رواية نبع الغرام الفصل الحادي عشر 11 بقلم رحمة سيد
رواية نبع الغرام الجزء الحادي عشر
رواية نبع الغرام البارت الحادي عشر
رواية نبع الغرام الحلقة الحادية عشر
في اللحظات التالية بعد همسها، تجمد “ظافر” مكانه لثوانٍ، واستكان الاهتياج الذي كان يعتريه، وكأن أسمها و حبها نجحا في سلسلة شياطينه المهتاجة، ابتعد عنها ببطء ليحدق بها وهي منكمشة على نفسها ووجهها شاحب كالأموات، والدموع تسيل على وجنتيها الشهيتين اللتين كان يعشقهما لتلطخهما تمامًا !!
ربااااه ما الذي فعله ؟! ما الذي جعله يُقدم على هذا الجنون تجاه المرأة الوحيدة التي أحب معميًا بغضب صار كالقطعة البالية أمام عينيه.
انتفض جسده متراجعًا للخلف كمَن لدغه ثعبان الادراك المتأخر لتُفتح عينا عقله المُغيب طويلًا ويرى فداحة ما فعل، ويحمد الله أنه استفاق من تلك الغيبوبة الواقعية فلم تدم أكثر وإلا لعاش المتبقي من عمره في غياهب الندم.
غمغم بإسمها بصعوبة بصوتٍ متحشرج وكأن حتى اسمها يلومه فيأبى الخروج من شفتيه:
-ليلى أنا….
صمت… ماذا يقول؟ وما الذي يمكن أن يقوله فيخفف ثقل فداحة ما فعل، فيما شهقت ليلى وهي تبكي بانهيار بعد سماع صوته الذي لم تمقت سواه في تلك اللحظات، وتشد ملابسها التي تبعثرت لتخفي جسدها.. تبكي الانتهاك النفسي والجسدي الذي تعرضت له الدقائق الماضية..
فتساقطت دموعها على قلبه كماء نار لتُصليه ببطء مُعذب، اقترب منها خطوة وحيدة قبل أن تصرخ هي فيه بصوت بح من كثرة البكاء:
-ابعد عني.
ابتعد على الفور مشيرًا بيديه لتهدأ.. ثم ابتلع ريقه وقال بنبرة خشنة ملتاعة متآكلة بالندم:
-أنا أسف.. أسف.
ثم غادر الغرفة على الفور تاركًا إياها تنخرط في بكاءٍ عنيف، وقف خلف الباب مغمضًا عيناه بقوة وهو يتحسس الباب بقبضته ضاغطًا عليه يود لو يخترقه فيتلقفها بين أحضانه مهدئًا إنهيارها.. وكأنه ليس مَن تسبب بذلك..!
وكانت شهقاتها كالسكاكين الباردة تُغرز في قلبه ورجولته وهو يدرك أنه بدلًا من نحت مكانة لا تُمحى له في قلبها، نحت جرحًا غائرًا لن يندمل بسهولة وسيظل ألمه عقبة بينهما… هذا إن ظل شيء بينهما !
اتجه لغرفة الضيوف يحبس نفسه بها بعيدًا عن عيني العاملين بالمنزل الفضولية، وقف أمام المرآة هناك يلهث بعنف وكأنه في حرب مُهلكة…
نظر لصورته في المرآة فلم يرَ سوى صورة مشوهة باهتة لرجل خانه غضبه فتحكم به لدرجة صعبة من الانفلات لم يصل لها قبلًا، ولكن فكرة الغدر منها وعيش ما عاشه سابقًا من قهر الفراق بعد الغدر كانت طاعنة ومُعذبة له خاصةً بعدما جرب حلاوة عشقها والقرب منها..
تبًا لوالدتها ولحديثها المسموم الذي جعله كالمسحور بسحر أسود يأبى مفارقته إلا بعد أن يدمر كل شيء..
ضرب المرآة بقبضته بعنف لتتهشم لقطع متناثرة صغيرة، يجب أن يعلم.. يجب أن يتحدث معها مباشرةً، وإن كانت لها صلة بحديث والدتها سيُريها الوجه الشيطاني الآخر من ظافر العبادي.. وهذه المرة دون ذرة ندم.
****
بعد ما يقارب الثلاث ساعات…
استعادت ليلى ثباتها نسبيًا وجفت دموعها من كثرة البكاء، لم يكن تعديه وحده ما يؤلمها.. بل هو تلك الصدمة المصحوبة بالخذلان منه، لا تدري كيف او متى ولكنها مؤخرًا في ظل أفعاله ظنت أن لها أهمية لا تُمس لديه، ابتسمت بسخرية من نفسها… لم تُمس فقط وإنما سُحقت أسفل حذوة غضبه بكل بساطة !
نهضت وأعادت ترتيب ملابسها وهيئتها التي كانت يُرثى لها بسبب هجومه، ثم استعدت للخروج من الغرفة، ولكن وكأنه سمع أفكارها فحين فتحت الباب وجدته أمامها، تراجعت خطوتين تلقائيًا في تأهب..
فتقدم منها ظافر وهو يقول باقتضاب مبررًا وجوده على الفور:
-أحنا لازم نتكلم.
تحركت نحو الباب لتخرج ولكنه منعها ممسكًا إياها من ذراعها فانتفضت على الفور صارخة فيه بنفور تداخل مع خوف لحظي:
-ابعد يدك ماتلمسنيش.
وكم أوجعه ذلك النفور والخوف ولكنه سيتحمل.. سيتحمل لأنه يستحق، وحين يتأكد أن ليس لها أي دخل بما صار سيمحو ذلك النفور بطريقته ويُبلسم جرحها.
تنهد بصوتٍ مسموع قبل أن يقول بلهجة أجشة:
-بجولك أحنا لازم نتكلم.
صاحت فيه بعينين ناريتين غاضبتين:
-وأنا مش عايزة أتكلم أظن واضحة!
قال من بين أسنانه بنغمة صوت يعلم الله كم جاهد ليضبطها فلا تخرج صارخة مُحملة بغيظه الذي يكبحه:
-دا مش اختيار، هنتكلم يعني هنتكلم وهتجوليلي كل حاچة بصراحة.
تماثلت شفتيها المتيبستين لابتسامة متهكمة تشع مرارة وهي تردف مستنكرة:
-مش شايف إن مرحلة الكلام چات متأخرة شوية؟
ثم سرعان ما سقطت تلك الابتسامة الساخرة، وهي تدفع جسده العريض الصلب من أمامها بكل ما تملك من قوة حتى اصطدم بالجدار من خلفه بقوة، وخرجت من الغرفة سريعًا لتهرب من ذلك المنزل بأكمله، بينما هو يغمض عينيه متنفسًا بصوت مسموع، ويعد للعشرة حتى يُهدئ ذلك الغضب المتأجج داخله ولا يتحرك خلفها ليُعيدها عنوة للغرفة من جديد جابرًا إياها على الحديث والإفصاح بكل شيء مُخبأ بينهما فلا يظل أي عائق.
****
عاد “أيوب” من الخارج للمنزل بعد ساعات طويلة قضاها يدور بسيارته في الشوارع بلا هدف، إلى أن نجح الوقت والهواء البارد في خفت حدة نيران الغضب والغيرة المستعرة داخله ولكنه لم يُطفئها.
وجد “غرام” تنام على الأريكة في الصالة بحركة عشوائية غير مُريحة أخبرته أنها سقطت في النوم دون شعور، اقترب منها ببطء، ووقعت عيناه على أثر الصفعة التي احتفظت بها وجنتها وكأنها تُدينه..
جلس أرضًا جوارها حتى صار في موازتها، ثم مد يده ببطء وتردد ليتحسس أثر تلك الصفعة بطرف إصبعه.. تأوه بعمق دون صوت، لم يود ذلك.. لم يود ذلك ابدًا ولكنها أخرجته عن طور تحكمه وثباته.
أغمض عيناه وهو يهمس جوارها بحروف مشتتة ونبرة مختنقة خشنة:
-ماكنتش عايز أعمل كدا، ليه بتخرجي أسوأ ما فيا، ماكنتش عايز أبجى زيه.
ثم هز رأسه نافيًا بقوة ولا زالت عيناه الغامقتين مُعلقتان بوجنتها البيضاء التي احمرت والتي تحمل أثار أصابعه، وكأنه يطرد عنه هاجس لازمه طويلًا:
-أنا مش ظالم و مفتري زيه، أنا مش كدا، مش زيه.
تنهد بعمق قبل أن يتمتم بشجن خرج من أعماقه:
-كنت حاسك شبه أمي، وواثق فيكي، بس أنتي مش شبهها، هي عمرها ما كانت غدارة وخاينة للثقة.
تغضنت ملامح غرام بألم وهي تُحرك جسدها، فابتعد عنها أيوب على الفور، فتحت عيناها ببطء لتبصره وهو جالس على الأريكة المقابلة لها بملامح متجهمة جامدة تناقض ما كان عليه قبل ثوانٍ قليلة، ودخان الغضب يتصاعد في خلفية ظلام حدقتيه.
انتفضت مرتعدة جالسة على الفور مهمهمة بإسمه بتلقائية:
-أيوب.
هتف بخشونة باردة خاوية من المشاعر كافة:
-تعرفيه منين؟
سألته بذعر دون ادراك:
-هو مين؟ ماعرفش حد والله.
رد بخفوت حاد من بين أسنانه المطبقة بشدة:
-صاحب الشغل ال****
أجابته على الفور:
-من على النت بس والله العظيم.
استفسر بنفاذ صبر وبنبرة كساها انفعال مكبوت:
-ساكن في أنهي داهية أوصله ازاي دا ؟
هزت كتفيها معًا بقلة حيلة:
-ماعرفش.
شدد على كلماته مستنكرًا بشدة:
-ماتعرفيش؟ يعني إيه ماتعرفيش امال اتعاملتي معاه بناءًا على إيه؟
التردد أخّر اجابتها لثانية فقط قبل أن تخر حروفها مستسلمة:
-كان كل تعاملنا على النت بس، والمندوب هو اللي كان بيچي ويچيبلي الحاچة.
عاد الغضب يستعر داخله من جديد، فابتسم ابتسامة غاضبة مُخيفة خالية من المرح وهو يردد بنبرة خطرة:
-وروحتي جابلتيه مرة واتنين وتلاتة والهفأ اللي مستغفلاه نايم على ودانه.
اشتدت قبضتها حولها بقوة دون أن تجرؤ على الرد، ليتها لم تجيبه فتشعل غضبه الأسود أكثر دون قصد..
انتبهت له وهو يشير لها بهاتفها القابـع بين يديه آمرًا:
-تعالي طلعيلي رقم ابن ال**** دا واتصلي بيه.
الاقتراب منه في تلك اللحظات كان كالاقتراب من أسد مفترس فاقد لكل معالم السيطرة، فهي لم تنسَ بعد صفعته التي لا زالت تحمل أثرها على وجنتها كما في روحها المُهشمة، لذا اقتربت منه ببطء وحذر شديدين، ليزجرها بنفاذ صبر:
-اخلصي.
إنتشلت الهاتف من يده بسرعة بطرف أصابعها، ثم اتصلت بالآخر كما أراد وأعطته الهاتف مرة اخرى، رد ببرود وابتسامة لزجة استطاع أيوب تخيلها:
-إيه يا غزالة فين الصور؟
اشتدت قبضة أيوب على الهاتف حتى شعر أنه سيكسره وشعر بالغضب… لا الغضب تعبير بسيط عما يدور داخله تلك اللحظات، شعر وكأنه ساقط في قاع الجحيم فتحرقه ألسنة اللهب بضراوة، ثم إنطلقت القذائف والشتائم النابية من فمه باهتياج عارم:
-هبعتهالك بنفسي على الجبر اللي هادفنك فيه يا **** يابن ال**** دا أنا هاطلع ****، لو راچل جولي مكانك يا ****
انتقلت نوبة الغضب للاخر الذي تفاجأ وتجلت المفاجأة في النغمة الغاضبة التي رنت باذن أيوب:
-اهدى كدا على نفسك مالك داخل حامي عليا كدا ليه، ما اللي عنده معزة يلمها هو أنا ضربتها على ايدها وقولتلها اتصوري وابعتي، هي اللي عملت كدا بارادتها وقبضت التمن.
لثوانٍ قليلة لم يصله سوى صوت أنفاس أيوب الهادرة لتخبره أنه أصاب الهدف القاتل بكلماته، ليتابـع بتهور لم يكن في محله خاصةً مع شخص كـ أيوب :
-ولو مانفذتش اتفاقنا للأخر الصورة هتتوزع على البلد كلها عندكوا، وقد أعذر من أنذر.
خرجت كلماته شديدة الحدة كمنحدر خطر يحمل وعيد قاسي:
-هاچيبك، هاچيبك حتى لو تحت الأرض وساعتها هاندمك على اليوم اللي اتولدت فيه.
أغلق الآخر الخط دون رد بعدما نجحت كلمات أيوب في زعزعة ثباته وبثه شيء من القلق..
فيما رفع أيوب عيناه لغرام التي وقفت أمامه ترتجف من التوحش الصريح الرابض في عينيه كمجرم متأصل، ثم انقض عليها يقبض على ذراعيها بعنف متعمد مزمجرًا في وجهها بجنون:
-ليه تعملي فيا وفي نفسك كدا ؟ ليه تحطيني في الموقف دا بعد كل اللي عملته عشانك ؟ ليه ترخصي نفسك بالطريجة دي ؟
غمغمت بكلمات باهتة متقطعة وسط شلال الدموع الذي انفجر على وجنتيها:
-خوفت، صدجني خوفت ومن غبائي فكرت إني كدا بحل الموضوع خالص.
تركها أيوب شاعرًا أنه سيؤذيها.. حتمًا سيؤذيها وهو لا يريد ذلك، ضرب بقدمه بغل الكرسي الموضوع أمامه حتى سقط مصدرًا دوي عالي..
ثم صرخ بنبرة مُزلزلة مهتاجة:
-ملعون أبو الخوف، إيه أعملك عشان تطمني، إيه أعملك؟ حاولت أطمنك مرة واتنين وتلاتة، بس واضح إن أنتي الغدر بيجري في دمك مش مچرد خوف.
راح يتنفس بصوت مسموع، ويدلك رأسه بحركات عشوائية يشعر أن رأس ستنفجر من فرط التفكير والانفعالات… ثم همس لاهثًا بتعب حقيقي:
-ياريتني ما شوفتك ولا اتچوزتك.
حينها تعالى صوتها كهدير موج عالي تخزن وتخزن ثم انفجر كموجات التسونامي في لحظة لا تتكرر كثيرًا:
-لما أنت ندمان أوي كدا خلاص طلجني ماتغصبش على نفسك، أنا كمان مش هموت وأفضل على ذمة واحد يده سابجة لسانه.
بلحظة كان أيوب يقبض على فكها بكفه الغليظ الخشن حتى تأوهت ألمًا، فقال بلهجة تفوح غلًا وشراسة:
-صدجيني مفيش أحب على جلبي دلوجتي من إني أطلجك.
ثم نفضها بعيدًا عنه حتى ارتدت عدة خطوات للخلف تحدق في أثره وهو يلتقط هاتفها واضعًا إياه في جيب جلبابه، ثم سار مغادرًا المنزل مرة أخرى وكأنه صار لا يطيق التواجد معها في مكان واحد، ولم يفوتها صوت المفتاح الذي أخبرها أنه أغلق عليها باب المنزل وكأنه يخبرها ببساطة أنه صار لا يثق فيها بتاتًا !!
بينما أفكارها لا تدور سوى في فلك سؤال واحد…. هل هذا معناه أنه سيُطلقها بالفعل ؟!
****
بعد يومين…
جلست “ليلى” في غرفتها شاردة أمام الشرفة، يضربها الهواء الطلق ليُنعش روحها المتكومة كرماد محترق، تنفست بقوة.. نعم لم يستمر إنهيارها بعدما حدث، ولكن هناك جزء صار معطوب داخلها تجاه “ظافر”..
انتبهت لوالدتها التي دخلت الغرفة، وجلست جوارها راسمة ابتسامة حانية وهي تهتف:
-إيه يا حبيبتي مالك؟
هزت ليلى رأسها نافية بابتسامة زائفة لم تخدع والدتها:
-مفيش حاچة يامه، مالي؟
-فيكي حاچة مش مظبوطة، اوعي يكون المخفي اللي أسمه ظافر عملك حاچة وأنتي مش عايزة تجوليلي؟
تلفظت الاخرى بشك وهي تدقق النظر لوجهها الذي بهت فيه بريق الحياة، فبادلتها ليلى التساؤل:
-ظافر؟ ليه بتجولي كدا ؟ هو حصل حاچة؟
هزت كتفيها وهي تجيبها بشيء من التوتر:
-لأ ماحصلش، بجول كدا عشان اللي حصل أخر مرة يعني وتهديده.
استشفت ليلى ذلك التوتر الذي حلق عاليًا في سماء معالمها، وكررت سؤالها مشددة على حروفها:
-حصل إيه يامه؟ جولي.
أطلقت أنفاسها المحبوسة وهي تسرد دفعةً واحدة:
-أنا اتصلت بيه واتكلمت معاه.
أجفلت ملامحها صدمةً وهي تسألها دون استيعاب:
-اتصلتي بيه؟ اتصلتي بيه ازاي وجولتيله إيه؟
عضت على شفتيها والارتباك يتضاعف داخلها، ثم واصلت:
-أخدت رقمه من تليفونك وكلمته.
-جولتيله إيه يامه؟
استعلمت ليلى بأعصاب بدأت تنهار وهي تتيقن أن والدتها وحديثها المتسببان بحالتها الهوجاء التي كان عليها، فقصت والدتها عليها كل ما دار بينها وبين ظافر، لتتلبسها شياطين الغضب.. لا تصدق أنه حكم عليها وفعل ما فعل بناءًا على ظنون ضبابية بعقله !
****
بعد قليل…
إندفعت ليلى تطرق الباب بقوة غير مُبررة للعاملة التي فتحت لها الباب بوجهٍ يعلوه الدهشة، ولكن ليلى لم تكلف نفسها عناء التبرير بل تابعت اندفاعها كإعصار نحو الداخل وهي تسأل بصوت أجش باحثة بعينيها عنه:
-فين ظافر ؟
أشارت الاخرى نحو الغرفة التي يعمل بها مجيبة في رد فعل اتخذ الدهشة راعي رسمي له:
-في الاوضة.
ولم تنتظر ليلى ثانية واحدة اخرى لتشكرها حتى، بل سارعت بالتحرك نحو تلك الغرفة، ودون أن تطرق الباب فتحته ثم صفعته خلفها بعنف جعل امارات الذهول ترتفع على قسمات وجه ظافر الذي كان يُنهك نفسه في عمله حتى يتخلص من تفكير مُهلك سيردعه قتيلًا او قاتلًا.
نهض من مجلسه بهمهمة متعجبة حملت التساؤل في طياتها:
-ليلى ؟
وقفت أمامه مباشرةً، سائلة بصوتٍ حاد وملامح على صفيح ساخن حتى احترقت الشيكولاتة الذائبة بعينيها:
-أنت عملت اللي عملته عشان أمي كلمتك؟
لأول مرة يتخبط ظافر العبادي في رده أمام أحدهم ولا يدري كيف عليه تجسيد رد فعل مناسب من وسط تخبطاته الداخلية، فهل سؤالها يعني أنها لم تكن تعلم ؟ ام أنه استدراك متأخر ام ماذا ؟
ولكنه استجمع شتاته مسرعًا، وهو يسألها بنغمة لها قريع الاستنكار:
-على أساس إنك ماتعرفيش إنها كلمتني وجالت اللي جالته؟
جاءت اجابتها صارخة على حافة الجنون… لا بل هي في درك الجنون فعليًا:
-أيوه ماكنتش أتزفت أعرف، هو أنا هشم على ضهر يدي إن هي كلمتك فـ الباشا فسر وحكم ونفذ كمان من غير آآ…..
قاطعها ظافر محذرًا بصرامة:
-وطي صوتك وأنتي بتكلميني.
ولكن جملته لم تزدها سوى اهتياجًا وجنونًا فصرخت بصوتٍ عالٍ شرس وهي تضرب وتدمر بجنون كل ما تقع عيناها عليه.. المزهرية والاشياء الموضوعة على المكتب:
-لأ مش هاوطي صوتي واهوه، هتعمل إيه يعني؟ هتضربني ولا هتكمل اللي وجفت فيه المرة اللي فاتت؟
رنين الألم والعتاب تداخل بنغمة صوتها فجعله يحاول تمالك نفسه مضيفًا بخشونة صلبة:
-اللي حصل دا مش هيتكرر تاني، أنتي عارفة إني ماكنتش في وعيي.
لوت شفتيها بسخرية جلية:
-ماكنتش في وعيك؟ ليه كنت شارب حاچة ولا إيه؟
تقدم منها ظافر خطوة وهو يهدر بنبرة غليظة مغتاظة:
-كنت شارب السم اللي أمك سمعتهولي.
أشارت له بإصبعها محذرة بحروف شديدة اللهجة:
-ماتدخلش أمي في الموضوع، أمي كانت بتتكلم بتلقائية واحدة خايفة على بتها، ماكنتش تعرف إنك شكاك ومترصد ليا غلطة عشان تجنع نفسك إنك كنت صح في شكك وظلمك ليا أول مرة.
هز رأسه نافيًا على الفور باستنكار:
-لا طبعًا، بس كنتي عايزاني ازاي ماخرچش عن شعوري لما هي تجولي كدا وأتكلم معاكي ألاجيكي بتجولي كلام مشابه.
استفسرت باستهزاء وملامح ملتوية:
-كلام مشابه إيه بجا اللي جولته وأنا مش حاسه؟
كز على أسنانه بشدة حتى سمعت صكيكها الذي يدل على غضب متصاعد داخله كاللهب، ثم استطرد بهدوء خطر يُنذرها:
-لأخر مرة هاحذرك اتكلمي بأسلوب أحسن من كدا وإلا أنا مش مسؤول عن رد فعلي.
تنفست ليلى بصوتٍ عالٍ وآثرت الصمت فهي تعلم أن شخصية كـ ظافر لن تتحمل الإهانة بأي صورة من صورها تحت أي ظرف من الظروف وإن كان يذوب بها عشقًا ويدرك أن الخطأ يغمره من رأسه حتى أسفل قدميه!
فيما قال ظافر بجفاف:
-طريجة كلامك وجتها، وإنك كدا كدا مش متضررة لوحدك، كان إيه؟ إنك تجوليلهم فچأة إنك مرتي من غير مجدمات او اتفاج بينا.
كانت عيناها تزداد توسعًا مع كل كلمة ينطقها وينبلج فيهما عدم الاستيعاب والتصديق، ثم غمغمت بحروف متحشرجة مكتومة تنضح بالقهر:
-أنت إيه؟ أنت إيه يا أخي دماغك مابتدورش غير في دايرة الشك اللي چواك بس؟ أنت ماشوفتش نظراتهم وهما شايفيني داخلة معاك اوضتك؟ معلش لو أزعچ حضرتك بس شرفي وسُمعتي مش تحت أمرك وأمر تصرفاتك ومش هاسيبهم لعبة في لسان الناس، وحتة إني مش المتضررة لوحدي عشان فعلًا أنا مش متضررة لوحدي، أنتوا الشر والضرر منكم فيكم، عشان لو في حد بدل الدوا فعلًا يبجى أكيد حد منكم.
شيئًا فشيء كانت الرياح العاصفة الغاضبة بعينيه ترسو تدريجيًا بمنطقية حديثها وحالتها التي لا تترك مجال للشك، لتتجلى عاصفة اخرى من مشاعر مشتعلة شغوفة تُضاهيها في قوتها وهو يتابـع بخشونة مشتعلة:
-اقسم بالله سُمعتك من سُمعتي وتهمني أكتر من أي حاچة في الدنيا، أنتي غالية ومهمة عندي جوي يا ليلى.
ولكن ليلى بدت في معزل ثلجي من اشتعال مشاعره فلم تُصبها او تؤثر بها، بل ظلت ملامحها جامدة خالية من المشاعر وهي تتشدق:
-لو أنا غالية ومهمة عندك فعلًا ماكنتش هتشك فيا وكأنك بتتلكك عشان تثبت شكوك، الإنسان لما بيبجى حد غالي عنده بيبررله حتى لو غلطان، لكن أنت ماعندكش غالي إلا نفسك وچدك بـ……
قاطعها حين وضع يده خلف رقبتها وجذبها نحوه في حركة مباغتة ليكتم شهقتها المتفاجئة بشفتيه… يُقبلها بلوعة حارقة صابغًا شفتيها بصبغة عشقه اللاهب علها تحترق به فتدرك كم هي غالية عنده.
أبت ليلى أن تستسلم رغم ارتعاشتها المتأثرة الفطرية، وشعورها بشفتيه التي عاثت عبثًا في شفتيها… وروحها… وقلبها !
حاولت دفعه بعيدًا عنها، ليُفلتها ظافر على مضض ولكنه لم يبتعد عنها كليًا، مستندًا على جبهتها بجبهته هامسًا بصوت متحشرج مثخن بالعاطفة:
-بحبك، والله بحبك وماحبتش ولا هحب غيرك.
رغم أنها تجمدت لثانية أمام اعترافه الصريح لأول مرة، إلا أنها لا زالت تشعر بعلقم الإهانة والألم في جوفها، فدفعته بعيدًا عنها بعنف هذه المرة وهي تعنفه باستهجان:
-أسفة چدًا يا أستاذ ظافر بس أنا عايزة نتطلج وكل واحد يروح لحاله، وإن شاء الله تلاجي بنت الحلال اللي تستاهلها وتستاهلك.
ومضت سوداوتاه بوميض خطر مشتعل وهو يسترسل بشراسة عاطفية متقدة:
-أبدًا، أنتي مرتي وهتفضلي مرتي لحد ما ربنا ياخد أمانته.
تجمهر الاعتراض بكلماتها وهي تصيح:
-أنت جولت إننا هنشوف ولو ماتفجناش وحبيت ننفصل بعد فترة هننفصل.
هز رأسه نافيًا، وبصوته الرجولي العميق راح يخبرها:
-أنا عارف إني غلطت في حجك، بس طلاج لأ إنسي مش هو دا الحل.
سارت ليلى بخطى حانقة نحو الباب تود الخروج، إلا أنه كان الأسرع فلحق بها قبل أن تخرج ليُصبح خلفها تمامًا يُحيطها بذراعيه، تشعر بأنفاسه اللاهبة تحرقها، دفن ظافر وجهه عند رقبتها يجمع رائحتها المُسكرة في رئتيه لتوقد مشاعره أكثر.. اشتدت ذراعيه حول خصرها وهو يغمغم بخشونة تتدفق مشاعر عنيفة:
-أسف حبيبتي، عارف إني وچعتك وصدجيني اتوچعت كدك أضعاف مضاعفة، بس ماجدرش أسيبك بعد ما لاجيتك، أنتي ملكي وهتفضلي طول عمرك ملكي، ولو عايزة تطلجي يبجى مش جدامك غير المحكمة او تجتليني.
تملصت ليلى من بين ذراعيه بصعوبة وجسدها يشتد استنفارًا، ووقعت عيناها على المزهرية التي تهشمت فأمسكت قطعة زجاج منها وهي تزمجر في وجهه بشراسة:
-اوعى تفكر تجربلي بالطريجة دي تاني، نجوم السما أجربلك مني.
ولكن ظافر لم يُبالي وهو يقترب منها من جديد، حتى صار أمامها مباشرةً، أمسك بيدها التي تمسك قطعة الزجاج، ووضعها على صدره العضلي الصلب، مرددًا بملامح قاتمة جامدة:
-دوسي، خدي حجك يلا ومحدش هيجدر يجولك تلت التلاتة كام.
نظرت بذهول لقطعة الزجاج التي ضغطت بشدة على صدره حتى شعرت أنها ستنغرز بصدره فعليًا، فأبعدت يدها على الفور متراجعة وهي تغمغم ذاهلة:
-أنت مچنون!
ثم استدارت بخطوات شبه راكضة لتغادر الغرفة، تاركة إياه يزفر بعمق هامسًا لنفسه بنبرة تملك منها الشغف حد الإنهاك:
-عمري ما كنت أتخيل إني أبجى مچنون ليلى.
****
على الطرف الآخر في منزل “أيوب العماري”…
وقفت “غرام” في المطبخ، تضع المياه تغلي على النار لتصنع لنفسها كوب من الشاي بملامح منكوبة، وملل قاتل صار يستوحش حياتها بالمعنى الحرفي، فحياتها أصبحت مقتصرة على جدران هذا المنزل، حتى أيوب لم تعد تراه كثيرًا في اليومين السابقين، يتلاشاها تمامًا وكأنها غير موجودة، أ يُمكن أنه يستعد ليُطلقها رسميًا ؟ وماذا ستفعل حينها ؟ تبًا للشيطان الذي قلب حياتها رأسًا على عقب.
تنهدت بقوة قبل أن تخرج من المطبخ، جلست على الأريكة في انتظار الماء حتى يغلي، حتى سقطت غافية دون شعور منها، ولم ترى قطعة القماش التي كانت موضوعة على “البوتجاز” جوار الشعلة، فبعد ثوان معدودة نشبت النيران بقطعة القماش ومنها إلى كل شيء بالمطبخ شيئًا فشيء دون شعور من غرام التي تنام بالخارج ولا ترى النيران التي بدأت تلتهم المنزل بدءًا من المطبخ…
بعد دقائق نهضت غرام تشعر بالاختناق بسبب الدخان المتصاعد، وها له منظر الحريق الذي نشب فصرخت بفزع وقلبها ينبض رعبًا، ركضت بهلع نحو باب المنزل تحاول فتحه والخروج لتنجو بنفسها، ولكنها أدركت أنه مُغلق من الخارج كما صار أيوب يفعل مؤخرًا حين يخرج من المنزل، وليس معها هاتف ايضًا !!!!
****
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نبع الغرام)