رواية منك وإليك اهتديت الفصل الثاني 2 بقلم زيزي محمد
رواية منك وإليك اهتديت الجزء الثاني
رواية منك وإليك اهتديت البارت الثاني
رواية منك وإليك اهتديت الحلقة الثانية
مساءًا…
دلفت إحدى الممرضات لغرفة الاستراحة وبدأت في إيقاظ “مليكة” التي غرقت في السبات لدقائق بسيطة، هتفت بصوت حاني لطيف بينما حركت أصابعها بلطف فوق ذراع مليكة:
-دكتورة اصحي.
فتحت “مليكة” جفنيها بصعوبة وقد أصابها الإرهاق من ضغط المرضى اليوم، فخرجت حروفها خافتة:
-أيوة يا كوثر.
-دكتور ماجد طلبك في مكتبه.
انتفضت “مليكة” من مكانها وكأنها لُدغت من ثعبان، وبهت وجهها وهي تردد خلفها بتساؤل يشوبه القلق:
-عايزني ليه؟
-والله ما عارفة يا دكتورة.
أشفقت “كوثر” على حالتها المذعورة، وتلبسها ثوب الشجاعة وهي تردد عليها خطة بسيطة في محاولة منها لإنقاذها من ذلك الذئب:
-بصي إيه رأيك، أقف برة لو حسيت انك طولتي اخبط واقول إن في أي حالة تعبانة.
أغمضت “مليكة” جفنيها بصعوبة، وبدأت بالتفكير في عرضها البسيط، فردت بحزم:
-ماشي يا كوثر، يلا.
تحركت مع كوثر نحو الطابق المنشود، جرت ساقيها جرًا وكأن عقلها يأبى دخولها إليه، خاشية من نظراته جريئة، والمسافات التي يأكلها بينهما أحيانًا، حتى يلعب القدر دورًا هامًا في فرارها فتنسل من أمامه في لمح البصر.
وقفت أمام الغرفة وتيبست قدمها فجأة متسائلة في توتر هل ستنجح في الفرار من براثنه؟، فحثتها الممرضة على الدخول وهمست لها:
-ربنا معاكي يا دكتورة، متخفيش أنا هقف هنا.
دخلت بعد أن طرقت الباب، ووقفت بجانب الباب مباشرة، لم تستطع التقدم خطوة، ولا النظر لعينيه الفاسقة، ارتبكت من بسمته الخبيثة التي اعتلت شفتيه فور رؤيتها، وكأنه يتلذذ بقلقها، بينما هي كانت تسعى أن تقف ثابتة، شامخة، كي لا تعطي له مجالاً في استغلال ضعفها.
-مختفية فين يا مليكة طول اليوم؟
سألها ببرود وكأنه لا يعلم حقيقة الإجابة، حيث تجسد الكره في عينيها كوضوح الشمس، ومن فرط خصاله الماجنة أصابه العمى ولم يرى مدى كرهها له، وعكس ما هو متوقع نظرات الكره المنبثقة من عدستيها تزيده إصرارًا عليها، بعدما تشجعت وعارضت كلماته البذيئة وحذرته دومًا من التمادي معها، وأعلنت صراحة أنها لن تسمح أبدًا بلمساته القذرة مثل بعض الطبيبات، ولن تسعد بنظرة وقحة منه، بل صرحت له ذات مرة بأنه يصيبها الاشمئزاز منه وأحيانًا أخرى كانت حالتها تسوء لدرجة الغثيان.
فكرت مرارًا باللجوء لزوج والدتها، ولكنه رجل بسيط لن يقوَ على مواجهة هذا البغيض، ربما يصيبه مكروه بسببها، وتندب هي حظها فيما بعد، لن تكون خطوة في إيذائه من رجل مستبد ذو نفوذ يتباهى بها دومًا، وأكثر ما يخيفاها هو الأقاويل المتناثرة هنا وهناك على لسان الأطباء والممرضات، عن مدى وقاحته وجبروته، وأن من يتجرأ بالوقوف ضده ستكون نهايته مأسوية.
أخفت مضايقاته لها، وكان ذلك السر الوحيد الذي استطاعت إخفاءه عن زوج والدتها بعدما كانت تشاركه كل شيء بحياتها البسيطة، لن تنكر أن محاولاتها العديدة في انتقالها للمشفى آخر باءت بالفشل بسبب ذلك الوقح وقد صرح ذلك لها علنًا، تذوقت الإرغام على يده وكان مذاقه مُر كالعلقم، فحتى وجودها معه الآن يدفعها لقتله والتخلص منه.
أخرجتها طرقاته المتتالية فوق مكتبه من عمق تفكيرها العدواني، وتجمدت ملامحها تخفي خلفها ذعرًا يصيب قلبها، فواجهت كلماته المستنكرة لشرودها أمامه:
-ما شاء الله سرحانة في إيه، اوعي يكون فيا؟
-خير يا دكتور طلبتني ليه؟ في حاجة مهمة!
غيرت مجرى الحديث بعملية وصرامة، فتجاهلها ونهض من مقعده متقدمًا نحوها في خطوات واثقة، تراجعت خطوة واحدة ومن بعدها وقفت بثبات، وبجرأة غير متوقعة منها ثبتت بصرها عليه، تحذره من التقدم أكثر، وقد أعجبه أسلوبها هذه المرة ووقف على بُعد خطوة منها يسألها بصوت ماكر:
-ليه بتصري تبعديني عنك؟
استغفرت ربها بصوت عالي، وخالط الهجوم الشرس كلماتها التي حاولت بقدر الامكان تقليل حدتها:
-لو سمحت يا دكتور ماجد، أنا حذرتك كتير من طريقتك دي، يا ريت نتكلم في إطار شغلنا، وتبطل طريقتك دي.
ضحك ضحكات مستنكرة، وهتف بعدها بتساؤل امتزج به التهكم والتهديد معًا:
-ولو مبطلتش طريقتي هتعملي إيه؟
كورت قبضتيها بغيظ بجانبها، وهتفت بتحدٍ:
-هطلع على الإدارة واشتكي.
-لو جدعة أعملي كده ووريني شطارتك.
اختصر المسافة بينهما فورًا بتبجح حين نطق بكلامه المستفز، وتجرأ في لمس ذراعيها معًا، فنفضت يده بعيدًا عنها وهددته بصرامة وقد على صوتها:
-قولتلك حافظ على حدودك معايا.
وقبل أن يرد، طرقت “كوثر” الباب ودخلت فورًا دون أن يأذن لها، فكان صوت “مليكة” الغاضب إشارة كي تنقذها من تعدٍ واضح من قبل “ماجد”.
-أنا أسفة يا دكتور، بس دكتورة فايزة طالبة الدكتورة مليكة تحت ضروري.
استغلت “مليكة” صمته وجذبت كوثر خلفها دون أن تعطيه اهتمام، فأغلق الباب بقوة افزعتهما.
انهمرت الدموع فوق وجه “مليكة” الغاضب في ظل ثوران مشاعرها كلما نخر الضعف لقواها أمامه.
اتجهت سريعًا صوب المرحاض واندفعت بقوة لداخل نحو الحوض تسمح للغثيان المتأجج بالانفجار بعد أن منعت نفسها من شدة اشمئزازها منه.
ضربت “كوثر” كف فوق الأخر تعاطفًا مع “مليكة” وودت لو تمتلك جرأة في اقتلاع أعين “ماجد” للتخلص من نزواته التي بدأت تشمل كل من هب ودب في المشفى ولا يفرق بين ممرضة أو طبيبة، ولوهلة حمدت الله أنها لا تمتلك قدر كافي من الجمال كي لا تتلألأ بعينيه، إلا وكانت الآن تتذوق من نفس الكأس الذي تجرع منه البقية، منهن من سكت وارتضى بالوضع وأحيانًا تمادت اللمسات لعلاقات فجة ومنهن من اعترض و ُأرغم فيما بعد، ومنهن من أعترض بقوة كـ “مليكة”.
تبدلت ملامحها فور رؤيتها لـ ” فرح” التي كانت تراقب حالة مليكة من بعيد منذ دخولها لغرفة “ماجد” حتى اندفاعها باكية نحو المرحاض، تضع يدها فوق فمها.
-مالها دكتورة مليكة يا كوثر، كانت بترجع ليه؟
رفعت “كوثر” حاجبها الأيسر وردت بسخرية:
-من القرف اللي موجود حوالينا يا دكتورة، ربنا يحميها أصلها نضيفة، فأكيد مش هتستحمل.
كان حديثها غامض لدرجة أقلقتها، ولكن خروج “مليكة” قطع تساؤلاها، اهتمت “كوثر” بخروجها ومدت يدها تحيط ذراعي “مليكة” وهي تلقى ببعض الكلمات قاصدة بها إغاظة الأخرى:
-تعالي يا ست البنات يا محترمة، تعالي ربنا يحفظك ويصونك.
استندت “مليكة” على يدها وتحركت معها دون أن تعير الانتباه للواقفة بجانبها تغلي كالماء الساخن فوق سطح الجليد، بينما احتدت نظراتها وفتحت للشيطان مجالاً لدخول لها.
***
في إحدى دول الخليج وتحديدًا في قطر، صعد “خالد” درجات السلم في إنهاك واضح وقد طغى الاجهاد على ملامحه المُرهقة اثر عمله المتواصل دون أن يأخذ قسط من الراحة رافضًا العودة لبيته الذي أصبح يعج بـ خاله وابنه اللذين قررا المكوث معه بعد أن خسرا أموالهما في عدة مشاريع خائبة من تفكير ابن خاله ” سمير” الساذج البارد ولو ترك نفسه لنعته أكثر من ذلك سينعته بألفاظ لن تليق أبدًا برجولته.
زفر بحنق شديد وهو يخرج مفاتيح شقته من جيب سرواله، مستعدًا لمقابلة العديد من الطلبات المستفزة الخارجة من فاههما دون أن يعلما أنهما يفوقان طاقته وقدرته في تحملهما.
وقبل أن يفتح الباب ظهر صوت صديقه وجاره بالبناية من خلفه يطلب منه الوقوف قليلاً قبل أن يدخل، وبالفعل التفت “خالد” بابتسامة هادئة يستجمع تركيزه مع صديقه الذي بدأ في التحدث بحرج:
-معلش يا خالد، هعطلك شوية بس أنا يعني بطلب منك..
توقف صديقه قليلاً قبل أن يعود وينطلق يخرج طلبه مرة واحدة:
-ياريت توطي صوت الأغاني بليل، أنا ببقى راجع تعبان من الشغل…
قاطعه خالد مستفسرًا في تعجب:
-أغاني إيه، أنا بشتغل بليل..
كانت المقاطعة من نصيب صديقه الذي أكد بإصرار:
-لا الأغاني صوتها جاي من شقتك.
حينها أدرك خالد أن ذلك التصرف السيء خرج من أقاربه، فرد والحرج يرسم خطوطه فوق ملامحه:
-أنا بعتذرلك بس أكيد ابن خالي اللي بيشغلها.
-مفيش أي مشكلة بس ياريت تقوله وتفهمه الوضع.
هز خالد رأسه متفهمًا دون أن ينطق وانطلق صديقه من حيث أتى، فدخل خالد وعلى وجهه علامات الازعاج بينما تتشاحن ذرات الغضب لديه مقررًا توبيخ سمير، كي لا يقف يتلقى الشكاوي هكذا كالأبله.
قابله الهدوء التام وهذه عادة بحث عنها مؤخرًا في شقته التي أصبح يشتاق إليها بسبب غيابه المستمر في عمله هربًا من ذلك الوضع المذري الذي يسير فيه حاليًا بشقته، أوراق ملقاه في الأرض والوسادات في كل مكان، حتى الثياب مبعثرة في أرضية المطبخ، والحوض يمتلئ عن أخره بالأطباق والملاعق.
زفر بقوة وقرر امتثال الهدوء قليلاً ويردد تعليمات استضافة الضيف بداخله كالطفل الصغير حتى لا ينطلق كالثور يوبخهما ويقوم بطردهما أشر طرده.
جلس فوق الأريكة وأغمض جفونه المتعبة والطالبة بغفوة يرتاح بها جسده، ولكن أين وخاله يرقد غافيًا في غرفته وابنه يغفو في الغرفة الأخرى.
قطع تفكيره اللحظي رنين متواصل منبعث من جانبه، فحول بصره جانبًا ببطء ووجد هاتف خاله يضيء باسم “نهى” ابنة خاله الغائبة عن عينيه لمدة ثماني سنوات منذ أن قرر ترك مصر والسفر لقطر للعمل بها، كانت هي حينها في السابعة عشرة من عمرها، حقًا لم يتذكر ملامحها جيدًا حيث كانت مختفية دائمًا تفضل الانضمام لعائلة والدتها دومًا، لم يرها سوى في المناسبات وإن رآها واستطاع التحدث معها كانت تقابله بالتجاهل، حتى في وفاة والده لم تأتي لتقدم التعازي له هي ووالدتها.
عاد وأغلق عينيه بعدما هاجمته ذكريات مريرة مر بها بعد موت والده ومروره بضائقة مالية خسر فيها تجارة والده، انتظر وقوف خاله” سمير” بجانبه ولكنه لم يقدم أي عرض حتى لو كان بسيطًا خوفًا من زوجته.
حتى عندما قرر السفر للعمل بالخارج احتاج المال فاضطر لعرض منزله للبيع وتجميع الأموال للسفر ومنذ تلك اللحظة اقسم على نفسه ألا يعود لمصر فلا توجد عائلة حقيقية بعد موت والديه.
أخرجه رنين الهاتف من ذكرياته المتدفقة بغزارة وقرر الرد لإنهاء إزعاجه، فرد بصوت خامل:
-الو.
جاءه صوتها الرقيق وهي تجيب بتعجب:
-مين معايا؟
التوى فمه ساخرًا متوقعًا منها أي شيء، لقد نست صوته بالتأكيد لعدم التواصل بينهما، بل أنها محته من ذاكرتها، حتى أنه ذات مرة تصرف بغباء وأرسل لها طلب صداقة على “الفيس بوك” وردت عليه بحذف الطلب، تحامل على نفسه وعرف بشخصه:
-أنا خالد.
ردت بعدم فهم وسألته:
-خالد مين؟
اغتاظ منها ومن طريقتها المتعجرفة، ولكنه تحامل أكثر على نفسه والقى بكلماته المستنكرة:
-خالد ابن عمتك يا نهى.
انتظرت ثوان تدرك الوضع ومن بعدما انطلقت ترحب به بحفاوة:
-خالد ازيك، اخبارك إيه؟
ببرود تام أجاب:
-الحمد لله.
-هو أنت عند بابا؟
وقبل أن يجيب التقط “إبراهيم” الهاتف منه وأجاب في ثبات تعجب له “خالد” :
-أيوا يا نهى خالد جاي يزورني فيه الخير والله.
ابتعد “خالد” عنه بضيق وهز رأسه متبرمًا منه تصرفات خاله المستفزة واختلاقه للكذب على أملٍ ألا تعلم زوجته بحقيقة خسارته لأمواله، لذا طلب من خالد من إبقاء السر بينهما حتى يجد هو وابنه عمل وشقة مناسبة لهما، وحتى هذا الوقت لم يتحرك ساكنًا هو وابنه الفظ.
***
أنهت “نهى” اتصالها مع والدها، حيث شعرت بحاجتها في سماع صوته، بعدما زحفت الوحدة لقلبها مجددًا وطغت على مشاعرها رغم وجود والدتها، ولكنه كان وجود سلبي لا تجد به نفع لنفسها الضائعة في أمورٍ قاسية شعرت بإهدار لكرامتها بها.
ماذا لو تركت نفسها لأفكارها السلبية من جديد؟
ماذا لو مرت بنفس تلك المحنة والتي انتهت بأمر بشع، تلقت فيه اللوم من الجميع؟
لِمَ تفشل في لم شتات نفسها؟ لِمَ يبقى الفشل هو سيد موقفها؟
هل الحب ضعف أم أنه اختيار سيء لها قررت اللجوء له بعد إهمال عائلتها لها؟
أسئلة كانت تغزو عقلها كعدو خفي يقتنص منها سكينتها، راحتها، سعادتها، حتى مشاعر الحب أصبحت خائنة لا تحدد ماهيتها هل كانت مجرد أداة في هزيمتها، أم هي العصا السحرية التي ستنجو من خلالها من وحدة بشعة وإهمال قاسي تعانيه دومًا.
نهضت عن فراشها بعصبية تملكت منها، واتجهت صوب الشرفة، حيث شعرت بحاجتها لاستنشاق الهواء العليل تنظف من خلاله صدرها المشحون بمشاعر جمة تدفعها لنفس النقطة التي تلوح لها بين حين وآخر، تناديها وكأنها النجاة من آلامها النفسية، ترسم لها نهاية الخلاص من اضطراب نفسي تعاني منه حتى بعد خطبتها من زيدان.
حيث كان هو الأمل الأوحد لها، السلام النفسي الذي تبحث عنه في ظل العناء المحيط بها، لم تكذب بقولها أنها كانت تعيش لأجل دقات قلبها له، ولأجل العش الذي رسمته بخيالها ولحياة وردية سعت لأجلها.
غزا الضعف أوصالها، وكلما حاولت الهرب من نفس النهاية تعود لها محبطة، وذلك بسبب جمل قاسية من زيدان تراشقت بعقلها الساذج تصفعه كي يستفيق من غفوة كانت تنعم بها كالأميرة النائمة تنتظر قُبلة من أميرها حتى يحيي بها الأمل والحياة من جديد، ولكنها وجدت السم يغزو عروقها، يدمر شغفها، وقلبها الغض الغارق في حبه ينتفض ثائرًا بعد أن تلقى هجوم بشع لم تتوقعه منه هو تحديدًا بعد أن قررت الاعتراف بحبها له في لحظة ضعف على أملٍ إنقاذ فؤادها من ضياع أصبح يخنقها.
استسلمت لذكرى بشعة تحمل كل اللحظات المُحبطة التي مهما حاولت الفرار منها تفشل كعادتها…
**
تألقت “نهى” في اختيار ثيابها واهتمت كثيرًا بمظهرها وخاصة ملامحها التي قضت الليل بأكمله في العناية ببشرتها كي تبدو صافية بقدر ما تشعر به الآن من سعادة مميزة بعد أن طلب منها زيدان لقائها وهذا كان أمرًا غير عادي بالنسبة له.
شعرت بتغيير طفيف طغى عليه بعد وفاة والده، وأصبحت حاجته لها تزداد أكثر من خلال محادثتهما ولقائتهما، لمست انهيار جزء منه بعد فقدانه لوالده، وقد أقسمت على مساعدته كي يتخطى تلك المرحلة، فأصبحت تهتم به كثيرًا، مُلمة بجميع احتياجاته، وفي لحظة فارقة تقرب منها بود وتغيرت فظاظته بل تبددت وبات أكثر لطفًا ورقة.
تحركت كالفراشة بفستان نبيذي اللون لداخل الكافية تبحث عنه بلهفة لمعت بعينيها وأفضت على ملامحها الجميلة وهي تقابل عينيه الشاردة كعادته.
اقتربت منه في بطء حتى توقفت أمامه وبدأت في إخراج كلماتها العذبة ترحب به رغم أن واجب الترحيب يقع عليه أولاً:
-أخبارك إيه؟
أشار إليها بالجلوس ورد عقب جلوسها بنبرة فاترة:
-تمام، أنتي عاملة إيه؟
ابتسمت ابتسامة واسعة تنافي ذلك الفتور البادي على وجهه وقالت:
-لو أنت كويس فأنا أكيد كويسة، أما أنت لو زعلان…
قاطعها ساخرًا:
-إيه هتكوني زعلانة بردو؟
ردت بتأكيد أصابه بالتعجب منها:
-أكيد، أنا وأنت واحد.
رمقها بنظرة مطولة شعرت حينها بالخجل، وأدركت مدى تماديها في الحديث، ربما عليها إمساك رابطة لسانها وتحجيم مشاعرها التي تتكدس بطريقة أصبحت من خلالها خرقاء تفيض بما تشعر به علنًا.
ومع استمرار صمته لعب التوتر دورًا قويًا في إرباكها وذلك حين قال بصوت غليظ:
-بس أنا وأنتي مش واحد يا نهى.
كانت كلماته صريحة تتسم بالقسوة، حيث بددت من سعادتها وأصابها تشوش من حدة كلماته فاهتزت ملامحها بحيرة وبدت في لحظة كفتاة خرقاء قررت الاستمتاع فوق أرجوحة مهترئة غير مثبتة كافية أعلى حافة مدببة.
-أنا أكيد مكنتش اقصد المعنى ده، يعني أنا بتكلم بحكم أننا قرايب.
كانت تندفع بكلمات متلعثمة لحفظ ماء وجهها من إحراج قوي.
راقبت أنفاسه التي خرجت براحة وكأنه أزاح ثقلاً عنه:
-صح يا نهى احنا قرايب…قرايب وبس.
ردد الكلمة بنبرة قوية، مؤكدًا على كلامها بطريقة ألمتها وشعرت بفقدان الأمل في أمنيتها الوحيدة بعد تأكيده على طبيعة علاقتهما، ابتلعت لعابها بصعوبة وحاولت التمسك بقناع الهدوء عدة مرات أثناء محاولاتها لكسر حاجز الصمت بينهما ولكن توقفت الكلمات على طرف لسانها وتعرقلت أمام حاجتها في التعبير عن حبها الذي أصبح كالقنبلة الموقوتة تنتظر انفجارها في أي وقت.
شعرت برهبة تجتاح صدرها وهي تنظر لشروده الدائم معها ربما أخطأت منذ البداية معه ولم تستطع التعبير عنها بالقدر الذي تستطيع من خلاله جذبه لها، ربما اهتمامها واحتوائها أعطى له صورة خاطئة عما تريد إيصاله، لِمَ لا تختار طريق أسهل وأسرع في الوصول لقلبه، لِمَ لا تضع حدًا لطبيعة علاقتهما.
بحثت عن قدرتها في سؤاله بطريقة صريحة ولكنها وجدت نفسها تنحرف عن مسارها وتسأله بطريقة غير مباشرة:
-هو أنا بنسبالك قريبتك بس يا زيدان؟
-لا.
تنهد قبل أن يجيب بإجابة بسيطة غير كافية لمشاعرها المضطربة في تلك اللحظة الحاسمة لها، فعادت وسألته بصوت مهتز مختنق:
-بنسبالك إيه؟
صمت طويل لعب فوق أوتار تماسكها، حيث شعرت بانهيار جبل الصمت لديها، وفي لحظة كانت ستعبر عما تشعر به، ولكنه قطع عليها محاولاتها في التحدث وهتف ببرود:
-صاحبتي.
عقدت ما بين حاجبيها وأحست أن تلك الكلمة معضلة يصعب عليها فك شفراتها، فقالت بعدم فهم تحاول استخراج الكلمات من بئر جوفه:
-يعني إيه صاحبتك؟
-صاحبتي يا نهى..صديقتي، يعني صحاب.
بترت حديثه الذي خالط السخرية بعدما فشلت فهم كلماته، وقالت بشيء من العصبية:
-فهمت يا زيدان، بس أحنا مش كده، ولا عمرنا هنكون كده.
رفع حاجبيه معًا من عصبيتها، وقال بوضوح غير عابئ بتاتًا لمشاعرها:
-لا احنا أصدقاء وقرايب.
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تردد بصوت ضعيف خافت:
-أنا بحبك.
ورغم خفوته وضعفه إلا أنه أصابه بهزة قوية جعلت من قوته تتصدع أمام بكائها وانهيارها الذي حاول امتصاصه ولكنه فشل:
-اهدي يا نهى…اهدي عشان نتكلم.
رفعت عينيها تسأله في صمت “ماذا ستقول؟ هل يوجد بيننا كلمات بعد أن قضيت على مشاعري المتهالكة في حبٍ كنت أظنه الخلاص؟ ”
حرك جفنيه بتوتر حينما لمس واقع صدمتها القوية، ولكنه منذ البداية كان واضحًا معها، حريصًا في التعامل معها.
-زيدان بصلي، زيدان.
كررت اسمه كي ينظر في عمق عينيها الشغوفة بحبه منذ أن كانت فتاة مراهقة وقعت في حبه كالمجنونة فأصبح حبيبها وصديقها في مخيلاتها وسعت لتحقيق ذلك بكل طاقتها التي أحيانًا كانت تُهدم بسبب معاملته الجافة.
-زيدان بصلي، لازم تفهم إن أنا بحبك…بحبك جدًا.
-وأنتي لازم تفهمي انك نهى قريبتي، قريبتي وبس.
رد عليها في جمود لعلها تستفيق، فتراجعت بصدمة وسألته بصوت مهزوز وخافت:
-يعني إيه قريبتك، أنت أكيد بتحبني بس مش عايز تقول.
-مش عايز اقول ليه؟ مفيش حد مانعني أنتي اللي مُصرة تحطيني في خانة مش لايقه عليا.
تساقطت دموعها أكثر وشعرت بغليان في مشاعرها:
-وأنا عمري ما شوفتك غير حبيبي، صدقني أنا عمري ما هشوفك غير كده.
تمسك بأخر حبال الجمود والقسوة وخرجت حروفه غليظة:
-ومن بعد ما عرفتي إن أنا مش بحبك هتشوفيني كده بردو.
-هشوفك كده، عشان أكيد أنت هتجرب وتحبني صح؟
ردد باستهجان خلفها:
-أجرب؟! نهى احنا مش بنلعب الحب مبيتجربش.
لم يعطيها فرصة للتحدث وألقى بما جال في خاطره ولم يراعي حالتها النفسية المحطمة:
-أنتي كأنك بتعرضي نفسك عليا، نهى أنتى أغلى من كده.
أردفت عكس توقعه وتمسكت بحبها أكثر:
-حبك اغلى حاجة عندي وهفضل متمسكة بيه.
طرق بيده فوق الطاولة في غيظ:
-مفيش حد أغلى من نفسك فوقي، وبعدين كرامتك…
بتر حديثه حين شعر بقسوة كلماته التي كاد يخرجها في لحظة غاضبة، ولكنها فاجأته بردها الباهت:
-مفيش كرامة في الحب.
رمقها بنظرة نارية غاضبة:
-ده لو كان متبادل، بس ده من طرف واحد.
-ومفيش أمل يكون من طرفين؟
سألته وهي تتمسك بأخر طرف أمل لديها في كسب عاطفته وذلك عن طريق إظهار مدى إصرارها عليه، فبالتأكيد سيرق قلبه لها، وقد أرجعت سبب جفائه معها لطبيعة عمله القاسية.
-لا مفيش، لإن استحالة احبك زي ما أنتي عايزة، أنتي أختي وقريبتي وبس.
رغم أن جزء منه استنكر كلماته القاسية معها، إلا أنه يخشى أن يُظهر لها بعضًا من اللين فترسم به خيالات توحله معها في علاقة هو ليس بقادر أن يكن طرف فيها، لذا قرر المغادرة دون أن يفتح مجالاً أخر للحديث معها فتركها تنهار وحدها بعد أن طعنها في كرامتها وتجرعت منه الإهانة بكأس القهر عندما لمحت نظرة اشمئزاز انبثقت منه حين أصرت على حبها ورأى ذلك هو إهدار لكبريائها.
**
مسحت عبراتها المتساقطة فوق صفحات وجهها وجذبت أنفاس متتالية بعدما شعرت باختناق حاد بصدرها، فبدا وجهها متوهج حينما استعادت قساوة كلماته وجحود مشاعره نحوها.
لن تستطع استكمال رحلة العذاب خاصتها وأجبرت نفسها عن الوقوف عند هذا الحد من ذكرى بشعة ألهبت فؤادها المنكسر.
استدارت بصمت نحو غرفتها وجذبت هاتفها كي ترى المتصل، تفاجئت بكونه زيدان، فردت على الفور بلهفة:
-ايوا يا حبيبي.
بعد صمت دقيقة كاملة جاءها رده بصوت مجهد مختنق:
-عاملة إيه يا حبيبتي؟
ابتسمت برضا وسعادة وهي تستمع له، مقررة أن تمحي أثار تلك الذكرى البشعة من ذهنها، لتنعم بلحظات فريدة معه كفيلة بمداوة ندوبها.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)