رواية منك وإليك اهتديت الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم زيزي محمد
رواية منك وإليك اهتديت الجزء الرابع والثلاثون
رواية منك وإليك اهتديت البارت الرابع والثلاثون
رواية منك وإليك اهتديت الحلقة الرابعة والثلاثون
توهجت عيناه بنيران ساطعة، وبدت أنفاسه ثقيلة للغاية، بينما ملامح وجهه كفيلة بإثارة القلق في نفس مليكة التي كانت تراقب انفعالاته عن كثب من خلف غلاف رقيق من الدموع احتل عينيها وذلك بعد أن اخبرته بكل شيء حتى أدق التفاصيل، كانت تتحدث..تتحدث فقط أما هو لا يصدر عنه كلمة واحدة ولا انفعال خارجي واحد بل كانت تعابيره مكتومه رهن انفجار وشيك، ارتجف قلبها المسكين وهى ترى انقباض يده وكأنه مصارع يقوم بتحفيز عضلات جسده قبل المعركة، تراجعت بالمقعد الخشبي الصغير للخلف وانتقلت عيناه لسليم الذي كان يجلس فوق مقعد خشبي مماثل للذي تجلس عليه ينظر لحالة أخيه ولكن ملامحه بدت أكثر غموض لا يظهر قلق مثلها، كل ما يفعله مراقبة حذرة منتظرًا دخوله في الوقت الحاسم، ولكن متى يأتي هذا الوقت؟! لقد نخر الخوف في صدرها من شدة الترقب، تخشى الخطوة التالية، تخشى انفصال لا رجعة فيه!
أخيرًا نطق سليم وكسر الصمت المطبق الذي حل خلف حديثها، وقام بمناداة أخيه ليخرجه من تلك الغابة المظلمة التي دخل بها فبدا كالوحش الأسير بأنفاسه المهتاجة ولكن سليم كان شجاعًا حينما تسلل لعمق غابته وسرق انتباهه:
-زيدان.
تورات نيران غضبه خلف هدوء ادهش سليم ومليكة:
-نعم.
سأله سليم بحذر:
-ساكت ليه؟
بنبرة مجروحة وغضب مشتعل أجاب:
-مش من حقي اتكلم، فالسكوت احسن.
اغمضت مليكة عينيها بقوة وانجرفت دموعها كالأنهار فوق صفحات وجهها تغرقه في حزن شديد، فابعد سليم بصره عنها ثم تنهد بثقل وقال برزانة:
-من حقك طبعًا تقول اللي نفسك فيه!
طغى الخذلان على صوته ونظراته شعت بالخيبة مركزًا ببصره عليها:
-انتوا سحبتوا الحق دا مني من زمان، الاول لما هي خبت وبعدها لما لجأت ليك وفضلتك عني.
صدحت شهقاتها للعلن فحاولت كتمها بوضع كفها فوق فمها ولكنها كانت محاولة فاشلة بعدما ظهرت كالأنين المكتوم، بينما كست عيني سليم لمحة من الضيق وهو يضيف:
-انا اخوك ومكانك…لما مراتك اتعرضت لحاجة زي دي، واجبي مستناش رجوعك، كان لازم اتصرف.
زفر زيدان بعض من النيران المستعرة بداخله قبل أن بقول بنبرة حادة:
– وبردو كنت بتقولها تخبي ومتقوليش!
كاد يهدر سليم بانفعال متعجبًا من طريقة زيدان في الحديث، لقد توقع هجوم شرس كعادته يفجر به طاقته المكتومة، يصاحبه بعض اتهامات حمقاء يلقيها هنا وهناك ومن بعدها يعود نادمًا، اعتاد عليه بطريقته الهوجاء وامتلك خبرة في التعامل معها، ولكن ذلك الاسلوب جديد عليه…وكأن هناك طاقة خفية تحجم ثورة غضبه، تقيد لسانه الاهوج…تمنعه من تصرف هجومي قد يخسر…قد يخسرها! السبب يكمن بها! توصل للتغيير الذي طرأ على اخيه وقد اعجبه الامر قليلاً ولكن في ذات الوقت لم يتحمل نظرة الانكسار الممزوجة بالخذلان التي طالت عيني اخيه، لذا تحلى بالصبر والرزانة قبل أن يضيف على نبرته لمحة من الحنان:
-انت ابني وانا خايف عليك، انت ممكن تأذي نفسك او مستقبلك في سبيل انك تنتقم منه، وبعدين انت عايزني اسيب كل حاجة لما ترجع، ولا اتصل عليك في شغلك وانت في بلد بعيدة وفيها مشاكل، دا حق الاخوات على بعضهم ولا ايه يا زيدان.
نهض سليم من مقعده تحت انظار مليكة المترقبة ووقف امام زيدان يواجهه بلمحة من القوة:
-انت مش قولتلي بعتبرك كبيري..زعلت ليه لما تصرفت مكانك؟
غمغم زيدان بنبرة مشروخة من الحزن:
-مش زعلان، عن اذنك.
كاد يغادر تحت انظارهما ولكن سليم اوقفه حينما امسك بساعده يقول بقلق بان في صوته بشكل واضح:
-رايح فين وانت كدا.
ابعد زيدان يده ثم ربت بالكف الأخر فوق كتف سليم يطمئنه، وقال بهدوء اقلق سليم اكثر وكأنه يتعامل مع طفل صغير:
-راجع المديرية…اتنقلت هنا نقل استثنائي بعد ما اترقيت وكنت جاي اقولكم الخبر الاول قبل ما اروح.
مسد سليم فوق مؤخرة رأسه بفخر وابتسامة صغيرة احتلت ثغره:
-مبروك.
-الله يبارك فيك، عن اذنك.
غادر في لمح البصر وكأن قدرته على التحمل تبخرت، لقد فشل في صب جام غضبه عليها، يخشى فقدانها فسمح لخوفه بالتسلل اليه والتحكم به، فبات غضبه مكتوم وكأنه سجين يتخبط بين جدرانه سجنه، فانحسرت الكلمات بين جدران صوته لا يستطيع البوح بما يشعر به من خذلان…حزن …حنق، فقط غرق في سواد حالك بنظراته البائسة تلك.
أما مليكة فانكمشت على نفسها كالطفل الصغير، تبكي في صمت وقد دفعها عقلها لهاوية الانفصال، لم يوجه لها أي حديث أو عتاب واحد وكأنه استكفى مما فعلته فقرر الابتعاد دون أن يعاتبها ولكن صوت سليم المخترق لحواسها جعلها تنتبه:
-متخافيش، هيرجع.
همست بنبرة مخنوقة:
-مكلمنيش!
-كدا احسنلك، زيدان لو اتكلم هيخسرك وهو خايف من حتة زي دي، اخويا وانا عارفه…هو اخد الصدمة سيبه يتأقلم عليها بنفسه.
رفعت بصرها لسليم والضعف ينسج خيوطه بملامحها المرهقة وكأن طيف ماجد بوقاحته لا زال يهدد أمنها…موطنها…أخرجت انفاسها الثقيلة ببطء شديد تحاول السيطرة على شهقاتها ودموعها المتساقطة بغزارة فوق وجهها وفي ذات الوقت تحاول أن تستمد القوة من سليم وكلماته الواثقة عن حبيبها المتمرد.
***
مرت ساعات وهي لا تزال على نفس جلستها بغرفته تنتظر مجيئه، رغم طلب سليم منها بأن لا تحادثه حاليًا، الا انها رفضت واصرت على انتظاره، لتحادثه..لتعرف ما يلج بصدره..هل وجد الشك طريق بينهما؟، أم ان تلك النظرات مجرد غضب لأنها لم تخبره منذ البداية؟! لن تترك نفسها لتكهنات تزيد من قلقها وخوفها..ستضع نهاية لتلك الفترة المؤلمة من حياتها رغم انها تخشى أن يعاملها بتهور كعادته.
باتت عينيها حزينة تمتزج مع ملامحها الباهتة، تجلس فوق الفراش بضعف وكأن قواها سحبت منها قسرًا، نظراتها البائسة تصوبها نحو الباب بينما كانت عيناها تغرق في سواد الكون كله فباتت وكأنها تساق لمنصة الاعدام!
تحرك مقبض الباب أمامها، فتحفز جسدها وخلايا عقلها لمواجهته، أما وجهها لم يتغير كثيرًا بنفس شحوبه وكأن الحياة هجرته، واجهت عيناه التي ما ان وقع بصره عليها حدجها بقوة وكأنه لا يريد لقائها، زادت وتيرة أنفاسه بشكل سريع وتسرب هدوئه الظاهري حينما هدر بانفعال:
-جاية هنا ليه؟
دخل بخطواته الغاضبة صوب دولابه وبدأ في فتحه واختيار ثياب مريحة، فبدت حركته عنيفة نوعًا ما وجسده يتشنج بقوة مرعبة، لم تأبى ولم تتراجع أصرت على ما اقدمت عليه وهمست بشحوب:
-امال اروح فين؟
سألته بخوف من اجابة قد تقطع طرق الوصال بينهما، اغمضت عينيها بخوف حقيقي كمن تقف في انتظار هجوم وحش ضاري عليها، فسمعت لصوته القاس يردف من بين اسنانه وكأنه وصله مغزى حديثها:
-فوق عند سليم…مكانك.
وقفت والارتجاف يزحف لجسدها كعدو خفي، بينما فرض القلق هيمنته على فؤادها المسكين وهي تسأله بصوت تأرجح ما بين الثبات والتلعثم:
-زيدان، انت شاكك فيا؟
التفت اليها يرميها بنظراته القاسية الشرسة وهو يشير اليها:
-لو شاكك ذرة مكنتش خليتك على ذمتي لحظة.
هزت رأسها بمرارة وبكت بانهيار:
-امال رافض تسمعني ليه؟ ليه بتعاملني كدا؟
انتباهها الجزع حينما اختصر المسافة بينهما في لحظة، فارتجف جسدها بعنف وكأن هناك عاصفة عاتية هاجمتها فجأة، رفعت بصرها بترقب حينما اشتدت انفاسه وقست ملامحه فبان طيف الغضب في عينيه:
-عشان لغتيني من حياتك، أنا المفروض احل مشاكلك، المفروض حاجة زي دي تكون ما بيني وبين مراتي.
رفعت له عينين مكسورتين قائلة بخفوت:
-كنت خايفة منك.
