روايات

رواية ميثاق الحرب والغفران الفصل السادس والأربعون 46 بقلم ندى محمود توفيق

رواية ميثاق الحرب والغفران الفصل السادس والأربعون 46 بقلم ندى محمود توفيق

رواية ميثاق الحرب والغفران البارت السادس والأربعون

رواية ميثاق الحرب والغفران الجزء السادس والأربعون

ميثاق الحرب والغفران
ميثاق الحرب والغفران

رواية ميثاق الحرب والغفران الحلقة السادسة والأربعون

ظلت متسمرة بأرضها وهي تطالعه بتوتر، ترى نظراته القاتلة التي في عيناه فيزداد اضطرابها أكثر، والصمت المرعب كان سيد الموقف بينهم حتى توقف هو أخيرًا وتقدم نحوها بخطواته الثاقبة ووقف أمامها مباشرة ليحدق في عيناه بحدة ويهتف بنبرته الرجولية المريبة:
_أنتي قولتي لأبوي وعفاف إيه؟
طالعته بصمت تام طويلًا دون رد، كانت لا تجد الشجاعة الكافية للإجابة على سؤاله، تخشى طوفانه المدمر ووجدت أن السكوت هو أفضل حل لكنه صاح بها منفعلًا:
_ما تنطقي!
رغم خوفها إلا أنها ظلت ثابتة ونظراتها كلها ثقة لتجيبه في النهاية بهدوء تام:
_قولتلهم الحقيقة اللي مكنوش شايفينها
عمران بنبرة تحمل السخرية الممتزجة بغضبه الشديد:
_عشان توقعي الكل في بعضه
هزت رأسها بالنفي وهي مازالت محتفظة بثباتها الانفعالي التام وتجيب:
_لا لو كنت عاوزة اوقع الكل في بعضه كنت خليت الكل يعرف الحقيقة لكن أنا كان هدفي محدد
رفع حاجبه مستنكرًا جرأتها في التعبير واشتدت حدة نظراته المخيفة، حتى الآن هو متحكم بانفعالاته وثورانه ويتحدث بهدوء غريب لا يبشر بالخير أبدًا.
أجابها بوجه تملأه تعبيرات مريبة وصوت خافت يحمل بحة رجولية مهيبة:
_وأنتي متأدركتيش أن بسبب حقدك وتهورك وتصرفك من غير أذني أن أبوي كان ممكن تحصله حاچة وميطلعش منها وأنها الحمدلله چات على قد إكده
بتلك اللحظة تحول توترها وخوفها منه لقوة وشراسة تليق بها وبشحصيتها المتجبرة حيث انتصبت في وقفتها بشموخ وتقدمت خطوة أكثر نحوه حتى أصبحت لا يفصلها عنه شيء ونظرت في عيناه بشجاعة وحرقة وهي تهتف:
_طب ما أنا برضوا أبوي مات وهو مكنش له ذنب في حاچة واتقتل غدر.. مفيهاش حاچة لما كل واحد ياخد چزائه والعدل يسير
نجحت في إيقاظ الوحش النائم وافقدته قدرته على الثبات أمامها لآخر لحظة، حيث انفجر بها صارخًا بعصبية:
_وهو أنتي اللي هتمشي العدل ولا إيه!!.. ولا يمكن هتروحي أنتي بنفسك تقتلي أبوي وتاخدي حق أبوكي كيف ما عملتي معايا
عبارته الأخيرة وهو يذكرها بما فعلته معه ليثبت لها أنه لم ينسى وربما لن ينسى وسيظل يضربها بالماضي في كل فرصة، أصابت قلبها وجعلت عيناها تلمع بالعبرات لكنها تصنعت الصمود وهي تجيبه بصوت خافت ومبحوح:
_مكنتش هقتله بس كنت هعمل حچات كتير قوي تاني ويمكن اللي مانعني من أني اعملها أنه أبوك للأسف
تقهقرت للخلف عندما وجدته يلتصق بها أكثر وهو يصيح منفعلًا بصوته الرجولي المرعب:
_هتعملي إيه أكتر من اللي عملتيه
امتلأت عيناها بالدموع وهذه المرة فشلت في عدم اظهارهم حيث أجابته بصوت موجوع وقوي:
_أنا قولتلك ياعمران لو هتقف في صف أبوك فأنا مش معاك، وأنا مش قادرة اعيش في البيت ده معاه اكتر من إكده.. كل ما بشوفه بفتكر منظر أبوي وهو غرقان في دمه
سكتت للحظة ثم تابعت بانهيار رغم أنها مازالت تتصنع الصمود المزيف:
_لو هتختاره هو وتتغاضى عن جريمته يبقى الأفضل من دلوك أن كل واحد فينا يروح لحاله ونتطلق
التزمت الصمت لبرهة من الوقت تلاحظ تعابير وجهه المندهشة والساخطة بنفس الوقت من كلمتها الأخيرة بالتحديد، فتابعت وقد انهمرت دموعها على وجنتيها أخيرًا:
_يمكن دلوك أول مرة احس بالندم أني حبيتك، لأن احنا چوازنا وعلاقتنا مستحيلة وكنت عارفة زين من البداية أن هياچي يوم والتار والدم هيفرق الكل كيف ما عمل من سابق، لا أنت هتقبل أبوك يتقتل ولا أنا هسيب حق أبوي، عشان إكده الفراق من دلوك هو احسن حل
اجفلت نظرها عنه وعن عيناه الغاضبة والمنصدمة لتبتعد بخطواتها وتتجه نحو الحمام تتركه وحده متسمر بأرضه كما هو عقله لا يسعه استيعاب ما تفوهت به للتو!!.
***
بمنزل خليل صفوان تحديدًا بغرفة جلال وفريال……
فتح جلال الباب ببطء ودخل ثم توقف بعد دخوله وثبت نظره عليها عندما رآها ساكنة فوق الأريكة وتحدق في الفراغ بشرود، تنهد الصعداء مطولًا ومد يده خلفه ليغلق الباب ويتقدم نحوها، جلس بجوارها على الأريكة وطال النظر إليها متمعنًا بحب وحزن، لا يريد أن يبقى بالمنتصف ويتحتم عليه الاختيار من بين الاثنين إما أبيه أو زوجته وأولاده، لم يمر على عودة علاقتهم كسابقها سوى عدة أيام وها هي تتجه نحو الهاوية مجددًا.
رفع يده ومد أنامله لشعرها يمسح عليه بلطف ويغلغل أصابعه بين خصلاته بحنو، حتى وجدها تلتفت له بوجهها وتتطلعه بضياع متمتمة:
_لساتك مصمم أن أبوي هو اللي قتل!
حدقها بأسى قبل أن يجيب بجدية محاولًا إقناعها:
_أنا مش مصمم يافريال دي الحقيقة ياحبيبتي، أنتي اللي مش عاوزة تقتنعي
هزت رأسها بالرفض التام وراحت تدفن رأسها بين راحتي كفيها تجيبه بغضب وسط بكائها:
_ومش هقتنع عشان مش مصدقة، أبوي لا يمكن يعمل إكده هو كان بيحب عمي خليل قوي وكانوا كيف الأخوات، دلوك عاوز تقنعني أن هو اللي قتله كيف!!
لانت ملامحه أكثر ولمعت عيناه بالإشفاق والحزن عليها فاقترب والتصق بها لكي يضمها لصدره مربتًا على ظهرها وذراعها بحنو هامسًا:
_اهدى يافريال.. اهدى
سكنت بين ذراعيه لدقائق معدودة وتوقف بكائها تدريجيًا حتى أنفاسها انتظمت، لكنها سحبت جسدها من بين ذراعيه ببطء لتبتعد عنه وترفع رأسها تنظر في وجهه وعيناه تسأله بوجع وخوف:
_يعني أنت دلوك هتاخد حق أبوك من أبوي وتقتله؟
ضيق عيناه برجاء وقد ظهر الشجن على قسماته، هو كان يخشى من هذا السؤال، يعرف جيدًا أن رغبته في الثأر لوالده قد تفقده كله شيء جميل في حياته، وهو الآن على مشارف خسارة أولهم.
ظلت تنظر إليه منتظرة الرد لكنها كانت تحصل على الصمت فقط ونظرات الأسف، مما جعلها تفغر شفتيها وعيناها بصدمة وبسرعة تهب واقفة من جانبه وهي تسأله بحدة:
_ما ترد عليا ياچلال.. أنت ناوي تعمل إكده صُح؟!!
للمرة التانية يجيب على سؤالها بالصمت وهو مكانه لا يتحرك، ونظراته أصبحت تحمل القوة وكأنها تجيب بدلًا من لسانه الذي لا يستطيع التحدث، فانهمرت دموعها غزيرة فوق وجنتيها وهي ترمقه مندهشة بعدم استيعاب ثم صرخت به منفعلة بقهر:
_هو حتى لو أبوي صُح قتل.. أنت تعمل زيه وتقتل، هو قتل النفس ده حاچة هينة وساهلة قوي بنسبالكم إكده!!!
مسح على وجهه وهو يزفر بخنق ثم استقام واقفًا ليطالعها بحدة ويهتف:
_أنا مش قادر اسيب حق أبوي وفي نفس الوقت مش عاوز اخسرك واللي كان مانعني كل ده هو أنتي عشان بس هو أبوكي للأسف
ضحكت بمرارة وبوجه باهت انطفأ منه الضوء أجابته في غضب:
_لا وتفكر فيا ليه عاد، ما أنت خلاص خدت قرارك ومخطط تنفذه.. ومش فارق معاك حد لا أنا ولا عيالك ولا حتى العيل اللي في بطني اللي بعد كام شهر هياچي على الدنيا والله اعلم لما ياچي هيلاقي أبوه عايش ولا ميت ولو كان عايش فأكيد هيكون في السچن
اشاح بوجهه للجهة الأخرى يتنفس بقوة محاولًا تمالك انفعالاته بعدما قذفت الحقيقة المرة في وجهه والتي يحاول التغاضي عنها طول الوقت، لكنها الآن ذكرته بمسئولياته تجاه أولاده وتجاهها، فعاد بوجهه لها مجددًا وصرخ بها منفعلًا بصوته الرجولي المرعب:
_عاوزاني اعمل إيه يعني اسيبه عايش متهني وانسى حق أبوي عشان بس هو أبوكي
صرخت هي الأخرى بعصبية وصوت به بحة عنيفة من فرط البكاء والانهيار:
_وهو مين اللي فهمك وفهمكم أن اخد الحقوق مهمتكم أنتوا.. في ربنا موچود وفي قانون، لكن أنت مبتفكرش غير في نفسك ومش هامك لا أنا ولا عيالك
أنهت عباراتها وحدقته بخزي قبل أن تهم بالانصراف وتركه لكنه قبض على ذراعها وجذبها ليعيدها إليه مجددًا وهو ينظر في عيناها ويهتف ساخرًا بألم:
_أنا بردك اللي مبفكرش غير في نفسي ولا أنتي!!
رغم الانهيار والحالة المزرية التي كانت فيها إلا أنها وقفت بثبات أمامه ولم تجيب فتابع هو بنفس النبرة لكنها كانت محملة بالإزدراء:
_أنتي مش حاطة روحك مكاني ولا حاسة باللي حاسس بيه رغم أن مفيش حد عارف أنا عشت إيه ومريت بإيه غيرك، لكن رغم كل ده بتفكري في أبوكي وبس ومش عايزة تخسريه حتى بعد ما عرفتي أن هو سبب كل النصايب دي، مش بتفكري أنا حالي كيف دلوك ولا مهتمة تعرفي حتى
دفعت يده بعيدًا عن ذراعها وصاحت به بحرقة:
_بعني أنت عاوز تقولي أنك هتقتل أبوي وأنا احس بيك وأوافقك مثلًا ولا إيه!!
ابتسم بمرارة ليسألها بحزم ووجع ظاهر في نظراته:
_يعني لو مكنش أبوكي اللي قتل كنت هتسبيني اقتل عادي
غضنت حاجبيها بصدمة وعدم تصديق لما تسمعه أذناها، ولاحت في عيناها نظرات العتاب والاستياء الشديد الذي جعلها تنفجر به وهي تصرخ بهستريا وتضربه فوق صدره منفعلة:
_انت ليه عاوز دايمًا تحسسني أني مبحبكش وأنك مش فارق معايا واهم حاچة عندي نفسي وبس، كيف ماهو أبوي حتى لو غلط فغصب عني مش هبقى عاوزة افارقه وأنت كمان چوزي وأبو عيالي ومش عاوزة اخسرك ولا ابعدك عني، أنت عاوزاني اختار بينكم وده مستحيل ياچلال.. أنا مش هقدر اختار و…..
انهارت قواها وضعفت فتوقفت عن الكلام وتراجعت للخلف وهي تبكي بحرقة وصوت مرتفع ملأ الغرفة بأكملها، جلست فوق الفراش وهي منخرطة في نوبة بكائها العنيفة وجسدها كله ينتفض، فاقترب هو منها وجلس بجوارها وكان سيهم بضمها لكنها صرخت به غاضبة وهي تبعده عنها وترچع للخلف:
_بعد عني واطلع برا هملني لحالي
لم يهتم لما تقوله وحاول للمرة الثانية فعادت تصرخ بحدة وهستيريا أكثر:
_قولتلك بعد
وللمرة الثالثة كان يتجاهل رغبتها ومحاولاتها البائسة في إظهار نفورها منه وكرهها، حيث احاطها بذراعيه عنوة وجذبها لصدره رغمًا عنها وبيديه يحكم القبض عليها حتى لا تخرج من بين قفصه، رغم مقاومتها ومحاولاتها للفرار لكنها باتت بالفشل واستسلمت في النهاية لتبدأ في البكاء الشديد من جديد فوق صدره تاركة نفسها غارقة بين ذراعيه وبحر غرامه وحنانه الذي تعشقه.
***
بغرفة ابراهيم وإخلاص داخل منزل ابراهيم الصاوي……
دخلت إخلاص من باب الغرفة وهي حاملة فوق ذراعيها صينية فوقها أنواع مختلفة من الأطعمة، نظرت لابراهيم مبتسمة بدفء ثم اقتربت منه بعدما أغلقت الباب ووضعت الطعام أمامه على الفراش هاتفة:
_حضرتلك العشا عشان تاكل وترم عضمك إكده
نقل نظره بينها وبين الطعام وعلى ثغره ابتسامة دافئة قبل أن يعتدل في موته وهي جالسًا ليجيبها بحب:
_تسلم يدك ياغالية يا أم الغالي
بادلته الابتسامة بينما هو فبدأ في تناول الطعام بنهم وفي وسط الأكل نظر لها عندما وجدها لا تأكل وقال:
_مبتاكليش ليه مدي يدك وكُلي
هزت رأسها بالرفض وهي تبتسم له بحنو متمتمة:
_لا أنا مش جعانة كمل وكلك أنت بالهنا والشفا
اكمل طعامه غير منتبهًا لنظراتها الدقيقة له حتى سألته باهتمام:
_مقولتليش إيه اللي حُصل يا ابراهيم وكيف راسك اتفتحت إكده؟!
تنهد الصعداء ثم أجابها بهدوء مختلقًا كذبة حتى لا يخبرها بالحقيقة:
_تعبت ودوخت في الوكالة ولما وقعت اتخبطت في سن الكنبة اللي في المكتب
شهقت بصدمة وخوف ثم هتفت بعتاب وانزعاج:
_وه دوخت كيف يا ابراهيم.. تلاقيك مخدتش علاچك عشان إكده تعبت
_معرفش عاد يا إخلاص اهو اللي حُصل، الحمدلله أنها چات سلامات
مسحت على ذراعه بحنو ونظرات محبة وهي تردد:
_الحمدلله من إهنه ورايح تاخد بالك من علاچك وصحتك زين
رفع رأسه وترك الطعام ليتمعنها مبتسمًا بدفء قبل أن يشير لها على الفراش بجواره:
_تعالي چاري إهنه
ضيقت عيناها باستغراب لكنها امتثلت لطلبه واستقامت وتحركت لتجلس بجواره فتجده يلف ذراعه حول كتفيها متمتمًا بعينان دافئة كنبرته التي تحمل لمسة التعجب:
_هو أنتي مزعلناش مني على اللي عملته معاكي من كام يوم لما عرفتي بالسر اللي كنتي مخبيه يا إخلاص
حدقته مطولًا بعبوس بسيط قبل أن تجفل نظرها عنه للحظة وتعود إليه مجددًا وهي ترد بابتسامة عاشقة:
_زعلت وغضبت قوي منك ويمكن مازالت زعلانة شوية.. بس مقدراش أبعد عنك ولا اشيل منك رغم كل اللي عملته فيا لساتني بحبك يا ابراهيم وأنت چوزي وأبو عيالي
لمعت عيناها بوميض الحب والدفء وهو يبتسم لها فانحنى عليها ولثم شعرها وجبهتها هامسًا:
_أنتي مكانك في قلبي مختلف عن أي حد تاني وحبي ليكي غير عشان إكده دايمًا لما الدنيا بتضيق عليا قوي برچعلك أنتي يا إخلاص عشان عارف زين أن مفيش حد هيفهمني ولا ياخد بيدي غيرك ياغالية
ابتسمت له بغرام وراحت ترتمي بين ذراعيه فوق صدره وهي مغلقة عيناها بسعادة بينما هو فهتف لها بخفوت ونبرة ماكرة:
_تعرفي أني اتوحشتك قوي
ابتعدت عنه وعندما نظرت في وجهها وتعبيراته الوقحة ضحكت وهي تلكمه بلطف في كتفه متمتمة:
_ ياراچل حتى وأنت تعبان اختشي
ضحك بنظرات لعوب وهو يمد يده على الصينية ويحملها ليزيلها من فوق الفراش متمتمًا:
_أنا كيف الحصان.. نشيل الوكيل ده بس الأول عشان ناخد راحتنا
كانت تراقبه وهي ينهض من الفراش ويضع الطعام على المنضدة بعيدًا عنهم وهي تضحك عليه باستمتاع وحب، حتى وجدته يعود لها مجددًا وينقض عليها……
***
بصباح اليوم التالي….
كانت آسيا في طريق عودتها للمنزل بعدما انتهت من شراء بعض مستلزماتها الشخصية، وكانت مارة في طريقها من أمام معرض الأجهزة الخاصة بأبيها وأخيها فتسمرت مندهشة عندما رأت منيرة تقف أمامه وتحدق في الباب مترددة.
اشتعلت نيران الغيظ والنقم في صدرها وبالأخص عندما تذكرت ما سردته لها فريال وكيف انتهى بها المطاف ولماذا طلقها شقيقها، لكنها نجحت كعادتها في التحكم بانفعالاتها ولم تسمح لمشاعر الغضب بأن تسيرها على هواها، حيث حكمت عقلها ومشاعرها بنفس الوقت وتصرفت بذكاء، فاقتربت منها بتريث تام وهي تبتسم ببرود غريب حتى وقفت خلفها وهتفت بقوة:
_إيه محتاچة حاچة ولا إيه يامنيرة؟
انتفضت منيرة مفزوعة والتفتت بجسدها بسرعة للخلف لكي ترى وجه تلك التي تحدثها، فاتسعت عيناها بذهول عندما رأت آسيا لتبتسم بلؤم وتجيب عليها بوقاحة:
_چاية اشوف چوزي عندك مانع ولا إيه يا آسيا
ضحكت آسيا بطريقة غريبة تثير القلق ثم ردت عليها بنظرة مميتة:
_لا معنديش مشكلة أنك تشوفيه.. بس عندي مشكلة صغيرة في كلمة چوزك دي يعني على حسب ما عرفت أنه طلقك ورماكي كيف الزبالة برا بيته
ابتسمت منيرة بثقة وقالت بشر وغل:
_ده شيطان ودخل بينا وهو لو سمعني هيسامحني ويردني تاني
طالت نظرات آسيا المريبة لها وهي محتفظة ببسمتها الساخرة حتى قالت لها بخبث:
_هو في شياطين تاني في بيت أبوي اصل أنا اللي اعرفه أن كان في خلود ومعدتش قاعدة وبعديها كان في شيطان وواقف قصادي أهو
اشتعلت نظرات منيرة بالغيظ والحقد فقالت لآسيا بتحذير شيطاني وتهديد:
_خليكي بعيدة عني يا آسيا عشان كيف ما قولتي أنا شيطان يعني خافي على روحك احسن احرقك
اختفت بسمة آسيا تدريجيًا حتى تلاشت تمامًا وتحولت تعبيراتها من الهدوء للشراسة حتى نظراتها أظلمت وأصبحت كروح شريرة خرجت للتو من أعماق الجحيم، فانتصبت في وقفتها بجبروت وتقدمت من منيرة حتى وقفت أمامها مباشرة وأصبح لا يفصل بينهم سوى سنتي مترات قليلة، ورأت منيرة الشر الحقيقي المتطاير من عيني آسيا وملامحها المرعبة جعلتها ترتبك ثم سمعتها ترد عليها بصوت يشبه فحيح الأفعى كله إنذار وتحذير:
_أنا مش فريال اللي هتهدديني وأخاف منك، أنت تاچي عندي وتقفي عشان لو حاولتي تلعبي معايا هتشوفي النار اللي حق، متنسيش روحك قصادي واعرفي زين أنتي بتتحدتي مع مين، لو فريال مقدرتش عليكي ولا عرفت تبعدك عن چوزها فأنا عارفة زين هوقفك عند حدك كيف، ودي آخر مرة اشوفك بتحومي حوالين اخويا تاني ولو خايفة على روحك تحطي كلامي حلق في ودنك ومتطلعهوش
بتلك اللحظة كان جلال في طريقه لخارج المعرض فرأى زوجته السابقة وشقيقته، اتسعت عيناها بصدمة وسرعان ما ظهر الغضب الشديد على ملامحها ليندفع نحوهم مسرعًا وهو يوجه حديثه الصارم نحو منيرة هاتفًا:
_أنتي بتعملي إيه إهنه.. بجاحتك وصلتك أنك تقفي قصادي وتاچي لغاية عندي من تاني
نظرت لها آسيا مبتسمة وقد تحولت بلحظة وهي تتمتم بهدوء مزيف على عكس نظراتها المنذرة:
_هي خدت اللي فيه النصيب وفهمتني زين قوي، يعني مش هتقرب من إهنه تاني صُح يامنيرة
نظرت منيرة بغل ووعيد لآسيا ثم نقلت نظرها لجلال لترمقه بحزن وأسف لكنها لم تتحدث وقررت الانصراف والرحيل هذه المرة فتلك الساحرة الشريرة أفسدت عليها خطتها.
فور رحيلها التفت جلال بنظره المندهش لشقيقته يسألها بابتسامة دافئة:
_أنتي كنتي چاية عندي يا آسيا؟!
ردت عليها بجدية وضيق بسيط يثبت أنها مازالت لم تصفى له كليًا:
_لا كنت معدية بالصدفة ولما شوفت منيرة وقفت وحذرتها عشان تبعد عنك أنت وفريال
ابتسم لها بحب أخوي صادق، رغم أنها قد تكون سامحتهم لكنها مازالت تكابر وترفض الاستسلام بسهولة فقال لها بضحكة عريضة وحنو:
_طيب تعالي ادخلي چوا عاوز اتكلم معاكي
هتفت بالرفض والحدة المتصنعة:
_لا أنا مستعچلة وكمان عمران ميعرفش فمش عاوز أتأخر
رفع جلال حاجبه مبتسمًا بتعجب ودهشة ملحوظة عندما أوضحت له أنها تخشى غضب زوجها وأنها لم تخبره فردد ضاحكًا:
_عمران امممم.. طيب تحبي اوصلك للبيت
آسيا برفض قاطع وقوة:
_لا شكرًا
أنهت عباراتها وسارت مبتعدة عنه تتركه وكأنها تهرب منه بينما هو فظل مكانه واقفًا يتابعها وهو يضحك بحنو وفرحة أن شقيقته قد تعود بينهم أخيرًا.
***
داخل منزل ابراهيم الصاوي….
جلست آسيا على الفراش بعد عودتها للمنزل ودخولها لغرفتها وهي تفكر فيما حدث للتو، رغم غضبها منهم إلا أنها شعرت بالسعادة أنها تحدث مع أخيها، مهما حاولت المقاومة مشاعرها تغلبها ولا تستطيع إنكار حقيقة أنها حتى هي اشتاقت لهم وبالأخص لأمها وأخيها.
انفتح الباب ودخل عمران فاشاحت آسيا بوجهها للجهة الأخرى رافضة النظر إليه بينما هو فرمقها بغيظ رافعًا حاجبه ثم تحرك نحو الخزانة وفتحها لكي يخرج ملابس أخرى بدل التي يرتديها وبين كل لحظة وأخرى كان يرمقها بطرف عيناه سريعًا، وكلماتها بالأمس وهي تخبره بكل صراحة أنها تريد الانفصال عنه تشعل صدره كلما يتذكرها وتجعله يود الانفجار بها وتلقينها درسًا حقيقيًا على تلك السخافة التي تفوهت بها.
لم يكن حالها مختلقًا عنه ورغم أن عيناهم لم تلتقي معًا ولم تجمعهم الصدفة في تلك اللحظات ألا أنها حتى هي كانت تختلس النظر إليه في فضول وحزن وكأنها تحاول اختراق علقه ومعرفة ما الذي يفكر به ويشعر به الآن تجاهها.
استقامت واقفة وكانت ستهم بالرحيل ومغادرة الغرفة كلها لكن أوقفها صوته الأجشَّ:
_رايحة وين؟
هتفت بهدوء تام دون أن تنظر له:
_هنزل اقعد تحت
ظنها لا تريد البقاء معه بنفس المكان من شدة نفورها منه في حين أنها كانت تحاول الهروب منه حتى لا تضعف أمام مشاعرها، فألقى بملابسه في عنف على الفراش مستاءًا واندفع نحوها ثائرًا ليجذبها من ذراعها هاتفًا بعصبية:
_إيه مش طايقة تقعدي معايا في نفس الأوضة خلاص ولا إيه!
شعرت بالألم البسيط في ذراعها من قبضته القوية فقالت له بضيق:
_سيب يدي وهملني ياعمران
اشتعلت نظراته وتأججت نيران صدره أكثر، فرغم أنها لن تكن تقصد لكنها بعباراتها أثبتت له ظنونه حول نفورها منه، فوجدته يترك يدها ويلف ذراعه حول خصرها ليجذبها إليه بعنف فاصطدمت بصدره بقوة وللحظة شعرت نفسها محبوسة داخل قفص صغير وضيق جدًا ولا تستطيع حتى الحركة، فطالعته بصدمة وهتفت بعدم فهم وانزعاج بسيط:
_إيه اللي بتعمله ده!!
رأت يحدقها شزرًا بغيظ وغضب شديد دون أن يلين قبضته حولها ولو قليلًا حتى ويسألها بحدة في نظرة تحدي:
_قوليلي إكده تاني أنتي كنتي بتقولي إيه امبارح بليل
فهمت ما يلمح إليه فنظرت في عيناه القاسية بتحدي وكررت بشجاعة:
_كنت بقولك نطلق.. معدتش شايفة أن هينفع نكمل اكتر من إكده مع بعض
صر على أسنانه مغتاظًا وهو يحاول التحكم بزمام انفعالاته ويرد عليها بنفس تعبيراته السابقة:
_وفي حاجة كمان تاني قولتيها
سكتت للحظة تتذكر حديثهم كيف كان وفور تذكرها اشتدت حدة ملامحها لتجيبه بثبات وجفاء متصنع:
_قولت أني ندمانة أني حبيتـ…..
بتر عبارتها بمنتصفها ولم يدعها تكملها، موضحًا لها بفعلته أنها تزعجه بشدة ولا يقبل أن يسمعها منها حتى، مهما حدث بينهم فلن يسمح لها بأن تفسد حبهم بكلماتها السخيفة تلك.
لحظات طويلة دامت حتى فاقت هي من سحر تأثيره وابتعدت عنه بسرعة مندهشة لتجده يهتف بغضب:
_هو الطلاق بنسبالك لعب عيال عشان في أي مشكلة تحُصل بينا تقولي طلقني
آسيا بسخط وقهر:
_أنت عارف زين أنها مش مشكلة عادية ياعمران وعشان إكده الطـ…..
صاح بها منفعلًا يمنعها من استرسال حديثها:
_مفيش طلاق وانسى الموضوع ده نهائي فاهمة ولا لا
هزت رأسها بعدم اقتناع وهي تبتسم بقلة حيلة وتجيبه:
_أنت مش مدرك الوضع اللي احنا فيه يعني.. شايف أننا هنعرف نكمل بالشكل ده
هدأت نبرة صوتها حتى قبضته على خصرها لانت قليلًا وهو يهتف بحزم:
_مدرك وشايف كويس قوي، بس ده مش معناه أني اطلقك واسيبك احنا كنا چار بعض وكملنا رغم كل الظروف اللي مرينا بيها بداية من چوازنا فمش هناچي في آخر محطة ونقف، التار اللي بينا مش ذنبك ولا ذنبي
حدقته مطولًا بعينان دامعة قبل أن تبتعد عنه وتهتف في ألم:
_صُح مش ذنبنا بس كمان احنا ناسنا في النص ومفيش حد هيتخلى عن ناسه
أجابها بحزم ونظرات كلها احتواء وحب:
_وانتي ناسي كمان ومش هتخلى عنك، انسى الطلاق يا آسيا
انهى عباراته وابتعد عنها ليغادر الغرفة بأكملها ويتركها مكانها متسمرة ودموعها تنهمر بصمت فوق وجنتيها وبعد لحظات ابتسمت مغلوبة بحب وهي تتذكر كلماتها الغاضبة ورفضه التام في التخلي عنها وقبلته العاشقة لها…
***
خرجت فريال من غرفة أولادها بعدما انتهت من ترتبيها وكانوا هم بالمدرسة، تحركت باتجاه غرفة نومها وبينما كانت في طريقها قابلت جلال الذي كان هو كذلك متجه للغرفة بعد عودته من العمل للتو، تعمدت تجاهله وعدم النظر إليه واكملت طريقها كما هي بينما هو فتأفف بخنق وسار خلفها ودخل بعدها ثم أغلق الباب.
وجدها اتجهت فورًا نحو الحمام دون كلمة، فاقترب من الفرش وجلس على حالته ساكنًا ينتظر خروجها، وبعد دقائق طويلة نسبيًا خرجت ولكنها كانت على نفس الحالة لا تنظر له ولا تتحدث فتأفف بنفاذ صبر وهب واقفًا ليقترب منها بتريث ويقف خلفها وهي أمام الخزانة:
_هتفضلي لغاية ميتا إكده مبتبصيش في وشي، ده أنا ما صدقت أنك رضيتي عني يافريال وملحقتش افرح ولا اتهني برجوعك ليا.. ودلوك بقينا كيف الأول من تاني
أخذت نفسًا عميقًا والتفتت له بجسدها تقول في جدية وضيق:
_لا مرچعناش كيف الأول ياچلال، بس أنا لازم اعمل إكده عشان تعرف وتفهم أن اللي عاوز تعمله غلط حتى لو مكنش أبوي لكن المبدأ نفسه غلط.. أنا معنديش مشكلة في أن أبوي يتعاقب على غلطه ولازم ياخد جزائه بس مشكلتي في القتل
ابتسم بسخرية وغضب بسيط وهو يرد:
_امال أنتي عاوزاه ياخد جزائه كيف
هتفت بقوة واستياء:
_في مليون طريقة يتعاقب بيها مش بس القتل والدم والتار اللي دمرنا وعاوزه دلوك يقضي علينا واصل، فكر فينا وفي اختك وأنها للأسف خلاص حبت عمران وهو حبها، انتوا لو في فرصة أن الدنيا تتصلح والمشاكل تخلص باللي هتعملوه هتنهوا على كل حاچة وهتفرقوا الكل
جلال بنظرة قاسية وممتلئة بالشر والغل:
_طول ما أبوكي موچود مفيش حاچة هترچع كيف ما كانت ولا المشاكل هتخلص يافريال، هو سبب كل حاچة وللأسف الحكاية هتنتهي بالدم كيف ما بدأت
أسرعت تحاول إقناعه بوجهة نظرها ومحو فكرة الثأر من عقله، حيث أمسكت بكف يده واحتضنته بقوة تنظر في عيناه بقهر وتوسل متمتمة:
_لا أنت اللي بيدك تنهي الدم والتار ده أو تخليه مستمر وملازمنا وملازم حتى عيالك، محدش له ذنب فينا في اللي حُصل ياچلال وعيالك ملهمش ذنب.. عاوزاهم هما كمان يشيلوا الحمل ده فوق روسهم وحياتهم تتدمر ولا يبقوا معاديين خالهم وواقفين ضده مع أن عمران ملوش ذنب كيفنا كلنا.. معقول هترضي تضيع عيالك وأنت شايف أهو بسبب أبوي عياله بقوا كيف وحياتهم ادمرت.. عاوز عيالنا يبقوا إكده برضوا، أو حتى أنا مش بتفكر فيا وأني بحبك كيف ومقدرش على بعدك عاوز تحرمني منك ياچلال.. صدقني مش هقدر اعيش من غيرك
رأت الاصرار والغضب الذي على ملامحه بدأت يتلاشي تدريجيًا وكأنها نجحت في إقناعه والتأثير به بكلماتها وهي تذكره بأولاده وبهم، فهتف يجيبها بخنق ويأس:
_غصب عني يافريال مش قادر اسيب حق أبوي
ردت عليه بسرعة وهي مستمرة في محاولاتها لإقناعه:
_أبوي غلط ولازم هيتعاقب بس فكر في أي حل تاني تعوزه ويرضيك غير القتل وصدقني أني بنفسي هقف في صفك وهقنع عمران وهخلي أبوي ينفذه، بس أبوس يدك بلاش القتل وبلاش دم تاني
وجدته ساكنًا يحدثها بصمت دون رد، يفكر فيما تطلبه منه رغم أنها على حق في كل كلمة لكن مشاعره تمنعه من الانصياع لصوت عقله المنطقي، وبالنهاية هتف مغلوبًا شبه مستسلمًا:
_ماشي يافريال
لمعت عيناها بوميض مشرق وبسرعة ضحكت بفرحة وهي تسأله:
_ماشي إيه موافق يعني؟
جلال بحدة وبهجة رجولية حازمة:
_لا طبعًا مش موافق بس هفكر ولو هَدي لنفسي فرصة التفكير من تاني فده فعشان عيالي كيف ما قولتي
اتسعت بسمتها أكثر وقالت بحب ونظرة دافئة:
_عشان عيالك بس يعني!!
جلال متنهدًا بقلة حيلة:
_وعشانك يافريال كمان لأن حتى أنا مش عاوز اخسرك ولا ابعد عنك
ارتمت عليه وعانقته بقوة وهي تلف ذراعيها حول رقبته وتقول بعينان دامعة من فرط مشاعرها الجيَّاشة:
_أنا عارفة أنك حنين وبتحبنا وقلبك مش هيطاوعك تعمل فيا وفي ولادك إكده وتحرمنا منك، ومتأكدة أنك هتغير رأيك وهتلاقي حل وسط والحق يرچع بس من غير دم
ضمها لحضنه أكثر وهو يزفر مغلوبًا ثم دفن رأسه بين ثنايا رقبتها يشم رائحتها الجميلة ويقبلها بحب بينما هي فهدأت بين ذراعيه وأغلقت عيناها براحة…
***
داخل منزل داليا……
كانت جالسة فوق الأريكة بالصالة وشاردة الذهن تفكر بزوجها، والقلق يستحوذ عليها منذ أمس لكنها لا تجرؤ على الاتصال به وربما تخشى ردة فعله، قطع وصلة شرودها وتفكيرها صوت ابنتها الصغيرة وهي تهتف:
_مامي هو بابا فين مش هيجي النهاردة؟
ردت على ابنتها بكل عفوية وعبوس:
_لا ياريم بابا تعبان ومش هيقدر يجي
اتسعت عيني الصغيرة بصدمة وقالت لأمها تسألها بحزن:
_تعبان ليه؟
سكتت داليا ولم تجيب على سؤالها بينما الصغيرة فتابعت بلهفة وحنو:
_طيب اتصلي بيه أنا عايزة أكلمه
طالعتها داليا مطولة بيأس وتفكير، لكن سرعان ما ابتسمت بحماس عندما فكرت أنها يمكنها استخدام ابنتها الصغيرة لامتصاص شحنة غضبه وتلطيف الأجواء القاسية بينهم، فجذبت هاتفها بسرعة وأجرت اتصال به ثم أعطت الهاتف لابنتها لكي تتحدث هي معه أولًا.
كان إبراهيم جالسًا فوق مقعده داخل غرفة الخاصة بالوكالة وعندما صدح صوت رنين هاتفه التقطه ونظر لشاشته يقرأ اسم المتصل وبسرعة أجاب بغضب ينوي الانفجار في زوجته صارخًا لكن كتم صوته بسرعة فور سماعه لصوت ابنته الصغيرة:
_الو يابابا
ابتسم ابراهيم بحنو واجابها بكل دفء:
_أيوة ياريم عاملة إيه يابابا
بتلك اللحظة كان بلال قد فتح باب الغرفة ودخل على والده، فتقدم نحو الأريكة الصغيرة المقابلة لمقعد والده وجلس عليها ليراقبه وهو يجري حديثه مع أخته الصغيرة كالآتي:
_لا ياحبيبتي أنا مش هقدر آچي دلوك.. بكرا أن شاء الله أول ما ترچعي من المدرسة هتلاقيني مستنيكي في البيت
ردت عليه الصغيرة بفرحة وحماس شديد:
_وعد؟
قهقه بخفة ثم أجابها مبتسمًا:
_وعد أن شاء الله يلا عاد سلام أنا هقفل عشان ورايا شغل
وعدته الصغيرة وأغلقت الاتصال ثم أخبرت أمها بما قاله لها والدها، رغم ارتياحها بأنه سيأتي غدًا إلا أن قلقها زاد أكثر.
بينما على الجانب الآخر هتف بلال بغضب:
_وتستني ليه لغاية بكرا يابوي روح من دلوك
تأفف ابراهيم بخنق ورد على ابنه بحزم:
_خير يابلال
طالت نظرة بلال الغاضبة والمخزية لوالده قبل أن يقول بحدة:
_عمران حكالي على كل حاچة، وأنك أنت اللي قتلت خليل
ابتسم ابراهيم باستنكار وهو يجيب على ابنه بضيق:
_إيه وأنت چاي تقولي سلم نفسك كيف ما أخوك قالي
بلال بغضب وبهجة رجولية حازمة:
_أيوة عشان هو ده الصُح يابوي.. لمصلحتك ولمصلحتنا كلنا وعشان محدش يأذيك ولا التار يرچع من تاني بينا
هل ابراهيم واقفًا وهو يصيح منفعلًا:
_وأنا قولت لا يا بلال مش هسلم روحي وأنا معملتش حاچة،ومفيش مخلوق يقدر يأذيني من أساسه
انهى عباراته واندفع لخارج الغرفة ثائرًا بينما بلال فاستقام وهتف مناديًا عليه يحاول إيقافه:
_يابوي استنى
***
بتمام الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل مساءًا داخل غرفة عمران وآسيا…
كانت آسيا تقف أمام المرآة وهي تسرح شعرها ومرتدية ثوب وردي ناعم وقصير يصل فوق ركبتيها وبحمالات عريضة، لم تكن منتبهة لنظراته الثابتة عليها وهو يتمعنها بجرأة ويتفحص كل جزء، رغم أن لم يكن على ثغره أي ابتسامة وكان وجهه بلا تعابير لكن عيناه كانت تحمل كل المشاعر المتضاربة ما بين الانزعاج والرغبة والحب، يتأمل في جسدها الممشوق وشعرها الغزير والطويل الذي يغطي ظهرها كله وذلك الثوب المثير الذي يزيدها جمالًا، لولا علاقتهم المضطربة والحزن الذي بينهم لكان الآن انقض عليها.
عندما انتهت والتفتت بجسدها ثم تحركت باتجاه الفراش ودخلت تحت الغطاء تنوي النوم، تصنمت مكانها فور ملاحظتها لنظراته الجريئة والثابتة عليها فتسأله بقوة:
_مالك بتبص إكده ليه؟!
دار بنظره على جسدها وهو يرد عليها بسؤال آخر يحمل لهجة الاستنكار:
_إيه اللي لبساه ده؟
سكتت للحظة تستوعب سؤاله والسبب وراءه ثم نزلت بنظرها على جسدها تتفحص ثوبها وهتفت بعدم فهم:
_ماله اللي أنا لبساه؟!!
مال ثغره للجانب في بسمة ساخرة وعينان تلمع بوميض وقح وخبيث قبل أن يجيبها:
_مش لبس واحدة كانت امبارح والصبح بتطلب الطلاق أبدًا
رغمًا عنها ابتسمت وهي تشيح بوجهها عنه مغلوبة ثم ردت بنبرة ساخرة:
_امال لبس إيه؟!
اقترب منه وهو يبتسم بلؤم ويتمتم:
_واحدة هي وچوزها كيف السمنة على العسل ومفيش بينهم أي حاچة وهي متچهزاله عشان يقضوا ليلتهم الصباحي
توردت وجنيتها بحمرة الخجل وبسرعة هتفت في ارتباك واستياء شديد وهي تحاول الهرب منه:
_لا مفيش الكلام ده أنا لبساه عادي
ظهرت أسنانه من وسط بسمته وهتف بمكر:
_بس أنا مش شايفه عادي!
توترت أكثر وخجلها ازداد الضعف فقالت وهي تعود برأسها للخلف هاتفى بجدية بسيطة رغم رغبتها به لكنها تقاوم:
_عمران متنساش كلامنا الصبح واللي قولته ليك
اختفت ابتسامته وظهر محلها الخنق والغضب وهو يرد منزعجًا:
_مش فاكر يا آسيا ومش عاوز افتكر
أخذت نفسًا عميقًا باستسلام في أن يقبل رغبتها، فهتفت بخفوت وهي تهم بجذب الغطاء عليها:
_تصبح على خير
وجدته يجذبها من ذراعها وهو يهتف باستهزاء من تصرفها:
_بتعملي إيه؟
آسيا بتعجب:
_هنام!
عمران بحزم وعينان مشتعلة بلهيب الرغبة:
_مفيش نوم.. كان لازم تفكري زين قبل ما تلبسي لبسك العادي ده
حجبت ضحكتها بصعوبة وقالت له برجاء محاولة الفرار من بين براثينه:
_طب حقك عليا خليني أنام عاد ياعمران عشان خاطري واوعدك مش هكررها تاني
ابتسم بسخرية ورد بخبث:
_ومين قالك أني مش عاوزك تكرريها أصلًا!!
شعرت بجسدها كله تجاحته برودة غريبة من فرط الخجل والتوتر بينما هو فانحنى عليها وهمس أمام وجهها مباشرة بصوت تغمره مشاعر العشق والرغبة:
_بحبك ياغزالي
ابتسمت في استحياء وحب ظاهر في نظراتها له، لتجد لسانها يتحدث دون وعي وهي ترد عليه بهيام:
_وأنا كمان يامعلم
كانت تلك الإشارة الخضراء بالنسبة له لكي ينطلق بها بين طرق العشق والغرام، تاركين خلفهم كل شيء قد يفسد متعة حبهم وحياتهم الهادئة…
***
داخل غرفة فريال وجلال بمنزل خليل صفوان….
اتجه جلال لغرفة أولاده ليطمئن عليهم بعد عودته من العمل وعندما فتح الباب وجد فريال نائمة بالمنتصف بينهم، فابتسم لها بدفء واقترب منهم لينحنى على رأس أولاده الاثنين يلثم كل منهم بقبلة حانية وعندما وصل لفريال طبع قبلته فوق وجنتيها بجانب ثغرها ثم مد ذراع أسفل ظهرها والذراع الآخر بمنتصف قدميها ليحملها بين ذراعيه ويتجه بها للخارج نحو غرفتهم.
دفع الباب بقدمه عندما وصل وبعد دخوله فعل المثل مع الباب بقدمه لكي يغلقه، تحرك بها نحو الفراش ووضعها فوقه بكل رفق، اعتدل في وقفته وهم بالابتعاد عنها لكنها قبضت على يده توقفه وهي تهتف بصوت ناعس:
_رايح وين؟
التفت لها غاضنًا حاجبيه باستغراب ثم رد عليها مبتسمًا:
_أنتي صاحية!!
خرج صوتها الخافت والناعس متمتمة برقة:
_تعالى خليك چاري
رمقها بغرام وعاطفة مطولًا ثم أبعد يدها عن رسغه واقترب من الفراش مجددًا لكي يدخل معها تحت الغطاء ويضمهت لصدره متمتمًا بمزح جميل:
_متناميش عاد في أوضة العيال تاني عشان مش هقدر اشيلك تاني أنتي تخنتي قوي يافريال
فتحت جزء من عيناها وهي بين ذراعيه بعدما صك سمعها عبارته المستفزة بالنسبة لها وهتفت بغضب بسيط وسط خمولها وهي تضربه على صدره بخفة:
_لو قولت إكده تاني مش هكلمك ولا هنام جمبك واصل تاني
جلال ضاحكًا بصمت:
_امال هتنامي وين؟
فريال بصوتها الخافت:
_چار عيالي وهسيبك إهنه وحدك عشان تقول عليا تخينة تاني كويس
انحنى على رأسها يلثم شعرها بحب وهو بجيبها ضاحكًا بهيام:
_أنا بحبك في كل حالاتك يافريالي.. وبعدين أنتي أول ما تولدي وزنك هيرچع ينزل تاني
ابتسمت بسعادة وغرام وهي مغلقة عيناها ثم ردت عليه بصوت مُتيم:
_وأنا كمان بحبك
انحنى عليها ثانية وهذه المرة كانت شفتيه تلثم أي جزء في وجهها تطوله وسط ابتسامة ثغره الرقيقة مثلها دون أن تفتح عيناها، متلذذة بملمس شفتيه الغليظة وهي تتجول على وجهها كله……
***
عودة لمنزل ابراهيم وتحديدًا داخل غرفته هو وإخلاص، فتح ابراهيم عيناه عندما سمع صوت طرق وكان حجر يضرب زجاج نافذة الغرفة، استقام واقفًا من الفراش واتجه نحو النافذة ليفتح الزجاج ويقف يلقي نظرة بالأسفل في الشارع ليرى من سبب تلك الإزعاج، فوجد دراجة نارية تقف أمام منزله وتحديدًا أمام نافذة غرفته وفوقها شابين ملثمين، فضيق عيناه باستغراب، ثم وجد أحد الشابين رفع رأسه له و أخرج من جيبه سلاح ناري وصوبه باتجاهه ليطلق نيرانه ويصيبه برصاصتين واحدة استقرت بيساره والأخرى برقبته…..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ميثاق الحرب والغفران)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى