رواية من أنا الفصل الخامس عشر 15 بقلم حليمة عدادي
رواية من أنا الجزء الخامس عشر
رواية من أنا البارت الخامس عشر
رواية من أنا الحلقة الخامسة عشر
سقطت على ركبتيها، عاجزة عن تحمل مشهد الزوج الممدد على الأرض، كأن ظهرا يحمل جبلًا من الأحزان!
غمرتها الصدمة عندما رأت جثته، وقد غطت الدماء عنقه، وجفّت عيناه في اتساع مرعب. جمد لسانها وثارت دوامة الفوضى في ذهنها، حتى صرخات ابنتها المتكررة لم تلامس وعيها.
كانت عينها ثابتة على جسد زوجها البارد، الذي يرقد بلا روح، بينما ابنتها “حنين” كأنها غير موجودة في تلك اللحظة المروعة.
زحفت نحو الجثة، وكانت عينيها مصوبتين نحوها، كأنها ستخرج من مكانها! عندما اقتربت، وضعت يديها على وجهه لتغلق عينيه، لكن لحظة ملامستها لوجهه، لم تتمكن من تحمل مشهد الدماء، فاختلطت الرؤية أمامها وشعرت بدوار شديد، مما أدى إلى سقوطها على الأرض فاقدة الوعي.
«باك»
أنهت سرد ما حدث، بينما كان دمعها يسيل مثل شلال، حتى بللت وجنتيها وجسدها ينتفض من الذكرى المؤلمة التي تجذرت في قلبها وعقلها.
انهمرت دموع الحاضرين جميعًا وهم يستمعون إليها بحزن عميق، أما “أحمد”، فقد شعر بقهرٍ وحرقة في قلبه، وبدأ يلوم نفسه على موت صديقه نتيجةً للإهمال.
بكَت “تقى” و”إيلول” في حضن “منة”، وسط أجواء مشحونة بالحزن، جففت “منة” دموعها بأطراف أصابعها، ثم تحدثت بصوت مختنق قائلة:
-بعدها لما رجعت لوعي لقيت نفسي في مصنع! و تعرضت للتعذيب من “وليد”؛ لأنه كان عايز يعرف مكان (الأمانة)!
أدار “أحمد” وجهه نحو الاتجاه الآخر، ومسح دمعة انزلقت من عينيه، ثم أعاد بصره إليها وهتف مستفسراً:
-طيب و “حنين” ماتعرفيش إيه سبب فقد نطقها أو إيه إللي حصل لها؟
أجابت بحزن شديد قائلة:
-“حنين” من ساعتها ماعرفتش حاجة عنها؛ طلبت كتير من” وليد” يجيبها ليَّ بس ماكنش بيسمع كلامي ، بس قول ليَّ يا “أحمد” إيه هي( الأمانة) دي إللي جوزي مات بسببها.
أخذ “أحمد” نفسًا عميقًا، ثم رد عليها قائلاً:
-أنتِ تعبانه و اتكلمتي كتير، هقول ليكم كل حاجة، بس مش دلوقت، هنأخذ “حسام” وإنتِ كمان و نكمل علاجكم في البيت.
-تمام يا “أحمد” بيه إللي تشوفه، خد معاك البنات، أنا الدكتور قال مش هقدر أطلع لاني لسه تعبانه.
-تمام بكرة إن شاء الله، آجي اخذك، تعالوا يا بنات، نروح إحنا وهي هتبقى بخير.
غادر الجميع، بينما بقيت “تقى” خلفهم، تبدو شاردة الذهن وتائهة، كأنها غارقة في دوامة من الأفكار؛ لا تعرف ما هو الصواب أو بالأحرى ما هو الحقيقي مما يُقال! تنهدت بعمق، مُحدثة صوتًا مسموعًا حتى انتبه لها الحاضرون.
اقتربت منها “مريم”، ووضعت يدها برفق على كتفها، ثم قالت:
-ماتفكريش كتير و تتعبي نفسك كل حاجة هتكون تمام.
أومأت برأسها، ثم تحركت معهم حتى دخلوا غرفة “حسام”، وعندما رآهم، تجلى البهاء على وجهه فرحاً لرؤيتهم، وانتابه شعور بالسعادة، فهتف بمرح قائلاً:
-الحمد لله أنكم جيتوا، فكرت أنكم نسيتوا إن لكم ابن اسمه “حسام” مصدر سعادة البيت.
بابتسامة مليئة بالسعادة، اقتربت والدته منه وجلست بجانبه، ثم شدت على يده برفق وقالت له بحنان:
-مفيش حد يقدر ينساك يا نور عيني، بس حصلت كم حاجه و اتأخرنا عليك.
شعر بالقلق، ثم جال بنظره بين الحاضرين، كان يتفقد الحاضرين، هل هناك أحد أصابه مكروه، ثم نطق قائلاً:
-ماما، بابا حصل إيه الكل بخير مفيش حاجه؟
تحدثت والدته لتطمئنه قائلة:
-اطمن يا ابني إحنا بس لقينا والدة “تقى” و اختها و هي كمان طلعت بنت صاحب والدك.
-الله.. الله يعني “تقى” طلعت معرفة إزاي عرفتوا كل ده؟!.
جلس والده في الجهة المقابلة، وبدأ يسرد له ما حدث حتى وصولهم إلى المستشفى. وعندما أنهى حديثه، قال:
-ده كل إللي حصل، واحنا جينا النهارده علشان ترجع معانا البيت وهتكمل علاجك هناك في وسطنا احسن.
-الحمد لله يا رب إني أخيراً هطلع من هنا، اتخنقت أوي، عايز ارجع لشغلي، اوعى يكون حد أخذ مكاني في المطعم؟!.
اقترب “يونس” منه، يربت على كتفه، بينما تتلألأ البسمة على شفتيه، وقال:
-المطعم شغال فيه “يوسف” من فترة، لازم نرجع له من جديد و نكمل شغلنا هو لوحده مش قادر.
تألقت عينا “حسام” بالسعادة والحماسة وهو يستحضر ذكرياته عن تلك الأيام الجميلة التي قضاها مع شقيقه وصديقه “يوسف” في مطعمهم الصغير.
على الرغم من حجمه المتواضع، إلا أنه كان يقدم أشهى الأطباق؛ مما جذب الزبائن من كل حدب وصوب لتذوق أشهى المأكولات، التي يتألق فيها الطباخ الماهر.
تنهد “حسام” بحزن وهو يتذكر شلل إحدى قدميه، ثم قال:
-تفتكر يا “يونس” هترجع الأيام زي زمان، و نكبر مطعمنا مع بعض زي ما كنا بنحلم، بس أنا دلوقت اتشلت رجلي إزاي هقدر أساعدك كده؟.
-“حسام” قدامك ان شاء الله فترة و هتخف مش تزعل، و هترجع زي القرد تنط من مكان للتاني.
ثم توجه بنظره نحو “شهيرة” ثم أردف قائلاً:
-شد حيلك إحنا عايزين نفرح بيك عن قريب! ست الكل بتفكر تجهز لفرحك أول ما تطلع من هنا.
تنهد “حسام” بعمق، وهو يوجه نظره نحو قدميه، ثم نظر إلى “شهيرة”، قبل أن ينطق بكلمات تحمل في طياتها مشاعر الحزن قائلاً:
-مين دي إللي هتوافق على واحد فقد قلبه و دلوقتي رجله يا “يونس”.
قطع “أحمد” حديثهم وهو يتجه نحو الباب قائلاً:
-أنا هكلم الدكتور علشان يكتب لك على خروج، “يونس” أنت خذ “مريم” و “تقى” و اختها على البيت الاول؛ علشان العربية صغيرة مش هتكفينا كلنا،وبعدين ارجع خدنا، “زينب” انتِ روحي شوفي” منة”، و “شهيرة” هتعد مع “حسام” تحضر حاجته على بال ما يرجل لينا “يونس”..
انهى “أحمد” حديثه ثم غادر المكان، فتبعته “زينب”، في حين خرج “يونس” مع الفتيات، تاركين “شهيرة” وحيدة مع “حسام”، حيث كانت تشعر بالحرج والخوف مما قد يصدر منه.
كانت تخشى من كلماته الجارحة، فتنهّدت بضيق وهي تحاول أن تتحدث، تنفست بعمق ثم قالت:
-أنا آسفه يا “حسام” على كل حزن كنت سبب فيه بس عايزه أقولك حاجة.
