رواية مصطفى أبوحجر الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم آلاء حسن
رواية مصطفى أبوحجر البارت السادس والثلاثون
رواية مصطفى أبوحجر الجزء السادس والثلاثون
رواية مصطفى أبوحجر الحلقة السادسة والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
-٣٦- إن كيدهُن عظيم
رغمًا عن برودة الطقس في صباح ذلك اليوم الشتوي والذى حُجٍبت فيه أشعة الشمس التي خبأتها السُحب المُتشبعة ببخار الماء فتحولت من لونها الأبيض القطني إلى آخر مُعتِم يُنذر بسقوط الأمطار ..
وبرغم تلفح البشر داخل هذا المبنى الشبه مُظلم بالكوفيات الصوفية والكمامات الطبية مُختلفة الألوان إلا أن تلك الرائحة المُميزة للمشفى لم تفشل في الوصول إلى أنوفهم وكأنها تؤكد على سير العمل كالمعتاد رغمًا عن سوء حالة الطقس بالخارج ..
توقف الجميع عن التحرك لوهلة عندما استرعى انتباههم دخول ثلاث رجال بخُطى سريعة مهيبة من باب المشفى بصورة مفاجئة، يغلُب على مظهرهم الحزم والجدية خاصة ذلك الذى يتقدمهم مُرتديًا حِلة سوداء أنيقة يعلوها معطف صوفي أسود، يتبعه رجل شرطة برتبة رائد مُرتديًا الزي الرسمي وبجانبه آخر بملابس مدنية يعلوها جاكت قصير من الجلد الأسود وبيده عدة اوراق وجهاز مُكالمات لاسلكي خاص بالشرطة صدرت عنه عدة إشارات أثناء توجهم إلى الأعلى ..
اُستِرقَت الأنظار إلى ثلاثتهم باستحياء شديد فتساءل الجميع بهمهمات غير مسموعة عن سر تواجد أفراد الشرطة داخل هذا المشفى الحكومي المُتهالك في مثل ذلك الوقت الباكر والذى لم يتجاوز التاسعة صباحًا من يوم الأحد ووسط ذلك الطقس قارص البرودة في منتصف يناير ..
في إحدى الأدوار العُلوية ظهر شاب قوي البنية ممتلئ الجسم يقف في انتظارهم والذى ما إن لمحهم من بعيد حتى هرول إليهم بأدب شديد قائلًا وهو يحذو حذوهم مُحاولًا مُجاراة خُطاهم السريعة الواثقة :
_ أهلاً يافندم من هِنا، آخر أوضة على اليمين ..
تأمل وكيل النيابة الغرفات على يمينه ويساره قبل أن يتساءل بحزم اثناء سيره :
_ عرفت مكانها ازاى ؟
أجابه جلال بدون تفكير :
_ حد كلمني على تليفون البيت امبارح بليل وبلغني بوجودها هِنا من أكتر من أسبوعين ..
عبس وكيل النيابة بغير اقتناع متسائلًا :
_ وطول الفترة اللي فاتت دي محدش كلمك ليه ؟
أجابه جلال على الفور :
_ مكنش معاها أي حاجة تثبت هويتها ولا حتى الموبايل بتاعها وجالها شبه فقدان ذاكرة من الحادثة فمكنتش فاكرة أي حاجه لحد امبارح بس قدرت تفتكر رقم التليفون ..
قاطعه وكيل النيابة قائلًا دون أن ينظر إليه :
_ افتكرتك لما شافتك ؟
ظهر التوتر على ملامح المُتحدث وهو يقول عقب أن توقف أمام الغرفة المنشودة :
_ آه افتكرتني أنا وأمي وحكتلي عن الحادثة بالتفصيل ..
في تلك اللحظة تدخل الرائد المُصاحب لوكيل النيابة قائلاً :
_ هشوف الدكتور المتابع لحالتها على ما حضرتك تستجوبها يافندم ..
أومأ وكيل النيابة برأسه مُوافقًا وأشار إلى صاحب السُترة الجلدية لاتباعه قبل أن يدلُف إلى الغرفة ويتأمل تلك الراقدة أعلى الفراش بوجه شاحب مصفر وجسد هزيل لا يقدر على الحراك، وإلى جوارها أعلى الفراش تجلس سيدة تبدو في منتصف الخمسين من عُمرها تُحاول إطعامها، والتي توجه إليها الابن يُعينها على الوقوف قبل أن يأخذ بيدها متوجهًا بها إلى الخارج وهو يقول بأدب :
_ تعالي ياماما نطلع برة لحد ما الباشا يسأل آلاء على شوية حاجات ..
