رواية منك وإليك اهتديت الفصل السابع 7 بقلم زيزي محمد
رواية منك وإليك اهتديت الجزء السابع
رواية منك وإليك اهتديت البارت السابع
رواية منك وإليك اهتديت الحلقة السابعة
وضع زيدان قدحه الخاص فوق رخام المطبخ ينتظر نضوج القهوة بعد أن قام بإعدادها في تروٍ بسبب صداع حاد لازمه منذ الأمس حتى الصباح رغم تناوله لبعض الأدوية إلا أنه كان بشع لدرجة أنه حظى بساعات قليلة من النوم بسبب أحلامه المتراقصة ما بين عاطفة جياشة منحصرة في بعض اللقطات لمليكة وظهور غامض لنهى أمامه من العدم.
لن يتوارى عن مشاعره الثقيلة في الصباح عندما فتح عينيه يستقبل نور الصباح والشغف يتسلل منه كـ كهل ينتظر الموت كل يوم ولا يأتيه.
أعاد بصره للقهوة ينتظرها بملل، وتفكيره المضني يرفض تركه حتى في أبسط الأمور، قلب رأسه يمينًا ويسارًا عله ينسى أمر مليكة ونهى… وهنا توقف مبتسمًا معترفًا بداخله أن أمر نهى يمكن التغاضي عنه مؤقتًا ولكن مليكة كيف ومتى وهي حبيسة أفكاره، سجينة قلبه حتى في غيابها..
أقلقه حالة الشحوب التي رآها بها في الأمس حينما خرجت خلف الطبيب الذي لم يعجبه هيئته إطلاقًا وبسببه طرق الشك أبواب قلبه بعنف ولكن لمعرفته بشخصيتها وخصالها القوية الشريفة التي تجعلها مختلفة عن بقية الفتيات، يكاد يقسم أنها أكبر من أي انحدار أخلاقي قد تقع فيه.
-مليكة لا يمكن تعمل كدا أبدًا، دي غير أي بنت.
همس بها لنفسه وتوسعت ابتسامته برضا حتى في فراقهما لا يزال يراها ملكة فريدة في عصرها، ورغم تجاربه العاطفية التي أغرق نفسه بها بعد ابتعادهما إلا أنه دومًا يراها الأنسب والأفضل والأجمل، ورغم أن تلك التجارب لم تكن سوى إلهاء له للخروج من شرنقتها لكنه فشل وبجدارة وكأنها ألقت عليه سحر أمازيغي كي تبقى في قلبه كل تلك السنين.
-ست سنين ومش عارف أهرب من حبك.
عاد مجددًا ليحاكي نفسه الملتاعة بنيران الهوى، وكأنه اعتاد على محاكاة قلبه ليواسيه في غيابها، قبض فوق حافة المطبخ بعنف يحارب مشاعره التي تدفعه للجنون بسبب اشتياقه الدائم لها، تدفعه للحاق بها في كل مكان دون سبب أو رابط بينهما، أصبح كالمراهق من جديد بمجرد ظهورها وكأن قلبه كُتب عليه الشقاء في عشقها.
فارت القهوة وفاضت بسخاء كحال مشاعره التي تفيض حنينًا لها، فأجفل من شروده على صوت ساخر خلفه يعلق بشفقة:
-حرام حالتك صعبة خالص.
التفتت زيدان يرمق أخاه المستند بجانب جسده على المبرد يمرر بصره عليه في سخرية أزعجته، فصاح بنزق وهو يبتعد:
-ابعد عني أحسنلك.
ترك زيدان كل شيء خلفه مبعثرًا كحال مشاعره الآن بعد نظرة الشفقة المصوبة نحوه، دخل غرفته يهرب من أي حديث قد يتطرق لقلبه المجروح، يبحث عن أي شيء يُلهي به نفسه حتى لو كانت ملابسه التي بدأ في شدها بعنف ثم إعادة طيها وترتيبها دون هدف، الأهم أنه لا يعود لذكرى قسمت قلبه لشطرين وكانت هي نقطة الوداع.
وبعد عدة دقائق خارت يداه بجانبه تزامنًا مع إخراجه لعدة أنفاس ملتهبة وهو يعلن استسلامه، سامحًا لنفسه بخوض ذكرى كانت الدافع لفراقهما…
**
دخل زيدان مكتبه بعد أن قضى ليلة أمس في مهمة كبيرة أفضت بنتائج عظيمة وقد يسمو إلى ترقية مبكرة، من المفترض أن يسعد لأمر كهذا ولكن الحزن خيم عليه منذ صباح الأمس حينما حاول الاتصال بها مرارًا وتكرارًا وهاتفها مغلق، لقد تلفظ حينها بأقذر الألفاظ، وفقد أعصابه محترقًا بسبب غيابها ليلة كاملة عنه لا تُجيب على اتصالاته وبالأخير أغلقت الهاتف بكل تبجح، لقد أطلق وعودًا بعدم مسامحتها بعد ما مر به من قلق في حين أن مشاعره المضطربة تقابلت مع غضب عصف بذاته لتعلقه الزائد بها واهتمامه المبالغ بها بينما في المقابل هو لا يحظى بربع ذلك الاهتمام وكأن العلاقة أصبحت بعد سبعة أشهر من طرف واحد، لقد سئم من تحفظها في مشاعرها، وبرودها الدائم نحوه، وكأنه شحاذ يطلب جرعات من الغرام والحب ليس من حقه وإن تكرمت ومنت عليه تكون بخيلة.
جلس فوق أريكة جلدية مريحة وأراح جسده المنهك بينما يده كانت تفتح صندوق يخرج منه هاتف جديد بعد أن فقد أعصابه بالأمس وكسر هاتفه بعصبية مفرطة، وضع شريحته بالهاتف الجديد ثم قام بتشغيله منتظرًا اتصالات عائلته للاطمئنان عليه، وقد أصابه اليأس منها، معترفًا أنها لن تتنازل من برجها العالي وتتكرم للاطمئنان عليه!
رن هاتفه بأرقام يعرفها جيدًا، لقد خدعت ظنه هذه المرة وأجرت اتصالاً به قبل عائلته، مد أنامله للرد ولكنه تراجع بغضب سافر متذكرًا ما عانى به بالأمس، رفض الرد وغضبه يتفاقم بشراسة قاصدًا إثارة قلقها عليه هو الأخر..انتهى اتصالها وقد شعر براحة تعتلي صدره الملتاع شوقًا، مقررًا ألا يرد عليها اليوم وأن يعاملها مثل ما تعامله، ترك هاتفه فوق الطاولة ناظرًا إليه بتحدٍ وابتسامة شرسة تلتصق بفمه، مرت الدقائق وهو على نفس الحالة لا يصدق ما تفعله لقد اكتفت باتصال واحد.. واحد فقط لتطمئن عليه، ربما لا يكون اطمئنانًا وكانت مجاملة عابرة لكثرة اتصالاته بها بالأمس، تهدجت أنفاسه بلهيب مستعر وأمسك الهاتف بقبضته القوية، مقررًا هدم قرارته من أجل مواجهتها لمعرفة سبب جسور الجفاء بينهما.
قفز بغيظ مجريًا اتصالا بها حتى انقطع الرنين وجاء ردها الناعم أخيرًا:
-زيدان أنت كويس.
-وليكي عين تسألي عن حالة زفت دلوقتي.
قالها بغضب ناري، جعلها تندهش وهي تخفض صوتها سائلة إياه بقلق:
-مالك في إيه؟
-إيه قلقتي عليا من اتصال واحد عقيم اتصلتي عليا فيه وياريتك كررتيه، أومال أنا اعمل إيه دا أنا على كدا جبل.
اندفعت حروفه بغيظ، والانشداه يغزو كلماتها من جديد:
-جبل ليه؟ أنا بجد مش فاهمة أي حاجة، تليفونك مقفول ولما فتحته اتصلت ومردتش وفي الآخر أنت متعصب.
اختلجت نبرته بحدة وهو يسألها:
-مليكة أنتي كنتي فين إمبارح من الصبح لغاية بالليل؟
توقعت سؤاله بالفعل ولكن ليست بطريقته الحادة تلك وكأنها أجرمت في حقه، نفضت كل ما تفكر به وامتثلت الهدوء مؤقتًا وهي تجيب:
-خرجت من الساعة ٦ وكنت مشغولة في الكلية والكورسات ومخلصتش إلا بالليل، رجعت اتقتلت نوم.
هنا ظهرت القسوة في صوته وهو يسألها:
-أنا فين من دا كله؟، اتصل مترديش وفي الآخر تليفونك يتقفل.
ردت بنفس البساطة التي أشعلت فتيل غضبه:
-ما أنا نمت وهو كان فصل شحن، وحقيقي كنت تعبانة مركزتش.
-فـ نمتي وارتحتي وجاية تدوري عليا صح من اتصال واحد بس؟
سألها بتهكم، فردت بضيق عارم:
-أنت عايز تتخانق صح؟
-بمزاجي أعمل اللي أنا عايزه.
تجسد البرود في صوته وهو يجيب عليها، قسى صوتها وهي تقول:
-لا مش بمزاجك أنت المفروض تحفظ أدبك معايا.
-لا مش هحفظ أدبي وأرد زي ما أنا عايز.
ركب العناد كليهما وأردفت في تهديد صريح:
-زيدان اتكلم بأسلوب أحسن من كدا، يا إما..
-إما إيه؟
سألها بترقب وصوت أنفاسه تهتاج بشراسة.
-هقفل ومش هتشوف وشي تاني.
-ماشي اقفلي.
قالها بتحدٍ بالغ فأغلقت الاتصال فعلاً مما زاد من اندهاشه من ردة فعلها السريعة، لم تحاول مراضاته حتى أنها أغلقت الهاتف ببساطة لمجرد التخلص منه، وكأنه عقبة تعيق حياتها، هو من قام بتدليلها، هو من ألقى كامل محبته دون مراعاة أن العلاقة بينهما أخذ وعطاء، لقد تعود على العطاء دون أن يُرضي قلبه بشيء منها، فأصبح كالمحموم يتوهم مشاعرها نحوه، وبالأخير تفاجئ بمشاعر عقيمة مغلفة بالبرود، ألقى هاتفه الجديد أرضًا بغيظٍ شديدٍ وأقسم على تأديبها…
**
عاد من شروده رافضًا استكمال ما حدث بينهما، لن يعود لتلك الذكريات البشعة، لن يترك نفسه للضياع، ها هي قد انبثقت كالنور من ظلمات حياته، سيتمسك بشعاعها حتى تعود حياته لمجراها الطبيعي، ورغم خوفه المتكرر من معاملتها الجافة إلا أنه يدرك خلف هذا القناع الصوري عشق كبير تكنه له وقد تأكد من ذلك منذ أن رأى عينيها تكاد تأكله أكلاً في أول لقاء بينهما بعد غياب دام لسنين.
غرق في جنبات عقله يضع خطوط عريضة لإيقاعها من جديد في غرامه، ولكن كيف؟، ومتى؟، والسؤال الأكبر كيف سيحدث ذلك دون أن يهدر كرامته معها؟، لن يتحمل عذاب جديد، لن يتحمل قساوة منبعثة منها، يريد ذوبانها مثلما هو يذوب بهيام حتى لو لم يظهر ذلك، لم يكن أمامه سوى حبيب الفتيات، سارق قلوب العذارى “يزن” الوقح.
***
في ذات الوقت كان يزن يتمعن بالنظر لثيابه الموضوعة فوق فراشه بعد أن اختارها بعناية فائقة مستعدًا للقاء فتاة جميلة تعرف عليها في إحدى النوادي وها هو اللقاء الثاني بينهما، متأكدًا أنه لن يعود تلك المرة سوى وأن ملامح الإعجاب تتحول لحب مطلق، كعادته تبسم فخر لنفسه ولذكائه الشديد في اقتناص قلوبهن بكل بساطة، مستمتعًا بحياته المرحة والتي لم يقيدها أغلال الزواج أو خطبة مملة، متنقلاً بين مراحل الإعجاب والحب ببساطة عهدها منذ أن كان مراهقًا، لم يتأثر بواحدة منهن ولكنه لم يمنع غريزته الفطرية بالإعجاب بكل ما هو أنثى، فقد تمتع بالطويلة والقصيرة، النحيفة وذات القوام الممشوق، والقوام الممتلئ، العصبية، الهادئة، كلهن تمتع بهن، فـ لِمَ الزواج من الأساس والارتباط كل شهر بواحدة له متعة خاصة سيكون مختل إن تخلى عنها من أجل علاقة رسمية قد تهدد بالفشل.
مد أصابعه نحو عطر مميز يختاره في اللقاءات ذات المهام الصعبة ينثره بكثرة فوق قميصه الأسود ولكنه تفاجئ بهجوم شرس على الباب دون استئذان، ومن يكون غيره، الهمجي المستفز ذو الطباع الحادة القاسية “زيدان” أخيه الأكبر.
التفت ببرود اكتسح تقاسيم وجهه وهتف:
-مفيش باب تخبط عليه زي الخلق.
كالعادة الحدة تملأ ملامحه وأنفاسه، تجاهل كلماته ودخل الغرفة ثم تقدم نحو الفراش يزيح الملابس جانبًا بعشوائية دفعت الدماء لوجه يزن بعد عنايته بها تفوق ساعة كاملة، جحظت عيناه بغيظ وشر:
-أنت إزاي تعمل كدا في هدومي يا عديم الإحساس والمسئولية.
استنكر زيدان كلمات أخيه المغتاظة ومد يده يدعي ترتيب الثياب، وقد نجح في إخفاء سخريته من عناية أخيه الفائقة، متبعًا مقولة شهيرة..
” إن كان ليك عند الكلب حاجة قوله يا سيدي”.
يبدو أنه همس بتلك بالكلمات الأخيرة بصوت مسموع جعل يزن يعقد حاجبيه بترقب وتساؤل صامت، فسارع بالتبسم مشيرًا له بالجلوس:
-اقعد يا يزن..اقعد عشان أنا خلقي ضيق.
لن تتغير طريقته في التعامل لا يفرق بين أخ ومجرم كليهما واحد، نفس نظرة التهديد والجحود، اضطر للجلوس أمامه متشبثًا بالهدوء:
-سيب هدومي، وقول عايز إيه؟
كان يمسك بقطع ملابس يزن بين قبضته وحين نطق يزن بذلك، ألقاها فوق الأرضية في لا مبالاة أيقظت الغضب لدى يزن فهب صائحًا:
-إيه يا عم قلة الذوق دي.
ضرب “زيدان” كفًا فوق الآخر والضيق بدأ في اجتياح ملامحه، فلم يتحكم بنفسه وهو يقول بغيظ امتزج بالحدة:
-أنت هتقعد ساكت وتسمعني ولا أقوم أولع في هدومك كلها وأخلص، بقولك خلقي ضيق.
كور يزن يده في ضيق وهتف بكلمات مثقلة:
-قول عايز إيه؟
تنهد زيدان يجذب أنفاسًا كثيرة يدخلها لصدره المشحون بمشاعر جمة، محاولاً التمسك بطرف الشجاعة للانطلاق في ما يريده رغم أنه يشعر بالحرج من أخيه الأصغر وهو يطلب نصائحه في علاقة سابقة يسعى لإحياء العاطفة بها.
-في واحدة كنت بحبها زمان، حصل بينا خلاف وانفصلنا…
-قد إيه؟
سأله يزن ببرود، فارتبك زيدان قائلاً بحنق:
-وأنت مالك؟
-عايز تاخد عصير خبرتي؟، لما أسأل تجاوب.
هدده يزن بصورة مباشرة فلم يتحمل ذلك المتهور تلك المعاملة وقال بأسلوب فظ:
-تصدق بالله يا يزن البت لو ما رجعتلي بعد ثقتك دي، أنا هقتلك وأشرب من دمك.
-ربنا نجدها منك أقسم بالله، أكيد أمها بتحبها، يا بني أنت عندك خلل عاطفي صدقني.
قبض يديه في غيظ وهدر بصوت عنيف:
-بعدنا عن بعض ومالكش دعوة كام سنة، المهم عايزها ترجعلي بس…
ضيق يزن عينيه بمكر وقد تفهم ما يرمي إليه ذلك المتعجرف، فاقتصر محادثتهما الشرسة وقرر مساعدته، فزيدان يبقى زيدان في محاورته وأحاديثه الهجومية.
-رغم إني مش عارف أنت عملت إيه بالظبط خلاها تبعد، بس أنت يا معلم لازم تسحرلها عشان ترجعلك تاني.
حاول ترجمة ما يقوله يزن بتفكير استغرق لثوان ولكنه فشل، فشمل أخاه بنظرات غير مفهومة، ولكن ما جعله متوترًا هو تأكيد يزن القوي:
-أيوة صدقني لازم تسحرلها ومش أي سحر.. سحر من نوع خاص اللي خليها تقولك شبيك لبيك في ثواني.
لا زال عقله يرفض ما استطاع فهمه، لن يدخل في تلك الأمور السخيفة، لن يركض خلف دجالين لإيقاعها في شباكه بسحر مشعوذ، وقد تيقن أن أخاه متعدد العلاقات له سابقة في تلك الأمور المشعوذة، فحقًا سرعة إيقاع الفتيات في حبه يتعجب لها وها هو قد وضع يده على سر جاذبيته.
تابع نهوض يزن المتكاسل وكلماته المترددة في ثقة:
-عشان بس أنت أخويا، هجبلك حاجة خطيرة وببلاش..
تعلق بصره المتحفز بيد يزن الممدودة داخل خزانته يعبث بصناديق كبيرة جميعهم على علم أنها من هدايا فتياته، أخرج صندوق صغير مغلف بقماش فاخر، ثم اتجه نحوه وهو يفتحه يلتقط خاتم فضي أنيق للغاية، ثم مد به نحو زيدان وقد توسعت عيناه غير مصدقٍ ما توصل إليه أخوه، حتى أنه هتف بصياح واستمتاع:
-يا ابن الإيه يا يزن، جبته ازاي دا يا ياله.
تعجب في بداية الأمر ولكنه وجد الأمر ممتع في كسب انبهار جديد من أخيه:
-شوف مش أي حد يقدر يجيب خاتم زي دا.
أمسكه زيدان والابتسامة الممزوجة بالاندهاش تغزو ثغره:
-يعني دا اللي هسحرلها بيه.
أومأ يزن دون أن يتكلم فتابع زيدان حديثه بلهفة:
-وأنا أقول بتوقع كل البنات دي إزاي يا ظالم، وأنت ليك في شغل الأعمال والسحر.
في بادئ الأمر تيبست ملامحه من شدة الصدمة، لم يتوقع أبدًا أنه سيفهمه خطأ أي أعمال وسحر يقوله هذا المعتوه، ولكنه بعدها انفجر ضاحكًا وهو يقول من بين ضحكاته:
-أنت متأكد إنك ظابط يا ابني.
لم يعجبه سخريته فدفع الخاتم بوجهه وقال بتحذير:
-الزم حدودك أحسنلك، مش أنت بتقول أسحرلها بيه.
-أنا أقصد تسحر دماغها توقعها في غرامك من جديد وأكيد مش بالخاتم بس دا هيكون حاجة من حاجات كتير.
نهض زيدان يدعي العصبية متمتمًا:
-ما تبقى توضح كلامك، وبعدين أنا غلطان أصلًا إني فكرت أستعين بواحد زيك.
نظر إليه يزن في استمتاع متوقعًا رد فعله الأخير الذي سيعقبه خروج غاضب من الغرفة:
-عيل بق ولا عندك عصير خبرة ولا زفت.
غادر بالفعل وترك يزن يستند بمرفقه فوق فراشه وهو ينظر في أثره وحدسه يؤكد له أنه سيعود مرة أخرى، فيبدو أن العشق وصل لذروته حتى يتلبسه الضياع بهذا الشكل.
هز رأسه باستنكار وهو ينهض يلملم ثيابه:
-الحب إهانة وأنا لا يمكن أتهان.
***
دخل “خالد” لشقته والإرهاق يشكل خطوطه العريضة فوق ملامحه، بعد قضائه ساعات طويلة في عمله دون راحة، فقد كاد يقسم أنه سيقع فريسة مرض ما بسبب إقامة خاله وابنه معه.
لقد تغاضى عن سوء تصرفاتهما، وأحاديثهما التافهة عن التجارة والأسواق، وأصواتهما العالية ليلاً غير مراعين أنه يرقد غافيًا للاستيقاظ صباحًا من أجل عمله الذي يجني منه المال فيعود ليصرف عليهما دون حياء منهما وكأنه أصبح حق مكتسب لهما.
لقد كره العائلة ونقم على الأصول، مغتاظ من تلك ال “نهى” عديمة الإحساس لتأخرها في مساعدة أبيها وأخيها طالما حل القضية يكمن في خطيبها.
-كنتي خلصيني من قرفهم، حسبي الله ونعم الوكيل فيكي.
قالها بصوت خفيض وهو يفكر بحقد نحوها لقد كانت ستنقذه من مستنقعهما إن وافقت على التدخل بإخبار خطيبها كما يدعون، امتزجت ملامحه الحاقدة بالتهكم بسبب تفكيره الأحمق تجاه فرد من عائلة خاله فبالتأكيد هي تحمل نفس الجينات الوقحة، صحيح أنه لم يرها ولم تعد تشغل له بال سواء كانت ابنة خاله أو أي صلة أخرى ولكنه توقع شخصيتها الدنيئة المشابهة لخاله وابنه.
شعر بالهدوء يعم الشقة فقد توقع ذهابهما للتسوق أو ما شابه ذلك، إلا أنه وصله أصوات خافته ضاحكة من غرفة خاله، في بادئ الأمر تجاهل ذلك مثلما يفعل ولكنه تسمر حين استمع لصوت رجولي آخر يبغضه، تقدم ناحية الغرفة مقررًا تسديد هجوم قوي عليهم إلا أنهم كانوا الأسرع حين خرج رجل في سن الستين مواطن يحمل الجنسية القطرية يسكن في شقة بالطابق الرابع، متعدد الصفات السيئة حيث جميع من بالبناية يكنون له الكره والبغض من معاملته السيئة وأسلوبه المتعجرف الساخر، غير أنه يملك سمعة غير طيبة بالمرة، فهو مشهور بزيجاته المتعددة وخاصة صغار السن، كما يسمع دومًا من أحاديث الجيران أنه رجل سادي يقسو على نسائه بالعنف ويتمتع بإذلالهن، والغريب أنه يجهر بذلك علنًا، متفاخرًا بنفسه لثروته وأمواله الطائلة التي يستغلها في الزواج لبضعة أيام ويطلق ثم يعيد الكارة مرة أخرى وجمعيهن مجرد وسيلة ليكسب أهلهن المال بسخاء منه.
توقف خالد بشموخ يقابل الشيخ بابتسامته الكريهة، دافنًا الاشمئزاز خلف هدوئه وهو يستقبل كلمات الشيخ الساخرة بلكنته المصرية الضعيفة:
-ازيك يا خالد، أخبارك إيه؟
راقب اتساع ابتسامته الممزوجة بالفخر وهو يوزع نظراته يمينًا ويسارًا حيث يقبع سمير وإبراهيم:
-بسببكم بقيت أتكلم مصري لبلب.
انفجر ضاحكًا بعدها وهو يشير نحو نفسه، فبدا وكأنه الممثل الوحيد على خشبة المسرح:
-شوفت اتكلمت إزاي.
مد سمير يده وضغط بها فوق كتف الشيخ يخصه بنظرات يملئها الطمع:
-ولسه يا شيخ لما تقعد معانا أكتر هتبقى أشطر من كدا.
تمتم الشيخ وهو يتجه نحو باب الشقة متجاهلاً صمت خالد:
-أكيد..أكيد.
ودع كلاً من سمير وإبراهيم الشيخ والاتفاق يلوح لخالد بتكرار اللقاء مجددًا، أغلق سمير الباب وهو يوجه حديثه لوالده:
-شوفت مش قولتلك شوال فلوس.
ابتسم إبراهيم باستهزاء على ذلك الرجل:
-ونقطة ضعفه الستات.
أجفل كلاهما على صوت صفيق متردد خلفهما، فالتفتا والتعجب ينبثق منهما، وأول من لمح ملامح خالد المستنفرة هو إبراهيم ولكنه تمسك بالبرود ليقول:
-في إيه يا خالد مالك؟
أجاب خالد بكلمات غاضبة عبرت عن استنفاذه لطاقته في تحملهما:
-لا ماليش هو أنا ليا حق أتكلم وأقول إزاي راجل زيه يدخل بيتي.
تمسك سمير بطرف اللعبة كما فعل أبيه ورسم البرود فوق وجهه:
-وماله الراجل ما هو زي الفل.
لم يعجبه ما يحاولان فعله، فرد بهجوم شرس:
-لا مش زي الفل ودا بيتي يعني قبل ما حد يدخل تستأذنوني.
دأب سمير بالتحدث إلا أن خالد لم يعطه الفرصة وهب موضحًا بتحذير:
-أنا بعدي أي حاجة أنتم بتعملوها إلا إنكوا تخلوا بيتي لقعدات قذرة.
رمقه إبراهيم بنظرة مطولة ثم سأله بغموض:
-اعتبره تهديد؟
ترك خالد الأصول جانبًا مع هذين الحمقى ورد بوضوح أشعل الكره في عيني سمير:
-آه اعتبره، إقامتكم هنا قصاد إن الراجل دا يدخل بيتي تاني.
أنهى حديثه بقول واحد ثم دخل غرفته تاركًا إياهما يشتعلان بالحقد لإحراجهما بهذا الشكل الصريح، وقد تيقن إبراهيم أن رحيلهما قد أصبح قيد المحك، لزم عليه الأمر استعادة زمام أمور ابن أخته كما في السابق، محاولاً كسب تعاطفه بأي شكل، ماذا سيفعل دون مال وفي بلد غريب وعلاقته بهذا الشيخ لم تتوطد بعد، سيلعب على الجانبين حتى يختار أيهما أكثر أمان.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)