رواية مملكة سفيد الفصل العاشر 10 بقلم رحمة نبيل
رواية مملكة سفيد الجزء العاشر
رواية مملكة سفيد البارت العاشر
رواية مملكة سفيد الحلقة العاشرة
_________________
وضعت لثامها تخفي وجهها قدر الإمكان، ترغب في ممارسة عادتها الليلة وتتدرب، فلا تعلم متى تصرخ الحرب باسمها لدعوتها نحو الساحة، ومتى تحين العودة للقصاص، لكن …
هي لا تمتلك سلاحًا كي تتدرب به، فسيفها الوحيد والذي فازت به بعد معركة طاحنة وعن جدارة، أخذه ذلك المسمى دانيار والآن عليها استعادته ولو كلفها الأمر حياتها، هذا السيف لن تتخلى عنه لأحد، فهو حقها هي، أخذته من فم الأسد ولن تلقي به بين مخالب ثعلب كذلك الرامي.
تحركت بخفة كبيرة وهي تتنقل بين ممرات القصر دون أن ينتبه لها أحد، تبتسم بسمة واسعة ترى جميع الحراس منتشرين في كافة أركان القلعة :
” يبدو أن الأمر هنا أصعب مما توقعت ”
أخذت زمرد حذرها، ثم بدأت تتنقل بين الممرات بشكل خفي تعلم وجهتها جيدًا …حجرة القائد دانيار .
وفي حجرة دانيار ..
كان الاخير يتحرك بنزع ثيابه ليأخذ حمامًا دافئًا بعد معركة طويلة في مملكة مشكى، نظر لثيابه التي تلوثت بالدماء بملامح حانقة :
” هذا لن يزول بسهولة، سترة أخرى ذهبت ضحية المتعة ”
خلع سترته يلقيها ارضًا بإهمال شديد، ثم سار صوب المرحاض الخاص به يغلق بابه في الوقت الذي ظهر خيال اسود أعلى نافذة الجناح بعدما اتخذت زمرد اسهل الطرق للدخول متلاشية الحراس أمام الجناح .
ابتسمت باتساع تسمع صوت المياه الجارية داخل المرحاض، قفزت داخل الغرفة بخفة شديد، ثم ركضت تتحرك في كل مكان باحثة عن سيفها، بدأت بخزانة الثياب الخاصة به .
تبحث بسرعة وهي تنظر خلفها كل ثانية والأخرى، تبتلع ريقها بريبة شديد خشية أن يخرج أثناء بحثها .
وحينما فشلت في إيجاده داخل الخزانة، ركضت بسرعة تبحث في كل مكان، أسفل الارائك وفي حافظة الأحذية الخاصة به، حتى شعرت باليأس من إيجاده، رغبة عارمة بالصراخ أصابتها، يالله ليس سيفها العزيز، ليس ذلك السيف، هل …هل يمنكها العودة لحجرتها وغدًا تطالبه به بكل ود وبالطرق السلمية العادية ؟! أم أنه سيكون من الغلظة ليرفض؟!
وبحسبة سريعة ومرور سريع على تصرفات دانيار معها، رجح عقلها الخيار الثاني، هو لن يعيد لها شيئًا، خاصة وأن القوانين تمنع حمل الأسلحة الحادة للعاملين من غير الجنود .
زفرت تحاول ايجاد حل، حتى شعرت باليأس لتقرر الخروج بسرعة قبل خروجه هو من المرحاض .
لكن بالإستماع لصوت تحريك مقبض الباب شعرت بقلبها يكاد يتوقف، ودون حتى أن تستوعب ما يفعل جسدها كانت تلقي نفسها ارضًا تتدحرج لاسفل الفراش بسرعة كبيرة تكتم نفسها .
خرج دانيار من المحرض يلف منشفة حول خصره يتعجب تلك البرودة التي ملئت حجرته، لمح النافذة المفتوحة ليضيق ما بين حاجبيه بتعجب، تحرك صوبها كي يغلقها لكن فجأة توقفت يده عما يفعل ثواني وتحركت عيونه في المكان، ثم أغلق النافذة ببساطة شديدة …
تحرك دانيار حول الفراش يميل بنصف جسده العلوي كي يلتقط سترته الملوثة ليلقيها في سلة الملابس، بينما أنفاس زمرد كادت تتوقف، حاولت أن تعود بجسدها للخلف كي لا يلمح خيالها أسفل الفراش .
و دانيار التقط السترة بهدوء شديد يبتسم بسمة صغيرة، ثم تحرك يلقيها في السلة الخاصة بها، وقف أمام الخزانة يخلع المنشفة، يرتدي بنطال قماشي، ثم سترة أخرى منزلية مريحة، وما كاد يبتعد حتى أبصر المنشفة ارضًا ليميل يلتقطها بهدوء، وزمرد تكاد تسقط في اغماءه من شدة رعبها وضربات قلبها مع كل مرة يميل ارضًا ..
” يالله رحمتك ”
وبمجرد أن التقط دانيار المنشفة تنفست الصعداء، لكن لسوء حظها سقطت من يده بالخطأ مجددًا، ليميل مرة أخرى وتكتم أنفاسها برعب :
” أيها الحقير، قلبي سيتوقف رعبًا، ألن ينتهي هذا ؟؟”
ألقى دانيار المنشفة في سلة الثياب، وبعدها تحرك صوب المرآة التي تتوسط الجدار يمسك عبوة من الدهان الخاص بالجروح ..
وبدأ يمرر إصبعه على جروحه التي أُصيب بها خلال المعركة، لكن سقطت العلبة منه لتتدحرج بسرعة كبيرة صوب الفراش … أو هو من أسقطها عمدًا .
ابتسم دانيار بخبث شديد يتحرك صوب الفراش متظاهرًا بالبراءة في افعاله، يميل بنصف جسده يبحث عن العلبة والتي كانت بالتحديد جوار جسد زمرد، وزمرد في تلك اللحظة كانت ترتجف من الرعب .
مدت أصابعها الطويلة تدفع العلبة بخفة صوب يد دانيار كي لا يضطر للنظر أسفل الفراش، وحينما امسكها تنفست الصعداء وهو ابتسم يقول بهدوء معتدلًا :
” شكرًا لكِ ”
ابتسمت زمرد براحة تلقي رأسها ارضًا كي تتنفس واخيرًا براحة :
” العفو ”
لكن ما كادت تستوعب ما حدث، وقد اتسعت عيونها بشدة، حتى سمعت صوتًا جوارها يهمس بصوت خافت :
” مرحبًا ”
انطلقت صرخة مرتفعة من فم زمرد التي انتفض جسدها برعب وصدمة لتصطدم رأسها في الفراش، ولم تعطي لنفسها حتى حق التألم لتلك الضربة، إذ بدأت تزحف للخلف وهي ترى جسد دانيار يشاركها أسفل الفراش وعيونه تلتمع بسواد مخيف .
حاولت أن تتنفس، لكن رؤيته بذلك الشكل وتلك الهيئة جعلتها تسارع للخروج من أسفل الفراش، ودون أن تتوقف لحظة تحركت صوب النافذة راكضة، مدت يدها تفتحها، لكن شعرت بسيف يوضع على ظهرها وصوت دانيار يردد :
” يبدو أنكِ لن تتوقفي حتى تسيل دمائك على سيفك العزيز ”
تنفست بصوت مرتفع وهي تغمض عيونها بقوة، ثم استدارت صوبه ببطء ترفع يديها في الهواء، وفي ثواني كانت يدها تمتد لتختطف السيف من يد دانيار، لكن دانيار لم يكن بالابله، إذ تدارك سريعًا ما تريد فابتعد عنها بسرعة كبيرة ليتهاوى جسد زمرد ارضًا وتعلو صرخاتها في المكان بأكمله، تنفست بعنف وهي ساقطة ارضًا والسيف على ظهرها وصوت دانيار يقول :
” كلمة أخيرة ؟؟؟”
__________________________
هل كُتب عليه أن يكون هو مرمى جسد تلك المرأة في كل مرة تسقط ؟؟ تنفس سالار بصوت مرتفع يحاول أن يرى إن كانت بخير باكثر الطرق لطفًا، مذكرًا نفسه أنها وللأسف الشديد الملكة هنا، مهلًا للمرة الكم يذكر نفسه بهذا الشيء ؟!
كانت تلك الأفكار تدور داخل رأس سالار بقوة وكأنها تتنافس على من يتسيد تفكير، بينما تبارك تضع رأسها على الأرض تتألم من السقطة، بل وبدأت تخرج اصوات حانقة وسبات لا تصل له .
مسح سالار وجهه، ثم مرر يده في خصلاته الصهباء يبعدها عن عيونه ليرى ما حدث لها، زفر يحمل خنجره يضعه أسفل رأسها، ثم ببطء رفعه واعلاه رأسها يبعد رأسها عن الأرض بكل هدوء وبمجرد أن
رفعها نظر لها بريبة أن تكون قد تأذت بسببه خاصة أنها لم تنطق بكلمة حتى الآن، وحينما اطمئن أنها بخير سحب الخنجر ليسقط رأس تبارك مجددًا ارضًا بخفة لصغر المسافة بينه وبين الأرض .
لكن تلك السقطة كانت أكثر من كافية لينتفض جسد تبارك وتعود للخلف بسرعة تتحدث بغضب شديد :
” ايه يا اخي، فيه ايه ؟؟ مستكتر عليا لحظات الوجع اللي بعيشها ؟!”
كانت تتحدث وهي تمسح فمها في عادة منها بعد استيقاظها مخافة أن يكون لعابها خرج دون وعي ..
وسالار يراقب كل ذلك بأعين حانقة مغتاظة:
” ما الذي تفعلينه في هذا الوقت ؟! خارج غرفتك وفي هذه الممرات ؟!”
نظرت تبارك حولها تتأكد من حجابها وقد تحقق كابوسها وهو أن يراها نائمة بشكل فوضوي غبي، هذا الرجل لا يراها سوى في اسوء اسوء حالاتها.
نظرت له تقول محاولة تذكر ما تريد :
” أنا كنت …كنت جعانة ولما خرجت معرفتش اوصل المطبخ، وتوهت وبعدين معرفتش اروح فين، دورت على حد لكن مفيش جنود هنا خالص تقريبًا راحوا يناموا، بعدين ملقتش حل غير اني اقعد استنى حد يعدي يرجعني الاوضة بتاعتي، وشكلي كده سقطت في النوم ”
ختمت حديثها بكلمات خجلة وهي تمسح عن وجهها أي علامات نعاس أو نوم، تشعر بالخجل من حالتها أمامه.
وسالار الذي كان يستمع لكل تلك الكلمات المتدفقة من فمها، لا يصدق حقًا مقدار البساطة التي تتحدث بها، الملكة تنام بين ممرات القصر لأنها لم تستطع العودة لجناحها، حادثة فريدة من نوعها .
تنفس بصوت مرتفع ثم قال :
” هل أنتِ بلهاء ؟؟”
ولم يكن من تبارك سوى الإجابة بكلمات بسيطة :
” الله يسامحك ”
” أيتها الغبية تنامين في مكان مكشوف لأي حقير قد تسول له نفسه قتل الملكة، تنامين في الممرات دون أن تعبأي لأي شيء ؟؟ أنتِ الملكة .. الملكة، هل من الصعب عليكِ فهم ذلك ؟!”
” لا من الصعب عليك أنت مش عليا، بدل ما تفضل تقول اني الملكة قول لنفسك وللي شغالين معاك، أنا محدش بيحترمني في المكان ده غير الملك الله يباركله ويعمر بيته، قعد معايا وكان زي البلسم، إنما أنت اللهِ لا تكسب ولا تربح دايمًا تطلع فيا القطط الفطسانة كده ”
كان حديثها جديًا غاضبًا منه، ابتسم سالار بعدم تصديق، هل تقارنه الآن بالملك ومعاملته لها؟؟ هل هي حانقة لأنه يتعامل معها بشكل طبيعي كما يتعامل مع باقي البشر ؟!
كاد يتحدث ليبرر لها الأمر، لكن فجأة توقف يقول بعدما استوعب ما قالت :
” هل قمتي بالدعاء عليّ للتو ؟؟”
نظرت له تبارك دون أن تهتم بالرد عليه، تنهض عن الأرض تنفض ذلك الفستان الغبي الذي ترتديه :
” قوم رجعني الاوضة بتاعتي عايزة انام ”
نظر لها سالار وهو ما يزال جالسًا ارضًا، بينما هي تنظر لها من علوها بتكبر لا تهتم لنظرات سالار المصدومة وهو يحاول أن يستوعب أنها للتو أمرته بكل تكبر، وهو الذي حتى الملك يتحدث معه بكل الاحترام لفرق العمر بينهما والذي يصل لثلاثة أعوام ..
وتبارك لا تهتم بكل ذلك فقط تضع يديها في خصرها تنتظر منه أن ينهض لينفذ أوامرها :
” ايه هفضل مستنية كتير ؟؟ ”
نهض سالار بقوة وبسرعة كبيرة، مما جعل جسد تبارك يتراجع بسرعة كبيرة للخلف بردة فعل طبيعية تضع يديها أمام وجهها بخوف منه، وهو أصبح بضعف حجمها ويرمقها من علوه وهي تنظر له مبتلعة ريقها برعب .
” هل أخبرك أحدهم أنني أعمل خادمًا لسيادتك مولاتي ؟؟”
نفت تبارك برأسها وهي تبتلع ريقها بريبة من نظراتها، مال سالار بعض الشيء مع الاحتفاظ بمسافة مناسبة بينهما؛ كي يوصل كلماته لاذنها إذ يبدو أن سمع تلك المرأة به خطأ :
” أنا لستُ خادمًا لكِ مولاتي، لذلك تحركي وجدي من يدلك على الطريق غيري، لستُ متفرغًا لتصرفاتك الصبيانية ”
كان يتحدث بينما تبارك تخفي وجهها خلف يديها برعب من همساته ونظراته :
” حاضر، حاضر ”
ابتسم لها سالار بسمة واسعة، ثم قال برضى :
” جيد، والآن اعذريني مولاتي فأنا مشغول بعض الشيء”
تركها يتحرك بكل بساطة مبتعدًا عنها، وهي وقفت مصدومة مكانها، هل يمزح معها ؟؟ أخبرته أنها ضلت الطريق بسبب جوعها، ولم يهتم بحالتها أو حتى جوعها .
شعرت بالقهر يندفع داخل صدرها وقد عادت لها ذكريات الملجأ قديمًا حينما كانت تبيت ليلتها جائعة وتسكن معدتها ببعض المياه :
” على فكرة أنت لو استمريت تعاملني بالشكل ده انا هسيب ليكم القصر ده واطفش ومحدش هيعرفلي طريق”
توقف سالار فجأة لتبتسم وهي تمسح الدمعة الوحيدة التي كادت تفلت لحسرتها وقهرها، وهو استدار نصف استدارة ونظر لها ثواني ثم قال ببسمة :
” جيد، احرصي ألا تضلي الطريق أثناء هروبك، حتى لا نجدك وقد عدتي لجناحك بالخطأ ”
ختم حديثه يميل قليلًا باحترام شديدة :
” بالتوفيق مولاتي ”
اتسعت عيون تبارك بقوة من حديثه، وشعرت بالكره يمليء صدرها لذلك الرجل، هو أكثر لئمًا من عاملة الملجأ حتى .
استدار سالار يكمل طريقه، لكن فجأة توقف حين شعر بشيء يصم في ظهره بقوة شديدة .
ضيق ما بين حاجبيه يستدير ببطء ليبصر أحد المزهريات النحاسية أسفل قدمه بعدما ضربته بها، الملكة ألقته بمزهرية، حقًا ؟؟ امرأة ضربته مجددًا ؟؟ وهذا يذكره يوم ضربته في المشفى بمزهرية كذلك
رفع سالار رأسه صوبها ببطء مرعب جعل تبارك تعود للخلف ودموعها تسقط بقهر :
” أنت اللي اضطرتني اعمل كده ”
مال سالار برأسه في حركة معتادة منه، لترتسم بسمة مرعبة على فمه، وهي ابتسمت له بسمة صغيرة سخيفة ظنًا أنه يبتسم لها، لكن في ثواني كان صدى صرخاتها يرن في الممر بأكمله وهي ترى سالار يستل سيفه من غمده صارخًا بجنون :
” ترميني بقطعة حادة ؟! الويل لكِ ”
ومن بعد تلك الكلمات لم تكن تبارك ترى أمامها سوى ممرات تتحرك بسرعة وطرق تدخل بها، وهي تركض صارخة بجنون، تبكي رعب جلي وقد شعرت أن قلبها سيتوقف :
” أنا آسفة ..والله العظيم أنت اللي عصبتني، أنا آسفة”
كانت تركض دون أن تبصر حتى أن سالار لم يتحرك خطوة من موضعه بعدما نزع السيف، بل فقط اخافها كي لا تكرر فعلتها ونجحت خطته وبامتياز .
ابتسم يضع السيف في الغمد مجددًا، يتجاهلها متحركًا صوب مكتبة العريف كيف يعلم منه ما جاء لاجله، لكن فجأة توقف وصوتها يرن في أذنه وهي تخبره أنها جائعة وضلت الطريق.
