روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل العاشر 10 بقلم نرمين نحمد الله

موقع كتابك في سطور

رواية ماسة وشيطان الفصل العاشر 10 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء العاشر

رواية ماسة وشيطان البارت العاشر

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة العاشرة

_كل عام وأنت بخير يا ميدا.
هتف بها عزيز ببعض التحفظ وهو يصافحها في منزل والدتها حيث أقامت حفل عيد ميلادها…
فابتسمت بطريقتها العملية لتقول ببساطة:
_لا داعي للتهنئة…أنا لا أعرف لماذا يحتفل الناس بأعياد ميلادهم…من الأولَي أن أحزن لأن عاماً من عمري ذهب ولن يعود.
هز رأسه وهو يقول بشبه ابتسامة:
_لا فائدة!!أفكارك الغريبة دوماً مثيرة للجدل.
اتسعت ابتسامتها وهي تميل رأسها هامسة بدلال:
_لكن لا تنكر أنها دوماً صائبة!!!
عاد يهز رأسه وهو ينظر لعينيها هامساً بشرود:
_ما عدتُ أعرف مقياساً حقيقياً للصواب والخطأ.
اقتربت منه خطوة لتحيطه بهالتها السحرية المميزة وهي تقول ببطء واثق:
_لأن بوصلتك فاسدة…مؤشرها ثابتٌ في اتجاه واحد لا يتغير….نعم…قلبك أيها الشاعر ليس هو الدليل في عالمٍ كهذا.
رفع رأسه لأعلى للحظات…
ثم قال بضيق:
_هذا الجو الصاخب لا يناسبني…عودي لضيوفك…وسأذهب أنا إلى شرفة الحديقة الخارجية.
قالها وهو يعطيها ظهره ليتوجه نحو الشرفة حيث احتلّ القمر عينيه لدقائق طويلة…
طالما كان القمر يذكّره بماسته…
خاصة هذه الليلة…
وقد بدا في وضع الهلال كأنه منكسر!!
وكذلك ماسته الآن في غربتها التي لا يعرف عنها شيئاً…
لكنه موقنٌ من أنها تتألم دونه!!!
طالما حدثته نفسه بأنه لا يستحقها…
وبأنه كان أضعف من أن يحافظ على حبها له…
لكنه ما عاد يعرف سبيلاً للتراجع…
لقد اختارت ماسة طريق الفراق لهما معاً…
وليس بوسعه إلا أن يسير فيه!!!
ربما لو عادت…
لو سمحت له أن يطرق بابها من جديد…
فلن يتركها أبداً !!!
قطعت أفكاره وهي تهمس خلفه بدلالها المعهود:
_هل تسمح لي برفقتك ؟!
تنهد في حرارة ثم همس بفتور:
_يسعدني هذا…لكن لا داعي لتتركي ضيوفك.
سارت بضع خطوات حتى وقفت قبالته لتقول بابتسامتها الواثقة:
_أظن أنك تحتاجني أكثر منهم…
ابتسم وهو ينظر إلىها هامساً بتعجب:
_أنا أحتاجك؟!
التمعت عيناها ببريق ثقتها المعهود وهي تقول:
_لقد قرأت خاطرتك الأخيرة ورغم أنني لا أحب هذا النوع من الشعر ولا تستهويني أفكاره…لكن آخر بيتٍ فيها قد لفت نظري.
ضاقت عيناه وهو يتأملها بتفحص…
فتلاعبت أناملها بهاتفها الذي تحمله حتى وصلت لصفحة مدوّنته…
وبدأت في قراءة خاطرته الأخيرة بصوت مسموع:
ويوم افترقنا…
تناسيتُ اسمي…
تناسيتُ قلبي…
تناسيتُ ما كان ينبض فيه…
تناسيتُ عمراً بحبك أضحى..
حصن الأمان الذي أبتغيه…
وأصبحتُ صنماً بلا أغنياتٍ…
بلا أمنياتٍ…
وسخطت على القلب لياليه…
أُسائل يا قلبي…
متى ستصحو…
فألقي القناع الذي أرتديه؟!!!
وأسأل يا صبحُ…
متى ستطلع…
لتكشف ظلمة ما أرتئيه…؟!!
لكن قلبي …
قد تاه مني…
ما عدتُ أعرف ما يبتغيه…
والصبح ما عاد بعدكِ صبحي…
أضحي رماداً…
بلون الغيوم…..
وضلّت عن الكون أغانيه…
والفرح بعدكِ نجمٌ عنيد…
بعيدٌ عني…
بعيدٌ عني…
بعيدٌ عني…
فما يُدنيه؟!!!
وكم مرّ يا عمري منذ افترقنا…
ولازال قلبي ذاك الشريد…
يموت…
فتُحييه ذكرى منكِ…
يصحو…
ويموت من جديد…
فأسأل يا قلب…
لازلتَ تعشق؟!!!
فيقول حقاً إني أسيرٌ…
والعشق قيدٌ من حديد…
أذوب اشتياقاً لعهدٍ مضي…
فمن ذا يذيب جبال الجليد؟!!!
أريد الخلاص من الأسر لكن..
حنايا الفؤاد لا تستجيب…
أريد افتراقاً…
أم أريد لقاءً…
ماعدتُ أعرف ماذا أريد!!!
انتهت من قراءتها لتعيد عبارته الأخيرة بلهجة ذات مغزي:
_ما عدتُ أعرف ماذا أريد.
ثم رفعت رأسها إليه قائلة بنبرة مؤكدة:
_لهذا تحتاجني أيها الشاعر…لأنك حقاً لا تعرف ماذا تريد.
أشاح بوجهه في ضيق وهو يزفر بقوة…
لماذا فعلت هذا؟!!!
لماذا قرأت خاطرته بصوتها؟!!!
لماذا أقحمت نفسها بينه وبين ماسته؟!!!
ولو قرأ ما برأسها لعلم أن هذا -بالضبط-ما كانت تريده!!!!
نعم…
أول خطوة لتحتل عقله أن تنتزع منه وهم حبه القديم أولاً…
ولن يكون هذا إلا لو استغلت ثغرات الظروف لتستبدل صورة حبيبته القديمة بصورتها…
لا…لن يحدث هذا في يوم وليلة…
بل …رويداً رويداً…
حتى يبتلع الشاعر طُعم اصطياده كاملاً…
وبعدها ….!!!!!
تألقت ابتسامة قاسية على شفتيها الجميلتين عندما أكمل لها عقلها فكرتها….
ثم عادت تقول بنبرة انتصار واضحة:
_صدقني يا عزيز…عندما يخذلك اختيار القلب…فلن تجد سوى اختيار العقل كي يؤازرك!!!
==========
_كُلي يا دعاء…لا تخجلي يا حبيبتي…البيت بيتك.
هتفت بها والدته في ودٍ ظاهر وهي تربت على كتفها…
فابتسمت لها دعاء برقة….
لكن ابتسامتها ماتت على شفتيها عندما هتف هو بلهجته القاسية:
_لا تفرطي في تناول الطعام…حتى لا يزداد وزنك أكثر.
أطرقت دعاء برأسها في خزي مستسلمة لفظاظته كعادتها…
هي تعلم أن جسدها ممتلئٌ بعض الشئ…
لكنه متناسق …
مرسومٌ بلا إفراط…
بل إن الكثيرات من رفيقاتها يحسدنها على قوامها -المثير-على حد تعبيرهنّ…!!!!
لكن يبدو أن هذا ليس رأي “سيادة الرائد”!!!
رمقته والدته بنظرة عاتبة…
ثم عادت تربت على كتفها قائلة بطيبتها الواضحة:
_أنتِ رائعةٌ هكذا…قوامك مثاليّ!!
لم تستطع حتى رفع رأسها للمرأة مع كل هذه المرارة التي كانت تشعر بها في أعماقها…
لكنها تمالكت نفسها بعد لحظات…
لترتدي قناع مرحها المصطنع كعادتها هاتفة :
_سيادة الرائد يبدو بخيلاً يا عمتى….هو يقول هذا فقط ليوفّر لكِ الطعام.
ضحكت والدته وهي ترمقها بنظراتٍ عطوف …
ثم غمغمت بحنان:
_كمّلكِ الله بعقلكِ يا ابنتي…لا تتصورين كم أحبك.
ابتسمت لها دعاء بود ظاهر وهي تتحاشى النظر إليه كعادتها…
أما هو فقد كان يتأملها بنظراتٍ متفحصة…
وابتسامة إعجاب خفيفة تداعب جانب شفتيه متحالفةً مع نظرات عينيه اللامعتين !!!!
لكنها تجنبت الحديث معه بعدها تماماً وهي تتظاهر بالانشغال مع والدته في جمع الأطباق …
ثم قامت لتغسلها بنفسها مع اعتراض والدته الشديد…
لكنها كانت تريد الهرب من صحبته بأي طريقة…
استأذنتها والدته لتصلي فشردت أفكارها في حالها الجديد….
كانت قد أنهت عملها كالمعتاد بعد العصر…
عندما فوجئت به أمامها في المكتب يخبرها أنها ستتناول غداءها معه هو ووالدته اليوم بعدما استأذن والدها…
ورغم ما تشعر به من سوء في ظل صحبته المنفرة…
لكنها لا تنكر أنها كانت تشعر ببعض الرضا…
خاصة عندما فتح لها باب سيارته أمام زميلاتها بمنتهى الذوق…
ثم انطلق بها تحت نظراتهنّ المُعجبة…
نعم…حسام بوسامته وواجهته الاجتماعية وأسلوبه الأنيق الذي يحرص على معاملتها به أمام الآخرين هو حقاً كان حلماً بالنسبة إليها…
لكنها عندما تختلي به لتحترق بنيران قسوته وتسلطه تدرك حقاً أن حياتها معه ستكون مسلسلاً طويلاً من الألم…!!!
كانت تغسل آخر طبق في يدها وهي تتأهب لأن تخرج وتستأذنهما في الانصراف…
فقد كانت حقاً كارهة لوجودها هنا…
لكنها فوجئت به خلفها تماماً يحيطها بذراعيه دون أن يتحدث إليها….
بل تناول الطبق منها ليغسله بنفسه دون أن يفلتها من بين ذراعيه…!!!!
كانت والدته لاتزال في غرفتها تصلي…
وهذا يعني أنها الآن هنا معه وحدها….
خفق قلبها بقوة مع ارتجافة جسدها وهو يلتصق بها بهذه الطريقة…
لكنها لم تجرؤ على الاعتراض!!!
للحظاتٍ مرت وكأنها دهور…
حتى رفع الطبق مكانه …
ثم جفف يديه بمنشفة قريبة ولازال يحتجزها مكانها….
ليتناول كفيها بعدها فيجففهما تحت نظراتها المرتبكة….
ثم أدار كتفيها نحوه لينظر لعينيها هامساً ببطء:
_هل ضايقتك كلماتي ؟!!!
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تخفض بصرها عنه هرباً من نظراته الكاسحة…
لتهز رأسها بلا معني…
فرفع ذقنها إليه هامساً بلهجة مسيطرة:
_يجب أن تحافظي على مظهرك لأنه جزء من مظهري أنا.
تفجر شلال مرارتها كله ليغرقها معه وهي تهمس بألم:
_وما دمتَ مهتماً بالمظاهر إلى هذه الدرجة فلماذا اخترتَ واحدة مثلي؟!!! مادمتُ أنا لا أعجبك فلماذا تقدمتَ لخطبتي؟!!!
ضاقت عيناه في تفحص…
عندما سالت دموعها على وجهها رغماً عنها وهي تردف بنفس الألم:
_لماذا تتجاهل رأيي وكأنني مجرد ظلٍ لك؟!!!!….ولماذا تصرّ دوماً على انتقادي بهذه الصورة ؟!!!
نظر إلى عينيها نظرة طويلة لم تفهمها…
ثم مسح دموعها بأنامله هامساً بلهجة غريبة:
_من قال أنكِ لا تُعجبينني؟!!!
خفق قلبها بقوة مع لمساته…
عندما أردف هو بنفس النبرة الرخيمة:
_عيناكِ رائعتان حقاً…واسعتان كمحيطٍ بلا نهاية تتوه فيه العيون .
ازداد ارتباكها ولمساته تنتقل إلى شفتيها متزامنة مع همساته الحارة:
_وشفتاكِ تتألقان في ضحكتهما في دعوة صريحة ل…
احمرت وجنتاها حد الاشتعال….
عندما قطع عبارته ليقترب بشفتيه من شفتيها فشهقت بعنف وهي تضع كفها على شفتيه مبتعدةً بوجهها عنه…
قبل أن تهتف بانفعال:
_لا!!
اشتعلت عيناه ببريق خاطف وهو يمسك كفها الذي كان على شفتيه بقوة هامساً بحزم:
_إياكِ أن تقولي “لا” هذه مرة أخري أمامي…هل تفهمين؟!!!
اختنقت أنفاسها في صدرها وهي تهمس بأنفاس متقطعة:
_هذا لا يليق يا حسام…نحن لازلنا في فترة الخطوبة…ليس من حقك أن…
قطع عبارتها بابتسامته القاسية وهو يهمس بسخرية:
_هل هذا ما تسعين إليه إذن؟!!! أن نعجّل بعقد القران؟!!!!
اتسعت عيناها بصدمة من عبارته….
عندما أردف بقسوة أشد:
_تخافين أن تضيع منكِ فرصة كهذه…زوجٌ مثلي لفتاة في ظروفك مكسبٌ ثمين…صحيح؟!
في هذه اللحظة انقلبت كل شلالات مرارتها وخوفها إلى براكين من غضب لم تعرفه من قبل….
غضب أسود قاتم لم تكن ترى سواه…
ومشاهد متفرقة من حياتها تغزو مخيلتها بقوة….
مرضها الذي طالما كان يضعها في مواقف محرجةٍ في طفولتها بين رفيقاتها…
والذي تحول بمرور الوقت لقيد ثقيل يوثق أحلامها كلها….
وعندما ظنت أن قيودها قد انحلّت جميعها ورضت بحكم القدر في هذه الزيجة….
فوجئت أنها هربت من النار لتلقي بنفسها في الجحيم!!!!!
ومع كل ما يملؤها الآن من سخط وغضب….
لم تشعر بنفسها وهي تدفعه بقوة….
لتنتزع بعدها دبلته من إصبعها وتضعها بعنف على طاولة المطبخ هاتفة بحدة مشتعلة:
_احتفظ بمكسبك الثمين لنفسك….ودعني لعيبي يا سيادة الرائد!!!
=========
استيقظت من النوم على صراخها كالعادة ….
فأخفت رأسها بين كفيها وهي عاجزة عن السيطرة على أنفاسها اللاهثة…
تناولت بخاخها من على الكومود جوارها لعلها تجد خفقات قلبها الهاربة…
ثم وضعت كفها على صدرها عاجزة عن منع دموعها المنهمرة كالسيل…
متى ستنتهي هذه الكوابيس؟!!!!
متى سيمكنها النوم دون هواجس؟!!!
التفتت إلى باب الغرفة الذي فتحه ليدخل…
فالتقت نظراتهما في مزيج عجيب…
بحار فضتها كانت عكرة هذه المرة…
يعلوها زبدٌ من الذعر والقلق والألم الذي لم تستطع إخفاءه….
هو أيضاً غابات زيتونه كانت مختلفة الآن…
لم تكن مشتعلة كعادتها…
بل كانت ساكنة هادئة رفيقة كأنها تتمايل مع النسيم!!!
اقترب منها ببطء ليسألها السؤال الذي يعرف إجابته:
_كوابيسك ؟!
أطرقت برأسها دون أن تملك حتى القدرة على الرد…
فمد لها كفه قائلاً:
_تعاليْ.
ظلت تنظر إلى كفه الممدود للحظات لا تجرؤ على مد أناملها نحوه…
والعجيب أنه لم يستعجلها…
بل صبر عليها حتى ناولته كفها أخيراً بعد تردد…
لتسير معه وهي غافلة عن وجهتهما…
حتى توقف بها أمام غرفته!!!!
التفتت نحوه بدهشة وقد تذكرت حديثه عن أنه لا أحد يدخل غرفة عاصي الرفاعي …
حتى حورية نفسها…
لتهمس بصوت متقطع من أثر البكاء:
_ألم تقل…؟!!
قاطعها بإشارة من كفه ثم فتح باب الغرفة ليدخلها ويغلق الباب خلفها….
نظرت إليه بخشية لازالت عالقة بدهشتها…
فالتقط أمواجها الفضية بين أوراق غاباته ليقول بنبرته المميزة:
_أنتِ أول من أتجاوز له عن دخول غرفتي!!
هربت من أسر عينيه لتتأمل الغرفة حولها بتفحص….
الغريب أنها لم تكن بفخامة باقي القصر…
كانت أقرب للبساطة …
ولسبب ما لا تعرفه شعرت ببعض الراحة تتسرب إلى نفسها عندما دخلتها…
يبدو أن عاصي الرفاعي يجيد اختيار خلواته…
غرفته الخاصة وتلك التي في الحديقة تشي بذوق فريد…
ذوق من يعرف كيف يختلس راحته الناعمة من بين أنياب واقع قاسٍ!!!
كان كفها لازال في راحته فسار بها إلى الفراش العريض …
ثم أزاح الأغطية ليقول لها بلهجة آمرة:
_عودي لنومك!
أطرقت برأسها للحظات…
شئٌ ما بداخلها يحذرها من تلبية أمره…
لا…لم يكن خجلاً…
هو وعدها ألا يمسها وهي -لسبب ما لا تعرفه – تثق بوعده!!
لكنه شعورها القديم بالرهبة منه …
كيف تهرب من كوابيسها إلى غرفته هو؟!!!
الشيطان ؟!!!
الرجل الذي أجبرها على زيجة غريبة بظروف أغرب لا تكاد تعلم عنها شيئاً؟!!!
ومع هذا كانت تشعر الآن -مع كل الذعر الذي يملؤها- أن صحبته أهون من وحدتها بهواجسها على أي حال!!!!
لكنه فاجأها عندما أحاطها بذراعيه يحاول ضمها برفق لعله يطمئنها…
ففوجئ هو أكثر بردة فعلها العنيفة وهي تدفعه بقوة غريبة هاتفة دون وعي:
_ابتعدوا!!!
عقد حاجبيه بضيق وهو يتأمل جسدها الذي كان ينتفض …
وكلمتها تدوي في رأسه بفكرة خاطفة…
لقد قالت”ابتعدوا” وليس “ابتعد”!!!
ماسة لا تراه هو الآن بل تري مغتصبيها في صورته!!!
أعطته ظهرها للحظات تستعيد بعض تماسكها…
ثم قالت له بكلمات متقطعة دون أن تنظر إلىه:
_لا أحب أن يقترب مني أحد هكذا.
ظل يتأمل ظهرها المرتجف بغضب للحظات…
لا…ليس غضباً منها…
بل من الأوغاد الذين فعلوها…!!!!
ضم قبضتيه بقوة حتى ابيضت مفاصله وقد قست نظراته كثيراً…
لتلتمع عيناه ببريق خاطف للحظات…
ثم اقترب منها قائلاً بخشونة لم يتعمدها:
_سأراعي هذا لاحقاً.
التفتت نحوه دون أن تجرؤ على النظر إليه هامسة بارتباك:
_الأفضل أن أذهب إلى غرفة الحديقة.
هز رأسه قائلاً بحزم:
_ستنامين هنا الليلة…وكل ليلة حتى تتخلصي من كوابيسك هذه.
رفعت عينيها إليه أخيراً بحيرة تمتزج بخوفها…
فصمت بصبر وهو يأسرها بنظراته من جديد…
لكنها هذه المرة كانت مختلفة…
كانت تحمل وعداً بالأمان…!
وعداً تلقته عيناها وصدقته روحها واطمأن إليه قلبها…
نعم…قلب الماسة الذي لم يخذلها أبداً!!
تحررت من قيود عينيه أخيراً…
فتوجهت بخطوات بطيئة نحو الفراش لتتمدد عليه ببطء ولازال جسدها يرتعش ارتعاشة خفيفة….
تدثرت بغطائها مغمضة عينيها بقوة وهي تتحاشي لقاء نظراته….
جلس جوارها على طرف الفراش ثم تناول كفها قائلاً برفق:
_احكي لي ماذا ترين في كوابيسك؟!!
فتحت عينيها بذعر ثم هزت رأسها نفياً وقد عادت الدموع تنهمر من عينيها…
فأومأ برأسه في تفهم ثم قال بغموض:
_أول خطوة للتخلص منها هو أن تستطيعي الكلام عنها.
همست بصوت مبحوح:
_لا أستطيع!
ثم تعلقت بعينيه هامسة برجاء الغريق الذي يتعلق بقشة:
_أنت قلت أنك قد تخلصني منها.
أومأ برأسه قائلاً بثقة:
_نعم…سأفعل.
هزت رأسها بتساؤل…
لكنه لم يعقب …فقط قال برفقه الغريب:
_دعينا الآن فقط نجرب شيئاً…أغمضي عينيكِ وتخيلي قرص الشمس في وسط النهار.
أغمضت عينيها وفعلت كما قال لتشعر ببعض السكينة …
فعاد يردف بنفس اللهجة:
_تخيلي حقلاً من الورد تعدو به طفلة بفستان قصير لتشرب من جدول ماء عليه طائر يغرد.
ابتسمت ابتسامة شاحبة وسط خيطي الدموع اللذين انحدرا على خديها رغماً عنها ….
ودون أن تفتح عينيها همست بعفوية:
_لا أصدق أن السيد عاصي يقول هذا الكلام.
مست عفويتها قلبه بصدقها الملائكي ليزداد إشفاقه عليها…..
أخذته ابتسامتها الضعيفة والتي بدت وسط دموعها كشمس صغيرة تجاهد لتشرق بعد المطر…..!!!!!
كانت ابتسامتها رغم شحوبها تفتت أضعف جدران قلبه قسوة لتعبر من خلالها إليه…
فأخذ نفساً عميقاً ثم وضع سبابته على شفتيها قائلاً بحزم:
_انسي السيد عاصي…وانسي ماسة…لا تفكري سوى في الطفلة والجدول وحقل الورد…
عقدت حاجبيها للحظة تنفذ ما يقول….
لكنه كان صعباً…
في كل مرة كانت تحاول التركيز لكن المشهد الذي يحتل كوابيسها دوماً كان يعاند تخيلها….
عادت دموعها تسيل وهي تهمس بعجز:
_لا أستطيع.
تنهد في حرارة ثم قال بنفس الرفق الذي كانت تتعجبه كثيراً على طبعه القاسي:
_عندما كنتُ طفلاً كنت أحب الزراعة…يوماً ما زرعتُ نبتة مميزة لكن أحدهم نزعها بالخطأ من تربتها…غضبت كثيراً وظننتها قد ماتت …لكنني لم أستسلم…زرعتها من جديد في تربة أخري ولحسن الحظ كانت محتفظة ببعض جذورها …وظللت أرعاها يوماً بيوم حتى أنبتت من جديد…من وقتها تعلمت أن الموت والحياة يبدآن من عقولنا….نحن الذين نمنح الأشياء الحياة أو ندفعها للموت.
كانت لا تزال مغمضة عينيها تستمع إليه بشبه تركيز…
وقد بدأ النعاس يداعب جفنيها من جديد…
فهمست بخفوت:
_ماذا تقصد؟!
ضغط كفها في راحته ثم اتكأ على جانبه المجاور لها يداعب منابت شعرها بأنامله الحرة محاولاً الحفاظ على مسافة مناسبة كي لا يثير ذعرها من جديد….
ثم قال:
_ما حدث لم يكن ذنبك …ولا يعيبك في شئ…لا تغذي رأسكِ بأفكار غير هذه….أنتِ لازلتِ ماسة …ماسة حقيقية لن تؤثر على قيمتها أي خدوش.
كانت تسمعه وهي بين اليقظة والنوم…
وقد راقتها حركته المداعبة لمنابت شعرها …
والتي جعلتها تستسلم للنوم أكثر وهي تشعر بأمان غريب…
خاصة عندما اقترب من أذنها هامساً بخفوت:
_نامي ولا تخافي….لن تلاحقك كوابيس في غرفة عاصي الرفاعي!
