روايات

رواية ميثاق الحرب والغفران الفصل الأول 1 بقلم ندى محمود توفيق

موقع كتابك في سطور

رواية ميثاق الحرب والغفران الفصل الأول 1 بقلم ندى محمود توفيق

رواية ميثاق الحرب والغفران الجزء الأول

رواية ميثاق الحرب والغفران البارت الأول

ميثاق الحرب والغفران
ميثاق الحرب والغفران

رواية ميثاق الحرب والغفران الحلقة الأولى

قبل سنتين من الآن ………
اصطف بسيارته السوداء أمام المنزل بعد عودته من عمله بتمام الساعة الرابعة عصرًا ، فتح باب السيارة وترجل منها وقبل أن يخطو خطوة واحدة نحو المنزل التقطت أذناه أصوات صياح لرجال يتشاجرون امتزجت بصراخات نساء ، ضاقت عيناه باستغراب لكن سرعان ما اتسعت بذهول حين رأى مجموعة من الشباب يخرجون من منزله بعضهم يحمل بيديه عصيان غليظة وكبيرة والبعض الآخر يحمل أسلحة بيضاء صغيرة من المطبخ ويركضون باتجاه الشارع الموازي لمنزلهم تحديدًا نحو الشارع الخلفي ، اسرع نحوهم وتمكن من الإمساك بواحد منهم ليهتف له بحدة :
_ إيه اللي بيحصل ده في إيه ؟!
توقف الشاب مجبرًا ليجيبه على عجالة حتى يلحق بالبقية :
_ الدنيا والعة عند بيت خليل صفوان
زاد اتساع عيناه والصدمة تعتلي معالم وجهه بالكامل ليصيح به بغضب :
_ وإيه الشوم والساكنين اللي في يدكم دي وطالعين بيها من البيت
رد عليه الشاب متعجلًا بعد أن حرر ذراعه من قبضته :
_ عم عبد العزيز وبشار وبلال هما اللي طلبوا منينا .. باينله هيبقى دم للركب
تصلب بأرضه للحظات بعد ركض ذلك الشاب نحو الشارع الخلفي تحديدًا أمام منزل عائلة خليل صفوان ولكن دهشته لم تدم حيث اسرع ركضًا خلفه ليرى بعينه ما الذي حدث ، لكن انفرجت شفتيه بصدمة حين رأى الاشتباك العنيف بين العائلتين .. عائلته وعائلة خليل صفوان ، والتقطت عيناه الدماء التي تسيل من بعض الشباب نتيجة الصراع بالاسحلة والعصا وأهل المنطقة والجيران بعضهم يقف يشاهد تلك المجزرة من بعيد منذهلًا دون أن يتجرأ على التدخل والبعض الأخر يقف بنوافذ منازله من الأعلى ! .
لمح بعيناه أخيه الصغير وهو يتشاجر مع شاب يتدخل في الشجار لصالح عائلة صفوان وذلك الشاب يمسك بيده سلاح أبيض ويحاول طعنه به فصاح بصوته الجهوري :
_ بـــلال !
وبظرف لحظة كان يهرول ركضًا نحو أخيه ويمسك بذلك الشاب ثم يوجه له لكمه عنيفة ابرحته ارضًا نظرًا لفرق البنية والقوة التي بينهم ثم جذب السكين من يده والتفت تجاه أخيه يهتف بعصبية وعدم فهم :
_ إيه اللي بيحصل ده يا بلال ؟!!!
بلال بنظرة نارية تنضج بالشر والغضب :
_ الحرب ابتدت ياخوي .. وياقاتل يامقتول .. ناس خليل صفوان ابتدوا الخيانة وهما اللي حطو البودرة في السمك عشان يلبسوها فينا وكلنا نروح فطيس
وكأن الصدمات كانت من نصيبه هو بذلك اليوم حيث طالت نظراته المندهشة لأخيه لكن سرعان ما تحولت لأخرى ملتهبة تنبض بالانتقام مثل أخيه وبقية عائلته والتفت للخلف يتابع ما يحدث أمام عيناه من قتال بين الجميع وقبل أن يخطو خطوة للأمام حتى ينضم لعائلته ليثأر لحقهم رأى شاب يقربه بالعمر يرفع سلاحه الناري ويصوبه باتجاه خليل صفوان ويطلق النيران لتستقر الرصاصة بجسده الهزل .. فيسقط الرجل على الأرض وتتعالى معه نواح النساء وصياح أبنائه ورجال عائلته وهم يركضون نحوه ، أما ذلك الشاب الذي اطلق النيران فر هاربًا بلحظتها بعد أن وثب فوق دراجته النارية ، ولم تمر سوى دقائق قليلة حتى بدأت سيارات الشرطة تصطف بالشارع و…….

استفاق من شروده على صوت أمه وهي تهتف له باسمة :
_ صباح الخير ياولدي
التفت لها وبادلها الابتسامة وهو يجيبها :
_ صباح النور ياما
تفحصته إخلاص بنظرها وسألت بتعجب :
_ لابس خلچاتك وجاهز .. على فين إكده من صباحية ربنا ؟!
تنهد الصعداء ورد بصوت رجولي غليظ :
_ ما أنتي عارفة الشغل مش بيتقله لا في أي وقت
هزت رأسها بتفهم هامسة :
_ ربنا ينورلك طريقك ياولدي .. قوم يلا عشان نفطر ، الفطار چاهز وكله چوا بيفطر
استقام واقفًا وانحنى على رأس أمه يقبلها بحنو هامسًا :
_ مليش نفس افطروا أنتوا أنا يدوب الحق اشوف الشغل اللي ورايا وقولي لبشار يحصلني على هناك
اعترضت بضيق تجيبه في دفء أمومي :
_ هتطلع على لحم بطنك .. كُل لقمة حتى ياولدي
تمتم بابتسامة خافتة :
_ مش جعان والله ياما
انهى عبارته ولم ينتظر ردها بل اندفع يقود خطواته لخارج المنزل لكنها اوقفته بصوتها المرتفع :
_ عمران !
توقف واستدار لها برأسه لتبتسم له وتقول باهتمام :
_ خد بالك من نفسك
لقد اعتاد على تلك العبارة منذ الحادثة المشهورة التي وقعت قبل سنتين ومازالت تداعياتها مستمرة حتى الآن .. ابتسم لأمه بعدم حيلة ورد بصوت أجشَّ :
_ حاضر ياما متقلقيش
ثم استدار وأكمل طريقه لخارج المنزل بينما إخلاص فظلت تتابع ابنها ونجلها الوحيد وهو يختفي من أمام نظراتها داعية ربها أن يحفظه لها من كل شر ……….
***
داخل منزل خليل صفوان …….
بالطابق الثاني تحديدًا داخل إحدى الغرف الواسعة التي تضم فراشًا متوسط الحجم وخزانة صغيرة ومقعدًا هزاز بأحد زوايا الغرف .. أما الحوائط فكانت بيضاء تمامًا كالثلج .
تلك هي الغرفة الأفضل والأكبر بالمنزل كله ولم تتمكن أي فتاة من العائلة الحصول على غرفة مثلها ، فغالبًا الغرف الكبيرة والمميزة تكون من نصيب الرجال فقط ولا سيما إذا كان متزوجًا .
توقفت أمام المرآة تلقي النظرة الأخيرة على مظهرها وهي بتلك العباءة المنزلية ذات اللون الأزرق ومطرزة بخيوط بيضاء عند الصدر وفي الأسفل بأشكال فرعونية مميزة ، رفعت يديها ترفع شعرها الغزير والحريري لأعلى وتثبته بمشبك أسود ثم تلتقط حجابها من نفس لون العباءة وتلفه حول شعرها بإتقان وحرص على عدم ظهور شعرة واحدة منه .
وبينما كانت على وشك الاستدارة والرحيل سقطت عيناها على الصورة الموضوعة داخل اطار صغير فوق المنضدة الصغيرة .. تجهَّم وجهها بحزن وحسرة لتمد اناملها وتلتقط الاطار ثم تتحرك به وتجلس فوق الفراش وهي تتأمل الصورة بعينان دامعة وتهمس في حرقة :
_ اتوحشتك قوي يابوي ، منه لله اللي كان السبب
انهمرت عبراتها واحدة تلو الأخرى بشوق وألم لكن سرعان ما لمعت عيناها بوميض مخيف ينضج بالشر والثأر وهي تهتف :
_ حقك مش هنسيبه حتى لو كان فيها قتلهم كلهم واحد واحد .. النار اللي چوانا مش هتطفي ولا تهدي غير لما يتحرق قلبهم كيف ما حرقوا قلبنا عليك
ثم تابعت بعينان ملتهبة كجمرة من النيران :
_ هانت يابوي هانت .. قريب قوي هناخد تارك وعزاك
كفكفت دموعها بظهر يدها واستقامت بكل صلابة واقفة ثم اتجهت نحو طاولة مكياجها ووضعت الصورة بمكانها لتسدير بعدها وتغادر غرفتها بأكملها .
نزلت درجات الدرج بقسمات وجه جامدة وكأنها لم تكن تبكي منذ قليل وتتوعد بالانتقام لثأر أبيها !! .. عند وصولها لآخر درجات السلم التقت عيناها بعيني ابنة عمها ” خلود ” فاكتفت بإرسال بسمة متكلفة لها وعبرت من أمامها دون أن تلقي بتحية الصباح حتى عليها ، مما دفع الأخرى لرمقها بنظرة متعالية ومغتاظة .
توقفت أمام غرفة الجلوس الخاصة بجدها وطرقت الباب عدة طرقات خفيفة لتسمع صوت عمها من الداخل وهو يهتف بقوة :
_ ادخل
فتحت الباب بأدب ودخلت لتقابل وجه جدها وعمها بابتسامة عذبة ثم تتقدم أولًا من جدها وتنحنى علي يده تقبل ظاهرها باحترام هامسة :
_ صباح الخير ياجدي .. اخبار صحتك إيه دِلَوكْ ؟ ( دلوقتي )
ربت حمزة على رأسها بلطف هاتفًا في حنو :
_ نحمده ونشكره يابتي
ابتسمت له بحب ثم التفتت نحو عمها واقتربت منه لتنحني على كف يده تقبل ظاهره بالمثل هاتفة :
_ صباح الخير ياعمي
أجابها منصور باسمًا :
_ صباح النور ياحبيبة عمك
استدارت برأسها للجانب لترى ابن عمها ” على ” يشارك أبيه وجده الجلسة الصباحية فالقت عليه التحية بالمثل في ابتسامة خافتة ، ثم استدارت وقادت خطواتها لخارج الغرفة لكن قبل أن تفتح الباب وتنصرف سمعت عبارة عمها وهو يقول بغضب دفين :
_ قولت إيه يابوي في موضوع الصُلح ده ، اوعاك تقولي إنك موافق ؟!
تصلبت بأرضها مندهشة على أثر كلمة عمها ( صُلح ) ولم تتمكن من تمالك نفسها حيث استدارت بجسدها كليًا لهم وسألت بعينان نارية :
_ صلح إيه ده !!
خرج صوت منصور الرجولي وهو يلقي عليها أوامر بحدة :
_ ملكيش صالح بالكلام ده ، روحي على المطبخ ساعدي أمك وخلود ومرات عمك في الفطور يلا
لم تكترث للهجة وأوامر عمها بل تحدثت بكل قوة وشجاعة :
_ أنتوا ناوين تعملوا صلح معاهم ، طب وحق أبويا !! .. حق ولدك يا چدي !
خرجت صيحة مرعبة من حمزة الذي صاح بها منفعلًا :
_ هنعيدو ونزيدو في الكلام ولا إيه عمك قالك ملكيش صالح بالحديت ده .. من ميتا ( إمتى ) الحريم بتدخل في كلام الرچالة
ابتلعت بقية عباراتها في فمها ولم تتمكن من استرسال الحديث بعد صيحة جدها بها فأجابت مجبرة وهي تشتعل من داخلها :
_ حاضر ياچدي
ولم تلبث لحظة أخرى حيث التفتت تندفع لخارج الغرفة وهي تصفع الباب خلفها بعنف ونيران الغضب والثأر بثناياها تزداد اشتعالًا ……
***
بين جدران غرفة أخرى داخل منزل خليل صفوان …….
تساعد ابنها الأصغر ذو الست سنوات في ارتداء قميصه الأبيض وغلق أزراره حتى لا يتأخر على دوامه اليومي ، بينما نجلها الأكبر كان يجلس على أحد المقاعد يرتدي حذائه بمفرده .
التفتت فريال بنظرها نحوه وهتفت بحنو :
_ لبست چزمتك يامعاذ ؟
أجابها معاذ الذي يبلغ من العمر عشر سنوات :
_ أيوة ياما خلصت
اماءت له بالإيجاب ثم التفتت برأسها نحو ابنها الصغير تحدثه بعدما انتهت من مساعدته في ارتداء قميصه :
_ يلا ياعمار روح البس چزمتك إنت كمان احسن تتأخروا على المدرسة أخوك معاه امتحان
هز رأسه بالموافقة وهرول نحو الكومود يفتح بابه ويجذب حذائه الرياضي الصغير من داخله ثم يتوجه نحو الفراش يجلس بجوار أمه ويبدأ في ارتدائه بمفرده .
توقفت هي وتقدمت نحو ابنها الأكبر تقف أمامه ثم تمد يديها للياقة قميصه تضبطها له هاتفة باهتمام وقلق أمومي :
_ فاكر اللي ذكرناه امبارح يامعاذ ؟
أجابها بإيجاب في ثقة :
_ فاكر ياما اطمني بعدين ده امتحان شهر يعني مش آخر السنة
ظهر الاحتدام على محياها لتجيبه بحدة :
_ وإيه يعني امتحان شهر ، اسمه امتحان ولا لا
أجاب على أمه بنفاذ صبر وخنق :
_ حاضر ياما حاضر
لانت حدة ملامحها وابتسمت له بحنو أمومي قبل أن تميل برأسها قليلًا بسبب طول جسده حيث يصل لصدرها ولثمت شعره بلطف هامسة :
_ ربنا يسرلك الامتحان ياحبيبي .. خد بالك من أخوك وانتوا بتعدوا الشارع
تنهد الصعداء بنفاذ صبر من تعليمات أمه التي لا تنتهي وقال موجهًا حديثه لأخيه الصغير :
_ يلا ياعمار
تابعته وهو يتحدث لأخيه ويلملم ادواته المدرسية داخل حقيبته فابتسمت بحنو ، هو تمامًا نسخة مصغرة من أبيه بكل شيء ، حتى أن تصرفاته تشبهه وكأنه رجلًا وليس طفلًا .
انتهى معاذ من ارتداء حذائه واستقام واقفًا يجذب حقيبة مدرسته ويسير مع أخيه لخارج الغرفة لكن معاذ توقف عند الباب والتفت برأسه لأمه يهتف :
_ احنا هنعدي على چدي وچدتي وخالي عمران واحنا راچعين من المدرسة ياما
هزت رأسها بالموافقة لهم متمتمة :
_ طيب
ابتسموا لها بحب ثم التفتوا بجسدهم وغادروا ، فتنهدت هي براحة ومدت يدها تلتقط حجاب شعرها تلفه جيدًا حوله ثم غادرت هي أيضًا غرفتها تقصد المطبخ بالطابق الأول .
***
زاد اجتماعهم الصباحي فردًا للتو وكان يجلس ساكنًا يتابع انفعالات عمه وهو يهتف بغضب في جده :
_ على چثتي يابوي احط يدي في يدهم من تاني .. حق اخويا اللي اتقتل غدر مش هسيبه
حمزة بعصبية من محاولة أبنه لعدم تنفيذ أوامره :
_ وأنا كلامي خلص يامنصور وقولت الصُلح ده هيتم
تحدث علي بلهجة مهذبة لكنها تحمل الضيق :
_ عاوزنا ندخلهم بيتنا كيف وننسى كل حاجة ياچدي !
حمزة بلهجة رجولية صارمة :
_ أنا مچبتش سيرة النسيان .. واوعاكم تنسوا أن خليل ده ولدي
كان منصور يترنح في جلسته وهو يشتعل من العصبية بينما علي فنظر لابن عمه الجالس بكل هدوء يتابعهم في نظرات جامدة وسأله بخنق كأنه ينتظر منه الاعتراض بدوره على أوامر جدهم :
_ ساكت إكده ليه ياچلال ما تقول كلمة ؟!
اطلق جلال زفيرًا حارًا من بين شفتيه ثم انتصب في جلسته وتمتم بتأيد لرأى جده :
_ چدي عنده حق .. الصلح احسن حل دِلَوكْ ( دلوقتي )
وثب منصور واقفًا يصيح بعصبية :
_ لا أنتوا معدش فيكم عقل واصل .. أنا مش هحضر الصلح ده اعتبرني موت يابوي مع خليل
انهى عبارته واندفع لخارج الغرفة ليسمع صيحة أبيه الجادة :
_ هتحضر يا منصور غصبن عنك .. وكلمتي مش هتنيها سامع ولا لا
كان جلال ينقل نظره بينهم بعينان مظلمة، هو ليس راضٍ عن ما يسمى بالصلح لكنه أفضل قرار الآن حتى يتثنى له الانتقام لثأر أبيه بكل هدوء ……
***
داخل المطبخ ……..
كانت آسيا تجلس على مقعد حول طاولة المطبخ الصغيرة وقدماها ترتعش بعنف أسفل الطاولة من فرط غضبها ، كلما تتذكر حديث عمها وجدها بالغرفة ومنعهم لها من التدخل .
كان المطبخ فارغ ولم بتبقى به سواها بعد أن خرج الجميع ليتناول طعام الإفطار وإذا بها ترى فريال وهي تنضم إليها بالمطبخ فتلونت عيناها بحمرة الغضب وظلت تتابعها بنظراتها النارية لو كان بإمكان النظرات الحرق لحرقتها بأرضها .
كانت فريال تلتفت بين آن وآخر باستغراب من نظراتها لها ولم ترغب في أن تسألها بالبداية بسبب علاقتهم السيئة، لكن نظراتها كانت غريبة لها فسألت دون أن تنظر لها :
_ مالك يا آسيا بتبصيلي إكده ليه ؟!
رمقتها بنظرة مميتة وهي تهمس بصوت مريب :
_ وإنتي مالك، ولا سيادتك هتقوليلي ابص كيف ومبصش كيف في بيتي
تنهدت فريال بخنق لتجيبها بثبات دون أن تلتفت لها :
_ زي ما هو بيتك فهو بيتي أنا كمان ولا إيه !
ابتسمت آسيا ساخرة واستقامت واقفة كالأسد المتربص ثم تقدمت إليها لتقف خلفها وتهتف بصوت يحمل من القوة ما يليق بيها :
_ لا ده مش بيتك ده بيت خليل صفوان وأخويا اللي هيطلقك .. إنتي احمدي ربك أنه لسا مخليكي في بيته وعلى زمته بعد ما ابوكي واخوكي قتلوا أبويا
كانت فريال تقف أمامها بكل ثبات وشجاعة دون أي خوف رغم هيبة وقوة آسيا التي لا مثيل لها :
_ أبويا وأخويا ملهمش صالح ومقتلوش عمي خليل
ضحكت آسيا عاليًا باستهزاء لتجيبها مازحة بنظرة ملتهبة :
_ صُح !! .. امال مين اللي قتله چلال ؟!
لوت فريال فمها بنفاذ صبر وردت عليها بخنق :
_ أنا مفضياش لحديتك الماسخ ده يا آسيا ، اللي فيا مكفيني أصلًا
لم تنطفأ نار غضبها حتى الآن حيث تابعت بحرقة وغضب :
_ تقتلوا القتيل وعاوزين تمشوا في جنازته .. بس ورحمة أبويا ما هيتم الصلح ده وقريب قوي قلبكم هيتكوي على أبوكي وأخوكي كيف ما كويتوا قلبنا على أبونا
التفتت لها فريال برأسها وتابعتها بنظرها وهي تندفع لخارج المطبخ كالبركان لتتنهد الصعداء بضيق ، فقد نجحت ككل مرة في تعكير مزاجها …..
***
داخل منزل إبراهيم الصاوي …….
بتمام الساعة التاسعة مساءًا داخل غرفة الصالون الواسعة كان إبراهيم يجلس فوق الأريكة يحدق في الفراغ أمامه بشرود ينتظر وصول ابنه .. ولم يلبس دقائق حتى وجد باب الغرفة ينفتح ويدخل عمران وهو يرتدي ( قفطان ) صعيدي أبيض ثم يتقدم ليجلس على مقعد مقابل لأبيه ويهتف بصوت رجولي غليظ :
_ لساتك ( لسا ) مصمم على الصُلح ده يابوي !!
إبراهيم بجدية تامة :
_ بزيادة مشاكل ودم ياولدي .. اللي قتل خليل صفوان هربان ومعرفينش ليه طريق چرة ، وطول ما احنا مكملين في العدواة دي إكده هنثبت إن لينا يده في قتل خليل
التهبت نظرات عمران ليهتف بغضب ونبرة مخيفة :
_ وأنت يهمك في إيه تثبت ليهم أن احنا ملناش يد في قتله ، احنا عارفين زين اننا مقتلناش حد
تابع إبراهيم بكل رزانة وهدوء رغم غضب ابنه :
_ وهما ناس خليل صفوان ياولدي هيسكتوا عن حقهم ! .. أنا خايف عليك عشان إكده بقولك الصلح خير للكل
ابتسم عمران بثقة وهدر بقوة :
_ متخافش عليا أنت مخلف راچل مش عيل صغير
سكت للحظة ثم تابع بغضب حقيقي :
_ هما اللي بدأو الغدر من البداية لما حطولنا البودرة في السمك ، ولما خليل اتقتل قالوا احنا اللي عملناها !!
زفر إبراهيم بقوة وقال بعدم حيلة :
_ ياعمران يا ولدي اسمع الكلام زين وافهمني
طالت نظرات عمران الدقيقة لوالده وكأنه يحاول التوغل لعقله وفهم ما يدور بداخله ، فقست نظراته وهو يميل للأمام قليلًا يستند بساعديه على فخذيه هاتفًا :
_ إنت خايف إكده ليه يابوي وشاغل بالك بيهم وبالصلح ده ، اللي اعرفه عنك إنك مبتكستش عن حقك وهما غلطوا في حقنا واحنا مقتلناش حد ، فيك إيه عاد ؟!