ظهر الاحتقان في صوته:
-ليه؟ عمري ما أذيتك، دايمًا بخاف عليكي.
صمت للحظة ثم ضرب بيده فوق صدره قائلاً بنبرة مجروحة:
-أنا بعاملك غير أي حد، معاكي ببقى واحد تاني، بخاف اجرحك، أنا….
اطرق رأسه للحظات طويلة عندما فقد قدرته عن التعبير، حقًا هو يعاملها كماسة يخشى جرحها، يحفظها داخل قلبه..استحوذت على كيانه، تفكيره، امتلكت مفاتيحه…كيف لها أن تشعر بالخوف منه؟ كيف يكون ذلك مبررها لِمَ فعلته!
شعرت مليكة بالأسى في نبرات صوته، ورمها عقلها لبحر هائج بالأفكار المتضاربة، فعادت تفسر قولها الذي حاولت اخفائه، وظهر الضعف بعينيها الجريحة ونبرتها المكسورة:
-كنت خايفة تسيبني.
رفع حاجبيه باستنكار فقال بصوت متصلب:
-مكنتش هشك فيكي لحظة، حقك دا كنت المفروض اخده من ابن ال***** بنفسي، انتي مراتي…فاهمة، مراتي.
غمغمت بحزن:
-بس قبلها مكنتش مراتك، وكنا بعاد عن بعضنا.
-افهمي…أنا متعصب انك تخبي عليا، أنا صارحتك بكل حاجة في حياتي، لكن انتي اختارتي تسكتي وتلجأي لحد تاني غيري، أصل أنا بعبع بخوف وهمسكك اضربك وامدك على رجليكي.
نشجت بعنف، فزفر هو بقوة وكأنه يهدأ من غضبه المتفاقم بجنون كلما القت نحوه اتهامات تثير جنونه أكثر، لقد شعر بالندم في صوتها والأسف يقطر مع دموعها المتساقطة من عينيها ولكن الآن ليست لديه نية لمسامحتها، فقط يريد مساحة لتقليص حجم غضبه بنفسه، فـ لو بقيت دقيقة أخرى سينفجر بها بأسوأ الكلمات والتعبيرات وهو لا يريد ذلك! حمدًا لله انه لا زال محتفظ بجزء من هدوئه حتى لو كان مصطنعًا.
دفعها برفق نحو الباب وفي ذات الوقت اعطاها منديلاً ورقيًا تمسح به دموعها:
-يلا اطلعي نامي دلوقتي.
رفعت انظارها له بحزن امتزج فيه الندم، فأغمض عينيه يرفض الانصياع لقلبه الأرعن الذي دق بجنون لنظراتها تلك، فهمس بصوت جاهد أن يكون قوي ثابت:
-ان شاء الله نبقى نتكلم مع بعض تاني.
هزت رأسها بمرارة وانسحبت بهدوء من غرفته ومن الى شقة سليم وتحديدًا بجانب أنس انزوت بجانبه تبكي بصمت كي لا تفزع الصغير ولكنه شعر بها ففتح عينيه الصغيرة وبصوت هامس طفولي يغلب عليه اثار النوم:
-مالك يا كوكي.
فتحت عينيها الباكية تهمس بضعف من خلال انهيارها:
-مفيش، حلمت حلم وحش.
جذب الصغير رأسها نحوه وبدأ يمسد بكفه الصغير فوق وجنتها هامسًا بحنو اكتسبه من والدته:
-أنا جنبك متخافيش.
استسلمت لحنانه الطفولي لاحتوائه البريء، فهو لا يدرك مقدار ما تشعر به الآن ولكن بلمساته تلك هدأ قليلاً من بكائها حتى غرقت في نوم عميق تجاهد فيه كوابيسها.
***
مر أسبوع عليهما…زيدان لا يتقابل معها كثيرًا بل لا يتواجد في المنزل وان وجد بالصدفة يعامل اخويه وكأن شيئًا لم يحدث وخاصةً سليم يعامله بهدوء، اما هي فكان من نصيبها وحدها القسوة والعتاب والغضب، وان استطاعت التحدث معه يلقي ببعض الاجابات المقتصرة بوجه عابس وعينين لا تخلو من الشراسة وكأن لمحة الحنان خاصتها اضمحلت بسبب ما فعلته.
الوقت يمر وطاقتها في التحمل تفقد مخزونها، فكرت مليًا في كيفية ارضائه ولكنها فشلت فكل الطرق التي تفكر بها لن يوافق بها..مالت برأسها تبحث عن فكرة أخرى فلمحت شمس تدخل للمطبخ بإشراقها المتميز وضحكتها المنيرة، فدفعها عقلها لطلب المساعدة منها دون أن توضح لها، فاقتربت منها تهمس بصوت خافت جدًا كي لا يسمعها أحد بالخارج وخاصةً ان ذلك اليوم اجازة للجميع.
-شمس ممكن اخد رأيك في حاجة؟
رفعت شمس عينيها تقول بحبور:
-طبعًا يا روحي قولي.
فركت يديها بإحراج وهي تقول بارتباك ظهر جليًا بصوتها:
-لو انتي زعلتي سليم اوي، بصي غلطتي غلط كبير وهو اخد منك جنب بتصالحيه ازاي؟
ابتسمت شمس بثقة رغم فضولها الذي تمحور حول حديث مليكة الغامض:
-أنا ليا طرق كتير، بس هقولك واحدة…
أشارت اليها بالاقتراب منها فامتثلت مليكة لطلبها ومالت نحوها تستمع لشقاوتها:
-صدقيني مش هتسيبه الا لما هو اللي يصالحك.
اندهشت مليكة وهمست بحماس:
-قولي.
وضعت يدها بجانب اذن مليكة وبدأت في اخبارها بهمس شديد فجر ينابيع الخجل داخل مليكة، ولكن ما بيدها حيلة ستستخدم ذلك الاسلوب طالما يأتي بفائدة.
-طيب أنا هدخل ازاي اوضته كدا.
-مالكيش دعوة، ليا طريقتي السرية.
بينما في الخارج..
وبعد مرور عدة دقائق جلس انس بالمنتصف بين زيدان ويزن وبالأريكة الاخرى كانت منال تحمل قمر وتقوم بتحصينها بالرقية الشريعة وبجانبها سليم الذي كان يمسد بيده فوق رأس الصغيرة بحنو..
-عمو زيدان.
انتبه زيدان للصغير فابتسم له بحنان:
-ايه يا حبيبي؟
-اقولك سر.
قالها بعينين متسعتين فهز زيدان رأسه ولم يلاحظ جسد يزن الذي مال أكثر نحوهما يتظاهر باللهو في هاتفه.
-طنط مليكة كل يوم بتعيط وهي نايمة جنبي وبتحلم احلام وحشة.
همهم زيدان بصوت ضعيف وفقد القدرة على الاجابة بينما واصل الصغير حديثه:
-بس أنا كل يوم بحضنها وبطبطب عليها وبقولها متخافيش.
هنا ظهر صوت يزن المشجع بحماس:
-طالع لعمك يا حبيبي.
رفع زيدان عينيه الغاضبة فقال يزن بشقاوة:
-لا طالع ليا اكيد مش أنت..أنت جلف يا زيدان مبتعرفش تعمل الحاجات دي.
امسك وسادة كبيرة واندفع نحو يزن يحاول كتمه انفاسه بها هامسًا بغيظ:
-ياض أنت نهايتك على ايدي.
تعال صوت والدتهما بقراءة ببعض الآيات القرآنية ملقية نحوهما تحذيرات قوية، تابعها نظرات قوية من سليم…ثم هدر بعنف:
-مش سامعين امكم بترقي قمر.
نظر زيدان ليزن بتعجب من غضب اخيه، ولكنهما امتثلا لأمره وابتعدا عن بعضهما..فقال زيدان بلامبالاة:
-انا هنام شوية لغاية ما الغدا يخلص.
دخل بالفعل لغرفته ثم اغلقها بالمفتاح وقبل أن يستدير خلع سترته العلوية، فاتسعت اعين مليكة من خلفه وهمست بداخلها:
-شمس مقالتش انه هيقلع التيشرت.
وقبل أن يمد يده لسرواله همست تجذب انتباهه والتوتر يلتهم ثباتها:
-زيدان.
استدار سريعًا يرى مصدر الصوت، فكانت هي تقف خلفه على بعد مسافة تنظر له بعينين غلب عليها الشوق لبعاده عنها طيلة الايام الماضية، كاد يبادلها نفس النظرات ولكنه تراجع للحظات وكان ذلك قبل أن يلاحظ ثيابها المكونة من سروال جينز وسترة بيضاء ذو حمالات رفيعة تظهر عنقها المرمري وجزء من صدرها، بينما كان شعرها مرفوع للأعلى يسدل منها بعض الخصلات على جانبي وجهها…اما وجهها كانت تضع به بعض اللمسات البسيطة من مساحيق التجميل، انتهى من مراقبة ادق التفاصيل الجديدة التي طرأت على ملامحها وثيابها:
-انتي كدا بتغريني يعني ولا ايه!
نعم يعلم انه احمق بكلماته تلك ولكن حقًا ما سبب ذلك التغيير الذي طرأ عليها بغرفة نومه وبالأخص انها تضرب بتعليمات سليم عرض الحائط.
اقتربت بدلال كما اخبرتها شمس، ولكن الخجل بطء من خطواتها قليلاً واسرى بجسدها رجفة وذلك عقب نظراته لها فكاد يلتهما شوقًا وغرامًا بها:
-لسه زعلان مني!
قالتها بهمس ناعم وهي تضع يدها فوق صدرها العاري، فأغمضت عينيها حينما ارتفعت حرارة جسدها فكادت تقسم أنها فاقت الاربعين بمراحل، لم تقدر على مواصلة باقي حديثها لقد ذابت كالبلهاء في حرارته القوية، أما هو فكان كالمضروب فوق رأسه..يجاهد مشاعره المتفجرة بصدره وكأنها قنابل موقوتة، وعقله المتمسك بغضبه منها نجح في اخفاء تأثره بها فقال بمراوغة:
-مين قالك تعملي كدا؟
همست برقة وعينيها تستعطفه كي يعفو عنها ذلك المتلبد ينظر لها بجمود وكأن ما ارتدته وفعلته ذهب في مهب الريح:
-محدش، جالك قلب يا زيدان تبعد عني دا كله.
ثم اقدمت على الخطوة التالية والتي أكدت شمس عليها ورغم رفضها الا انها رضخت لفعلها، فالمتلبد لم يتحرك ساكنًا، رفعت نفسها وقبلت وجنته قبلة صغيرة ونزلت لمستواها مرة أخرى، اغمض عينيه بتأثر رغم براءة افعالها وخجلها المسيطر عليها، الا انه اعجبه طريقتها تلك وللحق هدأت من غضبه كثيرًا وخاصة حينما وضعت رأسها فوق صدره تحتضنه بقوة وكأنه العناق الأخير أو الأول بعد غياب طويل، لقد نجحت بحيلتها الحمقاء في كسب عاطفته لصالحها فهدم قلبه حصون عقله واتفقا معًا على مبادلتها العناق..فمد ذراعيه حولها يجذبها نحوه أكثر يقلص أي مسافة بينهما وسقطت امارات غضبه من على وجهه وبدا كالعاشق الولهان وهو يرفع ذقنها ليرى وجهها بملامحها الجذابة، تشابكت انظارهما في حديث طويل وكانت لغة العيون لها دلالة على هدم أي عواقب بينهما ان كان غضب او عتاب لا زالت اثاره متعلقة بينهما، فهمست هي بصدق نابع منها:
-متزعلش مني، انت طول عمرك اجمل سند اتمنيته، وصدقني لما خبيت كنت خايفة تسيبني، وقتها مكنتش هستحمل.
غلبت العاطفة على صوته وهو يهمس بالقرب منها:
-الحب اللي بيني وبينك اكبر من اشك فيكي للحظة يا مليكة، أنا مفيش واحدة قدرت تخليني احبها في غيابك…فانتي متخيلة ان ممكن اكون بالسذاجة دي.
دفنت وجهها في صدره تواصل حديثها بضعف:
-الخوف صعب اوي يا زيدان، كنت حاسة ان انا لوحدي…خسرت بابا مصطفى بجوازه وكنت خايفة اخسرك انت كمان.
ربت فوق رأسها بحنو وهو ينهى تلك الغمة بقوله:
-خلاص اللي فات منقدرش نرجعه.
عادت نبرته للقسوة:
-ولو اني كان نفسي انتقم منه هو، عشان اتجرأ وعمل فيكي كدا.
همست بارتياح:
-مات خلاص يا زيدان، وهعتبرها كانت عبرة ليا ان اتكلم ومخفش انا ضيعت ايام كتير من عمري عشتها في خوف وقلق، صدقني مش هكررها تاني.
قبل جبينها برضا وهو يقول:
-انا في ضهرك يا حبيبتي، ولو من جه عليكي هقف في وشه، واوعي تفكري ان ممكن اشك فيكي، الحب اللي بيني وبينك اكبر من شوية تفاهات ممكن اخسرك بسببها.
عادت تحتضنه من جديد والأمل يغزو روحها، كانت تجربتها قاسية مليئة بالصدمات الموجعة ورغم سوء تصرفها الا انها لم تأبى الاستسلام ورفضت الخضوع لأمر يخالف دينها وتربيتها، فظلت متماسكة رغم كثرة الضغوط، حتى انتهت تلك الغمة بضلالها للأبد.
****
مرت الأيام وقد تحدد موعد زفاف مليكة وزيدان، وقبل ليلة الزفاف بيوم..وتحديدًا في مرسى مطروح بدأت نهى في تجهيز حقيبة ثيابهما بكل همة ونشاط بعد أن اجرى سليم اتصالاً بهما وأصر على مجيئهما قبل ليلة الزفاف بيوم والاقامة في منزل خالها للحضور الحفلات المقامة قبل ليلة الزفاف “الحناء” ورغم اعتراضات خالد الا انها استطاعت اقناعه ووافق أخيرًا، لن تنسى ابدًا سعادتها حينما لم تشعر منه بقلق حيال اقامتها بمنزل خالها لوجود زيدان، فقد تناسى الأمر أو ربما تأكد من حقيقة مشاعرها نحوه.
اجفلت على دخوله للغرفة، وقبل أن يحدجها بنظراته الساخرة لحماسها الزائد القت نحوه ابتسامات واسعة، فهز رأس بيأس وتمتم بضيق:
-أنا الصراحة لغاية دلوقتي مش قادر افهم سر حماسك، وليه اصلا نروح تبات عندهم لما ممكن نروح على الفرح عادي.
تركت الثياب من يدها واتجهت نحوه تقول بصدق:
-هقولك تاني أنا مبسوطة انهم مهتمين بيا، حاسين ان انا فرد من العيلة ودي حاجة مفرحاني.
رمقها باستخفاف، فجلست بجانبه تردف بنبرة مجروحة:
-خالد أنا مبقاش في حد في حياتي غيرك.
وقبل أن يتحدث ويعلن اعتراضه، اقتربت منه تضع كفيها حول وجهه تضمه برقة وعينيها لا تفارق عينيه:
-وجودك يكفي طبعًا، بس في حاجات كدا الاهل بيعوضها…يعني عيالنا مثلاً يكونوا لوحدهم في الدنيا ولا يكون حواليهم قرايب وعزوة…تجمعات حلوة وذكريات.
تنهدت بثقل ثم قالت بألم:
-ذكريات تفضل معلقة معاهم العمر كله، أنا معنديش ولا ذكرى واحدة تفرحني، عشان خاطري أنا نفسي اللي مقدرتش اعمله ونفسي فيه، عيالي ميترحموش منه.
همست بضراعة:
-عشان خاطري سيبني ارجع الود اللي بينا.
حرك رأسه بموافقته، ثم قبل جبينها بحب وهبط بشفتيه لثغرها الصغير يلتهمه في قبلات صغيرة مفعمة بالعشق والهوى قبل أن يضيف بحرارة:
-مبعرفش اقولك على حاجة لا ولو كان دا في راحتك نعمله، المهم انك تكوني مبسوطة….ميهمنيش في الدنيا قد سعادتك.
لم تقوَ على تحمل نظراته الشغوفة وهمساته المحملة بعاطفة حارة، فاحتضنته بقوة تهمس بحب:
-لو مكنتش في حياتي كنت هعمل ايه.
بادلها العناق وهو يدمدم بسخرية:
-كنتي هتفضلي عبيطة زي ما انتي.
ابتعدت عنه بحنق وهي تقول من بين اسنانها:
-ابعد بقى…خليني اجهز لبسي.
ابتعدت بالفعل وبدأت في وضع الثياب في الحقيبة حتى صاحت بسؤال حائر:
-البس دا ولا دا.
غمغم بلامبالاة:
-معرفش اي حاجة.
رفعت حاجبيها معًا وهي تقول باستنكار:
-المفروض تديني رأيك.
– والله أنا طول عمري محدش بياخد رأي في الحاجات.
ادركت مغزى حديثه فتركت الثياب من يدها وتوجهت نحوه بغل:
-ويا ترى بيتاخد رأيك في ايه يا خالد، ومين بياخد رأيك اصلاً؟
رمقها ببراءة:
-زمان…دا ذكريات يا نهى، بحكيلك على ذكرياتي مع البنات صحابي.
ثم ضغط فوق كلماته بمكر:
-اقصد زمان لما كان ليا اصحاب بنات يعني.
ارتفعت نبرتها بحنق:
-ايوا يعني بياخدوا رأيك في ايه غير اللبس.
-الكراسات والاقلام مثلاً.
قالها ببراءة زائفة…فزفرت بغيظ بينما هو قال بتسلية:
-انت دماغك راحت فين؟ لا دول اصحاب طفولة، لكن لما كبرت وبقيت مراهق اهتمامتي اتغيرت.
أشارت له بتوعد مردفة:
-أنا مش هسألك عن ذكرياتك يا خالد لأنها اكيد مش مشرفة خالص، فمتحاولش تضايقني.
غمز بطرف عينيه يسألها بمشاكسة:
-يعني مش عايزة تعرفي أنا اهتمامتي في المراهقة ايه؟
هزت رأسها برفض والاصرار يلتحم بعينيها، فضحك مليء شدقيه وتابعها بنظرات عابثة تنم عن تسليته، حاولت تغيير مجرى الحديث فقالت وهي تظهر عدم اهتمامها لِمَ يرميه اليها:
-مين كان بيكلمك؟
-واحد صاحبي في قطر، بيسأل عليا.
هزت رأسها بتفهم ثم عادت تهتم بالثياب مرة أخرى، أما خالد فاكتفى بذلك لا يريد اخبارها بحقيقة ما قاله له صديقه حول خسارة جزء كبير من اموال ابراهيم وسمير مع الشيخ قاسم متذكرًا كلماته عنهما.
“قرايبك دول عبط جدًا، فاكرين ممكن يضحكوا عليه، وهو يضحك على بلد، اهو خسروا الفلوس وشكلهم قريب هيترحلوا على مصر”
السجن مصيرهم والهلاك بقطر ينتظرهم.. بالنهاية كان الدمار يحيط بهما من جميع النواحي، لذا اكتفى بالمراقبة فقط دون ان يتدخل والاهم دون ان يخبر نهى بتلك التفاصيل هو يعلم رقة قلبها جيدًا…قظ تحزن، أو تعرض مساعدتهما وهذا الامر لن يتقبله يكفي ميرفت واصرارها في الذهاب اليها مرة كل اسبوعين ويا ليتها توافق على مقابلتها، وهنا تذكر أمر زيارة ميرفت فصاح بسؤاله:
-هنعدي على امك بردو..
هزت رأسها بإيجاب دون أن تتحدث، فقال بعدم فهم:
-بنروح كل مرة ومبترضاش تقابلك.
-مش مشكلة المهم اروح ومحسش ان انا قصرت، هي مهما كانت أمي بردو.
غمغم بحسرة:
-والله انتي جاية العيلة دي غلط برقة قلبك دي.
ضحكت بسخرية اكتسبتها منه:
-ليا عند ربنا.
توسعت عيناه وهو ينهض ليقف بمقابلها:
-لا هنقطع على بعض…هنزعل.
ثم وبحركة خاطفة بدأ في مداعبة خصرها، فصرخت ضاحكة وهي تقفز كالأطفال هنا وهناك وهو يتبعها بتسلية، قاصدّا الهائها في أمور قد تكون تافهة ولكن لها اثر جميل في اخراجها من حالة التيه والحزن التي تتلبسها ان ذكر اسم والدتها.
***
اقيمت ليلة الزفاف في احدى القاعات الكبرى، وقد تألق زيدان ببذلة سوداء انيقة اما مليكة فكان فستانها ضخم من منطقة الخصر حتى كاحلها أما عند منطقة الصدر كانت تفاصيليها رقيقة للغاية، قضت اغلب الوقت جالسة بخجل تراقب اجواء الفرح بسعادة والوقت الأخر كانت تتفاعل مع الاغاني بحركات هادئة بسيطة وقد شاركها ايضًا زوج والدتها الرقص بسعادة وقد تحققت امنيته لن تنسى تعجبه حول اقامة هذا الحفل واختلقت هي حينها فكرة تجيب على تساؤلاته كان بطلها سليم بالطبع.
مر الوقت في الحفل بسرعة كبيرة في ظل الفقرات المتنوعة وتفاعل زيدان مع اصدقائه ويزن الذي لم يجلس قط طيلة الحفل، فكانت اغلب تحركاته مع زيدان او مع الفتيات اصدقائه او معجبات جدد تعرف عليهم في الحفل، حتى لمح بعينيه حورية تتهادى بفستان بسيط من اللون الاصفر تخرج من القاعة وهي تضع الهاتف على اذنها، انتظر انتهائها من الاتصال حتى هتف من خلقها بعبث:
-الطول دا أنا عارفه، اتعاملت معاه قبل كدا.
التفت سريعًا حينما اخترق صوته مسامعها وقد دفعها عقلها لذلك المتطفل الذي قابلته من قبل في منزل شهيرة…ذو العضلات القوية وجسد رياضي اما هو يهتم بالطعام بطريقة لم تعهدها من قبل، تذكرت تلذذه بالبامية وعند هذا الحد اجفلت على صوته الممازح بوسامته القاتلة:
-ايوا انا اللي اكلت البامية، افتكرتيني اصل أنا متنسيش.
تظاهرت بعدم تذكرها وقالت بكبرياء:
-نعم! لا مش فاكرك.
-الله، أنا يزن اللي اكلت في الطبق الصيني الفرنساوي.
هزت كتفيها بلامبالاة:
-مش فاكرة.
مال برأسه وهو يغمز بطرف عينيه بشقاوة:
-طيب ورز باللبن.
مطت شفتيها بعدم اهتمام:
-بردو مش فاكرة.
هبط ببصره ليدها بخبث وضحك باستهجان:
-ايه دا فركشتي خطوبتك.
اخفت يدها وقامت بتحريك الخاتم ثم رفعته في وجهه بحماقة:
-لا.
غمز لها بوقاحة وهو يتخطاها:
-كدا يبقى افتكرتي يا حور.
قالت بحنق:
-حووورية.
عض فوق شفتيه السفلية وهو يمازحها قبل أن يدخل للقاعة ويتركها تغلي من وقاحته:
-حورية بس شرسة.
***
انتهت ليلة الزفاف وعاد زيدان ومليكة لشقتهما، فقام بخلع ثيابه في منتصف الصالة قطعة تلو الأخرى والتعب يزحف لجسده، فصاحت من خلفه بحرج:
-في ايه…استنى شوية.
-حران يا مليكة والصراحة تعبت، يزن فرهدني.
-فرهدنا كلنا.
قالتها وهي تتجه صوب غرفتهما وقبل ان تغلق الباب في وجهه صاح بحنق:
-طب هاتي لبسي طيب.
القته نحوه ثم اغلقت الباب وهي تستمع لتمتمة غاضبة منها:
-المفروض متتكسفيش امال المدة اللي قعدنها في الاقصر دي ايه.
تجاهل ضحكاتها وقام بتبديل ثيابه شاعرًا براحة كبيرة بعد أن تقيد فترة ببذلة سوداء من اختيار يزن فقد فرض رأيه في كل شيء حتى على سليم الذي أصر على ارتدائه بذلة ووافق بعد اصرار شمس هي الأخرى، كانت الليلة جميلة حقًا بمواقفها السعيدة والضاحكة حيث تذكر كيف نظر سليم ليزن بغضب حينما اقدم المتهور اخيه على جلبه لساحة الرقص! اما عن شمس فكانت مقيدة بالمقعد بجانبه لا تقوَ على رفع يدها والزمها الجلوس بقمر متحججًا بخوفه على الصغيرة..توجه للأريكة بجلس فوقها بإنهاك يغوص في تفاصيل ليلة الزفاف اكثر وخاصةً نهى لقد تبدلت كليًا واصبحت انثى مفعمة بالحياة والاشراق وخاصةً بجانب خالد…كان لذلك الرجل اثر كبير في تغييرها للأفضل فقد اهتدت اخيرًا بقربها منه.
انقطع التيار الكهربائي فسمع اندفاع مليكة من الغرفة نحوه ترتجف كالفرخ وهي تبحث عنه، اشعل اضاءه هاتفه لتراه وما ان رأته حتى التصقت به تسأله بذعر:
-النور قطع ليه؟
-عشان نحس.
اجابها بضيق، فقالت من بعدها:
-طب اتصل اسال سليم ولا يزن.
رفع هاتفه لينفذ طلبها ولكن هاتفه ايضًا فصل، ابتلاعهما الظلام فاقتربت منه أكثر وقد اعجب زيدان قربها الشديد منه وخاصةً حينما همست:
-بخاف لما النور يقطع، الحمد لله انك موجود.
لم يجيب بل ظل ساكنًا، حتى سألته مليكة بقلق:
-زيدان انت سامعني.
-ايوا بس حاسي في حاجة وراكي.
صرخت برعب وهي تدفن رأسها بصدره أكثر:
-لا متهزرش…قولي انك بتضحك عليا.
-هو انا هضحك عليكي في الحاجات دي بردو.
قالها بعتاب زائف، ثم عاد وأردف بذعر:
-لا انتوا جايين ورانا من الاقصر لغاية هنا.
هتفت بتلعثم والخوف يأكلها أكلاً:
-هما مين دول؟
-العفاريت.
عاد التيار الكهربائي من جديد، فابتعدت عن صدر زيدان تنظر خلفها:
-مشيوا خلاص.
رأت نظرة التسلية بعينيه، فدفعته بغيظ وتوجهت نحو غرفتهما تغلقها خلفها وهي تقول من خلف الباب:
-نام انت برا النهاردة.
طرق الباب بغيظ:
-طب والعفاريت.
قالت بشقاوة:
-خليها تونسك برة.
زفر بحنق وهتف من بين اسنانه:
-هي ليلة سودا ويزن باصص فيها اقسم بالله.
التفت حوله يبحث عن أي اداة لتساعده في فتح الباب، مقررًا تأديب صغيرته الحمقاء بحصار لا هروب منه ابدًا وخاصةً بعد رحلة عذاب قضاها كي يصل اليها، تلوى فيها بنيران الشوق والهوى.
فتحت له الباب بعد محاولات باءت بالفشل ورفعت راية نظراتها الهائمة تسمح لمشاعرها بأن تطفو فوق سطح وجهها، فبدأت لغة العيون تخبره كم تحوي من العاطفة اتجاهه حتى وإن لم تظهرها من قبل، ستعترف وتعلنها صراحةً أنه “مِنكَ وإليكَ اهتديتُ”.
***
بعد مرور عدة أشهر..
وقف سليم أمام لافتة مضيئة موضوعة بجانب باب شقة في احدى الابراج السكانية العملاقة، قبض يداه بتوتر ولأول مرة فقد القدرة على التفكير، كيف سيجري لقائه مع الطبيب النفسي الذي أخيرًا قد اهتدى للمجيء اليه، بعد تفكير طويل وعميق مع نفسه، بعد حسم الكثير من القرارات…بعد صراع طويل مع ذاته التي أصرت على نكران تلك النقطة، حتى انه تساءل باستنكار، ماذا يوجد به؟ شخص سوي مثل باقي الاشخاص! لِمَ لا تفهم شمس ذلك؟ لِمَ تصر على فتح جروحه التي جاهد كثيرًا اغلاقها؟ حقًا سيفقد اعصابه ان ضغط ذلك الطبيب عليه! وحينها سيلقبه الجميع بالمجنون! زفر بحنق على اتخاذ مثل هذه الخطوة من الأساس، فمن اجبره هي تلك المحتالة حينما تسللت لفكره وقلبه المتعلق بصغيرته واقنعته بضرورة تنفيذها لمصلحة الصغيرة فلن يتحمل قلبها الغض رؤية ابيها بتقلباته المزاجية!
انتبه لرنين هاتفه فأجاب على الفور:
-ايوا يا شمس.
قالت برقتها المعهودة:
-انت فين يا سولي، الكل اتجمع ومستنينك على العشا.
اغمض عينيه ولأول مرة يفقد صارحته وهتف بمراوغة:
-في مشوار هخلص كمان ساعة وجاي، ولسه بدري على العشا…عايزة ايه بقى؟
-انت فين؟
هتفت بفضول ثم تابعت حديثها:
-يزن قال انك مشيت من المحل!
-هو مفيش غير دا اللي بروحه، وبعدين هو انتي شغلتي يزن مخبر عليا.
استمع لضحكاتها الشقية وهي تقول:
-وماله….اخاف تتعاكس كدا ولا كدا، يمكن في واحدة تقدر تسرق تفكيرك.
لمح بطرف عينيه خلو العيادة من الزائرين علم حينها أنه حان موعده فسارع بإنهاء الاتصال بقوله:
-مفيش واحدة تقدر تسرق كياني غيرك..سلام.
اغلق الهاتف ثم استعد لحرب نفسية أخرى يخوضها في الخفاء وحده بكل تقلباتها المزاجية الصعبة، متحملاً الضغط على جراحه وفتح صندوق ماضيه فقط من أجل صغيرته وعائلته وذلك بعد أن كثرت المسئولية عليه وأصبحت أشد ثقلاً مما قبل.
“قد يتلاعب بنا الخوف ويدفعنا نحو جحيم مستعر، ننكر فيه اوجاعنا، نتجاهل به خيباتنا، فنمضي في طريقنا دون روح حتى وان غمرنا الضلال، ولكننا نبقى على شفا أمل ننتظر حتى تضيء تلك العتمة بنور يكمن في هداية لأرواحنا الشاردة”
_________________
تمت
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)