كان هذا آخر ما وعته منه قبل أن تستسلم لنعاسها من جديد…
بينما ظل هو يتأمل ملامحها بتفحص…
ولازال على مداعبته لشعرها وإحساس نحوها يتملكه لأول مرة…
لا…لم يكن يراها -امرأة -نائمة على فراشه….
بل كان يراها -طفلة -يتيمة مقهورة أحيت مشاعر الأبوة التي طالما تمناها طيلة هذه السنوات….
ورغم أنه كان دوماً يهفو لمولود ذكر…
لكنه الآن يشعر برغبة شديدة في مولودة تشبهها…
بعينيها الماسيتين الملتمعتين ببحار فضتها…..
ابتسم ابتسامة حقيقية…
وهو يتعجب من نفسه!!!!
لماذا هي بالذات استنفرت مشاعر أبوته؟!!!
ربما لفارق السن الكبير بينهما…
وربما لأنه يعرف ظروفها جيداً ويعرف قيمة معدنها الأصيل…
وربما لأنها تناقض ببراءتها ونقائها سواد هذا العالم الذي يحياه…
وربما لأنه حقاً يتمني لو يرزقه القدر بفتاة مثلها…
في مزيج قوتها وبراءتها الغريب…
الذي لم يرَه في امرأة من قبل…
نعم…قوتها التي يستشعرها حقيقية تنبع من داخلها ولا تدعيها…
قوتها التي جعلتها تهرب من رجل تعلم أنه يحبها وتحبه فقط لترد معروف المرأة التي ربتها…!
قوتها التي جعلتها تلجأ للاعتماد على نفسها…
والعمل في بلد لا تعرفه و هي واثقة من قدرتها على تخطي فضيحتها التي تناقلها الناس بلا ذنب منها …
قوتها التي جعلتها تقف في وجهه هو وترفض زيجة تتمناها الكثيرات…
قوتها التي يثق أنها ستحملها لبر الأمان وهو سيكون معها!!!!
ورغماً عنه شعر برغبة خفية في فعل شئ لم يفعله يوماً مع أحد…
ولا حتى مع حورية…
لكنه سيفعله لأجل هذه البريئة كطفلة لكن قوتها تعادل عشرات الرجال…
ماذا فعل؟!
عاصي الرفاعي انحني برأسه ليقبل رأس امرأة لأول مرة في حياته!!!!!!!!
========
أغلق راغب باب غرفتهما ليهمس بصوت متهدج:
_أخيراً يا رؤى!!!
قالها وهو غارق في تفاصيلها التي يعشقها…
عيناه كانت تطوفان على وجهها وجسدها الذي احتضنه ثوب زفافها بصورة مدهشة…
بدت فيه كما تمناها منذ أيام لم يعد يعلم عددها…
حورية من حوريات الحسن اللاتي كان يسمع عنهن في حكايات طفولته…
والآن يجد الواقع معها أجمل…
ما أشد ما يليق بها اسمها…
رؤى!!!
هي فعلاً أجمل من أن تكون حقيقة…
هي رؤىً لا يستشعر جمالها إلا من غاب عن وعي شعوره ….
ليدخل معها عالمها الخاص الذي لا يكون مع سواها…
رؤى من حب ونور تغزو الروح برقة لكنها تتملكها بقوة!!!!
أما هي فلم تستطع الشعور بكل اللهفة التي حملها صوته ….
وكيف تفعل مع كل هذا الرعب الذي كان يملؤها في هذه اللحظة….؟!!!!
قلبها الذي تلاحقت دقاته كان يخبرها أن هذه الليلة ستنتهي بكارثة..
اقترب منها ليمسك كتفيها هامساً بصوته الخشن:
_لماذا تنتفضين هكذا؟!لا تخافي!!
قالها وهو يشعر بجسدها يرتجف بشدة …
عيناها دامعتان تدوران بلا هدف وكأنهما فقط تهربان منه….
شفتاها ترتعشان كأنها على وشك البكاء…
بل إنها بدأت في البكاء بالفعل!!!
ضمها إليه بقوة وهو يسألها بقلق:
_ما الأمر يا رؤى؟!!!هل أنتِ خائفة إلى هذه الدرجة؟!!!
ابتعدت بوجهها عنه ثم دفعته برفق لتهمس بصوت متقطع:
_هل من الممكن فقط…أن تسمعني…للنهاية؟!!
عقد حاجبيه بدهشة وهو لازال متعجباً من رد فعلها المتطرف…
هو يعرف أن الأمر قد تم بسرعة فلم يتجاوز ثلاثة أشهر…
هو كان متعجلاً لكنه كان جاهزاً -مادياً-لكل شئ…
وعبد الله لم يمانع!!!
لهذا تم الأمر بسرعة قياسية فهل هذا سبب ارتباكها هذا؟!
حافظ على مسافة مناسبة بينهما كي لا يزيد خوفها أكثر…
ثم قال بصبر:
_حسناً….أنا أسمعك…قولي ماذا تريدين!
تمالكت بعض قوتها ثم ذهبت إلى أحد الأدراج تستخرج منه هذه الورقة التي حصلت عليها من فهد الصاوي تلك الليلة بعد مغامرة جنة الخطيرة….
ثم عادت إليه تعطيها له بأنامل مرتجفة وقلبها يكاد يتوقف في أي وقت…
تناول منها الورقة بحذر ثم جرت عيناه على السطور بسرعة …
ودون حتى أن يكمل قراءتها عاود النظر إليها وهو يهتف بصدمة تحولت بعدها لغضب هادر:
_زواج عرفي؟!!!!
تراجعت للخلف وهي تقول بخوف وسط دموعها:
_اسمعني فقط …أرجوك.
اقترب منها ليمسك ساعديها ويهزها بعنف هاتفاً بجنون:
_هل خدعني شقيقك ؟!!!يظن أنه قد ورطني بهذه الزيجة؟!
هزت رأسها نفياً وهي تكاد تسقط أرضاً من فرط الانفعال لكنها قالت بنبرات مرتعشة:
_عبد الله لا يعرف…أقسم لك …أنا التي…
قطعت عبارتها عندما هوت صفعته على وجهها لتسقطها أرضاً …
لكنه عاد يرفعها إليه من جديد وهو يصرخ :
_سافلة…حقيرة.
كانت صفعاته تهوي على وجهها تباعاً لكنها لم تكن تقاوم…
ولا حتى كانت تصرخ…
كانت تكتم صرخاتها كما تعودت أن تكتم آلامها طوال الأيام السابقة…
لقد كانت تتوقع أن تكون هذه ليلتها الأخيرة…
كانت تعتبر هذا انتقام السماء على خطيئتها…
وتقبلته صابرة لعلها تتطهر من هذا الإثم!!!
لقد كان أملها الأخير أن يكون راغب أكثر تفهماً…
لكنه قطع هذا الأمل الأخير…
وهي لا تلومه…
أي رجل مكانه كان سيفعل مثله وربما أكثر!!!
وأمامها كان هو عاجزاً عن السيطرة على غضبه…
يداه كانتا تتحركان وكأنهما بإرادة مستقلة تبطشان بجسدها الذي كان مستسلماً لضرباته …
استسلام من لم يعد لديه ما يفقده!!!
حتى أنه لم يتوقف عن صفعاته إلا عندما آلمته يداه….
فوجد نفسه يدفعها عنه فجأة بقوة حتى اصطدم رأسها بأحد قطع الأثاث…
لم تكن الصدمة قوية إلى هذا الحد…
لكن الدوار الذي احتل رأسها من هول صفعاته القاسية تشارك معها لتسقط مكانها فاقدة الوعي!!!
======
سقطت أمامه على الأرض فظل يتأملها بجمود للحظات وهو عاجز عن التصديق…
رؤى الرقيقة الملائكية فعلت هذا…؟!!!!
حبيبته التي طالما سكنت أحلامه طوال هذه الأيام كانت يوماً لغيره…
كانت له بمجرد ورقة!!!!
وكأنها فتاة شوارع تزوج نفسها بنفسها مقابل لاشئ…؟!!!!!
رخيصة …
رخيصة!!!!
اشتعل صدره عند هذه الفكرة فانحني على الأرض يعتصر رقبتها بيديه…
ليروعه مظهر وجهها الذي كان غارقاً في الدموع والدماء تسيل من شفتيها النازفتين…
ففك قبضتيه من حول رقبتها ببطء مغمضاً عينيه عن صورتها البائسة أمامه!!!
ثم صرخ صرخة عالية وهو يرفع وجهه إلى أعلى بقهر…
لم يدرِ كم مر عليه من وقت هكذا…
لكنه سمع جرس الباب يرن …
لاريب أنها والدته تريد الاطمئنان على ابنها في ليلة العمر!!!
ابتسم بسخرية مريرة وهو يعاود النظر لجسدها المسجى على الأرض…
ثم تمالك نفسه ليقوم بسرعة ويبدل ملابسه كما ينبغي به…
قبل أن يخرج ليغلق باب غرفتهما خلفه…
توجه نحو باب الشقة ليفتحه فطالعه وجه أمه تقول بترقب:
_لا تؤاخذني يا بني…أنا سمعت صوت شئ يسقط…وبعدها هيئ إلىّ أنك تصرخ…لهذا جئت لأطمئن.
كانت شقته تعلو شقة والدته مباشرة ….
ومن الطبيعي أن تشعر بكل هذه الجلبة التي كانت هنا…
لكن يبدو أنها لم تسمع شيئاً لحسن الحظ!!!!
اغتصب ابتسامة باردة يعلم الله كم جاهد ليتصنعها وهو يقول باقتضاب:
_لا بأس يا أمي…لا تقلقي.
حاولت أن تبحث بعينيها وراءه عن أثر للعروس لكن باب غرفتهما كان مغلقاً…
فربتت على كتفه وهي ترتفع برأسها لتميل على أذنه هامسة:
_هل كل شئ على ما يرام؟!!
ظل صامتاً للحظات وهو يفكر بما تبقي له من عقل بعد صدمته ….
ثم أخذ قراره الذي رسا عليه أخيراً فأومأ برأسه وهو يقول بجمود:
_نعم يا أمي…كل شئ على ما يرام.
أطلقت والدته زغرودة قوية دمعت لها عيناه بقهر…
وما أقسى قهر الرجال!!!!
ثم تركته وهي تدعو له بالبركة فأغلق الباب خلفها برفق…
ثم عاد بخطوات بطيئة نحو الغرفة…
كانت لا تزال ملقية على الأرض كخرقة بالية…
تجمدت دماء جرحها على شفتيها وتورم وجهها كثيراً من أثر صفعاته …
لكن شعوره بالغدر والاشمئزاز غلب عاطفته نحوها في هذه اللحظة…
فجلس على طرف الفراش يغض بصره عنها وكأنها لا تعنيه!!!!!
تركها مكانها لوقت لم يعد يدري قيمة حسابه في هذا الموقف العصيب…
حتى اخترق صوت ضميره جدران قسوة غضبه وهو يتذكر عبارتها التي قالتها الليلة:
_هل من الممكن فقط…أن تسمعني…للنهاية؟!!
عقد حاجبيه بشدة وهو يفكر …
ماذا كانت ستقول له؟!!!
ما الذي يمكن أن يبرر لها فعلتها السوداء؟!!!
أي عذرٍ؟!!!وأي سببٍ قد يسوغ لها هذه الخطيئة؟!!!!
لكنه مع هذا وجد قلبه يرق لها من جديد فعاود النظر إلى جسدها الساكن…
وأمام تحالف قلبه وضميره لم يملك إلا أن يقوم من مكانه ليتوجه نحوها…
حملها بين ذراعيه حتى وضعها على الفراش…
ثم أحضر زجاجة عطر نفاذة ليقربها من أنفها…
تغضن وجهها وهي تعود ببطء لوعيها مع أنّات ضعيفة متألمة خرجت منها رغماً عنها…
حتى فتحت عينيها لتجده أمامها فالتمع الذعر فيهما واضحاً…
لكنها عادت تغمضهما في استسلام وهي تكتم آلامها بضغطها الشديد على شفتيها!!!
ظل يتأمل وجهها للحظات بعدما تمالك صدمته…
ثم قال لها بغلظة:
_قومي لتغسلي وجهك…وبعدها أخبريني بما كنتِ تريدين قوله!
تحاملت على نفسها لتقف بصعوبة…
وترنحت مكانها بالفعل لكنه حتى لم يقوَ على إسنادها…
جزء بداخله كان يخشي منها على نفسه أن يضعف قلبه أمامها من جديد…
وجزء آخر كان يخشي من نفسه هو عليها أن يؤذيها ثانية…
لهذا ظل مكانه ساكناً حتى غسلت وجهها وعادت بخطواتها المترنحة لتجلس جواره على طرف الفراش.
أغمضت عينيها بقوة وهي تشعر بنفسها ميتة بلا روح…
حتى ألمها لم تعد تشعر به…
كل الأمور الآن صارت سواءً…
فليفعلوا بها ما يشاءون !!!!
وصلها صوته الجامد أمامها يقول بخشونة فظة:
_قولي ما عندك!
لم تفتح عينيها وهي تهمس بصوت ضعيف متقطع:
_أنا أعرف أنني ظلمتك…لقد تورطتَ في عروس لا تليق بك…لكنك كنت أملي الوحيد في التخلص من مصيبتي…لن أقول بأنني كنت ضحية…أنا مذنبة وأعترف بخطيئتي….لو أردتَ أن تفضحني أمام عبد الله فلن ألومك…لكن لو ساعدتني في هذه المحنة فسأرد لك معروفك هذا يوماً.
كز على أسنانه محاولاً تمالك أعصابه ليسألها بنفس الطريقة الفظة:
_كيف أساعدكِ؟!وكيف ستردين معروفي؟!!
فتحت عينيها وقد بدأت تشعر ببعض الأمل لتهمس بضراعة:
_أنا أعرف أنك لم تعد راغباً في زوجة مثلي…لكننا سنحافظ على زواجنا فقط لبعض الوقت…حتى أنقذ سمعتي…وبعدها تطلقني …أنا أعرف أن هذه الزيجة كلفتك الكثير من المال…وأنا سأرده لك كله…فلديّ وديعة باسمي في أحد البنوك سأتسلمها بعد بضعة أشهر…تركها لي والداي وليس لعبد الله شأن بها …وبهذا لن تكون خسرت شيئاً!!!
كظم غيظه إلى أبعد حد …
وهو يتجاهل سيل براءتها الذي كان يقطر من كلماتها …
هذه الساذجة تظن الأمر بهذه البساطة؟!!!
مجرد أموال خسرها وستعيدها إليه؟!!!
لاعجب أنها وجدت وغداً يستغل براءتها هذه !!!!!
زفر بقوة ثم قال بغضب مكتوم:
_سأتستر على خطيئتك لكن ليس في مقابل مالك…وإنما لأن الله أمر بالستر!!
خفضت بصرها وهي تشعر بالخزي يعتصر ضلوعها…
ما أهونكِ اليوم يا رؤى…
وما أعظم ذُلّك!!!
كان صوته في هذه اللحظة أقسي من مدلول كلماته وهو يردف بنفس الخشونة الفظة:
_بضعة أشهر ستقضينها هنا على ذمتى لكنني لن أقربك…راغب درويش لن يقبل بفضلات رماها غيره!!
أغمضت عينيها بألم تبتلع إهانته التي ذبحتها ببطء…
لكنه لم يكترث لها وهو يردف بنفس النبرة:
_لكنكِ ستحترمين اسمي الذي تحملينه….لن تخرجي من باب هذا البيت…ولن تحملي هاتفاً…ستكونين مجرد خادمة لأمي تساعدينها في شئون المنزل…ولو اشتكت إلىّ منكِ فلن أرحمك…لو كان الشيخ عبد الله قد عجز عن تربية شقيقته فأنا سأفعلها….هل تفهمين؟!
أومأت برأسها إيجاباً دون أن تفتح عينيها…
فترك لها الغرفة لها صافقاً الباب خلفه بعنف…
هنا فقط سمحت لدموعها المقهورة أن تسيل على خديها…
وماذا بعد يا رؤى…؟!!!!
لقد نجوتِ -مؤقتاً-من الفضيحة بعد وعده لكِ…
وفررتِ بنفسك من موتٍ محقق لو كان عبد الله قد عرف عن الأمر…
لكن ماذا عن الأيام القادمة لكِ هنا معه…؟!!!!
انقبض قلبها بقوة والإجابة الملتهبة تأتيها من عقلها ….
أيامكِ القادمة هنا ستكون أسوأ من الموت!!!!
عاد لشقته بعدما أنهي عمله مع جاسم الصاوي ليجدها في غرفتها تصلي…
كانت قد أرسلت له رسالة تخبره أنها ذهبت لزفاف رؤى ويبدو أنها عادت منذ قليل…
وبرغم دهشته من زواج رؤى السريع هذا بعد فعلته معها …
لكنه تذكر عقد الزواج العرفي الذي أرغمته جنة على توقيعه…
ثم إلقائه يمين الطلاق علىها بعدها ذاك اليوم الذي عقد فيه قرانه على جنة….
لعلها وجدت بهذا مخرجاً من ورطتها….
لكن هل يعدّ هذا زواجاً؟!!!!
وهل يعديمينه طلاقاً؟!!!!!
لم يدع الأمر يشغل الكثير من تفكيره…
فهو يراها -ككل النساء-فاسقة تستحق أسوأ مصير…!!!!
وماذا عن جنة؟!!!!
لا…هو يشعر أن جنة من نسيج خاص وحدها…
شعوره بها ليس أنها مجرد امرأة…
بل مزيجٌ ساحرٌ من كل ما يعشقه من صفات…
يظلمها حقاً لو أدرجها تحت تصنيف النساء…
فهي ساحرته الاستثنائية التي لم ولن يجد مثلها!!!!
ظل واقفاً مكانه يراقبها تصلي وهو يشعر بسكينة غريبة…
وابتسامته تتسع تدريجياً على شفتيه …
ونظراته تحتضن صورتها بقدسية لم يعرفها إلا لها…
لها هي فقط!!!
انتهت من صلاتها لتجلس متربعة على الأرض تدعو بخشوع وهي لا تشعر بوجوده…
فاقترب منها بخفة حتى جلس متربعاً قبالتها هامساً بصوتٍ دافئ:
_مساء الخير يا أستاذة!!
أشاحت بوجهها في نفور وهي عاجزة حتى عن النظر إلىه…
هي تكاد تموت قلقاً على رؤى في هذه الليلة بالذات ولا تدري ماذا سيحدث معها…
وهو السبب في مصيبتها هذه!!!
أدار وجهها إليه وهو يهمس بنفس النبرة الدافئة:
_ألا تردّين التحية ؟!!!
ابتعدت بوجهها عن أنامله وهي تتحاشى لقاء نظراته لتقول بنفاد صبر:
_ابتعد عني هذه الليلة بالذات…لا أريد أن أري وجهك ولا أن أسمع صوتك.
اشتعلت عيناه بالغضب للحظات…
ثم هتف بحدة:
_هل ستحملينني ذنب صديقتكِ من جديد؟!!! أخبرتكِ من قبل أنني لم أجبرها…كل شئ تم برضاها.
ثم عاد يدير وجهها إليه ليحتجز نظراتها هاتفاً بنفس الحدة:
_أنتِ عشتِ معي طوال هذه الأيام وعرفتِ طبعي…هل أجبرتكِ على شئ؟!!!
هزت رأسها وهي تهتف باستنكار:
_حتى لو كانت مذنبة….لماذا تدفع هي الثمن وحدها؟!!
اشتعلت عيناه أكثر وهو يهتف بانفعال جعل كلماته خارجة عن سيطرته:
_ومن قال أنني لم أدفعه …أنا دفعته غالياً…غالياً جداً…ودفعته مقدّماً كذلك…!!
قالها وهو يقوم من مكانه ليبتعد عنها بضع خطوات….
معطياً إياها ظهره وهو يحاول التحكم في ارتجافة جسده الغاضب….
بينما ظلت هي على جلستها تتأمله بدهشة ممتزجة بالأسف…
لا تستوعب كل هذا الغموض في هتافه المشتعل بألمه…
قلبها يخبرها أنه ليس سيئاً كما كانت تظن…
لكنه ربما كان ضحية هو الآخر لتجربة سيئة جعلت منه هذا المسخ !!!!
ومع هذا لم تكن شفقتها عليه نقية تماماً…
فهي لازالت تشعر نحوه بالنفور المختلط بالحذر…
لهذا هتفت بعنادها المعتاد:
_هي تابت عن خطيئتها وتستحق فرصة جديدة.
ظل صامتاً للحظات…
ثم التفت إليها بنظرة غريبة لم تفهمها….
قبل أن يعود ليجلس متربعاً أمامها كما كان…
ليهمس أمام عينيها بحذر:
_وكيف تكون التوبة التي تستحق هذه الفرصة؟!!!
أطرقت برأسها وقد صدمها سؤاله للحظات..
ثم همست بجدية دون أن تنظر إلىه:
_التوبة لها شروط…أولاً أن تقلع عن الذنب….
ابتسم ابتسامة باهتة وهو يتناول كفها بين راحتيه هامساً بصدق اخترق قلبها رغماً عنها:
_أنا لم أمسّ امرأة منذ تلك الليلة التي تركتِ فيها نُدبتكِ على وجهي!
عقدت حاجبيها في دهشة ممتزجة بعدم تصديق…
فأومأ برأسه مؤكداً …
ثم عاد يسألها بتوجس:
_وثانياً؟!!!!!
ازدردت ريقها بتوتر وهي تهمس بخفوت:
_أن تندم على ما فات….!!!
أغمض عينيه وهو يهمس بألم حقيقي مسّ روحها التي ذاقت مثله يوماً:
_أنا أندم منذ سنوات…ليس على ذنوبي أنا فحسب…لكن على ذنوب غيري التي أُلقيَت على ظهري رغماً عني.
عقدت حاجبيها بدهشة متسائلة …
وقد حيّرها غموض كلماته مع الألم المنقوش على ملامحه…
لكنه عاد يتمالك نفسه ليفتح عينيه متسائلاً :
_وثالثاً؟!!
عضت على شفتيها بارتباك لم تعرف سببه…
ثم همست بحزم:
_العزم على عدم العودة!
اتسعت ابتسامته الشاحبة وهو يضغط على كفها أكثر هامساً بما يشبه الرجاء:
_لهذا أحتاجكِ معي.
أشاحت بوجهها بعنف وهي تحاول سحب كفها منه…
لكنه تشبث به أكثر وهو يعاود سؤالها بخشية:
_لو فعلتُ هذا فهل تُقبل توبتي مع كل ذنوبي؟!!
أطرقت برأسها للحظات وهي تحاول استقراء ما وراء كلماته…
لو استمعت لصوت قلبها فهو حقاً رجلٌ نادمٌ يحترق بذنوبه ولو لم يظهر هذا…!!!!
ولو استمعت لصوت عقلها فهو ممثلٌ قدير يحترف التظاهر بكل هذه المشاعر….!!!!
وبينهما هي حائرة لا تدري من تتّبع!!!!!
لكنها استمعت لصوت ضميرها أخيراً والذي حكم بينهما لترفع رأسها إليه هامسة بيقين:
_لن يقبلها الله فحسب…بل سيفرح بها…ألا تعلم أن الله أكثر فرحاً بتوبة عبده منه؟!
قام من مكانه ليسحبها من كفها فيوقفها أمامه وهو يهمس ببعض التردد:
_لم أُصَلّ ركعةً في حياتي كلها…فهل…؟!!!
قطع سؤاله المصبوغ بمزيج من الخزي والعجز….
فالتمعت عيناها بشفقة ظاهرة …
وهي تشعر به الآن كطفلٍ ضالّ فقَدَ من يرشده…!!!
لتأتيه كلماتها مشبعةً بحنانها هذه المرة وهي تقول بحزم:
_إذن …فلتفعل الآن…ولتكن هي البداية.
تاهت عيناه بشرود وهو يغمغم بحيرة غريبة على طبعه الواثق:
_وهل تظنّينني أثبُت؟!!!
ابتسمت لأول مرة منذ بدأ هذا الحوار لتقول بيقين:
_لو صدَقتَ الله …فسيصدُقك الله.
هز رأسه بتساؤل وكأنه لا يفهمها…
فأردفت بحسم:
_لو صدقت توبتك…فسيرزقك الثبات.!!!!
=============
وقفت جنة شاردة في المطبخ تعد قهوتها…
عندما سمعت صوته خلفها:
_أريد مشاركتكِ في قهوتك!!
التفتت نحوه لتقول بضيق وهي تتحاشى النظر لعينيه:
_ألم تقل أنك لا تحبها؟!
نظر إليها طويلاً وهو يلاحظ أنها تتجنب النظر لعينيه…
إنه يشعر أنها ليست على ما يرام منذ بضعة أيام…
شرودها زائد وتتحاشي الحديث معه أو حتى مجرد النظر إليه…
تقضي أغلب وقتها في مكتبها ولا تكاد تعود للمنزل سوى بضع ساعات…
وكأنها تهرب منه!!!
قلبه يخبره أن تصرفاتها هذه ليس لها سوى معني واحد…
أنها بدأت تميل إليه بقلبها لهذا تهرب!!!!
وكم يتمنى لو كان هذا صحيحاً!!!
اقترب منها فاضطرت لرفع عينيها إليه عندما أمسك كتفيها بقوة وهو يهمس بنبرة دافئة:
_أحببتُها بنكهة شفتيكِ!
أدارت وجهها عنه بعنف للحظة…
ثم هتفت فجأة بحدة لم يكن لها ما يبررها:
_اخرج حتى أعدها!!
ابتسم رغماً عنه وهو يستشعر أن حدتها تخفي شيئاً يستحق الانتظار هذه المرة…
ولم يشأ أن يضغط عليها أكثر…
وعندما شعرت بخروجه استندت بكفيها على طاولة المطبخ تكتم دموعها…
وجود هذا الرجل حولها يربكها…
أفعاله الحنون التي تستشعر صدقها تناقض فكرتها السابقة عنه…
مع توبته-المستحدثة-التي تري أثرها في حياته….
وقد هدأ حقدها نحوه -بعض الشئ-عندما علمت أن مصيبته مع رؤى قد مرت على خير…
لقد زارتها منذ أيام مع صفا وعلاقتها براغب بدت لها طبيعية تماماً..
صحيح أنها لم تتمكن من الاختلاء بها لمعرفة تفاصيل…
لكنها -رؤى-كانت تتحدث معهم بهدوئها المعتاد وزوجها كذلك!!!
لهذا لم تعد رؤى تشكل مصدراً لقلقها في علاقتها معه بقدر ما كان حسن يحتل دائرة تفكيرها الكبرى..
فموعدها معه غداً لتزوره في قبره ككل شهر…
وهي تشعر بتأنيب ضميرها لأنها فعلتها مرتين من قبل دون علم فهد…
فهل تفعلها الثالثة…وهل ستبقى تخفي عنه هذا الأمر؟!!!
هي تعلم أنها مخطئة بهذا التصرف….
لكنها لم تستطع إخلاف موعدها مع حسن ولو لمرة واحدة….
ألا يكفي أنها تشعر أنها ابتعدت تدريجياً عن ذكراه…؟!!!!
لم تعد تحدثه على الهاتف كما كانت تفعل…
ولا عادت تتنعم بذكرياتها العامرة معه…
أفكارها كلها صارت مشوشة بسبب ذاك الرجل…
ابن الصاوي!!!!!
حنانه واهتمامه- رغم يقينها أنهما مفتعلان -لكنها لا تنكر أنها بدأت تتأثر بهما…
صباحها الذي يبدأ بقبلاته على وجنتيها…
ويومها الذي أجبرها أن تخبره عن كل تحركاتها فيه…
حتى صارت تشعر أنه معها دائماً…
ورغم أنها لم تعرفه سوى منذ فترة قصيرة…
لكنه …
لكنه..للأسف ..صار…!!!!!!
عجزت عن إكمال فكرتها فخبطت على الطاولة بعنف لتسقط الغلاية الكهربائية بمائها المغلي على قدمها!!!!
صرخت بقوة من فرط الألم والمفاجأة لتجده أمامها في خلال ثوانٍ …
أدرك الوضع بسرعة فحملها من خصرها ليمددها على مائدة المطبخ…
ثم أحضر بعض الأكياس المثلجة بسرعة ليضعها برفق على قدمها وسط تأوهاتها الباكية…
ثم ربت على رأسها بأنامله المرتجفة وهو يهتف بقلق واضح:
_لا بأس…الثلج سيهدئ الأمر حتى أتصل بطبيب.
هزت رأسها نفياً وهي تهمس بألم:
_لا داعي لطبيب…مرهم الحروق في الحمام…أنا أحتفظ به للطوارئ.
ذهب بسرعة ليحضره فيما تأملت هي ظاهر قدمها بتفحص وسط أنّاتها المتألمة…
ليعود هو حاملاً أنبوبة المرهم ثم بدأ في وضعه على قدمها برفق..
لكنها كانت تعض على شفتها بألم وهي تئن بصوت خفيض…
فكز على أسنانه وهو يشعر بأنّاتها تكوي صدره….
قبل أن يرمي أنبوبة المرهم من يده بسرعة ثم حملها من جديد ليهتف بانفعال:
_لن أنتظر…سنذهب للمشفى.
لم تتمكن من الاعتراض وهو يحملها هكذا حتى ركبا سيارته …
ثم توجه بها إلى المشفى القريب حيث طمأنه الطبيب أنه حرق من الدرجة الأولي ولا يستدعي القلق…
وبعد عدة إسعافات سريعة عادت معه إلى منزله …
كان يصر على حملها رغم اعتراضها على هذا حتى وضعها على فراشها…
فهمست بخفوت وهي تتحاشى النظر إليه كعادتها مؤخراً:
_شكراً…لقد تعبت معي كثيراً.
تجاهل شكرها وهو يجلس جوارها على طرف الفراش ثم سألها بقلق:
_لازالت تؤلمك؟!!
نظرت إليه بدهشة تمتزج بخشية وهي ترى قلقه الواضح في عينيه…
هل من المعقول أنه يجيد التمثيل إلى هذا الحد؟!!!
إنها تشعر بصدق قلقه ولهفته عليها…
قلبه كان يخفق بقوة وهو يحملها نحو المشفي…
قلبه؟!!!
وهل يملك فهد الصاوي قلباً؟!!!
وضعت كفها على رأسها وهي تشعر أنها مُتعَبة…
لا…ليس قدمها…!!!!
بل رأسها الذي أنهكه التفكير…
أغمضت عينيها بقوة وكأنها بهذا ستحجب عن ذهنها صورته…
فربت على وجنتها هامساً بنفس القلق لكن يشوبه حنان خاص هذه المرة:
_لا بأس…نامي الآن واستريحي.
ظلت مغمضة عينيها لعله يقتنع أنها نامت فيرحمها من قربه الذي يربكها هذا…
لكنه ظل جوارها يتأمل ملامحها بقلق ممتزج بالدهشة…
هو لم يشعر بالقلق هكذا على أحد في حياته…
أبداً!
هذه هي المرة الأولي التي يجرب فيها هذا الشعور…
مجرد رؤيتها تتألم كانت تذبح قلبه وهو يود لو يتألم هو مكانها…
شعوره وهو يحملها بين ذراعيه كان فريداً…
وكأنه يود لو يحميها بجسده من كل سوء.
هذه هي أول امرأة لا تسبقه إليها رغبة جسده…
بل رغبة قلبه في حمايتها…
والاحتماء بها في نفس الوقت…!!!
نعم…كما يخبرها كل يوم مع قُبْلتيه…
تحتاجه…ويحتاجها أكثر….!!!!
فتحت عينيها أخيراً بعدما يأست من رحيله…
لتلتقي عيناها بهذه النظرة في عينيه…
نظرة لا تكفي لوصفها كتب!!!
نظرة جمعت قلقه وحنانه ولهفته واحتياجه وخوفه…
نظرة اخترقت قلبها بصدقها رغم كل شئ!!!
فعادت تغمض عينيها هاربة وهي تهمس بخفوت محاولة الابتعاد عن أفكارها الحالية:
_لماذا تبيت هنا كل ليلة؟!! ألا يتساءل والدك عن ذلك؟!!
وصلتها تنهيدة حارة منه قبل أن يهمس بشرود:
_أبي يعرف أنني شاب عابث ولا يكترث لهذا…المهم عنده هو العمل…هذا هو الشئ الوحيد الذي لم أخيب رجاءه فيه…هو يعدّني لكي أكون خليفته في السوق…
فتحت عينيها وهي تسأله بدهشة:
_ودراستك؟!!! ألا تعني له شيئاً؟!!!
ابتسم ساخراً وهو يقول بتهكم:
_مجرد أمر شكليّ!!! نجاحي مضمون حتى لو لم أحضر اختباراً واحداً!!!!
أومأت برأسها في إدراك ثم عادت تسأله بتوجس:
_وإقامتك معه في بيته؟!! ألا يهتم بشئٍ كهذا؟!
أشاح بوجهه دون أن يرد فعلمت أن في الأمر سراً…
ابن الصاوي لا يبدو على وفاق مع أبيه…
يبدو أن بينهما شقاقاً ما يجعلهما بهذا التباعد إلا فيما يخص العمل…
ألهذا كان يقول أنه يحتاجها؟؟!!
هزت رأسها بعنف وهي تفكر …
لا يا جنة …لا…!!!!!
لا تصدقي كل ما يقول…
حتى لو كان هذا صحيحاً…
هذا شأنه هو وليس لكِ به علاقة!!
تأوهت بقوة …وقد اختلطت عليها أفكارها بكلماتها فهتفت بانفعال دون وعي :
_اخرج…اخرج…اخرج من الغرفة…ومن رأسي…بل اخرج من حياتي كلها!!!
التفت إليها بدهشة للحظة…
ثم أومأ برأسه في إدراك!!
جنة تخاف التعلق به حتى لا تخون حسن…
أفعالها كلها تفضح خشيتها من مشاعرها الوليدة نحوه…
رغم أنها تنكر وتتشبث بعنادها وقسوة ردودها لكن قلبه يخبره أنها بدأت تشعر به…
لهذا قام من جوارها حتى لا يضغط عليها أكثر…
ثم همس بخفوت:
_سأخرج…لكنني سأعود بعد قليل لأطمئن عليك.
اختلست نظرة سريعة لظهره المنصرف…
ثم همست بخفوت وكأنها تقنع نفسها بما لا تريد تصديقه:
_كاذب يا ابن الصاوي…كاذب!
=========
استيقظت من نومها لتتحسس قدمها ببطء…
لقد خف الألم لكنها لا تعرف هل ستستطيع المشي عليها مع ضغط الحذاء على بشرتها…
اليوم موعدها مع حسن ولن تخلفه مهما حدث…
شعرت باهتزاز هاتفها جوارها فتعجبت لأنها لم تتركه على وضع “الاهتزاز” هذا!!!!
تناولته لتجد منه رسالة :
_أنا ضبطت هاتفك على وضع الاهتزاز حتى لا يقلقك رنينه…عفواً لأنني لم أفتح لكِ النافذة ككل يوم لأنني كنت أريدكِ أن تنامي لأطول وقت…لقد اضطررتُ للمغادرة فلديّ اختبار في الجامعة…لكنني لم أنسَ حقي في قُبلتيّ لهذا الصباح …سآخذه عندما أعود…صباح الخير يا أستاذة.
ابتسمت رغماً عنها وهي تقرأ رسالته العابثة…
ثم تنهدت بحرارة وعيناها تدمعان…
وضعت كفها على شفتيها وهي تعيد قراءة رسالته بشغف لا تنكره….
ثم ألقت هاتفها بعيداً بعنف وكأنما تتخلص من أفعى سامة…!!!!!
نعم…
هذا هو فهد الصاوي بالضبط…!!!
أفعى تسمم أفكارها وحياتها…
بل والأهم وفاءها القديم لحسن!!!
نفضت عنها غطاءها بعنف عندما وصلت أفكارها لهذه النقطة…
لتنظر لساعة الحائط التي أشارت للثالثة عصراً…
لا تصدق أنها نامت طوال هذا الوقت…
لقد كادت تفوت موعدها مع حسن…
تناولت هاتفها بتردد وهي تفكر …
هل تخبره بوجهتها كما تفعل دوماً…؟!!!!
أم تتجاهل الأمر كما فعلت من قبل حتى لا تثير غضبه…
ظلت تفكر في الأمر طويلاً وهي عاجزة عن اتخاذ قرار…
ثم غلبها عنادها لترسل له رسالتها أخيراً:
_أنا ذاهبة إلى قبر حسن.
تنهدت في ارتياح عندما أرسلت رسالتها …
وكأنها بهذه الحركة البسيطة تستعيد سيطرتها على نفسها…
وتسترد كينونتها القديمة…
فليغضب ابن الصاوي…أو لا يغضب…
لن تهتم…
لن تخلف أبداً موعد حسن مهما حدث!!
نزلت بقدميها على الأرض تنتعل خُفّيها محاولةً المشي..
كان الأمر مؤلماً بعض الشئ لكنه محتمل…
كل شئ يهون فداءً لهذا اللقاء الشهري الذي تحتاجه روحها أكثر من أي شئ!!!
وبعدها بنصف ساعة كانت أمام قبر حسن كعادتها كل شهر…
تحكي له بإسهاب عن أخبارها كلها…
لكنها كانت تتجنب الحديث عن فهد كما كانت تفعل في المرتين السابقتين…
وكأنها الآن تستشعر بعض الذنب لأنها قد تكون…
تعلقت به!!!
تنهدت في حرارة عندما قادتها أفكارها لهذا المنعطف الخطر…
ثم همست بحزن:
_ضائعة يا حسن…لا أذكر أنني كنتُ يوماً كما أنا الآن.
والواقع أن هذا بالضبط كان ما يعذبها …
شعورها أنها مشتتة…
مُبعثرة…كأوراق لعب بين أيدي الصبيان!!!
لهذا دمعت عيناها وهي تردف بحيرة مشوبة بالألم:
_حياتي لم تعد كحياتي…وقلبي ما عاد كقلبي…وكأنني تهتُ عن نفسي…لهذا أحتاجك…لأنك ستبقى الحقيقة الوحيدة في حياتي..الحقيقة التي ستردني لعالمي مهما ضللتُ عنه.
سمعت صوت أذان المغرب…
فرددته بخشوع…
عندما سمعت صوتاً خلفها يقول برفق:
_عذراً يا ابنتي…أنا أراكِ تأتين هنا كثيراً…وأحياناً أسمعكِ دون قصد.
التفتت لمصدر الصوت لتجد شيخاً معمماً يغض بصره عنها وهو يردف بنفس الرفق:
_زيارة القبور يا ابنتي لها أصول…ليست محرمة…لكن ما تفعلينه أنتِ يدخل في باب المغالاة…ارضي بقدر الله يا ابنتي…ليس بلسانكِ فحسب…بل بقلبك…ولا تستغيثي بميت لم يعد له حول ولا قوة…بل استغيثي بالله واطلبي منه الصبر والعوض.
شعرت بكلمات الرجل وكأنها تنير شيئاً ما بداخلها…
وكأنها ترفع الستار عن بقعة في روحها كانت خافية…
هل هي حقاً راضية بقلبها كما تنطق بلسانها؟!!!!
أم أن ما تفعله هو نوع -خفيّ-من السخط على قضاء الله؟!!!!
ازداد شعورها بالحيرة والشتات أكثر….
لكنها أومأت برأسها وهي تغادره هامسة بارتباك:
_جزاك الله خيراً يا شيخ…سأعمل بنصيحتك.
خرجت من المقابر تتعثر في خطواتها…
وكأنه كان ينقصها هذا الشعور الجديد بالضلال …
بأنها تائهة في صحراء شاسعة بلا دليل…
اليوم لم تشعر بنفس السكينة التي كانت تملؤها عندما تزور قبر حسن…
خيوطٌ خفية من الذنب والحيرة تشابكت مع إحساسها الآن…
لعلها كلمات الشيخ…!!!!
ولعله احساسها المستحدث بتأنيب ضميرها على مشاعرها الوليدة التي لا تريد الاعتراف بها…!!!!
ولعله خوفها وترقبها لرد فعل ابن الصاوي عندما يعلم عن زيارتها هذه….!!!!
شهقت بعنف عندما وصلت لسيارتها فوجدته واقفاً مستنداً عليها عاقداً ساعديه أمام صدره …
ينتظرها!!!!
وفي عينيه غضبٌ لم ترَه من قبل!!!!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى