رواية منك وإليك اهتديت الفصل السابع عشر 17 بقلم زيزي محمد
رواية منك وإليك اهتديت الجزء السابع عشر
رواية منك وإليك اهتديت البارت السابع عشر
رواية منك وإليك اهتديت الحلقة السابعة عشر
-أيه اللي بيحصل دا؟
عم صوت سمير الغليظ أرجاء المكان بعد أن رأى نهى مقتربة بشدة من خالد، بل كانت تقف كالفرخ ترتجف بين قبضتيه، وأول من ابتعدت خطوة كانت هي تحاول تدارك الأمر ولكنها فشلت فبدت كالخرقاء تتلعثم بفمها وتستنجد بخالد عن طريق عيناها المتعلقة به كي يخرجها من ذلك الوضع، ومع استمرار صمته اعتقدت نهى أن الصفعات ستتوالى فوقها الآن من قبلهم فالطبع لن يتفهما موقفها، ولكن أخيرًا خرج صوت خالد عادي جدًا وكأن شيء لم يكن بل شعرت بلمحة استهانة بهما وخاصةً حينما قال:
-قول لبنتك يا خالي انها مش قاعدة لوحدها في البيت عشان لما تحس بحد داخل تجيب سكينة وعايزة تقتله.
حولت نهى بصرها لوالدها تجاهد إضافة تأكيد على ما يقوله خالد ولكنها لم تحتاج وذلك بعدما تقدم والدها بغيظ مردفًا:
-سكينة إيه يا بت هو انتي اتجننتي.
حاولت الدفاع عن نفسها فلم تحظى بفرصة بسبب سخرية سمير التي انطلقت تحاوطها وكأنها بلهاء لا تقوَ على فعل هذه الأمور:
-نهى أختي تمسك سكينة وعايزة تدافع بيها عن نفسها، دي أكيد كدبة ابريل.
صدح صوت خالد بنبرة خشنة قائلاً:
-لا فعلاً عملت كدا، وكانت هتضربها فيا لولا ان لحقتها في اللحظة الأخيرة.
قبض إبراهيم فوق ذراعها واشتد بقبضته فوقه معنفًا إياها:
-هو أنا مش قولتلك متزعليش خالد مننا، عايزة تعملي مشاكل ليه؟
ظهر الهلع فوق وجهها وهي تشير برأسها في نفي فلم يكن مقصدها ذلك أبدًا، ومع اشتداد يد والدها فوق ذراعها تألمت بشدة وكعادتها حاولت إخفاء آلامها، فلم تعلم أن ايذائها النفسي فاق الإيذاء الجسدي بمراحل وظهر فوق تقاسيم وجهها خليط من المشاعر المتضاربة وكان أشهرهم حزن نابع من أعماق قلبها المجروح، فكانت تشبه طفلة مشردة وقعت بين من تجردت قلوبهم من الرحمة واشتدت قسوة صدروهم من بشاعتها.
شعرت بابتعاد والدها عنها وكان السبب خالد حينما تقدم ببسالة يدافع عنها قائلاً بصوت رجولي حانق:
-معملتش حاجة تستدعي دا كله.
ابتسم إبراهيم في وجهه ابتسامة متملقة يحاول تسوية الأمور بينهم:
-احنا ضيوف عندك يا حبيبي مش عايزين نضغط عليك وافعالنا تكون مستهترة.
ارتفع حاجب خالد الأيسر غير مصدق حديث خاله تزامنًا مع بسمة ساخرة حلقت فوق ثغره:
-لا انتوا بتضغطوا فعلاً..إيه هتمشوا؟
وأشار إليه بالمغادرة والسعادة تلمع بعينيه، فأردف سمير سريعًا يلقي اللوم فوق نهى الغائبة عن حديثهم:
-اهو بسببك زعلتي ابن عمتك مننا، أول وأخر مرة تتصرفي كدا.
اشتدت نبرته في أواخر حديثه ثم تحرك صوب الغرفة متجاهلاً استشاطة خالد أما ابراهيم أكد على حديثه ولده بتهديد لاذع لنهى التي كانت تقف كالصنم تتلقى دون محاولة الدفاع عن نفسها وكأنها اعتادت على ذلك الأمر مما اغاظ خالد المراقب لكل شيء من حوله ومع دخول ابراهيم الغرفة واغلاق الباب خلفه بصق من فمه باشمئزاز مردفًا:
-عالم معندهمش ذرة دم.