نظر صوب طريق المكتبة ثواني، قبل أن يتراجع لنفس الطريق الذي ركضت به تبارك، يلحق بها بخطوات سريعة وهو يهمس بضيق :
” أنا لا أحب هذا …لا أحب كل هذا ”
____________________
دخلت الغرفة بسرعة وصوت انفاسها المرتفعة أيقظت تلك النائمة من أحلام اليقظة الخاصة بها، لتنتفض عن فراشها بأعين شبه مغلقة وصوت ناعس :
” من ؟؟ ماذا يحدث هنا ؟!”
فجأة أبصرت برلنت جندي يتقدم من فراشها يشير لها أن تصمت، شعرت بجسدها يتيبس رعبًا من خطواته تلك، هزت رأسها بخوف :
” أنا… أنا لم اؤذيه، أقسم أنه هو من كان ساقطًا في دمائه قبل أن أراه حتى، ارحمني، لقد اعتذرت منه ووافق على مسامحتي و..”
وقبل أن تسترسل في المزيد من التوسل نزعت كهرمان لثامها تقول بغيظ من كلام برلنت :
” هذه أنا برلنت ما بكِ ؟!”
اتسعت أعين برلنت بعدم فهم لما ترى، هي عندما خرجت لم تكن بهذه الهيئة، ولا تدري إلى أين ذهبت، لكنها خرجت فتاة وعادت جندي .
” كهرمان ؟! ما الذي ترتدينه ؟! هل تحاولين افتعال كارثة هنا ؟؟ إن رآكِ أحد جنود الملك ستكون نهايتك يا حمقاء ”
خلعت كهرمان ثوبها وهي تنظر صوب برلنت تقول ببسمة بسيطة :
” لا تقلقي عزيزتي لم يرني أحد جنود الملك ”
” حمدًا لله ”
” بل الملك بنفسه من فعل ”
اتسعت أعين برلنت بصدمة وهي ترى بسمات كهرمان الغريبة التي تعلو وجهها، والأخيرة كانت فقط شاردة به، ذلك الرجل الذي تشعر كما لو أنه شخصين داخل شخص واحد ..
الملك الهادئ والحكيم الذي يتعامل معها ومع الجميع بحكمة، وذلك الحقير الذي يكاد يقتلها داخل ساحة التدريب رغم معرفته أنها فتاة، لكنه لا يهتم بذلك، بل يعاملها كعدو حقيقي .
في تلك اللحظة انتبه الجميع لصوت فتح الباب واندفاع جسد زمرد منه تنزع عنها لثامها، تخطو صوب فراشها بوجه شاحب، ثم تسطحت عليه تنظر للسقف بشكل غريب وصدرها يعلو في وجيب منتظم بفعل أنفاسها .
نجت ..هي نجت منه، هي حية، لقد خرجت من أسفل يده بأعجوبة، ومن بين كل كلمات برلنت وكهرمان اللتين حاولتا معرفة ما يحدث، جذبت الغطاء بكل بساطة ووضعته على عيونها، وصوت همس دانيار يرن في أذنها :
” لولا أنني لم أعتد يوم محاربة النساء أو ضربهن، لكنت فعلت الآن، لكن ولأنني شخص نبيل سأمنحك فرصة الهروب من أمام وجهي ولتحاولي أن تتلاشي مقابلتي في الأيام القادمة ”
رفعت زمرد عيونها له تنظر له بشر كبير لتتسع بسمة دانيار أكثر هامسًا :
” عندما تحاولين التسلل والاختباء في المرة القادمة، احرصي على تجنب جميع الأماكن القريب من أي سطح عاكس ”
رمقته بعدم فهم ليشير بعيونه صوب زجاج النافذة والذي يعكس كل ما أسفل الفراش، لتشهق هي بصدمة كبيرة، لكنه لم يهتم يشير للسيف الخاص بها :
” جئتي لأجله صحيح ؟!”
رفعت حاجبها :
” هو لي .”
” لم يعد كذلك، غير مصرح لكِ بحمل الأسلحة أسفل قصر الملك ”
وبعد هذه الكلمة لا تعلم كيف نهضت تتحرك صوب النافذة بسرعة وكأنها هربت منه وليس هو من تنحى جانبًا سامحًا لها بذلك، ولا يدري حقًا السبب، لكنه فقط تركها تتحرك صوب النافذة وقبل أن تفكر في الهرب استدارت له تقول بصوت متوعد :
” لنا لقاء يا سيد .”
منحها دانيار ابتسامة ساخرة بعض الشيء :
” في الانتظار يا سيدة ”
ضمت زمرد غطاء الفراش لصدرها تعضه بغيظ مكبوت بعدما تذكرت ما حدث لها، تشعر بنيران تشتعل داخل صدرها من ذلك الرجل الغير معقول، يالله لو أنها فقط تـ ..
” زمرد ما بكِ؟؟ منذ اقتحمتي الغرفة وأنتِ شاردة تتعاركين مع الغطاء، ماذا حدث لكِ، ثم أين كنتِ ؟!”
استدارت زمرد على جنبها تراقب الفتاتين على الفراش أمامها ينتظرون منها كلمة تطمئنهم :
” لا تقلقا أنا بخير، فقط كنت أسير كي استشنق بعض الهواء النقي ”
” وما الذي أصابك ؟؟”
كان هذا سؤال برلنت المتعجب، لتتنهد زمرد تقول بصوت حانق مرهق بعض الشيء :
” لا شيء، فقط تذكرت أمرًا مزعجًا، والآن لننم قبل حلول الصباح، فلدينا بعض ايام الراحة لننعم بها ”
ختمت حديثها مبتسمة، ثم استدارت تغمض عيونها بقوة حتى تبعد كل الأفكار عنها، لكن تلك الافكار أبت إلا أن تصاحبها تلك الليلة …
__________________
بحث عنها في جميع الممرات وهو يتمنى أن تكون قد وجدت غرفتها ليريح ضميره ويعود لما كان سيفعل، لكن فجأة وجدها تقف عن مفترق طريق وهي تحرك أصابعها في الهواء وتقول كلمات غير مفهومة .
اقترب سالار بريبة منها يرهف السمع وقد وصل لمسامعه كلمات عجيبة :
” حادي بادي كرنب زبادي، شالو وحطوا وكالوا على دي، يا كتكـ …”
وقبل حتى أن تضيف كلمة واحدة على تلك الكلمات الغريبة التي غالبًا ما يستعملها المصريون حين حيرتهم في شيء بغرض الاستقرار على أمرٍ ما، وجدت تبارك جسدها يصطدم في الجدار جوارها حتى شعرت بعظامها تستغيث، وقبل أن تصرخ أبصرته يقترب منها هامسًا بصوت مرعب وسيفه قد استقر على رقبتها يتساءل بهدوء شديد وتعجب :
” ما تلك التعاويذ أيتها المشعوذة ؟! هل أنتِ من نسل سحرة ؟!”
تحركت عيون تبارك المصدومة من السيف لعيون سالار الذي كان يقف أمامها بهيئته الضخمة، قالت بصوت خافت خرج بصعوبة بسبب رعبها :
” أنا بس كنت …كنت عايزة أكل وانام ”
لكن سالار تجاهل كل ذلك يقول بصوت محذر :
” ما تلك الكلمات التي كنتِ تلقينها محركة بيديكِ في الهواء ؟؟ أنتِ ساحرة ؟؟”
لم يكن سالار يمزح أو يبالغ، فالسحر أمر مرفوض في البلاد وقد عوقب العديد من الأشخاص على ارتكابهم لذنب كممارسة السحر واذية غيرهم، وقد سمع يومًا بعض تعاويذهم والتي لم تكن مفهومة، تمامًا ككلمات الملكة .
جاهدت تبارك للتحدث وعيونه تكاد تحرقها حية وهي فقط تنظر للسيف بخوف لا تنزع عيونها عنه تحاول ابعاد رقبتها عنه :
” على حسب أنت قصدك ساحرة اللي هي جميلة، ولا الساحرة بتاعة المكنسة الطايرة ؟!”
رمقها سالار بعدم فهم :
” ماذا ؟؟”
لكنها لم تهتم وهي تكمل :
” هفترض حسن نيتك واقولك الله يكرمك، بس معلش ممكن بس تبعد السيف شوية لاحسن ..أنا بس عندي حساسية من المعدن بتاعه ”
كانت تتحدث وهي تدفع السيف بطرف إصبعها محاولة أن تتلاشى حافته الحادة، لكن سالار بنظرة واحدة جعلها تتراجع أكثر حتى كاد تطبع جسدها على الجدار خلفها تقول بخفوت :
” كل ده عشان ضربتك بالفازة النحاس ؟؟ امال لو ضربتك بالنار هتعمل فيا ايه ؟!”
نظر لها سالار ثواني، ثم فجأة شعر بالصدمة حينما تذكر أنها بالفعل ضربته، وها هو سبب آخر كي يقتلها دون تأنيب ضمير، لكن كمحاولة أخيرة لاستخدام كرمه وعدله :
” والآن اعطيني سببًا واحدًا يمنعني من قتلك ”
ابتلعت ريقها تقول بكل ذرة براءة كانت تختزنها داخلها طوال تلك السنوات :
” عشان أنا الملكة ؟؟”
لكن يبدو أن طول فترة تخزينها لبرائتها أصابها الصدأ وتضررت، فما ظهر على ملامحها وهي تتحدث بتلك الكلمات لم تكن براءة بأي شكل من الأشكال، بل كانت بلاهة ورعب .
ارتسمت بسمة جانبية على فم سالار يقول :
” حتى إن كان الملك نفسه ساحر فسيُعدم ”
” بس …بس أنا مش ساحرة، أنا…بالله عليك بص لوشي، ده وش ساحرة ؟؟ أنا يعني لو كنت ساحرة كان ده هيبقى حالي ولا كنت سكتلك على اللي بتعمله معايا ؟؟ اقسم بالله كنت وقتها سخطتك و…”
صمتت تكتم صرخة بيدها وهي تراه ينزع السيف عن رقبتها مانحًا إياها نظرة تحذيرية مخيفة، ثم قال بصوت خافت :
” نعم أنتِ محقة، لا يمكن لفتاة غبية مثلك أن تكون ساحرة ”
ختم حديثه تاركًا إياها بعدما أشار لها دون كلمة واحدة أن تتبعه، وهي فقط نظرت له تتنفس بصوت مرتفع ورعب، لا تدري أتسعد لأنها حية، أم تغضب لأنه وصفها بالغبية ؟؟
سارت خلفه محاولة أن تجاري خطواته السريعة والواسعة، ولم تتحدث بكلمة واحدة منذ رمى في وجهها أنها غبية دون وضع اعتبار أنه يتحدث للملكة ورحل هكذا بكل بساطة .
زادت من خطواتها حتى تلحق به وهي تردد ببسمة متناسية كل ما قاله منذ ثواني وأنه كاد يقتلها جديًا، وأن سيفه كاد ينحر رقبتها إن ابتلعت ريقها بالخطأ، هي فقط لا تحب ذلك الصمت الخانق، كما أن ذلك الرجل أمامها غامض بشكل مستفز بالنسبة لشخص فضول مثلها فأرادت التعرف عليه :
” صحيح مقولتليش، هو أنت تبقى قريب الملك ؟!”
استدار لها سالار يرمقها بحيرة لا يعلم سبب طرحها هذا السؤال الغريب، لتبرر تبارك الأمر ببعض الحجج الواهية :
” اصل يعني اخدت بالي من عشم كبير بينكم وأنت بتكلمه ولا كأنه الملك بتاعك، ولا أنت كده مش بتحترم حد ولا حد مالي عينك في البلد دي زي ما بتعمل معايا ؟؟”
ورغم جهل سالار بمقصدها خلف بعض المصطلحات والكلمات، إلا أنه صمت ولم يجب وهي زادت من سرعة خطواتها تكمل ذلك الحوار الشيق من طرفها :
” هو اشمعنا أنت الوحيد اللي شعرك كده ؟؟ يعني كلهم هنا شعرهم اسود وساعات بني واصفر، ليه أنت اللي شعرك لونه احمر كده ؟؟”
ابتسم سالار ولن يتحدث بكلمة واحدة يجيب على كل تلك الاستفسارات الغبية _ من وجهة نظره_ لكن ذلك لم يمنع تبارك من استكمال ذلك الحوار بينهما :
” أنت شبه والدك ولا والدتك ؟! يعني الشعر ده وراثة ولا خلقة ؟! اصل أنا طول عمري نفسي في شعر زي ده ؟! أنت بتستخدم نوع كريمات معينة ؟؟ دي صبغة ولا بجد”
توقف سالار فجأة وبشكل جعلها تتراجع للخلف بريبة وهو فقط نظر لها ثواني يراها تتنفس بسرعة وكأنها كانت في سباق ركض :
” هل كلفك الملك بعمل دراسة حول ألوان شعر الشعب ؟؟”
نظرت له وهي تحاول أن تجد ردًا على حديثه، هي لم تكن تريد الحديث بأمور عشوائية كتلك ابدًا، لكن الأمر وما فيه أنها تشعر بالرهبة حين السير جواره وحديثها حتى لو مع نفسها يقلل من ذلك الصمت الخانق والمرعب .
تنفست بصوت مرتفع :
” لا، أنا بس ….بسأل عادي، لو مش حابب تجاوب أنت حر”
نظر لها يقول باستنكار :
” بالطبع أنا حر، وهل أخبرك أحدهم أنني عبد ؟؟”
رمقته ببلاهة شديد لا تفهم ما دخل العبد بحديثها، وهو فقط زفر بصوت مرتفع يكمل طريقه صوب مطبخ القصر وهي خلفه، لا يعلم ما الذي يفعله، في حياته كلها لم يحدث وأن خطى ذلك الجزء من القصر، والآن يفعل ليطعم الملكة، هل يلعب الان دور والدها ؟! ام يلعب دوره كمرشد للقصر ؟!
زفر بغضب وهو يتجاهل صوت خطواتها الراكضة خلفه، وهي لم تتوقف عن الحديث أبدًا :
” هو اشمعنا أنا اللي ابقى الملكة ؟؟”
” عقاب من الله ”
” يعني من بين كل بنات المملكة مكانش فيه ملكة مناسبة غيري، ليه انا بذات اللي اختارتوني؟ ”
صمتت ثم ركضت كي تسبقه تقف في وجهه وهي تواجهه بذلك السؤال الذي فكرت به مئات المرات دون أن تصل لرد محدد :
” أنت المفروض وحسب ما عرفت أنك واحد ليك مركز هنا والناس كلها ماشاء الله بتخاف منك ”
رفع سالار حاجبه يبتسم بسمة جانبية هامسًا :
” وأنتِ لا تفعلين؟؟”
نظرت له تبارك مطولًا، هي لا تخاف منه، هو لن يؤذيها، إذن ما الداعي للخوف ممن لا يضمر لها أذى، فتحت فمها للحديث وأخباره أنها لا تفعل :
” لا واخاف منك ليـ ”
وقبل أن تكمل كلماتها وجدت يده ترتفع في لتشهق وهي تتراجع بعيدًا عنه بخوف تخفي وجهها، وهو فقط كان يبعد خصلات شعره عن عيونه، لكن بعد حركتها تلك ابتسم بسخرية لاذعة :
” نعم أنتِ لا تفعلين ”
زفر باستهزاء وقبل التحرك تحدثت هي بما كانت تريد قوله :
” نسيتني كنت هقولك ايه، المهم بما أنك واحد يعني ليك مكانتك وكده يعني، وجيت مخصوص كل المشوار وعديت كل المخاطر دي عشان بس تجيبني لهنا، هل أنا فعلا مهمة اوي كده ولا ايه بالضبط ؟؟”
رمقها سالار مطولًا حتى ظنت أنه لن يجيب كعادته وسيكتفي بالتحرك بعيدًا عنها وتجاهلها كما جرت العادة، لكنه خيب ظنها _ ويا ليته لم يفعل _ واجابها بكل بساطة :
” أنا لم أفعل ذلك بكامل إرادتي، لقد اجبروني على الذهاب واحضارك ”
ختم حديثه وهو يتحرك بعيدًا عنها وهي ما تزال في طور صدمتها، تحاول أن تخرج منها، نظرت لظهره وهو يسير بكل هدوء، ابتسمت لا تصدق ما يحدث، ما الذي تبقى ولم يحدث حتى يثبت أنها هنا لا أهمية تذكر لها .
وصل الاثنان صوب حجرة كبيرة يقف على أبوابها بعض الحراس الذين بمجرد أن لمحوا سالار انحنوا له ليتحدث بهدوء :
” اخبروا العاملات بالداخل أن يحضروا وجبة للملكة، ثم خذوها لجناحها، وأنت أرشد الملكة للجناح حتى يتجهز الطعام لها ”
ختم حديثه يتحرك بكل بساطة تاركًا تبارك تنظر في أثره ببلاهة وهي تقف أمام حجرة الطعام، لا تفهم ما حدث وما فعل، هكذا فقط ؟! احضرها ليأمرهم بإعداد الطعام لها وكأنها صغيرة لم تكن لتستطيع قول ذلك ؟؟
نظرت لاثره وهو يرحل ببساطة شديدة وهي فقط تقف وتراقبه ببسمة غير مصدقة، ألقاها لهم ليطعموها ثم رحل .
حقًا ؟؟؟
____________________
اصوات صاخبة جعلت جسده يتقلب على فراشه الذي كان دنسه بجسده بعدما سلبه من أصحابه، تأفف مرتفع خرج من فمه حانقًا كارهًا لكل ذلك الازعاج بعد حفلة رائعة قضاها رفقة جنوده، ثم اكملها رفقة فتاة، والآن يستيقظ على تلك الضجة التي تسبب له انزعاج شديد وتفسد مزاجه الصباحي .
فتح بافل عيونه ببطء يستقبل شمس الصباح بتأفف، لكن تلك الرائحة التي اخترقت أنفه وتلك الاصوات والصرخات جعلت جسده ينتفض بقوة وقد شعر بصاعقة كهرباء تصيب جسده يلمح الكثير من الجثث ملقاه حوله في جناحه الخاص، رجاله قُتلوا ووضعوا داخل غرفته .
انتفض عن فراشه بسرعة كبيرة يصرخ بصوت جهوري :
” ما الذي يحدث هنا أيها الـ ”
وشعوره بشيء لزج أسفل اقدامه جعله يتراجع بسرعة ليسقط على الفراش مجددًا وهو يرى الدماء متناثرة على كل خطوة من ارضية حجرته .
تنفس بعنف يشعر أنه في كابوس، ما الذي يحدث هنا، من فعل هذا؟!!
فجأة وجد أحد رجاله يقتحم عليه الجناح وخلفه العديد من الرجال وهو يصرخ بجنون :
” سيدي حراس الحدود جميعهم قتلوا والعديد من الجنود داخل القصر حدث بهم المثل، لقد تعرضنا لهجوم البارحة ”
كانت أعين بافل معلقة على الأجساد ارضًا وهو متسع الأعين:
” تعرضنا لماذا ؟؟ هل تمزح معي ؟؟ تعرضنا لهجوم دون أن يشعر أحد ؟؟ ”
رفع رأسها يهبط عن فراشه يصرخ في وجه الجميع بصوت مرعب ونبرة هزت جدران القصر :
” من ذلك الحقير الذي تجرأ وفعل هذا بجنودي، هل هم رجال تلك المملكة القذرين ؟؟ أجمعهم كلهم، واعدمهم أمام نسائهم وأطفالهم، لا اريد ترك رجل واحد فقط حي فوق هذه الأرض القذرة، لقد انتهينا، انهوا سلالة مشكى ولا تتركوا لي رجلًا واحدًا، سأريهم كيف يتسللون و يـ ”
توقف عن الحديث حين وقعت عيونه على الجدار المقابل لفراشه والذي نقشت عليه كلمات بالدماء، دماء جنوده كانت تزين جدار غرفته بكلمات جعلت جسده يهتز بقوة ويرتعش بجنون .
” تجرأت ودنست رمال سفيد الطاهرة بأقدام جنودك النجسة، واردت إيصال رسالة، وبالفعل حدث ووصلت، وهذا ردي، إن ظننت نفسك قد انتصرت لدخولك مملكتي، فها أنا وفي عقر دارك، وفي حجرتك بعدما تخلصت من جنودك دون أن تشعر حتى بوجود شيء، تمامًا كخنزير انتهى لتوه من وجبة وحّل دسمة، كان يمكنني قتلك، لكنني لست بهذا الكرم لاقتلك بسهولة، معادنا ارض المعركة يا سليل القذرين، قائد جيوش سفيد ….”
اشتعل صدر بافل، شعر بالنيران تصيبه، غضب مخيف انتشر داخل جسده بأكمله، كان وجه محمرًا بشكل مخيف وأعين من شدة الغضب كادت تخرج من وجهه، حتى أن جنوده عادوا للخلف خوفًا أن يطال أحدهم سوءً أثناء غضبه .
وفجأة اهتز القصر بأكمله بصرخة بافل الغاضبة كالجحيم :
” ســــــــــــــأريـــكم الجحـــيــم ….”
_________________________
تتحرك يمينًا ويسارًا كي تنتهي واخيرًا من تنظيف المعمل الخاص بصانع الأسلحة والقنابل، يا الله هل ينقصها أن تشرف هي على تنظيفه، من بين الآلاف العاملات وقع الاختيار عليها هي لتتولى تنظيفه دون مساعدة وكأنه يتم معاقبتها بفعل ما لا تحب .
توقفت برلنت في منتصف المعمل تدور فيه برضى تام، أيام قليلة فقط وانتهت من تنظيفه بعد تجديد ما تدمر به، والآن انتهى العمل الذي كان ثقيلًا ثقل الجبال على صدرها .
وبنظرة في المكان أطلقت تأوهًا وهي ترفع حجابها عن وجهها تهتف بسخرية لاذعة وأعين مستنكرة لما تحاول زرعه داخل عقلها بالقوة .
” من تخدعين برلنت ؟!”
أشارت حولها على المعمل وصوتها خرج محملًا بمشاعر عديدة :
” أنتِ من توسلتي المشرفة لتمنحك شرف تنظيف مكان به رائحته ”
حقيقة مرعبة تعترف بها لنفسها، حقيقة تحاول إنكارها حتى بينها وبين نفسها، حقيقة عشقها المرضي لصانع الأسلحة، الشعور اللذيذ والمؤلم الذي تتعايش معه منذ سنوات طويلة توقفت عن عدها من بعد العاشرة .
” تقفزين له بكل مكان، تخترعين صدفًا غبية فقط لـ…لتسمعي صوته، أنتِ أكثر شخص مثير للشفقة برلنت، أنتِ مثيرة للشفقة ”
تنهدت بصوت مرتفع تحاول أن تتماسك، تغمض عيونها وأمام عيونها تستحضر صورة تميم، حبيبها الوحيد منذ سنوات، ط سنوات عاشت بجحيم حب غير منطوق من طرفها، غير محسوس من جهته، هو حتى لم يعلم أنها حية إلا يوم ألقى عليها قنبلته ..
وذلك اليوم حين كانت تراقبه ووجدت مضجرًا في دمائه، ارتجف جسدها بقوة تتذكر هلعها وارتجافة جسدها، وشحوبها القوي والذي لم ينتبه له تميم في غمرة وجعه .
ولولا شعورها بنبضات قلبه وقتها لماتت قبله من الخوف فقط، وذهابها للمشفى فقط كي تطمئن عليه، كانت من البأس الذي يجعلها تلقي بنفسها في جحيم مستعر لأجلها .
فجأة سمعت برلنت صوت خطوات يقترب من المعمل لتعيد الحجاب على وجهها بسرعة كبيرة تخفي خلفه حبها المخزي لمن يفوقها مكانة وقدرًا، لمن لا يشعر حتى بوجودها في هذه الحياة .
ثواني حتى وصل صوت تميم لها :
” معذرة لم أدرك أن هناك من يعمل هنا، سأرحل الآن وحينما تناهيت سأ…”
قاطعته هي بسرعة تميل بحرص ورقة تلتقط ما يقبع أسفل قدمها من أدوات تنظيف وكامل مشاعرها ترتجف شوقًا له :
” لا، لقد انتهيت بالفعل، يمكنك العودة لمعملك، وإن حدث شيء ارسل للمشرفة، المعذرة منك سيدي ”
ولم تكد تخرج من المكان بأكمله حتى توقفت على صوت تميم الذي قال بتعجب :
” هذه أنتِ ؟!”
استدارت نصف استدارة تقول بصوت متحفز :
” عفوًا ؟؟”
” أنتِ هي نفسها تلك الفتاة التي جاءت لي المشفى والتي ألقيت عليها قنبلتي صحيح ؟!”
ابتلعت برلنت ريقها تخرج صوتها متأففًا حانقًا :
” نعم هذه أنا، ماذا هل هناك قنبلة أخرى تود تجربتها عليّ ؟!”
ضحك تميم ضحكة صغيرة يتحرك في أرجاء المعمل يتفحصه بأعين مدققة :
” لا أنا فقط متعجب من قدومك لمعملي، أوليس أنتِ من اقسم ألا يطأ معملي ذلك اليوم ؟؟ ”
تنفست بصوت مرتفع ظنه هو غضبًا، لكنه كان ابعد ما يكون عن غضب، كان محاولة بائسة منها لتخرج صوتها عاديًا :
” حسنًا، هذه مشرفة العاملات أجبرتني على المجئ وتنظيف هذه الخرابة التي تسميها ظلمًا بالمعمل، لذلك رجاءً حين تود أن تحضر من ينظف ذلك القبر الذي تقضي به اوقاتك، جد عاملة غيري .”
رفع تميم حاجبه وقد تشنج جسده بضيق من نبرتها لي الحديث معه :
” أنتِ تتخطين حدودك بالحديث معي، أنا أحد قادة الجيوش هنا، لذلك أنا يمكنني …”
” ماذا ؟؟ ستأمرهم بقتلي أو سجني ؟؟ بأي تهمة ؟؟ بتهمة ازعاج سيادتك واستفزازك بالحديث بعدما كدت تقتلني عدة مرات ؟!”
كانت برلنت تصرخ في وجهه وهي ترفع اصبعها محذرة إياه أن يتمادى معها في الحديث، ولم تكتف بذلك، بل أكملت صارخة :
” اقسم إن حاولت أن تزعجني أو تهددني سأكون أنا أول من يركض للملك وأخبره أنك يا سيد حاولت قتلي ”
أشار تميم لنفسه بصدمة :
” حاولت قتلك ؟! ”
” نعم، وسأحضر من يشهد على كلامك، والآن يا قائد اعذرني فأنا لست متفرغة مثلك لمثل تلك التُراهات ”
رفعت رأسها بكل كبرياء تحمل اشيائها ترحل منتصرة في معركة من طرفها هي فقط، وكأنها بكل ذلك الحديث تثبت لنفسها أنها ليست بتلك الضعيفة، هي ليست بمعدومة الكرامة التي تنتظر منه نظرة حب أو حتى كلمة، هي تحبه، لكنها أبدًا لن تسمح له بتخطي الحدود وتهديدها .
وبينما هي تسير برأس مرفوعة تشكر ذاتها لتلك الكلمات التي اراحتها، سمعت صرخة تميم وهو يندفع صوبها :
” انتبهي يا عمياء ..”
اشتعلت عيونها بغضب تستدير بسرعة له ولم تنتبه لذلك السلاح المعلق في السقف :
” من تلك الحمقاء يا سيـ ”
وقبل أن تتم كلمتها شعرت بشيء قوي يصطدم في رأسها ليندفع جسدها للخلف بسرعة مرتعبة متوجعة، لكن ما استقبلها هو الجدار فاصطدمت به كذلك وقد ارتفعت أصوات صرخاتها في المكان .
بينما تميم يراقب كل ذلك بأعين متسعة مصدومة، هو لم يكد يستوعب اصطدامها الاول لتكمله بالثاني، وبينما هي ملقاة ارضًا تتأوه شاعرة أن رأسها قد انشقت نصفين تبكي بوجع، سمعت صوت ضحكات تصدح في المكان .
استدرات ببطء لتبصر وجه تميم الذي غرق في موجه ضحك صاخبة جعلت غضبها يتضاعف وهي تنهض من مكانها تصرخ في وجهه بجنون :
” صه، كيف تتجرأ وتضحك على آلامي وأنا من كدت أموت رعبًا حين رأيك مضجرًا في دمائك، وكنت ابكي بخوف، أيا ليتك مت أيها الحقير عديم الشعور ”
ختمت حديثها بنبرة تحمل من البكاء ما كاد يجعلها تنهار ارضًا، حملت أدواتها تخرج من المكان بسرعة وتميم يقف ينظر لاثرها بعدم فهم، هل غضبت منه لأنه لم يبكي عليها كما فعلت معه ؟؟
مهلاً هل شبهت إصابته بخنجرين، بإصابتها بكدمتين ؟!
خرج من شروده بها على صوت دانيار الذي اقتحم المعمل يقول بجدية :
” تميم، هناك اجتماع مع الملك والجميع ونحتاجك هناك ….”
تحرك تميم بسرعة وشبه هرولة خلف دانيار يخرجون من معمله وهو يخمن في رأسه سبب ذلك الاجتماع، يا الله لتمر هذه الأيام بخير عليهم وعلى الممالك، يبدو أن أحدهم فتح أبواب الجحيم ونسي غلقها ….
_______________________
” قتل نصف الرجال، وإعدام النصف الآخر في مذابح غير آدمية، ثم اغتصاب النساء وزرع بذور فاسدة من قاتلي رجالهم داخل ارحامهم، خطة تطهير عرقية لشعب مشكى يتبعها المنبوذين، وقد نجحوا في النصف الأول منها، والنصف الثاني ما يزال في طور التمهيد، وهذا الطور سيكتمل في حالة واحدة …..حينما يعبرون على جثتي ”
كانت تلك كلمات سالار التي وصلت لمسامع كلٍ من تميم ودانيار بمجرد دخولهم القاعة، إذ كان سالار يقف في منتصف القاعة يصف للجميع ما علمه في الأمس من الشيخ الذي قابلوه في مشكى .
كانت ملامح إيفان باردة جامدة بشكل محير، فقط يستند على المقعد وهو يراقب حركات سالار الغاضبة، فلطالما كان سالار رجل غاضب ثائر ومتوحش فيما يخص القتل والحروب، بينما إيفان رجل حكمة وهدوء وإدارة …
نظر سالار للجميع ثم ضرب الطاولة بيده وهو ينظر لعيون إيفان يقول بحدة وصوت حاسم :
” هناك خائن في أراضينا، خائن ساعد المنبوذين في دخول مشكى وفرض سيطرتهم عليها، فلا يقنعني أحدكم أن رجال لا يحسنون حمل السيوف ويرتجفون أمام شفرة حادة ولا يعلمون عن الحروب سوى طبولها، يستطيعون التغلب على جيش بحجم جيش مشكى، وبقيادة ارسلان كذلك، هذا شبه مستحيل ”
وافقه دانيار كل ما يقول في صمت يهز رأسه، وهو الذي علم كل ذلك سابقًا وبمجرد وصول خبر سقوط مشكى بيد المنبوذين، فجميع الجالسين يعلمون أن رجال بافل ليسوا مقاتلين ولا يفقهون بالقتال شيئًا، لذلك قتلهم البارحة كان أيسر من شربة ماء .
تنفس سالار بعنف ثم دار بعيونه على الجميع وقال ببسمة جانبية :
” ما رأيك ملك إيفان أنني رأيت أحدهم يحمل سلاحًا من اسلحتنا البارحة ؟؟”
ارتفع حاجب إيفان وكأنه يقول له حقًا ؟؟ لكن تلك البسمة التي ارتسمت على فمه أخبرت سالار أنه يعلم ذلك جيدًا، حسنًا إيفان ليس بالغبي أبدًا .
اعتدل إيفان يميل على الطاولة يضم قبضتيه متسائلًا بجدية :
” تميم ..”
” أمرك مولاي ؟؟ ”
ابتسم إيفان بسمة جانبية وهو ما يزال يحدق بأعين سالار في تواصل بصري قوي :
” هل سبق وأخذت منك مملكة مشكى أسلحة من صنعنا ؟؟”
نفى تميم بقوة وهو يجيب بنبرة عملية جادة دون أن يغفل عن تفصيلة واحدة :
” لم يحدث منذ سنوات مولاي ومنذ أمرت أنت بمنع ضخ اسلحتنا لهم، فعلنا ذلك، ومنذ ذلك الحين لم يخرج خنجر واحد من سفيد لمشكى ”
قال إيفان ببساطة :
” اذًا هذا يلغي الاحتمال الأول، وهو أن بافل استولى على أسلحة مشكى والتي هي في الأصل من صنع مملكتنا، وهنا نأتي للاحتمال الثاني ”
نظر له الجميع ودون أن يتحدث علموا الإحتمال الثاني والذي كانوا يرجحونه ..
تحسس العريف بومته التي تعلو كتفه وهو يرمق الجميع بنظرات غامضة وكأنه يعلم شيئًا ويخفيه، ونظراته تلك لم تخفى عن سالار الذي ابتسم له متوعدًا بساعات طويلة من الاستجواب .
قال إيفان بإقرار :
” هناك مملكة تأخذ من اسلحتنا وتدعم بها هؤلاء المنبوذين ”
احترق صدر سالار بقوة صارخًا بجنون وهو يضرب الطاولة مجددًا وصوته يخرج هادرًا مرعبًا لبعض الرجال حوله، والذي ابتعدوا عن عيونه متجنبين حالة هياجه وأولهم مرجان :
” هم يقتلون اخواننا باسلحتلنا، نحن نمدهم بالسكين الذي يذبحونهم به ”
صمت يتنفس بصوت مرتفع ليسمع صوت إيفان يقول بتقرير بصوت جامد بعض الشيء :
” تميم، امنع ضخ الأسلحة لجميع الممالك دون استثناء لا آبى ولا سبز ستأخذ إبرة واحدة من اسلحتنا ”
نظر تميم حوله ثم قال بصوت خافت :
” لكن مولاي، نحن بالفعل تعاقدنا مع الملك بارق على صفقة أسلحة كبيرة و…”
نظر لها إيفان بنظرات مشتعلة :
” حتى الإبرة لن تخرج من مملكتي لايًا كان تميم، واضح حديثي ؟؟”
ابتلع تميم ريقه ثم هز رأسه:
” واضح مولاي ”
نظر إيفان صوب سالار الذي كان شارد بشكل مخيف، ثم قال :
” بعد يومين سأجتمع مع الملك بارق والملك آزار وحينها تحين مهمتك سالار، اريد معرفة من منهما قد تورط في مثل تلك الجريمة، رغم أنني اشك…”
ارتسمت بسمة مخيفة على فم سالار يتخيل رأس ذلك الخائن تحت قبضته، ودماؤه تسيل من بين أصابعه :
” سيحدث مولاي، سيحدث .”
______________________
غرفة جميلة من اللون الابيض، واسعة ومتلألئة بشكل جعلها تغمض عيونها مخافة أن تصاب بالعمى إن أطالت النظر بها، تحركت في الغرفة تحاول البحث عن مخرج لها وشعور بعدم الراحة يملئ صدرها، لكن لا مخرج، جميع الجدران مصمتة لا باب بها ..
فجأة ومن لا تدري وجدت أحدهم يتقدم منها، جسد تعلمه جيدًا، جسد كان ملازمًا لها في أحلامها سابقًا، حتى أبصرته في الحقيقة ..
تنفست بصوت مرتفع تشعر بقلبها يكاد يتوقف عن الخفقان، ولا تدري لمشاعرها من سبب سوى أنها ترهب اقتراب ذلك الرجل منها، ورغم كل رهبتها تلك لم يتوقف عن التقدم، ولم تتوقف هي عن التحديق بملامحه غير الواضحة .
وحين أصبح على مقربة منه مال وضمها لصدره بحنان شديد هامسًا بكلماته التي باتت تحفظها عن ظهر قلب وتستطيع أن ترددها دون توقف إن أراد، لكن منه كانت تلك الكلمات مميزة وبشدة لها، بنبرته الدافئة الاجشة التي أصبحت تحاصرها في صحوتها وأحلامها :
” دلم برات تنگ شده ”
ودون أن تشعر هي وكأنها مسيرة وليست مخيرة، لفت ذراعيها حول خصره تستمع بدفء صدره وقد بدأ وجيب قلبها يعلو ويعلو، تنطق دون شعور منها :
” منم دلم برات تنگ شده ”
ابتسم لها ولا تعلم كيف علمت ذلك وهي لا ترى ملامح وجهه، وتدفن رأسها داخل صدره، لكنها تعلم أنه ابتسم وقد ظهر ذلك واضحًا في صوته يتحدث لها واخيرًا بالعربية بنبرة تعلمها وميزتها في ثواني:
” إذن موعدنا قريبًا أميرتي، قريبًا أكثر مما تتخيلين مولاتي ”
اهتز قلب تبارك في موضعه لتلك الكلمات الرقيقة، رفعت رأسها عن صدره تحاول أن ترى ملامحه، لكنه لم يمنحها الفرصة، فقط مال عليها يمنح وجنتها قبلة دافئة، ثم همس لها بصوته المميز :
” قريبًا حبيبتي …”
” مولاتي …مولاتي هل أنتِ بخير ؟؟ ”
انتفض جسد تبارك بقوة عن الفراش عند سماعها صوت أنثوي يناديها ويد تهزها برفق، تنفست بصوت مرتفع وجسدها قد بدأ يرتعش وكأن حمى أصابتها تستغفر ربها، تستغفر وجسدها يترجف بعنف :
” أنا فين ؟؟ ”
نظرت لها الخادمة بأعين متعجبة :
” هل أنتِ بخير مولاتي، هل استدعي الطبيبة ؟؟”
نظرت لها تبارك ثواني وعقلها يعيد لها صور متتابعة مما حدث لها في الأيام السابقة :
” لا لا، اشكرك أنا بخير حال، فقط رأيت حلمًا غريبًا ”
نظرت لها الفتاة ببسمة لطيفة :
” حسنًا مولاتي هناك فستان احضرته لأجلك، وجهزت كذلك المرحاض لأجلك، رجاءً تجهزي فالملك ينتظرك لاخذك في جولة حول القصر ”
رفعت تبارك عيونها للخادمة بلهفة وحماس كبير :
” حقًا ؟؟”
هزت الخادمة رأسها مبتسمة :
” نعم، هيا كي لا تتأخري فهو ينتظرك ”
انتفضت تبارك عن فراشها، ثم تحركت بسرعة صوب المرحاض، والخادمة تركتها ورحلت بهدوء شديد، وقبل أن تخطو تبارك المرحاض توقفت تقول بدهشة :
” لحظة هي مجابتش سيرة الفطار ليه، ولا سألت هفطر ايه ؟؟ هما مش بيفتكروني على الاكل ليه هو أنا مش المفروض الملكة، واتعامل معاملة ملوك، ولا هما اساسا مش بياكلوا في العالم ده ؟!”
نظرت صوب الباب المغلق بعدما اغلقته الخادمة ورحلت وهي تنفست بصوت مرتفع :
” فرقت إيه عيشتي هنا عن عيشتي في الشقة بتاعتي والحارة ؟؟ والله نفس الشي اياكش الكام نفر اللي بيحترموني في المكان ده شوية، والسرير المريح ”
زفرت تدخل الحمام وهي تتمتم بحنق شديد وغيظ مما يحدث معها، ثم فجأة تذكرت الحلم والذي لم تستطع أن تتناقش به مع نفسها لوجود الخادمة، تذكرت تجاوبها به مع ذلك الرجل :
” والله عال يا تبارك، بقيتي تحضني وتتكلمي زيه ولا كأنه جوزك، مش بعيد الحلم الجاي تستنيه على الباب بطبق مايه دافي وفوطة وتغسلي ليه رجله ”
تحركت صوب ذلك المسبح المصغر الذي يتوسط المرحاض، تحدق به في راحة شديدة مرددة :
” لحظات قليلة من النعيم والتمتع كملكة في هذا المكان، وليس كشخص ثانوي …”
________________________
تحرر من قيد رجاله بعدما قرر أن يتفرغ بعض الوقت للجلوس مع الملكة ووضع النقاط على الاحرف، عليه أخبارها بالقرار الذي اتخذه مساء الأمس لأجل تأهيلها لتصبح ملكة .
جلس في الحديقة حيث مكانه المميز خلف القصر ينتظر أن يحضر جنوده الملكة، لكن بدلًا من ذلك لمح امرأة تقترب منه بخطوات متمهلة وهي تقول بصوت منخفض :
” اعتذر لازعاجك مولاي ”
شعر إيفان بأن صوتها مألوف له، ليخطر في رأسه صوت تلك الفتاة الخاصة بالحظيرة، نظر لها وهي تنظر له مباشرة من خلف حجابها دون أن تنظر ارضًا أو تبعد عيونها عنه، وكأن تلك المرأة لا تنحني لأحد ولا تخشاه حتى .
تجاوز إيفان تلك النقطة وهو ينظر لها نظرات عادية :
” نعم، كيف اساعدك ؟؟”
” حسنًا الأمر أنني أردت مساعدتك في مشكلة تواجه جميع العاملات هنا، ولم أجد واحدة منهن تتحدث عنها، ربما يخشون الحديث أو الاقتراب منك ”
اتسعت عين إيفان باستنكار لحديثها :
” وهل أخبرك أحدهم أنني اعض ؟؟ لماذا يخشوف الاقتراب مني ؟!”
” لا ادري ربما لأنك لست ملكًا عادلًا، أو أنك لا تهتم لأمور العاملين لديك، هناك احتمالات كثيرة ”
كان إيفان مصدومًا وهو يستمع لمقدار الظلم الذي يمارسه على العاملين في قصره من فم فتاة الحظيرة، هو ليس بعادل ولا يهتم بهم ؟! هل تمزح معه .
” يبدو أن المشكلة في غاية الخطورة آنستي لتستدعي كل هذا التقريع لي وأنا الملك هنا ”
ضغط إيفان على كلماته الأخيرة في انتظار أن تفاجئه تلك الفتاة المريبة أمامه بأنه وعن طريق الخطأ تسبب في حدوث زلزال في قسم العاملين، أو أنه مثلًا كان السبب الرئيسي في تفشي وباء قاتل بينهم جميعًا .
لكن كل ما خرج منها هو :
” مراحيض العاملين لديك مولاي تفتقر لكافة المقومات الآدمية، لا زيوت عطرية ولا سوائل تنظيف جيدة، مجرد زجاجات لا رائحة لها ولا فوائد، وهذا تعسف منك مولاي إذ أن المراحيض الخاصة بكم تزخر بكل ذلك ”
كانت تتحدث بنبرة جادة وبشدة وقد اتضح في صوتها الغضب دون أن تشعر، وهو فقط كان ينتظر سماع الكارثة التي تسبب بها، ليتضح في النهاية أنه لم يدلل العاملين لديه .
وعلى غير المتوقع انفجر إيفان في موجة ضحك صاخبة لم يستطع التحكم بها، أخفى وجهه بين كفيه وصوت ضحكاته رنّ في الاجواء حوله مما أثار صدمة كهرمان التي نظرت حولها لترى أن أنظار الجنود بدأت تنجذب صوب ضحكاته.
وهو لا يتوقف عن الضحك، يحاول الحديث من بين ضحكاته، لكنه لم يستطع :
” أوه، أنا آسف حقًا، كيف كنت ملكًا لئيمًا لهذه الدرجة ولم ادلل العاملين لدي ؟؟ عارٌ عليّ”
شعرت كهرمان بالحرج من كلماته تلك واستهانته بمصيبتها، هي لا تبالغ إن وصفتها بالمصيبة، فجسدها الذي اعتاد الدلال قد عزف عن استخدام كل أدوات التنظيف الرخيصة واصيبت بطفوح جلدية مريعة .
” أنا لا امزح مولاي أنا حقًا …”
ولم تكمل كلماتها بسبب اصوات ضحكات إيفان الذي وجد صعوبة كبيرة في التنفس بسبب كثرة الضحك :
” أنا أعلم، الكارثة أنكِ لا تمزحين، هذه هي الكارثة صدقيني ”
اعتدل في وقفته بصعوبة شديدة بعدما تمكن من تمالك نفسه حين شعر بأنه لا يجوز عليه الضحك بهذا الشكل جراء شكوى امرأة مقهورة ..
تنحنح بصوت جاهد لجعله متماسكًا :
” معذرة آنستي، لكن فقط شعرت بـ …حسنًا لنتجاوز هذه النقطة، ما الذي تقترحين عليّ فعله كي انال رضى العاملين لديّ ”
شمخت كهرمان برأسها تقول بقوة شديد وكلمات منتقاه وصوت واثق تمنى للحظات وبشكل غبي أن تكون تبارك تمتلك مثلهم، فها هي مجرد عاملة أمامه تتصرف كأميرة، وملكته تتصرف بشكل ….حسنًا تتصرف كتبارك، فهو لم ير يومًا من تتصرف مثلها، لكنه لا يبتأس حقًا ولا يشعر بالخجل أو ما شابه .
” اقترح مولاي أن تضع في مراحيض العاملين كل ما تضعه في مراحيض الطبقة العليا في البلاد ”
نظر لها إيفان ثواني نظرات جعلتها تشعر برغبة في التراجع وانزال رأسها، لكنها لم تعتد أن تنحني يومًا لأحد غير الله، هكذا أخبرها ارسلان .
” حسنًا آنستي، لكِ كامل الدلال أنتِ وجميع العاملين في قصري ”
نظرت لعيونه من خلف حجابها واطالت النظر به تحمد الله أنه لا يراها، ثم همست بصوت منخفض :
” شكرًا لك مولاي، والآن أئذن لي بالرحيل ”
” يمكنك ذلك ”
تحركت كهرمان بخطوات رشيقة هادئة وبشكل جعله ودون إرادته يشرد، ضاقت عيونه وشعور غريب يراوده تجاه تلك الفتاة .
توقفت كهرمان في مشيتها، ثم استدارت ببطء للخلف لتتفاجئ أن الملك يراقبها، هزت رأسها له، وهو ابتسم بسمة جانبية يهز رأسه لترحل ببطء وهدوء وثقة ورشاقة منقطعة النظير.
في المقابل وبمجرد اختفاء جسد كهرمان خرجت تبارك من المبنى نفسه وهي تسير بلا مبالاة، وبشكل متعجل وكأن لديها حرب ستفوتها، تسير وهي تنظر يمينًا ويسارًا بفضول شديد، حتى تعرقلت في حجر أسفل قدمها لينتفض جسد إيفان يهتف بهلع وهو يمد كفه وكأنه سيلحق بها من مكانه :
” يا ويلتي..”
لكن تبارك تمالكت نفسها بسرعة كبيرة تنفض ثيابها ببسمة خجلة من الموقف برمته :
” أنا بخير لا تقلق ”
تنهد إيفان بصوت مرتفع :
” لدينا طريق طويل… أطول مما تخيلت .”
______________________
بعدما انتهت من حديثها مع الملك سارت في القصر وهي تبحث بعيونها عنه وقد قررت أن تذهب للبحث عنه في جناحه دون أن يشعر أحد بها .
لكن ما كادت تخطو كهرمان للجزء المخصص لكبار القادة، حتى سمعت صوت رجل يهتف :
” نعم هو يحتجز العريف داخل المكتبة الآن مصرًا أنه يخفي عنهم شيئًا ”
ابتسم دانيار على كلمات تميم وقد أعجبته فكرة أن يقع العريف تحت رحمة سالار :
” هذا رائع، ليته يتخلص من ذلك الرجل وننتهي منه ”
كانت كهرمان تستمع لكل تلك الكلمات وهي تراقب رحيل تميم ودانيار صوب المكتبة، تستوعب أنهم يتحدثون عن سالار ..
ابتسمت بسمة واسعة وهي تتحرك بسرعة خلفهم خشية أن تضل في الطريق وفي نفسها قد عقدت العزم على التحدث مع القائد اليوم وإن كلفها ذلك حياتها .
____________________
كانت الكتب تتطاير في كل مكان داخل وكر العريف إلى جانب البومة التي كانت تحاول الهرب من ذلك الاعصار الذي ضرب المكتبة، فأصبحت وكأنها في سباق والكتب الطائرة تمثل لها عوائق ..
وصوت العريف الذي يصدح خلفها كجرس الانذار قبل الكوارث .
توقف سالار في منتصف المكتبة وهو يجذب له العريف مرددًا بصوت محذر :
” أنا لست حليم أو حكيم لاصبر على أفعالك يا عريف، أخبرني ما الذي تعلمه وتخفيه عني ؟؟”
نظر له العريف مبتسمًا وهو يحاول الفكاك من قبضته :
” أوه، كل هذا لأجل أنني ابتسمت لك خلال الاجتماع ؟؟ لِم لم تفكر أنني كنت آخذ صدقة لتبسمي في وجهك ها ؟!”
ابتسم سالار يميل عليه أكثر بشكل مثير للرعب :
” هذا لأنك وببساطة لا تطيق أي شخص في محيطك، ولا تحب البشر حتى توزع ابتسامتك على من حولك، والآن تحدث بما تعلم ”
” أنت الآن تتخطى صلاحياتك التي تمنع ايًا كان من اذيتي، حتى الملك بنفسه لا يستطيع فعل ما تفعله الآن بي، أنت لا تحترم سن أو حتى مكانة ”
ابتسم سالار يترك ثيابه، ثم أخذ ينفضها له وكأنه يزيل غبارًا وهميًا عن ثيابه :
” آه، نعم تذكرت أنا من المفترض أن احترمك، الأمر وما فيه أيها العريف أنك تستفزني بشكل يجعلني انسى من أنت وماذا تفعل وكيف يجب أن اعاملك، والآن تحدث بما تعلم كي لا أنسى كل ما نطقت به منذ ثواني ”
فتح العريف فمه ولم يكد يتحدث بكلمة حتى قاطعهم صوت أنثوي خجل من الخلف يهتف بصوت منخفض :
” سيدي القائد سالار احتاج للتحدث معك …”
استدار سالار بدهشة للخلف ليبصر تميم ودانيار وخلفهم، جوار باب المكتبة كانت تقف هي، فتاة لا يعلم من هي، لكن صوتها مألوف وبشدة له .
نظر لها بفضول لتتقدم كهرمان صوبه متجاهلة نظرات الجميع حولها لهم، ومن ثم توقفت في وجه سالار تقول :
” احتاج مساعدتك …رجاءً ”
نظر سالار حوله للجميع، ثم عاد بنظره لها يقول :
” هل اعرفك !!”
” لا لكنني اعرفك جيدًا …….”
______________________
المستقبل بدأ يتغير، وتاريخ المملكة بدأ يُدون، لكن هل سيتم تدوينه كما خُطط سابقًا، أم أن صفحة من كتاب التاريخ ستغير كامل احداث الكتاب ؟؟
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مملكة سفيد)