أطاعته الأم باستسلام لكنها توقفت بجوار وكيل النيابة لبُرهة قبل خروجها مغمغمة برجاء خافت :
_ براحة عليها والنبي دي لسة عيانة …
أزاح وكيل النيابة ذلك المقعد الحديدي في إحدى أركان الغرفة ليُقربه من فراشها فجلس أعلاه بتؤدة قائلًا بلهجة حاول اخراجها ودية :
_ حمد الله على السلامة ..
أجابته آلاء بوهن :
_ الله يسلمك ..
أشار وكيل النيابة إلى الشخص الواقف بجواره لفتح المحضر وهو يوجه كلماته إلى تلك الراقدة قائلًا بهدوء :
_ تسمحيلي أدردش معاكي شوية ..
أجابته بابتسامة متوجعة :
_ أتفضل .. أنا تحت امرك ..
تساءل بصورة روتينية :
_ اسمك بالكامل ..
أجابته :
_ آلاء حسن …..
تساءل برسمية شديدة :
_ انتي هِنا من امتى ياآلاء ؟
أجابته مُحاولة التذكر وهى تُمسك برأسها المعصوبة :
_ قالولي من حوالي أسبوعين تقريبًا بس كُنت فاقدة الذاكرة ومش فاكرة أي حاجة ..
ابتسم هو مُداعبًا على غير عادته :
_ وياترى أخبار الذاكرة إيه دلوقتي ؟
أجابته بخفوت وهو تهرب بنظرها بعيدًا عنه :
_ الحمد لله ..
ارتسمت علامات الجدية على وجهه من جديد وهو يقول :
_ حيث كدة بقى اسمحيلي أخش في الموضوع على طول عشان متعبكيش ..
هزت رأسها مُوافقة فتساءل هو على الفور :
_ تعرفي حد اسمه مصطفى أبو حجر ؟
أجابته بتردد بعدما تغير لونها :
_ آه ..
تساءل من جديد :
_ياترى إيه طبيعة علاقتك بيه ؟
سلطت آلاء نظراتها على أخيها الواقف على اعتاب الغرفة بينما آذانه مُنتبهة إليها، فشعر وكيل النيابة بخوفها الواضح وترددها في الحديث عقب نظراتها المُسترقة إلى أخيها لذا حاول طمأنتها قائلًا :
_ أتكلمي مفيش حد هيقدر يأذيكي ..
ابتلعت المريضة لُعابها بتمهل قبل أن تُجيبه بحذر :
_ أبدًا هو كاتب مشهور بقراله على طول وبعتله قبل كدة كام رواية ليا يقيمني ويقولي رأيه
رمقها المُستمع بنظرة ذات معنى قبل أن يقول :
_ بس أعتقد إنك تعرفيه معرفة شخصية وقابلتيه قبل كده صح ..
نكست الراقدة رأسها دون أن تُجيبه فأضاف هو متسائلًا :
_ امتى آخر مره شوفتيه ؟
لاحت علامات الحُزن والألم أعلى وجهها وكأنها تسترجع تلك الليلة المريرة قائلة :
_ يوم الحادثة ..
هز وكيل النيابة رأسه قبل أن يقول :
_ تقدري تقوليلنا على اللي حصل بالظبط ليلتها وإيه طبيعة علاقتك بيه ؟
حاولت آلاء بإعياء رفع جسدها إلى الأعلى مُتكأة على راحتيها كي تجلس باستقامة وارتياح قبل أن تُجيب بأسى ومرارة كمن يُحاول عدم التذكر :
_ أنا أعرفه من سنين على طول كنت متابعاه وبحب اقراله، ومن فترة كبيرة كنت بدأت أكتب وبعتله أكتر من رواية ليا عشان يساعدني أنشرها وكان فعلًا مُهتم بيا جدًا وبيشجعني أكتب أكتر، لحد ماجت فترة لقيته أختفى خالص ومبقاش يرد على أي حاجه أبعتهاله، بصراحه قولت ربنا يكون في عونه أكيد مشغول خصوصًا وإن وقت المعرض كان قرب، وفجأة لقيت إن روايته الجديدة اللي نازل بيها هي واحدة من رواياتي اللي كنت ببعتهاله…
صمتت قليلًا زافرة بضعف قبل أن تستطرد بعد أن أشار إليها وكيل النيابة بالاستمرار فقالت :
_ بصراحة مقدرتش أسكت وروحتله معرض الكتاب أعاتبه على اللي عمله فاعتذر لي وقالي إنه غصب عنه ووعدني إنه في أقرب فرصة هيقول أنها عمل مشترك بينا، وللأسف مكنش قدامي حل غير إني أصدقه وأرضى بأي حاجة ومرت الأيام وأنا مستنياه ينفذ وعده اللي منفذش حرف واحد منه ، ففضلت وراه لحد ما عرفت عنوان بيته ..
ولما عرفت إنه أتجوز قولت فرصة أهدده قدام مراته يمكن أعرف آخد حقي، بس ساعتها قال عليا إني واحدة مجنونة وأهاني وطردني ومعرفتش آخد منه حق ولا باطل ..
صمتت آلاء لبضع لحظات وجهت فيها أنظارها إلى أخيها الواقف على مسافة ليست بالبعيدة عنها قبل أن تُردف بقلق :
_ وبعدها بكام يوم لقيته بيكلم أهلي ويقولهم إن في بيني وبينه علاقة وبعتلهم أسكرينات وكلام متفبرك ..
قاطعها وكيل النيابة متسائلًا بحذر :
_يعنى الإسكرينات دي مكنتش حقيقية ؟
نظرت إلى أخيها من جديد وهى تُجيب بثبات :
_لا طبعًا مش حقيقي ..
هز وكيل النيابة رأسه مُتفهماً قبل أن يقول :
_ وبعدين ؟
ازدردت آلاء لُعابها بقوة مُستطردة :
_ بعد اللي عمله ده بقت كل يوم نار الانتقام جوايا بتزيد يعني مش كفاية إنه سرقني لا وكمان بيشوه سمعتي قدام أهلي، وعشان كده قررت أروحله بيته تاني وأنا ناوية المرادي أفضحه قدام مراته والناس كلها ..
قاطعها وكيل النيابة من جديد قائلًا بلهجة ذات معنى وكأنه يؤكد لها معرفته بحقيقة الأمر :
_ يعنى مكنتيش متفقة معاه إنك تقابليه بعد ما وعدك بالجواز ؟
على الفور قالت آلاء ساخرة :
_ جواز وأقابله لا طبعًا أنا ازاى هبص لواحد تقريبًا قد أبويا ..
رفع وكيل النيابة حاجبيه بعدم تصديق قبل أن يقول مُضيقًا عينيه :
_بس على اللاب توب بتاعك لقينا في الشات اللي بينك وبينه كلام إنك ..
اتسعت عيني آلاء بذعر وسلطت نظراتها على آخاها بشكل مُتعمد واضح قبل أن تُقاطع وكيل النيابة قائلة بحسم وبصوت عالٍ نوعًا ما تعمدت وصوله إلى مسامع أخيها :
_ الحساب بتاعي مسروق من فترة كبيرة وأكيد هو اللي سرقه وعمل كده عشان يهددني بحاجات محصلتش ..
زفر وكيل النيابة بضيق بعد أن وجه بصره إلى أخيها هو الآخر فلاحظ ازدياد قُربه من الغرفة بشكل واضح، فأشار لها بالاستمرار في حديثها مُتسائلًا :
_ كملي وبعد ماروحتيله حصل ايه فضحتيه زي ماكُنتي عاوزة ؟
هزت رأسها نافية :
_للأسف لا مدانيش فرصة وحاول يلم الموضوع وقالي هعملك كُل اللي انتي عاوزاه وللأسف صدقته بردو مش عارفة ليه، ونزلت معاه من العمارة وأصر إنه يركبني عربيته عشان يوصلني بس أول ما بعدنا عن بيته بمسافة قليلة لقيت وشه أتقلب وظهر على حقيقته من تاني ووقف عربيته في نص الشارع ونزلني منها بالعافية وسابني ومشي بعد ما هددني إني لو مبعدتش عن طريقه هيفضحني في كُل حتة والمرادي مش باسكرينات لا بصور هيركبها، اتحرك بعربيته بأقصى سرعة ليه وجريت وراه على قد ما قدرت وأنا بشتمه وبهدده بأعلى صوت ليا ومحستش بنفسي إلا وأنا بقع على الأرض بعد ما رجلي أتلوت من تحتي وأتزحلقت وقعت وراسي اتخبطت ..
