روايات

رواية ميراث الندم الفصل الأول 1 بقلم أمل نصر

موقع كتابك في سطور

رواية ميراث الندم الفصل الأول 1 بقلم أمل نصر

رواية ميراث الندم الجزء الأول

رواية ميراث الندم البارت الأول

ميراث الندم
ميراث الندم

رواية ميراث الندم الحلقة الأولى

منزل كبير العائلة، بل والبلدة بأكملها، حيث يقع وسط مساحة شاسعة في الأرض التي استصلحها الجد الأكبر، عبد القادر الدهشان، منجبًا ثلاث أبناء، يامن وسعيد وكامل، ليسيروا على نفس نهج والدهم، باستصلاح المزيد والمزيد حتى توسعت أملاكهم، وصار لكل واحد منهم منزل مستقل وسط الأراضي الممتدة على مرمى البصر.

عبد القادر كان داهية، بشخصية قوية مكنته أن يتولى مسؤلية قيادة العائلة، التي تيسر حال باقي افرادها على يديه، بفضل مساعدته بصفته الكبير المسؤل حتى اصبحت عائلة الدهشان كسلطة وحدها بالمال والنفوذ الذي تضاعف بمرور السنوات.

ورث المسؤلية من بعدها لأكبر أحفاده غازي الأبن الوحيد لكامل على ثلاث فتيات، وذلك بعد أن نصبه الجد لذلك، مفضله على باقي أحفاده، بل وابناءه ايضًا، وذلك بفضل شخصيته المميزة بينهم، حيث الهيبة المختلطة بخشونته، الدهاء المتوارث رغم اندفاعه في بعض الأوقات وذلك لحمائيته الشديدة وطبعه الناري ، والتي لطالما كانت العيب الوحيد به، لكن في المقابل
كان خير راعي للجميع، حتى نافس بنفوذه اعضاء السلطة الحكومية كنائب المجلس وعمدة البلدة،
بالإضافة لعقليته الفريدة، حيث تمكن من زيادة العوائد
بتنوع الاستثمار في عدة مجالات، كتصدير الفواكه والخضر، وهو ما يجبره أحيانًا للسفر والمبيت خارجًا كما حدث منذ اسبوع ليعود اليوم.

وصل صباحًا والساعة لم تتعدى الثمانية بعد، دلف من الباب الخارجي، حيث الفناء الواسع ينقسم إلى جانبين، أحدهما للحديقة، والاَخر كمجلس للرجال والاجتماعات وأشجار المانجو الضخمة ارتصت على طول السور الخارجي

وجد جدته فاطمة جالسة على الكنبة الخشبية أسفل المظلة الضخمة، والتي عادة ما تعقد فيها أهم الجلسات العائلية وتسامر الشباب في أوقات السهر،
تُسبح وردها اليومي في دفء خيوط الشمس الوليدة، والتي تسللت من بين الفتحات العليا للسقف الخشبي بخجل، عينيها على أقراص الخبز التي ترصها الفتيات الخادمات مع حفيدتها روح التي تشرف عليهن، ليضعنه في الجزء المشمس من الأرض بالقرب من السور، حتى يتخمر قبل أن يتم خبزه في الأفران الصناعية الحديثة.
القى تحيته متغزلًا بمزاج رائق:

– بسم الله ما شاء الله، صباح الرغفان الزين على زينة البنات.
شهقت روح في البداية مجفلة بحضوره، قبل أن تستدرك سريعًا لترد التحية بابتسامة اشرقت بوجهها الصبوح:
– صباح الهنا والنور، حمد الله ع السلامة يا سيد الناس يا كبير البلد كلها.

اقترب ليضع قبلة حانية على جبهتها وخدها الأيمن قبل أن يأخذ دوره مع جدته فاطمة ليتناول كف يدها المجعدة، يضع قبلة إجلال على ظهرها متابعًا وصلة الغزل:
– عاملة ايه يا جميلة الجميلات؟
ضحكت برنة تدغدغ الأسماع بجمالها لتضع كف يدها الأخرى على وجنته مرددة بمزاح:
– اللي يسمعك وانت هتهزر كدة وتضحك، يجول دا واحد تاني، مش غازي الدهشان اللي يتهز له بلاد.

اعتدل بوضعه ليجاورها الجلوس على كنبتها، ثم لف ذراعه على كتفيها قائلًا:
– لهو انا ههزر مع كل الناس؟ ولا أي حد يستاهل غيرك يا ست ابوها انتي.

عادت فاطمة لتقهقه بغبطة، وقد أخجلها بذكرها الأسم الذي كان يلقبها به زوجها الراحل عبد القادر، لكزته بمرفقها تنهره بدلال:
– كفياك يا واد كامل، محدش كان يناديني بالأسم ده، غير جوزي الله يرحمه، وانت مش جوزي.

– وه.
تفوه بها مدعي الصدمة، حتى تدخلت شقيقته التي انضمت على الكنبة المقابلة:
– شكلك واصل مزاجك رايج، ربنا يحلي دنياتك دايمًا يارب.
ردد خلفها مؤممًا، ليردف بعدها بتساؤل وعينيه تجول في المحيط حولهن.

– َاَمين، وانتي كمان يا جلب اخوكي، هي البت دي راحت فين؟ مش شايفها يعني.
طالعته شقيقته بتوتر، وقد فهمت مقصده، فلم تجب وادعت الحديث مع إحدى الخادمات، تشير بيدها.

– فهيمة، حولي الرغيفين دول من مكانهم لتحت الشجرة، الشمس نازلة زين هناك.
اذعنت الفتاة تنفذ مطلبها، أما هو فعاد بتساؤله مرة أخرى:
– خبر ايه؟ بسألكم ع البت فتنة، فينها؟

هذه المرة تولت فاطمة مهمة الرد عنها بلهجة حادة:
– مرتك منزلتش من الدور التاني اساسًا، لساتها نايمة.