زفر بغيظ شديد منهم فمهما حاول طردهما بشكل مباشر لا يقتنعان بل يستمران في برودهما وهذا ما يثير غضبه أكثر، حتى أنه توصل مؤخرًا لحل وهو أن يترك الشقة في أمر مفاجئ ويضعهما في ورطة سداد أجار الشقة ولكن… ولكن ذلك الحل قبل مجيء نهى، فمنذ مجيئها وتخدرت حلوله مؤقتًا فوجودها عرقل أمور لا تستطيع تحملها أن فعلها بوالدها وأخيها السمج وبرر ذلك من باب رجولته التي لا تسمح بذلك.
تحرك نحو غرفته وتركها وحدها وما هي إلا ثوان وفتح الباب مرة أخرى هامسًا بصوت ضعيف:
-نهي…نهى.
التفتت له بتقاسيم وجهها الحزينة الممزوجة بلمحة خوف لم تتخفي حتى الآن، فيبدو أنها تعاني من آثار نفسية قديمة لم تجرأ على تخطيها، تقدمت خطوة ثم وقفت بعدها تحرك رأسها في صمت وعيناها تتساءل عما يريده، فقال بنفس همسه:
-هغير هدومي، وتعالي كُلي معايا عملت حسابك.
أشارت نحو نفسها في صمت والتعجب وجد لنفسه مكان بين ملامحها الجميلة غير مصدقة ما يخبرها به، ولكن مع تحريك رأسه بإيجاب أكد لها ذلك، فلم تستطيع الرفض ولا حتى الموافقة ظلت صامتة على وضعها حتى أغلق الباب في وجهها..انفرج فمها لا تصدق انقلاب افعاله بين اللحظة والأخرى، لم تستطيع فهمه هل هو شخص طيب يتعامل معها من مبدأ القرابة أم تتوهم ذلك وستصطدم بأمور تفوق ساذجتها كالعادة؟
***
بعد عدة ساعات…
خرج خالد برأسه من غرفته يبحث عنها فوجودها تجلس وحيدة في الصالة لا تفعل شيء، فأشار إليها بالمجيء في البداية لم تتحرك بل تعمدت التجاهل وركزت ببصرها فوق التلفاز، ولكن مع استمرار تحريك يده جعلها تقف باندهاش تتابع إصراره فهمست بحرج:
-مش جعانة كُل أنت.
رفع حاجبيه بسخرية وأردف بعدها:
-أكلت من زمان، أنا عايز اسالك على حاجة.
توغل الحرج ملامحها فاحمرت وجنتيها وجف حلقها وهي تتقدم نحوه تحاول التماسك أمامه بعد احراجه لها.
-خير في حاجة؟
فتح الباب لها فدخلت قائلة بوجوم:
-في أيه؟
-كان في تيشرتات هنا، انتي نقلتيهم فين؟
-كنت بدور على…
قطعت حديثها فجأة وابتلعت باقي كلماتها بما ستخبره، هل تخبره بمدى وقاحتها وهي تعبث بين أشيائه تحاول البحث عن هاتف كي تحادث والدتها، فيظن أنها متطفلة أو وقحة وتتلقى معاملة سيئة منه هو الأخر، ارتبكت وهي تقول:
-باين كدا روقت الاوضة.
لوهلة عقد حاجبيه متسائلاً بتهكم:
-باين مش متأكدة.
أومأت برأسها بقوة ثم جذبت نفس طويل وانطلقت من خلاله تبحث عن قطع ثيابه التي تجهلها أساسًا فهي لم تتذكر أن احدثت تغيير بأماكن ثيابه، لم تدرك في البداية انه خلفها في كل مرة تتحرك بها تبحث هنا وهناك وهو خلفها مباشرةً حتى توقفت فجأة تلتفت بقوة حينما لمحت ثياب مُلقاة خلف حقيبة كبيرة، اصطدمت بجسده الذي ارتد للخلف خطوة ولكنه تيبس بالأرض متمسكًا بها متفاجئ من عودتها السريعة للخلف، فكان يتحرك خلفها لاعتقاده أنها وضتعهم بمكان ما فكان يريد مساعدتها ليس إلا أو ربما يريد اظهار ذلك وبالطبع لم يحسب الاصطدام القوي بينهما فاهتز ثباته، وتحركت مشاعره التي لا زال يجهل هويتها وذلك الصوت المستفز مجددًا يعلو بصياح يحفزه لِمَ كان يريده من قبل…شفتيها الوردية..وردية الأصل أم أنها زائفة فانزلقت عيناه عليها مباشرةً وذلك بعد أن نجحت في سرقة انتباهه بارتجافها اللذيذ.
أما نهى كانت تستكين كمن ألقى فوقها تعويذة تجعلها خاضعة لسحر لا تجرأ على مقاومته، حتى لو كانت نظراته تلك تعصفها، تصيب قلبها برجفة قوية وهي بين يديه..استعادت وعيها المفقود للحظات ورجعت للخلف تشير خلف الحقيبة بصوت مهزوز:
-هناك..هناك اهم.
حول بصره نحوهم مشيرًا بيده وهو يقول:
-دا انتي طلعتي نضيفة جدًا في الترويق، في اختراع اسمه نطبق الهدوم ونحطها مكانها.
ابتلعت لعابها وهي تفرك يدها كالأطفال، لا تملك أحقية الرد فهي لا تتذكر أنها فعلت ذلك، ولكن أن كان الاتهام من نصيبها فليكن..هذا أمر بسيط عما تتلقاه، لذا قالت ببساطة:
-حاضر هعمل كدا.
تركها تتحدث وانطلق صوب طاولة يجذب طعام يضعه فوقها قائلاً:
-اقعدي كُلي، وأنا هلبس برة وهخرج.
-أنا اكلت مع بابا وسمير..
ضحك ضحكات ساخرة وهو يقول:
-بأمارة ما قسموا اللحمة ما بينهم وسابوكي صح؟
زمت شفتيها بضيق والتزمت الصمت وهي تسبل أهدابها تمتنع عن النظر إليه، لا تريد نظرات الشفقة تعبر ذاتها وتذكرها كم هي ضعيفة، لاحظت اقترابه منها وهو يقول:
-أنا مش مغيب وعارف طبعهم على أيه، اقعدي كُلي وبعد كدة لما اجيب أكل واقولك تعالي..تيجي وتاكلي، بلاش كبرياء بالله عليكي أصلها مش ناقصكي.
أصابها الذهول من شهامته الممزوجة أحيانًا بالوقاحة فقالت:
-أنت عايزني آكل ولا مش عايزني بالظبط؟
-مكنتش هقولك تعالي ولا اشيلك أكل.
رد ببساطة، فعقبت بحنق طفيف:
-ودي طريقة تكلمني بيها!
-امال عايزني اتحايل عليكي مثلاً، ولا اعمل الهدوم حجة عشان ادخلك تاكلي لا أنا مش كدا خالص..سلام.
خرج بسلاسة وكأنه لم يلقي قنبلة بوجهها، هو من اخفى تلك الثياب حتى توافق على تناول الطعام! أيعقل؟…ابتسمت للحظة فلم تصدق ما يصدر منه، هل هو معتوه كي يعترف على نفسه أم أنه يمازحها..حركت رأسها بنفي تحاول إخراجه من عقلها بعد أن قلب كيانها رأسًا على عقب..ذلك المجنون لا تعرف ان كان حديثه جاد أم عبارة عن مزحة ساخرة منها.
***
جلست مليكة فوق مقاعد خشبية خارج المشفى تنتظر مجيء زيدان وذلك عندما شدد عليها بضرورة إيصالها للمنزل وخاصة ان كانت في ساعة متأخرة ورغم سكون ملامحها إلا أنها كانت تغوص في بحر من الافكار المتدفقة، وقعت فريسة ما بين الصواب والخطأ..ما بين الخوف والشجاعة، مزقتها الحيرة نصف يقاوم يحارب وآخر يتمسك بالظلمة يخشى المواجهة.
نكست برأسها بعد كل صراع نفسي تخرج منه كالعادة بلا شيء وكأنها لم تكن تدور في حلقات مفرغة بكل جهد تحاول النجاة، مدت أصابعها تمسك هاتفها من حقيبتها تفتحه تنتقل بين صفحاته وتحديدًا للصور المفبركة من قبل ماجد تنظر لها تدقق النظر تحاول رؤيتها من كل الجهات بعقلها…بعقول من سيراهم ان اقدم ماجد على نشرها، تراها ايضًا بنظر زيدان…هل سيصدق المحادثات الوقحة..هل سيصدق أن تلك الفتاة العارية هي..ولكن..هنا ظهر صوتها المكتوم ببحة يملأها الجنون:
-دي أنا…ضحكتي..دا شعري، يا رب.
همست بها وهي ترفع بصرها للسماء تستكمل مناجاتها:
-دا بلاء شديد نجيني منه يا رب…يا رب ساعدني اقاوم ضعفي وقلة حيلتي.
انسابت دموعها فوق وجهها وكأنها تريد الخلاص من سجنها لتخرج بغزارة تشق وجهها بأخاديد يملأها الألم والحزن، جذب انتباهها سيارة زيدان، فمسحت وجهها بخفة كي لا يلاحظ شيء وأغلقت هاتفها تحاول كتم آلامها النفسية خلف ابتسامة صغيرة مرحبة وهي تتجه نحوه، تجاهد نفض أمر ماجد مؤقتًا وما حدث بالمشفى اليوم والذي كان السبب في تراجعها عن اهم قرار قد اتخذته في لحظة شجاعة تبددت بل وسحقت أسفل احلامها الواهية.
جلست بجانبه بالسيارة وتلقت ترحابه بها وذلك عندما امسك بكفها داخل كفه يعانق أصابعها رافضًا التخلي عنها بعناد اثار حنقها:
-زيدان سيب ايدي.
-متحاوليش أنا مستني اللحظة دي من زمان.
عبست بوجهها وهي تسأله:
-لحظة إيه؟
رد ببساطة وابتسامة صادقة:
-امسك ايدك.
ضحكت رغم عنها محاولة مقاومته ولكنها فشلت فسكتت وكانت غير راضية بالمرة، فلوحت أفعالها بعدم الراحة وظهر ذلك جليًا عليها مما جعله يسألها بضيق:
-انتي كرهاني لدرجة دي؟
-ليه بتقول كدا؟
سألته بعدم فهم وقلق فأجاب بتعجب:
-بصي على وشك وتفهمي! دا مش منظر واحدة مخطوبة أبدًا.
-لا لا ..صدقني..أنا بس زعلانة عشان..
تلعثمت وهي تنفي ما يقوله وأول ما جاء بعقلها هو أمر زميلتها المطلقة وما حدث بين الاطباء فأخبرته بالقصة كاملة والحزن يطغي على نبرتها.
-انتي زعلانة عشان كدا.
سألها بهدوء وهو يتابع الطريق:
-ايوا..شريهان مكنتش تستاهل كدا أبدًا.
أجابت بحزن حقيقي مما دفعه يهز رأسه بتفهم وصمت للحظات ثم عاد وتحدث بشك لازمه كونه عمله غرز فيه ذلك:
-بس أكيد هي عملت حاجة غلط خلت جوزها يتصرف كدا، ممكن تكون الرسايل مش ظريفة، الصراحة شايف معاه الحق.
توسعت عيناها بصدمة وهي تقول:
-معاه الحق يضربها! وبعدين مهما كانت الرسايل إيه متوصلش لكدا هو أكيد مجنون.
-والمفروض انه يتقبل مثلاً ان في رسايل تيجي لمراته من واحد غريب، دا راجل وطبيعي يشك يا حبيبتي.
سألته بنبرة شرسة وكأنها على حافة الانفصال:
-وطبيعي يضربها؟
-لا طبعًا وأنا معرفش أيه وصله لكدا بس ميضربهاش ينفصلوا بهدوء طالما مفيش بينهم اطفال.
-وعشان مفيش بينهم اطفال ينفصل عنها لمجرد ان في رسايل هددت حياتهم.
-هددت حياتهم بإيه…بالشك.. ودي كارثة لو ودخلت عقل الراجل عشان كدا ارجع واقول الغلط من ناحيتها ليه موقفتش خطيبها السابق عند حده..اكيد سمحت بتمادي في مرة ودي كانت نتيجته.
صرخت بانفعال وبدأت صدرها يعلو ويهبط في جنون:
-زيدان بس كفاية مش عايزة اسمع حاجة.
اوقف السيارة جانبًا قائلاً بعدم فهم:
-في إيه يستدعى لكل دا؟
-أنا مبحبش اللي ارتبط بيه يكون تفكيره بالشكل دا يضرب ويهين…
اوقفها بصرامة غير مصدقٍ اتهامها:
-ايه حيلك..حيلك..اضرب ايه، أنا ابن ناس ومتربي، انتي بتتكلمي في حاجة وانا بقول رأي مجرد استنتاج عادي.
عادت تصرخ مجددًا وكأنها تواجه وحش طارد مخاوفها من قبل:
-محدش طلب رأيك على فكرة، طالما بالوحشية دي.
-وحشية! هو انتي شايفني نازل بضرب الناس في الشارع.
-ظابط وتعملها على فكرة.
رفع حاجبيه بشراسة وهتف من بين أسنانه:
-إيه علاقة شغلي باللي بتقوليه!
تجاهلت حديثه قائلة بضيق:
-وصلني البيت لو سمحت..مش عايزة اتكلم.
-صاحبتك اطلقت أنا مال أمي، يتنكد عليا ليه؟
قالها بغضب من تصرفها الطفولي..فردت يعناد وهي تشير ناحيته:
-أنت موافق يضربها…
أمسك بكفيها معّا وبتر حديثها الهجومي حينما أدرك مخاوفها مقترب منها:
-ان كنتي بتحكي وفهمتي ان بشجع على الضرب، تبقي مجنونة أنا غيرهم وعلاقتنا غير أي حد..
صمت للحظة ثم عاد ورفع كفها وقبله بحب:
-احنا بنحب بعض، حتى لو بعدنا انتي حافظتي على نفسك عشاني وانا محبتش حد بعدك..اللي بينا حاجة كبيرة اووي مينفعش تتقارن بأي علاقة يا حبيبي.
رمشت بأهدابها وهدأت أنفاسها تحت همساته المحملة بنسمات الحب:
-اطمني عمري في حياتي ما افكر امد ايدي عليكي ولا افكر اسببلك أذى، أنتي حاجة كبيرة اووي عندي يا مليكة..متقارنيش نفسك بحد مهما إيه حصل حواليكي انتي جوهرة غالية وهحطك جوا عنيا.
استكانت كالطفلة تستمع له ورغم أن أثار مخاوفها لا زالت متروكة بها إلا أن حديثه كان كالبلسم لها، ربت فوق قلبها الخائف وخاصةً ان كانت نظراته صادقة شغوفة بالحب الكامن بقلبه ولكن تلك الصور تثير زوبعة من القلق داخلها رغم أن نصفها حقيقي ونصف كاذب! هل سيصدق ذلك، مجددًا قيد لسانها بحِبال الصمت وتوقفت كلماتها عند حاجز منيع لم تستطع تخطيه.
طال تمسكه بها وكأنه طفل وأخيرًا وجد لعبته بل أن سعادته المرسومة فوق وجهه فجرت التعجب بملامحها فخرج سؤالها سريعًا يرشق به:
-افهم ايه من سر سعادتك دي؟
-ان انا قادر اسيطر عليكي في ثواني، من شوية كنتي مهيبرة ودلوقتي هديتي وبقيتي زي القطة كدا انا اطمنت على نفسي لما نتجوز.
حاولت جذب كفها من قبضته بغيظ شديد:
-والله! طيب سيب ايدي بقى.
-هي عليها رهن ولا أيه، كل شوية سيب ايدي لو عليها رهن قوليلي.
مازحها بخفة فاغتاظت أكثر ورفعت أحد حاجبيها قائلة:
-لا مش هتمسكها الا لما نتجوز…عشان تطمن على نفسك حلو.
تركها ببساطة وعاد تشغيل سيارته وهو يتمتم:
-معقدين، تقولوا لا ومينفعش الا لما نتجوز وانتوا اصلاً هتموتوا كدا ونمسك ايديكم.
-والله!
قالتها بتحدِ ساخر، فحول بصره نحوها يقول:
-هو انتم فاكرين اننا هنموت ونمسك ايديكم والجو الفارغ دا لا خالص احنا بنحقق رغباتكم بس، أصلنا غلابة اووي.
ضحكت بتهكم قائلة:
-غلابة جدًا.
حرك زيدان يده الأخرى بين نافذة الباب والمحرك بعشوائية وهو يتحدث قاصدًا ذلك ومن بعدها ارتطمت يده بقوة في باب السيارة فتألم بقوة واوقف السيارة مما اثار قلقها واندفعت بالقرب منه تقول بخوف:
-مالها ايدك في إيه؟
امسكت بكفه تمرر بصرها فوقه بهلع وهو يبتسم بشقاوة في صمت فارتفعت بعينيها له رأت تلك البسمة واضحة.
-شوفتي مين هيموت ويمسك ايد التاني، عيب يا مليكة حركات النص كم دي.
تركت يده بانفعال شديد ونظرة حاقدة التصقت بوجهه المبتسم باستفزاز، فأشارت بيدها ونبرتها المكتومة بالغيظ اردفت:
-وصلني حالاً البيت.
استدارت بعدها للجهة الأخرى تخفي ابتسامتها عن مشاكسته لها ولم تكن تعلم أن صورتها معكوسة بالمرآة جذبت انتباهه فكان متربصًا بكل صغيرة وكبيرة تصدر منها كعادته دومًا معها.
***
في اليوم التالي..
-انتي يا بنتي اخلصي دا كله بتعملي القهوة.
رفعت نهى عيناها قائلة بهدوء:
-خلصت يا سمير والله، خدها اهي.
قدمت له الصينية فأخذها بضيق منها، تجاهلته وتقدمت صوب غرفة خالد تنزوي بها بسبب وجود ضيف غريب لا تعرفه، ورغم انه كان يجلس بغرفة والدها إلا أنها أحبت الجلوس بغرفة خالد وذلك بعد أن رأت نظراته لها حينما كان يستقبله أخيها على باب الشقة، في البداية اوهمت نفسها أنه في عمر ابيها ولن تسيء به الظن ولكن مع تحريك بصره فوق جسدها بتمهل وهي تتحرك اثار الاشمئزاز في نفسها فقررت عدم الظهور أمامه والاختفاء في غرفة خالد.
وقبل أن تدخل الغرفة، ارتفع رنين هاتف سمير فاضطر إلى مناداتها من جديد:
-خدي دخلي القهوة دي لغاية ما اكلم امك.
تعلقت عينيها بالهاتف وهتفت بنبرة مبحوحة تسأله:
-دي ماما.
-اه امك ومالك بتقوليها بفرحة كدا ليه، اتنيلي دخلي القهوة عشان متبردش.
أخذت الصينية منه على مضض وداخلها يتمنى أن تلتقط هذا الهاتف وتركض بعيدًا تخبر والدتها بكل شيء.
طرقت نهى الباب ثم دخلت في هدوء تقدم القهوة للشيخ قاسم، الذي ما ان رآها حتى مرر بصره الوقح فوق جسدها بتروٍ دون خجل، فشعرت نهى حينها وكأنها متجردة من الثياب رغم أنها واسعة ومحتشمة..الزمت نفسها على تقديم الواجب دون أن تدخل معه في الحديث لذلك وضعت الصينية وكادت أن تستدير للمغادرة..اندفع الشيخ يقول بلكنته المصرية الضعيفة:
-إيه يا حلوة مش هتقدمي ليا القهوة؟
ضغطت على نفسها ولم تجيبه بأي شيء سوى أنها التفتت له ترفع له كوب القهوة في ثبات، ولكن تعمده لاحتضان يدها الممسكة بالكوب جعلها تنتفض بذعر وتعود واضعة للكوب مرة أخرى فوق الطاولة ثم خرجت سريعًا بخوف، قابلت بسمير الذي رآها ترتجف فسألها بخشونة:
-مالك يا بت؟
-مـ..مفيش.
رمقها باستياء من توترها وقال بتحذير:
-اوعي تكوني زعلتي الشيخ قاسم..
وقبل أن تجيب ظهر صوت الشيخ من خلفها قائلاً:
-ما شاء الله عليها جميلة لا يمكن تزعلني.
انتفخ صدر سمير وهو يحاوط كتفها قائلاً بفخر لم تعرف نهى مصدره:
-دي نهى أختي، سلمي على الشيخ.
اخفت نهى يدها خلف ظهرها قائلة بنبرة مهزوزة:
-سلمت عليه، عن اذنكم.
دخلت بعدها لغرفة خالد تختبئ بها، فازداد اعجاب الشيخ بها ليقول بصوت يغلب عليه الرغبة:
-اختك جميلة يا سمير.
-دا من زوقك يا شيخنا..تعال ندخل جوا نكمل كلامنا لغاية ما بابا يجي.
تعلقت عيون قاسم بالغرفة ولمعت عيناه بمكر مفكرًا في التعرف عليها أكثر..
***
مساءًا..
اعدت مليكة وجبة عشاء خفيفة ثم حملتها واتجهت صوب غرفة زوج والدتها “مصطفى” لم تطرق الباب لأنه كان مواربًا وفتحته بهدوء فوجدته يغلق الهاتف سريعًا فور ملاحظته لها ثم وضعه فوق المنضدة مبتسمًا باهتزاز وهو يشير لها:
-تعالي يا حبيبتي..تعبتي نفسك.
تقدمت منه والهدوء يسيطر عليها رغم أن عقلها دفعها نحو توتره الواضح فيبدو انه كان يحادثها وأغلق بمجرد مجيئها، أحست بعدم الراحة بعد أن وجد الجفاء طريق بينهما، رغم أن علاقتهما لم تكن ذلك أبدًا..زفرت بضيق ثم وضعت الطعام أمامه قائلة:
-كنت بعملي عشا، قولت أكيد حضرتك ما اكلتش.
-تسلم ايدك يا حبيبتي.
هدأت ابتسامته وأصبحت أكثر صدق وعمق، فقالت بعدها بهدوء:
-تصبح على خير.
-اقعدي معايا كُلي مقعدناش كتير مع بعض.
دومًا نبرته لطيفة محببه لقلبها ولكن شعور بالاستياء يسيطر عليها فلم يكن منه بل من نفسها بعد أن أحست بكونها عقبة تعيق استكمال حياته بالشكل الذي يتمناه، ورغم عنها نظرت للهاتف ودون شعور منها وجدت نفسها تقول بنبرة خالطها الحزن:
-لا اسيبك تكمل كلامك براحتك.
حول مصطفى نظراته نحو الهاتف وادرك من نبرتها أن بها شيء وتحديدًا مع لمحة الحزن الغارقة بها، فقد تغيرت كليا معه، تصر على الابتعاد.. حتى مشاعرها أصبحت مقيدة، أصابه الشك من ناحيتها فاندفع بشجاعة يجذب ذراعها ويجلسها رغم عنها وهو يقول:
-اقعدي يا مليكة عايز اتكلم معاكي.
وفور جلوسها أمامه اندفعت بحماقة تقول:
-أنا كويسة مفيش أي حاجة!
عقد مصطفى ما بين حاجبيه مردفًا بتعجب من اندفاعها غير المبرر وكأنها تنهي معه الحديث بأي شكل، فقال برزانة:
-وليه اتسرعتي وفكرتي هسألك عنك، مش يمكن أنا اللي فيا حاجة وعايز اقولك عليها!
تلجلجت وهي تسأله فقد كانت تخشى أن يصارحها بأمر زواجه:
-فـ…في حاجة؟
اخفى تعجبه من تصرفاتها وأردف بصراحة ووضوح رغم أنه كان يحاول انتقاء الكلمات كي لا يحزنها، مركزًا على ردود أفعالها والخوف داخله يتلاعب به معتقدًا أنها ستحزن أن فكر في ذلك:
-يعني بما انك اتخطبتي وانا خلاص هعيش لوحدي يعني فكرت ….فكرت اتجوز.
ردت بتسرع ندمت عليه فظهرت وكأنها تُلقي نشرة اخبار:
-بجد الف مبروك.
-مالك يا حبيبتي في أيه انتي زعلانة مني، عشان قررت اتجوز.
سألها بترقب والقلق يغزو قلبه، لم يكن لديه استعداد لخسارتها بأي شكل حتى لو كان على حساب نفسه، الأهم هي..وان عبرت عن استيائها سيغلق ذلك الأمر حتى لو كانت أمنيته الوحيدة، ولكنها فاجئته حينما ابتسمت قائلة بهدوء:
-لا خالص يا بابا انا فرحانة طبعًا ولو مكنتش عملت كدا كنت هصر عليك تتجوز..
أطرقت للحظة ثم عادت تسأله بنبرة ثابتة ولكن خالط فيها الارتجاف قليلاً:
-في حد مناسب ولا لسه هتدور.
ربت فوق يدها بلطف وحنو وهو يجيب:
-في واحدة اعرفها من زمان بس طبعًا كل حاجة واقفة لما تتجوزي.
ظهر الرفض فوق ملامحها فهذا يشعرها بالضيق كونها حاجز يمنعه من تحقيق ما تؤل إليه نفسه:
-وليه اتجوز من دلوقتي.
أجاب بصدق وهو يحتضن وجهها بكفيه ناظرًا بحنان أبوي لها محاولاً محو أي مخاوف لديها متعلقة بأمر زواجه حتى لو كانت موافقة:
-لا وعلى إيه السرعة لسه العمر قدامنا، المهم أنتي دلوقتي..بس أنا حبيت اتكلم معاكي عشان متعودتش اخبي عليكي حاجة.
حاولت التحدث فمنعها ثم قال بصرامة:
-مليكة الموضوع انتهى بالنسبالي مفيش أي خطوة هعملها إلا لما تتجوزي الاول واطمن عليكي.
أومأت بإيجاب وعقلها غرق في أمر آخر أصرت على تأجيله واوضعته في خانة الانتظار فكانت الخطوة الأولى رهن أن يخبرها مصطفى برغبته في الزواج، فقالت بهمس:
-اللي أنت شايفه يا بابا.
***
بعد مرور أسبوعين..
مرت الأيام عادية على نهى..مسجونة في شقة خالد لا تستطيع الخروج، تتعامل بحذر مع والدها وأخيها تنفذ لهما أمرهما دون اعتراض، تنزوي في غرفة خالد طالما هو في عمله وعندما يعود تصبح الصالة مكانها تجلس أمام التلفاز لا تفعل شيء سوى متابعة أي مشاهد تمر أمامها تساعدها في مرور الوقت، وبالطبع لم يخلو وقتها من مشاكسة خالد أحيانًا يحادثها بجدية وصرامة تقلقها وأخرى يمازحها بسخرية..لم يمر يوم سوى ويحضر لها الطعام معه فمعظم الأيام تشاركه الجلوس معه وأخرى تأكل وحدها وعندها فقط تشعر بضجر يحتل ملامحه، بدأت تشعر بالراحة معه والأمان حينما يكون موجود داخل الشقة..بوجوده يمنع أي حد من صفعها او أي تطاول وقح مثلاً من أخيها، فأحبت كثيرًا وجوده أكثر من غيابه..مثلما تنتظر الآن مجيئه كي يغادر ذلك الشيخ من الشقة..فذهابه متعلق بمجيء خالد وما توصلت إليه أنه لا يعلم بحضوره في شقته..فاضطرت للسكوت حتى لا تتلقى توبيخ من والدها..رغم أنها تشعر بعدم الراحة لوجود ذلك الشيخ وخاصةً بعد نظراته وتلميحاته الجريئة الوقحة.
انفتح الباب بقوة ودخل سمير متجهم الوجه قائلاً:
-بتعملي إيه؟
وقفت فور دخوله وهتفت بترقب:
-مفيش قاعدة…
قاطعها سمير بأمر صارم:
-طيب غيري هدومك واطلعي اقعدي مع الشيخ قاسم.
-اقعد مع مين؟!
رددت خلفه ببلاهة، فاقترب منها يدفعها بعنف للخلف ووقعت على الفراش مبتعدة بجسدها تخشى صفعة منه بعد أن ظهر الشر بعينيه:
-بصي أنا على اخري منك، اسمعي الكلام ومتضيعيش الراجل من ايدينا واخرجي اقعدي معاه.
ابتلعت لعابها وهي تشير برأسها بنفى وبتلعثم أضافت:
-لا مش هخرج..الراجل دا بكرهه.
-بطلي تمثيل ويلا يا بت..
نهضت تمسك بذراعه تقول بتوتر من رد فعله:
-أنا مكنتش عايزة اقولك بس هو بيعاملني…يعني..مش كويس بيحاول يمسك ايدي ونظراته…
بتر جملتها متحدثًا بهدوء أصابها بالصدمة:
-وماله…خطيبك وبيتصرف زي ما هو عايز.
شهقت بعدم تصديق وعادت للخلف قائلة بهمس:
-إيه؟!
-ايوا..خطيبك وانا وابوكي وافقنا والجواز بعد أسبوع.
**
خرجت مليكة من بناية موجودة في إحدى المناطق السكانية الهادئة، فتحت حقيبتها تبحث عن هاتفها الذي لم يهدأ من كثرة رنينه، فوجدت معظم الاتصالات من زيدان..زفرت بهدوء ثم أجابت:
-الو ايوا يا زيدان.
-انتي فين؟
-انا في المستشفى.
قالتها بضيق بسبب عدم رغبتها في الكذب ولكن ما اضطرت لفعله هو من دفعها لذلك..ولكن ظهر صوته بوضوح وهو يقول بنبرة منفعلة شرسة:
-بتكذبي ليه؟
استدارت بفزع حينما شعرت بوجوده خلفها ولم تصدق حينما رأته يقف يضع يده في جيب سرواله والأخرى ممسكة بالهاتف، انتقل ببصرها بينه وبين البناية في ارتباك بينما كانت نظرات الاتهام تتراشق نحوها وكأنها حجارة تسقط من كل مكان..
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)