رواية مملكة سفيد الفصل التاسع والأربعون 49 بقلم رحمة نبيل
رواية مملكة سفيد الجزء التاسع والأربعون
رواية مملكة سفيد البارت التاسع والأربعون
رواية مملكة سفيد الحلقة التاسعة والأربعون
#التاسع_والاربعون
#حفل_زفاف
#ماقبل_الاخير
بعتذر لو كان فيه تأخير في الفصول عن العادة، لكني بحاول التزم بفصل اسبوعيًا بعدما فشلت في اثنين كل اسبوع بسبب ظروف عملي التي تحتم عليّ ساعات تستهلك مني جهدًا، وبمجرد شعوري بأي لحظة راحة وشيكة، اسارع واستغلها للكتابة، كي لا أطيل عليكم، اعلموا أن أي تقصير مني غير مقصود، وبعوضكم بفصل كبير بحجم فصلين من أي رواية أخرى .
صلوا على نبي الرحمة
واخيرًا تفاعلكم على الفصول تقدير منه أنا بقدره، فبشكركم …..
_______________________
تحركت بين ممرات قصر أخيها وهي ترى نظرات الجميع حولها، فمن يخفى عليه في هذه اللحظة، ما فعل ملك سفيد لأجل أميرة مشكى .
وأميرة مشكى تلك المسكينة التي لا تدرك بعد ما حدث منذ ثواني، فعندما أخبرها أرسلان أنه ينتظر ردًا من إيفان على طلبه ليرى بشأن زواجهما، هل كان هذا ما يقصد ؟؟
ورغم إدراكها أن أرسلان لا يهتم لكل هذه المظاهر التي كان يسخر منها يوميًا، إلا أنها تقدر ما فعل ليُعلي من قيمتها بين الجميع .
ضربات قلبها التي كانت تنافس خطواتها اضطرابًا، وصلت واخيرًا صوب الشرفة الأمامية للقصر، لمكان يسمح لها برؤية افضل من شرفة غرفتها، تمسكت بالسور وهي تحدق بأعين مشتاقة على موكب أتى من بلاد رجلٍ ما تخيلت يومًا أن تجمعهما مشاعر .
بالله من يتخيل ؟؟ إيفان ؟! ملك سفيد الذي كان يزورهما أكثر من عدد أنفاسها شهريًا، ويجلس مطولًا مع أخيها ؟! الرجل الذي كانت تقابله في الشهر أكثر من ثلاث مرات تقريبًا، وتكتفي فقط بانحناءة بسيطة وتكمل سيرها دون أن تتوقف لتنظر له ولو بفضول، الآن جاء هذا الغريب سابقًا، الحبيب حاليًا، يطلب ودها ؟؟
اتسعت بسمتها وهي تتذكر قديمًا الحوار الوحيد الذي جمعهما من خلف حجاب، كانت وقتها تعبر أمام قاعة القصر بعد اجتماع جميع الملوك بها بكل هدوء، وكادت تصطدم به وهي تحمل سلال الفاكهة مع بعض العاملات تخفي وجهها ..
” أنا…اعتذر منك جلالة الملك ”
توقفت اقدام إيفان، وهو يتراجع للخلف بسرعة شديدة، يقول بهدوء شديد مبتسمًا بسمة راقية يبعد عيونه ارضًا :
” لا بأس آنستي، هذا خطاي فأنا لم أكن منتبهًا ”
ختم كلماته ينحني للجانب آمرًا رجاله بعيونه بالانحناء بعيدًا عن الطريق كذلك، يشير لها بيده في هدوء شديد مبتسمًا :
” تفضلي ”
هزت له كهرمان رأسها تبتسم بسمة لم تظهر له، لكنها ظهرت في صوتها وهي تمسك طرف ثوبها بيدها الحرة تضم السلة لخصرها مرددة بصوت لطيف ونبرة رقيقة :
” شكرًا لك مولاي، يومًا سعيدًا ”
ختمت ترحل بعيدًا عن إيفان الذي نظر لظهرها بتعجب شديد مبتسمًا:
” هل اتخيل أم أن تصرفات هذه العاملة اقرب للأميرات ؟؟”
لكنه لم يتوقف عند هذا اللقاء القصير، وهي لم تتوقف لتفكر ثانية فيه بعد هذا اللقاء، لكن الله كان قد قدر لهما منذ مولدهما، ألا يكون هذا اللقاء القصير آخر ما يجمعهما، بل كان مجرد مشهد افتتاحي لقصة طويلة بين الإثنين، قصة بدأت باغرب الطرق، فهي لم تبدأ كما هو متوقع بين جدران قصر مشكى في أحد الزيارات مثلًا .
بل بدأ بين جدران قصر سفيد في أحد المبارزات…
فاقت من شرودها على صوت هتاف أرسلان الذي رنّ في القصر بجملته الأخيرة معلنًا قدوم احتفال وشيك، كلمات جعلت ضربات قلب كهرمان تتضاعف وبشدة حتى شعرت أن من حولها يسمع صوتها، ابتلعت ريقها وهي تتحرك بسرعة بعيدًا عن المكان بأكمله تود الاختفاء خجلًا من نظرات الجميع …
لكن وقبل أن تحتمي بغرفتها سمعت صوتًا يقول بهدوء :
” سمو الأميرة، كنت أبحث عنك، لقد طلب الملك وجودك لاستقبال نساء سفيد في الاسفل ”
توقفت مع بدء تباطؤ ضربات قلبها وهي تهز رأسها بهدوء شديد خارجي فقط على الأقل، ثم تحركت بهدوء صوب بوابة القصر الداخلية تخرج بهدوء وثوبها يتطاير خلفها وكذلك حجابها وهي تشعر ببرودة مفاجئة تصيب اوصالها، ولم تدري إن كانت تلك برودة بسبب الأجواء، أم هي البرودة التي أصابتها بسبب نظراته الموجهة لها .
رفعت عيونها ببطء تبصر وقوف أخيها أمام رجال سفيد، ثم قال بهدوء وهو يرى وصولها :
” كهرمان، قودي النساء صوب الداخل رجاءً ”
هزت كهرمان رأسها وهي تشعر باوصالها ترتعش من هول الموقف، وشعور داخلها يخبرها أن الجميع الآن ينظر لها الأن ..
وفي الحقيقة ربما كان الجميع ..هو فقط .
تحركت بهدوء تستقبل النساء بكلمات غير مرتبة تقودهن صوب الداخل تشغل نفسها بهن عن وجوده جوارها، لكن وبمجرد أن خرجت النساء من العربة حتى سارعت زمرد تحتضن كهرمان وهي تهتف بصوت مسموع :
” زوجة أخي الحبيبة، اشتقت لكِ ”
اتسعت أعين كهرمان تستقبل أحضان زمرد بصدمة وهي تشعر برغبة عارمة في قتل تلك القذرة التي لا نختلف في خبثها عن شقيقها الذي عض شفتيه يبتسم وهو ما يزال ينظر ارضًا، فقط كبت ضحكته بصعوبة على كلمات زمرد، وتعليق أرسلان :
” يا ويلي من هذه العائلة، هيا كهرمان خذي النساء للداخل ”
هزت كهرمان رأسها بوجه أحمر من الخجل وفي داخلها تتوعد بالويل لزمرد التي انستها الترحيب بالباقيات .
وأثناء تحركهم نظر سالار بطرف عيونه صوب تبارك التي كانت تتحرك مع النساء مرتدية ثوب مثلهن، كانت كما لو أنها ولدت وعاشت حياتها بين الممالك، ابتسم حين تذكره أنه هو من اختار لها الثوب، في الحقيقة هو من يختاره لها طوال الوقت وحتى تعتاد هي ما يجب ارتداؤه..
” أيها الرجل الأحمر، أين شردت ؟؟”
استدار سالار بسرعة صوب أرسلان يقول بانتباه :
” ماذا ؟؟ هل قلت شيئًا ؟؟”
” نعم عزيزي، أخبرتك أن تتحرك معي للداخل لتتلقى ضيافتك ”
تنحنح سالار وهو يقول بصوت خافت بعض الشيء :
” لا بأس فقط اسبقوني أرسلان سأطمئن على أوضاع زوجتي واعود لكم ”
” ألا تثق بضيافة الأميرة، سالار ؟؟”
نظر له سالار ينفي برأسه، يحاول القول أن الأمر لا يعتمد على ضيافته أو ضيافة شقيقته، هو فقط …لا يطمئن في مكان إلا بعدما يطمئن أن تبارك بخير وكل أوضاعها بخير، ربما هو شعور لا ارادي داخله، فقط يطمئن أنها بخير وكل أمورها بخير، ثم حينها يبدأ التنفس والتفكير بشكل طبيعي .
” معاذ الله أن أفعل وانتم أهل كرم أرسلان، لكن الأمر أنني لن اطمئن إلا بعدما أرى أوضاع زوجتي بنفسي، لنصنف الأمر مرضًا إن أردت ”
رفع أرسلان حاجبه بتعجب من كلمات سالار، ثم قال وهو يشير صوب أحد الحراس :
” قد القائد سالار صوب الجناح الغربي الخاص به يا فتى ”
ابتسم له سالار بسمة صغيرة، ثم تحرك بسرعة تحت نظرات الجميع، ليبتسم دانيار بخبث شديد وهو يردد متحركًا :
” وأنا أيضًا سأذهب لاطمئن على زوجتي و…”
وقبل أن يتحرك امسكه إيفان يعيده جواره وهو يقول ببسمة :
” تطمئن على من يا بني ؟؟ امثال زوجتك لا نطمئن عليهن ممن حولهن، بل نطمئن على من حولهن منهن ”
نظر له دانيار ينزع يده وهو يردد ببسمة :
” إذن اسمح لي مولاي، سأذهب للاطمئنان على من حولها منها ”
وختم حديثه بالتحرك بسرعة دون أن يدع لإيفان فرصة للحديث، بينما مهيار انسحب بهدوء دون أن يشعر به أحدهم، وقد استغل ميزة هدوءه المعتادة والتي تجعل الجميع ينسون وجوده حتى، ليهرب ويذهب ليطمئن على صحة زوجته التي كانت هذه أول رحلة لهما سويًا بعد الزواج …
ولم يتبقى سوى تميم الذي نظر له إيفان يقول وهو يشير بكفه صوب الداخل :
” أذهب واطمئن على زوجتك تميم ”
ابتسم له تميم يجيب بجدية كاذبة وشوقه لبرلنت يظهر في عيونه واضحًا :
” حسنًا الأمر أنني فقط لا أود أن تنتبه زوجتي أن الجميع ذهب يطمئن على زوجته عداي، والله لتحيلن المتبقي من حياتي لجحيم، لذا أنا مضطر للذهاب وتقليد الجميع، وداعًا ”
تحرك سريعًا بعد كلماته ولم يتبقى سوى الأربعة ملوك، استدار أرسلان صوب إيفان يقول ببسمة واسعة :
” ما كان عليك تكبد كل هذا العناء إيفان ..”