انتفض ينقل بأعين مشتعلة نحو أقراص الخبز وشقيقته ليردف بتساؤل:
– يعني إيه؟ ومين بجى اللي عجن وجطع العيش ده؟ الشغالين؟!
نفت على الفور شقيقته، لعلمها التام بطبع شقيقها الشديد في هذا الأمر:
– ابدًا والله، دا انا اللي عجنتهم وجطعتهم بيدي، ما انا عارفاك يا حبيبي، الحتة دي بالذات ما بتفوتش فيها.

ضيق عينيه ليردد خلفها باستهجان اختلط بلهجة خطرة:
– يعني انتي يا روح، جومتي من على وش الفجر عجنتي وجطعتي، والسنيورة المجلعة لسة متهزش بيها السرير فوج؟
طالعته بنظرة ساهمة ووجه مخطوف، لتجيبه بتبرير، خشية على ابنة عمها:
– انا اللي جومت بدري ومصحتهاش، يعني ليها عذرها برضوا، تلاجيها تعبت مع البنات…….

قطعت مجفلة من هيئته المتحفزة، وقد باغتها بأن نهض فجأة عن مقعده بجوار جدته، والتي وجه لها الحديث:
– يعجبك كدة يا ست الدار؟ فين هيبتك في غيبتي يا حجة فاطمة؟ كيف متشديش على الحال المايل؟

طالعته بنظرة غامضة تتلاعب في مسبحتها قليلًا، قبل أن تجيبه بكلمات محددة في الصميم:
– واشد انا ليه وكبير البلد كلها في البيت موجود؟ واللي متعملش حساب للسبع في غيابه جبل حضوره، إيه فايدة انها تعمل حساب لفاطنة؟

أظلمت ملامحه، واحتدت أنفاسه حتى أصبح يزفر بخشونة، ليصك على فكه ويتحرك ذاهبًا نحو وجهته للداخل، بغضبه المستعر.

التفت روح معاتبة لجدتها وقد زحف بقلبها الرعب من القادم:
– ليه كدة بس يا جدتي؟ مش كنا فوتناها دي، فتنة مهما كانت شديدة، هي برضوا مش حمل غضب غازي.

اشتدت تعابير المرأة العجوز، لترد على حفيدتها بحزم وعزم:
– ولما هي مش حمل غضبه، بتتعوج ليه بت المعوجة؟ دا انا بنفسي بعتلها البت فهمية، وهي رفضت ومرديتش تنزل، عارفة جوزها ما بيجبلش ياكل لجمة غير من أهل بيته، ومحدش من الشاغلين يجدر يحط يده، يبجى متكلة على مين؟
جولتي بنفسك انها شديدة، يبجى تتحمل، شالله يكسر عضمها حتى، على الله تتعدل.

علمت روح أن لا فائدة من الجدال مع جدتها الحانقة من ابنة عمها وزوجة شقيقها، ف استدارت عنها نحو الجهة الأخرى بسأم، لتضع يدها فوق خدها، تتضرع الى الله أن يمر الأمر على خير، حتى وان كانت فُتنة مغرورة وتستحق، إلا انها تخشى عليها بطش أخيها الذي لا يتهاون في هذه الأمور ابدًا

❈-❈-❈

وفي الطابق الثاني
وبعد أن دلف لجناحه حتى توقف أمام التخت، وهذه الفاتنة زوجته الغافية بدون غطاء، وكأنها حتى في نومها تخشى تخبئة النعم من حسنها الذي تتفاخر به أمام الجميع، وكأن الأرض لم تنجب غيرها من حسناوات، ترتدي منامة كاشفة عن ذراعيها، والجزء الأمامي من نهديها، رغم طولها حتى الكاحل، إلا أن التقلب براحة على التخت، جعلها تنحسر عن ساقيها البيضاء، لتظهرهما ببذخ.

يعترف بقرارة نفسه بأنها جميلة، لكن الغرور حينما يتفاقم معها يجعلها تتحول لغبية؛ وهذا دائمًا ما ينقص بقدرها أمامه ، وهي الصفة التي أشد ما يبغضها في النساء والبشر جميعهم مهما كانت طبقاتهم أو مراكزهم.

ضرب قبضته على خشب خزانة ملابسه وملابسها بعنف حتى ارتجت رغم صلابة خامتها، لتصدر صوتًا مدوي جعلها تنتفض مستيقظة بجزع:

– إيه ده؟
هتفت بها تعتدل عن نومها بعد اطلاقها لشهقة جزع، كرد فعل طبيعي منها، حتى ابصرته أمامها، يقف كجدار فلاذي، بصمت مهيب، مشبكًا كفيه خلف ظهره.

ابتلعت ريقها لترسم ابتسامة مضطربة، مرحبة به رغم توجسها:
– غازي! حمد الله على سلامتك يا واد عمي، امتى وصلت؟

تجاهل الرد عن السؤال، أو مبادلة الترحيب، ليقترب حتى دنى برأسهِ منها يخاطبها بلهجة هادئة مريبة:
– جاعدة ليه لحد دلوك على سريرك يا بت يا سعيد؟ معندكيش النهاردة خبيز تخبزيه؟

علمت بمقصده جيدًا، ولكنها تغاضت عن أجابة السؤال، لتمسك في الجزء الوحيد الذي يهمها، وتردد باستهجان:
– سعيد دا يبجى عمك على فكرة، يعني مش أي واحد وخلاص.

– بس اسمه سعيد، ولولا بس اني حافظ مجداره ومش عايز اجيبله الإهانة، لكنت ندهتك باللي تستاهليه..
تفوه بها بتهديد صريح جعلها تصرخ به:
– خبر ايه؟ هو انت واصل من السفر، تجول يا شر اشطر! ايه اللي حصل لدا كله يا غازي؟

ارتفعت قبضته في الهواء أمامها، يلوح بتماسك شديد حتى لا تنزل على وجهها او أي عضو آخر من جسدها، ليرد كازًا على أسنانه:
– يعني بتستهبلي وعاملة نفسك مش فاهمة، نايمة على سريرك زي المشلولة، وسايبة اختي تعجن وتخبزلك انتي وبناتك، كانت خدامتك هي يا بت؟

ابتعلت ريقها تجيب مبررة بفزع تخفيه:
– لأ طبعًا مش خدامتي، بس انا مجولتلهاش اعجني، ايه ذنبي ان كانت المحروسة جامت بدري وأتبرعت تعجنهم؟ ما هي من أهل البيت يعني مش غريبة عن……
قطعت ترتد بجذعها للخلف، وقد زاد بميله نحوها، بنظرة مخيفة شلت أطرافها ليردد بحدة لا تقبل النقاس:

– وعشان ما هي من أهل البيت تجوم هي بشغله وتيجي انتي هانم عليها، صح؟ اسمعي اما جولك، روح دي ست الدار، وطول ما هي في بيتي، متجلش صحن حتى لحد ما تتجوز وتروح بيتها، يعني أمر انه بيتها والكلام الفاضي ده ميخلش عليا، البت في بيت ابوها تتجلع على كيفها، ولا انتي متجلعتيش؟

ابتلعت باقي حديثها بحلقها تطالعه صامتة غير قادرة على المجادلة، ف استطرد امرًا:
– اخلصي يا للا جومي وغيري اللي انتي لابساه ده، محدش هيرصه في الفرن غيرك.
– امتقع وجهها بحمرة قانية تحدجه بحنق متعاظم، لم يأبه به، فزاد بحدة أعلى من السابق:

– إخلصي
انتفضت على الفور تنصاع لأمره، لتتجه نحو خزانة ملابسها، فجلس هو من خلفها على طرف التخت، ليخلع معطفه، ثم ساعته الغالية ذات الماركة العالمية المميزة، متغاضيًا عن الترهات التي تغمغم بها أمامه، وقد خلعت ثوب نومها، لتبقى شبه عارية وهي تبحث داخل الخزانة عن عباءة بيتية بتأني، علُه يتأثر ويتراجع بشوقه لها:

– ولا اكني عملت مصيبة؟…. كل ذنبي اني مسمعتش صوت المنبه وراحت عليا نومة…… دا بدل ما يعدل في المعاملة بيني واخته، دي مهما كان بت عمي برضوا….

التفت نحوه تنفض في الجلباب بقصد اهتزاز جسدها أمامه، لتكمل بنعومة معاتبة:
– وانا اللي مستنية جيتك ولا هلال العيد، تبجى دي مجابلتك ليا اول اما توصل؟

رمقها بامتعاض رافضًا الإستجابة لمحاولاتها، مما زاد على السخط بقلبها، لترتدي الجلباب سريعًا، تضيف على غمغمتها بدون تفكير في العواقب:

– رايح جاي يجولي اجلعتي في بيت ابوكي، طب انا اتجوزت على تسعتاشر ودلوك عندي خمسة وعشرين ومعايا تلت بنتة، ولسة المحروس اللي خطت التلاتين على حالها، نجعد بجى احنا نشيل في جرفها على ما يحل عسيرها، دا لو اتحل.

– أوجفي مكانك يا بت.
صرخة هادرة خرجت من عمق حلقه، ليوقفها مجبرة قبل أن تصل للباب، شعرت على أثرها ببرودة تزحف على طول سلسلة ظهرها، ورأسها المتشنح استدار بصعوبة نحوه، لتلتف إليه تواجه جزاء ما تلفظت به، جف ريقها، واقشعر بدنها فزعًا، بمواجهة جحيم غضبه، والذي بدا على ملامح وجهه الذي أظلم واحمرار عينيه الذي أكمل وحشيته، حينما صاح ملوحًا بسابته أمامها:

– كسر عضمك هو اجل رد على جلة حياكي دي، بس انا مش راجل ضعيف عشان امد يدي على مرة، حتى لو كانت تستاهل، لكن اعرف زين اربي اللي مشافتش الرباية في بيت ابوها….. اسمعي يا بت، يمين تلاتة لتنزلي دلوك وما تتحركي من جمب العيش لحد اما تخبزيه بنفسك في الفرن البلدي…. يعني تنزلي زي الشاطرة تنشفي الوجيد من تحت البهايم على ما يخمر العيش، وبعدها تولعي وترصي لوحدك لحد ما يستوي وتطلعيه بنفسك، ما اسمع بس ان اختي شالت رغيف واحد لكون منزل عليكي اليمين وتباتي من الليلة في بيت أبوكي…..

برقت عينيها ذات اللون العسلي بصدمة، ما زالت لا تستوعبها، أو أنها تكذب أذنها، لكن غازي لم يعطيها فرصة الأستفسار، صرخ بصوت اهتزت له الجدران:
– اخلصي حالًا غوري من وشي، ونفذي اللي بجوله.

على الفور تحركت قدميها اَليًا، لتنفذ أمره قبل أن يفتك بها.

❈-❈-❈

وفي مكان آخر

وقد توقفت السيارة النصف نقل، ليترجل منها الرجل الخمسيني، يسعل بحشرجة وهو يجاهد للإستقامة في وقفته وعدم الترنح، سحب عدة انفاثٍ سريعة من سيجارته قبل أن يدعسها تحت حذائه، وهم للتحرك ولكنه توقف قليلًا، وعيناه تقيم المنزل الكبير
من الخارج.

ما زال عصيًا على الزمن ويحتفظ ببهائه رغم مرور اكثر من نصف قرنٍ على بناءه، شامخ بإباء رغم شيخوخته، عنيد صلف كصاحبه، وكأنه ارتوى بطباعه من وقت أن قام ببناءه.

بموقعه الاستراتيجي في سط البلدة وقربه للطريق العام بها، مما يجعله محط انظار المارة في الذهاب والإياب، ومطمع لكل من يملك المال.
تمتم بداخله بتمني بعد تذكره لاَخر مبلغ عرض عليه في مقابل بيعه:

– مازالت معاندًا على التصدع ولا تتأثر بعامل الزمن، ولا حتى بهزة ارضية وكأن مع بناءك اخذت عهدًا مع صاحبك على الصمود حتى النهاية، ولكن وليكن ياصديقي، فقريبُ أو بعيدُ هذا اليوم؛ ستأتي ساعتك، وسأرى انهيارك لتتساوى بالارض التى أقف عليها الاَن،

بعد أن أقبض ثمنك الذي سيرفعني ويعلي بقدري أمام الجميع، وليعطيني الله الصبر حتى وقتها أو يجعله قريبًا…. اللهم اَمين.
خرجت الاخيرة بصوت واضح وهو يتقدم نحو باب المنزل ليلج بداخله وقد استقبلته والدته العجوز بالترحاب كعادتها رغم تعجبها :

– فايز ولدي! كدة على وش الصبح كمان؟ جرا حاجة في الدنيا ولا ايه؟
اقترب يضع قبلة خفيفة وجنتها قبل أن يتمتم كلماته بنزق:

– طب سلمي الأول ولا ردي الصباح، وبعدها اتمسخري براحتك.
تطلعت عينيها للخلف بفضول، لتردف مصححة:
– اعوذ بالله من المسخرة يا ولدي، أنا بس مستعجبة سبب الشجة الغريبة دي كدة على اول الصبح، دا غير اني مشيفاش المحروسة مرتك، ولا حد من العيال اللي بتجرهم دايما معاك

قلب عيناه بسأم ليتحرك للداخل مرددًا بتأفف:
– انا مش جاي من مخي ياما، عشان اعمل حساب مرتي والعيال معايا، جوزك هو اللي طلبني امبارح ع التليفون، وطلبني أحضر عاجل في أمر هام، ع العموم لو مشتجالهم جوي يعني، انا ممكن اتصل يحضروا حالاً.
توقف بنظرة ذات مغزى متابعًا:
– بس اخاف لترجعي في كلامك لتزعلي المحروسة التانية، وانتي مش حمل جلبة بوزها.

قبضت سكينة على حزن قلبها مما يفعله ابنها من ظلم في حق زوجته الأولى ابنة عمه سليلة الحسب والنسب، تربية يدها يتيمة الأبوين، وولدها زينة شباب كفرهم، بسيرته الحسنة واخلاقه الكريمة التي يشهد على حُسنها القاصي والداني، من أجل هذه المرأة التي لفت عقله بدهائها وميوعتها لتجعله كالخاتم في إصبعها فقالت بتماسك زائف اظهر ضيقها:

– وبتجول عليا انا اللي بتمسخر يا فايز؟ الله يسامحك يا ولدي، ع العموم، بيت ابوك مفتوح دايمًا، وفي أي وجت، ومهما حصل من خصومة ولا خناج، الضفر عمره ما يطلع من لحمه،

اومأ رأسه لها بعدم اكترات، لا يلقي لكلماتها اهتمام، ولا حتى بغصة الوجع التي تجلت في نبرتها، وهي تشير بيدها للأمام:

– ابوك جوا، ادخل شوفه عايز ايه؟ أكيد جاعد مستنيك.

لوى ثغره بحنق قبل أن يبتعد ذاهبًا عنها نحو وجهته بداخل المنزل الفسيح، تاركًا والدته تضرب كفًا بالاَخر بيأس، وقد فقدت الأمل من اعتدال ولدها أو استقامته.

❈-❈-❈

وبداخل الغرفة الواسعة والتي كان يجلس بداخلها عبد المعطي الرجل الكهل على أريكته الخشبية يسبح بمسبحته العقيق، ولج إليه فايز يلقي التحية ببعض التقدير والرهبة من هيئته:
– صباح الخير.

ظل الرجل مطرقًا برأسه لبعض الوقت قبل أن يرفعها برتابة يحدجه بنظرة غامضة على وجهه المتجهم، وفمه المطبق بخط قاسي لم ينبت ببنت شفاه، شعر فايز بعدم الراحة فابتلع ريقه بتوجس وهو يخطو بتردد حتى جلس بالقرب منه فوجه سؤاله إليه بريبة:

– جيت على اتصالك بخصوص الأمر الضروري اللي جولت عليه، خير بجى؟

تحركت أخيراً عضلة بوجه عبد المعطي، يومئ بذقنه نحو الطاولة الصغيرة والقريبة من فايز قائلًا باقتضاب :

– خد الورجة اللي قدامك دي الأول وشوفها، وبعدين نتكلم.
اذعن فايز لمطلب أبيه فتناول الورقة الصغيرة لينظر فيها، قضب قليلًا، فاتسعت عيناه بمفاجأة، قبل أن يستدرك سبب الغضب المرتسم على وجه أبيه، لكن سرعان ما اتخذ القرار داخله في مواجهة الرجل، فالتوى ثغره بزاوية ووهو يعيد الورقة لمكانها وكأنه يتوقع الاَتى من حديث الرجل وبعدها اتجه نحوه يسأله بلؤم رغم معرفته المسبقة بالإجابة :

– كيف وصلتلك؟

امتقع وجه الرجل بغضب مكبوت، حتى اهتز له جسده، قبل أن يتمالك بصعوبة، ليميل بجلسته نحوه، مقربًا عينيه الحادة نصب خاصتي الأخر، ليخاطبه بنظرة كاشفة:

– بتستهبل وعايز تعمل نفسك مش فاهم حاجة، إنت يا فايز مش عارف كيف وصلتني؟ ياخي عيب على طولك.

احتد الاخر وتهدجت أنفاسه، ليهتف بغضب واحتجاج:

– وايه لازمة الشتيمة وجبة الجيمة دلوك؟ مينفعش تكلمني بأدب واحترام، ولا انت باعتلي كدة ع الصبح مخصوص عشان تمسح بكرامتي الأرض.

لم يستطع الرجل التماسك أكثر من ذلك، فهدر عليه غاضبًا:
– وايه اللي يمنعني من شتيمتك ولا تهزيجك؟ ما انت اللي بتجيب الإهانة لنفسك، بعمايلك السودة، ايه اللي يمنعني وانت مفيش حاجة بتحوج فيك ولا بتوب، جتتك نحست، معدتش ينفع فيها ضرب ولا أي شيء تاني

زاد الاحتقان بقلبه، وكم الإهانات التي يتلقاها جعلته كالوحش يصيح بأبيه”
– انا مسمحلكش، مش عيل صغير جدامك انا، عشان اسمع منك واجعد ساكت، انا مش جليل عشان اسكت على جلة الجيمة دي؟

هز عبد المعطي رأسه أَسفًا، ليردد بصوت واهن اهلكه الجدال والهم، ضاربًا بكف يده على ذراع الاَريكة الخشبي:

– ما هي دي المصيبة؛ انك مش صغيرًا أو حتى شاب فاير جديد عشان نعرف نبرر للناس افعالك وجلة عقلك، ولكن الكارثة اللي هتجبلي جلطة من جهرتي، هي انك راجل كبير ، لأ وجد كمان.

تأفف فايز زافرًا من فمه يخرج دفعة كثيفة من الهواء الساخن والمشبع بحقده، قبل أن يرد على والده بنزق:

– جدً لكن برضوا صغير، أنا راجل مكلمتش الخمسين، لكن انت اللي كبرتني قبل أواني لما زوجتني لبت اخوك على سنٍ صغير، ولما كبر ولدي، كمان جوزته في نفس السن، عشان تكبرني جبل أواني، أنا لسة شباب وفي عزي.

تغضن وجه عبد المعطي بسخط، وظل لعدة لحظات يجاهد لانتظام أنفاسه ومحاولة التماسك؛ حتى لا يقع أو تصيبه ازمة قلبية جراء كلمات ولده المستفزة، حتى خرج رده اَخيرًا ببعض الهدوء الذي لا يخلو من السخرية:

– ماشي يا راجل يا صغير يا عاجل، يصح برضك تتداين بالفلوس من واحد زي صدقي ابو سليم، وبالمبلغ الكبير ده؟ وانت عارف ومتأكد بغرضه الأساسي في انه يركبك الديون عشان يضغط عليا في البيت اللي هيموت ويشتريه

رد فايز ببرود كاد أن يصيب أبيه بالشلل:
– انا مستلفتش سفه ولا من غير سبب، محدش ذلني ليه غير الحوجة.

عاد عبد المعطي لصراخه بانفعال :
– حوجة يا بارد يا عديم الفهم، حوجة وانت لا جوزت بت ولا بنيت لك بيت جديد، يا راجل دا انت بتجبض مني اول كل شهر، مع مرتب المصنع اللي شغال فيه، ولا اللي بيوصلك من ريع الأرض اول بأول، لكن كيف؟ كيف هيكفي مزاج رأسك من الشرب والخمرة؟ كيف هيكفي صرف الغندورة مرتك، بمصارفيها اللي ما بتنتهيش، لا هي ولا اولادها، وكأنهم بيغرفوا من بير ملوش جرار.

انتفض فايز على سيرة زوجته المعززة، والتي لا يحتمل عليها كلمة من والده او والدته لعلمه الأكيد بكراهيتهم لها هي واولادها ليصيح بغضب:

– هو دا بس اللي واخده منكم، كل شوية مرتك جالت، مرتك عادت، لا بتطيجوها ولا بتطيجوا الأرض اللي تحملها، وكل ده بسببها! السبب الرئيسي اللي مخليكم كارهين حتى ولادي منها، عشان بت اخوك، حبيبك

دوى صوت رجولي فجأة بالقرب منهم موجهَا حديثه لهما:
– صلوا على النبي يا جماعة، ايه اللي حصل بس؟ ومخلي صوتكم واصل لاَخر الشارع برا!

انتبه الاثنان والتفت رؤسهما الى صاحب المقولة، لتختلف النظرات من أعين فايز الذي حدج الشاب بنظرة حاقدة وكارهه وعين العجوز، الذي ارتخت ملامحه المتشددة ولانت لهجته وهو يخاطبه برفق:

– حمد لله على سلامتك، اطلع لمرتك وعيالك فوج يا حبيبي، عشان تريح جتتك من تعب الشغل، دي حاجة بسيطة بيني وبين ابوك.

– ويطلع ليه؟ ما تخليه يتفرج على ابوه وهو بيتهزج وبيتهان على يدك، على الاجل ينجل لامه يمكن تهدى ولا يشفى غليلها مني، ولا إيه رأيك يا حيلتها؟

هتف بها فايز وهو يتقدم بخطواته نحو الشاب حتى لكزه بطرف كفهِ، صعق حجازي من فعله، وتهجمه باللفظ بدون مبرر، وجاء الرد من الجد بحزم:

– سيب الواد في حاله يا فايز، ولا انت مصدجت تلاقيه في وشك عشان تحط غلبك فيه.

هتف فايز وهو يتطلع إلى الشاب بكره لا يعرف سببه حجازي كلما رأه، او تقريبًا منذ نشأته ووعيه:

– طبعا مش متحمل عليه كلمة، وانا ليه هستعجب؟ ما هو حبيبك، وتربية يدك، اما ابوه فشيطان ويستحج الرجم، مش كدة يا بوي؟

صرخ عبد المعطي بانفعال خرج عن سيطرته:

– اطلع برا يا فايز، خلاص انا جفلت منك ومعدتش طايح اشوف وشك حتى.

صاح فايز بسخرية وهو يستدير ليغادر من أمام نظراتهما المذهولة، غير عابئًا بنتائج ثورته ولا بأثر كلماته السامة على الاثنان
– ماشي وسايبهالك، لا تكون مفكر انك هتطردني من سرايا عابدين.

سقط عبد المعطي بتعب فور خروج ولده فاتجه إليه حجازي مهرولًا بقلق ليطمئن:
– مالك يا جد؟ ايه اللي حصل؟ لتكون مخدتش علاجك النهاردة؟

أطرق الرجل برأسه يتنهد بعمق، قبل أن ترتفع أنظاره نحوه بنظرة غامضة غير مفهومة وكأنه حسم قرار ما بداخله.

❈-❈-❈

خرج فايز بنيرانه المشتعلة وحقده الدائم والاَزلي لهذا الولد أكبر أبناءه كما يقولون، ولكنه لا يعتبره كذلك، فشعور الكراهية نحوه تزداد يومًا بعد يوم، في البداية كان بسبب والدته سليمة ابنة عمه التي تزوج بها صغيرًا قبل أن يعي بمباهج الدنيا من النساء الجميلات،

محظيتها برعاية والداه وحبهم الشديد لها ولمثاليتها
المستفزة، والتي اورثتها لابنها ليفوز بتقدير أهل البلدة كلها، وليس أبويه فقط، ويبقى هو في نظر الجميع؛ الفاسد البائس، زفر من عمق صدره بضيق وهو يسب بالكلمات الوقحة حتى وصل بسيارته لمقر سكنه، مع زوجته الثانية شربات واولاده منها.

ولج لداخل المنزل بخطواته المسرعة يلقي التحية باقتضاب، قبل أن يصل لغرفته، وكما توقع أتت خلفه شربات سائلة بدهشة:

– ايه اللي طلعك بدري من شغلك كدة يا فايز؟
غمغم بكلمات غير مفهومة وهو يخلع في حذاء قدميه، وتابعت هي هاتفة:
– ما ترد يا راجل وجعت جلبي، لتكون اتعركت مع حد هناك من زمايلك، ولا رئيسك زي ما عملت المرة فاتت؟

رمقها بنظرة ممتعضة، ثم استدار، ليتناول شيئًا ما من أعلى علاقة الملابس ليرتديه، بعدم اهتمام حتى استفزها لتصرخ به:
– خبر ايه يا فايز؟ مش راضي تعبرني بكلمة، كنت كلبة جدامك بهوهو .

صاح بها بنزق يحدجها بغيظ وضجر، لإلحاحها المستمر :
– مصدع يا جزينة، ومعنديش مجدرة للت والعجن، كفاية عليا عركة واحدة ع الصبح.

شهقت تردد بلهفة وهي تقترب من الفراش:
– انت اللي جولت بنفسك، وجيبت سيرة العرايك، يبجى تريحني ولو بكلمتين صغيرين حتى.

زفر متأفافًا يلعن بكلمات شتى، متذمرًا منها ومن حصارها له، حتى استجاب مجبرًا للإجابة:
– اتعركت مع ابويا يا حضرة المفتش كرومبو، اتصل بيا بعد ما طلعت من البيت النهاردة، وانا رايح على الشغل، طلب حضوري ضروري، روحت لجيتوا مستنيني بوصل الأمانه اللي اخده عليها صدجي ابو سليم، بعد ما دفع جيمته، واستلمني بجى يسمم بدني على كل جرش دفعه.

– ااه

تفوهت بها بتفهم وهي تجلس بجواره ثم اقتربت تمسح براحتيها على عظام ظهره في الخلف مرردة بنعومة:
– يعني هو دا اللي عكر دمك، يا راجل متبجاش حنبلي، وفوت زي ما بيجولوا، اهم حاجة دلوك هي انك خلصت من الدين اللي لافف على رجبتك، وعدت زي كل المرات اللي فاتوا.

زفر أنفاسه بخشونة، ليعقب على قولها بحدة وتهكم:
– شافاني خرتيت جدامك يا مرة انتي ولا ايه؟ ولا فاكراني عديم الاحساس عشان متأثرش، لما ينجص من رجولتي، ولا اكن عيل صغير؟…… الموهبة دي مش عند كل الناس كيف عيلتك.

التوى ثغرها تأثرًا بعبارته فقالت ملوكة فكيها:
– وايه الداعي بجى للمسخرة على عليتي يا فايز باشا، كانوا عملولك ايه الناس الغلابة؟

تبسم ساخرًا يزيد عليها باستخفافه:
– وهو انا جيبت حاجة من عندي؟ ولا انتي نسيتي اللقلب الكريم عليكم ( عيلة التنج)

زفرت متأففه تحدجه بنظراتها النارية وهي تهزهز أقدامها جواره بعصبية، اثارته حنقه أكثر فهتف غاضبًا:
– متعصبيش أمي بهز رجليكي ده، انا على اَخري، غوري وسيبني انام

قالها وتحرك ليبتعد عنها، يخلع عنه معطفه، ثم دفعه على الارض بطول ذراعه، فازادت هي من قربها متاجهلة سخريته من عائلتها، تعود لنعومتها السابقة:
– ماشي يا فايز، انا برضوا مش هزعل منك، عشان مجدرة حالتك وزعلك من أبوك، عشان انا جلبي ابيض، وانت عارف كدة زين.

أومأ لها على مضض لينهض خالعًا عنه القميص القماشي، ثم ارتمي على تخته قائلًا:
– تشكري يا ستي، كملي جميلك كمان، وسيبني اخطف ساعة ولا ساعتين نوم، اريح فيها جتتي، مدام كدة كدة انحسب يوم غياب في المصنع، متصحنيش غير على ميعاد الغدا، ممكن يا سنيورة

نهضت تهتف بميوعة وتشير بسبابتها على الجهتين من وجهها:
– من عيوني الاتنين يا سيد الناس أنت، أحلى وكل لأحلى فايز
نظر في أثرها وهي تخرج من أمامه بوجه واجم، ثم التفت ليندس تحت غطاء فرشته يغطس في نومٍ عميق، غير مبالي كعادته.

❈-❈-❈

وعودة إلى المنزل الكبير وبالتحديد في الطابق الثاني منه والذي يسكنه حجازي الحفيد مع والدته وزوجته وطفله الوحيد معتز، والذي هرول إليه بمرح بمجرد رؤيته قادمًا من الخارج عائدًا من عمله، ليتلقفه بذراعيه بحب وسعادة وهو يقبله ويداعبه ليُصدر أصوات ضحكاته الصاخبة مع تحركه به للداخل .

– سيبه ياخد نفسه الأول يا ولدي، اللعب مش هيطير.

هتفت بها والدته وهي جالسة على إحدى كنب الصالون بوسط الصالة، تمسك بيديها قطعة من ملابس الصغير، لتحيك مثلها نسخة أخرة بألأبرة والخيط، قبل أن يأتي دوره على مكنة الخياطة، بهواية تلازمها، ودائمًا ما تجد بها السلوى لشغل وقتها الفارغ، وعدم التفكير بأشياء تضر

رد حجازي وهو يتقدم بصغيره، حتى جلس يجاورها على الكنبة بعد أن قبلها على رأسها:
– سبيه ياما يجلع على حس ابوه، دا جلعه ده على جلبي أحلى من السكر.

ربتت على ذراعه سليمة بابتسامة شقت ثغرها تقول بحنان:
– يديمك في حياته دايمًا يا ولدي، وتجلعه على كيفك، بس انت جاي هلكان من الشغل يا نضري، من سفرك في الليالي وحمولة المقطورة الكبيرة وانت سايج بيها، لكن جولي، فطرت ولا اروح أحضرلك لجمة تأكلها.

دغدغ بأنفه على عنق الصغير جعله يقهقه بصوته المحبب قبل ان يجيب والدته:
– ما تتعبيش نفسك يا ست الكل، انا كلت لي كام سندوتش ع الطريق، وحبست كمان بكوباية شاي، يعني اخر تمام، ناجصني بس فرشتي اريح عليها زي ما جولتي

-‘خلاص ييجى تجوم على طول… بس استنى صح؟.
قطعت بتذكر:
– كنت عايزة اسألك عن صوت العراك الشديد اللي كنت سماعاه من شوية، انا مرديتش انزل لما ميزت صوت ابوك.
طرد من صدره تنهيدة مثقلة بالهم الذي اعتلى قسماته، لينزل الصغير من حجره يأمره بحنان ليلعب بلعبته، ثم التف بجذعه اليها بوجه واجم يرد:

– ايوة ياما، العركة كانت بينه وبين جدي شديدة جوي، معرفتش السبب، بس غضب جدي خلاني خمنت انه عمل مصيبة كبيرة
بابتسامة لم تصل لعينيها قالت سليمة بسخرية مريرة:
– هو دا ابوك وعمره ما هيتغير ولا يستريح، غير لما يجيب أجل جدك، لاجل ما يورثه، ويحط يده على البيت ، وساعتها يطردنا منه، أنا أدرى الناس باللي شايله براسه منينا، زي ما انا عارفة زين بشر الحية مرته.

بنظرة ساهمة شرد في كلمات والدته، والتي برغم قسوتها، الا أنه يعلم جيدًا انها تصيب الحقيقة، قطع شروده وصول الرائحة العطرة التي دغدغت أنفه، لينظر باتجاه صاحبتها وهي تخرج اليه قائلة بوجهها الندي الذي زينته ابتسامتها الرائعة وشعر رأسها المبتل انفلتت خصلاته على جانب صدغيها من تحت المنشفة التي تلف رأسها بها، وتفاح وجنتيها بدا بأجمل صوره، وكأنه يدعو لقطفه

– حمد لله على سلامتك.
ردد التحية بقلب يقفز فرحًا مع كل مرة يراها بها، رغم زواجهم الذي مر عليه أكثر من سبع سنوات .
– الله يسلمك، حمام الهنا..

توسعت ابتسامتها لتردف بخجل وهي تتحرك وتتركهما وقد شعرت بالسخونة، تزحف لوجنتيها على الفور :
– الله يهنيك يا سيدي، تحب احضر حمامك؟ ولا اعملك فطار الأول؟
تحركت رأسه باعتراض، يجيبها:
– لا دي ولا دي، روحي انتي سرحي شعرك وانا هدخل مع نفسي اخدلي دش سريع عشان اجدر أنام.

– يبجى هحضرلك الحمام.
تفوهت بها بتصميم، ثم تحركت نحو وجهتها، ليضل يتابع سيرها عيناه بشغف وعشق لا ينتهي، استفاق من شروده، على اثر لكزة تلقاها على خصرة من مرفق والدته التي خاطبته بهمس:

– روح حصلها.

قطب يسألها بعدم تركيز:
– ها!
لكزته مرة أخرى قائلة بحزم:
– بجولك روح حصلها، خليها تدعكلك ضهرك، وتريح عضل رجبتك شوية بيدها الناعمة، جبل ما تاخد الدش بالمرة، وانا هراعي الواد.

توارى بوجهه عنها بحرج، إلا أنها كررت فعلها بحزم تأمره:
– يا واد هو انت هتتكسف مني؟ اخلص ياللا .

انتفض ينهض من جوراها متمتًا بحرج متزايد وابتسامة ملحة لم يقوى على كبتها:
– يا بوي عليكي يا سليمة، وعلى عمايلك، باه.

❈-❈-❈

ولج لداخل غرفته معها، كانت أمام المرأة تمشط شعرها، فنهضت على الفور لتساعده في خلع معطفه الثقيل، غير مبالية بشعرها الذي لم يكتمل تصفيفه، والتفت لتضعه على المشجب خلفها، وبمجرد أن استدارت أليه، تفاجأت بها يطوقها بذراعيه، مرددًا بمرح:

– وحشتيني يا ام عيون كحيلة.
رفعت ذراعيها لتحيط وجهه قائلة بعشق:
– مش أكتر مني، يا للي متتكحل عيني غير برؤياك.
قبلها على وجنتها الوردية ثم رفع رأسه، يتنشق من رائحة الياسمين، يملأ صدره، ثم قال بصوت متحشرج:
– ريحتك لوحدها بتنعش روحي،

وضع راحته على صدغها ليملي عيناه من حسنها واستطرد:
– وبنظرة من جوز العيون اللي تسحر دي، بحمد ربنا انك بجيتي من نصيبي، لاحسن كنت هروح صريع حلاهم.

قهقهت بضحكة صدحت صوتها في أرجاء الغرفة، بسعادة تتكتنفها في كل مرة يغدق عليها بغزله، والذي لم يتوقف عنه، حتى بعد مرور هذا العدد من السنوات بينهم،

زاد من ضمها بقوة إليه متابعًا بتأوه:
– اه يا نادية، لو تعرفي ضمتك دي بتعمل فيا ايه؟ مهما وصفت الراحة اللي بحسها في حضنك يا جلبى، لا يمكن هعرف اعبر.

شددت هي أيضًا بذراعيها، تبادله الإشتياق بالإشتياق،
بالفعل قبل القول:
– يا جلب نادية، وانا بعشج التراب اللي بتمشي عليه، يا حجازي الجلب يا حب عمري.

اخرجها من حضنه ليناظر وجهها قائلًا بابتسامته الجميلة:
– تعرفي يا نادية، انا بكلامك ده افتكرت السؤال اللي كان دايمًا بيلح على راسي من يوم جوازي بيكي، كيف يا مجنونة تجبلي بسواج في شركة المطاحن؟ وترفضي واد عمك صاحب الأراضي والأطيان؟ كيف؟

دوت صوت ضحكتها الطفولية تردد خلفه بمرح وهي تفتح خزانة الملابس، لتُخرج له ملابس منزلية يبدلها:
– انت قولتها يا حجازي، مجنون، بس مجنونة بك.

– كمان مجنونة بيا؟
عقب بها يدعي السخرية بعد أن جلس على طرف التخت يخلع عنه حذائه، ليواصل بمزاح:
– كانك مجنونة صح يا جزينة، مدام سيبتي أهلك اللي مالكين نجع الدهشان، وأجل واحد فيهم يملك فدان اراض لوحده، وجيتي هنا تتحشري معايا في بيت العيلة، اللي عدى عليه خمسين سنة.

اغلقت باب الخزانة لتلتف اليه، حاملة الطقم القطني المريح، وتنهدت براحة تقول بنبرة عاشقة متملكة:
– ولو حتى سكنتني في عشة جريد على جمب المصرف، برضوا كنت هوافج بيك، وارفض الأطيان والبيوت.

❈-❈-❈

خلف المبنى، حيث الاثاث الزائد وبعض الأشياء التي تبدوا فاقدة القيمة، كجزوع الاشجار الجافة، ومخلفات المحاصيل بعد حصدها، بالإضافة لفضلات البهائم والغنم، والتي يتم تجفيفها لتُصبح اداة فعالة لأشعال الفرن الطيني حتى يتم تسخينه بدرجة عالية كي يصلح لنضج الخبز،

وظيفة شاقة ومرهقة ما زالت تمارسها اعداد كبيرة من النساء مما اعتدن على ذلك، أما هي فقد كانت المهمة لها أشبه بحفر في فوهة الجحيم، مع الدفع المستمر في الإشعال، وهذه السخونة الحارقة والتي تسببت لها في عدة مرات ببعض لسعات خاطفة، رغم حرصها الشديد، بالإضافة للإهانة التي تشعر بها، باتخاذ الخادمات لموقف المشاهدة، دون تكلف واحدة منهم بالزود عنها في هذا الفعل المهين لها كسيدة الدار، بل والبلد أجمعها.

ولكن كيف يتم ذلك؟ وقد صدر الحكم منه شخصيًا، هذا المتجبر على زوجته وأم بناته، وكل هذا من أجل عيون مدللته، هذه الملعونة التي تعيش أميرة رغم موقفها المخزي كعانس رفضت كل من تقدم لها، وقد تسببت قبل ذلك في مشكلة كبيرة كادت أن تدخل الفرقة بين افراد العائلة، حينما فضت خطوبتها بابن عمها عارف.

لتظل معها في المنزل جاثمة على أنفاسها، بهذه الرقة المصطنعة، تملك قلب شقيقها من أجل أن تقلبه دائمًا عليها، بمكر النساء الذي تعرفه هي جيدًا، تبًا لها ولشقيقها ايضًا، جسد البغل الذي لا يقدر النعمة التي بيده، عديم الرحمة مع واحدة مثلها، اجمل نساء العائلة والبلدة بأكملها، هي الوحيدة التي تستحق التدليل، هي الوحيدة من يليق لها معاملة الهوانم،

صاحت بحدة نحو احدى الفتيات :
– هاتي شوية عفش تاني يا بت.
صدح الصوت من خلفها باعتراض:
– ما بزيادة يا فُتنة، الفرن بيضت من جوا، متزوديش أكتر من كدة، لا تحرج العيش.

التفت بنيرانها نحوها، تبصرها بحقد، وقد بدلت عبائتها العادية، لأخرى تليق بالإستقبال، تحممت وصففت شعرها، لتبدو بجمالها المعتاد، عكسها هي التي تغبرت وحمم الفرن طبعت أثارها على بشرتها وما ترتديه، حتى قد بدت مزرية بمظهرها، مما جعل لسانها ينفلت في الرد دون تحجيم أو سيطرة:

– وانتي مالك؟ تحرجه ولا اطلعه ني حتى، ايه اللي دخلك؟ مش خلاص شيلتي يدك بعد ما فتنتيني مع جوزي.

أجفلت روح بهذا الرد الحاد من صاحبة اللسان السليط، ولكنها سرعان ما تمالكت غضبها، لتعقب مقارعة لها:
– الله يسامحك يا بت عمي، ع العموم انا مش هرد على كلامك الواعر ده، بس ياريت متجبيش اللوم على غيرك وانت عارفة واد عمك زين وعارفة طبعه العفش، وانا لولا اني خايفة على اليمين لينزل عليكي، ما كنت جبلت أبدًا تاخدي خبزتي، اللي عجنتها وجطعتها لوحدي، وانتي لساكي نايمة.

لفظت بالاَخيرة، ثم تحركت ذاهبة، تاركتها بغيظها وقهرها، تطلعت في أثرها حتى ارتفعت رأسها نحو المنزل، ف انتبهت على وقوفه بشرفة خلفية لإحدى الغرف، واقفًا بهيبته ووجهه المتجهم، وكأنه كان متابعًا لما حدث، مما أنبأها أن العقاب لم ينتهي بعد، فعادت بجزعها تزيد من اشعال الوقود ولسانها يردد:

– الله يحرجك يا روح، يارب تموتي عشان استريح منك ومن خلجتك دي خالص.

يتبع…..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ميراث الندم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى