رواية منك وإليك اهتديت الفصل السادس 6 بقلم زيزي محمد
رواية منك وإليك اهتديت الجزء السادس
رواية منك وإليك اهتديت البارت السادس
رواية منك وإليك اهتديت الحلقة السادسة
فتح “زيدان” جفنيه بعد أن قرر إغلاقهما لخمس دقائق يريح بهم نظره المشوش من إرهاق متزايد في عمله لمدة يومين كان يختطف النوم بهما كمن يقتنص ثمرة شهية من أعلى شجرة بعد أن عزفت بطنه أناشيد الجوع.
مد أصابعه يدلك جبينه برفق في حركات دائرية ربما يصمت هذا الألم الطارق في جانبي رأسه بصورة متواصلة جعلت من ملامحه الوسيمة مكفهره وكأنه انتهى التو من نقاش سَافِر.
صعد رنين هاتفه بموسيقى هادئة، فحول رأسه جانبًا يرى المتصل وما كانه منه سوى الاعتدال في مقعده، منظفًا حلقه عدة مرات قبل أن يرد بنبرة جادة للغاية:
-أهلاً يا باشا.
استمع لصوت الأخر باهتمام بالغ وحين وصل لمبتغاه عادت ملامحه تتجهم بعدما تأجلت غايته التي كان يسعى من خلالها الهرب بعيدًا، لذا قال بنبرة ثابتة خشنة:
-يعني إيه الموضوع ممكن يطول.
استمع لرئيسه الغاضب من استعجاله في الأمر:
-في إيه يا زيدان مش عادتك الاستعجال، قولتلك الموضوع حاليًا مش سهل.
مد يده يضغط بها على فمه في غيظ، وظل يحرك رأسه في تفهم مع حديث رئيسه المتواصل، وحينما انتهى أغلق الهاتف واضعًا إياه بنزق فوق المكتب، وشياطين الدنيا تتلاعب برأسه الآن دافعة إياه بتكسير كل قطعة أثاث في مكتبه كي يهدأ من غليان مشاعره وتدهور أفكاره لمنحدر لا يعجبه.
تقلب بين جنبات دواخله كالمجنون الذي فقد هويته، لا يعلم السبيل في الخلاص مما يؤرقه، طرق كل أبواب الصبر لديه ونفذ مخزونه في تحمل الترهات التي تتقاذف خلف بعضها وهو يقف مكتوف الأيدي وأخرهم ظهور “مليكة” في حياته من جديد.
تلك التي سرقت روحه وجذبته مسلوب الإرادة نحو عالم كان يخشى الدخول به، متمسكًا بغروره وشخصه الفريد في اختياره للفتيات، فأتت هي وخالفت كل توقعاته، هادمة كل أسواره ومعتقداته بنظرات متبادلة بددت من مشاعره الصلدة لأخرى يغمرها الشوق لرؤيتها والتشبع من ملامحها وحركاتها الأنثوية غير المقصودة، والتي كانت تزيده اشتعالاً، جارفة عينيه الراغبة لها في تتوق يتفاقم كل يوم عن سابقه.
كانت ولا زالت أفضل أيام حياته حينما كانا يعيشان قصة حب سرية بعيدًا عن زملائه وأصدقائها قصة حب بدأت بشيء ربما يكون تقليدي ولكن المشاعر المتبادلة بينهما كانت تسمو لارتباط أكبر فيما بعد لولا رغبتها المحققة بما أرادته فخالف هو بعنفوان شبابي شرس وما كان منها سوى الضغط عليه حتى استفزته وقررا الابتعاد بعد أن أصرت ولم تُبدي أي عواطف للعلاقة التي تصدعت في لحظة لم يكن يتوقعها، حرك رأسه نافضًا طاقة سلبية تحيط به أصبحت مؤخرًا كنقمة تسلبه لحضيض أفكاره.
قاوم عواطفه الفياضة المتبلورة في صورة حنين مولع بها متمنيًا في قرارة نفسه عودة علاقتهما كما كانت ولكن تلك القيود عادت تلتف حوله تمنعه من القيام بذلك، والاكتفاء بجلوسه كشريد قرر التمسك ببعض ذكريات رطبة تلطف من حالته البائسة.
لانت ملامحه بسخرية قاسية لحالته المزاجية المتقلبة، فمد يده بتلقائية يلتقط كوب العصير يرتشف منه القليل، فهاجمته ذكرى لقاء مُحبب لقلبه بعد أن شعر بمذاقه السُكري في فمه، كمثل ذاك اليوم الذي رآها تتهادى في خطواتها خارج الجامعة، تمسح حبيبات العرق عن جبينها بعد أن ارتفعت حرارة الجو كحال انصهار مشاعره وهو يسير خلفها كالمراهق…
**
أنزل “زيدان” نظارته الشمسية بعد أن لمح طيفها يعبر من بين الطلاب، سالكة طريق جانبي تختار الظل لتسير فيه بعد أن ارتفعت درجة الحرارة وانصهرت هي غير قادرة على تحمل اليوم فقررت الهرع لمنزلها.
كانت “مليكة” غافلة عنه وهو يتحرك خلفها كاللص منتظرًا فرصة الإيقاع بها بعيدًا عن الجمع، وعندما اقتربت من الانحراف لطريق أخر، سارع في خطواته حتى أصبح خلفها مباشرة، مقررًا إنهاء مراقبتها الخفية بأخذ خطوة أخرى تختلف عن سابقتها ليعبر من مشاعر الإعجاب التي تحوم حوله، معتقدًا كمثل باقي الشباب أن وصل إلى مبتغاه سيقل شغفه ويعود باحثًا عن هدف أخر.
نعم هي كانت هدف يغزو أفكاره ليلاً حتى الصباح وهو ينتظرها بشغف أحرق جوفه كلما يراه برقتها المعهودة ونظراتها الشغوفة ووجنتاها المتلونة بحمرة خفيفة كمثل تلك الحمرة تمامًا حين نطق بصوت أجش أرعبها:
-بطاقتك يا أنسة.
التفتت “مليكة” بذعر وهي تقبض فوق أجندتها البيضاء تنظر له في عدم فهم لوجوده خلفها، فما كان منها سوى أن تنطق بنبرة متلعثمة:
-نعم!
هز رأسه مستنكرًا إمارات الخوف المرتسمة فوق وجهها، سألها بجدية أرعبتها منه:
-بطلب حاجة غريبة؟
بدأت تشعر بالتيه أمام عيناه المثبتة فوق ملامحها تشمل كل تفصيلية بها في جرأة لمست قلبها الغض وحركت مشاعرها من معقلها فبدت كالطفلة وهي تحاول تجميع كلمات لتكوين جملة مناسبة تكشف بها سر مراقبته لها بعد تأكدها من ذلك خلال الأيام السابقة:
-بس حضرتك شفتها قبل كده.
ردت ببساطة والتزمت الصمت، فتقبضت يدها بعد أن لاحظت غرور غزا عينيه المشعة بوميض أربكها أضعاف ما هي عليه:
-اه يعني بترفضي تنفذي أوامري.
أخفت الاضطراب الكامن داخلها، وردت في ثبات:
-اه برفض ومن حقي.
ضيق عينيه وهو يقترب منها في خطوات مدروسة متلاعبًا بأعصابها لكم كان بارعًا في ذلك وخاصةً مع الفتيات العنيدات مثلها، إلا أنه مدركًا أن العناد المُنير في عدستيها غريب عليه، لذا قرر الاستمتاع به:
– لا مش من حقك وكده ممكن أعاقبك.
-تعاقبني!
ردت في دهشة سيطرت على ملامحها الجميلة، وزادت من حمرة خديها، فحرك رأسه بإيجاب مستكملاً في جدية استطاع تصديرها ولم تستطع كشف حقيقتها بأنها ليست سوى مداعبة جافة:
-اه هعاقبك ومش أي عقاب، أولاً هركبك البوكس وبعدها تروحي القسم وهناك هعمل…
أشارت له بالصمت والصدمة تطفو فوق ملامحها لا تصدق كلامه، فما أخطأت حتى يأخذها… هي حتى تخشى التخيل، فقد جف حلقها وارتعب داخلها كالفرخ الصغير:
-أنا معملتش حاجة لكل ده، أنا أصلاً معرفش ليه عايز بطاقتي تاني.
وضع يده في جيب سرواله مررًا بصره عليها وهي ترمقه بخوف حقيقي من جديته المفرطة، فضحك ملئ شدقيه وقال بعدها:
-مالك خايفة كده ليه؟
استشعرت سخريته منها، فرفعت ذقنها لأعلى تقول بضيق محتدم:
-أنت اللي بالغت في كلامك ليا.
مال رأسه جانبًا وهو يرمقها بنظرات ذات مغزى وبنبرة غامضة قال:
-مكنتش ببالغ، بس ممكن الغيها بشرط واحد.
-إيه الشرط.
ردت بتسرع عضت عليه لسانها فورًا، فسارع بإخراج ما يصبو إليه قبل أن تتراجع:
-تيجي معايا اعزمك على عصير.
لم تحتاج لوقت كي تفكر فالرفض ظهر في عينيها وضوح الشمس وهذا ما أحرقه وزاده إصرار عليها، لم تكتفي بالرفض الصامت بل عقبت بصراحة:
-لا طبعًا.
انخفضت نبرته وهو يسألها بهدوء خالط كلماته:
-لا ليه؟
لم تفكر كثيرًا وهي تجيب بصدق امتزج في حروفه نسيج البراءة:
-بابا ممكن يزعل مني.
قسى ثغره بسبب ابتسامة ساخرة وهو يعقب عليها:
-يعني مش هيزعل لو راح وجابك من القسم.
زحف القلق لجوفها وهي تنظر له تحاول التأكد من سلامة حديثه، والخوف يطرق أبواب قلبها المسكين أن حدث ذلك… وباتت تنظر له باستعطاف للحظات حتى يتركها وشأنها ولكن ابتسامة الاستهجان المُحلقة فوق شفتيه دفعتها لتسبل أهدابها وصمتت ثواني قبل أن تحتد ملامحها وهي ترفع وجهها تطالعه بتحدٍ:
-بقولك إيه أنا عصير مش هشرب وقسم مش هروح ولو سمحت ابعد عني.
أطرق للحظات قبل أن يقول بنبرة عابثة:
-متأكدة.
هزت رأسها بتعنت والتفتت تستمكل خطاها ولكن…
ولكن هي لا تعرف كيف رافقته لإحدى الكافيهات القريبة للجامعة وكيف أثر عليها كالمحتال وضعفت أمامه وهي ترتشف أخر قطرة في العصير، فظهر صوته بعدها يسألها بابتسامة جذابة واثقة:
-اجبلك عصير تاني.
**
فتح جفنيه على واقعه الأليم من دونها، فلم يدرك أنه يضغط بقسوة على الكوب وكأنه يحارب شعور خالط الجنون يدعوه الآن برؤيتها حتى لو لم يكن هناك سبب واضحًا لذلك، ناقمًا عليها معتقد أن تلك النيران المستعرة تطاله وحده أما هي تنعم في جنة الهدوء، لن يتركها وحدها في جنانها ولن يرضى بنيران غيابها، هب بطوله الفارع وجسده المتشنج يجتاز مكتبه ومبنى عمله في خطوات سريعة يقسو بها على حاله كي لا يتراجع عن قراره.
***
قضت مليكة اليوم بأكمله في فراشها تتجرع ويلات الألم النفسي حتى قررت الذهاب لعملها بعد أن انتبه زوج والدتها السيد “مصطفى” لها وقد سألها مرارًا وتكرارًا عن سوء نفسيتها فلم تكن تعقب سوى بجملة واحدة.
“حادثة جت المستشفى أثرت فيا”
اختلقت حُجة كي تهرب من أسئلته المحاصرة لها والتي ظهر بها عدم تصديقه ولكنه كالعادة التزم الصمت معطيًا إياها مساحتها الشخصية الكاملة، ورغم محاولاتها في كشف سرها اللعين إلا أنها لم تقوَ..لم تجرأ على تخطي باب غرفتها وإخراج ما جعبتها، سجنت نفسها في غرفتها الصغيرة تبحث جاهدة لحل تلك المعضلة دون المساس بشرفها، فمجرد اظهار تلك الصور للعلن يُعني هلاكها، تدمير مستقبلها، أحيانًا تشعر بالإحباط فتعود للبكاء بقلة حيلة وكأنه سيعالج آلامها النفسية، وأحيانًا يصيبها الحماس دافعًا إياه للبحث عن مساعدة من أي شخص للتخلص من وطأة تشتد حولها كلما مر الوقت..ولكن أي مساعدة ستجدها ومَن هو منقذها مِن وحل ماجد؟ فمن الأساس مَن سيصدقها ويشعر بها ويقدم تضحية الوقوف في وجه ذلك الخناس؟
فزوج والدتها رجل بسيط، ليس له علاقات كبيرة كي يمتلك القوة في مواجهة رجل كماجد يحظى بكل القوى في يده والمساندة من الجميع، بالإضافة أنها لن تستطع تحمل الخذلان حينها، حقًا لن تصمد، ستنهار ربما ستشعر بمرارة تفوق مرارتها الآن إن سدد زوج والدتها لها أي عتاب يؤلمها..هي تدرك جيدًا طبيعية العلاقة بينهما، تتفهم حماسه لأخذ شهادتها وتصبح طبيبة يفتخر بها وسط أصدقائه وجيرانه، تحترم سعيه كي يتأكد الجميع أنه لم يكن مخطئًا أبدًا عندما لم يتخلى عنها مثلما كان ينصحه البعض، فبدلاً من إسعاده ستوحله في مصائب الله يعلم وحده كيف ستنتهي.
إذن من الثاني يا مليكة؟ سألت نفسها وهي تستكمل خطاها الضعيفة نحو المشفى، بحثت وبحثت لم تجد أحدًا، يبدو أنها فعلاً كانت ستعاني إن استمع زوج والدتها للجيران وتركها تواجه وحشة الشارع، للأسف لا تمتلك عائلة كبيرة مثل باقي صديقاتها، فلم تجد الأخ أو ابن العم أو ابن الخال..لا أحد حولها سوى زوج والدتها و…
تقطعت أنفاسها للحظات عندما وصلت للمكان الذي قابلت فيه “زيدان”، اختلجت عواطفها حين ذكرت اسمه في همس وكأنه طوق نجاة طاف أمامها دفعها للابتسام ولكنه اختفى كالسراب فجأة حين ذكرها عقلها بكونه رجل غريب عنها، ومن المحتمل رفضه، ربما يزيد الأمر سوءًا بفهمه الخاطئ لها وخاصةً أنها تعرف شخصه حق المعرفة.
هزت رأسها برفض تحارب تلك الفكرة، لن تشوه صورتها لديه، وان كانت بقايا صورة بعد مرور كل تلك السنين في فراقهما.
توقفت للحظات تسبل أهدابها تشعر بالخزي يتسلل لصدرها ليعتلي ساحة مشاعرها وذلك بعد أن آل تفكيرها أن ما يحدث لها على يد ماجد ليس سوى عقاب إلهي بسبب خطأ اقترفته زمان عندما تجرأت وخاضت علاقة عاطفية ضد مبادئها.
ترقرقت الدموع في عينيها وارتفعت أنفاسها بهياج مفرط، وهي تهمس بما يجول في خاطرها:
-بس عقاب شديد اوي.
تقطعت أنفاسها وهي ترفع بصرها الفاقد للحياة تناجي ربها بأسف مزق قلبها المنكسر، تستغفر ومن بين كل ثانية وأخرى تدعو ربها بأن يمدها بالقوة والصبر كي تتخطى تلك المحنة.
مسحت دموعها وأخرجت أنفاسها بهدوء، وبدأت في تشجيع نفسها للدخول للمشفى أصبحت تشابه القبر في ظلمته ووحشته.
كانت تحرك رأسها بسلام صامت للأطباء والممرضين وبعض المرضى وهي تمر من الأبواب حتى وصلت لغرفة تبديل الثياب، دخلت وهي ترسم قناع الهدوء لطالما كانت بارعة في إخفاء باطنها، ولكن تلك المرة تحديدًا سيسقط ذلك القناع بالتأكيد لن تصمد هكذا طويلاً.
فتحت خزانتها وبدأت في ارتداء ثوبها الطبي وحينما انتهت استمعت لصوت الباب من خلفها يُفتح، ظنت أنها إحدى الطبيبات، فلم تلتفت واستكملت ما تفعله في وضع حقيبتها داخل الخزانة، حتى اسود كل شيء من حولها، وشعرت بالغثيان يضغط على جوفها عندما استمعت لصوت ماجد يهمس من خلفها:
-اتأخرتي يا مليكة.
استدارت برعب جلي وأبعدته عنها بكفيها ومن بعدها مسحت كفيها في ثوبها وكأنه خارج التو من مستنقع وسيلوثها، أغضبه ما فعلته ورفع أنفه بتعالي رغم نظرة الكره المنبعثة منه:
-إيه حد قالك عليا مش نضيف، دا مفيش حد في حلاوتي..
دفعته مرة أخرى والاشمئزاز يعتلي وجهها:
-حلاوة لما تقرفك.
لم تعرف كيف وجدت تلك القوة للرد عليه، ورغم حدة نظراته لها إلا أنها تشعر بالفخر لمواجهته.
-أكيد عارفة إنك بتلعبي بالنار صح؟
سألها بتهديد مبطن للتراجع عما تفعله، فردت بشراسة:
-ميفرقش.
لمعت عينيه بشر وهو يختصر كل المسافات بينهما مهددًا إياها بقسوة:
-يعني هيفرق لما أطلع حالاً وافضحك.
لم تأبى لاقترابه وردت بكلمات بها شيء من الثقة رغم الخوف المتعلق بقلبها:
-كلهم عارفين مين هي دكتورة مليكة؟
ضحك ضحكات متقطعة يشوب بها السماجة محركًا رأسه عدة مرات بإيجاب قبل أن يقول بوقاحة:
-ما هو عشان عارفين مين هي الدكتورة مليكة، هيهتموا أوي بالصور بتاعتها…
فاجأته حين تمسكت بمقدمة قميصه بقوة والقسوة تغزو كلماتها رغم بحة صوتها:
-أنت عايز مني إيه يا أخي؟
رد في قساوة مماثلة ونبرة حاقدة:
-تيجي بإرادتك، مستسلمة والباقي احب انك تجربيه بنفسك أحسن من الكلام.
لمعت عيناها بالشر وخرج صوتها يستنكر وقاحته بضراوة اهتز داخله من قوتها في دفعه للخلف بشراسة:
-مش هيحصل لو على جثتي.
تراجع للخلف عدة خطوات بعد أن فقد اتزانه وتبعثر قميصه المرتب حتى أنه خرج من سرواله من الأمام بسبب تمسكها الغليظ به..فبدا كالأخرق أمام وهج عينيها ونارية حديثها.
-براحتك يا مليكة، بس لسه ليكي عندي شوية صبر ما نشوف أخرتها..
تقدم من الباب وخرج وهو يرتب ثيابه واضعًا قميصه في سرواله في ذات الوقت كان يقف “زيدان” على بُعد خطوات من الغرفة بعد أن غازل ممرضة ما واوصلته لمكان “مليكة”..تعجب من خروج هذا الطبيب بشكله غير المفهوم ولكن ما أشعل لهيب الغيرة داخله هو خروج “مليكة” خلفه وملامحها شاحبة عجز عن تفسير.
تسمرت في مكانها غير قادرة على تفسير وجوده أمامها، وقبل أن تتحدث، كان صوته المعنف يسألها في قساوة جارحة:
-إيه اللي بيحصل هنا دا؟
ردت بعدم فهم:
-إيه؟
أشار بيده في أثر ماجد سائلاً إياها بصمت ولكنها لم تحتاج لخروج صوته بالغيرة فكادت تقفز من مقلتيه:
-بتسأل في حاجة متخصكش ليه؟
واجهته بسؤال حاد فرد بإجابة فجة:
-مالكيش فيه، أنت تجاوبي وبس.
غروره استفزها، أوقد نيران الغضب لديها، لم تنقصه حتى يظهر أمامها بعجرفته في الرد وهي تعاني من ثقل لا تقدر على إزاحته.
-مش هجاوب، ثم أنت جاي ليه أصلاً؟
-أجاي في أي وقت أنا عايزه، وحابب أشوفك فيه كمان.
لم تكن أبدًا سلعة كي يحادثها بهذا الشكل المهين ذلك الفظ الغليظ لم يتغير دومًا، نفس غبائه يتمسك به بل أنه يتفاخر به، لقد فشلت في التعامل معه، حتى أنها فاشلة في الابتعاد عنه الآن بعد محاصرته لها ونفس السؤال يتردد داخل عينيه المظلمة، فباتت تتأكد أن الشك سيداهم عقله من ناحيتها، ولكنها لم تأبى لذلك فيكفيها ما تمر به.
لقد كانت ناجحة في قراءة عينيه، فحقًا رواده الشك قليلاً، ناعتًا نفسه بالأحمق، حيث كان هو يتلوى بنيران الشوق والحنين، بينما هي كانت تغدو في علاقة أخرى تاركة إياه في قاع الحضيض.
دأبت على التحرك من أمامه ولكنه منعها وقال بحدة طفيفة:
-أنتي رايحة فين؟
-ماشية عشان مش مقتنعة بكلامك، أنت بتكلمني وكأن كل حاجة رجعت زي الأول مع أنها عمرها ما ترجع، وعن اذنك عايزة اشوف شغلي.
برزت أسنانه بابتسامة مستفزة وهو يقول:
-مش مهم تقتنعي أو لا المهم…
احتفظ بالجزء الأهم داخله قاصدًا إثارة الغيظ على وجهها الجميل الذي أصبح لا يقوَ على التحمل صبرًا أمامه دون التهامه واعتصرها بين يديه كي تشعر بعشقه لها تلك جامدة المشاعر…قاسية الفؤاد.
تركها تتحرك من أمامه وقد أقسم على زيارة جنتها كما يحلو له، مقتطفًا من شهدها ما يعطيه طاقة كي يصمد في ظل ما يعانيه دونها.
***
استند “سليم” بظهره على صدرها، عندما أبدت مبادرة لطيفة منها باحتوائه هي هذه المرة، فلم يتردد ثانية واعتدل سريعًا يرمي بنفسه بين أحضانها التي دومًا تفيض بحنان يرق له قلبه بل وينتظر تلك اللحظة على أحر من الجمر، هنا مأوى يخصه وحده، لا يشاركه أحد، يسعه بكامل همومه ومشاكله النفسية، بل يجد دومًا الترحيب وكأنها أمورًا بسيطة يصلح حلها ليست ندبات يصعب عالجها.
تنهد بثقل وهو يضغط برفق على صدرها وكأنه يقول أريد أكثر احتواء أيتها الصغيرة، فما منها سوى أنها عصفته بعناق محمل بالمشاعر الجياشة، قد يصفه بأنه أجمل عناق قد يتلقاه المرء.
لم تصمت شمسه عند هذا الحد، يبدو أن مزاجية الحمل اليوم تدفعها لعاطفة ليست مثيل لها، فقد استمرت في تقبيله في جانب وجهه وهو مغمض العينين، فقط يستمتع بها وبجرأتها، فكلما كبرت في عمرها نضجت وأدركت هوية مشاعرها نحو، إلى جانب شقاوتها في الوصول لِمَ تريد وقتما تريد.
انتبه على همسها بجانب أذنيه، وسألها الذي أصبحت تتفوه به بلا تبرير سوى أنها تريد ذلك:
-سليم…بتحبني؟
همهم بصوت خافت ولم يجب، فطبعت قبلة رقيقة عفوية في عنقه وقالت بصوت دافئ:
-بحب أسمع صوتك.
فهمس بها فورًا وكأنها وحدها تملك مفاتيحه:
-بحبك.
تمهل في نطقها، فابتسمت وكأنه يطرب في غنائها، وبابتسامة شقية زادتها جمال فوق جمالها:
-كنت عارفة.
إجابة أصبح معتاد عليها مؤخرًا، حتى أنه يرددها معها بداخله، هنا ستنتقل لسبر أغواره، صغيرته لن تكف حتى تجعله يفيض بما يخفيه عنها:
-حساك مبسوط هنا أكتر من مصر؟
فتح عينيه ورمقها بنصف عين قبل أن يجيب بخبث:
-وأنت عرفتي ازاي؟
مال بجانب وجهها حتى يطالعها وهي تلقي عليه همسات كانت كنفحات الربيع الرائعة:
-بالك مرتاح، وقلبك بيدق كتير وده أكيد عشان عيلتك وحشتك، ملامحك صافية وعيونك…
ركز ببصره عليها واعتدل قليلاً ينظر في عمق عينيها وهي تردف:
-اتغيرت، بقت هادية أكتر.
نعم هدير أمواجه قد هدأ بمجرد ابتعاده عن عائلته، ولا يجد تفسير لذلك، فقال بتخبط ظهر جليًا على نبرته:
-يمكن عشان بعدت عن المشاكل.
مدت أناملها الرقيقة تمررها فوق ملامحه الرجولية الوسيمة تواصل بذكاء:
-يمكن عشان حسيت دلوقتي قد أيه هما بيحبوك وأنت بتحبهم.
-يمكن.
كررها خلفها بخفوت، وتابعها بسخرية حانقة:
-يعني هنا مستنين لما أسافر ويظهروا قد إيه بيحبوني، دا أثبتلي ان عندهم إعاقة في مشاعرهم.
كادت تهمس وتخبره أن تلك الإعاقة هي سمة عائلتهم، لديهم صعوبة في التعبير عن مشاعرهم وإن أطلقوا لها السراح تظهر بشكل غير لائق، لقد قضت سنوات في فهم مكنوناتهم الغريبة، جميعهم متشابهين حتى يزن المرح يملك جزء صغير داخله منهم.
طالت نظراتهما المتبادلة في صمت، فأحست بضرورة كسرها قبل أن يفقد أعصابه معلنًا عصيانه على تنبيهات الطبيب بتروي قليلاً في علاقتهما الزوجية وذلك لضعفها، فقالت ببسمة بشوشة وهي تعلم تمامًا أنها ستثير أعصابه:
-بتحبني؟
رفع جانب شفتاه وقد رأت تحول ملامحه للضيق وهو يتمتم بغيظ أثناء استقامته:
-لا.
تابعت بضحكة خفيفة تثير أغاظته أكثر:
-كنت عارفة.
تكونت كلماته الوقحة على طرف شفتيه ومنعها بصعوبة وهو يكمل مغادرته للبحث عن طفله، بعدما استطاعت سلب ما في أعماقه بعناق محمل بالعواطف.
***
أخيرًا وافق على مقابلتها، فقد احتاجت ذلك اللقاء بعد أن تركت نفسها تغوص في ذكريات أليمة، ذكريات لم تقتصر على زيدان بل ايضًا على طفولتها، منذ أن تعلم عقلها ينقش آلامها النفسية فوق جدران قلبها.
لقد سئمت من محاولاتها في مساعدة ذاتها، هي تحتاج فقط لشخص يكن كالبئر لها، يدفن مخاوفها وأسرارها، وتكون هي مطمئنه أنه لن يقوم بإذلالها ولم تجد سوى “زيدان” خطيبها وحبيب طفولتها.
ورغم كل التشجيع المنطلق من عينيه، ومحاولاتها في إخراج ما تريد أن تلقيه بعيدًا عن صدرها الذي أصبح مشحونًا على آخره، فشلت كالعادة فاستمرت بالصمت حتى أصابته بالملل وخافت هي بجنون من إنهاء لقاؤهما.
ولكنه خالف مخاوفها بسؤاله لها:
-نهى أنتي كويسة؟
ردت بإيجاب وعيناها نطقت بعكس ذلك:
-اه كويسة.
-عينك بتقول غير كدا.
قالها وهو يرتكز ببصره عليها، فشحب وجهها فجأة وكأنه نطق بكلمة في غير محلها، وتبدلت ملامحها في الثانية التالية بحزن عندما فاضت عينيها بالدموع، لقد ارتبك من مراقبة حالتها الغريبة من شحوب لبكاء لـ… ابتسامة!، ما بها؟ ما الذي أصابها؟ كي ينشق محياها ببسمة واسعة!
لم تتركه يبحث عن إجابة كثير حيث قالت بعفوية صادقة:
-أول مرة حد يحس بيا.
ألمته جملتها البسيطة متفهمًا أنها تحمل بين طياتها آلام نفسية يصعب مداواتها بالكلمات.
-أنا يئست.
تابعت بكلمتين لا ثالث لهما، شددت الصدمة خيوطها فوق وجهه ولكنه تدارك حالتها النفسية وسألها بفطنه:
-من إيه؟ وليه؟
ارتعشت يدها الموضوعة أمامها، وبدأ تلعثمها يلعب دور في حديثها المغلف بالانكسار والاحباط:
-من ماما، وليه؟ فـ دي محتاجة كلام كتير، يمكن تزهق منه.
-منتظرة منها إيه؟
رفعت عينيها الذابلة مجيبة بصدق:
-مبقتش منتظرة، كنت زمان بتمنى..بتمنى.
صمتت بعجز طال روحها الضائعة بين تشتت عائلتها ووحدتها وسذاجة مشاعرها.
رد هو بالنيابة عنها وقد أدهشها أنه يفهمها ويفهم احتياجاتها:
-بتتمني تعاملك كويس.
انفجرت ينابيع البكاء تغرق وجهها وهي تقول بانهيار:
-بقت أسوء، كل مرة بتكون أسوء.
لانت الشفقة من ملامحه وأدرك أن شخصيتها تعاني من أمورٍ غير سوية غرستها بها والدتها، فمد يده بمنديل ورقي وقال بعقلانية:
-اهدي يا نهى.
التقطت المنديل وجففت دموعها في ظل استماعها له:
-مشكلتك أنك لسه بتستني من والدتك انها تتغير، أنا من رأي تتجاهليها.
-مش قادرة..يمكن مش عارفة ازاي، بس هي أمي ومن حقي انها تتغير علشاني.
قالتها بنبرة يغلب عليها الأمل رغم مرارة واقع والدتها، فهتف زيدان بلطف:
-هتفضل طول عمرها كدا، حاولي تدوري على نفسك أنتي.
حاول مساعدتها للوصول إلى بر الأمان، فبدت كسفينة أكلها الصدأ على شاطئ مهجور.
-زيدان هو أنا وحشة؟
سألته بعد تردد كبير منها، وأخفت رعشة يدها أسفل الطاولة الصغيرة في حركة غير مقصودة لإخفاء توترها من إجابته.
-لا جميلة..جميلة جدًا..
اتسعت ابتسامتها المهزوزة تحاول إيجاد صدق مشاعره في حديثه، فردت بحيرة انفجرت من كتمان طال لسنين:
-امال ليه كل حاجة نفسي فيها مبتجيش بسرعة.
ضم شفتيه مفكرًا محاولاً في انتقاء الفاظ حتى لا تؤلم نفسيتها أكثر، جاهدًا في وضع يده على مشكلتها الأساسية:
-يمكن عشان بتجري وراها.
أسبلت أهدابها وهي تسأله في ارتباك:
-قصدك إيه؟
تنهد قبل أن يجيب بهدوء:
-قصدي انك تسيبي كل حاجة نفسك فيها تيجي لوحدها.
حركت رأسها بتفهم، ولانت ملامحها من حزن لعب بريشته فوق ملامحها التي تبدلت للابتسام مرة أخرى وهي تقول برقة:
-صح، ووقتها بيبقى احساسها أحلى، أنا عمري ما أنسى اللحظة اللي اعترفت فيها بـ حبك ليا.
لا ينقصه أن يتذكر تلك اللحظة المشؤومة حين لعبت العاطفة دور كبير في قرارته ودفعته للحفاظ عليها بنطقه لكلمة رغم أنها أثارت سعادتها إلا أنها كانت مُثقلة وهو يخرجها من ثغره..زفر بهدوء وهو يستجمع بقايا ثباته ولم يجد التظاهر سوى في سيجارته التي التقطها سريعًا يشعلها متجاهلاً ابتسامتها المصوبة نحوه وكأنها حصدت على جائزة بعد عناء طويل.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)