نظر له إيفان باستنكار وهو يتحدث حانقًا :
” هذا ليس عناءً إن كان المقابل زوا….”
وقبل أن يكمل كلماته قاطعه أرسلان بصوت مستفز وبسمة أكثر استفزازًا :
” لم يكن عليك تكبد العناء وإحضار كل هذه الهدايا لأجل زيارة ودية فقط إيفان، لكن ماذا نقول وانتم يا أهل سفيد أهل كرم ”
ابتسم إيفان بسمة غير مصدقة وكأنه لم يسمع ما قيل، يقترب خطوات متحفزة من أرسلان مرددًا كلماته باستنكار :
” زيارة ودية ؟؟”
” صحيح، أوتطمح لأكثر من هذا ؟!”
اتسعت أعين بارق وازار الذي ردد وهو يسحب يد بارق بعيدًا:
” تعال بارق سوف نذهب لنترتاح قليلًا حتى ينتهون من هذا الهراء، فأنا أعلمه جيدًا وجربته من قبل، في النهاية سينتهي الأمر بخروج إيفان من القصر ومعه الأميرة ”
ختم حديثه ببسمة ساخرة يتجاوز الجميع مع بارق وهو يتذكر موقف مشابه للقائد جوبان الذي جاء وسرق منه عائش الصغيرة وخرج بكل وقاحة من قصره بها فقط لأنه تزوجها ..
بينما إيفان ما يزال يقف يشير على الجميع حوله قائلًا بهدوء مصطنع :
” وهذا الاحتفال حولنا ؟!”
” اه هذا ؟؟ نعم هذا احتفال بذكرى نطقي اولى كلماتي حين كنت طفلًا صغيرًا، في مثل هذا اليوم منذ أكثر من ثلاث عقود نطقت كلمتي الاولى ”
صمت ثم قال ببسمة واسعة يوضح بها كلمته الاولى فخورًا :
” حقير ..”
هز إيفان رأسه وهو يقول :
” أوه نعم، حقير، حقًا حقير أرسلان ”
ختم كلماته ينقض على أرسلان الذي تراجع للخلف مبتسمًا بسمة مستفزة وإيفان فقط يصرخ في وجهه :
” والله إن لم تزوجني إياها لاجعلن ذكرى اولى كلماتك آخرها أرسلان ”
نظر أرسلان ليده التي تمسك بتلابيبه، ثم انفجر في الضحك يقول :
” هذه نقطة تُحسب لي، أن استفزك كلك ببرودك لهي نقطة تُحسب لصالحي، مرحى لي ”
دفعه إيفان للخلف يشير بإصبعه في وجهه بتحذير مدركًا كم تغضبه هذه الحركة وبشدة :
” سوف أريك الويل إن لم اخرج من هذا القصر بما جئت لأجله”
نظر أرسلان لاصبعه بغضب شديد، ثم رفع يده يصفع يد إيفان مرددًا :
” خسئت أنت واشباهك الأربعين إيفان، لا تهددني وإلا اقسم بالله أحيلن ليلتك لجحيم ”
نظر له إيفان يدرك أي مختل هو لينفذ تهديده، لكن هل يخضع هو له ويصمت ؟؟ بل فقط ابتسم بسمة واسعة يردد :
” إذن كن أرسلان لطيفًا ودع ليلتي وليلتك وقبلهم ليلة شقيقتك تمر على خير ”
رفع أرسلان حاجبه وقبل أن يتحدث بكلمة، وضع إيفان يده على كتف أرسلان يسحبه له بود و مشاكسة، ثم تحرك به صوب الداخل مبتسمًا :
” والآن تعال نتناقش في الداخل حول تجهيزات الزفاف يا خال ولي عهدي ..”
_____________________
تقف أمام المرآة تتأمل تلك الغرفة البسيطة التي تتنافى تمامًا مع أجواء القصر التي تنبض بالبزخ، تتذكر كلمات كهرمان لها وهي ترشدها صوب الغرفة التي يحتلها سالار في كل زياراته لهم :
” حسنًا قد تبدو غرفة صغيرة متواضعة بعض الشيء، لكن ماذا نفعل وزوجك زاهدٌ لا يحب سوى هذا المكان لانعزاله التام عن جميع الغرف ”
صمتت كهرمان وهي تميل هامسة بصوت منخفض :
” لا اخفيكِ سرًا فالجميع هنا يلقب زوجك بالوحش، معتقدين أنه يفضل غرفة بعيدة لأنه يتحول مساءً ولا يود أن تُكشف حقيقته ”
خرجت تبارك من أفكارها وهي تحدق في الغرفة ضاحكة :
” تبدو غرفة صالحة لتحول أحدهم ”
صمتت فجأة تستوعب ما قالت منذ ثواني :
” ايه ده ؟! أنا بكلم نفسي بالفصحى ليه ؟؟”
نظرت حولها بسرعة تشعر بالغباء من الأمر وبشدة، ثم ابتسمت وهي تفكر أن كثرة جلستها معهم جعلتها تتقن الفصحى كما لو أنها وُلدت وتعرعرت على أيدي شعراء مخضرمين، حسنًا في أغلب الأحيان على الأقل، فهي يأتي عليها لحظات لا تُحسن انتقاء كلماتها.
فجأة سمعت صوت طرق على باب الغرفة تحدثت بانتباه :
” من ؟؟”
” هذا أنا تبارك ”
تعجبت تبارك حين سماعها صوت سالار لتتحرك صوب الباب تفتحته بسرعة سامحة له بالدخول :
” سالار ؟! بتخبط ليه ؟؟”
نظر لها سالار يتحرك داخل الغرفة يغلق الباب خلفه مجيبًا بهدوء وبسمة صغيرة :
” لم اود افزاعك بدخولي دون مقدمات عليكِ، لكلٍ خصوصياته حتى على الزوج تبارك ”
ختم حديثه يميل مقبلًا وجنتها بحب هامسًا :
” عسى طريقك كان مُيسّرًا عزيزتي ”
رفعت تبارك عيونها له تقول ببسمة :
” كان في غاية اليسر، قضيناه في الحديث ولم نشعر بطوله ”
ابتسم لها بحنان ثم تحرك ينزع عنه سترته الخارجية وهي فقط تنظر له ثواني قبل أن تقول بفضول :
” سالار ؟؟”
استدار لها سالار منتبهًا لتتساءل بما كانت تفكر به طوال الوقت :
” لماذا تناديني دائمًا عزيزتي ؟؟”
ابتسم سالار متعجبًا وهو يكمل خلع ثيابه مجيبًا ببساطة :
” لأنكِ عزيزتي، ألا تعجبك تلك الكلمة ؟؟”
ابتسمت له تقول بجدية :
” لا، لكن لِمَ هذه الكلمة تحديدًا، أعني أنت لم تناديني يومًا حبيبتي أو شيء من هذا القبيل ”
ابتسم يترك ثيابه جانبًا، ثم تحرك لها عاري الجذع وهناك نظرات غامضة لم تفسرها بشكل صحيح تلوح على وجهه، أو أنها بالفعل فسرتها، لكنها خشيت أن تصرح له أنه يبدو في هذه اللحظة خبيثًا وقحًا، فيخبرها أنه ليس هكذا وأنه برئ كما يقول دائمًا .
” إذا أردتِ أن اناديكِ حبيبتي سأفعل، لكنني أرى أن عزيزتي أفضل، فأنتِ لستِ مجرد حبيبة، هذا اللقب الذي قد نطلقه على أيٍ كان، بل أنتِ عزيزة على القلب ولا عزيز له سواكِ ”
” أوه، هذا يبدو رومانسيًا للغاية، و…”
توقف حين أبصرت اقترابه منها لتقول بشك :
” سالار أنت ستتواقح ؟؟ لا أريد ظلمك ككل مرة واخبارك أنك وقح .”
ابتسم سالار بسمة صغيرة يجذبها صوبه بسرعة من خصرها وهي اتسعت عيونها بصدمة من حركته المفاجئة، ليصارحها هو بكل براءة لا تليق أبدًا بكلماته التي أخرجها من فمه :
” حسنًا هذه كانت المرة الوحيدة التي يمكنك وصفي فيها بالوقح وستصدُقين ”
نظرت له تبارك ثواني وكأنها تحاول موازنة الكلمات في رأسها، أخذ منها الأمر دقيقة ترقبها فيها سالار بصبر حتى تصل لمغزاه، وبمجرد أن اتسعت عيونها بصدمة كبيرة ابتسم يقول :
” نعم بالضبط ”
شهقت تبارك تصرخ بصدمة :
” سالار … أنت منهم ؟؟”
نظر لها سالار بعدم فهم :
” مِن مَن ؟؟”
” من الرجالة اللي هما مش صافيين ؟؟”
” ماذا تعنين ؟؟ أنا صافٍ خالٍ من الشوائب تمامًا ”
رفعت حاجبها وهي تحاول دفعه :
” التصاقك بي بهذه الوقاحة وهذه الكلمات لا تخبرني هذا سالار، أنت وقح ”
تأوه سالار باستنكار :
” ماذا؟ اقسم أنني لا اتواقح أنا اتصرف بشكل طبيعي، أنتِ امرأتي، وهذه غرفتنا وحدنا، أي تصرف تودين أن اتخذ في هذه الحالات إن لم التصق بكِ ؟؟”
نظرت له تبارك ثواني وكأنها تبحث عن إجابة لسؤاله في رأسها، ثم نفت دليلًا أنها لا تمتلك إجابة، وهذا منح سالار نصرًا يقول :
” ها رأيتِ ؟؟ كنت محقًا، والآن هيا ادخلي لاحضاني الدافئة، سأمنحك بعضًا من قوى الحب عزيزتي ”
ابتسمت تبارك تلقي نفسها بين أحضانه وهي تضحك بخفوت على كلماته، وذلك اللقب الذي أضحى يطلقه على أحضانه منذ ما حدث منذ ايام، في زيارتهم الأخيرة قبل أن يعودوا هنا، تلك الزيارة التي أجلتها سنوات بحثًا عن الوقت المناسب، حتى وجدته برفقته، برفقة زوجها …
عادت بذاكرتها لذلك اليوم، إذ توقفت جوار سالار في الطريق، لينظر لها سالار بفضول :
” إذن ما الذي نفعله هنا ؟؟ ”
ابتسمت بسمة صغيرة تشير صوب أحد المنازل مرددة :
” هناك من أوصاني بأن أوصل رسالته، وأنا أردت أن أفعل بما أننا عدنا لهنا، لا أود أن اخلف وعدي، فقد وعدته أن رسالته ستصل، وانتظرت وقتًا مناسبًا ولا أجد انسب من وقتٌ أنت معي به”
لم يفهم سالار مقصدها بالكامل، لكنه رغم ذلك هز رأسه يتحرك معها صوب أحد المنازل، توقفت تسمع صوت سالار يتساءل بفضول لم يكن يصيبه البتة إلا عندما يتعلق الأمر بها هي .
” من صاحب الرسالة ؟؟”
نظرت له تبارك تقول ببسمة :
” فتاة صغيرة كانت رفيقة لي في الملجأ الذي تربيت به، وقد …اوصتني أن أوصل الرسالة هذه نيابة عنها”
ختمت حديثها تطرق الباب وهي تنتظر أي رد، ثواني هي حتى فتح لها أحد المراهقين الباب ينظر لها بفضول قبل أن يبتسم يقول :
” أنتِ الكوافيرة اللي هتمكيج صابرين ؟!”
نظرت له تبارك بعدم فهم :
” كوافيرة ؟؟”
ولم تكد تتبع تلك الكلمة بثانية حتى توقف سالار أمامها يشكل حاجزًا بينها وبين هذا المراهق الفارع الطول يقول بهدوء :
” لا اسمح لك بسب زوجتي يا هذا، فالتزم حدودك كي لا ينالك مني ما لا يسرك ”
رمقه الفتى بعدم فهم يفتح فمه باتساع مرددًا :
” ها ؟؟ نعم ؟؟”
” نعم ماذا ألا تفهم حديثي ؟؟ تلك السبة التي القيتها على مسامع زوجتي لا تكررها وإلا كانت كلمتك الأخيرة ”
نظر الفتى خلفه صوب المنزل وهو يتحدث بصوت مرتفع :
” ماما، فيه واحد بشعر احمر واقف بيكلمني زي الناس بتوع النشرة الجوية ”
جذبت تبارك طرف كم سالار وهي تحاول إجباره على الانحناء صوبها لتهمس بصوت منخفض :
” سالار، كوافيرة هذه ليست سبة عزيزي، هذه وظيفة”
” وظيفة سيئة ؟؟”
” لا وظيفة عادية، تزيين النساء عزيزي، كما رأيت في الطرقات هذه الزينة على الوجه، هذه هي الوظيفة ”
” إذن هي سيئة..”
صمت ثم عقب بصوت منخفض :
” ثم أنا لم أرى أي نساء، لا أسير محدقًا بالنساء”
ختم حديثه في الوقت الذي خرجت به سيدة في منتصف سنوات عمرها تقول بتعجب وهي تدفع ابنها صوب الداخل :
” ادخل خد من اختك الفستان وروح اكويه، خلاص المغرب هيأذن وأهل العريس هيجوا، خلينا نخلص قبل الخطوبة ”
ابتسمت تبارك بسمة صغيرة وهي تنظر لوجه تلك المرأة التي انتبهت تقول :
” أيوة، عايزين حد ؟؟”
صمتت ثم قالت وهي تحدق في تبارك :
” أنتِ جاية عشان خطوبة صابرين يا حبيبتي ؟؟”
نفت تبارك برأسها وهي تقول ببساطة تخرج ورقة كانت تحتفظ بها في خزانة العمل لتسلمها إلى صاحبها، مدتها للمرأة تقول :
” لا يا طنط هو أنا بس كنت جاية اوصل رسالة ليكِ من شخص معين ”
نظرت لها السيدة ثواني، ثم حركت عيونها صوب يد تبارك تمسك الورقة بعدم فهم :
” رسالة ؟؟ ليا أنا ؟؟”
هزت تبارك رأسها تقول :
” مش حضرتك مدام فرح ؟؟”
هزت فرح رأسها وهي تقلب الرسالة بين أناملها بفضول شديد :
” أيوة، أنا ”
” تمام الرسالة دي ليكِ، فيه شخص سلمها ليا وطلب مني اسلمها ليكِ شخصيًا واقولك أنه كان نفسه يسلمها ليكِ بس مقدرش ”
نظرت السيدة للورقة وسارعت بفتحها بفضول ولهفة، تمر عيونها على الكلمات ليشحب وجهها فجأة ويهتز جسدها بقوة وهي تتراجع للخلف لولا الجدار خلفها لكانت سقطت ارضًا وقد اتسعت عيونها بصدمة وهي تهمس بصوت جاء من بئر سحيق :
” ده …ده …هي …هي فين ؟؟ اللي عطيتك الرسالة دي فين ؟!”
نظرت لها تبارك ببسمة صغيرة تقول بهدوء وشفقة على تلك السيدة :
” هي …ماتت، ماتت وكان آخر حاجة وصتني بيها إني اسلمك الرسالة دي واقولك أنها كانت بتحبك اوي، ورغم كل اللي حصل فضلت تحبك لغاية آخر يوم في حياتها، وماتت وهي لسه بتحبك، وكانت …كانت مستنياكِ لغاية آخر لحظة ”
سقطت دموع السيدة وهي تشهق بعنف وقد بدأت دموعها تهبط بقوة تراقب رسالة خطتها بيدها منذ سنوات طويلة توصي فيها الملجأ على الاعتناء بابنتها الرضيعة وهي تتركها أمام أبوابه وتهرب، الآن تحمل بيدها رسالتها تحتوي كلماتها وكلمات إضافية ردًا من ابنتها كلمات حطمتها وهي تقرأها .
كتبت هي منذ ثواني ( خدوا بالكم منها كويس )
وردت طفلتها بخط طفلة شبه متعرج ( محدش أخد باله مني، كنت مستنياكِ ترجعي عشان تاخدي أنتِ بالك مني )
لكن هل عادت ؟؟
بل تناست أنها تركت خلفها طفلة، كادت تنسى الأمر برمته بعد الزواج وانجابها ثلاث اطفال آخرين أكبرهم ستُخطب اليوم .
شهقت السيدة بعنف مما رأت، لتسقط ارضًا تحت أنظار سالار المفزوعة، وقبل أن يتحرك خطوة شعر بيد تبارك تمسك كفه وهي تجذبه للرحيل :
” البقاء لله يا مدام فرح، بنتك كانت بتحبك …تقدري تكملي حياتك عادي وبعتذر لو نكدت عليكِ في يوم زي ده، بس مكنش عندي علم أنك عندك مناسبة ومكانش ينفع امشي من غير ما اسلم الأمانة، عن أذنك ”
ختمت حديثها تستدير بسرعة وهي تتحرك بسالار بعيدًا وقد بدأ جسدها يهتز وعيونها تمتلئ دموع تسمع صوت سالار يردد بصدمة مما يرى :
” ما الذي يحدث ومن هذه تبارك ؟؟”
سقطت دموع تبارك بقوة تهتف من بين شهقاتها :
” امي …”
اتسعت أعين سالار بصدمة يستدير صوب تلك المرأة التي التف حولها البعض يحاولون أن يفيقوها يهمس بصدمة كبيرة :
” والدتك ؟؟ كيف …كيف …أنتِ أخبرتها أن صاحبة الرسالة ماتت ”
نظرت تبارك لعيونه باكية :
” نعم هذا صحيح، تلك الطفلة التي كانت تحتفظ برسالة والدتها ماتت منذ سنوات طويلة سالار، تلك الرسالة الاخيرة التي تركتها مع رضيعة بعمر ايام توصي عليها غرباء وهي والدتها ونبذتها، لقد …لقد نبذتني ونستني، عاشت حياتها وكأن شيئًا لم يكن”
توقفت تقول بصوت مذبوح تصرخ بوجع مشيرة لنفسها :
” كان عندي امل، كان عندي امل غبي إن اجي الاقيها فاكراني أو على الأقل في لمحة حزن في عيونها على بنتها اللي رمتها، أنا لغاية آخر لحظة كنت مستنياها يا سالار، كنت مستنياها تيجي تقولي أنا آسفة وأنا والله العظيم كنت هسامحها ”
ختمت حديثها تنفجر في بكاء عنيف ليجذبها سالار صوب أحضانه بقوة يهمس لها بصوت حنون :
” لا بأس، لا بأس، أنا هنا، أنا هنا، إن نبذك العالم، فلعنة الله على ذلك العالم ولارحب أنا بكِ بين احضاني، ولتكتفي بها عالمًا عزيزتي ”
استمر بكائها دقائق، حتى تمتمت تبارك بكلمات غير مفهومة بسبب دفنها وجهها بين احضان سالار، ليبعدها الاخير يتساءل بعدم فهم وهو يمسح دموعها:
” ماذا قلتي ؟؟”
نظرت له تقول بصوت خافت من شدة بكائها :
” كان …كان نفسي تحضني زي أي أم ما بتحضن عيالها، كان نفسي اعرف يعني ايه حضن الام سالار ”
تأوه سالار يجذبها لاحضانه مرددًا :
” لا بأس يمكنك الاستغناء عن الجميع وأنا سأعوضك عزيزتي، استغني عن العالم بي، أما عن الاحضان فأنا كفيل بجعلك تكتفين ذاتيًا من الاحضان، سأمنحك ما تشائين منها”
ابتسمت تبارك تهمس له باستكانة :
” أنا بالفعل اكتفي باحضانك عن العالم سالار، احضانك تنسيني كل ما يدور ”
ابتسم يهمس لها بمزاح :
” نعم هذه تسمى قوى الحب عزيزتي ”
أطلقت تبارك ضحكات خافتة ليقبلها بلطف يفكر أنه سيتحدث معها لاحقًا عن كل شيء، لكن ليس الآن، ليس وهي بهذه الحالة .
تنهد ينظر حوله، ها هي مهتهم في هذا العالم انتهت، وقد حان واخيرًا وقت العودة، فقط ليبتعد بزوجته عن جميع من يبكيها، وعلى ذكر العودة .
” أين هما هذين الاحمقين ؟؟”
أفاقت تبارك من أفكارها على هزة من يد سالار الذي ابتسم قائلًا :
” الم أخبرك أن أحضاني كالسحر، انظري لنفسك، لقد سُحرتي داخلها بالكامل ”
ابتسمت تبارك بسمة واسعة :
” كل ما بك يسحرني سالار ”
اتسعت بسمة سالار يقول بجدية :
” هذا اطراء مستعد أن اسمعه كل يوم دون أن أمل، يسعدني أنني افعل مولاتي ..”
مدت تبارك يدها بتردد قبل أن تتحسس وجه سالار الذي اشتد جسده بترقب يستشعر لمساتها له وقد كاد يذوب منها، وهي فقط ابتسمت تقول :
” لطالما فعلت يا قائد …..”
____________________
أن تأتي لمشكى وتقطن بقصر الملكي، شيء لم تعتاده بعد ولا تظن أنها ستفعل، هي في الحقيقة لم تستوعب بعد أنها زُفت لمهيار من الأساس .
ابتسمت بسمة واسعة، تتذكر ما حدث …
خرجت من منزل والدها وزُفت حتى القصر حين أصر مهيار أن يتم عقد القرآن هناك، زُفت في عربة جميلة استأجرها مرجان لها خصيصًا، مرجان العزيز الذي كان سيبكي ذلك اليوم وهو ينظر لها كل ثانية بأعين دامعة يصارع نفسه كي لا ينفجر بالبكاء أمام الجميع .
وصلت عربة العروس صوب القصر لتتسع أعين ليلا بصدمة هي وعائلتها _ عدا والدها _ من رؤية ما حدث ليستوعب الجميع فجأة أن هذا لم يكن عقد قرآن، بل كان زفافًا ؟؟
خدعهم الطبيب وفعلها، باتفاق مع شقيقه ووالدها خططوا لزفافها مباشرة دون المرور بمرحلة عقد القرآن.
وحين توقفت أمامه مصدومة تتساءل عما يحدث، ابتسم لها أكثر بسمة بريئة في هذه الحياة وهو يقول بلطف :
” حسنًا آنستي، في الحقيقة رأيت أن الجميع حولي يعقد قرآنه دون الوصول لمرحلة الزفاف، حتى بدأت اعتقد أنها ربما لعنة أصابت رجال هذا القصر؛ لذا فكرت أن أكون أول من يكسر هذه اللعنة ويبدأ مباشرة بمرحلة الزفاف و……”
صمت ثم أشار خلفه للاحتفالات التي أقامها دانيار لأجله :
” مرحبًا بكِ في زفافك، بالله لقد انرتيه وانرتي القصر”
وكان هذا أكثر شيء عبثي سمعته ليلا في حياتها، لكن عبث محبب جعلها تبتسم دون وعي، ودون انتباه لنظرات مرجان الذي كان يقف جوارها يعقد ذراعيه باعتراض على ما يحدث جواره بينما والده يحاول التحدث له وإقناعه، وهو فقط لا يفكر سوى أن الطبيب سلبه شقيقته .
في تلك اللحظة سمع الجميع صوت ضرب الدفوف وصوت غناء مرتفع، والنساء تحركن صوب ليلا لجرها صوب غرفة للتجهز لعقد القرآن في البداية .
ومهيار فقط يتابعها ببسمة واسعة وسعادة طاغية قبل أن يشعر بيد تجذبه وسط بعض الرجال يغني ويراقصه، وبالطبع لم تكن تلك اليد سوى لشقيقه الحبيب الذي كان سعيدًا أكثر منه حتى، وعده دانيار وأوفى بوعده ….
وبعد دقائق استطاع الجميع الإفلات واخيرًا من حصار دانيار لهم بالغناء والتصفيق، تحركوا صوب المسجد لعقد القرآن .
وأثناء ذلك كان مرجان يقف جانبًا وهو يراقب والده يردد خلف الشيخ مع مهيار كلمات موافقته على الزواج .
وهو فقط يضم ذراعيه لصدره يكتم دموعه بصعوبة، يرفع كفه كل ثانية يمسح دمعه، ومن ثم يتنفس بعمق يسمع بأذنه كلمات منح شقيقته لرجل ليسلبها منه .
وبمجرد أن سمع صوت المأذون يتمم عقد القرآن، سقطت دموعه ليشعر بيد تربت على كتفه :
” ما بك يا مرجان، أليست هذه ليلا التي كنت تتشاجر معها كل ليلة وصباح، تماسك يارجل وانظر للجانب الإيجابي هي ستصبح معك هنا في القصر وقت أطول ”
استدار مرجان يرمق العريف بحزن شديد يهمس :
” لقد أخذ مني شقيقتي ”
وقبل أن يجيبه العريف سمع صوت والده يناديه ليسلم ليلا لمهيار .
مسح مرجان دموعه، ثم تحرك بسرعة صوب شقيقته كي لا يتأخر عليها، وبمجرد أن ابصرها تقف بين الجميع تتلقى التهاني ابتسم لها بحنان، وهي استدارت له مبتسمة واقتربت منه لتعانقه، وبمجرد أن ضمته حتى انفجر مرجان بالبكاء يضمها بقوة، وليلا تشعر بالدموع تلسعها وهي تربت على كتفه، ومرجان يبكي .
كان لا يمر يوم دون أن يتشاجرا، بل ويتضاربا، لكن في النهاية هي شقيقته التي شاركته عمره بأكمله، شاركته لحظات حزنه وفرحه، الأن حين يعود حزينًا للمنزل لن تقفز له لغرفته بالطعام لتسعده، لن تظل تقفز كل ثانية لتزعجه .
كل تلك الذكريات سويًا مرت على مرجان ليزداد بكاؤه، وليلا تردد بحب :
” والله لن ابتعد مرجان، سوف اظل كما أنا وسأقفز لك كل ثانية في المكتبة حتى يطردنا العريف سويًا ”
ضحك مرجان من بين دموعه يبتعد عنها يمسح دموعها مرددًا بحب :
” أنتِ تبدين جميلة، هذا ما نسيت اخبارك به منذ الصباح، مبارك جميلتي ”
ابتسمت له ليلا بسعادة، ليمد هو يده يطلب منها أن تتأبط ذراعه، ثم تحرك بها .
البارحة فقط كان يمسك يدها ليساعدها على تعلم أولى خطواتها، واليوم يمسك يدها ليزفها لعريسها، الحياة اسرع مما نتخيل .
وقف مهيار في منتصف ساحة المسجد يضم كفيه خلفه منتظرًا أن تطل عليه رفقة والدها، وقد حدث لتتسع بسمته دون تصديق يهتف وكأنه مسحور :
” يا ويلي أبالفردوس أنا ؟؟”
نظر له دانيار مبتسمًا بسمة واسعة يقول بهمس :
” شعور جميل ها ؟؟ أدرك ما تشعر به في هذه اللحظة ”
وبمجرد أن توقفت ليلا أمام مهيار ظل يحدق فيها بانبهار شديد وكأنه لا يصدق أنها أضحت زوجته، فقط يراقبها ببسمة واسعة، وكل ما استطاع فعله هو أن مد كفه لها بتوتر يقول :
” مرحبًا ”
تشنجت ملامح دانيار وهو يجذب له مهيار يهمس بحنق :
” مرحبًا من أيها الاحمق، هل تقابل رفيقًا لك بعد عودته من السفر ؟؟ هذه زوجتك يا بني ”
نظر له مهيار بتوتر يشعر أنه نسي جميع أساليب التعامل في مثل هذه المواقف، ليهز رأسه بسرعة وهو يقترب يفتح ذراعيه ليعانقها، لولا يد دانيار التي جذبته بسرعة وهو يقول بتدارك :
” تعال هنا يا مصيبة، ما الذي تفعله مهيار ؟؟ ليس هنا يا بني، خذ زوجتك وانعزل بها في الغرفة الملحقة ”
زاد توتر مهيار الذي لم يكن يستوعب ما يحدث ليشير صوب ليلا أن تسبقه يقول بصوت خافت :
” حسنًا اسبقيني آنستي ”
نظر له دانيار يمسح وجهه يهتف :
“يبدو أنني تسرعت بالزفاف، الفتى أصبح احمقًا من صدمته ”
ربت على كتف مهيار يردد وهو يوفر بضيق :
” أذهب يا بني، اذهب لزوجتك ”
ابتسم له مهيار بسمة واسعة ثم تحرك بسرعة صوبها، لكنه توقف فجأة وعاد يضم دانيار بقوة :
” احبك كثيرًا أخي ”
اتسعت بسمة دانيار وزادت سعادته وهو يربت على كتفه، ثم دفعه صوب زوجته، ليمسك مهيار بكفها يستشعر ارتجافتها، وفي الحقيقة هو لم يكن أقل منها، لكنه تماسك أكثر يميل عليها هامسًا :
” مرحبًا بكِ في حياتي آنستي. …”
” بما أنتِ شاردة ليلتي المضيئة ؟؟”
خرجت ليلا من أفكارها على صوت خلفها ويد امتدت تحتضن خصرها، ابتسمت تقول ببسمة صغيرة :
” كنت شاردة بيوم الزفاف، أنا حتى هذه اللحظة لا استوعب أنني أصبحت زوجتك مهيار، وربما لن افعل قريبًا ”
ابتسم مهيار يقبل كتفها ثم استند عليه بذقنه يردد :
” سيسعدني أن أقدم لكِ كامل الإثباتات لتصدقي أنكِ الآن اضحيتي زوجتي رسميًا ليلتي الجميلة .”
ابتسمت تقول بمزاح :
” لا بأس لك كامل الوقت لتقدم اثباتاتك سيدي الطبيب ….”
_____________________
” أنت لن تجعل هذا يمر بالطريقة السهلة صحيح ؟!”
رفع أرسلان عيونه صوب إيفان الذي كان يجلس أمامه على طاولة الطعام ما جميع الرجال بعدما جمعهم لتناول الغداء .
عاد ونظر صوب طبق الطعام أمامه:
” ماذا ألم تعجبك اطباقنا ملك إيفان ؟!”
ابتسم له إيفان ينظر له بشر وهو يستند بظهره على ظهر المقعد يضم ذراعيه لصدره يتحفز، بينما سالار يتناول الطعام بكل هدوء وكأن لا شيء يحدث حوله، بل فقط أخذ يلتقط ما يريد ويتناوله بشهية مفتوحة يراقب باستمتاع ما سيحدث وكأنه يشاهد فيلمًا .
” أرسلان لا تتلاعب معي، متى الزفاف ؟!”
ابتسم أرسلان وهو يشير له على الطعام :
” تناول طعامك إيفان، لا تجعلني أشعر أن طعامنا لا يعجبك، هذه وقاحة ”
نظر له إيفان ثواني، قبل أن يذكر اسم الله ويحمل ملعقته وبدأ يأكل، ليس لأن أرسلان أمره بذلك، بل لأنه من الوقاحة _ كما ذكر أرسلان _ أن يتجاهل الطعام وينشغل بالحديث .
وازار بمجرد أن رأى الحرب تهدأ تنفس الصعداء يشير صوب بارق قائلًا :
” مُدّ ذلك الدجاج الحار بارق، والله ما جئت إلا لأجل طعام مشكى الحار، هذا الزواج كله لا يهمني من الاساس، هذا وجع قلب ليس زواجًا ”
ختم حديثه ينظر صوب أرسلان وهو يبتلع ما بفمه متحدثًا بهدوء :
” انظر يا بني كل ما تعيشه الآن عشته أنا، عاندت واستفززت واخّرت في الزفاف، لكن هل أثر هذا على ما حدث؟؟”
صمت ثم أشار على سالار الذي كان مندمجًا في الطعام :
“لو كان فعل ما كان ذلك الرجل الأحمر يجلس معنا يتناول طعامه باستمتاع وكأن لا شيء يحدث أمامه، لذا أرضخ للأمر وهونها على نفسك ”
توقف سالار عن تناول الطعام حين شعر أن الحديث يدور حوله، رفع عيونه لهم يقول :
” عفوًا ؟؟ ”
ابتسم له ازار يقول بحنان :
” لكن رغم ذلك هل ابتأس ؟؟ لا والله لا أفعل، هذا الرجل الأحمر هو آخر ما تبقى لي من شقيقتي وذكراها وأنا اقدر هذه النعمة، صحيح أنه يذكرني بجوبان كلما أبصرته، لكن لا بأس طالما أنه يحمل الكثير من عائش ”
استنكر أرسلان حديثه :
” ماذا؟ الأميرة عائشة كانت تشبه هذا الوجه، استغفر الله، امي تقول أنها كانت رقيقة رحمة الله عليها ”
ابتسم سالار يرفع حاجبه ضاربًا الطاولة بيده لتهتز الاطباق هزة صغيرة وهو يهمس من أسفل ضروسه :
” هل سيصبح الحديث حول تحديد نسبة التشابه بيني وبين والديّ، ألم يكن منذ ثواني عن طريقة مراوغة أرسلان لعدم إتمام زواج إيفان ؟؟ ”
صمت يدور بعيونه بين الجميع يقول ببسمة خطيرة :
” إذن تبقوني خارج الحوار أم أقلب هذه الطاولة أعلى رؤوس الجميع الآن ؟؟”
ولم يتحدث أحدهم بكلمة واحدة ليبتسم ببساطة :
” هذا ما ظننته أنا أيضًا ”
صمت ليعود إلى طعامه، قبل أن يتذكر شيئًا فيرفع عيونه صوب آزار وبارق يقول باحترام :
” طبعًا هذا الحديث غير موجه لكما خالي وملك بارق”
ابتسم له بارق يهز رأسه بهدوء واستفزاز لجنون أرسلان :
” ندري بني أنت لست أرسلان في النهاية ”
اتسعت عين أرسلان بصدمة يشير على نفسه، هل يقصد أنه وقح ؟؟ والله لم يفعلها يومًا ويتخطى حدوده مع أي إنسان في هذه الحياة سوى إيفان وسالار ومائة وأربعين آخرين…
” عذرًا متى اسأت للعجائز ملك بارق ؟؟”
كاد بارق يبتلع طعام قبل أن يتوقف وهو ينظر له بصدمة على كلماته ليقول :
” الآن فعلت أرسلان ؟!”
” فعلت ماذا ؟؟ هل تقصد عجائز ؟؟ يا الله هذه صفة ملك بارق وليست إهانة، أخبرهم يا عريف أنني حينما اصفكم بالعجائز ثلاثتكم لا اتقصد أي إهانة ”
توقف العريف عن الطعام فجأة وقد حدث ما كان يخشاه منذ بداية الطعام، تذكروا أنه يجلس معهم .
رفع عيونه لارسلان يقول بحنق وضيق :
” رجاءً لا تقحمني في كل هذا الهراء، أنا من الأساس اتحمل هذا العدد من الأشخاص حولي بصعوبة، لقد جمعتني في غرفة واحدة وعلى طاولة واحدة مع أكثر رجال العالم استفزازًا لي، فلا تكن واحدًا منهم لـ …أو لحظة أنت بالفعل واحد منهم، أنا لا يمنعني شيء عن النهوض الآن وترككم سوى ذلك الرز مع هذه البهارات اللذيذة، لذا دعني خارج هذا الحوار أيها الملك الوقح ”
ختم حديثه وهو ينظر للجميع يهتف بحنق :
” ملك متسلط واخر وقح وقائد جيوش مستبد وقائد رماة مستفز، وصانع أسلحة مختل، في أي عالم احيا أنا ”
تشنجت ملامح تميم يردد بعدم فهم :
” وماذا فعلت أنا الآن ؟؟ أنا حتى لم انطق بكلمة ”
همس له دانيار بسخرية وهو يرتشف بعض المياه :
” الأمر ليس شخصيًا تميم، لكن العريف يعز عليه ذكر جملة يزم فيها أحدهم دون أن يشمل الباقيين بها ”
تنفس العريف يشير صوب مهيار الذي كان يراقب الأمر بهدوء :
” أنا فقط اجلس معكم إكرامًا لهذا المحترم، وإلا والله لاعتزلتكم جميعًا ”
ابتسم له مهيار بسمة واسعة يرى أن العريف عاد لعادته القديمة .
ضرب إيفان على الطاولة يقول بجدية :
” أنا لا أرى فائدة من هذا الحديث، نحن لم نتفق بعد على موعد زفافي ؟؟”
نظر له أرسلان ثم تنهد يقول :
” عجبًا أنت لم تنس الأمر، يبدو أن لا مفر من هذا، ألا مجال لتتجاهل الأمر وأعطيك ضعف ما أتيت به وترحل !!”
ابتسم له إيفان يقول ببرود شديد :
” بل أنا أعطيك ضعفين ما أتيتُ به وعليهم العريف، ما رأيك ؟؟”
نظر له العريف باستنكار، بينما أرسلان رمق العريف بغيظ يقول :
” بل اعطيك خزينة البلاد بأكملها وتحتفظ بعريفك ”
اعترض العريف على كل ما يحدث :
” مهلًا من قال أنني سأقبل بترك بلادي ومكتبتي ؟؟”
همس له مرجان :
” ما رأيك بالبقاء هنا أيها العريف وتأكل كل يوم من هذا الارز مع البهارات اللذيذة ”
” تود التخلص مني لأجل تنصيبك عريفًا ؟؟ على جثتي ”
ابتسم إيفان يتجاهل كل ذلك يقول بجدية :
” إذن متى ننصب زينة الزفاف عزيزي أرسلان ؟!”
نظر له أرسلان ثواني قبل أن يقول :
” بعد اسبوعين ”
” اسبوع ”
” ثلاثة أسابيع ”
” خمسة أيام ”
رفع أرسلان حاجبه يزداد عناده :
” ثلاثون يومًا ”
نظر له إيفان وهو يبادله تحدي الكلمات :
” ثلاثة أيام، وإن زدت كلمة واحدة والله لاقيمنه اليوم وخلال ساعة واحدة انصب خيمة الزواج واعلنها بين طرقات مملكتك أن شقيقتك أضحت بشرع الله زوجتي ”
ابتسم له أرسلان يعجبه أن يصر إيفان على شقيقته بهذه الاستماتة، هذا يجعله يتناسى بعضًا من وجعه لرحيلها، أن الله سيعوضها من يحنو عليها كما يفعل هو، حتى إذا ما رحل عن هذه الحياة لا يتركها تعاني صعوبات المعيشة او يموت خائفًا ويجرب شعور عاشه سابقًا وهو يشعر بنصل السيف يخترق جسده، ومن بعد لا حامي لشقيقته ..
صمته جعل إيفان يدرك أنه لن يرضخ بهذه السهولة لذا تنهد يقول :
” أرسلان….”
قاطعه أرسلان بما جعل أعين الجميع تتسع والافواه تتدلى بصدمة مما قيل :
” بعد خمسة أيام سنقيم الزفاف في ساحة مشكى …..”
______________________
وما اسرع الايام، فها هي الخمسة أيام التي وضعها أرسلان قبل الزفاف مضت وانقضت ساعاتها بسرعة لم يتوقعها أرسلان…
وها هو يقف في شرفة القصر يتابع بعيونه الزينة المنصوبة لأجل شقيقته، شيء جعل صدره ينقبض حزنًا، لكن جزء داخله كان مرتاحًا، سعيدًا لأن شقيقته نالت من تحب، هو ليس احمقًا ليتجاهل التماع عيونها حين ذكر اسم إيفان ..
اليوم واحد من أضخم حفلات الزفاف التي ستقام في الممالك بأكملها، تحالف وتعاون كبير بين مملكتين بحجم سفيد ومشكى، رغم الصداقة التي كانت تجمع الملكين ببعضهما البعض، إلا أن ذلك الشرخ الذي أصابها لشهور جعل الجميع يعتقد أن لا عودة لهما، ليأتيا هما ويشددا من قوة هذا التحالف بين المملكتين بزواج أميرة مشكى من ملك سفيد …
في أحد جهات القصر كانت تتحرك بسرعة وهي تحمل على ذراعيها ثوب مخفي أسفل غطاء، تتحرك بسرعة قبل أن تصطدم بأحدهم يمسكها بجدية .
” مهلًا على رسلك زمرد ما الذي حدث لتركضي بهذا الشكل في الممرات ؟!”
توقفت زمرد تنظر له نظرات متعجبة قبل أن تدرك أنها تقف الأن أمام دانيار، لترتسم بسمة واسعة مشرقة وهي تردد بسعادة كبيرة ترفع يدها بفستان اخضر اللون :
” كنت ذاهبة لابحث عنك، هيا تعال سوف اجعلك تراني وأنا ارتدي ثياب مشكى، لقد أهدتني كهرمان هذا الثوب مخبرة إياي أنه الثوب التقليدي هنا ”
أمسكت يده تجذبه خلفها وهي تتوجه صوب الغرفة التي كانت تجلس بها، بينما دانيار يتحرك معها دون فهم لكن هناك بسمة ارتسمت على وجهه مرددًا:
” ستجعليني اشاهدك وأنتِ ترتدين ثيابك ؟! نحن نتقدم بسرعة كبيرة زمرد ”
وزمرد التي كانت في هذه اللحظة لا تفكر في أيٍ مما يدور بعقل زوجها، كانت فقط متحمسة لتريه كيف تبدو بالثوب التقليدي لمشكى، كطفلة تجرب ثياب العيد لوالديها .
وصلت الغرفة تشير لدانيار أن ينتظر حتى تبدل ثيابها، ثم تحركت صوب المرحاض، لكن دانيار كان يتحرك خلفها ببسمة واسعة، حتى دخلت هي المرحاض وجاءت لتغلق الباب فتفاجئت بتحركه خلفها :
” ماذا ؟! ”
رفع دانيار حاجبه بعدم فهم :
” ماذا ؟!”
” إلى أين، أخبرتك أن تنتظر لتشاهدني وانا ارتدي الثوب ”
هز رأسه يقول ببساطة مشيرًا للمرحاض خلفه في إشارة واضحة لرغبته الدخول :
” نعم اخبرتيني أن آتي واشاهدك وأنتِ ترتدين الثوب ”
شعرت زمرد أنها لا تفهم ما قيل، إذ يبدو أن كلًا منهما قد فهم الجملة على حسب تفكيره ومستوى الخبث الذي يسري في دمه، وهنا كانت الغلبة لدانيار العزيز ..
شهقت زمرد تستوعب إلى أي مستوى انحدر دانيار بجملتها البريئة :
” ماذا ؟؟ لا ليس هذا، قصدت أن تنتظر حتى ارتدي الثوب وتراني به ”
زمّ شفتيه كارهًا لهذا الاقتراح وهو يردد :
” لا أشعر أن هذا جيدًا، ما أخبرتك به جيد أكثر، هيا لا تخجلي مني أنا في مقام زوجك الآن يا ابنتي ”
كان يتحدث واضعًا كلماته قيد التنفيذ وهو يدفع الباب بها وقبل أن يقول كلمة واحدة دفعت الباب بسرعة تقول بفزع :
” ماذا ؟؟ لا، انتظرني في الخارج ”
ختمت حديثها وهي تغلق الباب ليزفر هو بضيق، يتحرك صوب المقعد يجلس عليه بتذمر يضم ذراعيه لصدره يتمتم بكلمات غير مفهومة لمدة دقائق قبل أن ينفجر بغيظ شديد يتحرك عن المقعد يحرك يديه في الهواء باعتراض على كل هذا مرددًا بصوت مرتفع :
” أنا اترك الرجال الآن وافوت مشاهدة أخيكِ يتلظى من نيران الانتظار، فقط لأنني ظننت أنني سأشاهدك شيئًا افضل هنـ….”
فجأة توقفت الكلمات في حلقه يشاهد زمرد تخرج من المرحاض يضم جسدها فستان من اللون الاخضر مع بعض الاشغال اليدوية التي تمتاز بها مشكى، كانت جميلة بشكل جعله يكاد ينهار على مقعده مرة أخرى، وابتسم بكل بلاهة يتناسى كل ما قاله منذ ثواني :
” يا ويل قلبي ..”
اقتربت منه زمرد بخجل من نظراته :
” ما رأيك ؟؟”
” فاتنة ”
” إذن هل يناسبني ؟! ”
” بل لا يناسب سواكِ ”
اتسعت بسمة زمرد تقول وهي تدور حول نفسها :
” إذن جيد، سوف احضر به الزفاف ”
نظر لها دانيار ثواني ببلاهة مبتسمًا قبل أن يقول فجأة :
” ماذا ؟؟ لا بالطبع لن تفعلي، أنتِ لن تخرجي بهذا الشكل و…أنتِ تبدين فاتنة زمرد، هذا قاسٍ”
ختم حديثه بخفوت لتقترب منه زمرد تتعجب كلماته الغير مرتبة :
” ما الذي تقصده دانيار، أنا احببت هذا الثوب وأريد أن أحضر زفاف أخي به ”
” سأحضر لكِ اخر إن اردتي، سوف اتحرك الآن للسوق وا…”
عاندت برجاء وهي ترى الرفض يلوح في عيونه واضحًا، وقد أدركت أنها مهما قالت من مبررات أو عاندت فهو سيرفض، لذا لجئت لآخر شيء قد تستخدمه ضده، حبه لها ..
” لا دانيار أنا أريد هذا تحديدًا، ارجوك لا تكسر سعادتي يوم زفاف أخي ”
ولم تكن بحاجة للتوسل أو الرجاء، والله كان يكفيها نظرتها هذه فقط ليرضخ لها دانيار يقول بصوت خافت :
” حسنًا لكن زمرد …لا تتركي منطقة النساء رجاءً ”
ابتسمت زمرد بسمة واسعة تقترب منه :
” هل تغار دانيار ؟؟”
” بل اشتغل غيرة زمردتي ”
ابتسمت له، تقترب أكثر وقد رأت أنه يستحق مكافأة لطيفة على كلماته هذه، لكن فجأة توقفت تقول باعتراض :
” زمردتي ؟؟”
هز رأسه بنعم لا يفهم اعتراضها هذا، وهي فقط قالت متذمرة على تلك الكلمة :
” تناديني زمردتي وأنا الزمرد كله ؟؟”
” وما شأني بالزمرد كله يا امرأة؟! وأنا لا يعنيني منه سوى زمردة واحدة ”
رفعت حاجبها تقول ببسمة جانبية :
” هل هذه قناعة في حبي دانيار ”
جذبها دانيار صوب أحضانه يهمس لها بحب :
” بل اكتفاءً بكِ زمردتي ….”
______________________
” حسنًا إيفان فقط تمالك نفسك، وإلا أخرج أرسلان سيفه وطعنك به الآن ”
نظر إيفان صوب أرسلان الذي كان يقف مع بعض الرجال لترتيب الزفاف، وهو كل ثانية يرمقه بتحذير الاقتراب، وقد أخذ إيفان يقفز له كل ثانية يتساءل عن وقت خروج كهرمان لعقد القرآن..
” محظوظ أنت سالار؛ لأن زوجتك لا تمتلك اخًا حقيرًا كأرسلان أو مثلي ”
ابتسم سالار، قبل أن يضحك بصوت مرتفع على حالة إيفان الذي كان يقف كما لو أنه يقف على جمرٍ ملتهب .
ثواني وتنفس الصعداء حين أبصر أرسلان يتحرك للقصر، إذن حانت اللحظة لتطل عليه، ذهب أرسلان ليحضرها، مرحى .
كان يردد تلك الجملة داخله يتخيل جميع أعضائه تصيح بسعادة وتنثر الورورد الملونة داخله احتفالًا بقربها…
وارسلان تحرك بين الممرات صوب جناح صغيرته، مهما أخّر تلك اللحظة ففي النهاية ستحين، حاول قدر الإمكان أن يحتفظ بها لنفسه اطول وقت، توقف في الممرات في ركن لا يظهر جسده، ثم مال يستند بيديه على ركبتيه يتنفس بصوت مرتفع، الأمر أصعب مما يتخيل، يشعر بفراغ مخيف يملء صدره، كهرمان ستغادره .
ثواني استغرقها يلملم انهياره الداخلي، فعلى عكس إيفان كانت جميع دواخل أرسلان تعلن حالة حداد وسواد داخله، ليس الأمر أنه يكره سعادة شقيقته، بل والله يشهد أنه لم يكن يومًا بمثل هذه السعادة لأنه يدرك يقينًا أنه سيسلم شقيقته لمن يحبها ويدللها فوق الدلال دلالًا، لكنه شعور غير ارادي منه، شعور أن إيفان يسلب منه شقيقته .
” صعب هذا الشعور ها ؟؟”
ارتفعت رأس أرسلان بسرعة صوب صاحب تلك الكلمات ليبصر آزار الذي كان جاء ليتحدث معه حينما رأى ملامحه في الخارج .
” هو صعب في البداية، لكن صدقني كل تلك المشاعر السيئة داخلك ستتلاشى حينما تبصر بسمتها الواسعة مع من اختارها واخترته، ستنسى كل حزنك وهذا الانقباض في صدرك سينّفك شيئًا فشيء حينما تبصر جزء صغير من شقيقتك يناديك بخالي، سعادتها تستحق صدقني ”
تنفس أرسلان بصوت مرتفع يمسح وجهه يهز رأسه، يدرك أن آزار يشعر بما يشعر به، فآزار كان أكثر منه تعليقًا بعائشة، حتى أن البعض كان يشفق عليها ظنًا أنها لن تتزوج يومًا بسبب شقيقها، بينما هو كان يفتح الباب أمام من يستحق ليتقدم إلى اميرته، لكنه لم يدرك أن الأمر سيكون بمثل هذه الصعوبة .
ربت آزار على كتفه مبتسمًا :
” هيا اذهب وأحضر العروس، فالجميع ينتظرها ”
ابتسم له أرسلان يهمس :
” نعم سأفعل، شكرًا عم آزار، اقدر كلماتك هذه ”
رفع آزار حاجبه يقول بمزاح :
” الملك أرسلان يتواضح ويشكر ؟؟”
ضحك أرسلان يتحرك صوب جناح كهرمان :
” لنعتبر أنها لحظة لا وعي ليس إلا مولاي ”
ختم حديثه يطلق نفسًا لخارج رئتيه يتوقف أمام الغرفة وهو يطرقها متحدثًا بصوت مسموع لمن بالداخل :
” انتهيتي كهرمان ؟؟”
دقائق مرت بعدما سمع اصوات متداخلة، قبل أن يُفتح الباب وتطل عليه كهرمان التي جعلت قلبه يتوقف لثواني يبصرها ترتدي فستانًا ابيضًا مع اللون الذهبي، تمامًا كما خطط إيفان سابقًا .
ردد أرسلان دون وعي منه :
” ماشاء الله ..”
تقدمت صوبه كهرمان تقول بخجل وبسمة مشرقة :
” نعم انتهيت أخي”
امسك أرسلان يدها، يجذب رأسها لفمه يقبلها هامسًا :
” لو سألوني عن أكثر الرجال حظًا في هذا العالم، والله ما ترددت وأنا اجيبهم أنه إيفان لا شك ”
صمت ينظر في عيونها ثم قبل كفها بحب :
“محظوظ هذا الإيفان ”
التمعت أعين كهرمان بدموع كادت تهبط منها وهو فقط سار بها يضم يدها لذراعه، ثم تحرك صوب الخارج حيث ينتظرهم الجميع، وخلفهم الفتيات، ومن بينهن تبارك التي كانت عيونها ملتمعة بدموع التأثر، سعيدة لكهرمان وبشدة، تحمد الله أن كل شيء سار بخير ..
أغلقت باب الغرفة خلفها وهي تكتم آهة عزاء ورثاء لوحدتها، هي لن تحيا يومًا هذه اللحظات، لا شقيق ولا أب يزفها لسالار، لن تعيش هذا الشعور يومًا، وكم اوجعتها هذه الحقيقة .
مسحت دمعة كادت تفر منها وهي ترفع أطراف فستانها الازرق _ لون سالار المفضل _ تتحرك خلف الجميع .
بمجرد أن خطى أرسلان للخارج مع كهرمان، ارتفعت أصوات التهليل والسعادة وهي فقط لا تبصر من بين الجميع فقط تخفض رأسها، حتى وصلت في النهاية لمسجد القصر ..
ذلك المسجد الذي كان شبه مُدمر، فهو كان أول ضحية لهؤلاء الملاعنين، بعض جدرانه مليئة بالشروخ وسقفه كان شبه مدمر، مشكى اجمل الممالك كانت مليئة بالجروح تمامًا كشعبها.
لم تكن حريتها نهاية القصة، بل كانت بداية …
أرسلان بدأ يحاول إعادة بناء بلاده، وبدأ بالمنازل الخاصة بشعبه قبل قصره، أبى أن يقف أمام الله ويُسأل عن صبي نام في برد الشتاء لأنه انشغل عنهم بإعادة إعمار قصره .
ورغم كل ذلك التدمير، إلا أن المسجد كان ما يزال شامخًا بجدرانه التي أبت الانحناء أمامهم كما شعبه.
جلست كهرمان بين الفتيات وهي تشعر بقلبها ينبض، كم مرة عاشت هذه اللحظة لغيرها، الآن تحياها لنفسها .
ثواني حتى صدح صوت الشيخ في أرجاء القصر يردد كلماته المعتادة، يردد مع الجميع دعوات للزوجين حتى بدأ يعلن ..
” نحن اليوم مجتمعين لنشهد زواج ملك سفيد الملك إيفان تقيّ الدين، على أميرة مشكى الأميرة كهرمان بيجان….”
أن يُذكر اسمها جوار اسمه في مجرد جملة عادية كان أكثر ما يحلم به، فما بالكم أن يُذكر مقترنًا باسمه في جملة ؟؟
كان إيفان في هذه اللحظة لا يعي لما يحدث حوله، كان فقط يطوف على سحابه سعادته، سقط من عليها حين سمع جملة الشيخ :
” بالرفاء والبنين إن شاء الله ”
وهنا أخذ إيفان نفسًا طويلًا كأن كان يغوص، ولم يشعر سوى بسالار الذي ضمه له يردد بسعادة كبيرة :
” مبارك لك يا أخي، عسى أن يجعل الله جميع أيامك سعادة وخير ”
ربت عليه إيفان مبتسمًا وقد فقد قدرته على الرد والحديث، أكثر ما كان يستطيع فعله هو الحديث والردود الودودة، الآن أفقده ما يحدث النطق، ويبدو أن أرسلان لم يكتفي بذلك، بل زاده عليه وهو يتحرك مع كهرمان صوبه .
وإيفان لا يؤتي بأي حركة هو فقط اخفض رأسه يغمض عيونه، يضع يده جهة صدره يحاول تحسس أي نبض، هل هو حي حتى؟؟
أخذ يتنفس بوتيرة سريعة وهو فقط يغمض عيونه قبل أن يسمع صوت سالار خلفه يهمس :
” إيفان، افتح عيونك، الأميرة أضحت على بُعد خطوة واحدة منك ”
فتح إيفان عيونه يقول بتصحيح وبسمة :
” بل ملكة سالار، هي ملكة ”
ملكة بلادي وملكة قلبي ..كلمات أسرها في نفسه وهو يستدير صوبها يرى عيونها مُخفضة ارضًا وأرسلان يسلمه يدها يردد بصوت خافت وعيون لامعة لا يدري إيفان أكانت دموع أم هُيأ له :
” اعتني بجوهرتي إيفان، والله إن احزنتها ثانية، احزنت شعبك عليك عمرًا ”
ابتسم له إيفان يجيب وهو يتسلم يد كهرمان يقاوم رجفته :
” أتوصيني بنفسي أرسلان ؟؟”
ربت أرسلان على كتفه ثم قال بصوت خافت :
” يمكنك الجلوس مع زوجتك في الغرفة الملحقة بالمسجد، حتى ننتهي من تجهيزات الزفاف في الساحة في الخارج”
ابتسم له إيفان بامتنان ولم يكد يشكره، حتى أبصر عودة أرسلان الحقير مجددًا :
” أمامك خمس دقائق فقط ”
ختم أرسلان حديثه يشير للجميع بالخروج، ليضحك سالار بصوت مرتفع وهو يقول :
” ألقاك في الخارج يا أخي..”
أوقفها إيفان يقول بجدية :
” أنت لم تنس وعدك لي سالار صحيح ؟؟”
توقف سالار في خطواته، ثم نظر له ثواني بغموض وقال ببسمة قبل أن يتحرك :
” وهل حنثت بوعدٍ لي يومًا إيفان ؟؟ ”
ابتسم إيفان يعود بعيونه وكله صوب كهرمان التي كانت في هذه اللحظة تحاول تمالك نفسها والتعامل بشكل طبيعي، لكن كل تلك اللحظات التي قضتها لتتماسك ضاعت هباءً حين شعرت بقبلة تسقط على رأسها وصوت إيفان يردد بنبرة أسرت المتبقي من ضربات قلبها المقاومة لأسره :
” مرحبًا بكِ في قلبي ساكنة ومالكة مولاتي ….”
________________________
خرجت مع الجميع صوب الساحة لتحضر الزفاف، وقد كان ثاني زفاف لها بعد حضورها زفاف مهيار وليلا، لكن هذا الزفاف كان مختلفًا، مختلفًا كليًا ..
فهذا ليس زفافًا عاديًا، زفاف يحمل به زوجها دف ويقرعه بقوة مغنيًا كلمات غير مفهومة لها لكنها قوية جهورية، بالطبع ليس زفافًا عاديًا .
وعند سالار كان يقف في منتصف الساحة يجمع حوله الرجال يطرقون الدف بقوة وهو ينفذ وعده لإيفان، لم يكن يومًا ليغني أو يعرض موهبته الخفية في قرع الدف إلا لأجل وعده الذي قطعه يومًا لإيفان وهو يردد بثقة :
” فقط تزوج إيفان، والله يوم زفاف لاطرقن الدف حتى تتكسر عظامي إن أردت، وسأغني حتى يتلاشى صوتي سعادة بك، فقط تزوج ودع الزهود لمن هم مثلي ”
وأين هو الآن وأين إيفان وأين الزهود ؟؟ كلاهما متزوج بامرأة استطاعت بكل مهارة عجز عنها أعتى الرجال في جعلهم ينحنون ….
ومن بين كلماته لبعض الانشودات التقليدية التي كانت تردد قديمًا في الزفاف، ابصرها ..
المرأة التي غلبت جميع أعداءه وهزمته شر هزيمة، ابتسم دون وعي وهو يكمل غناء بكلماته شعرت تبارك الجاهلة لمعناها أنه يوجهها لها ..
وقد صدق شعورها، إذ كانت كل كلمة تخرج من فم سالار موجهة لها بالفعل، يكمل غناء بقوة، قبل أن يشير لها بعيونه خفية وهناك بسمة حنونة على فمه أن تتحرك مع النساء .
وتبارك التي شردت به أدركت فجأة أنها تقف مقابل منطقة الرجال في الساحة وتتابعه، وحين وعت لما تفعل خجلت تتحرك بسرعة .
وسالار اتسعت بسمة أكثر حتى ملئت فمه وهو يكمل غناءه مع الرجال وطرق الدفوف الذي شاركه به تميم ومهيار، بينما دانيار كان يكتفي بالتصفيق لهم ومشاركتهم الغناء، وارسلان يقف بعيدًا يراقب ما يحدث ببسمة واسعة، يراقب شعبه المصدوم من سالار في هذه اللحظة .
في النهاية اكتشف أهل مشكى وخاصة ساكني قصره أن سالار، ربما …ربما كان إنسانًا طبيعيًا، وليس بوحش أو مستذئب، ربما …..
___________________
وعند النساء كانت تبارك تراقب الجميع يرقص ويتحرك بشكل مبهر، نساء من جميع الممالك وكلٌ بهوية مختلفة عن الآخر، كل رقص وكل ثوب يختلف من مملكة لأخرى.
أمر مبهر آخر تكتشفه تبارك في هذه الحياة التي اختارتها بعد عناد معها ..
بعد دقائق طويلة فجأة سمعت التهليلات بوجود العروس، رفعت عيونها لترى كهرمان تتحرك داخل المكان بفستان من اللون الاحمر بعدما بدلت الاول وارتدت اخر أكثر خفة في التحرك، تحركت لمنتصف الساحة لتبدأ النساء في غناء انشودة، جعلت برلنت تنتفض وهي تجذب يده كهرمان لمنتصف الساحة وكذلك فعلت مع زمرد، فقد كانت تدرك مقدار عشق كهرمان لهذه الانشودة التي تذكرها بوالدتها ودورس الرقص والغناء الخاصة بها .
كادت تجذب تبارك معهن، لكن تبارك اتسعت عيونها تتمسك بأحد العمدان جوارها بفزع :
” ايه؟؟ أنا عملت ايه ؟!”
ضحكت برلنت تحاول جذبها :
” هيا شاركينا الرقص سوف يعجبك الأمر ”
” برلنت حبيبتي انا مفسدة هل تتذكرين ؟؟ أي رقص هذا أنا لا ادرك شيء ”
ولم تهتم لها برلنت تجذبها بالاجبار :
” حركات هذه الرقصة سهلة، هيا سأعلمك ”
وبالفعل جذبتها لمنتصف القاعة التي تحتفل بها النساء وقد بدأت اصوات الغناء تعلو، وبدأت كهرمان الرقص قبل الجميع وهي تبتسم بسمة واسعة تحرك يديها، ثم هزت رأسها لزمرد التي بدأت تباريها في الحركات وبقوة شديدة .
بينما برلنت بدأت تتحرك بهدوء شديد وهي تشير بعيونها لتبارك لتقلدهم، وتبارك فقط تفتح فمها بصدمة وانبهار مما رأت، ويبدو أن هذه الرقصة اتفق عليها جميع نساء الممالك، وللحق كن يتقنها بشكل مرعب ..
وقد علمت لاحقًا أنهم يسمونها ( رقصة الأغصان) .
كانت كهرمان تغني وهي تحرك خصرها ويديها وكتفها بحركات مرنة، تنظر مبتسمة لزمرد التي ترد لها الحركة بالمثل، ومن ثم تستدير صوب برلنت تقوم بحركة ثالثة في سلاسة مبهرة، جعلت تبارك تتنحى جانبًا فقط تراقبهم وقد أخذت عهدًا أن تطالبهم بتعلميها تلك الانشودة وهذه الحركات .
توسطت كهرمان برلنت وزمرد وبدأت حركات الثلاثة تزداد حماسًا وهن يدرن حول بعضهن، واعين تبارك تزداد اتساعًا وكذا بسمتها تردد :
” أكاد اتخيل مظهر سالار إن شاهدني ارقص بهذه الحركات ”
بعد دقائق..
دخلت إحدى العاملات تقول ببسمة واسعة وسعادة :
” الملك أرسلان يخبركن أنه حان وقت تقديم المباركة للعروسين ”
وفي ثواني رأت تبارك النساء ينتفضن ويجهزن كهرمان للخروج، قبل أن تخفض غطاء الوجه وتتحرك وخلفها النساء يقرعن الدفوف لأجلها دون الغناء بكلمة واحدة، إشارة لجميع الرجال بالخارج أن النساء قادمات، حتى وصلوا لمنتصف ساحة القصر حيث استقر هناك مقعدين كبيرين حولهما الزينة من كل مكان والجميع مصطف في انتظار حضورها، مشاهد تحياها تبارك للمرة الأولى.
وبمجرد أن وصلت حتى كان أول من استقبلها هو أرسلان يقدم لها الهدية الأولى، أخرج من جيب ثوبه اسورة من الذهب الابيض وبعض الاحجار الكريمة يضعها في كفها ثم قبل رأسها بحنان، ومن ثم تحركت صوب الزوج والذي كان صاحب الهدية الثانية، إذ أخرج سلسال ذهبية يلبسه إياها من أسفل الغطاء ومن ثم مال يقبل رأسها بالمثل، يمسك يدها متحركًا صوب المقاعد ليبدأ الاثنان في تقبل المباركات والهدايا التي أحضرها الجميع لاجلهما .
وتبارك فقط تتابع باهتمام شديد حتى شعرت بيد تضم كتفها، لم تفزع ولم تخف، فما لأحد القوة ليمسكها بهذه الطريقة عداه .
نظرت له تهتم بانبهار :
” هذا …هذا يبدو مذهلًا، أتساءل ما الذي ستفعله كهرمان بكل هذه الهدايا ”
ابتسم لها سالار يشرح لها بهدوء :
” ستخرجهم صدقة ”
نظرت له تبارك بصدمة وعدم فهم ليوضح الأمر بهدوء :
” الزوجة لا تحتفظ بأي هدايا عدا مهرها، وهدية الاب والزوج، وفي حالة كهرمان ستحتفظ بهدية أرسلان وإيفان فقط، والباقي كله يخرج لوجه الله، كصدقة من الزوجين، لبدء حياة جديدة بطاعة، لذا فالجميع هنا يسارع لبذل افضل ما عنده فهو لله قبل المحتاجين، يمكنك القول أنها طريقة للتعبير عن تقدرينا، وتصدق في الوقت ذاته، هذه أعراف هنا ”
ولم تجب تبارك بكلمة، بل فقط نظرت صوب كهرمان وإيفان، هي في حياتها لن تكتشف كل ما يخفيه هذا العالم .
ورغم نفي سالار للأمر سابقًا، إلا أنها الآن أضحت تشعر أنها تحيا في المدينة الفاضلة حقًا ….
ولم تفق من شرودها سوى على صوت سالار يهمس لها بحب :
” العقبى لكِ بركة حياتي ”
نظرت له بعدم فهم ليقبل رأسها بحنان شديد يهمس لها قائلًا وقد انتبه لنظراتها لارسلان وكهرمان :
” لقد فكرت بشيء ما، لن اجعل أحدهم يزفك لي، أنا سأزفك لنفسي، سأقدم لنفسي أكبر هدية، فنفسي تستحق أن ادللها بقربك، ما رأيك؟!”
نظرت له تبارك في عيونه بعيون متأثرة لامعة وقد شعرت برغبة في البكاء، فهذا الأمر يؤلمها وبشدة، خاصة حين رأت اهتمام والدتها بخطبة أختها .
وسالار فقط أبى أن يبصر أحدهم ضعف زوجته، يشتغل انشغال الجميع بتقديم الهدايا والزوجين، يجذب رأسها لصدره هامسًا :
” لا أبكى الله لكِ عينًا حبيبتي، ليبكي العالم بأكمله ولتسعدي أنتِ بركتي”
كان يتحدث وهو يضم رأسها لصدره ويده تمسك يدها بقوة يتحسس نبضها بحنان وكل ثانية يقبل رأسها هامسًا :
” والله سيجازيكِ الله خيرًا لصبرك ومصابك حبيبتي، محظوظة أنتِ تبارك ”
صمت ثم همس لها :
” ألا يكفيكِ وجودي عزيزتي، رزقني الله بكِ، وما أجمل الرزق إن كان تبارك !”
زادت دموع تبارك تأثرًا من محاولاته المستميتة ليسعدها، وكلماته التي جعلتها تدرك أن الله بالفعل رزقها بسالار، ربما أخذ منها الكثير، لكن الله حشاه أن يظلم عبدًا، فمقابل ما فقدته، رُزقت به .
وابتسمت وهي تمسح وجهه في ثوبه ليبتسم لها يقول وهو يمد لها يده ممازحًا :
” هاكِ كُمي تمسحي به إن امتلئت ثيابي بدموعك ”
ضحكت تبارك من بين دموعها وهي تبتعد عنه، ثم نظرت له تقول :
” لا خلاص أنا خلصت ”
ابتسم لضحكتها يمسح المتبقي من دموعها:
” جيد، الآن عزيزتي استمتعي بالزفاف، وحين ننتهي سنتحرك لنصب الولائم، عادة نبدأ بالنساء، سآتي لاخذك لتجلسي وتأكلي سأحضّر لكِ طبقك بيدي هاتين ”
وكم كان سالار في هذه اللحظة أشبه بالام وقت الزفاف، تركض خلف ابنائها لتتأكد أنهم تناولوا الطعام، ودون أن يشعر استطاع سالار أن يمثل لها عائلة بأكملها..
” اوافق على هذا الأمر فأنا اتضور جوعًا”
كانت كلمات نطقتها بكل عفوية، قبل أن ترى حاجبي سالار يلتقيان في المنتصف حين انتبه لما قالت :
” أنتِ لم تتناولي الفطور ؟؟”
نظرت له لثواني ولم تكد تتحدث، حتى امسك يدها يقول بجدية :
” حسنًا لا أظن أن أرسلان أو إيفان سيمانعان افتتاح الوليمة مبكرًا لأجل زوجتي، هيا سأطعمك ”
ابتسمت تبارك وهي تسير خلفه دون مقاومة أو ممانعة، فهي كانت سعيدة باهتمامه بها، وايضًا جائعة .
ونعم كان سالار في هذه اللحظة كالام تمامًا، و…لحظة فقط أوليس هذا الدور الذي لعبه منذ وطأت البلاد، لحظة استيعاب صغيرة منها أن سالار كان يلعب دور الراعي والمسؤول عليها طوال الوقت منذ جاءت هنا، كان طوال الوقت يأخذها صوب المطبخ لتتناول الطعام رغم إظهاره التأفف، يرشدها إن ضلت، ويؤدبها إن اخطأت، ويعتني بها إن مرضت..
سالار منذ اللحظة الأولى كان ملاكها الحارس .
حامي حمى سفيد، أضحى حامي حماها ….
_____________________
كان أرسلان يقف جوار الجميع يتلقى التهاني ولم ينس بالطبع أن يمارس هوايته المفضلة في إزعاج إيفان، كل ثانية حتى صرخ به إيفان بغضب :
” اقسم أنني الآن سأخرج سيفي واجز عنقك إن لم تتوقف أرسلان ”
” وتحرم ابناءك من خالهم الحنون الذي سيربيهم بنفسه ”
رفع إيفان حاجبه متشنجًا :
” وهل أخبرك أحدهم أنني من الغباء الذي يجعلني اترك ابنائي بين قبضتك ؟؟ يا اللهي الأمر أشبه بالقاء صغاري بالجحيم ”
” وهل تظن تواضعي وتربيتي أبناء أنت والدهم جحيم ؟؟ خسئت أنت واشباهك الأربعين ”
مسحت كهرمان وجهها بتعب ويأس من كل هذا .
بينما إيفان ابتسم يقول :
” ابتعد عن وجهي الآن أرسلان فلا أريد أن أفسد مزاجي يوم زفافي بالتعامل مع أشخاص مثلك ”
نظر له أرسلان بحنق ولم يكد يتحدث :
” هذا الزفاف، زفاف شقيقتي و…”
قبل أن يكمل أحدهم كلمة واحدة فجأة سمع الجميع صوت صاخب في الإرجاء تبعته صيحة أحد الرجال وهو يهتف بصوت مرتفع :
” اصوات الرعد تعلو، ويبدو أن الأمطار ستهطل وبـ”
وقبل أن يتم الرجل جملته فجأة هطلت أمطار كثيفة أطاحت كل ما حولها ليشاهد إيفان بأعين متسعة الجميع يركض يحتمي بالقلعة والمباني حولهم والزينة تسقط بسبب الامطار ..
ولم يفيقه سوى صوت أرسلان الذي كان يكبت ضحكاته بصعوبة على مظهر إيفان:
” جئت وجاء الخير معك إيفان، جاء وفيرًا في الحقيقة .”
صمت قبل أن يتحرك بسرعة لينقل كل شيء للداخل بسرعة تاركًا إيفان يقف وحده أسفل الأمطار مع كهرمان التي أمسكت يده تقول :
” اركض إيفان، تحرك معي للداخل ”
وإيفان تناسى ما يحدث حوله ولم يهتم سوى لأنها للمرة الأولى تنطق اسمه مجردًا وهذا سبب كافي ليحتفل .
ولم تدرك كهرمان ما يحدث إذ فجأة وجدت نفسها تنتقل من برد الأمطار لدفء أحضانه .
أوليس هذا بكافٍ لتستكين وتقضي آخر لحظات زفافها السعيد مرتاحة ؟؟؟
_____________________
ما يزال هناك حفل زفاف لم نشهده، وما زال هناك فصل في هذه الحكاية لم ينتهي، مازال هناك فصلٌ لنقرأه .
حكايتنا لم تنتهي بعد …….
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مملكة سفيد)