وكيل النيابة :
_ وبعدين حصل إيه بعديها ؟
أجابته بحسرة وهي تنظر إلي الأسفل بانكسار :
_ فوقت لقيت نفسي في المستشفى ورجلي متجبسة بس مش فاكرة أي حاجه من اللي حصلت، ولا حتى فاكرة أنا مين ..
قاطعها وكيل النيابة مُتسائلًا بحذر :
_ وافتكرتي امتى وإزاي ؟
أجابته بملامح مُنهكة تَعِبة من كثرة الحديث :
_امبارح بليل لما لقيت رقم تليفون بيتنا نط في عقلي فطلبت منهم يتصلوا بالرقم ده، وأول ما شوفت أخويا وأمي افتكرت كل حاجة ..
صمت وكيل النيابة لبضع لحظات قبل أن يتساءل بعد تفكير :
_ مكنش معاكي موبايل أو بطاقة شخصية لما وصلتي المستشفى !
أجابته نافية :
_ مش عارفة الممرضة قالتلي مفيش أي حاجة كانت معايا ..
ثُم ما لبثت أن فسرت مُوضحة :
_ أكيد شنطتي اللي كان فيها كل حاجة اتسرقت لما وقعت ..
أومأ وكيل النيابة برأسه متفهمًا قبل أن يقول :
_ تعرفي إن مصطفى حاليًا محبوس ومُتهم بتهمة قتلك ..
عبست آلاء بحاجبيها قائلة باستغراب :
_ قتلي !!
أضاف هو مُوضحًا بعدما سلط نظراته عليها مُحاولًا تبين الصدق في كلماتها :
_ ده غير إن مصطفى نفسه بيأكد إنك انتحرتي قدامه في المقطم .. تفسري ده بإيه !
اجابته المريضة بسخرية مصطنعة دون أن يبدو عليها أي معلم من معالم الاندهاش وهي تقول :
_ هنتحر ليه عشان حتة رواية !!
أجابها هو بحذر وبصوت خفيض نوعًا ما وهو لايزال يُراقب تعبيرات وجهها :
_ لا عشان بتحبيه ..
ارتفعت ضحكات آلاء بصورة مُفتعلة رغمًا عن آلامها لتقول مُستنكرة وكأنها تترفع عن ذلك :
_ أحبه ! لا معلش هو اللي عنده جنون العظمة ومغرور لدرجة تخليه يفتكر إن أي بنت تقرب منه تبقى بتحبه ..
تبادل وكيل النيابة النظرات مع الكاتب إلى جواره باستغراب شديد قبل أن ينظر اليها من جديد متسائلاً :
_ أُمال ليه أخوكي جه بلغ إن مصطفى هو السبب وراء اختفائك !!
حاولت آلاء تفسير ذلك قائلة :
_ أخويا كان عارف اللي حصلي من مصطفى وإنه سرق روايتي وكان حاسس بالنار اللي جوايا إني عاوزه آخد حقي منه، فأكيد أول حاجة فكر فيها إني روحتله لما اختفيت .
رفع وكيل النيابة رأسه إلى ظهر أخيها الواقف على أعتاب الغُرفة قبل أن يقول بعدم تصديق :
_ وليه أتهمه إنه قتلك ؟
هزت آلاء كتفيها بحيرة مُبررة :
_ معرفش بس مصطفى لما كلمهم وبعتلهم الإسكرينات المفبركة قبل كدة هددهم ساعتها إني لو مبعدتش عن طريقه، المرة الجاية هيرجعني جثه ويمكن ده اللي خلاه يفكر كده ..
ساد الصمت لبضع لحظات قبل أن يومأ وكيل النيابة برأسه عدة مرات مُعلنًا عن انتهاء التحقيق في نفس التوقيت الذي دلف به الطبيب المُعالج إلي الغرفة بصحبة الرائد والذى استطاع استجوابه بشكل كامل قبل أن يبدأ وكيل النيابة في سؤاله عن حالتها الصحية فأكد الطبيب ما قالته هي بأن رأسها ارتطمت بجسم صلب إثر انزلاقها أرضًا بعد التواء كاحلها الذى تم تعافيه بشكل كامل مُنذ عدة أيام ..
طلب وكيل النيابة من الطبيب المُعالج تقرير مُزيل بتوقيعه ومختوم بختم المشفى لِما تعرضت له المُصابة ويُرفق به جميع الاشعات الخاصة بها لضمها إلى ملف التحقيق، ومن ثَم غادر المشفى هو والرائد المُصاحب له تاركًا ذو السترة الجلدية من ورائهم لاستلام الأوراق الرسمية والأشعة ..
وعقب مُغادرتهم تساءل الرائد بفضول أثناء سيره بجوار الآخر قائلًا :
_ قالت إيه ؟
هبط وكيل النيابة الدرج بهِمة مُتوجهًا إلى الأسفل وهو يتحدث قائلًا :
_ نفس كلام الدكتور، بس اللي استغربته هو إنها انكرت علاقتها بمصطفى تمامًا ..
عبس الرائد باستغراب مُحاولًا الفهم بصورة واضحة وهو يتساءل :
_ يعني إيه ! قالت إنها متعرفهوش !
هز وكيل النيابة رأسه مُوضحًا :
_ لا أنكرت العلاقة العاطفية بينها وبينه بس أكدت على كلامه إنه سرق منها روايات ونزلها باسمه ..
علق الرائد باهتمام :
_طيب والمحادثات اللي بينهم على اللاب توب بتاعها ؟
زفر وكيل النيابة بضيق وهو يتوجه إلى خارج المشفى قائلًا :
_ بتقول إن حسابها مسروق وجهازها متهكر والحاجات دي كلها متعرفش عنها حاجة وإن مصطفى هو اللي عاملها عشان يهددها بيها، بس أنا مش مصدق ولا حرف من كلامها …
ثُم أضاف مُوضحًا وجهة نظره :
_ احتمال كبير قالت كدة خوف من أخوها وكانت بتبصله بطرف عنيها معظم الوقت ..
هز الرائد رأسه باقتناع قبل ان يقول ببساطة :
_ طيب احنا ممكن نجيبها نستجوبها من تاني عندنا ..
حرك وكيل النيابة رأسه نافيًا وهو يقول :
_ ملوش لزوم، علاقتها بيه دي حاجة خاصة بيها إحنا اللي يهمنا قضية القتل اللي مبقتش موجودة دلوقتي خلاص ..
ما إن خطا كليهما بضع خطوات خارج المشفى حتى لاحظا تواجد العديد من أفراد الصحافة والمصورين الذين ظهروا من العدم يتوجهون بحماس إلى الداخل، على الفور ملأت دلائل الاستغراب والدهشة وكيل النيابة الذى علق قائلًا :
_ القضية دي تحس إنها معمولة بس لبتوع الصحافة عشان ياكلوا عيش ويلاقوا حاجة يتكلموا فيها ..
علق الرائد من ورائه وهو يُتابع بعينيه إحدى الصحفيات المرموقات وهى تتجه بخطوات سريعة إلى الداخل :
_معاك حق يافندم، مفيش دلوقتي موضوع على الساحة غير موضوع مصطفى أبو حجر بهاشتاج حرامي الروايات، ورغم إنه مقتلش ولا ليه علاقة بأي جريمة قتل إلا إن ده كان الباب اللي اتفتح عشان يتكشف وتبان حقيقته المستخبية للناس ..
*****************************
بعد انتهاء شمس من زيارتها لزوجها ومغادرتها ببضع ساعات استدعى وكيل النيابة مصطفى من جديد ولحُسن الحظ أن أيمن المحامي الخاص به تواجد في نفس التوقيت بداخل سرايا النيابة وكأنه كان في انتظار ما سيحدث، أثار ذلك فضول الأول متعجبًا من توقع أيمن تلك الجلسة في هذا اليوم العاصف المُلبد بالغيوم بالتحديد والذي فضل فيه معظم العاملين الاختباء أسفل أغطيتهم الدافئة والاستمتاع بالتدثر بها ..
تجول وكيل النيابة بنظراته على تفاصيل ملامح مصطفى المُنهكة لعدة لحظات قبل أن يقول بنبرة حاول إخراجها شبه ساخرة :
_ أخبارك إيه يادنجوان !
لم يُجبه مصطفى بل اكتف بالتطلع إليه بأعين لا تقدر على النظر من شده ارهاقها، فقال أيمن بجدية :
_موكلي عنده أقوال جديدة عاوز يضيفها للمحضر ..
نظر وكيل النيابة إلى مصطفى باهتمام متسائلًا :
_ أقوال جديدة ؟
ثُم أضاف بجدية :
_ أتفضل كُلي آذان صاغية ..
التزم مصطفى الصمت فقال أيمن وكأنه المُتحدث الرسمي له :
_ قبل ما أستاذ مصطفى يقول أي حاجة أنا محتاج أعرض على حضرتك شويه أوراق ومستندات ليها علاقة بالقضية او باللي عاوز يقوله موكلي ..
زفر وكيل النيابة بضيق قبل أن يقول بملل واضح :
_ أتفضل يامتر خش في الموضوع من غير مقدمات ..
أخرج أيمن عدة اوراق من داخل الشنطة الجلدية بحوزته واختار إحداها ليُدقق النظر فيها مليًا قبل أن يُقدمها إلى وكيل النيابة بحذر قائلاً بثبات :
_ اولًا ده عقد بيثبت ملكية موكلي للمسدس اللي لقيتوه في عربيته ..
ظهر الاهتمام الواضح على وجه وكيل النيابة والذى قال بعبوس وهو يُطالع تلك الورقة :
_ عقد ملكية يعني هو اللي ….
لكن قاطعه أيمن مُكملًا وهو يقدم إليه بضع وُريقات أُخرى :
_قبل ما حضرتك تفكر كتير، دي أوراق طبية تثبت إن موكلي عنده بدايات زهايمر ..
نقل وكيل النيابة نظره ما بين المُتهم ومُحاميه عدة مرات قبل أن ينفجر ضاحكًا رغمًا عنه قائلاً بتهكم :
_ زهايمر !! طب قول خلل في قواه العقلية عشان تعرف تخرجه يامتر …
ثُم أضاف عقب خفوت ضحكاته :
_ لا بس حلوة زهايمر دي وجديدة .. عجبتني ..
لم يلتفت أيمن إلى نبرة السخرية في كلمات المُتحدث فأكمل ببرود وهو يُقدم إليه المزيد من الأوراق :
_لا يافندم للأسف هو زهايمر ودي روشتات العلاج اللي كان بيتلقاها واللي من ضمنها دوا من آثاره الجانبية إنه بيسبب حالات هلوسة في بعض الأحيان .
أراح وكيل النيابة جسده إلى الوراء بعدما ارتسمت عليه علامات الجدية قائلاً بحذر :
_ مش فاهم عاوز تقول إيه أو توصل لإيه !
اجابه أيمن بآلية شديدة مُرددًا دون تفكير :
_الأستاذ مصطفى كان مُشوش الفترة اللي فاتت من تأثير الدوا فحصل تضارب في أقواله نتيجة الهلوسة دي، بس بما إنه مُمتنع عن تناول العقار من وقت حبسه فعقله بدأ يسترجع الأحداث اللي حصلت بالظبط ..
في تلك المرة وجه وكيل النيابة كلماته إلى المتهم بإصرار متسائلًا بحزم :
_وياترى إيه اللي حصل بقى !! تقدر تتكلم ياأستاذ مصطفى ..
خرجت كلمات مصطفى بصعوبة بالغة من بين شفتيه فبدأت بهمهمة خفيفة سُرعان ما اتضحت لتتحول إلى كلمات متقطعة متوترة مسموعة إلى حد ما وهو يقول مُطأطأ الرأس:
_ أنا .. أنا بعد ما أخدتها ونزلت من البيت كُنت بحاول أبعدها عن المكان اللي ساكن فيه بأي طريقة لأنها كانت مصممة تفضحني فيه، اتخانقنا في العربية وصممت إني أنزلها في نص الشارع عشان أخلص منها وبعدها جريت بالعربية مش عارف أروح فين ..
صمت قليلاً يحاول ترطيب حلقه الجاف بلُعابه قبل أن تخرج كلماته مرتعشة من جديد وكأنه اُرغم عليها قائلًا :
_ كنت مخنوق من اللي حصل وعاوز أفكر في اللي ممكن أعمله معاها عشان متتكلمش حتى لو اديتها مبلغ عشان تسكت، فطلعت على المقطم من غير تفكير، بس بعد ما وصلت بدأت الدنيا تمطر بسرعة جدااا ومكنش في أي حد هناك فرجعت تاني وقررت إني أروح على البيت ..
دقق وكيل النيابة في قسمات المتهم المتوترة قبل أن يتساءل بعدم اقتناع :
_ يعني قصة انتحارها اللي قولتلهالنا بكُل تفاصيلها كانت من تأليفك !
تدخل أيمن مُوضحًا :
_ من تأليف عقله الباطن هو مكنش مُدرك يافندم واختلطت عليه الهلاوس بالحقيقة ..
تأرجح وكيل النيابة بمقعدة عدة مرات قبل أن يُعلق :
_طيب يامتر وبالنسبة لبُقع الدم اللي جبناها من عربيته ومن على منديله دي إيه! هلاوس ملموسة ولا احنا كمان بنهلوس والبقع ملهاش وجود !
هز ايمن رأسه نافيًا بعدما اغتصب ابتسامة مُجاملة اعلى شفتيه وهو يقول :
_ لا طبعاً يافندم العفو، بس الحقيقة إن ده دم موكلي مش أي حد تانى ..
ثم أضاف مُوضحًا :
_ قبلها بكام يوم الأستاذ مصطفى أتعور في صوابعه من آلة حادة كانت معاه في عربيته، وطبعا مسحها بمنديله الخاص واللي مسح بيه كمان القطرات اللي نزلت على كرسي عربيته قبل ما ينضف العربية كلها بعدها بكام يوم عشان آثار المطر والطين اللي كانت على العربية برة وجوة ..
افلتت ضحكة ساخرة من بين شفتي وكيل النيابة وهو يقول :
_ مش غريبة إنه يفتكر كل ده مرة واحدة كده مع إنه قبل كده نفى تنضيفه لعربيته وكان مذهول من المنديل المتغطي بالدم واللي ميعرفش مصدره، هو الأدوية دي بياخدها عشان تزودله الزهايمر ولا تعالجه يامتر !!
تنحنح المحامي عدة مرات قبل أن يُضيف :
_لا يافندم زوجة الأستاذ مصطفى هي اللي وضحلتي المعلومة دي لأنها كانت معاه وقت ما جرح إيده وعمومًا حضرتك تقدر تتأكد بنفسك من عمل تحليل الدم ومقارنتها بالدم على المنديل ..
تأرجح وكيل النيابة بمقعده من جديد يُمنةً ويسارًا قبل أن يوجه كلماته إلى مصطفى قائلاً بضيق من كم تلك المعلومات الغير منطقية :
_ عمومًا ياأستاذ مصطفى سواء اللي قولته قبل كده ده كان هلاوس أو حقيقة فللأسف مبقاش يفرق كتير.. لأن مبقاش في جريمة قتل من الأساس ..
اعقب كلماته تلك باعتدال جسده أعلى مقعده بعد أن اتكأ بذراعيه على مكتبه مُضيفًا :
_ آلاء فعلًا مماتتش وكانت فاقدة الذاكرة طول الفترة اللي فاتت ولما استجوبتها قالت نفس كلامك دلوقتي .. إنك نزلتها من عربيتك غصب عنها وبعدها رجليها أتلوت وراسها أتخبطت وفقدت الذاكرة بشكل مؤقت ..
ومن حُسن حظك إن الذاكرة رجعتلها بسرعة وإلا كان زمانك مشرفنا حبة كمان ..
في الحقيقة لم يستطع مصطفى استيعاب ما يقال له وكأن عقله قد توقف عن عمله، فقفزت نظرات الفزع والذُعر الواضحة أعلى محياه وهو يتساءل بغير فهم :
_ آلاء لسة عايشة مماتتش ؟
أجابه وكيل النيابة بجدية بعدما تأكد من شكوكه بزيف كُل تلك الحقائق السابقة، فقال مُحاولًا استدراجه :
_ هو مش انت نفيت انتحارها ولا انت مش متأكد من المعلومة دي ؟
وقبل أن ينطق مصطفى أجاب أيمن مُقاطعًا بدهاء وبنبرة ذات معنى :
_ هو بس مستغرب لأن حضرتك قولت قبل كدة إنكوا لقيتوا الجثة ..
فهم وكيل النيابة ما يرمي إليه أيمن ففضل تجاهله مُضيفًا بعدم اكتراث :
_ ونوال كمان مماتتش ..
اتسعت عيني مصطفى بذهول أكثر وكأنه لا يعلم أي شيء مُطلقًا عن ذلك، فوجه وكيل النيابة كلماته إلى مُحاميه مُعاتبًا بسخرية :
_ أنت مقلتلوش ولا إيه يامتر ؟
لكنه ما لبث أن أضاف مُحدثًا مصطفى من جديد والذى شحب لونه اكثر واكثر حتى بدا وكأنه قد نجا من الموت للتو بأعجوبة :
_ طلعت بنفسها على السوشيال ميديا ونفت خبر اختفائها أو موتها وجبناها استجوبناها هِنا وقالت نفس الكلام، يعني أنت دلوقتي مفيش أي تُهم موجهة إليك وتقدر تروح ..
بدون المزيد من الكلمات وكأنه قرر إنهاء تلك القضية حتى رغمًا عن أنفه هو شخصيًا، سُرعان ما أشار إلى الكاتب بجواره يُمليه قائلًا :
_ قررنا نحن ………وكيل نيابة …….. الإفراج عن المدعو مصطفى أبو حجر بعد تبرئته من التُهم الموجهة إليه ..
توجه مصطفى بصحبه مُحاميه إلى الخارج لإتمام إجراءات إخلاء السبيل في نفس التوقيت الذى دلف فيه ذلك الرائد واعتلى إحدى المقاعد مُتسائلًا بفضول وكأنه كان ينتظر انتهاء التحقيق بفارغ الصبر :
_ كان رد فعله إيه لما عرف إنها مماتتش ؟
رمقه وكيل النيابة بنظرة خالية من أي انفعال قبل أن يقول :
_ تصدق إني قبل ما أقوله لقيته هو بيغير أقواله وبيقول إنها منتحرتش وقال نفس كلامها بالظبط ..
عبس الرائد بغير تصديق مُتسائلًا :
_ معقول ده ؟ إزاى !
أجابه وكيل النيابة بسخرية :
_ المحامي بتاعه ياسيدى طلعه عنده زهايمر وبيجيله هلاوس وكان بيتهيأله أنها انتحرت، وبرر كل الأدلة اللي لقيناها عنده ..
عم الصمت أركان المكتب لبضع لحظات قبل أن يُضيف ذلك الأخير بشرود :
_ تحس ياأخي زي ماكُل حاجة من يومين كانت مظبوطة على مقاسه وكلها أدلة على تورطه بالجريمة وكأنه اتفتحت عليه نار جهنم وبدأت المصايب والاتهامات تهل عليه من كل مكان، دلوقتي بين يوم وليلة كل حاجة اتغيرت وبتثبت براءته ..
ثُم أضاف وكأنه يُحدث نفسه :
_ وكأن في قوى خفية قاصدة تطلعه زي ما ورطته من البداية ..
الرائد باستغراب :
_ طب وبقع الدم على منديله بتاعت مين ..
ابتسم وكيل النيابة قائلًا بذهول :
_ مش هتصدق .. بيقول إنها دمه هو ..
علق الرائد بحذر :
_طيب نعمل تحليل الدم ونتأكد مش يمكن …..
قاطعه وكيل النيابة بقلة حيلة قائلًا :
_ خلاص كل ده مبقاش ليه لزوم بعد ما انهارت أُسس القضية، مفيش جريمة ومفيش قتيلة ومفيش بلاغ من الأساس وكأن كُل حاجة أتبخرت فى كام ساعة ..
رغم كده أنا متأكد إننا لو أخدنا عينة دم هتتطابق مع الدم على المنديل واللي في الاساس
متتطابق مع الدم على عربيته ..
ابتسم من جديد بسخرية مُعقبًا :
_ مش بقولك حد كان مفصله القضية على مقاسه وفي نفس الوقت معاه كل مفاتيح خروجه واللي قرر يطلعها في الوقت ده بالذات بعد ماحقيقته انكشفت للكل ..
زوى الرائد ما بين حاجبيه متسائلًا :
_ حد !! حد زي مين ؟
هز وكيل النيابة كتفيه بلامبالاة مُجيبًا :
_ معنديش استعداد أخمن لأن واضح إن اللي آذاهم كتير بس اللي مجنني ليه مراته مطلعتش من الأول عقد ملكيته للمسدس ولا جابت سيرة عن مرضه أو إن الدم اللي لقيناه هو دمه ..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)