رواية ما بين العشق والهوس الفصل الرابع 4 بقلم أمل نصر
رواية ما بين العشق والهوس الجزء الرابع
رواية ما بين العشق والهوس البارت الرابع
رواية ما بين العشق والهوس الحلقة الرابعة
دلف إلى شقته في الصباح الباكر بعد إنتهاء نوبة عمله كالعادة، تفاجأ بالسكون المسيطر على الأجواء من حوله مع عدم رؤيتها ولا الشعور بثمة حركة بشرية، جالت عيناه في جميع الأنحاء وهو يكمل حتى وصل إلى غرفته، ليجدها مازالت نائمة على تختها ولم تستيقظ.
في حدث نادر وعلى غير عادتها منذ زواجه بها، وما نشأت عليه هي في حياتها الريفية القائمة على الاستيقاظ مع شروق الشمس، لأداء الفروض اليومية في الزراعة وتربية الماشية وإطعامها.
تقدم بخطوات خفيفة حتى وصل إليها يتأمل وجهها الذابل من بكاء الأمس، يعلم جيدًا بهذا وبدون أن يخبره احد، لقد قسى بالكلمات وهي لا تستحق، أو حتى تستحق؛ فهو لن يهتم.
وقد فقد الثقة في جميع النساء وهي ليست أفضلهن؛ بهذا الجنون الذي يتملكها دائمًا كلما رأت نفسها في المرآة وشعرت بهذه الأنوثة التي تتفاخر بها، وتستفز شياطينه دائمًا لكي يؤدبها أو يعنفها بالقوة حتى تتعقل، نعم تتعقل وتعلم بأنها ليست مميزة.
بل هي زوجة عادية وعليها أن تطيعه وتخدمه بدون أن ترفع عينيها ولا ينفلت لسانها معه، هو أتى بها من الريف لأجل هذا الغرض، لو كان غايته الجمال، لما بحث واتعب نفسه بالذهاب لموطنه الأصلي في البلدة حتى ينتقي زوجة مطيعة ومتواضعة الحال وبتعليم أقل منه.
فلماذا تُصر دائمًا بغباءها على تذكيره بالماضي المؤلم لرجولته؟ ألا تُميز من نفسها أن الجمال لم يُعد يعنيه أو يفرق معه، وأن كل ما يشغله الاَن ويتمناه بشدة هو الراحة وهدوء البال، لماذا لا تفعل وتريحه وترتاح هي الأخرى براحته؟
تنهد من عمق ما يحمله بقلبه، ثم اقترب منها ليوقظها:
-ابتسام، ابتسام، أنتِ يا امرأة.
خرجت الاَخيرة بهتاف عالي أيقظها منتفضة بإجفال، تطلعت إليه قليلًا حتى استعادت وعيها جيدًا، لتنهض بجذعها تخاطبه باندهاش:
-عصام! متى جئت؟
رمقها بنظرة مستخفة قبل أن يتحرك من جوارها ينزع عنه معطفه الثقيل، ليُهم بخلع ملابس العمل، ويُجيبها بشبه ابتسامة ساخرة:
-جئت على ميعادي يا برنسيسة ابتسام، بعد سهر وعمل ليلية كاملة، كي أوقظ امرأتي جميلة الجميلات، بعد أن أغراها دفء الفراش بعدم تركه والنهوض عنه.
صمت برهة وهو يتناول بيجاما قطنية ليرتديها ثم أكمل بسخريته:
-ما رأيك زوجتي العزيزة، أسخن الطعام؟ أم أُعد الشاي؟ أم أجهز لكِ حمامٍك؟
تطلعت به زامة شفتيها بضيق ظهر بشدة على ملامح وجهها، لترفع عنها الغطاء وتننهض عن التخت سريعًا ترد حانقة منه وهي تلملم بشعرها لتعقده بعقدة في الخلف:
-لا داعي للسخرية والاستهزاء يا سيد عصام، لقد نهضت وسوف اقوم بكل ما ذكرته لأجلك، يا سيدي وتاج رأسي.
قالت الاَخيرة قاصدة رد السخرية ليتبسم لها بزواية فمه المغلق قبل أن يرد:
-بل افعلي لنفسك لو تريدي، لأنني لا أريد منك شيئًا .
قالها ليعطيها ظهره بتجاهل ثم اندس سريعًا بداخل الفراش الدافئ يردف إليها من تحت الغطاء.
-إذهبي واتركيني الاَن، لأني لا أريد شيئًا سوى النوم .
تطلعت إليه بدهشة سائلة:
-أتتكلم جديًا يا عصام؟ ألن تفطر أو تستحم قبل نومك؟
هدر بصوت مكتوم:
– اطفئي النور واذهبي، قلت لا أريد شئ، أذهبي.
انتفضت على صيحته الاَخيرة، لتتحرك نحو خزانة الملابس بخفة، لتُبدل ملابس النوم بعباءة بيتية، لتخرج بعد ذلك على أطراف أصابعها حتى لا تثير جلبة بحركتها وتوقظه، فضغطت على قابس الكهرباء قبل أن تغلق باب الغرفة من خلفها.
❈-❈-❈
خارج الغرفة كانت تحرص بخطواتها على عدم إصدار صوت أو أي حركة تُزعجه، أو تتسبب في عدم نومه، وهي لا ينقصها منه، إبتعدت حتى وصلت لوسط الصالة لتقف وتفرك بيديها على وجهها حتى تستعيد وعيها جيدًا.
ثم تفكر بما ينتظرها من أعمال تقوم بها في المنزل، مع صداع رأسها التي لم تأخذ كفايتها في النوم رغم هذا التأخير في الإستيقاظ، والذي لم تفعله منذ طفولتها، ولكن بسببه وبسبب الكلمات السامة التي ألقاها عليها بالأمس اذهبت عنها النوم بالتفكير والبكاء لمدة طويلة، مع عزة وبعد خروجها أيضًا.
ثم هذه المحادثة الغريبة التي قامت بها مع الطبيب بعد مفاجأته لها برسالته، لتكمل عليها بالحيرة فتظل ساهرة حتى اقتراب الفجر، وهي التي تضع رأسها على الوسادة فتنام على الفور دون انتظار.
فركت على وجهها مرة أخرى مستعينة بالله لفعل ما تقوم بفعله يوميًا في هذا الوقت، تتناول وجبة الإفطار أولًا ثم تقوم بترتيب المنزل وجلي الصحون، تحركت لتقف بوسط الشقة فجأة متفاجأة بهذه الكيس الموضوع على الطاولة الصغيرة التي تتوسط المنزل،
قطبت وهي تترقب لترا ما به، ليفتر ثغرها بابتسامة عريضة وهي تتبين محتوى الكيس لفاكهة التين التي تعشقها، تناولت ثمرة منه تنظر لها بفرحة تشابه فرحة الأطفال، لتنتقل أبصارها نحو باب الغرفة النائم بداخلها عصام.
هذا المجنون الذي ابتاع الفاكهة التي تعشقها من أجلها فهو لا يأكلها، إذن فهي بادرة منه للصلح ولكن بشكل غير مباشر، رغم عبوس وجهه معها والتهرب منها بالنوم دون تناول إفطاره، تنهدت مطولًا بقنوط، من طبع زوجها الغريب الذي يجعله حتى لو أراد الصلح لا يتجرأ على القول بفمه.
❈-❈-❈
-عزة يا عزة .
كان يهتف بها بعجالة فور أن دلف لداخل منزله، ليأتيه صوتها الضعيف من داخل المطبخ:
-أنا هنا يا عمران.
سمع منها وفي ظرف ثواني كان عندها.
وجدها جالسة على طاولة السفرة تتناول بعض الأطعمة الخفيفة، القى تحية الصباح وتسمر بوقفته وكأنه يبحث عن كلمات، فبادرت هي بمخاطبته:
-حمد لله على سلامتك، أتريدني فيى شئ؟
نفى بتحريك رأسه سريعًا وخرج صوته بلجلجلة مع تفكيره:
-لااا كنت أريد فقط سؤالكِ عن… شيئًا ما.
أجابتها بنبرة هادئة كعادتها:
-تناول معي الطعام يا عمران، وتذكر بعدها كما تريد.
نزلت عينيه نحو ماتتناول، لتكمل بدعوته وهي تشير على الأطباق التي فوق الطاولة:
-هذا عسل نحل أصلي ومن مصدر موثوق، أتت به جارتي من بلدتها قريبًا وأعطتني منه بالأمس، اجلس وتناول معي لقمتين
سمع منها وعلى ذكر الجارة جلس على الفور يتناول منه بنهم، ليقول بتعجب:
-العسل جميل ورائع ولكن لماذا لا تأكلين شيئًا اَخر معه، هل من المعقول أن يكفيكِ العسل والخبز في وجبتك؟
أجابته وهي تُغمس لقيمة من الخبز في الطبق:
-هذه وجبة خفيفة كي أسيطر الوحوش التي تعوي بداخلي من الجوع، ولتهدئة هذا الطفل الذي لا يتواني عن المطالبة بحقه في الطعام بالرفس بقدميه ليُوقظني حتى لو بأعز أحلامي .
أومأ لها برأسه مع ابتسامة خفيفة حفظتها عن ظهر قلب من كثرة ما رأتها منه، لتعلم بداخلها أنها مجاملة لادعاء استجابته مع المزاح، ليتها لا تتكلم ولا تمزح أيضًا، فما أقصى على المرأة من تجاهل زوجها وعدم التركيز لحديثها معه، ثم الرد بالمجاملة فقط لها.
تنهدت بداخلها لكي تضع همها في الطعام وليذهب المزاح والتفكير المرهق في طبع هذا الرجل للجحيم، ولكنها رفعت رأسها على أثر هتافه بأسمها:
-عزة.
رفعت إليه رأسها اليها بتساؤل فخرج صوته بلجلجلة:
-كنت أود سؤالك عن هاتفي القديم، الذي أعطيته إليكِ في العام الماضي، كي تأخذيه للاستخدام أو تحتفظين به في مكانٍ ما؟
قطبت قليلًا بتفكير قبل أن تُجيبه بتذكر:
-نعم تذكرته، ولكن لن استخدمه، فهاتفي الأساسي يعمل جيدًا، لذا فقد اخذت هاتفك وخبئته مع الأشياء القديمة بغرفة الخزينة.
عاد برأسه للخلف يرد مستنكرًا فعلها:
– أما وجدتي سوى أشيائي القديمة ان تضعي بها الهاتف يا عزة؟ لابد أن شاشته انكسرت الاَن أو أنه هو نفسه تعطل، كنتِ حافظي عليه أو ع الأقل تُخبريني حتى أفعل انا.
أجفلت عزة من قوله الحاد واتهامها بالإهمال أو التقصير، فدافعت ترد بلهجة معاتبة:
– هاتفك لم يتأذي يا عمران، لقد وضعته بخرانة الملابس، ولو دخلت الغرفة الاَن لن تتعب في البحث عنه سوى بوضع يدك على الرف الأعلى في الضلفة الوسطى.
أشرق وجهه ليزيد من دهشتها وانتفض ناهضًا عن طعامه معها بابتهاج قائلًا:
– حسنًا يا عزة شكرًا لكِ لاحتفاظك بهذا الشئ العزيز على قلبي، ولتعذري حدتي، فقد ذكرت لكِ عن معزة هذا الهاتف بالنسبة لي.
ختم كلماته وتحرك سريعًا من أمامه ذاهبًا نحو الغرفة المقصودة، لتغمغم من خلفه بتعجب:
-عزيز عليكِ! لم تذكر لي سابقا هذا الأمر يا عمران!!
❈-❈-❈
وبداخل الغرفة التي دلفها سريعًا قاصدًا خزانة الملابس، ليفتح ضلفتها ويخرج الهاتف على وصف زوجته كما ذكرت، وجده بالصندق الورقي الفارغ ليتناوله على الفور ويضعه على الشاحن حتى يتمكن من تشغيله، فجلس على طرف التخت القديم بجواره ينتظر لدقائق.
جال بعينيه على الأثاث المتهالك والذي قضى عليه نصف عمره تقريبًا في غرفة الحديقة، كطفل ضال يقاسي وحشة الوحدة في غياب الأهل والجميع عنه، وكأنه لا يملك العائلة.
تنهد يتطلع جيدًا إلى نظام الغرفة المرتب رغم تكدسه بالاثاث والأجهزة الفاقدة للصلاحية بتعطلها، يبدوا أن عزة الطيبة كما تهتم بنظافة المنزل تهتم أيضًا بتنظيم الغرفة رغم عدم الداعي لذلك.
ربت بكف يده على المرتبة المهلهلة أسفلة، والتي خرج منها معظم الحشو بداخلها من القطن، ليتذكر نعومة مرتبته مع عزة الاَن وملمسها المريح، فيتحسر على هذه الأيام الخوالي وما كان يقاسيه بها.
نفض كفيه من الأتربة التي علقت بهما ليتناول الهاتف ويحاول بتشغيله، ضغط لدقائق على زر الباور حتى فتح، ليتهلل وجهه وهو يقلب في الصور العديدة التي كان يلتقطها قديمًا للطبيب وعائلته منذ دراسته.
هذه كانت اول واحدة التقطها له بعمر ١٦ عشر في الأحتفال بعيد ميلاد والدته، والذي أقيم في الحديقة وحضره العديد من أصدقاء العائلة وشاهده هو بزواية ما مظلمة بالحديقة.
يرى منها البشر ويشاهد الإحتفال ويلتقط الصور، دون أن يراه أحد أو تزعجه نظرات الشفقة والتعجب، كاللعبة الشهيرة والتي تسمى صندوق الدنيا، حينما يدخل الطفل تحت الغمامة السوداء.
فيشاهد بعينيه في الثقب الصغير ما يبهره من قصص وحكايا يرويها الرجل صاحب اللعبة، ولكن هو كان بزاويته يرى القصص بدون شرح أو تفسير، لأنه لا يحتاج، فيكفيه الحلم والتخيل فقط ليعيش بعالمه الذي يخلقه لنفسه ويتكيف عليه.
ظل يقلب في الصور ويتذكر كل واحدة بتاريخ حدثها مع ذاكرته القوية والتي تسعفه على الفور بالزمان والمكان، حتى أخذه الوقت وغلبه سلطان النُعاس على تخته القديم، فلم يستيقظ سوى بعد مدة طويلة من الوقت لم يعرف بها .
تثائب ينزل بجسده على الأرض، وعظام ظهره تأن من وجع من النوم على السرير القاسي، وتناول هاتفه ليجده قد أكتمل شحنه للمئة، ليعلم أن نومته مر عليها أكثر من ساعتين، ساعتين ولم تمر به عزة أو توقظه أم أنها ظنته نائم بغرفته، يبدو أن هذا هو الظن الأكيد.
خطا يجر أقدامه الثقيلة حتى خرج من الغرفة القريبة من مدخل المنزل، أغلق على مقبض بابها جيدًا، ليُتابع بسيره بتجاه غرفة نومه أو مخاطبة عزة عن نسيانها له نائما على تخت القديم، ولكنه تجمد فجأة وتسمرت اقدامه برؤيتها، جارته العزيزة؛ كانت واقفة أمام المراَة الكبيرة الملتصقة بجدار الحمام من الخلف.
تتأمل بوجهها جيدًا تلوك فكها وكأنها تمصغ بالعلكة، تراجع للخلف سريعًا حتى تخفى خلف دولاب الاَواني الثمينة (نيش) حتى لا يفوته هذه الرؤية عن القرب وبعيدًا عن ثقب باب الغرفة، تحرك بأكتافاها يمينًا ويسارًا بتخايل بنفسها، فيهتز معها باقي جسدها الممتلئ .
-بلهاء بلهاء.
هذا كان ما يردده بداخله وهو يجزم أن هذه المرأة تجذب الفرد نحوها لاستغلالها حتى لو لم تكن هذه فكرته بها من البداية، إعجابها بجمال صورتها ينسيها العالم وينسيها حتى موقعها في مكانٍ آخر غير منزلها .
-كل هذا بالحمام يا ابتسام؟
هتفت بها من داخل المطبخ عزة لتستجيب لها الأخرى بالذهاب على الفور تردد ضاحكة:
-لقد خرجت من الحمام منذ فترة، وأخفضي صوتك
حتى لا يشعر بنا زوجك ويستقيظ من نومه.
قالتها وجلست بجوارها تشاركها التحضير لطعام الغذاء الذي تعده معها، باستغلال وقت نوم ازواجهما، تتسامر بالحديث بانطلاق عن عصام وفعله الغريب:
-أقسم بالله يا عزة سيتسبب لي في أزمة قلبية يوما ما، أنا لما افهم لما يفعل هكذا معي؟
تنهدت عزة تطالعها بابتسامة غامزة وهي تنقي في الأرز بيدها:
-لأنه يحبك؟
افتر فاهها تطالعها بعدم تصديق:
-كيف؟ وبالأمس قطع أمعائي بنصل كلماته السامة؟ إنه مجنون يا حبيبتي مجنون صدقيني.
ضحكت عزة بصوت عالي نادرًا ما يصدر منها لتقول لها:
-حتى لو كان مجنونًا حبيبتي، مدام ينهي شجاره دائمًا بالفاكهة المحببة إليكِ نغفر له ونتقبل الصلح، اليس كذلك؟
قالت الأخيرة وهي تُشير بيدها إلى الطبق الموضوع به حبات التين أمامها على الطاولة، وقد أتت به ابتسام معها منذ قليل، والتي استجابت للضحك معها تتناول من الطبق واحدة كببرة وطازجة قائلة لها:
-نعم اغفر واتقبل الصلح حتى لو لم يطلب مني، ولقد أتى بأفضل شئ أحبه على الإطلاق.
توقفت لتتناول منه بتلذذ شديد بالطعم السكري لتنابع:
-امممم يا عزة الوغد يعلم جيدًا بنقطة ضعفي.
رمقتها المذكورة بدهشة شديدة لتقول بتسلية:
-ألهذه الدرجة انتِ تعشقي التين؟ محظوظ أنت يا عصام، متزوج من امرأة بكيلو واحد من التين لن يكلفه أكثر من عشرين جنيه، قادر على أن تملكُها.
ردت ابتسام قائلة بغبطة وتأثر:
-السر ليس بثمنه أو طعمه اللذيذ، هذا التين يذكرني بذكرياتي الجميلة في حقل جدي، فقد كان يملك شجرة كبيرة له بجوار نخلة زُرعت معها في وسط أحواض الخضر .
حيث كنت اذهب معه دائمًا الهو واللعب حوله وهو يعمل بتنظيف حوض القمح من الحشائش الضارة أو الجني أو الحصاد، في كل مرة أطلب منه أن يأتي إلي بالطازجة الحمراء من أعلى الأغصان والتي لا يصل إليها أحد سوى هو بعصاه الغليظة، هو الوحيد الذي كان يدللني.
قطبت عزة تسالها بتعجب:
-الوحيد! ووالديك؟ أليسوا على قيد الحياة كما تذكري لي دائمًا؟
مطت بشفتيها ابتسام وهي تلهي نفسها بتنقية الأرز معها:
-نعم لدي، ولكن أمي حازمة ولا تقبل الدلال للبنات ، بل هي شديدة المعاملة معنا نحن الخمسة، وذلك لقناعتها الدائمة أن الدلال يفسد الفتيات ويجعلهن مائعات.
توقفت لترفع انظارها إلى عزة التي كانت تبتسم بخبث قائلة:
-وانتِ الاَن لست مائعة؟
أستجابت لها ضاحكة ترد:
-لا لست مائعة يا عزة أنا فقط ناعمة وأشعر جيدًا بأنوثتي التي يحق لها الدلال، هذا حقي وحق كل امرأة، جدي رحمه الله كان يدلل جدتي وقد زرع شجرة التين والنخلة مخصوصًا لها وسط أحواض الخضرة.
كنت اراهما بعيني وأنا صغيرة وهو يدللها بست الحسن والجمال وهي كبيرة ووجهها ممتلئ بالتجاعيد فيشرق وجهها بالفرح لتعود اربعين سنة للخلف وكأنها طفلة صغيرة، تُجيد الدلال مع والدها، عكس أبي وأمي.
توقفت عما تفعل لتستند بمرفقها على الطاولة وتريح رأسها على قبضة يدها، وتنهدت بشرود قبل أن تتابع لعزة التي كانت شديدة التركيز معها:
-أتعملي يا عزة ان أمي على العكس معانا نحن الخمس فتيات.
كانت تدلل أخوتي الرجال الثلاثة، وتٌفرق في المعاملة بيننا، وحينما سألتها أختي مرة في لحظة ود لما تفعل ذلك، ذكرت لها أن الرجال يعرفون انهم رجال، أم النساء فلابد من تذكيرهم الدائم حتى لا يرفعن أصواتهن ولا يفعلن الخطأ.
تغضن وجده عزة ورأسها تعود للخلف وكأنها تستوعب الجملة لتقول بعد ذلك:
-منطق غريب وعجيب، وأين أباك من ذلك؟
تبسمت لها تجيب:
-أبي هو من ربى إمي على ذلك حبيبتي، لقد تزوجها عن عمر الثالثة عشر، لقد تربت على يديه، كقطعة عجين شكلها كما يريد ثم تركها بعد ذلك تربينا نحن على هذه الأفكار التي زرعها برأسها.
أبي لا يعلم في الحياة سوى العمل بالحقل وتوفير القرش على القرش من المحصول وبيع البهائم على طول العام، حتى يأتي العام الذي بعده فيشتري قطعة أرض جديدة يزيد بها على ما نملكه.
أو عجل صغير يعلفه على الموسم حتى يزوج احدانا أو يبني لأشقائي الرجال في الطابق الثاني فوق منزلنا، دائمًا يدور بدائرة ولا يخرج منها سوى بالنوم ليلًا.
توقفت فجأة لتخاطب عزة:
-اوجعت رأسك بالحديث الكثير اليس كذلك؟
استفاقت عزة لتنفض رأسها وترد ضاحكة:
-ليس وجع بالرأس حبيبتي، ولكنني اندمجت معك وجعلتيني أشعر بما تشعرين به، وقد تبين لي من حديثك أن المرأة تكون جيدة من الرجل، والسيئة أيضًا بفعل الرجل، أليس هذا ما تقصدين؟
زامت بفمها المغلق بابتسامة مع تحريك مقلتيها يمينًا ويسارًا قبل أن تجيبها:
-لا أعلم حبيبتي لاني لم أقصد شيئًا على الإطلاق، أنا حكيتُ لكِ لأبين لكي الفرق بين جدي وجدتي، وأبي وأمي فقط.
ولم افكر حتى بما تقصدينه ولكنك مصيبة في كلامك، نعم كذلك، الرجل في بلادنا هو من يشكل المرأة كما يريد، وهو أيضًا من يجعلها تفيض بالنعومة والأنوثة مع الإهتمام بها ورعايتها، أو يجعلها تجف كشجرة جرداء حينما يهملها ويُعاملها بقسوة.
والدليل هو ما أراه في المسلسلات التركية يا إلهي.
قطعت لتُكمل وهي تعبر بيدها في الهواء حتى أضحكت عزة معها:
-البطل يعامل زوجته كالأميرة، اقسم بالله يعاملها كالأميرة، حتى لو كانت قليلة الجمال أو متواضعة الحال، اه يا عزة لو كنا مكانهن.
قلبت عينيها عزة بسأم رغم ضحكها من أسلوب جارتها في الوصف والمبالغة لتردف بغيظ:
-كم من مرة اقولك لك أن هذا تمثيل يا مجنونة، تمثيل.
استفاقت من حالميتها ابتسام ترد بتشدق:
-وأيضًا في الحقيقة يا عزة، لا تنكري، إن لم تري بعينك استطيع ذكر الامثلة لكِ
-إذكري وسوف نرى.
هتفت بها عزة لتُجيبها الأخرى على الفور
-أقرب دليل إليكِ هو الطبيب عزيز وزوجته ونحن…..
قطعت فجأة على صوت ارتطام قوي ورد إليهم من خارج المطبخ لتنهض عن مقعدها سريعًا هي وعزة معها لترى السبب، ليتفاجأن الاثنتان به:
-عمران!
هتفت بها عزة واستدركت ابتسام لتُغطي رأسها جيدًا بطرحة رأسها التي كانت متراجعة للخلف، تمالك هو ارتباكه ليدعي الغضب بقوله:
-نعم عمران يا عزة، وقد تركتيه عدة ساعات نائمًا بغرفة خزين الأثاث القديم دون سؤال.
التفت عينيها للخلف نحو باب غرفة النوم بدهشة لترد:
-كنت أظنك نائمًا على تختك ومغلق الباب عليك كالعادة.
-لا يا عزة، فقد غلبني سلطان النُعاس على تختي القديم وأنتِ لم تُكلفي نفسك عناء الإطمئنان علي.
هتف بها بصوت عالي أجفل عزة من حدته، فارتبكت ابتسام لتقول مستئذنة:
-عن إذنكم يا جماعة سوف أذهب إلى شقتي.
قالتها وتحركت مغادرة على الفور، فشعرت عزة بالحرج ولم تستطيع أثناؤها بالقول، ليردد هو من خلفها بارتباك:
-أنا لم أقصدك أنتِ يا ابتسام، لما تذهببن؟
تابعت طريقها ولم تلتف إليه، فاالتفت رأسه إلى زوجته ليرى وجهها مُظلم بالحزن، فقال بدفاعية:
-أنا لم أقصدها بالكلام.
-وأنا لم أعرف بنومك على التخت القديم حتى أطمئن عليك.
هتفت بها عزة ردًا على كلماته بنبرة يملؤها العتب، وذهبت من أمامه عائدة لمطبخها، ليتسمر هو محله في موقف لا يحسد عليه، شاعرًا بالغباء بهذا الفعل الذي أغضب الاثنتين.
زفر بضيق وعيناه تهبط للأرض نحو زجاجة العصير الفارغة المتهشمة إلى قطع صغيرة بعد اصطدامه بالطاولة التي كانت عليها أثناء تنصته على كلماتهن لتقع على الأرض وقد كادت ان تكشفه..
❈-❈-❈
أمام المراَة وبوجه متجهم او يدعي ذلك على الأصح، كان يزرر في أزرار قميصه المنشي، بعد استيقاظه وحده دون مساعدتها في إيقاظه باختلاف عن كل يوم، نهض بدون تنبيه المنبه وذهب إلى حمامه على الفور وتحمم بنشاط وكانه استغنى عنها.
أما هي فقد حفظته من كثرة ما كرر هذا الأسلوب معها عقب كل مشاجرة حدثت بينهم، يُخطئ ويعلم بخطئه ويمنعه كبريائه بالإعتراف او ألإعتذار، ثم يفعل هكذا وهي تسامح وتبادر كالعادة بمناوشتها له حتى ينزل إليها من قلعته ويقبل الصلح.
جلس على طرف تخته يدعي تصفح هاتفه بغير تركيز ، فذهنه كان مشغول معها وهي تدخل لتتناول شئ ما من الغرفة، فتسير أمامه ببجامتها الضيقة وقماشها الملتصق بمنحنايتها، قصيرة فوق ركبيتها، وشعرها في الأعلى مرفوع لأعلى رأسها حتى يُظهر جمال عنقها واستدارة وجهها الفتان، واضعة عطرها المميز بقصد تشتيته.
مرة تنحني لتلتقط شيئًا ما من درج تسريحة المرأة، مرة أخرى تقترب لتبحث عن نفس الشئ في درج الكمود من جواره لتزكم أنفاسه برأئحتها وتحتل المجال من حوله فلا يستطيع الفكاك من النظر إليها ومتابعة تحركاتها في البحث عن الشئ الوهمي.
تدعي التركيز في ما تفعل والتغافل عن سهام عينيه وهي تخترقها بتفحص لتفاصيلها بهذا القرب، رغم مكابرته وادعائه تجاهلًا تفضحه عيناه، وانفعالات جسده وصوت تنفسه الذي يصل إليها، في النهاية وبعد ان تستكفي منه تخرج تاركة له الغرفة،
يزفر بصوت عالي عقب انصرافها، يلعن نفسه وكبرياءه الأحمق؛ الذي يمنعه من القرب منها أو الاستجابة لها، فالملعونة تعلم بتأثيرها عليه، وتفعل هكذا بقصد لتجبره على التنازل بترضيتها او الصلح، ولكن هذا لن يحدث أبدًا، لن يفعل حتى لو كان هو المخطئ.
لن يسمح لضعف نفسه بالأنسياق خلف ما يمليه عليه قلبه، لن يفعل، أجفل من شروده على فتح باب الغرفة وهي تطل برأسها إليه وتناديه:
-عصام، لقد أعددت الطعام ووضعته على طاولة السفرة بالخارج، الن تأتي لتأكل؟
رفع رأسه عن متابعة الهاتف ليومى برأسه بحركة خفيفة صامتًا كموافقة ليعود لهاتف مرة أخرى، فتابعت بنبرة صوتها الناعمة:
-إذن فلا تتأخر وتنشغل بالهاتف حتى لا يبرد الطعام وقد تعبت في تسخينه.
زام بفمه بملل من حركاتها المكشوفة، لينهض عن مقعده ويترك الهاتف ثم يتحرك بخطوات متأنية ورزينة، رغم صياح أمعائه الشديد من الجوع، وذلك لعدم تناوله شيئًا ما منذ الأمس.
حتى طعام أفطاره تنازل عنه اليوم بإرادته، فقد خرج من نوبته باكرًا، قاصدًا الذهاب إلى سوق الخضار في الشارع الخلفي للمركز، حتى يبتاع لها التين الذي تعشقه، لم يستطع تناول شطائر الفول والفلافل من عربة العم رمضان كرفيقه عمران، بعد أن تعود على طعامها الريفي الذي تعده يوميًا.
حتى حينما دلف الشقة بكيس التين كان متوقعًا استقبالها له أو رؤية فاكهتها المحببة عبر الكيس الشفاف بالصدفة في يده فيرى اللهفة في عينيها ككل مرة تفعل.
حينما تجري نحوه بسعادة وتختطفه من يده، فتوفر عليه عناء الكلمات والمحاولة، ولكنه صدم بنومها في هذا الوقت، ولم يملك سوى ترك الكيس خارج الغرفة والغطس في النوم تهربًا منها .
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين العشق والهوس)