رواية مصطفى أبوحجر الفصل العاشر 10 بقلم آلاء حسن
رواية مصطفى أبوحجر البارت العاشر
رواية مصطفى أبوحجر الجزء العاشر
رواية مصطفى أبوحجر الحلقة العاشرة
-١٠- الرقباء الثلاثة
الدين .. العادات .. التقاليد ..
هؤلاء هُم الرُقباء الثلاثة الذين أرغموه على التلفظ بتلك الكلمات الحادة عندما اعترفت له بحُبها في ذلك اليوم، رغمًا عن بُكاء قلبه وحسرته ..
في الحقيقة، لم يكُن هُناك من هو أشد منه سعادة وأكثر غِبطة عقب سماعه لحديثها، فأخيرًا .. أخيرًا بعد مرور إحدى عشر عامًا كاملة، حاول هو فيهم بكُل ما أوتى من قوة أن يكبح جماح قلبه ويُشذب نفسه مُراعيًا حُرمة بيت خاله وعِرضه، وكما لا يقبل بأن يُحَدِث أحدًا شقيقته بعبارات الحُب والغزل من وراء ظهره، فهو أيضًا لا يقبل ذلك على ابنة خاله حتى ولو كان هو المُحب المُتيم ..
كم من الليالِ التي سهر بها شاردًا مُفكرًا في طيفها، تئن خفقات قلبُه اشتياقًا إليها مُتلظيًا بسعير الانتظار، يدور في فُلكها مجذوبًا بقوة هائلة كأنه الأرض وهى كما كانت وستكون أبدًا .. شمسُه الوحيدة، نجمته العالية التي يتمنى مرورها بسماء منزلهم كي يراها بل كي يلمحها فقط من بين ثغرات وفراغات باب غُرفته، ويالسعده إذا واتته الفُرصة كي تتلامس إيديهما في سلام خاطف أو أن ينظر إلى عدستيها أثناء حديث عائلي، ويرى ابتسامة ثغرها على مُزحة يُلقيها ..
في الحقيقة هو أكثر من مُحب هو وَلِه بها وببحور العسل بعينيها وبحبات الكرز بشفتيها وبأطوار الشمس بوجهها المُمتعض الغاضب منه أكثر الوقت، هو مُتيم بتغريدها الساحر وبنبرة صوتها الفاتن الذى يُخبره بحالها دون أن يراها ..
أليس مِن المفترض أن المُحِب يشعر بمكنونات محبوبه ويفهم مقصده دون حتى أن ينطق ! فما بالها أساءت فهمه إلى هذا الحد الذى دمرت به حياتها وحياته !
لِما لَم تشعر بصرخات قلبه عندما ترقرت العَبرات بداخل مقلتيها مُعاتبة إياه لصياحه بوجهها، كم ود أن تمتد أصابعه إلى عينيها ليمسح عنها تلك الدمعات الهاربة لكنه تراجع في اللحظات الأخيرة وبدلًا عن ذلك قام بمسح وجهه بقوة كي يتمالك نفسه ويُسيطر على جسده الراغب في اِحتضانها والتربيت على كتفيها، فحاول التلفظ بأي كلمات يخبئ بها ضعفه قائلًا :
_ (( أنا عاوز أعرف إنتى بتحشرى نفسك في حياتي وفى الناس اللي بعرفهم ليه ..))
وعندما لفظت هي بضعف من بين دمعاتها :
_ ((عشان بحبك))
لم يُصدق ما قالته في البداية وظل يُحدق بعينيها وكأنه يرجوها التلفظ بها مرة أُخرى قائلًا :
_ ((بتقولي إيه !))
كاد قلبه أن يرقص طربًا وهو يستمع إليها من جديد تقول بعدما مسحت وجهها براحتيها كالأطفال :
_ (( بحبك يا أسامة وبغير عليك من أي واحدة تكلمها ..))
ارتعشت الابتسامة أعلى شفتيه وتملكته رغبة مُلحة تدفعه للصياح مُعلنًا عن حُبه لها هو الآخر، بل عِشقه الذى أتعب قلبه وأدمى روحه، إلا إن تلك الخيوط جذبته إلى الوراء من جديد وسلسلته العادات والتقاليد مُذكرة إياه بحُرمات بيت خاله والتي يتوجب عليه الحفاظ عليها في غيابه، لذا أنعقد لسانه دون رغبته، ولم يسعه سوى أن ينظر إليها بأعين مُتسعة أرادت هي التحدث والنُطق بحال قلبه، إلا أن من تحدث في الأخير هو لسانه المسلوب قائلًا بحال الرُقباء الثلاثة بعدما أصرت هي على كلماتها بشجاعة فشل هو في إظهارها :
_ ((إنتى إزاى جريئة كدة وجاية تقوليلى في وشى إنك بتحبينى ! عمرى ما تصورت إنك إنتى بالذات تعملي وتقولي كده يا شمس ..))
وعندما دافعت عن نفسها قائلة :
_ ((أعمل كده إيه ؟ هو الحُب والاعتراف بيه غلط أو جريمة ! ))
حينها أراد هو القول :
_ آه حُبك الألى مكلبش في قلبي جريمة .. جريمة كبيرة مش عارف أخبيها أكتر من كدة، ونفسى الناس كلها تعرف بيها وأتسجن طول عمرى جوة قلبك ومطلعش منه ..
لكن ما لفظ به هو :
_ ((روحي بيتكوا ياشمس .. ))
وأدار ظهره عنها كي لا تفضحه نظرات الشوق بعينيه ولا ابتسامته التي تُجاهد للظهور فَرِحًا فلم يسعه سوى أن يقول بغِبطة لم تُدركها هي :
_ (( كلامي هيبقى مع خالي ..))
كان يَظُن أنها ستستوعب رسالته الخفية من بين كلماته، وستعي رغبته في مُقابلة والدها لطلب الاقتران بها، كرى تقر عينه وتُصبح زوجته وحبيبته وكل دنياه ..
إلا أن كلماتها المُرتعشة أتته فاضحة خوفها وهى تتساءل :
_ ((أنت هتقول لبابا؟ ))
حاول التجهم واصطناع الصرامة وهو يلتفت إليها كي لا تفضحه سعادته، فقال بلهجة لم يقصد إخراجها بذلك الكم من الجدية :
_ ((أُمال عاوزاني أسمع اللي بتقوليه ده وأسكت، ولا مستنية إني أتجاوب معاكي وأقولك أنا كمان بحبك ..))
أما جُملته الاخيرة خرجت بصدق حيثُ تعمد قولها بحروف متقطعة علها تفطن إلى حُبه ..
لكن رغم ذلك فاجأه سؤالها الحزين والانكسار يطل من عينيها :
_ (( يعني أنت مش بتحبنى ؟))
تلك النبرة جعلت قلبه يُعتصر بداخله فأراد أن ينفى عن نفسه تلك التُهمة، إلا إنه تردد في النهاية مُفكرًا فيما سيقوله لها، إن نطق لسانه فسيفضح جميع ما مر به طوال تلك السنون الفائتة، فليس هذا هو الوقت أو المكان المُناسب للإفصاح عن مكانتها لديه، لقد تخيل هو تلك اللحظة عشرات المرات من قبل بداخل ذِهنه فرأى محبوبته بمكان حالم هادئ ترتدى ثوبًا يليق بجمالها ورقتها جالسة بجواره فوق الرمال الناعمة تُظللهم السماء بزرقتها ويُنعشهم البحر برائحته، فيبوح لها بِحُبه ومكانتها بقلبه والتي لا يضاهيها شيء على وجه الأرض، ففؤاده لن يرضى أن تحتل سواها أراضيه ولن يقبل بغيرها زوجة ..
لذا بعد ذلك الصراع بداخله لم يستطع سوى أن يُشيح بوجهه عنها قائلاً :
_ ((أتفضلى روحي ياشمس وياريت متجيش هِنا تانى غير لما أقابل خالي عشان بعد كلامك ده مش هينفع نتقابل إلا لما يحصل وقفة والأمور تتحط في أماكنها الطبيعية ..))
بينما كان مقصده :
_ لو قادر إني اسيطر على نفسى ومشاعري دلوقتي ومأخدتكيش في حضني فمش هقدر أعمل كده لو شوفتك تانى، عشان كدة المقابلة الجاية هتبقى وإحنا بنقرا فاتحتنا وتبقى في مكانك الطبيعي جمبي ..
نعم هو لن يُقابلها سوى وخاتم خِطبته موضوع بإصبعها، لن يراها إلا عندما ترتفع الزغاريد مُجاهرة بحُبهما الذى لن يسمح لنفسه أن يستمتع به سرقة من وراء ظهر الجميع كشيء مُحرم خاطئ بعيدًا عن الأنظار، بل هو حقٌ وحلال والحق لا يخاف لومة لائم ..
هذا ما قرره بداخله عندما تفاجئ بنحبيها الحزين قائلة :
_ (( أنت بتعمل معايا كده ليه .. أنت فاكر نفسك مين .. أنا بمُجرد ما همشى من هِنا وأنا هنسى كُل اللي قولتهولك، وياريت أنت كمان تنساه لأنك متستحقش إحساسي ده وكلك على بعضك متساويش ذرة حُب من اللي جوايا ..))
كان يستعد للصعود بعدما التقط ما جلبته من قبل، بينما بداخله حرب شنعاء قائمة بين عقله الرافض وقلبه الذى يدعوه للتربيت عليها واحتضانها، استمرت تلك الحرب لدقائق قبل أن يُعلن عقله استسلامه، فتنحى جانبًا وبدأ القلب بالسيطرة، وترك هو مابيده وألتفت إليها بعدما
قرر التخلي عن ذلك الوجه الزائف الذى يرتديه، لكن أتته كلماتها كالطامة فوق رأسه :
_ (( عاوز تقول لبابا أتفضل ..للأسف كُنت فاكراك راجل .. بس أتطمن بعد ما عرفتك على حقيقك عُمرى ماهفكر فيك تانى … ولا هاجى هِنا تانى ..))
رآها تبتعد بينما هو على الدرجة الأولى من السُلم، وكأنه تحول إلى تمثال من الشمع ظل يُراقبها حتى اختفت عن أنظاره، ولم يقدر على الحِراك أو حتى التفوه باسمها ..
وتركها تذهب .. رغمًا عن ذلك الإحساس الخفي بداخله والذى أخبره بمدى قسوته وجفائه معها إلا إنه مَنّى نفسه في النهاية مُطمأنًا بغُفرانها وتفهمها فيما بعد للسبب وراء ما قاله عندما تَعلم برغبته في الزواج منها ..
وظل ينتظر لحظة الغُفران، وللأسف لم تأتِ تلك اللحظة إلى الآن …
وبعكس ما خطط له، فهو لم يستطع التقدم لخِطبتها سوى بعد بِضع شهور خاصة بعدما ترك عمله عقب لقائه بها بأيام قليلة فأضطر الانتظار حتى يحصل على وظيفة أخرى تَدِر عليه دخل يُمكنه من الالتزام بوعوده التي سيقطعها على نفسه ….
لكن يبدو أنها وفت بوعدها قبله، فلم يراها أو يلمح طيفها طوال تلك الشهور، وفى النهاية عندما أعتقد أن الوقت قد حان تقدم إليها وكُله أمل لإتمام المُراد، مُتخيلًا سعادة قسماتها الرقيقة عِند علمها بالأمر، لكنه وبعكس ما توقع فوجىء بالرفض ..
رفضته !! أبعد كُل ذلك الحب رفضته !! بعد كل تلك الليال التي تشوق فيها لفرحتها وجُبران قلبها رفضته !!
بتلك البساطة !!
حاول جاهدًا مُحادثتها والاتصال بها بشتى الطُرق لكنها رفضت إجابته، مما دفعه للتوجه إلى مكان دِراستها لأكثر من مرة حيثُ كانت لاتزال في سنتها الأخيرة، مُمنيًا نفسه برؤيتها والحديث معها، لكن فى كُل مرة كان يراها بصُحبة شاب مُحدد، طويل القامة أسمر اللون جميل القسمات، تجلس بجواره ببشاشة وضحكات مُتتالية تملأ فمها وكأنه يُلقى النِكات، في كُل مرة يشعر بالدماء تغلى بداخل عروقه وبقوة تدفعه لجذبها من جوار ذلك الشاب بعد أن يُلقنه درسًا يمنعه من الاقتراب منها من جديد، إلا إنه في النهاية يُرغم نفسه على ضبط أعصابه والتحامُل على المُغادرة دون أن تراه مُقررًا نفض يده عنها، إلا إنه سُرعان ما يتملك مِنه الضعف ويذهب إليها من جديد، وفى تلك المرة لم يشعر بنفسه سوى وهو يتقدم إليها جاذبًا إياها من ذراعها بقوة على مرأى ومسمع من زملائها ليسحبها بعيدًا عنهم
مُتسائلًا بِحدة :
_ مين اللي إنتى واقفة معاه ده ؟
لكنها تملصت من بين يديه مُجيبة بتحد :
_ وأنت مالك ؟
أجابها باختناق بينما عروق رقبته تستنفر بقوة :
_ إنتى نسيتي إني ابن عمتك ..
أجابته باستفزاز غير مُبالية على غير عادتها معه :
_ أديك قولت حياله ابن عمتي .. لا أنت أبويا ولا أخويا ولا خطيبي ولا جوزي ..
أجابها بصوت يملؤه الغضب والحسرة :
_ ما أنا أتقدمتلك ورفضتي ..
شمس ببرود :
_ زى ما أنت رفضت ..
أتسعت عيناه بعدم فهم مُتسائلًا :
_ يعني إيه ؟
أجابته بتحد وهى تهم بالمُغادرة :
_ يعنى أنا قولتلك إني عُمرى ماهفكر فيك تانى .. وأنا قد كلامي..
استفزه استخفافها به وتحديها له فقال بعِناد :
_ ماشي ياشمس خليكي قد كلامك للنهاية ..
تركها مُغادرًا لا ينوي على شيء، لم يُلِح عليها ولا حتى حاول الاعتذار منها عما بدر منه سابقًا رغم عِلمه أن سوء تفسيرها لكلماته هو السبب الرئيسي وراء تغيرها على هذا النحو، إلا إنه رغم ذلك لم يُوضح لها دوافعه التي تنحصر في مدى حُبه وخوفه الدائم عليها …
لكن إذا كانت هي تستطع تنفيذ كلماتها حِرصًا على كرامتها، فهو أيضًا لن يتذلل إليها، وإذا كانت هي أصرت على رفضه فهُناك الكثير ممن يتمنين اقترانهن به، لذا في أقل من ثمان أسابيع كان يعقد خطبته على إحداهُن .. وفعلت هي الاُخرى مِثل فعلته عقب ثلاث أسابيع فقط لاغير..
في الحقيقة، هو لم يعلم ما مر بها عقب خطبته، لكن مهما كان ذلك الذى شعرت به فهو لم يكن سوى نقطة في بحر تلك العاصفة التي اختلجته عقب خطبتها لغيره، عاصفة هوجاء اقتلعت أسمى معانى الإنسانية بداخله، فتحول إلى إنسان آخر غير الذى عهدته عائلته التي تغير سلوكه معها، فلقد أصبح يُدخن بشراهة وهو الذى لم يضع سيجارة واحدة بداخل فمه من قبل، أهمل في عمله الذى تميز بإخلاصه له، أضحى قاسى مع والدته وإخوته الذين لم يعهدوا منه سوى الرقة والعطف والحنان، لم يُحِب أو حتى يهتم بأمر خطيبته التي أختارها بنفسه رغمًا عن تحملها لصعوبة طِباعه طوال تلك الفترة، هو يعترف بظُلمه لها فلم يُعاملها سوى بجفاء وإهمال، مُتناسيًا حقيقة كونها إنسانة تمتلك مشاعر توجب عليه اِحترامها وتقديرها، إلا أن تجاهله لوجودها وصل إلى حد موعد الزفاف الذى حدده بُناءاً على رغبة والدته التي أشتد بها المرض، وكأنه روتين يتوجب عليه فعله دون تفكير …
لكنه أفاق أخيرًا عندما ذهب لتسليم خاله دعوة الزفاف، ورأى شمسه تسطع بعد كل ذلك الغياب فأرتجف من جديد وشعر بآدميته، وكأنها لم تغب عنه أبدًا وكأن لقاءهما لم تقطعه الأيام، أحتضن يدها الصغيرة في كفه الكبير، وضغط عليها برفق كأنه يضُم جسدها كله في كفه، وكأن في كفه نبضات قلبه، تذكر أخيرًا كونه إنسان يمتلك قلبًا كان قد تناسى وظيفته، هاهو الآن يعمل وترتفع دقاته فور رؤيتها، تلك التي أختار لها اسمها ونمت تحت أنظاره، هاهي طفلته وحبيبته الأولى والأخيرة تطل عليه من جديد …
صافحها بوجدانه لا بأصابعه وكأنها روحه رُدت إليه من جديد، آه لو كانت تعلم هي ما تحدثه به من ضعف وتيه، ما كانت تركته يُكابد عَناء الابتعاد عنها طوال تلك المُدة، لكنه قرر الإذعان والإعلان عن ضعفه ضاربًا بكبريائه وكرامته عرض الحائط، وعندما لمّح والدها إلى احتمال إنهاء خطبتها بماجد، كاد أن يلفظ هو في الحال دون تفكير مُعلنًا عن رغبته في خِطبتها ..فى استعادتها إليه من جديد ..
إلا إنها سُرعان ما نفت ذلك، ليتها ما تفوهت بكلمة، ليته ما رآها بجوار خطيبها، ليتها أدركت معنى تلك الجملة التي وجهها إليها بعد لفظ خطيبها الأحمق بها ..
(( هو الواحد هيتجوز كام مرة )) ..
هي لم تُدرك .. لكنه أدرك ..
هو فطن إلى ما وضع نفسه بداخله، وأبى أن يتمادى في ظُلم من لا ذنب لها ، لذا أنهى خِطبته وألغى زِفافه وعاهد نفسه على استرجاع ذاته التي فقدها بتهوره وضعفه …
وعقب زفاف محبوبته لم يستطع المكوث ففي موطنه لأكثر من ذلك بعدما أصبحت بصورة شرعية مِلكًا لغيره، لذا سافر بعيدًا، إلى خارج القارة بأكملها، إلى مكان حيثُ لا احتمال للقائها به صدفة، مكان لا يجمعه ذكريات معها، مكان لن يلمحها به أو يشتم فيه عطرها ولا حتى شذاه ..
لقد خطط لكُل شيء لكنه تناسى الأهم من كُل ذلك، تناسى قلبه الذى لم يجفل عن حُبه، تناسى روحه التي تشتاق إلى مُلاقاتها، تناسى كيانه الذى لن يكتمل سوى بوجودها ..
فطوال عشر سنوات كاملة في غُربته لم يجرؤ يومًا عن السؤال عنها، فهي الآن امرأة متزوجة تخص غيره ولا يحق له مَعرفهً أخبارها أو حتى الاطمئنان عليها، لكنه لم يستطع التحمل ودَمت روحه من قسوة الفراق والابتعاد عن الأحبة طوال تلك الفترة لذا قرر الرجوع إلى موطنه، حيث أهله وأصدقائه وأحباؤه حتى لو لم تكن هي بينهم ..
وعقب رجوعه علم من شقيقته بأمر انفصال شمس عن زوجها مُنذ خمس سنوات ..
خمس سنوات ! أزاد على قلبه عذاب خمس سنوات كاملة كانت هي فيهم بداخل بيت أبيها !
تباً له ولِغباؤه الذى جعله ينتظر طوال تلك المُدة، لكن لازال في العُمر بقية .. ليذهب ويستعيدها، نعم لا بُد له أن يستعيدها ..
سيعترف لها بِحبه ويقطع ذلك الخيط الذى كان يجذبه، تباً لكبريائه وسُحقًا لتلك العادات والتقاليد اللاتي أضاعوها مِنه طوال تلك السنوات، وعقب أسابيع كاملة من التردد ذهب للقاؤها مُبشرًا نفسه بغُفرانها، لكنها خالفت توقعاته كما المُعتاد ولم تغفر، رفضته شمس من جديد ..
************
أوشكت الشمس على الإشراق مُعلنة عن صباح يوم جديد وانقشاع جوف ليلة عصيبة لم تستطع هي نومها بسبب تلك المشاعر المُتخبطة داخلها، مزيج من السعادة والتلهف والقلق والاضطراب، فرغمًا عن توترها وانزعاجها من موعد ابنتها مع أبيها، إلا إنها لم تسطع تجاهل اغتباطها لاجتماعها اليوم مع كاتبها المُفضل، فشعرت في نفسها لهفة للقائه وحنين إلى رؤيته من جديد ..
كانت تعلم جيدًا أنها لن تستطع الاستمتاع بذلك اللقاء، وسينصب تفكيرها كُله على ابنتها وعلى الذى عليها مُواجهته ومُلاقاته داخل بيت أبيها، لقد حاولت تهيئة الصغيرة عندما استيقظت ليلًا لبضع ساعات، فعملت على بث الحماس بداخلها لرؤية جدتها وعماتها وأعمامها، إلا أنها علمت في قرارة نفسها ما ستجره تلك المُقابلة على الصغيرة من مساوئ خصوصًا مع تواجد العروس الجديدة ..
تناولت هاتفها بضيق وأرسلت إلى صديقتها مُعتذرة عن تغيبها اليوم عن العمل لليوم الثاني على التوال، وخطر على بالها لثوان إرسال أُخرى إلى مصطفى لتعتذر عن موعده هو الآخر، إلا أنها ظلت تُقنع نفسها بعكس ذلك مُبررة .. فلماذا لا تُلاقيه عله يُخفف عنها وطأة قلقها على ابنتها، ويمُر الوقت وهي بصحبته حتى لا تفكر كثيرًا ويزيد توترها ..
لكن ذلك اللقاء من المُفترض أن الهدف الأول من ورائه هو تعرف إحداهما على الآخر بصورة أوضح، وهى لن تكون بمزاج يسمح لها بذلك، فمن الأجدر إلغاؤه حتى يصفو ذهنها ..
في النهاية لم تستطع شمس سوى أن تزفر بضيق من ترددها الدائم، فأجلت التفكير فى ذلك الأمر بعد مُغادرة ابنتها، فمازال أمامها مُتسع من الوقت ..
في تمام التاسعة استيقظت الصغيرة واحتضنت والدتها التي لازالت بجوارها أعلى الفراش على غير عادتها، فاستقبلتها الأُم بسعادة قائلة بحنان :
_ نمتى كويس ياقلبي .
تثاءبت يارا بكسل مُجيبة :
_ آه ياماما ..
داعبت شمس شُعيرات الصغيرة قائلة بحماس مُصطنع :
_ طب يلا قومي بقى عشان تفطري وتبدأي تجهزي، أنا طلعتك الفستان الجديد بتاعك وهعملك التسريحة اللي بتحبيها ..
لكن لم تفلح تلك الإغراءات في منع سحابة الحُزن التي ظهرت أعلى وجه الصغيرة وهى تقول بلهجة أقرب للرجاء :
_ بس أنا مش عاوزة أروح ..
حاولت شمس اقناعها قائلة :
_ ها قولنا إيه .. بابا النهاردة هجيبلك لعب كتير وكمان تيته وعماتك هيعملولك الأكل اللي بتحبيه ..
أجابتها الابنة بانكسار :
_ لا ياماما هُم بيزعقولي ومش بلاقي حد ألعب معاه ..
شمس باستغراب :
_ ليه اُمال فين ولاد عمامك !
أجابتها الطفلة :
_ معرفش بيلعبوا مع بعض فوق ومش بيلاعبوني معاهم ..
احتضنت شمس تبنتها بإشفاق قائلة :
_ متزعليش نفسك .. إنتى أصلاً بنوته ومينفعش تلعبي مع الولاد .. صح ولا إيه ..
يارا بابتسامة حزينة :
_ صح ياماما .. طب ممكن تجيبيلي أُخت بنت عشان ألعب معاها ..
احتضنتها والدتها بقوة قبل أن تقول مُشجعة :
_ تعرفي بقى النهاردة لما ترجعي هتلاقينى محضرالك مفاجأة ..
التمعت عيني الصغيرة بحماس مُتسائلة :
_ بجد إيه هي ؟
غمزت شمس بإحدى عينيها قائلة :
_ شوفي إنتى بقى إيه أكتر حاجة بتحبيها .. وكُل يوم عاوزة منها…
اتسعت عيني يارا بعدم تصديق قائلة دون تفكير :
_ هابي ميييل …
ودون أن تنطق الأُم، احتضنتها الطفلة بقوة فقبلتها شمس من مُقدمة رأسها قائلة :
_ شطورة يايويو .. بس على شرط بقى النهاردة تبقى كويسة وتسمعي الكلام …
في النهاية نجحت شمس في تحميس ابنتها التي غادرت فِراشها بسرعة ونشاط ..
كانت الساعة قد جاوزت العاشرة والنصف صباحًا عندما وصل ماجد أخيرًا لالتقاط ابنته التي وقفت داخل الشُرفة بصُحبة جدتها في انتظاره، وبعد عدة دقائق كان يقف في مواجهة شمس التى صاحت به مؤنبة :
_ بقى دي مواعيد ..
ابتسم ماجد بغير اكتراث قائلًا :
_ مفرقتش نص ساعة .. مش امتحان الثانوية هو ..
أحمر وجه شمس غضبًا لكنها لم تستطع سوى أن تقول بتحذير وهى تُربت على ابنتها التي اِحتمت بها :
_ قبل خمسة تكون هِنا ..
أمسك ماجد كف ابنته يجذبها إليه بقسوة وهو يقول :
_ ربنا يسهل ..
زاد من غضبها جذبُه للطفلة بتلك الطريقة فصاحت قائلة :
_ على الله اللي حصل قبل كدة يتكرر .. خليك أب ولو مرة في حياتك ..
أشاح لها بذِراعه مُتجاهلًا بعد أن ولاها ظهره فصاحت هي من ورائه مُهددة :
_ قضايا النفقة ياماجد متنساش ..
لم تستطع شمس رؤية تعابير وجهه التي تغيرت بمُجرد ذِكرها لقضايا النفقة خاصته وتذكره الأموال التي سيضطر أن يدفعها إذا طالبت بهم، فقرب ابنته منه يحملها برفق في مُحاولة منه لإثبات حسن نيته ..
ابتسمت شمس بانتصار مُلوحة إلى ابنتها التي نظرت إليها بسعادة بعد أن حملها والدها للمرة الأولى منذُ عامين ..
وماإن اختفت الابنة وأباها عن أنظار الأُم حتى أغلقت شمس باب المنزل وعلامات الحُزن تملأ وجهها فاستقبلتها والدتها بداخل أحضانها مُطمأنة :
_ متخافيش ده أبوها .. لا يُمكن يأذيها ..
أوشكت شمس على البُكاء قائلة بضعف :
_ الأذية مش في الجسم بس .. البنت كُل مرة ترجع نفسيتها متدمرة، والمرادي بالذات أنا قلقانة عليها أوى .. ياريتني ما وافقت ..
رفعت مجيدة وجه ابنتها إليها بأطراف أصابعها مُتسائلة بقلق :
_ اشمعنى المرادي ؟
ظهرت علامات السخط على وجه شمس مُجيبة :
_ البيه هيتجوز لتالت مرة وعاوز يفرج العروسة على بنته ..
تشدقت مجيدة بسخرية قائلة :
_ يخيبه راجل … وأنا اللي فاكرة بنته وحشته وعاوز يقضى معاها اليوم ..
ثم ما لبثت أن ربتت على ابنتها مُطمأنة :
_ إن شاء الله تطلع كويسة ومتعملش زي اللي فاتت وعمومًا كُلها كام ساعة وبنتك ترجع لحضنك …
نجحت دمعة هاربة في الفرار من عيني الابنة التي قالت بقلة حيلة :
_ اتفقت معاه يرجعها الساعة خمسة ..
ثُم أضافت بخفوت واستكانة وكأنها تطلب الإذن :
_ هنزل أجيبلها الأكل اللي بتحبه قبل ما ترجع ..
ربتت مجيدة على ظهر ابنتها بحنان قائله :
_ ماشي ياحبيبتى بس اِستأذنى ابوكى قبل ماتنزلي متقلقناش عليكى زي إمبارح ..
هزت شمس رأسها بأدب مُجيبة :
_ حاضر يا ماما.. هقوله قبل ما أنزل ..
ثُم أضافت :
_ أنا هدخل أنام شوية ..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)