لم تتبدل ملامح” حسام”، الذي نظر إليها في صمتٍ يتناقض مع الفضول الذي استبد به، بعدما لاحظ توترها وحالتها الحزينة وطريقة حديثها!، وبرغم ذلك، فإنه تجاهل كل ذلك وبدأ يتحدث قائلاً:
-آسفه على اية يا “شهيرة”؟! على كسرة قلبي ولا على حزني؟
مسحت دمعة فرت من عينيها، ثم تنهدت بعمق قبل أن تتحدث بحزن قائلة:
-أنا هربت علشانك أنت و ماما؛ علشان ما تتأذوش! هربت غصب عني يا “حسام”؛ علشان ما يحصلش ليك حاجة وحشة، اتعذبت كتير على بال ما عرفت أهرب منه وماتجوزوش، لحد ما ماتت ماما و هربت ورجعت هنا.
أنهت حديثها ثم نظرت إليه، حيث لمعت عينها بالدموع التي تعكس حزناً عميقاً تسرب إلى قلبها، كانت تدرك أنها بحاجة إلى إجابته أو إلى أي كلمة منه؛ لتتمكن من اتخاذ قرار بشأن ما ستفعله.
نظراتها المؤلمة مزقت قلبه، بينما دموعها كالنار التي تحرق روحه. استجمع نفسه وأخذ نفسًا عميقًا ثم قال:
-أنا تعبت من إللي فات، تعبت من الحزن و العتاب و لوم يا “شهيرة”! مش بقيت متحمل أعيش باقي عمري كده!
مسحت دموعها بأصابعها، وتنهدت بعمق، وقالت بحزن:
-الحزن أخد مني كتير، و حطمني يا “حسام”، كفايا أنا تعبت.
تلاشت مظاهر الحزن عن وجهه، وانبثقت الابتسامة من شفتيه، فتحدث قائلاً:
-العمر بيمر بسرعه يا “شهيرة”؛ أنا مش عايزه يضيع في الحزن، أنا كنت زعلان منك بس عمري ما كرهتك، أنتِ لسه جوه قلبي متربعه!
اتسعت عينيها بسعادة و ذرفت دموعها بشدة، و البسمة على شفتيها، أخذت تزيل دمعها بيدها و هي تنظر له و بنبرة يملأه الحب هتفت قائلة:
-بجد يا “حسام” أنتَ مش كنت بتكرهني، بس كنت مش عايز تشوفني!
-عمري ما قدرت اكرهك يا “شهيرة” قلبي وجعني لما هريبتي بس بقيت حزين.
قطع حديثهم دخول “زينب” و”أحمد”، نظرت إليهم والدته بابتسامة، عندما لاحظت السعادة بوضوح على وُجوههم. اقترب “أحمد” من “حسام” ثم قال:
-جهز نفسك يا ابني إحنا هنطلع ان شاء الله و هتبقى بخير.
بينما كان “يونس يقود سيارته في صمت مطبق، انقطع هذا السكون عندما نادت “مريم” من الخلف قائلةً:
-إيه السكوت ده يا جماعه حقيقه بزهق من صمت.
رد “يونس” مجيباً:
-باقي شوية و نوصل، اهتمي بالبنات كويس لحد ما نجي.
-أنا بتكلم عن الصمت! و أنت كل همك يا أستاذ “يونس” هو إزاي اهتم بصديقاتي.
ابتسم “يونس” لكلمات شقيقته ثم بدأ يتحدث قائلاً:
-نقول إيه يا مريومة، أنا بقولك عن البنات علشان نكسر الصمت يالا إحنا وصلنا.
أنهى حديثه، ثم توقف عن القيادة واصطف بسيارته على جانب الطريق، وبعدها نظر إلى الخلف وقال:
-يالا انزلوا و خلوا بالكم على بعض لغاية ما نرجع من المستشفى.. ماشي.
ترجلت الفتيات من السيارة، وفي الأثناء، انطلق “يونس” صوب وجهته، و تقدموا البنات نحو البيت، لكنهم لم ينتبهوا لتلك العيون التي كانت تراقبهم بصمت! وترقب الفرصة للانقضاض عليهم كوحش جائع؟.
بينما كانت “مريم” تفتح الباب، توقفت سيارة فجأة، ونزل منها ثلاثة رجال مسلحين.
انتبهت “مريم” لهم وشعرت بالذعر، ولكن قبل أن تتمكن من فتح الباب، اقترب الرجال من “تقى” وأمسكوا بها، وسط صراخ شقيقتها.
حاولت “تقى” الدفاع عن نفسها والفرار، لكنها كانت أضعف منهم، فقاموا برميها داخل السيارة وهي تكافح! انطلقت “مريم” خلفهم تجري، لكن أحدهم أشهر سلاحه نحوها قائلاً:
-ارجعي مكانك و إلا هطلق المسدس في رأسك يا حلوه أنتِ و القطة الصغيرة.
أنهى الرجل حديثه ثم قفز إلى داخل السيارة، و انطلق بسرعة مذهلة و اختفي عن الأنظار!
هرعت “إيلول” نحو “مريم” التي كانت تقف في مكانها، مشدوهة وغير قادرة على استيعاب ما حدث، حتى أن لسانها عجز عن التعبير! ثم أمسكت “إيلول” بطرف ثياب “مريم” وتحدثت باكية:
-هما اخدوا اختي تاني، يعني مش هشوفها تاني! ردي عليا.
تلاشت الرؤية أمام عيني “مريم”، وشعرت بضيق شديد في صدرها، مع دوار اجتاح رأسها، مما أدى إلى سقوطها مغشيًا عليها.
**********
وصل “يونس” إلى المستشفى وهو يشعر بسعادة لا توصف! لم يكن يدرك ما يجري له؛ لكن وجودها يجعله يشعر بفرح عميق، وكأن روحه قد عادت إليه! أصبح قلبه ينبض بقوة كطبول الحرب، ولكنه ما زال يجهل مشاعره؟
توقف، و ترجل من السيارة، ثم دخل المستشفى متوجهًا مباشرة إلى غرفة شقيقه، والبسمة تضيء وجهه، ألقى التحية ثم قال:
-انتوا جاهزين يالا بسرعه علشان ما نتأخرش على البنات.
ضيق “حسام” عينيه وتحدث بنبرة تتسم بالمشاكسة قائلاً:
-مالك بتقولها وأنت عيونك بتطلع قلوب، مش هنتأخر عليهم.
رفع “يونس” حاجبه وتحدث بسخرية قائلاً:
– أنت بقى بقيت تفهم في لغة العيون أمتى يا أخي.
ابتسم “حسام” بابتسامة خفيفة ثم تحدث مجيباً
-بفهم فيها أوى أوى، أنت نسيت إني حبيت قبلك، و هتجوز قبلك و بفهم في العيون جدًا.
-يالا قوم علشان أساعدك يا أستاذ العيون، نمشي بقى الكرسي جاهز علشان نتحرك.
-أنا جاهز وأنت بلاش استعجال، علشان أنا عارف ليه أنت مستعجل؟ هي مش هتهرب هتلاقيها في البيت عمنا..
أخذ “يونس” نفسًا عميقًا ثم حاول تغيير مسار الحديث، مدركًا أنه إذا استمر في الحديث مع شقيقه، فسوف يبقى هنا دون أن يمتلك إجابات لأي من الأسئلة، حتى إنه لم يتمكن من العثور على إجابة لنفسه حول ما يمر به.
-بابا ساعدني نحطه على الكرسي علشان نخرج.
اقترب “أحمد” منهم، وحملوا “حسام” بين يديهم، في تلك اللحظة، تسرب شعور بالحزن إلى أعماق قلب “حسام” وكسر روحه. انتابته مشاعر العجز التي أحزنته، فتنهّد حزينًا وأغمض عينيه، محاولًا ابتلاع الغصة العالقة في حلقه.
وضعوه على الكرسي، وقبل أن يُدفع به إلى الخارج، قطع رنين هاتف “يونس” الصمت، ترك الكرسي بسرعة وأخرج هاتفه، ليجد رقمًا غريبًا يثير قلقه! ضغط على زر المكالمات، لكن قبل أن يتفوه بكلمة، شحب وجهه، واتسعت عينيه، وتحولت ملامحه إلى شكل مخيف حين سمع كلمات الطرف الآخر.
من دون أن ينطق بكلمة، أبعد الهاتف عن أذنه، وكانت نظراته لا تعكس التفاؤل، كسر صوت “أحمد” صمت اللحظة المليئة بالقلق، قائلاً:
-مين إللي تصل يا ابني حصل إيه مالك ساكت كده؟!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية من أنا)