بدأ الانزعاج يظهر على وجه إبراهيم الذي هتف بصرامة :
_ فيا إني قولتلك خايف عليك إنت وأخوك وواد عمك ، هما مفاهمينش اننا مقتلنهوش ومش هيرتاحوا غير لما ياخدوا حقهم لكن الصلح هينهي كل ده
التزم الصمت مرغم وهو يتأفف بصوت مرتفع في خنق ليجد أبيه يتابع بنبرة جادة :
_ أنا كلمت حمزة صفوان وبكرا هنروح عندهم وهنعمل قعدة عرب ونفضوا العداوة دي
استمرت نظرات عمران المستاءة إلى أبيه دون أن يتفوه ببنت كلمة على ما قاله ، وكأن إبراهيم فهم وأدرك ما يدور بعقله ولا يتفوه به فرد عليه يمنعه من مجرد التفكير :
_ عمك وبشار وبلال هيچوا معايا ، وأنت كمان هتاچي ياعمران
مازال الصمت هو سيد الموقف وكأن بصمته يجيب على أبيه بردوده المفحمة ، استقام واقفًا فجأة وهتف بصوت رجولي غليظ :
_ تصبح على خير يابوي
انهى عباراته واندفع لخارج الغرفة ليقابل أمه أمامه التي ابتسمت له وسألته باهتمام :
_ احضرلك العشا ياولدي
رد بإيجاز في نبرة مريبة والغضب يشتعل في عيناه :
_ مش عاوز
تابعته إخلاص وهو يتجه للدرج يصعد للأعلى حيث غرفته بنظرات تعجب وضيق ثم التفتت ودخلت الغرفة حيث يجلس زوجها بالداخل …..

***
بين زوايا غرفة آسيا بمنزل خليل صفوان ……
تجلس قبالتها أمها على الفراش وتهتف بنبرة حازمة :
_ إنتي مفكرة إني راضية عن الصُلح ده يعني !
آسيا بعصبية شديدة :
_ أمال ساكتة ليه ياما .. متكلمتيش مع چلال وچدي ليه !
صاحت جليلة بقوة :
_ ده كلام رچالة وإنتي عارفة إن مفيش ست تقدر تتدخل فيه .. هعمل إيه يعني !
لوت آسيا فمها بعدم تصديق وهدرت تجيب على أمها مستنكرة خضوعها وضعفها :
_ إنتي اللي بتقولي إكده ياحچة چليلة ! .. راحت فين چليلة اللي بكلمة واحدة منها الكل بيمشي ألف
لاح شبه ابتسامة مريرة على ثغر جليلة التي ردت بألم وانكسار :
_ كان زمان يابتي قبل ما يكسروا ضهري ويقتلوا أبوكي ، أنا كنت بتحامى وافرد چناحتي على الكل عشان عارفة أن أبوكي في ضهري
مالت آسيا على أمها وهمست بنظرة قوية :
_ أنتي اللي علمتيني مسبش حقي واصل ، اتعلمت القوة والچبروت منك وعشان إكده لازم متتنازليش عن حق أبويا ، ولو خليل صفوان مات ففي اللي من لحمه ودمه ولدك هو ضهرك وحماكي
تنهدت جليلة بحزن وردت بعدم حيلة في عينان دامعة :
_ الدم مبيخلصش يابتي ، وأنا مش حمل فراق تاني معدش باقيلي غيرك إنتي وأخوكي
التهبت نظرات آسيا وهي تطيل النظر بأمها ولم تشعر بتلك العبرات الحارقة التي تجمعت بعيناها تتصارع على السقوط وإذا بها تثب واقفة تصرخ بأمها في وجع وصوت ينبع من صميمها ممتزوجًا بدموعها التي تنهمر بغزارة فوق وجنتيها :
_ محدش فيكم حاسس بالنار اللي في قلبي .. كلكم نسيتوا حق أبويا وعاوزين تردموا دمه اللي مبردش تحت التراب ، عملهم إيه عشان يغدروا بيه ويقتلوه ..ده كان بيقول إبراهيم الصاوي ده أخويا وعياله زي عيالي ، كان بيشيل فريال من على الأرض شيل ويقول دي بنت الغالي وعمران كان بيعتبره كيف چلال بظبط ، حتى في عز الخناقة كان بيحاول يلم الموضوع ويحچّز بين عياله وعيال إبراهيم ، وهما عملوا إيه.. قتلوه بدم بارد
توقفت جليلة واقتربت من ابنتها ثم ضمتها لصدرها تربت على شعرها بحنو هامسة فى صوت باكي :
_ ربنا ينتقم منهم يابتي
انهارت باكية بين ذراعين أمها وهي تهتف بصوت مبحوح :
_ كان حنين على الكل ياما وعمره ما أذى حد .. ليه عملوا إكده فيه !
سالت دموع جليلة فوق وجنتيها وهي تحتضن ابنتها وتشاركها في البكاء بصمت ، بقت آسيا داخل نوبة بكائها العنيفة بين ذراعين أمها حتى توقفت بعد دقائق وابتعدت عنها بقوة ثم رفعت اناملها وكفكفت دموعها بقوة ورمقت أمها بشراسة لتقول بعينان تحمل الوعيد :
_ لو كلكم سكتوا عن حقه أنا مش هسكت ياما
طالعتها جليلة بنظراتها مطولًا في عدم حيلة فمهما حاولت ردعها لن تستطيع ، فهي كما قالت منذ قليل تشبهها تمامًا بكل شيء ……
***
خرجت فريال من الحمام مرتدية قميص حريري قصير تاركة العنان لشعرها ينساب بحرية على ظهرها وكتفيها وبيدها منشفة صغيرة تجفف بها وجهها من الماء ، لكن وقعت عيناها على زوجها الذي يجلس فوق الفراش بسكون تام منذ عودته ويحدق في الفراغ بشرود ، أما ملامح وجهه القاسية تنم عن طوفان عاتي بداخله ، فضلت الصمت بالبداية وتوقعت سبب غضبه ثم تقدمت نحو طاولة مكياجها الخاصة والتقطت فرشاة الشعر لتبدأ بتسريح شعرها في لطف .
التقطته نظراتها في انعكاس المرآة لتراه وهو يحرك كتفيه بألم باديء على ملامحه لتتنهد بحنو وتلتفت له ثم تتقدم منه تصعد فوق الفراش وتجلس القرفصاء خلفه ، وباللحظة التالية كانت ترفع يديها الناعمتين وتضعهما فوق كتفيه من الجانبين وتبدأ في تمسيده بكل رفق ، صدر منه تأوهًا متلذذًا بملمس اناملها الساحرة واغمض عيناه في راحة .
مرت دقائق معدودة وهي مستمرة في تدليلك رقبته وكتفيه حتى وجدته يلتقط يدها ويقربها من شفتيه يلثم باطنها هامسًا ببحة رجولية مميزة :
_ يدك كيف السحر يافريالي
ابتسمت له بغرام ثم سألته باهتمام وقلق :
_ إنت مضايق من حاچة ياچلال ؟!
اعتدل في جلسته والتفت لها ليتمتم باسمًا بعين تفيض حبًا :
_ وعرفتي كيف إني مضايق !!
فريال بنبرة رقيقة مثلها :
_ محدش يعرفك قدي يا أبو معاذ
امعن النظر بها مطولًا يتأمل ملامح وجهها الجميلة ، شعرها الناعم الذي يتطاير بفعل نسمات الهواء الخفيفة يجعلها تبدو كالحورية ، وشفتيها المنتكزتين تعطيان اللون الوردي دومًا ، أما عيناها ذات اللون العسلي تسحبه داخل دوامة لا طريق للخلاص منها .
رفع أنامله وأبعد خصلات شعرها عن وجهها برقة شديدة ثم راح يملس فوق وجنتيها هامسًا بعشق دفين :
_ وهو مين يشوف العيون اللي كيف الچنة دي ويفضل في هم ملازمه
ارتفعت بسمة مغرمة فوق ثغرها ثم اجفلت نظرها عنه بخجل ليضحك هو ويمد انامله يرفع ذقنها ليصبح نظرها مباشر لعيناه ويهمس :
_ لساتك بتخچلي مني يافريال .. انا چوزك وأبو عيالك ولينا عشر سنين متچوزين
اجابته بدلال أنثوي ساحر :
_ أنا مش بخجل منك ، بخجل من كلامك اللي مهما حاولت مبعرفش اچاريك فيه
غمز لها بابتسامة لعوب وهو يهمس :
_ طب ما تچربي يمكن تعرفي !!
قهقهت بخفة دون أن تجيبه لتجده يقترب منها ويلثم وجنتها بحنو ثم يحاوطها بذراعيه ويضمها لصدره ، استكانت بين ذراعيه تمامًا تتلذذ بشعور الدفء والآمان الذي لا تشعر به سوى معه فقط .
لمعت عيناها بوميض أمل للحظة فور تذكرها شيء فهمست بنعومة دون أن تبتعد عنه :
_ چلال
خرج صوته الرجولي الدافيء :
_ اؤمري
اخذت نفسًا عميقًا قبل أن تسأله بترقب :
_ هو بكرا هيكون في قعدة عرب ويتم الصُلح صُح ؟
امتعضت ملامح وجهه ولم تحصل على إجابة منه سوى بعد وقت وكانت فقط إجابته مقتضبة كالآتي :
_ اممممم
استشعرت غيظه المكتوم فحاولت أن تلين حدته من وجهة نظرها حيث ابتعدت عنه ورمقته بحب هامسة في حزن :
_ إنت عارف إن أبويا وعمران ملهمش يد في قتل عمي خليل مش إكده !
استقرت في عيناه نظرة مميتة صابتها بالرعب فازدردت ريقها بقلق بسيط ولوهلة ندمت على ما تفوهت به .. حتى وجدته يجيبها بصوت مريب اختلفت نبرته كليًا عن تلك النبرة الحالمة والعاشقة التي كان يتحدث بها منذ قليل :
_ الصُلح ده مش هيرچع المايه لمچاريها واصل ، يعني مش معناه إن عيلة خليل صفوان وابراهيم الصاوي هيرچعوا حبايب من تاني ، أنا منستش حق ابويا ومش هنساه
_ چلال بـــ
قاطعها بلهجة حازمة ومستاءة :
_ بزيادة عاد يافريال حديت في الموضوع ده ، ما احنا كنا زي الفل
التزمت الصمت رغمًأ عنها واشاحت بوجهها عنه للجهة الأخرى في ضيق بينما هو فانحنى عليها ولثم شعرها بدفء قبل أن يتمدد بجسده على الفراش ثم اغمض عيناه وهو يتنفس الصعداء بخنق محاولًا النوم بعد ذلك اليوم المرهق جسديًا وفكريًا .
ظلت هي على حالها لوقت طويل والهموم تستحوذ عليها .. من جهة زوجها وحبيبها ووالد أبنائها ومن جهة عائلتها وأبيها وأخيها ، تؤلمها تلك العداوة أكثر من الجميع ، تدعو ربها وتتمنى لو يعود كل شيء كالسابق .
انهمرت دموعها بغزارة ثم استدرات نحو جلال النائم وانحنت عليه تلثم جبهته بحب متمتمة :
_ ان شاء الله الصلح ده يكون هو نهاية العداوة دي وتمسكوا اللي قتل عمي خليل وتصدق إن ابويا واخويا ملهمش صالح ياچلال
***
بصباح اليوم التالي ………
كان عمران يسير بجانب والده وهم بطريقهم لمنزل خليل صفوان، مرتديًا الزي الصعيدي ( جلبية سوداء ويعلوها عباءة بنية اللون يضعها فوق أكتافه ) ومن خلفهم كان كل من أخيه الصغير وعمه وابن عمه .
وصلوا للمنزل ودخلوا لغرفة الصالون الكبيرة ليجدوا جميع رجال عائلة خليل صفوان مجتمعين ، بينما بالخارج فكانت آسيا تشتعل من فرط الغضب والغيظ .
حاولت كثيرًا أن تضبط نفسها ولا تتهور في تصرفاتها لكنها فشلت فاستقامت واقفة واندفعت نحو الغرفة التي تضم اجتماع العائلتين ووقفت خلف الباب تستمع لصوت جدها وهو يقول بصوت غليظ :
_ اللي قتل ولدي هربان ومش هنسيبه ، ومسيره يقع تحت يدنا ، والحرب اللي بيناتنا ( بينا ) دي طولت واحنا لا حمل دم تاني ولا أنتوا برضوا مش إكده ولا إيه ياحچ إبراهيم
أجاب إبراهيم مؤكدًا على كلمات حمزة :
_ صُح ياحچ حمزة .. احنا طول عمرنا كنا حبايب والي حصل ده كان شيطان ودخل بيناتنا وحق أخوي خليل هيرجع بإذن الله قريب قوي
صدح صوت جلال وهو يجيب بنظر قاتلة يوجهها نحو إبراهيم :
_ هيرچع طبعًا قريب قوي
تقابلت النظرات النارية بينه وبين عمران ولم ينقذ الموقف سوى صوت حمزة وهو يضم كفيه لبعضهم ويقول بحزم :
_ نقرأ الفاتحة بنية تمام الصلح وبنية الرحمة على خليل ولدي
ضم الجميع كفيه ليبدأو في قراءة سورة الفاتحة باقتضاب لكن فجأة انفتح الباب بقوة وظهرت من خلفه آسيا وهي تقف بكل هيبة وجبروت هاتفة أمام حشد الرجال هذا من العائلتين :
_ الصُلح ده مش هيتم !

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ميثاق الحرب والغفران)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى