روايات

رواية ميثاق الحرب والغفران الفصل السابع والأربعون 47 بقلم ندى محمود توفيق

رواية ميثاق الحرب والغفران الفصل السابع والأربعون 47 بقلم ندى محمود توفيق

رواية ميثاق الحرب والغفران البارت السابع والأربعون

رواية ميثاق الحرب والغفران الجزء السابع والأربعون

ميثاق الحرب والغفران
ميثاق الحرب والغفران

رواية ميثاق الحرب والغفران الحلقة السابعة والأربعون

فتحت آسيا عيناها مفزوعة على أثر صوت الصراخ المرتفع وبسرعة هبت جالسة وهي تتلفت حولها بزعر، فرأت عمران نائم بثبات عميق ولا يشعر بشيء.. مدت يدها وهزته بقوة من كتفه هاتفة:
_عمران قوم إيه صوت الصراخ ده.. عمران
فتح عيناه ببطء وخمول لكن فور التقاط أذنه صوت الصراخ انتفض جالسًا وهو يسألها:
_في إيه؟!!
آسيا بأنفاس متسارعة:
_معرفش اطلع شوف
نهض من الفراش بسرعة وقد استطاع تميز الصوت وأنها أمه مما زاد من زعره أكثر، هبت آسيا هي أيضًا واقفة واسرعت نحو الخزانة تخرج عبائة مناسبة وفضاضة ترتديها فوق قميصها وارتدت أيضًا حجابها واسرعت تلحق بعمران الذي كان يركض مفزوعًا باتجاه غرفة أمه.
فتح الباب على مصراعيه وقبل أن يخطو خطوة أخرى للداخل تجمد بأرضه وهو يرى أبيه غارق بدمائه فوق الأرض وأمه بجواره ممسكة برأسه وتضمها لصدرها تبكي وتصرخ، وصلت آسيا وهي ترتجف من الزعر فصوت الصراخ أكثر ما يرعبها بعد وفاة والدها وعندما رأت ذلك المشهد أمامها شهقت بصوت مرتفع ورفعت يدها لفمها تكتم صوت شهقاتها المصدومة.
فاق عمران من صدمته بعد لحظات واندفع نحو والده يجثي على الأرض أمامه، لا إراديًا كانت يده ترتجف وهو يمد أنامله لرقبته الغارقة بالدماء ومصابة برصاص يحاول استشعار نبضه لكنه لم يحصل على إي إشارة تدل على بقائه على قيد الحياة وقد انقطع النفس وتوقف النبض.
وصل بقية من في المنزل على صوت الصراخ بعدما استيقظوا من النوم، فارتفع صوت صراخ عفاف الهستيري فور رؤيتها لزوجها هكذا وكان بلال يركض نحو والده ليجثي بجوار أخيه في محاولات بائسة رغم أنه يعرف أنها لن تجدي بنفع لكنه كان يحاول إنقاذه، تجمع جميع عائلته حوله بما فيهم أخيه باستثناء آسيا التي كانت تقف مكانها عند الباب وتراقبهم بسكون رغم انيهارها الداخلي وهي تتذكر ذلك المشهد من أبيها عندما كان بنفس المنظر.
وصلت سيارة الإسعاف بوقت قياسي بعدما قام بشار بالاتصال بها وبسرعة المسعفين نقلوه على السيارة، لكنهم كانوا يخرجونه من منزله وهو مفارق الحياة وصراخ النساء يرتفع أكثر الذي امتزج بعويلهم ونواحهم الهستيري.
استقلوا جميع الرجال بسيارة عمرات ليلحقوا بالإسعاف لكن تولي مهمة القيادة بشار بسبب الانهيار والحالة المزرية التي كانت تستحوذ على عمران وبلال.
استمرت إخلاص بالصراخ العنيف وهي تولول وتنوح بصوت مرتفع وسط محاولات الجيران السيدات لتهدأتها، بعض منهم كان يهدأ من عفاف والآخر من إخلاص، الجميع كان في حالة صعبة ويبكي باستنثاء آسيا كانت تتابعهم بثبات تام وفور سقوط نظر عفاف على آسيا أصبحت كالجمرة المشتعلة وغارت عليها تنوي الانقضاض عليها لولا النساء أمسكوا بها واخذت تصرخ بها بغل:
_انتي قاعدة إهنه بتعملي إيه بعد ما قتلتوا چوزي أنتي وناسك
التزمت آسيا الصمت ولم تجيب على عفاف، بينما هي فاستمرت في صراخها وبكائها المرتفع وعلى الجهة الأخرى كانت إخلاص من فرط انهيارها فقدت وعيها وانشغل الجميع بمحاولات إفاقتها.
على الجانب الآخر كانت فريال قد انتهت من ارتداء ملابسها وهي تبكي بعنف وترتجف بعدما وصل لها خبر قتل أبيها وبسرعة كانت تندفع خارج غرفتها وتركض على الدرج غير مبالية بحملها حتى وصلت لباب المنزل ومن ثم قادت خطواتها الشبه ركضًا نحو منزل والدها بالشارع المجاور وعيناها لا تتوقف عن ذرف الدموع، لم يتمكن جلال من منعها لكنه اوقف أولاده من اللحاق بأمهم مفسرًا أنه ليس وقت مناسب لذهابهم.
ثم اندفع نحو جده بغرفة الجلوس الخاصة به وفتح الباب دون طرق وطلب الأذن أولًا، فور دخوله رأى جده يجلس على مقعده وممسكًا بعصاه وهو يبتسم ويقول لجلال براحة وسعادة:
_مبرووك ياچلال حق أبوك وولدي رچع أخيرًا
تقدم جلال من جده وجلس على المقعد المقابل له وهو يسأله بعدم فهم:
_مين اللي قتله؟!
حمزة ببسمة نصر وتشفي:
_منصور
اتسعت عيني جلال بدهشة ثم تحولت نظراته للغضب وهو يهتف:
_وأنا معنديش علم بالكلام ده ليه ياچدي
اختفت بسمة حمزة ورد على حفيده بجدية واهتمام:
_هو ده الصح ياولدي أنا من البداية مكنتش موافق أنك تدخل في التار ده وتقتل.. أنت لساتك صغير ومعاك عيالك صغيرين ومحتچاينك چارهم.. لا أنا ولا عمك كنا هنسمح أننا نيتمهم بدري إكده ونحرمهم من أبوهم
هب جلال واقفًا منفعلًا ليقول بسخط شديد وحدة:
_ده أبوي يا چدي وأنا اقرر إذا كنت أنا اللي هاخد حقه ولا حد تاني، لكن أنت وعمي اتفقتوا وخططتوا من غير علمي كأني مش موجود
وصلت جليلة بتلك اللحظة وقد سمعت آخر عبارات ابنتها فاقتربت منه وهي تبتسم بسعادة ولمعة مميزة تظهر في عيناها لأول مرة منذ وفاة أبيها لتقول:
_چدك عنده حق ياولدي وأنا قولتلك الكلام ده بس أنتي مسمعتش كلامي، مش مهم دلوك مين اللي حد تار أبوك أنت وعمك واحد وكفاية أن أبوك حقه رچع وارتاح في تربته
مسح جلال على وجهه متأففًا بنفاذ صبر وقد هدأ ثورانه قليلًا فوجه حديثه لجده يسأله بقلق:
_عمي وين دلوك
أجاب حمزة بغلظة:
_خده علي وهربه هيقعد في بيت البلد القديم الحكومة هتبدأ تدور عليه دلوك بعد ما تعرف
جلال مضيقًا عيناه باستغراب:
_وأنت متأكد أن محدش هيعرف مكانه هناك ولا يوصله
هز حمزة رأسه بالإيجاب بينما جلال فعاد يجلس على مقعده مجددًا وهو يزفر بقوة حتى سمع صوت حمزة وهو يسأله بهدوء مريب:
_مرتك راحت لبيت أبوها طبعًا؟
أكتفي جلال بنظرته القوية التي تؤكد سؤال جده أما جليلة فقد هتفت مبتسمة بحقد:
_ان شاء الله تكون الأخيرة ومترچعش تاني
رأت ابنها يرمقها شزرًا بغضب بعد كلماتها فلوت فمها بخنق والتزمت الصمت مجبرة حتى لا تتلقي منه التوبيخ وتشهد على سخطه الحقيقي.
***
أمام المشرحة….
تم نقل ابراهيم مباشرة للمشرحة بعدما تأكدوا من وفاته، وكانوا ينتظروا أمام الباب ينتظرون التقرير الطبي حتى يتمكنوا من استلام جثمان ابراهيم ويبدأوا في إجراءات الدفن.
كان عمران جالسًا فوق أحد المقاعد ويحدق بيده الغارقة بدماء والده وعقله لا يفارقه مشهده وهو على الأرض غارق بالدماء والرصاص بجسده، ليته سمع منه وامتثل لطلبه عندما أخبره بضرورة تسليم نفسه للشرطة، الآن هو فارق الحياة وتركه بين نيران الدماء حائر لا يعرف ماذا يفعل.
على الجهة المقابلة كان بلال يجلس ورغمًا عنه كلما يتذكر مشهد والده عيناه كانت تلمع بالعبرات لكنه كان يشد على محباسهم ويمنعهم من السقوط حتى صدح صوت عبد العزيز الغاضب والمتوعد يهتف:
_أكيد چلال اللي عمل إكده.. قتلوا أخوي في نص بيته وفي اوضته بس أنا مش هسكت عن حقه
لم يكن عمران وبلال بحال تسمح لهم بالرد على عمهم، حيث التزموا الصمت وانغرقوا في صدمتهم وحزنهم على الفراق لكن بشار اقترب من والده وهتف له بصوت رجولي حازم:
_اهدى يابوي مش وقته الكلام ده دلوك خلينا الأول ندفن عمي وبعدين نشوف هنعملوا إيه
ثم اقترب بشار من عمران الشارد وانحنى عليها يربت فوق كتفه ويهتف له بصوت خافت:
_قوم ياعمران وحد ربنا إكده واغسل يدك من الدم ده
خرج صوته أخيرًا وهو يجيب على ابن عمه بمرارة:
_لا إله إلا الله.. إنا لله وإنا إليه راجعون
ثم استقام واقفًا وسار باتجاه الحمام لكي يغسل يديه ووجهه وفعل بشار المثل مع بلال وهو يحسه على الوقوف والعودة لرشده.
***
بتمام الساعة السادس صباحًا….
عاد الرجال للمنزل أخيرًا بعدما انتهوا من دفن ابراهيم وكان جميع الرجال متجمعة خارج المنزل بالشارع ليقدموا واجب العزاء، وسيارات الشرطة تجمعت وامتلأت حول منزل خليل وإبراهيم بحثًا عن القاتل ومنعًا لأي قتالات قد تنشب بين العائلتين قد ترهق أرواح أخرى فيها.
داخل منزل ابراهيم بينما كان جميع النساء بملابس سوداء وكانت فريال تجلس بجوار أمها وهي متشبثة بذراعها وتبكي معها بحرقة وألم، فجأة هبت إخلاص واقفة بنظرات غريبة جعلت الكل بغضن حاجبيه بتعجب ثم وجدوها اندفعت للدرج مسرعة تقصد الطابق الثاني فلحقت بها بعض النساء وظلت فريال مكانها ساكنة تبكي بصمت حزنًا وقهرًا على والدها.
فتحت إخلاص باب غرفة ابنها على مصراعيه واندفعت للداخل وقد كانت آسيا تجلس فوق اريكتها بهدوء وترتدي ملابسها الطبيعية الألوان، لكنها استقامت واقفة باستغراب وهي ترى اقتحام إخلاص الغرفة ومعها بعض النساء يحاولون ردعها وتهدأتها، لكنها دفعتهم بعيدًا عنها واتجهت نحو آسيا ثائرة لتجذبها من ذراعها وهي تصرخ بها بغل ونقم:
_معدش ليكي مكان في البيت ده ومش عاوزة اشوف وشك في بيتي تاني واصل
دفعت آسيا ذراع إخلاص عنها بعنف لتقول بابتسامة ساخرة:
_ده على اساس أني عاوزة اقعد في البيت ده قوي يعني.. اللي چابرني بس اني استحمل العيشة إهنه هو چوزي
صرخت بها إخلاص بهستيريا محاولة التحكم بانغعالاتها حتى لا تضربها:
_متنطقيش چوزي تاني واصل.. ولدي هيطلقك فكرك هيسيبك على زمته بعد ما أخوكي قتل أبوه
اشتعلت نظرة آسيا وتحولت للشراسة وأصبحت مرعبة وهي تهتف بكل ثقة وجبروت:
_أخوي راچل ولد راچل وخد بحق أبوه.. من چوزك اللي قتله وأنتي كنتي عارفة واسترتي عليه
رفعت إخلاص يدها في الهواء بلحظة غضب وهوت بكفها فوق وجنة آسيا التي رمقتها شزرًا وبعينان ملتهبة كلها وعيد وغل، وباللحظة التالية فورًا كانت إخلاص تقبض على ذراع بسيل وتجذبها معها للخارج وهي تصرخ:
_مش هتقعدي في بيتي ولا دقيقة تانية يا**** ورچلك من إهنه ورايح مش هتخطي عتبة البيت ده وولدي تنسيه واصل
رغم الإهانة التي تعرضت لها وليس من شيم آسيا السكوت لكنها استسلمت مؤقتًا أمام إخلاص وصارت معها للخارج وهي تجرها باتجاه الدرج ومن الدرج لباب المنزل تطردها من المنزل كليًا، كان داخلها يغلي من فرط الغضب وتوعدت لإخلاص على تجرأها عليها بهذا الشكل المهين أمام الجميع، لكنه ليس الوقت المناسب الآن لتشن سيفها في وجهها وإلا ستقلب الطاولة عليها هي وتصبح المذنبة وهي لا تريد ذلك، أمام أنظار الجميع وحتى فريال التي لم تحرك ساكنًا كانت إخلاص تصل لآسيا لباب للمنزل وتدفعها للخارج وهي تصرخ بها بتحذير:
_رجلك متعتبش البيت ده تاني يابت خليل فاهمة ولا لا
وقفت آسيا خارج المنزل وهي تتطلع بإخلاص في برود مخيف وعينان مظلمة لا تبشر بالخير أبدًا، ولحسن الحظ أن لم يلاحظها أحد من الرجال وكانوا في جانب بعيد عنهم نسبيًا، فتحركت آسيا وابتعدت عن المنزل ولم يكن أمامها طريق سوى طريق منزل والدها وهي تنوي أخيرًا العودة له ودخوله مجددًا، ربما لكي تحتفل معهم برچوع حق والدها أخيرًا وانتهاء عذابهم.
وقفت أمام المنزل وهي ترفع رأسها للأعلى تتأمل منزلها بعين دامعة، سقط نظرها على شرفة غرفتها وامتلأت عيناها بالعبرات أكثر، وانهمرت عباراتها وهي تتذكر مشهد ابراهيم بالأمس ومشهد أبيها منذ سنتين، كانت متصنمة بأرضها تبكي بصمت وهي لا تستوعب كيف حدث كل هذا خلال سنتين فقط، تبدلت حياتهم وانقلبت رأسًا على عقب وكل منهم الآن بوادي مختلف عن الآخر.
رفعت أناملها لوجهها بعد برهة من الوقت ومسحت دموعها ثم تقدمت نحو باب المنزل وطرقت عدة طرقات عليه وظلت بالانتظار، حتى انفتح الباب وظهرت من خلفه جليلة التي شهقت مندهشة فور رؤيتها لابنتها وعيناها لمعت بوميض جديد، أما آسيا فطالت النظر لوجه أمها وكلاهما تلاقت اعيننهم وهم يبتسمون بفرحة وعينان دامعة، فارتمت بين ذراعين أمها وهي تبكي وتقول براحة:
_حق أبوي رچع أخيرًا ياما
احتارت جليلة على أيهما تسعد أكثر، هل بأخذ ثأر زوجها أم عودة ابنتها لحضنها مرة أخرى، فوجدت نفسها تنفجر باكية بسعادة غامرة وهي تضم آسيا لصدرها أكثر مقبلة رأسها بعدة قبلات متتالية وتهمس:
_أنا مفيش حد في فرحتي الليلة چوزي حقه رچع وبتي في حضني
ابتعدت آسيا عن أمها وهي تسألها بقلق واهتمام:
_چلال وين.. چلال هو اللي قتله صُح؟
هزت جليلة رأسها بالنفي مصححة شكوكها:
_لا عمك وهرب عشان الحكومة
تلفتت آسيا برأسها حولها وهي تسأل للمرة الثانية:
_وچدي وين؟
_طلع هو وچلال من الصبح بدري مش قاعدين.. تقريبا راحوا لعمك
جذبتها جليلة من يدها وهي تجرها معها تجاه الأريكة وتهتف بلهفة وحنان:
_تعالي اقعدي واحكيلي إيه اللي چرا معاكي
جلست آسيا بجوار أمها وهي تبتسم بحب، ربما لم تنسى ما فعلوه لكنها قررت الغفران فهمها فعلت لن تستطيع الافتراق عنهم طوال حياتها.. ليحيا غفران جديد من رحم الحرب.
***
بتمام الساعة التاسعة مساءًا…..
خرجت فريال من منزل والدها وهي تقود خطواتها الثائرة باتجاه منزل زوجها، رغم الانهيار الذي تعاني منه لكنها كانت تظهر الثبات والقوة باحترافية وهذه ليست فريال أبدًا الرقيقة، ماتت القديمة وجاءت للحياة أخرى ستقف بوجه جميع العواصف المدمرة.
وصلت لمنزلها وطرقت الباب ففتحت لها الباب إنصاف التي ضيقت عيناها باستغراب بعدما رأت وجهها المريب فدفعتها فريال من أمامها واندفعت مسرعة نحو الدرج تقصد الطابق الثاني حيث غرفتها وهي تعرف جيدًا أنه موجود الآن.
فتحت الباب ودخلت فوجدته يجلس على الأريكة ويحدق في الفراغ بشرود، ابتسمت له بخزي وغضب ثم ثارت عليه وهي تصرخ بانفعال:
_أنت اللي قتلته ياچلال صُح؟
استقام جلال واقفًا بفزع على أثر صراخها وهو يغضن حاجبيه بتعجب ليحيبها بعد لحظات بهدوء:
_للأسف مش أنا يافريال
فغرت عيناها بدهشة وعبارته زادت من اشتعال النيران في صدرها أكثر فهرولت إليها حتى أصبحت أمامه وراحت تضربه في صدره بعنف صارخة به في عينان غارقة بالدموع:
_للأسف!!.. يعني أنت كنت ناوي تعملها رغم كل اللي قولتهولك ومفكرتش في حد غير في نفسك
قبض على كفيها يمنعها من ضربه أكثر وهو مازال محتفظ بثباته الانفعالي ويجيبها بهدوء:
_مكنتش هعملها بس كنت أحب أنا اللي آخد حق أبوي بيدي حتى لو كان بطريقة تاني غير القتل
انتشلت يدها من قبضته وهي تضحك بسخرية وتهتف بسخط:
_وهو مش أنت قتلته دلوك بالفعل!
جلال بنظرة حادة وقد بدأ الاستياء يظهر معالمه على وجهه الرجولي:
_قولتلك مش أنا يافريال!
صرخت بعدم اقتناع وتصديق له:
_كذاب ياچلال
أظلمت عيناه ولعل اللحظة فقد ثباته المزيف وظهر جانبه السيء والمخيف بعدما وصفته بالكاذب فراح يصرخ بها بصوت جهوري نفسها بأرضها:
_أنا مش خايف منك ولا من حد عشان أكذب.. لو قتلته كنت هعملها بيدي وقصاد ناسه كلهم مش هأچر شويه صيع يعملوها في نصاص الليالي والخلق نايمة
تقهقهرت فريال للخلف بذهول يملأ تعبيرات وجهها كلها بعدما سمعت تحوله المرعب وكأنه شخص آخر وليس زوجها، لتقول له بوجه غارق بالدموع وصوت مبحوح:
_أنت لا يمكن تكون چلال اللي أنا اعرفه
ابتسم لها بمرارة ثم هتف بخشونة:
_أنا متغيرتش ولساتني كيف ما كنت لكن أنتي اللي اتغيرتي يافريال، ومبقتش عارفك ولا عارف مين اللي قصادي وفي كل مرة بتثبتيلي عدم ثقتك وحبك ليا
فريال بغضب وقهر:
_إيه علاقة حبي ليك باللي أنت عملته.. أنت بس عشان تاخد حق أبوك مفكرتش في حد غير نفسك وانتقامك لا في عيالك ولا فيا ولا في حد واصل ودلوك بتقلب الطرابيزة عليا كيف كل مرة وتقولي مبحبكش
طال تمعنه بها في خزي ومرارة قبل أن يهتف بجفاء ونبرة تحمل الحزم والمشاعر الحقيقية:
_أنت عاوزة إيه يافريال رغم أني قولتلك اللي حصل ولساتك مصممة أني أنا اللي قتلت أبوكي، طيب أنا هسمعك اللي عاوزة تسمعيه بس صدقيني لو طلعتي من الأوضة ورچعتي بيت أبوكي وأنتي لساتك مصممة على اللي في دماغك وفكراني كذاب ومش مصدقاني اعتبري روحك خسرتيني صُح المرة دي
هدأت نبرتها وسألته بصوتها المبحوح ونظراتها المندهشة:
_قصدك إيه؟
جلال بغضب وحدة:
_أيوة أنا اللي قتلت أبوكي مش هو ده اللي عاوزة تسمعيه عشان تأكدي على اللي في راسك واديني بقولك أهو
بتلك اللحظة وصلت آسيا على أثر صياحهم المرتفع ولأن الباب كان مفتوح دخلت واقتربت من فريال تهتف لها بخفوت:
_فريال اهدي وارچعي لأمك وبعدين ابقوا اتكلموا أنتي مش دارية باللي بتقوليه ولا بتعمليه دلوك
التفتت فريال تجاه آسيا ولأول مرة ترمقها شزرًا بحقد وهو تصيح بها:
_ملكيش صالح يا آسيا ومتدخليش بينا
رفعت آسيا حاجبها بدهشة ونظرة كلها استنكار من التحول الجديد في شخصيتها الرقيقة، فردت علي فريال هذه المرة بقسوة وقد نزعت عنها رداء اللطف والحنو:
_مليش صالح كيف.. هو مش اللي بتتهميه في قتل أبوكي القاتل ده يبقى أخوي ورغم أنه معملش حاچة لكن أنتي مش عاوزة تصدقي غير روحك
وقفت فريال بمواجهة آسيا مباشرة وتطلعت في عيناها بشراسة وهي تهتف:
_أنتي آخر واحدة تتكلمي قصادي يا آسيا، وتحمدي ربك أن عمران سامحك رغم أنك حاولتي تقتليه والحمدلله أنه طلع منها سليم، ودلوك رغم كل الحب اللي كنتي بتقولي عليه سبتيه في الوضع اللي هو فيه ورچعتي لناسك اللي رموكي ومحدش فيهم صدقكك وكانوا عاوزين يقتلوكي، أخوي اللي سيباه ده هو اللي نقذك منهم
اتسعت عيني جلال بصدمة مما تتفوه به زوجته أمامه، ولا يصدق أن تلك الكلمات تخرج من فمها هي فصاح منفعلًا بغضب ليسكتها:
_فـريال اقفلي خشمك ده
ردت آسيا مبتسمة بثقة وثبات تامة تقول لأخيها وهي مثبتة نظرها على زوجته:
_سيبها ياچلال خليها تكمل.. جايز تكون صح مش دارية بروحها وموت أبوها لحس نافوخها بس خليها تفضي كل اللي في عبها، أصل اللي حُصل ده هيخلي الكل يظهر على حقيقته، كملي يافريال أنتي عاوزة تقولي يعني أني لولاكم كان زماني ميتة دلوك وأن ليكم فضل عليا
فريال بابتسامة جافة ومريرة:
_بقول أنك ملكيش عزيز يا آسيا وغدارة وحتى الحب مبتعرفيش تحبي وأول ما حق أبوكي رچع هملتي عمران
انفعلت آسيا وتحولت لثور هائج وهي تصرخ بها:
_أنتي اتخبلتي في نافوخك ما قصاد عينك شوفتي أمك وهي بتطردني من البيت، بعدين حاسبي على حديتك معايا زين يافريال ومتنسيش أنا مين، أنا مقدرة وضعك وعشان إكده ساكتة ومستحملة كلامك بس متزودهاش اكتر من إكده لمصلحتك
رمقتها فريال بتحدي وهي تقول بغيظ:
_هتعملي إيه يعني لو مسكتش
تدخل جلال وفارق بينهم بذراعه وهو يصرخ بصوته الرجولي الهادر:
_بزيادة هو احنا في إيه ولا إيه مش عاوزة نفس واحدة فيكم فاهمين ولا لا
التفتت فريال تجاه جلال ورمقته بغضب قبل أن تبتعد عنهم وتقول:
_أنا راچعة بيت أبوي
وبينما كانت في طريقها لخارج الغرفة توقفت على أثر صوته وهو يذكرها بنظرة جادة:
_مستنيش اللي قولته ليكي يافريال
التفتت له برأسها بعدما فهمت مقصده جيدًا وطالعته للحظات بمرارة قبل أن توليه ظهرها وتكمل طريقها بينما آسيا فقد تطلعت بشقيقها ورتبت فوق كتفه بحنو متمتمة:
_مسيرها تعرف أنها غلطانة ياچلال.. اعذرها هي مش في وعيها دلوك ومش عارفة بتعمل إيه
حدث في آسيا بحزن وهو يقول مبتسمًا:
_ولما تعرف غلطها هيكون فات الآوان يا آسيا
ثم ابتعد عنه شقيقته وقاد خطواته باتجاه الحمام ليتركها واقفة مكانها وهي تفكر بكلمات فريال لها، رغم أنه لم تكن تنوي ترك زوجها في ذلك الوضع لكن ما فعلته إخلاص أفقدها آخر ذرة من تحملها على البقاء بذلك المنزل، وهي الآن لا تستطيع التوقف عن التفكير به وتتساءل هل أدرك غيابها أم مازال لم يلاحظه.
***
داخل منزل ابراهيم الصاوي بعد رحيل جميع الناس كانوا الرجال يجلسون مع بعضهم في غرفة الجلوس ويتحدثون، قصدك صوت بشار وهو يتساءل:
_الحكومة لسا ممسكتش العيال اللي عملت إكده؟
خرج صوت عمران المريب مجيبًا:
_مسكوهم واللي قتل منصور مش چلال
هتف عبد العزيز بدهشة وغضب:
_ومنصور وينه؟!
عمران بلهجة تحمل الوعيد الحقيقي:
_هربان بس هيفضل هربان إكده لغاية ميتا هجيبه وهيوقع تحت يدي
بشار بصوت غليظ:
_أكيد چلال وحمزة صفوان عارفين مكانه وين
رفع عمران نظره لبشار وطالعه مطولًا بتفكير قبل أن يهب واقفًا ويتجه لغرفته بالأعلى وفور دخوله اندفع نحو الخزانة، لكنه توقف بمنتصف الغرفة عندما انتبه لعدم وجود زوجته، فضيق عيناه باستغراب ثم صاح مناديًا عليها وهو يقترب من الحمام ويفتح الباب فلم يكن لها أثر أيضًا.
اندفع لخارج غرفته ثائرًا وبغضب ونزل للطابق الأرضي بسرعة فوجد شقيقته وأمه يجلسون على المقاعد والسكون يستحوذ عليهم رغم بكاء إخلاص الصامت إلا أنها كانت تحاول الثبات والتفتوا على أثر صوته الساخط:
_آسيا وين؟!
رفعت فريال نظرها لشقيقها واجابته بجدية وبرود تام:
_في بيت ناسها رچعتلهم
تقوست ملامح وجه عمران وأصبحت مخيفة وهو يردد عبارة شقيقته بصدمة:
_رچعت كيف يعني.. ومين سمحلها تطلع وتروح!
التزموا الصمت ولم يجيبوه وبالأخص إخلاص تصنعت البراءة وكأنها لم تفعل شيء ولم تنظر لابنها عمدًا حتى لا يكشف أمرها، بينما هو فسكوتهم زاد من اشتعال لهيبه أكثر وأثبت له أن زوجته خرجت من تلقاء نفسها وعادت لأهلها تحديدًا بهذا الوقت عنادًا به وبالجميع.
اندفع لخارج المنزل ثائرًا يقود خطواته الواثقة باتجاه منزل خليل صفوان، وفور وصوله رأى جلال كان يجلس بالخارج أمام المنزل شاردًا الذهن فاستقام واقفًا عندما رأى عمران وطالعه بثقة تامة هاتفًا في سخرية:
_إيه چاي تاخد بتار أبوك ولا إيه!
تقدم عمران نحوه بخطوات متريثة حتى وقف في مواجهته مباشرة وتطلع في عيناه بنظرة قاتلة وهو يقول:
_لا أنا مبلطخش يدي بالدم وعمك هجيبه لو نازل تحت سابع أرض وانصحك متفضلش مداري على مكانه كتير عشان متتأذيش كيفه
جلال بعين مظلمة ونبرة مريبة:
_أنا مبتهددش.. واحمد ربك أننا سبنا ابراهيم الصاوي يموت براحة إكده بعد اللي عمله في أبوي وفينا يعني الموت كان قليل عليه
انقض عمران على جلال وراح يقبض على رقبته يخنقه وهو يهتف بغضب وتهديد حقيقي:
_أنا لو عاوز حق أبوي بالدم مش هخلي حد فيكم واصل وهتبقي مچزرة
دفع جلال يده عنه وراح يوجه له لكمة عنيفة ومبرحة اختل توازنه وكاد أن يسقط على أثرها وهو يهتف له بسخط واستهزاء:
_وأنت أول واحد هتقع في المچزرة دي على يدي
كانت آسيا بتلك اللحظة في طريقها للخارج وهي تحمل بيدها كأس الشاي الخاص بشقيقها، لكن سقط الكأس من يدها على الأرض بصدمة عندما رأتهم وهم يتقاتلون وهرولت نحوهم وهي تبعدهم صارخة بزوجها:
_عمران بتعمل إيه!!
رقمها شزرًا وراح يجذبها من ذراعها نحوه لتقف بجواره وهو يهتف لها متوعدًا:
_أنتي خليكي إهنه ومتتحركيش هترچعي مكانك اللي سيباه من غير أذني وكأني مش موچود
رأت آسيا نظرات الاشتعال في وجه جلال وكان على وشك الانقضاض على عمران مجددًا فأسرعت بسرعة تمسك بيد جلال وتختفي له برجاء:
_جلال بزيادة أبوس يدك.. أنا همشي ومتقلقش عليا أنت عارف أختك زين
رفع عمران حاجبه مستنكرًا ردها وهي تخبره بصراحة أنها ليست ضعيفة لكي تتركه يتمكن منها.. وعلاقتها التي عادت قوية مع شقيقها مجددًا فجأة.
التفتت آسيا باتجاه عمران وهي تحدقه بشراسة وقوة تليق بها، لكن جلال لم يستمع لها وهتف بعصبية وهو يحاول جذبها من قبضة عمران:
_هو أنت هتخليها ترچع معاك غصب
كان عمران سيهم بالرد منفعلًا فتداركت آسيا الموقف بسرعة حتى لا ينشب قتال آخر بينهم واقتربت من أخيها بسرعة تهمس لها بنظرات دافئة متوسلة إياه:
_چلال عشان خاطري بلاش مشاكل بزيادة اللي حُصل.. متقلقش عليا وعمران عمره ما هيأذيني
رفع جلال نظره لعمران الذي يقف ويرمقه بغضب ويحاول التحكم بزمام انفعالاته قدر الإمكان، وعندما عاد بنظره لأخته رأى التوسل في عيناها فتنهد الصعداء ولانا حدة نظراته ومعالمها فابتسمت آسيا براحة عندما رأت استسلامه والتفتت لعمران ترمقه بضيق قبل أن تتحرك متجهة لمنزلها معه وهو لحق بها.
***
فور وصول عمران وآسيا للمنزل ودخولهم هبت إخلاص واقفة بغضب وهي ترمق آسيا شزرًا مغتاظة، التفت عمران بنظره نحو زوجته وهتف بلهجة آمرة ونظرة مخيفة:
_اسبقيني على فوق واستنيني
ألقت آسيا نظرة متشفية ومتوعدة على إخلاص ثم تحركت واتجهت نحو الدرج لكنها توقفت بمنتصف الطريق على أثر اعتراضها وهي تقول بحدة:
_اقفي عندك رايحة وين.. سبق وقولتلك معدش ليكي مكان في بيتي إهنه
هتف عمران بتعجب ونبرة حازمة:
_چرا إيه ياما!
التفتت آسيا بجسدها نحو عمران وقالت له بلهجة ساخرة وسط نظراتها المشتعلة لإخلاص:
_أصل أمك الصبح مدت يدها عليها وطردتني برا البيت قصاد الخلق والحريم كلها عشان إكده أنا روحت بيت أبوي

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ميثاق الحرب والغفران)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى