روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل العشرون 20 بقلم نرمين نحمد الله

موقع كتابك في سطور

رواية ماسة وشيطان الفصل العشرون 20 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء العشرون

رواية ماسة وشيطان البارت العشرون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة العشرون

_أبي!!
هتف بها فهد بصدمة بينما اشتعلت عينا جاسم الصاوي بغضبه وهو يدفعه ليدخل مغلقاً الباب خلفه…
قبل أن يدور بعينيه في المكان ليتوقف بصره على حذاء نسائي جوار الباب…
فعاد ينظر إليه هاتفاً باستنكار غاضب:
_ألهذا غادرتَ الحفل خلسة؟!
ازدرد فهد ريقه بتوتر وقد تجمد تفكيره من المفاجأة…
عندما استمر هدير والده العاصف:
_ألن تكف عن حماقاتك؟!!ألن تتوقف عن تخييب أملي فيك؟!!حفلٌ يضم نخبة رجال البلد في المال والسياسة تتركه لأجل شهواتك الرخيصة؟!!
كز فهد على أسنانه وهو يدعو الله سراً أن تتمسك جنة بثباتها ولا تغادر مكانها في المطبخ الذي كان بابه -لحسن الحظ-مخفياً عن صالة المنزل…
لكنها ما كادت تتبين هوية الطارق حتى هرولت خفيةً إلى غرفتها المستترة نوعاً عن بقية الشقة لتدخل وتغلق الباب خلفها…
قبل أن تتوقف أمام مرآتها تنظر لجسدها شبه العاري في ثوبها القصير وهي تشعر بالصدمة !!!
هل هذه جنة؟!!!
تلك التي هربت كالعاهرات خوفاً من أن يراها جاسم الصاوي؟!!
تلك التي تتوارى في غرفة مستترة تداري جسدها المكشوف…وزواجها السريّ؟!!
وهي التي كانت تخرج في وضح النهار ترفع لافتات ضد الظلم والفساد؟!!!
أيُ حبٍ هذا الذي يشوه ملامحنا فلا نكاد نعرف صورتنا في مرايانا؟!!!
أيُ حب هذا الذي يغتال حمائم النور بداخلنا لينشر بدلاً منها وطاويط خوف سوداء ؟!!!
أي حب هذا الذي يهدم قصوراً من كبرياء ليبني مكانها قبوراً مظلمة من خزي وعار؟!!!
أي حبٍ هذا الذي ينتزع منا هويتنا فلا يكاد يبقي لنا سوى ذاكرة خاوية وشهادة ميلاد بلا اسم ولا وطن؟!!!
لا…هذا ليس بحب!!!
بل موتٌ مُقنّع خدعها سحر قناعه…والآن آن الأوان لينفك السحر!!!
نعم…الآن…الآن!!!
وبهذا التصميم بدلت ملابسها بأخرى ساترة…
وكأنها لا تستر جسدها فحسب…بل تستر كل ما تعرّى من سوءات ضعفها أمام هذا الحب اليائس!!!
ثم فتحت باب غرفتها بعنف لتتوجه بخطوات عازمة نحو جاسم الصاوي بالتحديد!!!
=======
قبض فهد أنامله بغضبٍ عندما رآها تتقدم نحوهما قبل أن يرمقها بنظرات مزجت رجاءها بغيظها وقد أدرك من نظراتها المشتعلة ما تنتوي فعله…
لكنها لم تكن تنظر إليه…
عيناها تعلقتا بعيني جاسم في تحدٍ سافر وهي تتجاوز فهد لتقف أمامه رافعةً رأسها بكبرياء لن تفرط فيه بعد!!!
وأمامها كان جاسم الصاوي يقرأ نظراتها بعينين خبيرتين…
هذه المرأة ليست عاهرة…
هذه اللمعة بعينيها هو يعرفها!!!
لمعة مقاتلة على وشك بدء معركة -هي تعرف قبل غيرها- أنها لن تكون هينة!!!
ومع هذا تطمح في الانتصار!!!
لهذا تمعن في ملامحها للحظات قبل أن تضيق عيناه وقد بدا أنه قد تذكر شيئاً….
ثم اشار نحوها بإصبعه قائلاً بتشكك:
_أنا رأيتكِ من قبل!!
حافظت جنة على صمتها مع نظراتها القوية المتحدية…عندما أردف وهو يهز رأسه بإدراك:
_جنة الرشيدي!!رجالي أحضروا لي صورتك مع ملف كامل عنكِ عندما تجرأتِ على رفع قضية ضدي!!
ثم ابتسم ساخراً وهو يقلب بصره بينها وبين فهد ليقول للأخير باستهانة واضحة:
_أهذه التي تركت حفلاً كهذا لأجلها؟!!
ثم التفت نحو جنة ليردف باحتقار:
_وأنتِ لهذا السبب تنازلتِ عن القضية؟!!ونعم الشرف!!!
شعرت جنة بالدماء تفور في رأسها وهي تتقدم نحوه خطوة أخرى وقد عزمت على فضح الأمر وليكن ما يكون…
عندما فوجئت بفهد يجذبها خلف ظهره ليقف بينها وبين والده قبل أن تدوي كلمته الوحيدة في المكان كطلقة غادرة:
_زوجتي!
كست الصدمة وجه جاسم للحظات …وقد بدا عليه عدم التصديق…
قبل أن تبرق عيناه بشرر مخيف وهو يصرخ بحدة:
_أيتها الحقيرة!!!كيف دفعتِه لهذه الفعلة؟!!
ارتجفت جنة مكانها خلف فهد رغم ما حاولت التظاهر به من قوة خاصة عندما صاح فهد بغضب مماثل:
_دع كلامك معي أنا يا أبي!!!
اشتعل وجه جاسم باحمرار غضب صريح مع صدره الذي كان يعلو ويهبط في انفعال كظمه بعد دقائق صمت صاخبة بلا كلمات…
حتى هدأت ملامحه فجأة ليقول بعدها بنبرة باردة لم تخلُ من وعيد:
_كلام؟!!لا …أنا لم يعد لديّ كلام!!
وحينها انقبض قلب فهد بقوة خوفه بينما لم تكن جنة أفضل منه حالاً رغم محاولتها المستميتة للتظاهر بالصلابة…
عندما غادرهما جاسم بخطوات سريعة صافقاً الباب خلفه بعنف!!!
فالتفت نحوها فهد ليمسك كتفيها هاتفاً بغضب:
_لماذا خرجتِ إليه؟!!لماذا تعجلتِ بالمواجهة التي ستغلق أمامنا كل الطرق؟!!
هزت رأسها وهي تهتف بغضب مماثل:
_ولماذا إذن اعترفت له أنت بزواجنا؟!!
اعتصر كتفيها بين قبضتيه أكثر وهو يهدر بانفعال:
_ماذا كنتِ تنتظرين مني أن أفعل ؟!!لم أحتمل أن يمس كرامتك بسوء أمامي بعدما وضعنا عنادك في هذا الموقف السخيف!!!
أزاحت كفيه من على كتفيها بعنف وهي تهتف بدورها وقد أعماها غضبها:
_وأنا أيضاً لم أحتمل…لم أحتمل الاختباء في غرفتي منتظرةً أن يفتشها ليضبطني كالبغايا…أنا لن أتنازل بعد الآن…لقد وقعت الكارثة وانتهى الأمر.
ضم قبضته أمام وجهها وهو يهتف بانفعال ممتزج بخوفه:
_الكارثة لم تقع بعد يا حمقاء!!!أنتِ لا تعرفينه مثلي!!
دمعت عيناها بقهر ورغم أن قلبها كان يشاركه خوفه ولوعته لكنها تشبثت بعنادها وهي تهتف باندفاع:
_طلقني إذن …ودعنا نن….
انقطعت عبارتها بضمته العنيفة لها وهو يخفي وجهها في صدره بقوة انفعاله…
فكلماتها كانت تضغط على أقسى مخاوفه الآن…أن يجبره جاسم على تطليقها…أو ربما ماهو أسوأ!!!
لهذا كز على أسنانه هاتفاً بغضب زاد خوفها:
_سأعاقبكِ على كلمتك هذه ولكن ليس الآن!!
أغمضت عينيها بألم ودقات قلبه تلاصق جبينها المزروع في صدره تكاد تصم أذنيها…
فارتجف جسدها وهي تشعر بضياع رهيب…
وقد بدت فجأة كطفلة تائهة لم تعد تعرف شيئاً…
لكنها استسلمت لأمان صدره للحظات قبل أن ترفع عينيها إليه لتروعها دموع العجز والغضب التي ملأت عينيه فجأة…
وكأنه يشاركها مشاعرها بالتخبط والضياع…!!!
فتأوهت بقوة ثم خبطت رأسها بصدره عدة مرات قبل أن تعيد الاحتماء به هامسة بيأس:
_أنا وعدتك أن أدافع عن حقي فيك لكن في النور…وأنت تصر على حبسي في الظلام…فكيف سنتفق؟!!كيف؟!!!
انتهت همساتها العاجزة بسيول دموعها التي غلبتها في هذه اللحظة…
فضمها إليه أكثر وهو يربت على ظهرها دون أن يجد ما يقال في موقف كهذا…
حتى هدأت ارتجافة بكائها فرفع وجهها بين راحتيه ليقول بحزم:
_لا بأس…لقد قُضي الأمر وعلينا الآن أن نفكر في السفر بسرعة …سأذهب الآن خلفه وأحاول ترضيته بأي طريقة حتى نكسب بعض الوقت.
زفرت بقوة وهي تشيح بوجهها ثم هتفت باعتراض:
_الهروب ثانيةً؟!!!أنت لا تفكر سوى بهذه الطريقة!!!
ضغط وجهها بين راحتيه أكثر وهو يهتف بنفاد صبر:
_لا توجد طريقة سواها …أنتِ لا تفهمين أبي مثلي.
هزت رأسها بعدم اقتناع فاشتعلت عيناه ليصرخ بجنون هذه المرة:
_ستسافرين معي يا جنة حتى ولو رغماً عنكِ!
انتفض جسدها مع صراخه لكنه دفعها ببعض القوة وهو يردف بانفعال:
_ابقي هنا ولا تتحركي حتى أعود …سأذهب لتهدئة الأمور معه حتى أتبين ما ينتوي هو فعله.
أعطته ظهرها وهي تكتف ساعديها هاربةً من لقاء نظراته…
فزفر بقوة ثم غادر الشقة بخطوات مندفعة دون أن ينتظر ردها…
استقل سيارته بسرعة وهو يتخذ طريقه لبيت والده متأملاً أن يكون قد عاد إلى هناك…
وصل إلى باب حديقة القصر حيث كانت الآن -بعد الحفل- مظلمة بعد طول تألقها بالنور…
تماماً -كقلبه-الآن!!
ليستقبله حارس الأمن على البوابة مخبراً إياه بأن والده لم يعد بعد!!!
خبط على مقود السيارة بعنف وهو لا يدري ماذا يفعل…
حتى هداه تفكيره لأن ينتظره بالداخل حتى يعود…
لكن الساعات مرت به بطيئة متثاقلة وهو غارق في خوفه وعجزه…
ترى ما الذي ينتوي والده فعله معه ومع جنة؟!!
وإلى أي حد سيصل بعقابه لهما؟!!
بالتأكيد سيطلب منه تطليقها…وليته يكتفي بهذا فقط…!
انقبض قلبه أكثر عند خاطره الأخير لكن ما كان يطمئنه قليلاً أن الانتخابات على الأبواب…
وأن جاسم الصاوي لن يخاطر في هذا التوقيت بأي مجازفة تؤذي سمعته!!!
ومع هذا هو لا يأمن مكره…
فقد رأى منه الكثير طوال هذه السنوات التي عمل فيها معه…
لهذا هو يرى الخروج من دائرة سطوته هو الحل الأسلم…
ليس جبناً كما ترى جنة ولكن حسن تقدير لموقفه!!!
وعند ذكر جنة عاد قلبه يخفق بقوة وهو يتردد بين بقائه لانتظار والده حتى يمتص غضبه -مؤقتاً-بأي ترضية…وبين العودة لجنة حتى يهدئ مخاوفها هي الأخرى!!!
فاستقر على انتظار والده حتى الفجر وبعدها سيعود إليها حتى ولو لم يقابله…
لكن الوقت مر ولم يعد جاسم الصاوي بعد…
فاضطر هو للعودة إلى جنة وهو ينتوي تعجيل ما كان يفكر به من أمر السفر في أقرب فرصة!!
لكن مفاجأة قاسية كانت تنتظره في بيتهما عندما عاد…
فالمكان كان خالياً تماماً وعليه آثار اقتحام بالقوة…
نعم…جنة لم تكن هناك…لكن هذا لم يكن أسوأ ما في الأمر…
بل قطرات الدم التي تناثرت على الأرض بغزارة والتي هوى معها قلبه صريعاً!!!
=========
_ماذا حدث يا أمي؟!!
هتف بها حسام بجزع وهو يدخل عليها غرفتها قرب منتصف الليل…
فوضعت سبابتها على شفتيها في إشارة له أن يصمت وهي تشير بعينيها نحو دعاء التي كانت نائمة في وضع الجلوس على كرسيها جوار فراش والدته!
انعقد حاجباه بضيق وهو يهمس بخفوت:
_ماذا تفعل “هذه” هنا الآن؟!
هزت والدته رأسها بأسف من فظاظته ثم همست بصوت خفيض:
_لقد فاجأتني الأزمة منذ ساعات…الله وحده يعلم ماذا كان مصيري سيكون لو لم تكن هي معي…هاتفك كان مغلقاً لكنها تصرفت باقتدار…هاتفت هي الطبيب الذي جاء ليتفحصني ثم كتب لي دواءً جديداً جلبته لي بنفسها…ورفضت أن تغادرني حتى تعود أنت.
انعقد حاجباه بقلق ثم رمق تلك- النائمة – بنظرة عابرة قبل أن يجلس على طرف الفراش هامساً بتوتر:
_المهم…كيف حالكِ أنتِ الآن؟!!ماذا قال الطبيب بالضبط؟!!سأهاتفه بنفسي لأطمئن.
أومأت برأسها وهي تهمس برضا:
_لا داعي للقلق يا ابني…الحمد لله مجرد أزمة عابرة.
زفر بخفوت ثم غرس أنامله في شعره هامساً بأسف:
_انهمكت في عملي كالعادة ونسيت الهاتف مغلقا.
ابتسمت والدته وهي تربت على كتفه لتقول محاولةً تحسين الأمور :
_لا بأس يا ابني…زوجتك قامت بالواجب.
مط شفتيه باستياء وهو يشيح بوجهه فأردفت المرأة بامتنان:
_لقد كنت أخاف أن يدركني الموت قبل أن أطمئن عليك…لكنني ما عدت خائفة…دعاء فتاة ممتازة…اعتني بها يا حسام.
لكنه عاد يزفر زفرة مشتعلة دون أن يرد…
عندما وصله همس والدته الحنون:
_لقد نامت الآن لتوها…المسكينة تعبت معي طوال هذا اليوم.
عاد يختلس نظرة خاطفة نحو دعاء ثم قام ليعدل وضع رأسها المائل على ظهر الكرسي ليهمس مخاطباً والدته:
_دعيها إذن تنام جوارك على الفراش .
لكنه لم يكد يتم عبارته حتى فتحت دعاء عينيها فجأة لتنتفض من مكانها عندما التقت عيناها بعينيه الصقريتين …
قبل أن تضع كفها على صدرها محاولةً تدارك خوفها…!!!!!
فهتفت والدته بجزع:
_بسم الله الرحمن الرحيم…لا تخافي يا ابنتي…حسام عاد لتوّه وكنا نشفق عليكِ من نومتكِ هكذا على الكرسي.
تمالكت دعاء انفعالها وهي تطرق برأسها هامسة بصوت لاهث:
_لا بأس يا عمتي…مادام حسام قد عاد سأتصل بأبي ليأتي كي يصطحبني إلى المنزل.
رمقها حسام بنظراته الصقرية دون رد…
بينما قالت والدته برجاء:
_تناولي عشاءكِ مع حسام أولاً وبعدها سيوصلكِ هو إلى منزلك .
انتقل كفها من على صدرها إلى رأسها الذي كان يضج الآن بصداع عنيف ثم غمغمت بصوت لم يغادره النعاس بعد:
_شكراً يا عمتي…لا أشعر بالجوع .
عاودت المرأة توسلاتها الحنون بينما وقف حسام يراقبها بنظراته الصقرية وقد بدا عليه عدم الاكتراث بكل هذا…
ثم تناول هاتفه ببرود ليتصل بوالدها فعلا صوته وهو يقول بلهجته بالغة الأناقة والتهذيب:
_شكراً لسماحك لدعاء بالبقاء مع والدتي يا عمي…لقد أجدتَ تربيتها حقاً…لا …لا…لا تتعب نفسك..أنا سأقوم بتوصيلها بنفسي بعد قليل…تصبح على خير يا عمي.
رمقته والدته بنظرة حنون وقد أساءت تأويل تصرفه على أنه اهتمام!
وحدها دعاء تطلعت إليه بيأس ممتزج بخيبتها وهي تدرك مغزى تصرفه…
مجرد إثبات ملكية لدميته المعيبة !!
فتنهدت بحرارة ثم وقفت مكانها تنتظر دورها التالي في هذه المسرحية العبثية التي يُفترَض أن تقوم فيها بدور بطولة!!!
بينما تقدم هو منها ليتملك كفها بأنامله متجاهلاً النظر إليها وهو يقول لوالدته برفق:
_استريحي أنتِ يا أمي…أنا سأعد معها العشاء لنتناوله معاً …هل تريدين أنتِ شيئاً؟!
هزت المرأة رأسها نفياً ثم انساب لسانها بدعواتها الصادقة لهما…
بينما أطرقت دعاء برأسها وهي تسير معه باستسلام نحو المطبخ حيث وقفت أمام “الميكروويف” لتبدأ في تسخين الطعام…
عندما عقد هو ساعديه مستنداً بكتفه على الباب ليقول بلهجة مستفزة:
_أريد “بطاطس” محمرة!!
كظمت غيظها بصعوبة وهي تسبّ -سراً- ذاك الوقح الذي يطلب منها الآن الوقوف لقلي “البطاطس” في هذه الساعة من الليل وهي -بالكاد- تقف على قدميها بعد عناء الساعات السابقة مع والدته…
لكنها كانت تعلم أنه يحاول استفزازها قدر استطاعته ليكسر روحها أكثر…
وهي قررت الصمود في هذه المعركة للنهاية…
لو كان هو لا يريدها زوجة بل مجرد ” واجهة اجتماعية”…فهي -الأخرى- لا تطمح في أكثر من هذا!!!
كلاهما وجد حاجته لدى الآخر…مجرد ستار !!!
لهذا توجهت نحو ركن المطبخ لتحضر بعض “البطاطس” لتقشيرها بينما شرد هو فيها ببصره يتأملها للحظات وقد ذكرته وقفتها هذه ب”طيفه” القديم…
قبل أن ينسحب ذهنه تدريجياً لإحدى ذكرياته معها…
وبالتحديد …أول لقاء له ب”طيفه” الساحر الذي لوّن حياته البيضاء بألوان”قوس قزح” ثم تركه فجأة ليدعها مجرد صورة باهتة بلا حياة…
ليلتها كان عائداً في إجازة قصيرة ليفاجأ بهذه الفتاة مع والدته التي أخبرته أنها جلبتها لتساعدها في شئون المنزل…
لكن الفتاة لم تبدُ أبداً كالخادمات…
ورغم أنها لم تكن جميلة بما يكفي لجذب انتباهه بل بدت كصبي عابث في ثيابها “المسترجلة”…
لكن شيئاً ما بوجهها لفت انتباهه..
عيناها!!!
عيناها كانتا مشتعلتين ببريق قوة آسر بدا له وكأنه يتحدى الكون كله أن يطفئه!!
وهو كان مولعاً بالتحديات!!!
لهذا ما كادت تسنح له فرصة عندما جاءته بكوب الشاي -في غرفته-والذي طلبه منها متعمداً بعد نوم والدته…حتى حاول استغلالها أو -هكذا كان يظن-!!!
عندما وضعت هي الكوب ب-حسن نية- على مكتبه وأعطته ظهرها لتنصرف ….
ففوجئت بها يسحبها ليجلسها على ساقيه فجأة مكبلاً حركتها بذراعيه وهو يهمس جوار أذنها بمكر:
_أحضرتِ الشاي دون كعك…وأنا أحب ال”تحلية” معه!!
انكمشت بين ذراعيه وهي تتوسله همساً أن يتركها وشأنها لكن صوتها -الذي لم يسمع في حياته أرق منه- أثاره أكثر..
فانسابت قبلاته على رقبتها ليغرق في نشوة إحساسه بها قبل أن يصرخ بحدة وهو يشعر بالألم الحارق في ساقه ليفاجأ بها قد تحررت من أسره بعدما سكبت كوب الشاي الساخن عليه!!!
وقتها اشتعل وجهه بالغضب وهو يطلق سباباً عالياً وقد همّ بضربها…
لكنها اندفعت تغادر حجرته بسرعة لتعود لغرفتها مغلقةً بابها خلفها بالمفتاح!!!
ليلتها توعدها بانتقام يوازي فعلتها لكنها كانت تتجنب الاحتكاك به محتميةً بوالدته وبباب غرفتها المغلق دوماً بمفتاحه حتى انتهت أجازته القصيرة ليعود لدراسته …
وقد كاد ينساها تماماً في هذه الفترة بعدها لكن ذاك “الحرق” -الذي احتاج علاجاً لأيام والذي استحى أن يعرف أحدٌ ما عن سببه- كان يذكره بها …
وبانتقامه الذي وعد نفسه به…
حتى عاد في تلك الإجازة بعدها ليجدها على حالها من تجنبها له وإن حملت نظراتها -القوية-شيئاً من القسوة التي لم يفهم سببها وقتها…
لكنه أدركه فيما بعد…
عندما أخبرته والدته عن ظروف نشأتها وأنها مجرد ابنة غير شرعية هربت بها والدتها بعدما رفض والدها الاعتراف بها وخافت بطش أهله من بعده…
ساعتها أدرك -هو- مغزى نظراتها التي لو كانت نطقت لصرخت به أنها لن تسمح أبداً أن تكون ضحيةً كوالدتها…
وأنه -هو ومن مثله- هم الذين دفعوها لمصير كهذا!!!
لهذا شعر نحوها بشئ من الشفقة وتأنيب الضمير وهو ما جعله يتجنبها هو الآخر لبعض الوقت…
حتى جاء يومٌ لمحها وهي تحمل سجادة كبيرة لا تتناسب مع حجمها الصغير فوق كتفها وقد بدا أنها في طريقها للصعود نحو سطح البيت حتى تنظفها…
لم يستطع منع ابتسامته العابثة وقتها وقد غلب شعوره نحوها بالفضول أي شعور آخر…
وقف على باب السطح يراقبها خلسة وهي ترمي بالسجادة المطوية على الأرض لتزفر بتعب واضح…
قبل أن تعاود فردها باجتهاد واضح متأهبةً لتنظيفها…
اتسعت ابتسامته العابثة وهو يراقب مفاتنها بتسلية وقد بدت له في ضوء النهار أكثر أنوثةً من ذاك “الصبي المسترجل” الذي سكب الشاي على ساقه منذ أيام!!!
نعم…حركاتها العفوية رغم بساطتها الآن كانت في عينيه بمنتهى الإغواء…
خاصةً عندما أنهكها التعب أخيراً فجلست على السجادة نفسها على ركبتيها ثم رفعت عينيها إلى السماء المشرقة الآن بنظرة حملت كثيراً من الأمل…
قبل أن تخفض رأسها لتستخرج من طيات ملابسها شيئاً ما جعل عينيه تضيقان بترقب قبل أن تتسعا في ذهول…
فقد كان هذا الشئ…كتاباً!!!
نعم…الصبية “المسترجلة” تجيد القراءة على ما يبدو..
لكن…تري ماذا عساه يكون هذا الكتاب؟!!
زادت دقات قلبه جنوناً عندما لمح ابتسامتها التي ولدت على شفتيها كرضيع برئ…
ثم اتسعت رويداً رويداً وعيناها تجريان على سطور كتابها بنهم وقد بدا وكأنها قد نسيت كل شئ حولها عدا ذاك العالم الذي انطلقت روحها بين سطوره…
لم يدرِ كم مر عليه من الوقت يراقبها وهو يجاهد نفسه كثيراً في عدم الاقتراب…
حتى فوجئ بها تستلقي على ظهرها في أريحية وقد غرها خلو المكان لتستأنف قراءتها بنفس الابتسامة الحالمة…
ثم ضمت الكتاب لصدرها بقوة قبل أن تتنهد بحرارة وهي تغطي به وجهها ليرتخي جسدها كله بعدها وكأنها راحت في سبات عميق…
هنا…
لم تعد له بقية من مقاومة…
اقترب منها ببطء حتى جثا على ركبتيه أمامها…
ثم اختطف الكتاب من على وجهها بغتة !!!
صرخت بقوة وهي تنتفض جالسةً مكانها ثم وضعت كفها على صدرها وقد احتل الذعر ملامحها…
حتى أن أنفاسها اختنقت تماماً في حلقها وهي تنظر إليه برعب!!!
فابتسم وهو يشير لها بكفه إشارة مطمئنة ثم قال ببعض الخبث:
_ومادمتِ جبانةً هكذا فلماذا تتصرفين بهذا الطيش؟!
ارتجف جسدها بقوة خوفها وهي تشعر أن وجوده معها الآن وحدهما لن يمر على خير…
حاولت الوقوف لتفر هاربة لكن جسدها كله كان متجمداً مع نظراتها التي تعلقت بعينيه في مزيج غريب من القسوة والبغض والخوف…
فالتمعت الدموع بعينيها مع انتفاضة جسدها القوية حتى خشي- بحق- عليها …فقال برفق:
_اهدئي…لن أفعل بكِ شيئاً.
تحررت دموعها من سجون عينيها ولازالت أنفاسها مختنقةً رعباً…
ومع هذا وجدت بنفسها بعض القوة لتغمغم بصوت مرتجف:
_ماذا تريد؟!
أمال وجهه بتسلية وهو يقول بلهجة تقريع:
_هل جئتِ هنا لتنظيف السجادة أم للجلوس تحت الشمس؟!!
ثم اقترب بوجهه من وجهها ليهمس بلهجة تهديد:
_ماذا ستفعل بك السيدة لو علمت أنك تهملين تنظيف المنزل لتضيعي وقتكِ في هذه التفاهات؟!
قالها وهو يلوح بالكتاب في يده…
فرفعت ذقنها بكبرياء غريب لتهتف بثقة وقد استعادت المزيد من قوتها:
_السيدة تعلم…وتشجعني على هذا أيضاً.
ارتفع حاجباه بدهشة للحظة ثم ابتسم بعبث وهو يقترب بوجهه أكثر هامساً بخبث:
_وماذا كنتِ تقرئين في هذا الكتاب ليجعلكِ تشردين هائمةً هكذا؟!!قصة حب؟!!
توردت وجنتاها بحمرة قانية وقد ألجم الحياء لسانها…
مما شجعه ليقترب أكثر هامساً جوار أذنها بحرارة:
_أخبريني فقط ماذا كان يفعل البطل وأعدكِ أن أحول الخيال لواقع!
شهقت بحدة من وقاحته ثم هبت واقفة لتغافله بسرعة هروبها التي لم يحسب حسابها…
هب واقفاً بدوره محاولاً اللحاق بها لكنها كانت وكأنها تحولت لآلة عدو سريع….!!!
زفر للحظة في ضيق ثم لم تلبث ملامحه أن تراخت وهو يقلب الكتاب في يده بتفحص…
لينعقد حاجباه بعدها في إدراك…
لا…لم تكن رواية عاطفية كما تصور…
بل.. قصة كفاح…!!!!
نعم…قصة كفاح فتاة فقيرة بدأت من القاع حتى وصلت إلى القمة…
عاود جلوسه على الأرض من جديد وهو يقلب الصفحات بنهم ليفاجأ بتعليقات على الهوامش بدت وكأنها هي من كتبتها…
تعليقات منحته انطباعات كثيرة عما قاسته طوال أيامها السابقة …
وليس هذا فحسب!!!
بل وما تعزم على الوصول إليه أيضاً!!!
ليبتسم بإعجاب وهو يقرأ ما كتبته هي عند نهاية الرواية…
_يوماً ما سيكون الماضي مجرد صخور ملقاة على الأرض بينما أكون أنا في السماء… جارة للقمر أمسك النجوم بكفي وأضحك…!!
ساعتها فقط دق قلبه دقة غريبة لم يعرفها من قبل…
دقة أخبرته أن هذه الفتاة مميزة…مميزة حقاً!!!
أفاق من شروده عندما رأى لهيب النار يرتفع أمام الموقد الذي وقفت أمامه دعاء متجمدة وقد داهمتها إحدى نوبات شرودها -المرضية- والتي ازدادت مؤخراً…
فهتف بحدة:
_انتبهي!
قالها وهو يندفع نحوها ليجذبها بعيداً ويغلق الموقد بسرعة قبل أن يغطي الإناء المشتعل بمنشفة كبيرة حتى خمد لهب النار…
التفتت نحوه دعاء بدهشة وقد أفاقت-لتوها- فازدردت ريقها بصعوبة متمتمة:
_ماذا حدث؟!!
عقد حاجباه بغضب وهو يقول بانفعال:
_أنتِ مصيبة متحركة!
دمعت عيناها تأثراً بإهانته وهي تمسك معصمها المحمر والذي كان قد طاله اللهب…
فزفر بقوة وهو يدفعها بخشونة ليضع معصمها قهراً تحت ماء الصنبور البارد لدقائق قصيرة حتى هدأ احمراره…
قبل أن يقول بنفس النبرة المستفزة:
_حافظي على نفسك جيداً…أنا فقط من يملك حق إيلامك.
أغمضت عينيها وهي تحاول كتم دموعها…
بينما مسح هو معصمها بمنشفة ناعمة ثم تفحصه قليلاً…
قبل أن يقول بغلظة:
_بسيطة!
ثم أردف بتهكم قاسٍ:
_كنتِ تستحقين المزيد من الألم!
نزعت معصمها منه برفق وهي تتجاهل إهانته بتصميم بارد…
لتطرق برأسها في جمود…
فيما تفحصها هو ببصره للحظات قبل أن يسألها باهتمام:
_لماذا تذهبين إلى قصر عاصي الرفاعي؟!
لم ترفع رأسها نحوه وهي تجيبه بآلية :
_زوجته صديقتي.
ابتسم متهكماً ليقول متعمداً إهانتها:
_تلك الممرضة اللعوب التي أدارت رأس عاصي الرفاعي صديقتك؟!! بالتأكيد…مستغلةٌ مثلك…الطيور على أشكالها تقع.
ابتلعت إهانته من جديد بصبر بينما أردف هو بقسوة مغموسة بالكراهية:
_ولو أنه يستحق ما هو أسوأ…يبدو أن صديقتكِ هذه ستكون أول مسمار يدقه بنعشه!
رفعت إليه عينيها بدهشة وهي تتأمل القسوة المغروسة في ملامحه…
هي تعلم أن جميع أهل المدينة يخافون عاصي الرفاعي وأغلبهم يبغضونه…
لكن هذه النبرة المختنقة بالمرارة توحي بعداء شخصي بين حسام وعاصي….
ترى ما سببه؟!!!
لكنه التفت نحوها ليقطع أفكارها قائلاً بازدراء:
_هل هناك فتاة محترمة يوافق أهلها أن تبقى حتى هذا الوقت المتأخر في بيت خاطبها؟!
حافظت على إطراقها الصامت للحظات قبل أن تقول ببرود ذبيح بألمه:
_نعم…أهلي يفعلونها إكراماً للزوج المثالي المنتظر الذي سيكفيهم هَمّ ابنتهم المريضة.
ابتسم بسخرية قاسية وهو يرفع ذقنها إليه هامساً:
_وأنتِ لماذا فعلتِها؟!! تظنين أنكِ بهذا ستخدعينني وترققين قلبي عليكِ؟!!
ابتسمت بسخرية مشابهة وهي تبتعد بوجهها عن أنامله لتلقي سهمها في عمق جرحه:
_قلبك؟!!قلبك مات معها!!
انعقد حاجباه بغضب وهو يمسكها من مرفقها هاتفاً بحدة:
_من تقصدين؟!!
اقتربت منه خطوة لتنظر في عمق عينيه هاتفة بثبات:
_تلك التي تنتقم مني لأجلها…لأنك تراني أنا صورة من غدرك القديم!
اتسعت عيناه في دهشة لم تلبث أن تحولت لغضب صارخ…
فيما نزعت هي مرفقها منه لتردف بنفس النبرة الثابتة:
_لا دخل للقلوب في علاقتنا يا سيادة الرائد…كلانا لا يرى في الآخر سوى مجرد صفقة…وأنا قبلت!
======
كان عبد الله يصعدالدرج نحو شقته عندما فوجئ بها تغادرها نحو غرفتها السفلية والتي كانت للبواب القديم قبل أن تتخذها هي للسكن مع صغيرها منذ عملت لديهم قبل بضعة أيام…
تنحنحت بحرج عندما التقت عيناها بعينيه لتهمس بخفوت:
_السلام عليكم يا شيخ!
رد السلام بفتور وهو يشيح بوجهه قبل أن يتنحى ليفسح لها الطريق وهو يشعر بنفس الضيق الخفي الذي يراوده كلما رآها…
ربما لهذا الصراع الذي يجد نفسه عالقاً فيه وتلك المرأة بالذات تواجهه بكل أسلحتها -دون قصد-وترفع في وجهه كل نقاط ضعف علاقته بصفا..
فتنتها الساحقة أمام جمال صفا المحدود…
ضعف احتياجها له أمام غنى صفا وتميزها عنه…
وأخيراً اكتمال أنوثتها بأمومة حرمت الأقدار صفا منها!!!
زفر بقوة وهو يتذكر كيف ساءت الأمور مؤخراً بينه وبين صفا …
حتى بعد استجابته لتوسلاتها وعودته للمنزل عقب زيارتها له في المحل ظل كلاهما على ابتعاده…
شئٌ ما بينهما قد فُقد وقد فشل كلاهما في العثور عليه…
نعم..لأول مرة تفقد صفا مهارتها العتيقة في احتواء غضبه بحنانها منشغلةً عنه بعالمها الجديد!!
قطع أفكاره قسراً وهو يفتح الباب لتستقبله صفا بابتسامة حذرة وهي تتقدم نحوه لتحتضنه هامسةً :
_حمداً لله على سلامتك يا حبيبي.
ربت على ظهرها برفق وهو يطبع قبلة سريعة على وجنتها …
فرفعت عينيها إليه لتهمس برقتها الفطرية:
_بدّل ملابسك بسرعة قبل أن يبرد الطعام.
أومأ برأسه دون كلام وهو يتوجه نحو غرفتهما صامتاً مكبلاً بأفكاره…
حتى جاورها على مائدة الطعام بعد دقائق …
سمّى الله جهراً ثم بدأ بتناول الطعام أمام نظراتها المتفحصة…
لكنه ما كاد يمضغه حتى عقد حاجبيه وهو يقول بضيق:
_هذا ليس طعامك!
تنحنحت بحرج وهي تقول بما يشبه الاعتذار:
_لقد تأخرت اليوم في المدرسة وفتون -جزاها الله خيراً- هي التي تولت إعداد الطعام!
ألقى الملعقة من يده بعنف على المائدة وهو يكز على أسنانه بغضب…
فأردفت بنبرة آسفة:
_صدقني رغماً عني…إحدى الطالبات كانت على وشك الاختطاف من أمام باب المدرسة لولا لطف الله…والوقت مرّ ونحن…
خبط على المائدة بكفه وهو يهتف بغضب حاد:
_لا شأن لي بكل هذا.
قالها وهو يقوم من مكانه فقامت بدورها لتسرع نحوه قبل أن تمسك ذراعه هاتفة برجاء:
_أكمل طعامك يا عبد الله…وأعدك أن تكون آخر مرة.
حرر ذراعه منها بعنف وهو ينظر إليها طويلاً قبل أن يقول بعتاب وخز قلبها:
_طوال هذه السنوات لم آكل طعاماً إلا من يديكِ أنتِ!!
دمعت عيناها وهي تربت على كتفه هامسة :
_لا داعي لكل هذا الغضب …مجرد ظرف طارئ!!
التوت شفتاه في ابتسامة ساخرة وهو يقول بمرارة:
_ظرف طارئ؟!!حياتنا كلها صارت مجرد ظرف طارئ…أنا لم أعد أجدك حولي…وكأن حاجتك إليّ انقطعت بمجرد انغماسك في عالمك مع أطفالك.
شهقت بعنف ثم اقتربت منه أكثر لتتعلق بعنقه وهي تدفن وجهها في صدره هاتفة بعتاب حنون:
_بعد كل هذه السنوات تقول هذا؟!!هل جاء اليوم الذي أحتاج فيه لتقديم برهان على حبي يا عبدالله؟!!
تنهد بحرارة مكتفياً بصمته المحترق…
بينما رفعت هي إليه عينين مذنبتين وجزءٌ منها يعلم -بل يوقن- أنه على حق!!
تكذب لو قالت أن شعورها به الآن كالسابق..
تحبه…نعم تحبه…
بكل ذرة في كيانها تفعل…لكن…!!!
لم يعد جنوناً أقرب للهوس -كالسابق- بل أخذ مكانه الطبيعي في قلبها عندما روت ظمأ أمومتها بنوع آخر من العاطفة…
والمشكلة أن عبد الله اعتاد حنانها المسرف هذا ويرى الآن كل ما هو دونه انتقاص من قدره لديها…
فماذا عساها تفعل؟!!
ويبدو أنه قد فهم ما كان يجول بخاطرها فقد أبعدها برفق ليهمس بنبرة لائمة:
_معكِ حق…لم أحتج يوماً لبرهان على حبك…ولو أتى هذا اليوم الذي أحتاجه فيه فهذا سيعني أنه حقاً ما عاد موجوداً!!
عضت على شفتها بتوتر بينما أعطاها هو ظهره ليتوجه نحو غرفتهما …
حيث تمدد على سريره يطالع السقف بشرود…
وهو يشعر أن روحه تتسرب منه ببطء…
وكيف لا…وصفا تبتعد عنه في كل يوم أكثر مما قبل…
يحبها؟!!
هو لا يدري..
ولم يتوقف يوماً ليسأل نفسه هذا السؤال…
هل يُسأَل المرء عن عشقه لأمه…
أو..لوطنه…؟!!
هذه هي صفا المعموري لديه بالضبط…
أم…ووطن!!
حتى ولو غلبه شيطان غريزته يوماً وسوّل له الانتقاص من قدرها كأنثى…
تبقى هي بعينيه في مكانة لا يجوز معها السؤال عن عشق أو غرام…
هي أسمى من هذا …
هي -صفا روحه- باختصار مهما -عكرتها- شوائب الحياة!!!
لكن -الغافلة-لا تدري كم يكافح شيطان روحه فيما يتعلق بتلك التي أدخلتها بيتهما…
فتون التي صارت فجأة مسئولة عن كل شئون البيت…
تلك “الفتنة” التي يخشى على نفسه منها في كل يوم يشعر أنها تشغل فراغاً كان ل”صفا” يوماً…
ملابسه التي تغسلها وتكويها وتعلقها مكانها في خزانة ملابسه فيجد نفسه كل يوم يجاهد خيالاته -الجامحة-بملمس أناملها عليها ….
وفراشه الذي ترتبه بلمستها قبل أن تعطره بعطر مِسكيّ خاص يثير جوارحه كلها والذي لم تكن صفا لتختاره أبداً…
وأشياؤه التي ترصها له بطريقة -شبه فوضوية تشبه مشاعره نحوها- بخلاف طريقة صفا بالغة التنظيم والدقة…
جهادٌ كبير صار يحياه بين امرأة يشتهيها كجسد…وامرأة تسكنه كروح ويسكنها هو كوطن !!!
توقف هدير أفكاره عندما شعر بها جواره على طرف الفراش فأشاح بوجهه صامتاً…
بينما اقتربت صفا منه أكثر لتمسد كتفيه بأناملها كعادتها بعد رجوعه من عمله آخر اليوم…
تلك العادة التي حافظت عليها لسنوات لكنها نسيتها مؤخراً في خضم انشغالها بعالمها الجديد…
فتأوه بخفوت وهو يغمض عينيه مستسلماً لدفء حركاتها…
حتى اقتربت بوجهها أكثر لتنثر قبلاتها الناعمة على وجهه هامسةً بمزيج حنانها ودلالها الآسر:
_أنت ابن قلبي الأول يا عبدالله..لا تنسَ هذا أبداً مهما حدث بيننا.
فتح عينيه ببطء ليلتقط نظراتها الهائمة والتي اصطبغت باعتذارها لتمتد أنامله فتتشبث بعنقها من الخلف كي تبقي وجهها ملتصقاً بوجهه قبل أن يهمس بعتاب :
_لم أعد أقنع بلقب ابن قلبك الأول هذا!! أريد أن أكون الوحيد!!
ابتسمت بحنان وأناملها تداعب لحيته برقة هامسة بين شفتيه:
_الأول…والوحيد…والأغلى!
انتهت همساتها ذائبة كالشمع بلهب قبلاته التي حملت لها شعوره الجارف بالاشتياق…
بينما هو غرق هو بكليته في إحساسه بها كعادته…
لكن رائحة ذاك العطر المسكية -الجديدة- التي التصقت بفراشه متملكة أنفه بل كل جوارحه بدت وكأنها تسربت لخلاياه كلها…
جعلته لا يرى بين ذراعيه صفا روحه بل…امرأة أخرى سواها!!
امرأة زينها له -شيطان-خياله بأروع ما تكون لتستحق عن جدارة ذاك الاسم الذي لم يكن يليق بها سواه!!!
نعم…فتون!!!
بينما كانت صفا تشعر بشئٍ مختلف معه هذه المرة…
لمساته كانت أكثر قسوة وعنفاً وكأنه يعاقبها على ذنب لا تعرفه…
أو ربما تعرفه وتكابر!!!
نعم…هي تعلم أنها تتمادى كثيراً في انغماسها بعالم أمومتها الجديد….
لكنها لا تستطيع التوقف…
ومن يلومها؟!!!
وهل يُلام الظمآن لو استسلم لرِيّ عطشه؟!!!
لكن أفكارها انقطعت بحدة عندما فوجئت به يدفعها بعنف هاتفاً:
_لا…ابتعدي!!!
شهقت بعنف وهي تبتعد عنه مجفلةً بينما علا صوته باستغفار لاهث للحظات قبل أن يدفن وجهه بين كفيه صامتاً…
وبركان أفكاره العاصف يقذفه بحمم من لهيب!!!
ما بين رغبته التي تتأجج في تلك “الفاتنة” التي استعمرت خياله…
وبين تأنيب ضميره نحو صفا روحه التي لا تستحق مثقال ذرة من خيانة ولو بالخيال!!!
وفوق كل هذا شعوره بالذنب أمام خالقه وقد أقسم على نفسه من قبل بتوبة لا انتكاس بعدها!!!
لهذا ظل يتمتم باستغفاره في خفوت قبل أن تهمس هي بدهشة ممتزجة بالقلق:
_ما الأمر يا عبد الله؟!!أنت غاضبٌ مني إلى هذا الحد؟!!
رفع عينيه إليها بنظراتٍ وجلة قبل أن يجذبها لصدره بعنف هامساً جوار أذنها بصوت متقطع:
_صفا…أنتِ لستِ فقط زوجتي…أنتِ…
قطع عبارته عاجزاً عن إكمالها لكن شعوره وصل قلبها صادقاً…
فرفعت وجهها إليه لتهمس بحرارة:
_طوال هذه السنوات وأنت لم تعترف لي بكلمة حب صريحة…لكنني كنت أقرأها بعينيك دون كلام…أنا أعرف قيمتي عندك يا عبد الله …تماماً كما أعرف قيمتك عندي!
وخزت عبارتها قلبه أكثر فأبعدها عنه برفق ليتجاهل عبارتها عمداً وهو يغمض عينيه بألم هامساً:
_تصبحين على خير..أنا أرغب في النوم.
لكنها ربتت على وجنته برقة وهي تقول برجاء:
_ليس قبل أن تأكل…أي شئ…لأجل خاطري أنا!
فعادت عيناه تلتمعان ببريق حاد وهو يهتف وكأنه يتشبث بآخر خيوط مقاومته:
_لا أريد أن آكل إلا من يدكِ أنتِ !
ابتسمت بحنان وهي تلقي رأسها على صدره فربت على ظهرها برفق وهو يهمس بشرود :
_طوال عمري يا صفا…لا أريد أن تعتني بي امرأة غيرك ولو بمجرد وجبة طعام!
ضحكت بسعادة وهي تتشبث بعنقه هامسة بحب:
_هذا هو عبد الله الذي أعشقه…مهما غضب مني يصفو بلحظة ليعود ويدللني كطفلته.
ابتسم ابتسامة شاحبة وهو يعاود التربيت على ظهرها…
فابتعدت عنه لتقوم واقفة وهي تقول بمرح:
_سأعد لك أفضل وجبة تحبها الآن لكن لا تلزمني بوقت….اختر ما تشاء!
ظل ينظر إليها طويلاً وكأنه يستمد من ملامحها السكينة التي يحتاجها…
والقوة لمجاهدة شيطان نفسه…
قبل أن يبتسم ابتسامة حقيقية هذه المرة وهو يقول بصدق:
_أي شئ يا صفا…المهم أن يكون من يديكِ أنتِ!
=========
كان جالساً على مكتبه في عمله الجديد يتابع أوراقه في اهتمام…
عندما شعر ببعض الملل فترك قلمه ليشرد ببصره غارقاً بأفكاره…
لقد استعاد بعض هدوء أفكاره مؤخراً بعدما استقر في عالمه الجديد مع رحمة…
واستكانت جروح روحه نوعاً بعدما أدرك خطأ ضعفه القديم وعزم على تغيير مستقبله…
لكن تبقى عقبة واحدة في طريقه لازال حائراً بشأنها…
نعم…ميادة!!!
ابتسم ببعض الحنين وهو يستعيد بعض ذكرياته معها لتنتابه رغبة -خفية-في الاطمئنان عليها خاصة مع ظروف مرضها الذي تخفيه عن الجميع والذي يعلم أنه يزداد شدةً مع انفعالها…
لكنه شعر بالحرج فهو لم يفكر في هذا منذ لقائهما الأخير والذي كان منذ أكثر من شهر…
فتردد قليلاً قبل أن يحسم أمره ويتناول هاتفه ليتصل بها …
لكنه فوجئ برنة هاتفها -المميزة-تصدح جواره فرفع وجهه بسرعة ليجدها هي _نفسها-أمامه!!!
اتسعت عيناه بصدمة من المفارقة وهو يقف مكانه مذهولاً ليهمس :
_ميادة!
ثم أردف بابتسامة خفيفة وهو يرفع هاتفه أمامها:
_كنت أتصل بكِ لتوّي!!
لم تتغير ملامحها الجامدة وهي تتناول هاتفها من حقيبتها لتغلقه…
قبل أن تتلفت حولها لتطالع عيون زملائه التي اختلط فضولها بإعجابها ثم عادت تنظر إليه بجمود قائلة:
_أريد التحدث معك!
تلفت هو الآخر حوله ببعض الحرج ثم دعاها للجلوس بإشارة من يده…فجلست واضعة إحدى ساقيها فوق الأخرى بينما سألها هو ببعض الدهشة:
_كيف عرفتِ مكان عملي؟!
رفعت نظارتها الشمسية على رأسها لتنظر إليه بقوتها المعهودة قائلة:
_عمي شاكر أخبرني…هو يراقب أخبارك من بعيد ليطمئن عليك!
انعقد حاجباه ببعض الضيق وهو يعاود سؤالها:
_هو الذي أرسلكِ إلى هنا؟!!
فالتوت شفتاها بابتسامة ساخرة وهي تميل رأسها مغمغمة بتهكم:
_ماذا تظنني بالضبط؟!!حمامة سلام؟!!
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقترب بجذعه من المكتب أكثر قائلاً:
_إذن لماذا جئتِ؟!!
نظرت إليه نظرة غريبة لم يفهمها ثم قالت بمواربة:
_أخبرني أولاً لماذا كنت تتصل بي؟!!
تنهد بحرارة وهو يطرق برأسه ثم عاد يرفعه إليها ليعاود الحنان إبحاره في بحاره الزمردية وهو يهمس بصدق اخترق جدار قلبها المحصن:
_كنت أريد الاطمئنان عليكِ!
ومع هذا اتسعت ابتسامتها الساخرة وهي تهرب بعينيها منه قائلة بالانجليزية :
_حقاً؟!!يالك من عطوف!!!
زفر بضيق وهو يحاول قراءة ملامحها الجامدة…
عيناها الجميلتان تبدوان ذابلتين رغم مغالاتها في تزيينهما…
وملامحها الشاحبة تفضح حزنها الذي فشلت مستحضرات التجميل في مداراته…
وشفتاها المطليتان ترتجفان لتمنحه أسوأ تأثير مع كل هذا وهو يتذكر ليلته الوحيدة معها…
ربما…لو لم يكونا الآن في مكان عمله لضمها بين ذراعيه وما سمح لها بالفكاك حتى يحررها من أسوار عنادها كلها لتسكب آلامها على صدره…
نعم…هو الآن لم يعد يراها تلك المرأة القوية الناجحة التي تجيد استغلال عقلها…
بل يراها تلك الطفلة التي هجرها أبواها فانزوت بركن قصيّ تبكي وحدها حتى كبر جسدها وعقلها…
لكن قلبها بقي على حاله…
قلب يتيم!!
أغمض عينيه بألم وهو يشعر بالحيرة نحوها تعاوده…
هو يتأرجح في شعوره بها بين فكرتين…
فكرة تبعده عنها وهو يراها مجرد قيد من قيود والده التي عزم على الخلاص منها كلها…
وفكرة تقربه منها وهو يراها رهان القدر الجديد على قوته التي يزعمها…
لقد خذل ماسة من قبل…فهل يخذل ميادة أيضاً؟!!!
وبين الفكرتين كان هو مشتتاً حتى انتبه أنها -هي- التي سترجح إحدى الكفتين…
لو اختارته حقاً فلن يخذلها…
لكن لو رأت أن تفارقه فسيعتبر هذا نهاية لكل هذا الصراع!!!
لهذا نظر في ساعته ليتبين الوقت…
عندما قالت هي وكأنها تثبت له أنها تمتلك دوماً زمام الأمور:
_موعد انصرافك بعد دقائق…سأنتظر حتى نغادر معاً لنتحدث في مكانٍ آخر بحرية.
رفع عينيه إليها بدهشة للحظة وهو يتبين أنها كعادتها تجمع كل المعلومات الممكنة لتجيد استغلالها….ثم ابتسم بإعجاب لا يدعيه وهو يهز رأسه …
قبل أن يرفع سبابته في وجهها هامساً بحزم لم يغادره حنانه المعهود:
_حسناً…لكنني أنا من سيختار المكان!
عادت ابتسامتها الساخرة تحتل ملامحها لكنها تجمدت على شفتيها وهو يردف ببعض المكر:
_سنتناول الغداء مع أمي…فرصة مناسبة لتشاهدي عالماً لم تجربيه من قبل!
=========
_أنت تسكن هنا؟!!!
هتفت بها ميادة باستنكار وهي تتوقف بسيارتها أمام بيت رحمة في حيها الشعبي البسيط….
فكتم عزيز ابتسامته بصعوبة وقد بدأت اللعبة تروقه…
ميادة المرفهة صاحبة اللكنة الأمريكية تضع قدميها الآن على أحد الأحياء الشعبية البسيطة….
ثقافتها الأجنبية أمام هذا التراث العتيق ….!
تبرجها المحترف أمام نقاء وجوههم بمشاعرهم الصادقة…!!
ودلالها المنعّم أمام شقاء هذه الأجساد الكادحة التي -بالكاد-تجد لقمة عيشها.!!…
لقد تعمد إحضارها لهنا حتى ترى بنفسها طبيعة حياته الجديدة التي اختارها بنفسه حتى يخيرها على نور بين استمرار زواجهما…أو إنهائه…
لهذا صمت قليلاً ثم قال بجدية :
_نعم …أقيم هنا…وأنا أكثر من راضٍ بهذا!!
ثم أردف بنفس الجدية المصطنعة:
_وأركب الحافلة العامة كل يوم أيضاً…وراتبي بالكاد يكفيني!!!
زفرت بحنق وهي تترجل من السيارة فترجل بدوره ليسير نحوها حيث اصطحبها للمنزل البسيط …
لتستقبلهما رحمة بحفاوة شديدة وهي تضم ميادة إليها بقوة حنانها هاتفة :
_أهلاً يا ابنتي …نورتِ بيتك!
أغمضت ميادة عينيها بتأثر وهي تشعر بحنان رحمة الصادق- والذي يشبه حنان عزيز- يمحو عنها كل مشاعرها السلبية التي تملكت قلبها منذ وصلت إلى هنا…
يبدو أن عزيز ورث قلب رحمة لكنه لم يرث قوتها…
على الأقل…حتى الآن!!!
لكنها كتمت تأثرها وانفعالاتها كالعادة لتبتعد بجسدها وهي تقول بنبرة متكلفة:
_شكراً لترحيبك…لكنه لم ولن يكون بيتي.
مط عزيز شفتيه باستياء وهو يرمق رحمة بنظرة اعتذار…
لكن رحمة نفسها كانت غافلةً عنه بتفحص ميادة بحكمتها…
قلبها يخبرها أن هذه الفتاة تخفي وجهاً آخر غير هذا الوجه الثلجي المتغطرس…
نظراتها المتعالية تخونها لتتسرب من بينها نظرة ألم واحتياج تعرفها -هي – جيداً…
نظرة تشبه نظرة ماسة قديماً!!!
لهذا ربتت على كتفها برفق وهي تسحبها من كفها متجاهلة عبارتها لتقول بنفس النبرة الحنون:
_تعاليْ يا ابنتي…الطعام جاهز .
ازدردت ميادة ريقها بتوتر وهي تشعر بشعور غريب وعيناها تدوران في المكان بتفحص…
شعور بالدفء تسلل لروحها ببطء متملك ليمنحها سكينة غريبة…
فالمكان على بساطته وتواضعه كان غاية في النظافة والذوق…
غريبٌ عن عالمها المبهرج بزينته وأضوائه…
لكنه مريحٌ لأبعد حد…
يشبه تلك المنازل القديمة التي كانت تراها على شاشة التلفاز في بيت جدتها وهي طفلة فتحسد ساكنيها على لمّتهم ودفء مشاعرهم المناقض لبرودة وحدتها…حتى أنها لا تبالغ لو قالت أنها شعرت في هذه اللحظة أنها تود البقاء فيه للأبد!!!
نهرت نفسها عند فكرتها الأخيرة والتي تناقض ما جاءت للحديث بشأنه…
خاصةً عندما لمحت صورة ماسة بثوب زفافها معلقة هناك على الجدار فعادت لوجهها برودته وهي تقول بغطرسة:
_لم آتِ لتناول الطعام…أنا جئت للتحدث مع عزيز بشأن خاص!
عادت رحمة ترمقها بنظرات متفحصة بينما ضغط عزيز كفها في يده بقوة آلمتها وهو يقول لأمه بغضب مكتوم:
_سلمت يداكِ يا أمي…أنا حقاً جائعٌ جداً!
أطرقت رحمة برأسها للحظة ثم قالت بحنان لازال يطوق كلماتها:
_أنا سبقتكما بتناول طعامي كي آخذ دوائي…سأترككما لتكونا بحرية أكثر…لو احتجتَ شيئاً أخبرني!
قالتها وهي تتجه نحو غرفتها قبل أن تغلق بابها برفق…
فالتفت عزيز نحو ميادة هامساً بحدة:
_اسمعي…أمي بالذات خط أحمر…التزمي بالأدب معها وإلا…
ابتسمت بسخرية قاسية وهي تسحب كفها منه لتعقد ساعديها أمام صدرها قائلة:
_وإلا ماذا؟!!
انعقد حاجباه بغضب للحظات ثم دفعها نحو المائدة ليجلسها قسراً قبل أن يلوح بسبابته في وجهها قائلاً:
_أولاً…يا سيدة المجتمع الراقي…من باب الذوق أن تجيبي دعوة سيدة أتعبت نفسها لأجل إكرام ضيافتك.
احمر وجهها انفعالاً وهي تشعر ببعض الخجل عندما أدركت أنه على حق بينما أردف هو :
_وثانياً…أنتِ التي أتيتِ بقدميك إليّ لتتحدثي …فاقبلي شروطي…وأولها أن تحترمي المكان الذي أنتِ فيه!
توهجت عيناها ببريق غضبها عندما انفرجت شفتاها وقد بدا أنها على وشك الانفجار في وجهه…
لكنها بذلت مجهوداً خرافياً للسيطرة على نفسها مكتفية بالإشاحة بوجهها المحتقن…
فزفر هو زفرة مشتعلة…
ثم سحب كرسياً ليجلس جوارها قبل أن يمد لها طبقاً فارغاً وهو يقول بلهجة آمرة:
_ماذا أحضر لكِ؟!!
ظلت على صمتها للحظات حتى ظن أنها لن ترد…
لكنها فاجأته بأن التفتت نحوه لتهمس بتوتر أثار دهشته:
_لن أستطيع حقاً يا عزيز…أنت تعرف مشاكل معدتي.
ملأ لها ملعقة من الأرز ثم قربها من فمها قائلاً بحزم:
_ولأنني أعرف مشاكل معدتك فيجب أن تأكلي الآن…الطبيب قال ألا تمر عليك ساعتان دون طعام.
أغمضت عينيها وهي تشعر بضعف غريب على ما ألفته بنفسها من قوة…
لكن ما العجيب؟!!
لقد تبدلت أحوالها مؤخراً كلها…
عقلها خذلها في حساباته وقلبها خذلها بمشاعره أكثر…
لحظة واحدة فارقة أطاحت بكل معادلاتها الحسابية وتركت لها مجرد صفر كبير في خانة اليسار!!!
بينما كان هو يتفحص ملامحها ليتبين هذا الألم الذي كسا وجهها فحملت لهجته بعض الرفق وهو يهمس بحنان:
_ميدا…كلي الآن ولا تفكري في شئ…سنتناقش لاحقاً في كل ما تريدين.
فتحت عينيها ببطء لتتعلق من جديد بزوارق عينيه الزمردية لتجد نفسها دون وعي تقترب بشفتيها من الملعقة التي لازال يضعها جوار فمها…
فتتناول منه الطعام ببطء وهي تشعر أنها تحتاج هذا الآن…
تحتاج هذا الاهتمام…وهذا الحنان…حتى ولو بلا مسمى…
تحتاج لأن ترتاح قليلاً من دوامة أفكارها التي ابتلعتها طوال أيامها السابقة…
هدنة قصيرة فقط من هذه المعركة التي استنفذت أغلب رصيد قوتها لتتركها شبه مُفلسة!!!
لكنها ما كادت تبتلعه حتى تذكرت ما جاءت لأجله فرفعت كفها أمام وجهه لتهمس ببعض الصلابة:
_يكفي هذا يا عزيز…!
وضع الملعقة جانباً وهو يشعر أنها حقاً ليست في حالتها الطبيعية….فأمسك كفها ليسألها باهتمام:
_ما الأمر يا ميدا؟!!لا تبدين بخير.
وكأنك تهتم يا عزيز!!!
لو كان شأني يهمك حقاً ولو بمثقال ذرة فلماذا تركتني كل هذه الأيام دون كلمة واحدة؟!!!
نبذتني من حياتك كما فعل والديّ من قبل…
هل العيب فيّ أنا؟!!!
هل هو قدري أن أبقى دونما أحد…
أم هي لعنة الوحدة التي أصابتني ولن يجرؤ قلبٌ على كسرها؟!!!!
لكن وبرغم كل شئ…أنا لن أنكسر…!!!
وبهذه المشاعر التي ملأتها تشبثت أناملها بكفه للحظة شعر هو بها جيداً…
قبل أن يستعيد عقلها سيطرته فسحبتها منه لتطرق برأسها وهي تحاول استجماع قوتها…
فتنهد هو قائلاً بحذر وهو يخشى إجابتها:
_جئتِ تطلبين ال?
أعدت له الشاي الذي صارت تعرف أنه لا يستغني عنه أبداً بعد كل وجبة…
ثم ابتسمت بحنان وهي تتلفت حولها لتتأكد من أن لا أحد يراها قبل أن ترفع الكوب لشفتيها فتقبله برقة وهي تشعر بعواطفها الجديدة نحوه تغزوها…
لا…ليس حباً…!!!ولن تسمح له أن يكون…!!!
فهي وعت درسها جيداً …
الحب يكسرنا ويجعلنا نضعف وهي الآن لا تعيش سوى لأجل أن تكون قوية….
هي أحبت فهد فاستباح كل حرماتها وتركها خلفه مجرد جثة بلا روح…
ولو استسلمت لحب راغب هذه المرة فهو لن يكون أكثر من تمثيل بهذه الجثة بعد موتها…
كلاهما محطة في حياتها …ستصل بعدها لوجهتها الحقيقية….
لقوتها التي ستنتزعها قسراً ولن يمنحها لها أحد…حتى لو بقيت بعدها وحيدة…!!!
وبهذا الفكر الجديد وضعت الكوب على الصينية ثم حملتها لتخرج إليه حيث كان جالساً على أرضية الشرفة الخارجية رافعاً إحدى ركبتيه أمامه وهو يسند ذراعه عليها….
فاقتربت منه ببطء ليتناول منها الكوب متمتماً بشكر مقتضب…
قبل أن تجلس هي على ركبتيها أمامه على الأرض لتسأله بوداعتها المعهودة:
_ما الأمر؟!لماذا تبدو شارداً هكذا؟!!
تأمل ملامحها التي أضفى عليها ضوء القمر سحراً خاصاً ليتوه فيها للحظات…
قبل أن يغمغم بشرود:
_أحد أصدقائي متردد في تطليق زوجته….ويريدني أن أعطيه رأيي.
انقبض قلبها عندما ذكر هذا الأمر فغمغمت بتردد:
_ولماذا يفعل؟!
أغمض عينيه بألم تفيض به روحه ثم همس بخفوت:
_متعبة!
بل مهلكةٌ يا رؤى لو تعلمين!!!
مهلكةٌ بكل تفاصيلك المتناقضة…
ببراءتك النقية …وإثمك العظيم…
بفتنة ملامحك…وقبح ماضيكِ…
بعنفوان حبك …وكسوره…
واستحالة فراقك…رغم وجوبه…
بفرحتي بكِ وحزني عليكِ…
بخوفي عليكِ من قسوتي …وإشفاقي لو تركتكِ لغيري ألا يحافظ عليكِ…
برغبتي فيكِ…ورغبتي عنكِ…!!!
مهلكة يا رؤى…بل قاتلة!!!
كان هذا نزيف أفكاره الصامت الذي قطعته هي بهمسها الضعيف:
_ولماذا يحتملها مادامت كذلك؟!!
صمت لحظة ليبتلع غصة حلقه وهو يهمس دون أن ينظر إليها:
_يحبها!
ابتسمت لتهمس بسخرية مريرة :
_حب؟!!!
ثم رفعت رأسها للسماء تراقب القمر الذي كان الآن يتوارى ببطء خلف الغيوم…
لتردف بشرود:
_دعه إذن يطلقها…الحب هذا ليس سوى وهم كبير…سرابٌ يطارده الحمقى حتى يهلكهم ظمأً…وحشٌ نربيه في صدورنا حتى إذا ما كبر التهمنا دون رحمة.
قطعت حديثها عندما خفضت رأسها لتجده يتأملها بتفحص لا يخلو من غضب…
غضبٌ أحرقه كالبركان وهو يسمعها تتحدث بهذه الحرقة مدركاً أنها تعني نفسها…
أيّ صبرٍ هذا الذي يحتاجه رجلٌ مثله ليستمع لامرأته وهي تشكو لوعة حبها القديم!!!!
حبها؟!!!
هل كان حباً حقاً؟!!!
وعند هذه الخاطرة الأخيرة اكتشف فجأة أنه لا يعرف أي تفاصيل عن زواجها السابق هذا!!!
لكن من قال أنه يريد أن يعرف…؟!!!
بل من قال أنه سيحتمل أن يعرف…؟!!!
أي كلمة بل أي حرف في هذا الأمر ستذبحه بلا رحمة…
فهل من العقل أن يزيد عذابه بها بالمزيد ؟!!!
بينما احمرت وجنتاها هي خجلاً وهي تشعر أنها تمادت في حديثها ليعاودها خوفها منه…
فقامت من مكانها لتقول بلهجة اعتذار:
_آسفة…لم يكن يليق أن…
_اجلسي!!
قاطعها بهتافه الآمر الذي لم يخلُ من خشونته المعهودة فازدردت ريقها بتوتر لتعاود جلوسها وهي تفرك كفيها باضطراب لاعنةً لسانها المنفلت الذي غافلها بهذه الكلمات…
عندما حسم هو أمره ليقول بغضب مكتوم:
_عندما علمتُ عن زواجك العرفي ذاك توقعتك فتاة جريئة عابثة تعرف جيداً كيف تحصل على ما تريد دونما اكتراث بالآخرين…لكنني فوجئتُ بكِ في غاية الضعف بل إنك تكادين تخافين من خيالك…فكيف جرؤتِ على فعلها؟!!
ضمت قبضتيها بقوة مقاومةً ارتجاف جسدها بخوفها الآن وهي تعد نفسها للمزيد من إهاناته وتقريعه….دون أن تجرؤ على النظر إليه…
لكنه اكتفى بصمته الطويل بعدها فرفعت إليه عينيها بحذرلتطالعها نظراته التي غلب ألمها غضبها…
وهزم حنانها قسوتها …فعادت دقات قلبها لانتظامها ببطء وهي تستمد بعض سكينتها من عينيه …
لتهمس باستسلام بعد لحظات صمت أخرى:
_مذنبة!
أغمض عينيه وهو يعود برأسه إلى الوراء مستنداً على سور الشرفة وهو يضغط الكوب بين يديه بقوة حتى كاد ينكسر…
بينما أردفت هي بمرارة وهي تشعر برغبتها في هذا الحديث له هو بالذات:
_نعم…مذنبة…ولست أبداً بريئة…
ثم أردفت بسخرية قاتمة:
_نفس القصة القديمة التي كنا نراها في الأفلام …الحمقاء الساذجة التي يستدرجها أحدهم لتكون فريسته …لكننا دوماً نظن أننا أذكى من الآخرين وأننا لن نقع يوماً في الفخاخ التي سقطوا فيها…
ظل على إغماضه لعينيه مخفياً تأثره بحديثها بينما أردفت هي بنفس المرارة:
_لكن حتى لو كان هو وغداً بلا ضمير…لماذا لم أحترم أنا تربية أخي؟!!لماذا لم أخفْ الله كما كنت أخاف عبد الله؟!! لماذا تساهلت وتنازلت هكذا وكأنني “فتاة شوارع” ؟!!مذنبة…نعم مذنبة…خاطئة …عاصية…تستحق الرجم والجلد …بل تستحق الموت…
كانت كلماتها تهوي كالسياط على روحه المثقلة بألمها وهو ممزق بين شعورين…
أحدهما يريد أن يستمع لقصتها كاملة حتى يروي ظمأ فضوله…
والثاني يقسم له أنه لن يحتمل…
وربما ينتهي الأمر بأن يفقد سيطرته على نفسه ليقسو عليها دون وعي…
ويبدو أن شعوره الأخير انتصر فقد فتح عينيه فجأة ليرفع كفه فجأة في وجهها منهياً حديثها…
قبل أن يشيح بوجهه وهو يسألها بخشونة:
_لماذا لم تلجئي لتلك العمليات التي يجرونها هذه الأيام؟!!كنتِ ستتخلصين من أثر خطيئتك للأبد!!
_لأنني …أردت التطهر!!
همست بها بخفوت وهي تطرق برأسها لتردف بين دموعها الآن:
_تلك الليلة التي سبقت ليلة زفافنا ظللت أدعو الله طوال الليل أن يقبل توبتي…أن يطهرني من إثمي…لا أدري لماذا شعرت وقتها أنه تقبل دعائي…جزءٌ بداخلي كان ينتظر عقابك ويعتبره قربان توبتي حتى أنني وددت لو تقسو أكثر…صدقني لم أكن أريد خداعك لأظفر بزوج يستر خطيئتي…بل كنت أريد جلد نفسي بذنبها حتى أوقن أن توبتي قد قُبلت.
عاد يلتفت نحوها ببطء وهو يشعر بصدق حديثها…
لو كانت حقاً كما تقول فظنه أن الله الغفور سيقبل توبتها…
لكنه لا يستطيع أن يفعل…
لقد حاول…صدقاً حاول!!!
حاول بكل ذرة من كيانه المولع بها…
استنجد بكل قوة عشقه لها…
توسل بكل رجاءات أشواقه…لكنه فشل!!!
رجولته وكرامته وقبلهما كبرياؤه …كلهم يرفضونها…
ينفرون منها…
فماذا يفعل بنفسه و”بعض نفسه” يقاتل “بعض نفسه”؟!!!!!
أما هي فقد مسحت دموعها بسرعة وهي ترفع عينيها إليه هامسة بابتسامة شاحبة:
_أنا أعرف أنني ظلمتك…وأدخلتك في حسابات لا تخصك…لكن صدقني كان رغماً عني…احتملني فقط قليلاً وأعدك عندما أحقق حلمي أن أذكرك دوماً في دعائي حتى ولو لم تكن معي…
تجاهل الجزء الأخير من عبارتها والذي أدمى قلبه…ليسألها بصوته الذي حافظ على خشونته:
_وما هو حلمك هذا؟!!
غلبتها دموعها من جديد وهي تفكر في سؤاله قبل أن تهمس بصوت متهدج:
_ألا أخاف!!
استسلمت لدموعها للحظات بعدها ثم عادت تمسحها وهي تحاول الابتسام لتهمس بشرود:
_ألا أخاف الوحدة…ولا أخاف الظلام…ولا أخاف أحداً…
ثم ارتعش صوتها وهي تردف:
_ولا حتى أخاف نفسي..!!
رمقها بنظرة متسائلة قبل أن يهمس :
_تخافين نفسك؟!!
اتسعت ابتسامتها الشاحبة وهي تهمس :
_أخاف ضعفها وترددها…أخاف احتياجها وخسارتها…أخاف ضلالها وتيهها…
أومأ برأسه وهو يشعر بصدق مخاوفها التي تحكيها…
ليس فقط مخاوفها المرضية من الظلام والوحدة…
لكن مخاوفها من الاحتياج والضعف!!
فتاة مثلها حُرمت من أبويها في سن صغير وعاشت في كنف أخ متسلط عصبيّ الطباع …من الطبيعي جداً أن تكون دوماً أسيرة هذا الشعور…
لكنها قطعت أفكاره وهي تقوم من مكانها لتتناول منه كوب الشاي متصنعة بعض المرح وهي تقول بما يشبه الاعتذار:
_لقد برد الشاي …سأعد لك غيره.
لكنه قام بدوره لينظر لعينيها طويلاً قبل أن يقول :
_هل تعدينني لو حققتِ حلمك هذا أن تخبريني حتى ولو لم أكن معك؟!
قاومت دموع تأثرها وهي تومئ برأسها قبل أن تقول مؤكدة:
_سأجئ إليك حينها بنفسي وأخبرك…لكن عساك وقتها تذكرني!
ابتسم بسخرية ذبيحة بألمه قبل أن تتحول ابتسامته لضحكة مختنقة بمرارتها وهو يهمس بنبرة غريبة لم تفهمها:
_نعم…عساني أذكرك!!!
انعقد حاجباها بتساؤل وهي تشعر بغموض لهجته…
بينما ربت هو على كتفها وهو يستعيد جفاف نبراته:
_لا داعي للشاي…أنا سأنام …تصبحين على خير!!
قالها ثم أعطاها ظهره ليتوجه نحو غرفتهما حيث تمدد على الأريكة كعادته…
نعم…منذ زواجهما وهو يفضل النوم هنا…
صحيح أنه فكر يوماً في النوم في الغرفة المجاورة لكنه تراجع…
هو يعرف عن خوفها -المرضي-من الوحدة والظلام…
كما أنه هو الآخر اعتاد وجودها معه …
حتى لو لم يمسها …لكن كفاه أنه يشاركها أنفاسها في ذات المكان!!!
نومةٌ متعبة؟!!!وما الجديد؟!!
ليت تعبها يقتصر على هذا!!!
رفع غطاءه الخفيف على رأسه مغمضاً عينيه وهو يحاول النوم دون جدوى…
جملتها الأخيرة كانت تدوي في رأسه بهدير صارخ…
“عساك تذكرني”!!!
بل عساني أنساكِ يا رؤى!!!
ولا أظنني يوماً سأفعل ..
حتى لو سلمت لحكم القدر فينا وتحرر كلانا من قيود هذه الزيجة…
فلا أظنني سأقوى يوماً على منح قلبي لسواكِ!!
انقطعت أفكاره عندما داعب عطرها الليموني أنفه تزامناً مع دخولها للغرفة…
قبل أن تتوجه نحو فراشها وهو يشعر بخطواتها تتوقف قليلاً أمامه ليذوب قلبه ترقبا وهو مستمر في تظاهره بالنوم…
لتعتقه هي أخيراً من قيود لوعته وتستأنف سيرها نحو الفراش الذي جلست عليه بشرود…
رفع الغطاء عن رأسه قليلاً بحذر وهو يراقب شرودها خلسة…
حتى أفاقت منه بعد دقائق طويلة ليفاجأ بها تستخرج دفتراً أصفر اللون من تحت وسادتها لتسنده على ركبتيها المرفوعتين…قبل أن تتناول قلماً من جوارها وتبدأ في الكتابة…
ازدادت خفقات قلبه جنوناً ووحش الشك ينهش صدره من جديد…
ماذا عساها تكتب الآن؟!!!
ولمن تكتب؟!!!
ولماذا لم تفعلها إلا عندما تأكدت من نومه؟!!!
هل يُعقل أنها تخدعه ببراءته هذه؟!!
أم أنه يبالغ في سوء ظنه؟!!!
ظل على حاله من مراقبته المختلسة لها وهو يكاد يشتعل غضباً وغيرة…
حتى انتهت من كتابتها لتعيد دفترها تحت الوسادة…
قبل أن تتمدد لتستسلم لنومها بعد وقت قصير…
انتظر هو بعدها لدقائق مرت عليه ثقيلة قاسية حتى تأكد من نومها…
ثم نفض غطاءه بخفة ليقوم متوجهاً نحوها بحذر ويسحب الدفتر ببطء شديد من مكانه….
ثم عاد لأريكته وهو يفتحه بلهفة لتطالعه كلماتها البسيطة…
لا.. لم تكن أشعاراً…ولا مذكرات…
بل هي كلمات أقرب لحديث المرء مع نفسه!!!
رفع عينيه لجسدها المستسلم لنومه ببراءة ليبتسم بحنان دافق…
قبل أن تجول عيناه على السطور ليقرأ ما كتبته…
لقد بدأت كتابتها منذ تلك الليلة التي ألبسها فيها قلادة والدته…
ليجد كلماتها :
اليوم عندما ألبسني قلادته بنفسه شعرت بمزيج من الفخر والخوف…
هذا الرجل يدفعني بلا وعي لتلك المنطقة التي حرمتها على نفسي…
يجذبني لمشاعر ستحرق جناحاتي قبل أن أهوي في جحيمه…
مشاعر ليست من حقي…
قلادته على رقبتي تحيرني…
منذ قليل فقط كنت أراها قيداً ثقيلاً أود التخلص منه بسرعة وهي تذكرني بخطيئتي التي حرمت رجلاً عظيماً مثله على قلبي الآثم…
والآن عندما أتلمسها بأناملي وحدي أشعر بدفء غريب يشبه دفء حضنه الذي شعرت به اليوم مختلفاً…
ليته كان لي…
وليتني…كنت له…!!
انعقد حاجباه بتأثر وهو يعيد قراءة كلماتها بتمعن وكأنه يغرسها غرساً بأرض روحه المجدبة إلا من واحات عشقها…
ثم قلب الصفحة لتطالعه بعض الكلمات التي كتبتها في الأيام السابقة….
كلها كانت تحمل مشاعر امتنانها له وندمها علي ما كان من ماضيها…
مع بعض رواياتها عن مواقفها مع والدته وهيام…
كانت تكتب بمنتهى السلاسة والبراءة وكأنها تبوح لصديق…
حتى أنه كاد يرى ابتسامتها وهي تحكي بعض طرائف أبناء شقيقه…
وغيظها وهي تحكي عن مناوشات هيام…
وحنانها وهي تتحدث عن والدته وكيف صارت تعاملها بعاطفة حقيقة عوضتها افتقاد والديها…!!!
لينتبه وقتها -فقط- أن رؤى حقاً ليس لها صديق…
هو منعها استخدام الهاتف…
وهي لا تطلب الخروج أبداً بعدما حدث في آخر مرة خرجا فيها…
حتى صفا التي كانت تزورها باستمرار انشغلت في عملها الجديد…
وعبد الله يكتفي بمهاتفته هو من آن لآخر ليطمئن عليهما!!!
ربما لهذا لجأت لفكرة مصادقة الورق هذه!!!!
وبرغم شعوره بالذنب والشفقة نحوها…لكنه يشعر أنه حقاً يحتاج لهذا…
يحتاج لقراءة ما تخفيه نفسها بصدق دون قيود خوفها وتحرجها منه…
ومع أنه كان يشعر ببعض الإثم في قراءة ما تكتبه دون علمها…
لكنه أباح لنفسه هذا…
كل شئٍ مباحٌ في الحرب…والحب!!!
وهو يعيش معها حباً بنكهة الحرب…وحرباً على أرض حب!!!
لهذا عاد يقلب الصفحات بأريحية أكثر حتى توقفت عيناه على ما كتبته هي منذ قليل قبل نومها:
يوماً ما سنفترق…
ليعود كل منا لطريقه المنفرد…
ستترك يده يدي لأتعلم السير وحدي…
قدماي سيخطوان للأمام لكن عينيّ ستنظران للخلف بحثاً عنه…
رغم علمي أنه لن يتبعني بعد…
لكنني سأبقى أبحث!!!
إذا تعثرتُ سأتخيل يديه تشدان يدي لتوقفني من جديد…
وإذا وصلت لمنتهى الطريق سأتخيل يديه أيضاً تصفقان لي باحترام أتمنى لو أراه بعينيه يوماً…
نعم…عيناه طالما جادتا بالحنان والعطف والاحتواء…
لكنهما بخلتا بالاحترام!!!
ومن يلومهما؟!!
ومثلي تلطخت بوحل خطيئتها للأبد!!!
لقد كذبت عليه!!!
أخبرته أنني لو حققت حلمي فسأعود لأخبره…
لكنني لن أفعلها…
لو خرجت من حياته فلن أعود لأذكره بتلك النقطة السوداء في صفحته من جديد…
بيني وبينه بحارٌ هائجة لن أستطيع عبورها لهذا سأقنع بالانتظار على شواطئها أرقب الأفق وأفكر…
ماذا لو كان هو الأول…
ماذا لو كنت قابلته بضفائري التي لم تحل إلا على كتفه؟!!!
ماذا لو كنت عرفته كطفلة تنتظره لعبور الطريق قبل أن تدهسها إحدى سياراته؟!!
ماذا لو كان ما بيننا سحر بداية لا ألم نهاية؟!!
ماذا لو …؟!!!
قلب الصفحة بسرعة ليقرأ الباقي لكن كلماتها كانت قد انتهت هنا…
ليلاحظ بسهولة تلطخ الحبر في سطورها الأخيرة مع انكماش الورقة مدركاً أنه أثر دموعها!!!
فزفر بقوة وعيناه تدمعان رغماً عنه…
لو استجاب لجنونه الآن لأيقظها من نومها حالاً وأشبعها ضماً وتقبيلاً حتى يكافئها على شعورها الذي أحسه صادقاً بين كلماتها…
لكن عقله لازال يوبخه على حماقاته….
كلماتها هذه لم تغير من حقيقة الوضع شيئاً…بل زادته تعقيداً!!!
لازالت هي مدنسة بخطيئتها…ولازال هو أسير كبريائه…!!!
والعفو يبدو بعيداً جداً مثل السماء…
ومثلها هي!!!
=================
فتحت عينيها بعد نوم عميق استغرق بضع ساعات….
لتجد رأسها مستقراً على صدره العاري فتوردت وجنتاها بخجل وهي تسترجع ما حدث بينهما منذ قليل…
ذاك العالم الذي ظنته سيبقى محرماً عليها للأبد وبابه محروسٌ بهواجسها المرضية بعد الحادث…
لكنه عرف كيف يسحبها إليه معه برفق حذر حتى اطمأنت لدخوله دون خوف…
لتجده معه جنةً من سحر خاص مدموغ باسمه وحده…!!!
أحبته؟!!
لا تعلم!!
وكيف تعلم وهي لا تجيد من أبجديته سوى بضعة حروف لا تكفي وحدها لتكوين كلمة…؟!!!!
والحب في شريعتها أن تصوغ معه آلاف الجمل!!!
يحبها؟!!
هي أيضاً لا تعلم!!!
وكيف تعلم وهو كهفٌ غامضٌ من أسرار مظلمة لا تكاد تكفيه شعلتها الضعيفة لتبث النور فيه!!!!
إذن هي لا تعلم إن كانت تحبه أم لا…
ولا تعلم إن كان يحبها أم لا…
لكن ما تعلمه وتثق به تماماً أن لها مكانتها -الخاصة -عنده كما له مكانه -الفريد-لديها!!!
لهذا ترددت قليلاً قبل أن ترفع إليه عينيها بمزيج مشاعرها الرائق…
ليلتقط هو نظراتها بتفحص قبل أن يهمس بحنان مشوبٍ بالقلق:
_أنتِ بخير؟!
أومأت برأسها إيجاباً وهي تعاود خفض بصرها في حياء…
وكلماته المشبعة بحنانه- على بساطتها- تنافس في أذنيها أرق عبارات الغزل!!!!
فابتسم بارتياح وهو يرفع ذقنها إليه هامساً بنبرة مؤكدة :
_ماسة تجاوزت هذا الحاجز أيضاً!!
قالها وهو يشعر بالراحة أخيراً بعد هذه الساعات التي قضاها مسهداً بالخوف والترقب…
فبرغم استسلامها -المطمئن-لطوفان عاطفته لكنه كان لايزال متوجساً بشأن ماضيها المؤلم…
نعم…برغم تلك اللذة التي تذوقها معها -كاملة-لأول مرة كانت لا تزال مشوبةً بقلقه عليها!!!
بينما تلاحقت أنفاسها -هي- باضطراب وهي تتخبط كطير جريح بين جدران مشاعرها….
ما بين خجلها المطعم بعاطفتها نحوه…
وخوفها الذي يقف عاجزاً أمام أسوار غموضه…
وأمانها الذي كان يغشاها وهي تتوسد صدره…
وأخيراً…امتنانها لكل ما فعله من أجلها …
وآخره ما كان بينهما منذ قليل…!!!
احتواؤه وتفهمّه الذي كانت تحتاجه حقاً لتتغلب على مخاوفها بعد حادثها البشع…
لتستعيد ثقتها في قدرتها على العيش كأنثى طبيعية من جديد..
لتتجاوز هذا الحاجز كما يقول هو الآن!!!
لهذا أغمضت عينيها باستسلام قانع عندما قبل رأسها المستكين على صدره هامساً :
_قوة الماسة لم تخذلني يوماً في أي اختبار…رهاني بكِ دوماً رابح.
تنهدت بحرارة ثم عاودت فتح عينيها ليغمرها دفء شموسه الزيتونية التي تألقت بعاطفة صاخبة…
لكنها تذكرت كلماته التي همس بها قبل أن يغيبها معه بدوار عاطفته عن أن زواجهما كان مجرد مقابل لمساعدته لها…
فتنحنحت بارتباك قبل أن تجد صوتها أخيراً لتهمس برجاء:
_كنت ..أريد شيئاً!
اتسعت ابتسامته الحانية وهو يداعب وجنتها بأنامله قبل أن يومئ برأسه دون كلام…
لكن عينيه حملتا ألف وعد…
تلك النظرة التي فاضت بها عيناه رغم صمته…
وكأنها تقسم لها أنها لو أرادت الدنيا كلها -الآن- لوضعها بين كفيها!!!
لهذا ارتسمت على شفتيها ابتسامة وليدة وهي ترفع أناملها لتضعها على صدره هامسة بقوتها الرفيقة:
_دينك القديم الذي تزوجتني لأجله!
تنهد بحرارة وهو يشيح بوجهه لتشعر بخفقات قلبه تحت كفها تزداد سرعة وضراوة…
فارتفعت برأسها قليلاً لتعاود همسها القوي:
_عاصي الذي أعرفه رد لي حقوقي كلها….ولن يبخل عليّ بهذا الحق !
عاود التفاته نحوها ليلتقط نظراتها الراجية و المناقضة لقوة همسها…
ثم احتضن كفها على صدره صامتاً للحظات قبل أن يهمس بشرود:
_كانت…أختي.
اتسعت عيناها بتساؤل لكنها احترمت صمته الذي استمر قليلاً…
قبل أن يردف هو بغضب مكتوم:
_هل رأيتِ تلك الندوب على كتفي وظهري؟!
ازدردت ريقها بتوتر وعيناها تدوران على ما ظهر من هذه الندوب على كتفيه الآن …
والتي رأت ما خفي منها على ظهره من قبل …
لكنها لم تتفوه بكلمة…
هو الآن أغنى ما يكون عن حديثها ….والصمت أسلم!!!
لهذا اكتفت بدفن وجهها في كتفه وهي تتلمس ندوبه بأناملها برفق…
لا تدري هل تواسيه بهذا أم تختنق الآن معه بدخان ماضيه…!!!
بينما أردف هو وكأنه لا ينتظر إجابتها:
_حماد الرفاعي عاقبني يومها على دفاعي عنها…لقد استغل ضعف والدتها ليقهرها بعلاقة غير شرعية…وعندما وضعتها المرأة رفض الاعتراف بها…فهربت بفضيحتها…لتعود بعد سنوات وطفلتها في يدها لعل قلبه يرق لحالهما البائس…لم تكن بحاجة لإثبات نسب…فالطفلة كانت نسخة من أبي في ملامحها…لكنه طردها أمامي لتغادر المكان بخيبتها…لكن صورتها لم تغادر رأسي أبداً…
رفعت رأسها إليه بعينيها الدامعتين وهي تدرك الآن سر معاملته لها…
لقد رأى فيها صورة أخته التي لم يستطع مساعدتها يومها…
عاصي ليس قاسياً بطبيعته بل هو صنيعة تربية والده القاسية كما أخبرتها حورية يوماً…
هو جُبر على طريق الشر في بدايته…لكنه اختار بإرادته المضيّ فيه…
ربما لم يختر أوله…لكنه رسم آخره…!!
ومع هذا هي تشعر أن بداخله بؤرة ضوء تجاهد في التحرر من جدرانه المظلمة….
لهذا لم تتعجب عندما أكمل هو حديثه المختنق بمرارته:
_حاولت الوصول إليها بعدها لكنني لم أستطع..فالمرأة غادرت المدينة خوفاً من جديد…وبعد وفاته اجتهدتُ في البحث أكثر لسنوات….تتبعت كل الخيوط في كل مكان ذهبت إليه…حتى وجدتها أخيراً.
شهقت بدهشة ثم همست بارتياح:
_وجدتها؟!
انعقد حاجباه للحظات وقد بدا عليه بعض التردد قبل أن يهمس باقتضاب :
_ انتحرت!!
صرخت صرخة قصيرة وهي تعاود إخفاء رأسها في صدره…
بينما أردف هو بشرود غاضب:
_ كانت هنا في المدينة جواري وأنا لا أعلم…عادت بعدما صارت شابة يافعة لتحاول إثبات حقها…لكنها جبنت كما يبدو عندما سمعت ما يتداوله الناس هنا عني…خافت من أخيها “الشيطان” فقنعت بحالها قهراً….كانت تخدم في البيوت لتتدبر أمر معيشتها وأنا هنا أعيش مرغداً في هذا القصر لا أكاد أعرف عنها شيئاً…
ثم صمت قليلاً ليكمل بلهجة أشد غضباً:
_علمتُ بعدها أن أحدهم وعدها بالزواج ثم تخلى عنها لأجل نسبها المفقود…
رفعت وجهها إليه وهي تهمس بإشفاق غلب ذهولها:
_خذلها مثل الجميع….وهي استسلمت لشيطان ضعفها….وانتحرت!!!
قالتها ثم فاضت عيناها بالدموع وهي تقارن نفسها بها…
قصة أخرى لعزيز وماسة!!!
لكن عزيز لم يكن بهذه النذالة…
وهي أيضاً لم تكن بهذا الضعف!!!
قوتها عصمتها من استجداء عاطفته التي كانت تعلم أن طريقها مسدود…
فكَفَت نفسها وكفته شر نهاية كهذه!!!
بينما صمت هو للحظات يحاول اجتياز أمواج غضبه وشعوره القديم بالذنب…
مع كل سطوته وماله لم يتمكن من مساعدة أخته كما تستحق…
خطيئة أبيه التي تهرب منها بقيت هي تحمل وزرها للنهاية….
وعندما التقى بماسة وأدرك تشابه ظروفها معها لم يستطع منع نفسه عن الوفاء بدينه القديم…
عن منحها اسمه ودعمه لترفع رأسها وسط الجميع …
ويداوي معها كل جروح ماضيها لتعاود الحياة بقلب سليم!!!
ظللهما الصمت للحظات…
وكلاهما غارقٌ في أفكاره الخاصة لا يكاد يجرؤ على تجاوزها…
حتى كانت هي أول من قطعه وهي تبتعد عنه لتنهض من رقدتها مستندةً على ظهر الفراش …
قبل أن تهمس بامتنان ممتزج بخيبة لم تستطع تجاوزها :
_إذن…دعني أخبرك أنك وفيت دينك كاملاً…لقد منحتني مالم يكن غيرك قادراً على منحه لي.
نهض بدوره ليستند على ظهر الفراش جوارها وهو يستقرئ مشاعرها النابضة بمراياها الفضية…
فجذبها برفق لصدره من جديد قبل أن يهمس بحزم حنون:
_أخبرتكِ من قبل أن لا أحد يتزوج امرأة بدافع الشفقة فحسب…خاصة رجلٌ مثلي يعرف جيداً قيمة ما يأخذ وما يعطي…لم أكن محتاجاً لعقد زواج فقط كي أساعدك.
توهجت عيناها بسؤالها القديم والذي عاندها كبرياؤها قبل لسانها في التفوه به…
لكنه رآه طافياً على سطح أمواجها الفضية التي كانت هادرة بقوة شعورها الآن…
فتملك وجنتها بأنامله ليرفع وجهها إليه هامساً ببطء وكأنه يريد حفر كلماته على جدران روحها:
_اخترتكِ ..لأنكِ ماسة…ماسة أدركت قيمتها منذ أول لحظة ولم أكن لأدعها أبداً.
تشبثت نظراتها بخيوطه الزيتونية التي حملت لها الآن أمان العالم كله…
فهدأت بعض مخاوفها وإن بقي عقلها على سابق توجسه…
عندما ازداد بريق عينيه وهو يسألها ببطء:
_وأنتِ…لو كان الزمان يعود بكِ…هل كنتِ ستختارين عاصي الرفاعي زوجاً دون إجبار؟!!
غامت عيناها بحيرتها وهي عاجزة عن الرد…
لو استمعت لحكم قلبها فيه فستجيبه ب”نعم”….
بل ألف “نعم”!!!
لكن حُكم عقلها لازال يحتاج لمداولة…
لازال يتخبط في ظلمات بطشه وجبروته…
لازال يجد “أَسوَد” لوحته يتناحر مع “أبيضها” باستماتة…
وطالما لازال الصراع قائماً فالإجابة قطعاً لن تكون ب”نعم”!!!
لهذا انفرجت شفتاها وهي تهمّ برد موارب…
لكن شفتيه اقتربتا منهما ببطء ليهمس بعاطفة أذابتها:
_لا تقوليها…دعيني أنا أقرأها على شفتيكِ …لعل الجواب أصدق وأسرع!!
==========
انتهت من مكالمتها مع رحمة كعادتها صباح كل يوم لتصارحها بما استجد من أمورها مع عاصي وتطلب منها النصيحة…
عندما شعرت بفرحة رحمة الصادقة وهي تبارك لها تمام زواجها أخيراً لتخبرها بسعادة أن عزيز ينتظر طفلاً وأنها تتمنى لو تسمع منها خبراً قريباً مثله….
لكن هذا الأمر كان بعيداً تماماً عن ذهن ماسة الآن…
هي لن تطمئن للإنجاب من عاصي حتى يستقر عقلها بشأنه…
عاصي بظروفه الحالية ليس هو الوالد الذي ترجوه لطفلها…
لهذا يجب عليها التريث في هذا الأمر حتى تدرك طبيعة الأمور هنا بالضبط…
قطعت أفكارها عندما طرق هو باب الغرفة ليدخل قائلاً بابتسامته الحنون التي تبدو وكأنها خُلقت لها هي فقط:
_لم أشأ أن أوقظكِ…كنتِ تبدين مُتعبة!
ابتسمت بدورها وهي تقوم من فراشها لتقول بانطلاق:
_لا أصدق أنني نمت طوال هذا الوقت…وكأنني أقتص من كل تلك الليالي التي قضيتها بلا نوم.
اتسعت ابتسامته وهو يرمقها بنظرات متفحصة…
كل ابتسامة على شفتيها كنز جديد يضاف لرصيده…
كل نظرة رضا تحتضن أمواجها الفضية تمحو أمامها سجلات طويلة من ذنوب ماضيه…
مجرد رؤياها أمامه تضئ بجنبات روحه المزيد من قناديلها الصدئة لتعيد لها رونقها وبهاءها….
لهذا اقترب أكثر يضمها بقوة شعوره نحوها قبل أن ينظر إليها هامساً بلهجته المسيطرة التي ما عادت تثير حفيظتها:
_سنذهب الآن في رحلة صيد ستعجبك كثيراً!
توهجت عيناها بلهفة طفولية وهي تبتعد برأسها هاتفة:
_حقاً؟!!
أومأ برأسه ثم جذبها من كفها وهو يتوجه بها نحو خزانة الملابس ليفتحها قائلاً:
_سنختار فقط ملابس ثقيلة لأن الجو ربما يفاجئنا ببرودة غير متوقعة.
التفتت نحوه لتغمغم بدهشة:
_من الذي نقل ملابسي هنا؟!!
تجاهل سؤالها مؤقتاً وهو يتخير لها ملابس مناسبة ثم وضعها جانباً ليمسك كتفيها قائلاً بحزم:
_لقد صارت هذه غرفتنا معاً.
تألقت عيناها بوهج فضتها للحظات قبل أن تخفض بصرها قائلة بلهجة ذات مغزى:
_هل ستشاركني حياتك كما شاركتني غرفتك؟!!أم أن صلاحياتي تنتهي خارج حدود هذه الغرفة؟!!
ظهر الإعجاب في عينيه جلياً وهو يحيط وجهها بكفيه هامساً:
_يعجبني ذكاؤكِ كثيراً.
هزت رأسها برفق وهي تقول بعتاب:
_ليس ذكاءً بل تحديد مواقف…حتى لا تفاجئني بإهانتك كالسابق!
ارتفع حاجباه بدهشة للحظة ثم ابتسم بحنان وأنامله تداعب وجنتيها هامساً:
_لازلتِ غاضبة؟!!
عضت على شفتها بتوتر وهي تهمس بحيرة رغم تورد وجنتيها بخجلها:
_بالأمس عندما دخلنا إلى هنا جعلتَ الأمر يبدو وكأنه مجرد صفقة…بل إنك قلتَ حرفياً أن علاقتنا مقابل مساعدتك لي…فهل ترى الأمر حقاً هكذا؟!!
أغمض عينيه للحظات ثم عاد يفتحهما لتتوه من جديد في غابات زيتونه بغموضها القديم…
قبل أن يسألها بلهجة محايدة:
_وكيف ترينه أنتِ؟!!
صمتت طويلاً ثم عادت ترفع عينيها إليه لتهمس بشرود:
_ليس بعد يا عاصي!!…عندما ينتهي الصراع سأخبرك.!
انعقد حاجباه بشدة وهو يسألها بحذر:
_أي صراع؟!!
ابتسمت وهي تميل رأسها لتقول ببعض المكر:
_تظن أنك وحدك من يجيد لعبة الغموض…لا يا سيد عاصي…ربما أجيدها مثلك.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة إعجاب واضحة قبل أن يقول بمراوغة ماكرة:
_وربما فقط تتهربين من الإجابة!!!
وضعت سبابتها على صدره وهي تقول بثقة:
_كلانا يتهرب من الإجابة…لكن الأسباب قطعاً مختلفة.
ازداد بريق الإعجاب في عينيه وإن حمل همسه مرارته العتيقة التي تشعر هي بها:
_تجيدين مجادلتي أيضاً يا ماسة…لم يفعلها أحد قبلك!
هدرت أمواج فضتها بقوتها وهي تقول بأسف:
_لم أقبل يوماً أنصاف الحلول وأنت تجبرني على هذا.
أشاح بوجهه للحظات ثم عاد ينظر إليها قائلاً بنبرة حاسمة:
_فقط ثقي في شيئين…أولهما أنني لن أؤذيكِ أبداً.
ابتسمت بشحوب وهي تغمغم :
_والثاني؟!
اقترب بوجهه أكثر حتى امتزجت أنفاسهما وهو يقول بمزيج غريب من حنانه وقوته:
_أنكِ وصلت لمكان لم يبلغه أحد قبلك.
أغمضت عينيها تحاول التشبث بأسوار عقلها كي لا تغلبها عاطفتها _اللا مسماة- نحوه ثم همست بشرود:
_وهل يبلغه أحدٌ بعدي؟!!
انعقد حاجباه بتفحص وهو يحاول قراءة ما خلف كلماتها…
لكنها أبقت على إغماض عينيها وهاجسها الحالي يؤرقها…
عاصي الرفاعي -على حبه الذي رأته بعينيها لحورية- تزوج منها هي …
فهل يمكن أن يفعلها من جديد ؟!!!
هل يمكن أن يكون كل غايته منها هو الولد ثم ينتزعه منها ليتركها بعدها؟!!!
قلبها يخبرها أنه لن يفعلها…
لكن عقلها يتوعدها ويستحلفها بكل ذرة إهانة وانتقاص رأتها في حياتها ألا تسلم قلاع مدينتها كاملة…
أن تتريث في سيرها معه حتى تنقشع كل هذه الغيوم…
لكنها أفاقت من شرودها عندما همس هو بقوة أخافتها هذه المرة:
_لو تركتِ أنتِ مكانكِ برغبتك…فلا تلوميني لو وضعت غيرك فيه!
أطرقت برأسها وعبارته تؤجج مخاوفها أكثر…
لكنه تجاهل كل هذا ليجذبها من كفها قائلاً بلهجة آمرة:
_بدلي ملابسك حتى لا نتأخر ..الصيد يجب أن يكون باكراً…
وبعدها بقليل كانت تجاوره علي أحد القوارب في منتصف النهر حيث اصطحبها لمنطقة خاصة زعم أنها مفضلته في الصيد…
تناولت سنارتها لتجلس جواره منتظرة -نصيبها- مثله…
عندما التفت هو نحوها ليقول بلهجة ذات مغزى:
_ستحبين الصيد…يحتاج لصبر…وأنتِ لا تفتقرين إليه!
ابتسمت ابتسامة شاحبة وهي تختلس نظرة نحوه قبل أن تشرد ببصرها في الفضاء حولها قائلة:
_المهم أن يكون الصيد نفسه يستحق الانتظار!!
ابتسم وهو يفطن لمغزى عبارتها قبل أن يعاود النظر أمامه صامتاً…
بينما تأملت هي المكان حولها بافتتان…
لوحة طبيعية تفيض بالسحر…
تلك الزروع التي انتشرت على جانبي النهر والتي بدت كعرائس فاتنة نزلت بأقدامها في الماء…
والماء الذي انعكست عليه أشعة الشمس ليتلألأ ببريق أخاذ يشبه الفضة الذائبة…
وعلى مرمى البصر كانت السماء صافية إلا من سحب بيضاء بدت كملائكة من نور تطل عليها من عليائها…
يالله!!!
المشهد حولها كان ساحراً…
لكن وجوده جوارها كان أشد سحراً على قلبها الذي وجد أمانه معه…
لهذا التفتت نحوه لتهمس ببعض الخجل:
_هل يمكنني أن أزيد في مهري؟!!
التفت نحوها ببعض الدهشة قبل أن يقول بخبث:
_المهر يُطلب قبل العُرس وليس بعده!
هزت كتفيها وهي تقول باعتراض:
_أنت منحتني مالاً وأنا لم أكن أريده.
تفحصها ببصره للحظات وشعوره بها يزداد عمقاً…
كيف يمكنها أن تكون بهذه البساطة…وبهذه الفخامة في ذات الوقت؟!!!
كيف جمعت براءة الطفولة وسحر النساء في عينين لم يرَ يوماً مثلهما…؟!!!
كيف تمزج هكذا بين قوة ثقتها…وضعف احتياجها نحوه؟!!
هذه امرأة لو طلبت قطعة من السماء لأتاها بها تحت قدميها…!!!
لهذا ابتسم بحنان وهو يقول برفق:
_ماذا تريدين؟!
التفتت نحوه لتهمس بتردد:
_لوحة!
اتسعت عيناه بصدمة للحظة بينما أردفت هي بما يشبه الرجاء:
_أنت أخبرتني أنك كنت تجيد الرسم يوماً…أريد لوحة ترسمها أناملك لي هنا في هذا المكان بالذات.
فأغمض عينيه بمرارة وهو يغمغم بخفوت:
_هل نسيتِ رأيك؟!! اليد التي تمسك السلاح لن تستقر فيها فرشاة رسم!
هزت رأسها وهي تقول بإصرار:
_إذن تترك السلاح!
فتح عينيه ليعاود الشرود في الفضاء أمامه هامساً:
_لو تركت السلاح لحظة فسأجد غيري يصوبه لصدري…مضى وقت التراجع!!
أطرقت برأسها في يأس من مجادلته ليسود بينهما صمت ثقيل للحظات…
وكلاهما متشبث بسنارته غريقاً بأفكاره…
حتى شعرت باهتزاز سنارتها بعنف فوقفت لتهتف بلهفة:
_يبدو أنه صيدٌ ثمين.
وقف بدوره ليساعدها في تخليص تلك السمكة الكبيرة التي علقت بسنارتها…
ليضعها في تلك السلة جوارهما…
بينما كانت هي تضحك بسعادة طفولية وهي تراقب حركة السمكة التي كانت تتلوى بعنف مصفقةً بكفيها في مرح….
وكأنها عادت طفلة نسيت كل همومها بلعبة جديدة!!!
قبل أن ترفع عينيها إليه لتلحظ تأمله المتفحص فيها…
فنظرت إليه بتساؤل…ليقترب منها هامساً ببطء:
_أنتِ…تضحكين!!
توقفت عن الضحك للحظة وكأنها فوجئت بما يقول….
لتتذكر حديثهما منذ قريب عندما وعدها أن يعيد لها ضحكتها…
فابتسمت وهي تنظر إليه قائلة باستسلام:
_نعم يا عاصي…أنا أضحك.
ابتسم بدوره وعيناه تحتضنان شفتيها بنَهَم …
عندما أردفت هي بمزيج امتنانها وعاطفتها:
_كما وعدتَني!!!
تنهد بحرارة وهو يشيح بوجهه بعيداً…
لتكمل هي بما يشبه الدعاء:
_عساني قريباً أرى ضحكتك أنت الآخر…ضحكة يرسمها قلبك قبل شفتيك!
=======
_غبي!!!غبي!!!
ظل يكررها لنفسه مراراً وهو يجوب الشوارع كالمجانين عاجزاً عن فعل أي شئ…
والده لا يرد على اتصالاته ومع هذا لا يغلق هاتفه وكأنه يتعمد إثارة قلقه أكثر…
قلق؟!!!
بل إنه فعلياً يوشك على فقدان وعيه انفعالاً ورعباً…!!!!
وضميره يثقله باللوم لأنه تركها وحدها بعدما حدث…
لكنه لم يتوقع أبداً أن تأتي ردة فعل جاسم الصاوي بهذه السرعة…
إنها مجرد بضع ساعات تركها فيها…فكيف تمكن من فعلته بهذه السرعة؟!!!
فِعلته؟!!!
وما هي فعلته بالضبط؟!!!
هل حقاً آذاها؟!!
قطرات الدم هذه كانت لها؟!
هل من الممكن أن يكون…؟!!!
عاد يخبط على مقود السيارة بجنون وهو يزيد سرعته للقصوى غير آبه بأنه يسير داخل المدينة في هذا الوقت من الصباح مخالفاً للقوانين…
وأي قوانين بقيت في هذا العالم؟!!!
ظل على قيادته المجنونة هذه حتى وصل لشركة والده ….
صعد لمكتب والده منتظراً الساعة العاشرة بفروغ الصبر فهو يعلم أن جاسم الصاوي لم يغير عادته في الذهاب لشركته في هذا التوقيت منذ سنوات طويلة…
وفي تمام العاشرة بالضبط كان جاسم الصاوي يفتح باب مكتبه ليهب فهد واقفاً وهو يسأله بغضب لم يتحكم فيه:
_أين جنة؟!
حافظ جاسم على برود ملامحه وهو يتقدم بخطوات واثقة نحو مكتبه حيث جلس بمنتهى الهدوء دون حتى أن ينظر إليه فسيطر فهد على انفعاله نوعاً وهو يقول بصوت متهدج:
_أرجوك يا أبي…قل فقط أنها بخير.
رفع جاسم عينيه إليه بتفحص يطالع عينيه المحمرتين مع ارتجافة شفتيه بخوفه…
وتشنج أطرافه التي بدت وكأنها مشدودة كقوس…
ليدرك وقتها أن هذه المرأة تعني الكثير حقاً لدى ابنه…
وهو ما ينتوي استغلاله لأبعد حد…
لهذا ضاقت عيناه بغضب وهو يقول آمراً:
_اجلس!
جلس فهد وعيناه معلقتان بملامح والده يريد فقط أن يستشف بحدسه ما يمكن أن يكون قد حدث لجنة…
لكنه فشل في قراءة ملامح أبيه الثلجية فعاد يقول بلهجة أكثر عنفاً:
_ماذا فعلت بها؟!!
ارتسمت على شفتي جاسم ابتسامة ساخرة مع قوله المقتضب:
_هي بخير.
تنهد فهد بارتياح لترتخي ملامحه فجأة لكنها عادت تتوتر عندما أردف جاسم بقسوة:
_حتى الآن!
ازدرد فهد ريقه بتوتر وهو يشعر أن رأسه يكاد ينفلق من فرط انفعاله ليقول بقلق:
_وذاك الدم الذي كان….
عجز عن إكمال عبارته جزعاً لكن جاسم لوح بسبابته قائلاً بنبرة وعيد:
_مجرد “قرصة أذن” صغيرة حتى تدرك أنت ما يمكنني فعله بها ….
ثم أردف بنفس النبرة المتوعدة:
_أنا كنت أتغاضى عن علاقاتك العابرة لأنها لم تكن تعنيني…لكن عندما يصل الأمر لزواج ونسب فسأسحق كل من يفكر في هدم ما عشت عمري كله أبنيه…
عقد فهد حاجبيه وهو يقول ببعض الرجاء:
_أبي!..إنها مريضة سكر…لو تأخر عنها الدواء ستكون في خطر.
ظل جاسم صامتاً للحظات ثم أتاه بضربته القاصمة:
_هل تريد أن تعيش بذنبها هي الأخرى بعد والدتك؟!!
أغمض فهد عينيه بألم وحديث والده يضغط على أكثر جروحه قسوة…
لقد اختار جاسم العزف على الوتر الصحيح…
فهد الذي لازال يحترق بذنب والدته حياً لن يستطيع تحمل ذنب جنة أيضاًّ…
لهذا لم يتعجب جاسم عندما هز فهد رأسه نفياً ثم قال باستسلام :
_ماذا تريد مني؟!!
شبك جاسم أصابعه أمام وجهه وهو يقول بحزم:
_طلقها!
أطرق فهد برأسه وهو يدرك أنه وصل لنهاية طريق مسدود…
حياة جنة الآن مقابل بقائها معه…
وهو لن يخاطر بأن يصيبها مكروه مهما كانت التضحية…
لقد تحقق أسوأ كوابيسه للأسف…
جنته حُرّمت عليه كشيطانٍ لن يكون له بعدها سوى التلظي بنيران جحيمه!!!
لكن ما حيلته؟!!
وهو ضحية لشيطان أكبر ذبح قلبه منذ زمن بسيف المادة وغرته الدنيا كما غرت سواه!!!
لهذا أومأ برأسه في استسلام لم يعد يملك غيره…
فأردف جاسم بلهجة أكثر تسلطاً:
_وزفافك على يسرا الصباحي سيكون أول الشهر القادم!!!
رفع فهد إليه عينيه بصدمة وهو يتمتم بذهول:
_يسرا؟!!أنا؟!!!لا…مستحيل!!!
انعقد حاجبا جاسم بشدة فهز فهد رأسه مردفاً بغضب لازال غارقاً بصدمته:
_نعم…مستحيل…لقد..كانت…زوجة صديقي!
خبط جاسم بكفه على المكتب وهو يهتف بحدة:
_المستحيل هو ما فعلته أنت بزواجك من تلك ال”نكرة”…يسرا الصباحي هي بطاقتنا الرابحة في الفترة القادمة…منصب والدها الجديد سيضمن لي مكاني في المجلس أنا الآخر…وأنا لن أضيع فرصة كهذه لأجل تفاهة أفكارك!!
احمر وجه فهد وقد غلبه غضبه ليهتف بغيظ:
_أي فرصة؟!!إنها تكبرني سناً بأكثر من عامين…ومطلقة بعد بضعة أشهر من زواجها !!!
ابتسم جاسم بسخرية سوداء وهو يقول باحتقار:
_وتلك المحامية …ألا تكبرك بثلاثة أعوام؟!!
ازدرد فهد ريقه بتوتر وهو يشيح بوجهه دون رد…
فأردف جاسم بنفس النبرة:
_وأظنك تعلم لماذا طلقها “صديقك”…أو بالأدق…لماذا طلبت هي الطلاق؟!!
زفر فهد بقوة وهو يشعر بالهواء ينسحب من الغرفة تدريحياً…
مع ضيق صدره بكل هذا الانفعال…
لقد أغلق جاسم الصاوي في وجهه كل الأبواب…
هو فقط لا يطلب منه تطليق جنة بل يدفعه للزواج من امرأة كيسرا الصباحي…
والتي لا يرتضي أبداً أن يمنحها اسمه مهما بلغت مناصب أبيها!!!
هو الذي يعرف كيف تخلت عن حسام القاضي بمنتهى البساطة عندما علمت عن أزمته ورفضت معاونته فيها…بل خلعته كحذاء قديم لتبدأ سعيها خلف حذاء جديد…
والمفترض أن يكون هو الآن هذا الحذاء!!!
لا ورب العالمين!!!
لن يكون لها مهما حدث!!!
لكنه للأسف مضطر لمجاراة والده حتى يضمن سلامة جنة أولاً…
ومن يدري لعله يجد لهما مخرجاً فيما بعد!!
ولما طال صمته الغارق بعجزه وقلقه اضطر جاسم لقوله الحاسم:
_لا مجال للرفض…رفعت الصباحي هو الذي طلب نسبنا بنفسه وأنا لن أستطيع رفض طلبه…زواجك من يسرا أمام حياة رفيقتك!
رفع إليه فهد عينين غائمتين وهو يدرك أنه صار مجرد بيدق في لعبة شطرنج يتحرك وفق الأوامر فحسب…
لكن الأمر لم يعد يتعلق به وحده…
بل بحياة أقرب الناس لقلبه…والتي وعد نفسه قبل أن يعدها أن يفتديها بعمره كله…
لهذا همس بصوت مرتعش بانفعاله :
_زوجتي…وليست رفيقتي!
قالها دونما اكتراث لغضب أبيه…نعم!!!
إلا شرف جنة!!!
لن يتهاون في أن يمسه أحد يوماً وهو الذي عاش عمره كله مذبوحاً بخنجر تلك الكلمة بعد حادث والدته…
“الشرف”!!!
بينما انعقد حاجبا جاسم بغضب وتوهجت ملامحه بتهديد واضح فقام فهد واقفاً ليردف بحزم:
_سأنفذ كل ما تريد يا أبي…لكن دعها هي وشأنها!!
تفحص جاسم ملامحه للحظات وكأنه يستقرئ جديته فيما يقول…
ثم قام بدوره وهو يقول بصرامة:
_إذن دعنا ننهِ الأمر بسرعة…ستأتي معي الآن وتطلقها.
هز فهد رأسه موافقاً وأقصى أمانيه الآن أن يراها سالمة…
وبعد قليل كان يدخل مع والده أحد البيوت المنعزلة في مكان بعيد خارج حدود المدينة…
ليجدها هناك وسط عدد من رجال أبيه منزوية على نفسها في أحد الأركان جالسةً على الأرض…
فاندفع نحوها ليرفعها إليه قبل أن يتفحص ملامحها بلهفة ممتزجة بقلقه….
وعندما اطمأن أنها بخير همس بخفوت:
_سامحيني يا جنة .
رمقته بنظرة طويلة وقد أدركت من لهجته ومجيئه الآن مع جاسم الصاوي أنها النهاية…
فأغمضت عينيها باستسلام عندما وصلتها كلمات جاسم حادة قاطعة كالسيف:
_الآن ترمي عليها يمين الطلاق ثم تغادر هي المدينة بلا رجعة…لو علمت أنها عادت ترمي شباكها حولك فستكون نهايتها محتومة.
اعتصر فهد كفيها بين قبضتيه وهو يحاول اقتناص نظرة أخيرة منها…
لكنها أبقت على إغماض عينيها للحظات قبل أن تفتحهما لترمقه بنظرة غريبة لم يرَها من قبل…
لقد عاد وهج البندق يخبو في عينيها فلا يكاد يميز سوى أمطار سوداء من ألم قاتم…
نظرتها كانت تحمل كل المعاني المتناقضة التي لا يجوز أبداً أن تجتمع سوياً…
كانت تلومه….وتشفق عليه…
كانت تصفعه….ثم تحتضنه…
مشبعةً بخيبتها تارة وبتفهمها تارة….وباعتذارها تارة أخرى!!!
نظرتها كانت تنعي حباً لم يكن ليصحّ في ظروف خاطئة…
وما أقسى الحب الخاطئ!!!
بينما كانت نظرته تحمل ألماً بحجم الكون…
ألم قلبٍ خيروه بين موتٍ….وموت!!!
فبئس الخيار!!!
لتأتي كلمته أخيراً وكأنها تذبحهما معاً:
_أنتِ…طالق!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى