل من الأساس؟

غمغم بخشونة وقد استفزه عدم اكتراثها:
– ماشي يا ست روح، انا وراكي واما اشوف هنوصل لفين؟

❈-❈-❈

اما هي فقد كانت في هذا الوقت مستيقظة ايضًَا، جالسة بجذعها على الفراش، متكتفة الذراعين، بتفكير متعمق، وقد سرق النوم منها رغم نجاحها في اخفاء الأمر عن زوجها، ومجاهدتها حتى لا يشعر بما يعتريها من مخاوف، فيسألها عن سبب تغيرها، تلعنه بداخلها بأبشع الالفاظ، لقد اظهر لها وجهه الدميم، خلف الصورة المزيفة، والتي انخدعت فيها سنوات، لماذا لا يتركها وحالها؟ لماذا يصر على تبديد كل رصيده من محبة لديها؟

كان لديهم قصة والقدر لم يشأ لها الاكتمال، تزوجت من غيره وهو كذلك فعل، لماذا مصر على ملاحقتها؟ وقد أصبحت زوجة لغيره، وهو متزوج من امرأة اخرى جميلة وصغيرة، رأتها بأم عينيها في تلك العيادة البائسة

انها حتى لم تسأله او ترمي عليه اللوم لطول المدة في سفرته، رغم عودته الاَن محملا بالأموال الكثيرة كما ترى ، واستغرابها لكيفية جمعها بهذا الكم مقارنة مع من سافر معهم من شباب البلدة ومن سبقوهم……

توقفت فجأة وقد ومض عقلها باستدراك سريع ، لتتناول هاتفها مقررة البحث به، مدام هو لن يتركها في حالها، اذن من العدل ان تتعرف عليه مجددًا حتى تعرف مع من تتعامل الاَن، وقد تأكدت ان عمر القديم لم يعد له وجود، وربما وجدت حلا لأسئلتها

❈-❈-❈

فتحت أجفانها للنور اخيرًا، وراحة لذيذة من الدفء والأمان والرائحة العطرة تغمرها، فذراعيه ما زالت تضمها، ولم يتخلى عنها كالعادة مهما طال نومها، لقد اعتادت منه اشياء أصبحت مدمنة لها،

رفعت ابصارها له، وكما توقعت وجدته مستيقظًا، يتأمل بها صامتًا، رغم ما تراه من هالة حزن يطل من عينيه، لتشق ثغره ابتسامة ضعيفة ولكنها اشرقت بملامحه لها:

– صباح الخير.
– صباح الهنا .
قالتها وهي ترفع نفسها لتقبله على وجنته، وتفاجأه للمرة الثانية، فتتوسع ابتسامته بمرح يخاطبها بدهشة:

– ايه الحكاية؟ انا بدأت اتوغوش منك يا بت هريدي.

ردت بضحكة عالية سلبت عقله:
– توغوش مني ليه ان شاء الله؟ عملت حاجة عيب ولا حرام؟ انا بجرب من جوزي مش من حد غريب يعني .

ضحك بدوره ليعتدل بنصف نومه ويقابلها بسعادة اعتلت تعابيره مرددًا:
– لا طبعا مش حد غريب، بس انا اخاف يا غالية لا اتعود ع الدلع ، وتطلع في الاخر دي هرمونات حمل، ساعتها هيبجى مجلب وشربته.

عادت تقهقه بمشاغبة له:
– والله يا غازي ان كان عليا، ف انا عايزاك تتعود بس بصراحة موعدكش بالاستمرارية، اللي جاي توم، يعني مش هلاجي وجت اسرح شعري حتى .

كانت تتحدث بغبطة تغمرها ، لتثير انتباهه ويسألها:
– بس انا حاسك فرحانة جوي من ساعة ما عرفتي انهم عيلين، دا انا على كد فرحتي بيهم، وان ربنا بيزود في رباط المحبة ما بينا، لكني بحسك فرحانة اكتر مني

مررت بكفها على البطن التي تحمل الاطفال داخلها، لترد بتنهيدة خرجت من القلب:
– انا مش فرحانة وبس غازي، لا، دا انا حاسة نفسي طايرة من وجتها، من وجت الدكتورة ما خبرتني، اصل انا بحب الاطفال جوي، ومن زمان نفسي يبجى عندي عيال كتير،

لانت ملامحه، يطالعها بحنو ، وقد لامست كلماتها شغاف قلبه، لامست حلمه بأنها تريد مزيدًا من الإنجاب منه، وهي أحب الأمنيات على قلبه، يبدوا ان الصبر يؤتي ثماره معها.

دنى يطبغ قبلة عميقة على جبهتها، ليتمتم بصوت أجش يحمل في طياته الكثير مما يعتريه في هذه اللحظة:

– بس كدة، دا احب ما عليا يا جلب غازي، شدي حيلك انتي واجدعني، وليكي عليا نملى البيت عيال، ربي ما يحرمني منك.

– ولا منك ابدا
رددت خلفه بسجيتها، لتشعل رغبته في إعادة الوصال معها مرة أخرى، وما شرع ان يفعل حتى اجفله الطرق العشوائي على باب الغرفة:

– يا ماما، يا بابا، انا صحيت انتوا لسة مصحيتوش، افتح يا بابا انا معتز.

ضحك غازي لينهض على الفور من تخته، ويفتح له ، ثم يتلقفه بالاحضان والقبلات مرددًا؛
– ما احنا عارفين انك معتز، هو انت محتاج تعرف عن نفسك يا باشا.

اعتدلت بجذعها هي الأخرى، لتنزل قدميها وتنهض ببطء تعبر عن بابتهاجها لقرب الاثنان وهذه العلاقة المميزة بينهما:

– طب اسيبكم انا وادخل الحمام، عشان بعديها احضر الفطار ، تلاجي روح لساها مصحتش، خالك صحي ولا لاه يا معتز؟

– صحي وبيصلي.
اجابها الصغير، ليضيف على قوله غازي:
– اعملي حسابك يا نادية، بعد زيارة بسيوني، وبعد ما اخلص مشواري ع القسم، هاخدك انتي والباشا نجطي اليوم برا، اهو نتفسح شوية ولا نشمه هوا،

اردف بغمزة اخجلتها لتسأل باضطراب:
– طب وروح هناخدها معانا؟

– معاها جوزها، هما هيكبسوا على نفسنا هنا وبرا، دا ايه الخنجة دي؟

تفوه بها يتصنغ التجهم ليُضفي جوا من المرح، بإلقاء الدعابات الممازحة معها ومع صغيرها

❈-❈-❈

وفي المشفى
وقد وصل بها صباحًا، قبل ان يذهب لعمله، كي يوصلها لشقيقها، ويطمئن معها عليه، حينما توقفا امام الغرفة، توترت بقلق تخاطبه:
– يوسف، انا خايفة ليكون لساتوا زعلان مني .
ربت على ظهرها بدعم ، يسحب شهيق طويل يهدئ به روعه من الداخل رغم ادعائه غير ذلك في قوله لها:

– مفيش داعي للخوف، اكيد دلوقتي هو بقى مستوعب عن امبارح، جمدي قلبك كدة وتعالي بقى….. هنفضل واقفين مكانا اليوم كله؟
قال الأخيرة، وكفه اطبقت على كفها، يسحبها معه لداخل الغرفة، بعدما طرق على بابها بخفة، ليتفاجأ به واقفًا امامهما:

– ما شاء الله، دا ايه المفاجأة دي؟ صباح الخير يا بسيوني.
صدر القول من يوسف، قبل ان يجفله الاَخر بنظرته الحادة نحو الأيدي المتشابكة، ليزيد من توترهما ، فتململت هي بخوف، لتفلت نفسها وتركض اليه، تتعلق بذراعه:

– حبيبي يا خويا حمد الله على سلامتك، بركة انك واجف جدامي دلوك، دا يوم المنى والله .
تلقى قبلاتها على وجنته رافع حاجبًا واحدًا، يرد ببرود:
– الله يسلمك…… وانتي عاملة ايه بجى؟ شايفك حلوة ولابسة زين ولا اكنك بجيتي من اهل مصر .

ابتلعت ريقها الذي جف، ينتابها شعور غير مريح من تلميحه الغامض، فتدخل يوسف كعادته معها بحمائية، يجذبها نحوه:

– ورد مش محتاجة مجهود عشان تبقى من اهل القاهرة، هي حلوة وحدها، واي حاجة تلبسها تليق عليها .

اعتلت الشراسة ملامح بسيوني، وفعل الاَخر مع ترحيب شقيقته وكأنها تتلمس الامان منه، من احد غيره، ليزفر دخان من انفه بصمت مهيب، يزيد من بث الرعب في قلبها حتى جعلها تعاود الدفاع عن موقفها مرة اخرى له:

– انا جولتلك يا واد ابوي امبارح، عن اللي عمله معايا يوسف، لما وجف لابويا، واضطر انه يعجد عليا عشان افضل جمبك ومرجعش ع البلد وانا جلبي مجطع عليك، واديك شوفت بنفسك التغير عليا ، اكرمني من كله، من غير مقابل، ولا حتى حاول انه يلمسني ، رغم اني في بيته وتحت عينه…..

– يعني انتوا عايزني اصدق صح انه فعلا مجربلكيش؟
صدرت منه مقاطعًا لها، ليأتيه الرد من يوسف بلهفة:

– اه والله يا بسيوني، انا اختك عايزها على حلال ربنا، رغم انها حلالي على سنة الله ورسوله، لكني برضوا مصمم اني اخد مباركتك واعمل لها فرح بجد وشبكة تليق بيها، وافق بقى يا عمنا، خلينا نفرح ولا انت مش شايفني اليق بيها؟

كان في قوله الاخير، تملق واضح فهم عليه الاخر، لكن لم يعيره أدنى اهتمام، وقد انصب تركيزه فيما سبقها ، لتضيق عينيه بتفكير، دون ان ينطق ببنت شفاه، فواصل يوسف:

– ايه يا عمنا؟ وافق بقى خلينا نعلي الجواب ونشهر الجوازة.
حانت على وجهه ابتسامة غير مفهومة ينقل ابصاره نحو الاثنين، لتلتمع عينيه بمكر يجيبه:
– ومالوا يا يوسف؟ بس انا من رأيي المستشفى هنا مكان ماينفعش فيه الكلام ده، اصطبر على ما نطلع منها ، وبعدها يحلها الحلال .

تطلع اليه الاخير بعدم فهم، ليشرع في الجدال، ولكن بسيوني قطع عليه الفرصة من بدايتها:
– عن اذنكم بجى امشي رجلي شوية، الدكتور هو اللي أمرني بكدة عشان صحة المخ، وبالمرة اطل غ الغلبانة اللي دافعت عني.

قالها وخرج، يترك الاثنان في تخبطهما، فلم تريحهم الإجابة ولا تعبير الملامح على الإطلاق.

❈-❈-❈

وفي الغرفة المجاورة
كانت تتناول بفتور وبدون شهية الطعام من يدي والدتها حينما طرق بخفة على الباب ، قبل ان يطل عليها بهيئته الضخمة فترتسم ابتسامة بثغرها ، اشرقت على ملامحها السمحة، لتشجعه للدلوف وإلقاء التحية:

– صباح الخير يا جماعة، عاملة ايه يا ست مشمش؟
رحبت والدتها تسبقها في الرد:
– يا اهلا يا صباح الفل عليك يا بني، اتفضل…

توقفت برهة تتأمل ما يرتديه وهذا الشاش الطبي الذي يلتف حول رأسه، لتتابع سائلة له بفضول:
– هو انتي كمان متصاب يا بني ولا ايه؟

تكفلت مشيرة بالرد عنه:
– دا بسيوني ياما، اللي كنت كلمتك عنه، وقولتلك انه……
– اللي فاق من الغيبوبة،
تمتمت بها والدتها تهز رأسها لأعلى، ثم تتمعن النظر اليه، متابعة:

– يا ماشاء الله عليك يا بني، ربنا يحرصك من العين، بس انت كنت في غيبوبة ازاي؟

قالتها بمغزي نحو قوته البدنيه التي تتضح امامها، دون جهد منه، فتبسم هو لعفوية المرأة وسجيتها قائلًا:
– الضربة لما تاجي من الخلف بتوجع اجدعها راجل مهما كانت جوته يا خالة، وانا الحمد لله ربنا خد بيدي……. المهم دلوك مشمش، عاملة ايه يا بت الناس؟

انتبهت المرأة لنعته لابنتها باسم الدلال المحبب لها، وقد توهجت بشرتها بعد الانطفاء، واصفرار المرض، لتراقب بفراسة رد فعلها التعامل معه، رغم تعبها:

– انا كويسة والحمد لله، اديني باكل اهو ونفسي مفتوحة عشان اقوم واقف على رجلي واشتغل، الا قولي انت مين متابع حالتك دلوقتى؟ اوعى تكون مش مرتاح؟

اكتنفه الحرج رغم سعادته البالغة باهتمامها، هذه الفتاة حقا تزيده حيره بأفعالها:

– اطمني ومتشليش هم انتي، اهم حاجة صحتك، انا اديني واجف بصحتي جدامك اها،
قطع ليوجه الحديث نحو المرأة التي تتابع بازبهلال لأفعالهم:
– خلي بالك منها يا خالة، مشمش حتى وتعبانة بتفكر في الشغل
اومأت له المرأة بنظرة معبرة عما يدور برأسها في هذه اللحظة من أفكار تشطح بعقلها، ولكنها ملتزمة الصمت ، تراقب هذه النظرة الدافئة منه الى ابنتها المفضوح اهتمامها به، لتجيب اخيرًا:
– من عنيا يا ابني، وانت ربنا يتم شفاك على خير قريب، اللهم امين .

❈-❈-❈

عودة الى روح التي استيقظت اخيرًا، لتفاجأ بقرب الوقت من الظهيرة، وقد اخذ الجسد راحته، بعد فترة طويلة من السهر والسهاد في الليلة الماضية، لتخرج من غرفتها، عينيها تبحث في الأرجاء حولها، ينتابها التعجب من هذا الهدوء المريب.

– لا إله إلا الله، هما سافروا وسابوني لوحدي ولا ايه؟
غمغمت بها متسائلة مع نفسها، ليأتيها الرد من خلفها:

– لا يا ست البرنسيسة، جوزك لساتوا جاعد مربوط جنبك.

التفت الى الجهة التي يحدثها بها، من داخل المطبخ المفتوح، لتتوسع عينيها بدهشة وهي تراه مرتديًا لزي المطبخ ، وفي يده اداة ما .

لتتبسم بمرح مخاطبة له:
– ايه ده يا عارف؟ لابس مريلة المطبخ وماسك سكينة التجطيع في ايدك، معجولة تكون بتطبخ؟

– ومش معجولة ليه؟ وانا معايا ست بتصحى على جريب الضهر، رجعتيني لعيشة العزوبية يا دلوعة اخوكي.

قهقهت بضحكة عالية، لتقترب منه وتتخذ مقعدها امام البار مقابله، لتردف بلهجة متأسفة:
– نصيبك بجى يا واد عمي، بس انت ليه مصحتنيش، انا نومي مش تجيل للدرجة دي.

عبس يتصنع الضيق، ويداه مشغولتان بتقطيع الخضروات ليعلق:
– ما انتي لو بطولك لكنت جمدت جلبي ورشيت عليكي مية حتى، لكن للأسف دلوك حماية، اخاف اصحيكي واجلج حبيبي الغايب .

هذه المرة طالعته بحنو وقد أثرت بها كلماته، لتسأله بفضول:
– كد كدة انت مشتاج للنونو يا عارف؟ مكنتش اعرف انك بتحب الاطفال لدرجادي؟

– وفي حد ميبحبش الاطفال؟ انتي مجنونة؟
أجابت عن سؤاله ببعض التردد
– لا انا جصدي يعني….. عشان بجالك سنين من ساعة جوازتك الاولى ، وانت لا سائل في جواز ولا أطفال.

توقفت عما يفعل، يثبت ابصاره بخاصتيها قائلًا:
– عشان مكنتش عايز حريم غيرك، ولا اطفال من أي حد غير منك…. فهمتي بجى يا ناصحة؟
اومأت بهز رأسها بأعين لامعة:
– فهمت يا جلب يا روح، ربي ما يحرمني منك يا احلى عوض.

لأول مرة تعبر بهذه الصراحة له، لأول مرة يستشعر حبها الوليد ، وغزلها بجرأة، لتغلبه روح الدعابة في مشاغبتها:
– ايه يا حلوة؟ الجميل جايم رايق، وليه مزاج يدلع بالكلام، لا انا مش متعود ع الوش ده يا ست روح.

ردت بحالمية لا تخلو من مرح:
– اتعود على كيفك يا سيدي، يعني انت تدلعني وتعملي الاكل اللي ريحته تفتح النفس دي، وانا معنديش دم ارد بكلمتين حتى….. إلا جولي انت عامل ايه صح؟

افتر فاهه بصيحة مندهشة:
– جولي كدة، انتي بتجامليني عشان ريحة الصنية اللي في الفرن، اخص عليكي، طلعتي ست بيحركها هم بطنها وبس.

عادت لتأسر قلبه بسحر ضحكاتها، قبل ان تتدارك لتسأله بتذكر:
– ألا جولي صح، بجية الشعب راحوا فين؟ انا مش شايفة ولا سامعة بحس أي حد فيهم.

دنى يجيبها وهو يلقي بنظره على ما بداخل الفرن:
– عزب يا ستي سافر ع البلد ، اما الندل اخوكي ، فدا خد مراته وابنها وراح يفسحهم في العاصمة، عاملي فيها حبيب الباشا…… وادي الصنية جهزت

قال الأخيرة وهو يضعها على سطح البار امامها، متوقعًا لهفتها لو الصراخ بمرح، ولكن على العكس، فقد وجدها ثابتة بل وسهمت بنظرها له، ليتابع متسائلًا:

– ايه يا مجنونة، لتكوني فاكراني عكيت، الاكل جايبه دليفري، انا بس سخنت وعملت السلطة.
تبسمت بخفة لاعترافه السريع، لتعبر عما تريده:.
– والله مش محتاجة اعترافك، لأنها باينة اصلا، هو انت تعرف تسلق فرخة، انا بس…….

– بس ايه؟
سألها باهتمام لتجيبه على الفور:
– انا كمان كان نفسي اطلع واتفسح في البلد، اشمعنا الست نادية يعني؟ ولا انا مكتوب عليا زيارة المستشفيات وكفاية على كدة…….

رفع صدره، زافرًا بغيظ يخاطبها:
– يعني عايزة تروحي فين؟ جولي يا اَخرة صبري .
وما همت أن تخبره برغبتها حتى وجدته يصيح باعتراض:
– نعم يا اختي؟ سيما ايه يا ام سيما، على جثتي يا روح دا يحصل!
❈-❈-❈

ضحكات ودعابات يتبادلاها الاثنان نحوها كل دقيقة من موقعهما خلف سياج الصور الحديدي، باستمتاع لرؤية شاملة للعاصمة من هذا العلو ، وقد انتهى بهما المطاف الى هنا بعد الذهاب بها إلى العديد من الأماكن الجميلة وتقضية معظم اليوم في المرح .

– جربي يا جبانة، جولها يا معتز بطلي خوف يا ماما.
– بتلي خوف يا ماما

ردد بها الصغير، بحروفه الناقصة لتصدح الضحكة المدوية منه، فيشاكسها غامزًا، فقد كانت تقفت خلفهما محلها ملتصقة بالحائط غير قادرة على الاقتراب لترد بقلة حيلة:

– والله حرام عليكم عشان بتتمسخروا عليا وانا واحدة غلبانة وحامل كمان.
قهقه غازي يزيد عليها:
– واحنا بنجولك تعالي ارمي نفسك، يا مرة جربي وشوفي البلد ، دا الفرجة من هنا في برج القاهرة حاجة متعة ولا الخيال.

– يا سيدي سيبتلكم انا المتعة دي ومش عايزاها، ريحني يا غازي حن عليك وخلينا نمشي..
قالت بتودد أثر به، ليتراجع عن مشاكستها ، فيترك محله مقتربًا منها حاملا معتز:
– صعبتي عليا صراحة، بس كدة تبجى ولا اكنك زورتي البرج.

عقبت بسخرية:
– اعتبرني مجبتش خالص يا غازي، المهم امشي، انا ركبي بتتنفض والنعمة، مش جادرة اتصور العلو اللي احنا فيه .
– سلامة ركبك الحلوة.
قالها متغزلاً بصوت كالهمس، ليعود مخاطبًا الصغير:
– خلاص يا معتز، احنا نروح دلوك، ونبجى نيجي انا وانت مرة تانية لوحدينا، من غير الست الخوافة دي، بس احنا كدة نروح ع البيت ولا نروح نتعشى في أي مطعم؟

جاءت اجابتها بلهفة على الفور:
– لا كدة ولا كدة يا غازي، انا اجولك نروح فين؟ بس وحياة غلاوتي عندك ما ترفض طلبي.

– ليه يا بوي؟ هو انتي هتطلبي ايه بالظبط؟
سألها باستغراب قبل ان تتوسع عينيه بدهشة فور سماع ما تفوهت به:

– نعم يا ست نادية؟!

❈-❈-❈

في ظلمة الليل واستكانة البشر في منازلهم، حيث الهدوء الذي يعم البلدة في هذا الوقت؛ استغل الاثنان الوقت ليتسللا داخل الأنحاء التي يقطنون بها، يقطعون الطرق المؤدية الى المنزل بخفة وحرص، متخفيين بملابس عادية غريبة عن هيئتهم، والشال الصوفي يغطي نصف وجه الفرد منهم، حتى لا يتعرف بهم احد.

وقفت هي بجبروتها بمدخل المنزل في انتظارهم، حتى اذا اقتربوا فتحت على الفور لهم تتلقاهم بالأحضان، وشقيقتها من خلفها.

– اتوحشتك جوي ياما.
تمتم بها عيسى الملتصق بحضن والدته بعد ان دلف اربعتهم لداخل المنزل، والتي انطلقت في نوبة من البكاء استفزت الاثنان الاَخران:

– خبرا ايه يا نعيمة، ما تديلوا نفسه، وادينا احنا فرصة نتحدتوا شوية، هنجعد الليل كله في السلامات والبكا والنواح؟

اضاف عليها سند وهو يتناول في مأدبة الطعام التي كانت في انتظاره بشهية ونهم:
– سبيه يا خالة ع الأقل عشان ياكل معايا ويرم عضمه، الليل هيروح منينا كدة.

تطلعت الى الاثنان نعيمة بنظرات يملأها اللوم والاستنكار، تفهمها جيدًا شقيقتها، ولكنها دائما ما تتغاضى عنها، لتوجه اهتمامها نحو ابنها.

– طب سيبها انت يا عيسى، مدام هي مش راضية تسيبك.
هتفت بها هويدا بتصميم قوي على تجاهلها، مما زاد من احتقانها، لتنفجر بها :

– ما هو هيسيبني يا هويدا، وانا عارفة انه هيسيبني ويرحل وبعدها معرفلوش طريج، كان مالنا احنا ومال المرار ده؟

إغتاظت الاخيرة، لتحدجها باشتعال في مواجهتها:
– وهو حد كان ضربه على يده؟ ولا أجبره يا بت؟ ما تصحي لنفسك كدة يا حجة، وبلاها من المسكنة دي ورمي الذنب ع الغير، عيالنا اختاروا طريجهم، واحنا معاهم، حد كان متوقع ان كل النصايب دي تحصل؟ ولا انتي عشان الاية اتجلبت، لكن لو كنتي دلوك جرغانة في العز، مكنتيش هتجيبي سيرتي حتى .

صاحت بها نعيمة بنبرة بقهرة
– ايوة مكنتش هتكلم، عشان انا طول عمري تابع ليكي، حتى ولدي تابع لولدك، الاتنين كلمتهم واحدة، عشان انا ربيتوا على كدة ، يمشي مع واد خالته حتى لو في الغلط المهم يبقوا سند وعزوة مع بعض، وادي النتيجة، الاتنين ضاعوا مع بعض.

– تفي من خشمك يا خالة متجوليش كدة.
خرجت من سند يسبق والدته التي كادت ان تصب جام غضبها بها ، ليواصل بمهدانة:
– المشوار لسة مخلصش يا خالة، واحنا مش هنوجف غير لما نرسى لحل، ولا انتي نسيتي اننا برضوا طلعنا بمصلحة، دا تمثال واحد بس معانا جادر انه يفك ازمة العمر كله .

اضاف على قوله عيسى:
– ايوة ياما، المدعوج صدجي لساتوا متابع معانا بمراسيله حتى وهو في السجن، بكرة لما نصرفهم والفلوس تجري في يدنا ، هنعرف نتخلص من كل اللي احنا فيه.

تطلعت له باستجداء، رغم ان الامل قد داعب خيالها، لتؤكد عليها هويدا كالعادة بسيطرتها:
– اسمعي من اللي بتجولي عليهم عيال، احنا ربينا رجالة، وبكرة يبجوا اسياد الكل ، بلاها بجى جلبك الخفيف ده.

❈-❈-❈

في غرفتها التي كانت تقطعها ذهابًا وايابًا، بغيظ يفتك بها، من وقت ما اخبرتها عزيزة عن خبر حمل غريمتها، وحريق شب بصدرها ولم يهدأ ابدًا، هذا ما كان ينقصها، الا يكفي انها تزوجت على الفور بعد انتهاء عدتها، وقد حازت على طليقها الذي مهما كان ما بينهما، الا انها لا تنكر انه انتصار لها، لماذا دائمًا ما تسبقها ؟ كم ودت ان تتزوج وتخلق الحسرة في قلوب الجميع، جميع من استخفوا بها من أفراد العائلة الذين تجد في أعينهم الشماتة كل ما تصادفت بلقاء احد منهم، لماذا الحظ يعاكسها؟ الا يكفي الملعونة الاجنية التي حازت على دلال ابيها وشقيقها الابله، حتى والدتها لا تعترض لها عن اي شيء تفعله.

– اااه
خرجت منها تضرب كفًا بالآخر، ثم تفركهما بعدم تحمل ، وضيق يجثم على صدرها، مع تباطئ الاَخر عن تنفيذ ما تتمناه، حتى تشعر بقرب اصابتها بالشلل، ماذا تفعل؟ لابد ان تجد مخرجًا قبل ان تعلن الملعونة عن حملها، وترى المزيد من الفرحة في أعين الشامتين، لن تنتظر حتى ذلك اليوم، ولن تعطيها الفرصة لتنتشي بانتصارها.

تحركت فجأة تتناول هاتفها من فوق الفراش لتهاتف من يهمه الأمر الاَن معها:

– الووو، اهلا يا بيبي .
– بلا بيبي بلا كلام فارغ يا صلاح، سؤال كدة وعايزة إجابته، امتى هتيجي تتجدملي؟

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2))

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى