روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل السادس 6 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل السادس 6 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء السادس

رواية ماسة وشيطان البارت السادس

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة السادسة

جلس جوارها على طرف الفراش بحذر يتأمل ملامحها النائمة المستكينة…
هو يعلم أنها لم تنم إلا بعد الفجر…
فقد قضى ليلته على باب غرفتها وهو في حال عجيب…
لكن حالها هي كان أعجب!!!
وهل هناك أعجب من امرأة تحدث رجلاً ميتاً علي الهاتف؟!!!!
نعم…
هذا ما اكتشفه للأسف!!
عندما كان ماراً بالمصادفة جوار غرفتها في شقته التي جمعتهما بالأمس…
فسمعها تتكلم بصوت خفيض …
فتح باب الغرفة فتحة صغيرة ليراها ممسكة بهاتفها…
أرهف سمعه ليعلم مع من تتكلم …
قبل أن يصدمه حديثها صدمة لم يتوقعها في حياته…
لكن يبدو أنه لا شئ عجيب مع هذه المرأة!!
جنة كانت تكلم “حسن”!!!!
كانت تعتذر له وتشرح بإسهاب طويل كل الظروف التي دفعتها لهذه الزيجة….
كانت تتحدث بانطلاق وكأنه يسمعها حقيقة….
أحياناً كانت تضحك وهي تحكي عن كلماتها الجريئة التي قذفتها في وجه فهد….
وأحياناً كانت تبكي وهي تقسم له أنها على عهدها معه!!!!
مجنونة!!!!!
هذا ما خاطب به نفسه وهو يعيد غلق باب الغرفة وقتها….
لكنه لم يستطع منع نفسه من الإنصات لبقية حديثها الذي مس قلبه حقاً…
قلبه الذي ظنه قد مات ودفن تحت أنقاض خطاياه…
ليشعر به الآن قد عاد ليخفق من جديد!!!!
لم يستطع النوم بعدها حتى بعدما عاد لغرفته….
لكنه عاد إليها بعد الفجر ليجدها قد استسلمت لنومها وهاتفها في حضنها….
تناول منها الهاتف بحذر كي لا يوقظها ليسجل الرقم الذي كان ظاهراً أمامه…
والذي لم يرد عليها -بالتأكيد-
لكنه كان يريد التأكد من أنه حقاً رقم حسن هذا!!!!
أعاد الهاتف لمكانه…
ثم تركها لبضع ساعات حاول فيها النوم لكن دون جدوى…
حتى عاد إليها الآن مدفوعاً بقوًى لا يعرفها ليجلس متأملاً ملامحها باستغراب….
مد أنامله ببطء حذر يتخلل خصلات شعرها الثرية…
وهو يشعر بشوق غريب لسهام عينيها البندقية…
لكنه لا يريدها أن تستيقظ الآن فتبدأ حربهما الباردة من جديد!!
ورغماً عنه تسللت أنامله ببطء مغادرةً خصلات شعرها…
لتنحدر على ملامح وجهها كلها وكأنه يرسمها!
هو لا يدري بحق ما سر شعوره الغريب هذا نحوها…
لم تجذبه امرأة في حياته كهذه المرأة…
يريد أن يكسرها بقوة…
نعم….يريد أن يكسب رهانه على قلب هذه المتعجرفة العصيّة….
وقد كان هذا سبب زواجه بها من الأساس!!
لكن هذا الشعور ورغم أنه لازال قائماً…
صار مشوباً برغبة خفية في ترميم كسرها القديم!!!!
شعوران متناقضان يتناحران في صدره….
ولا يعرف كيف يؤلف بينهما….
ولا إلى أيهما سيرضخ…
لكنه واثق من شئ واحد الآن….
أن هذه المرأة ليست بالقوة التي تدعيها…
بل هي حقيقة في غاية الهشاشة…
امرأة لا تزال تحيا في وهم رجل ميت…
تلبس دبلته…
وتقضي الساعات جوار قبره…
بل وتحدثه على الهاتف!!!
هي امرأة حقاً في ورطة….!!!
وتحتاج لمن ينتشلها من جنون ماضيها هذا!!!
وعند خاطره الأخير ابتسم في شفقة ظاهرة وهو يربت على وجنتها برفق…
ثم لامسها بإبهامه في شرود…
مستغرقاً بكيانه كله في ملامحها التي صار يشعر أنها لا تنتمي للبشر…
بل هي صنف نادر وحدها…
أسعده القدر بأن يصادفه في طريقه!
صنفٌ سيروقه ترويضه…سيروقه كثيراً!!
بينما تململت هي في نومها أخيراً وهي تهز رأسها باعتراض …
ثم فتحت عينيها فجأة لتجده أمامها…
بل…جوارها على السرير!!!!
شهقت بعنف وهي تقوم لتهتف بصوت مختنق لم يغادره النعاس بعد:
_ماذا تفعل هنا؟!!!
عادت ملامحه لسماجتها وقد اختفت شفقته ليقول ببرود ساخر:
_جائع…وأريد أن تحضر لي زوجتي الإفطار!!
اتسعت عيناها في استنكار لتلتمع عيناه بلهفة واضحة وهو يلتقط وهج البندق من جديد….
لكنها لم تنتبه لنظراته وهي تهتف بحدة:
_ماذا تقول؟!
أعاد عبارته بنفس البرود مخفياً مشاعره ببراعة…
فزفرت بقوة وهي تحاول تمالك غيظها…
قبل أن تأخذ نفساً عميقاً تمالكت به خفقاتها اللاهثة….
ثم قالت ببرود مماثل كي لا تمنحه فرصة التشفي:
_حسناً…انتظرني بالخارج وسأعده لك علي المائدة.
ارتفع حاجباه في دهشة تمتزج بالخيبة…
كان يريد المزيد من الجدال والمناوشات…
هذه الشرسة تبدو شهية أكثر عندما تفقد أعصابها…
وبرودها هذا أسوأ وجوهها…
أسوأها على الإطلاق…!!!!
لكنه تدارك خيبته بسرعة ليقوم من جوارها وهو يرمقها بنظرات غريبة لم تفهمها….
قبل أن يغادر الغرفة بخطوات واثقة…
زفرت بقوة وهي تتلفت حولها في قنوط…
لا تصدق كيف انقلبت حياتها هكذا بسرعة…
لتصير هي زوجة لوغد كهذا…
بجرّة قلم…
وفي غمضة عين!!!
دمعت عيناها وهي تشعر بنفسها وحيدة في هذه الحياة….
حتى شقيقتاها لم يشعرا بغيابها هذه المدة…
العلاقة بينهن شبه واهية خاصة مع إقامتها وحدها وانشغالها بعملها….
وهما أيضاً …كل منهما مشغولة ببيتها وزوجها ولا تتذكرانها إلا في المناسبات….
ومع مشاكل قديمة بخصوص الإرث فالعلاقة بينهن شبه منقطعة.
الجميع تخلى عنها بعد وفاة حسن ورفضها هي للزواج بعده…
كلهم يزعمون أنها مجنونة فقدت عقلها وراءه…
لكنها لا تهتم!
أن تفقد عقلها وراءه خيرٌ لها من أن تصدق أنه حقاً رحل للأبد!!!!!
استغفرت الله سراً…
ثم قامت من فراشها لتتوجه نحو حمام غرفتها الفاخر…
غسلت وجهها وأدت صلاتها ثم توجهت نحو المطبخ الذي لا تزال لا تعرف شيئاً عن محتوياته…
فالخادمة حتى الأمس فقط كانت تعد لها طعامها وتحضره لها في غرفتها…
لكن يبدو أن هذا الوغد صرف الخادمة ليتعمد إذلالها بهذه الطريقة.
لكنها لن تمنحه فرصة الانتصار عليها…
ستواجهه بقوة برودها لعله يمل منها ويزهد لعبته الحقيرة ويدعها وشأنها…
أمضت وقتاً ليس بقليل في المطبخ حتى أعدت إفطاراً مناسباً…
ثم حملت صينية الطعام لتضعها أمامه علي المائدة.
ابتسم ببرود عندما رآها ليقول بسماجة:
_سلمت يداكِ يا أستاذة!
لكنها خفضت بصرها عنه دون رد…وهي تجلس على كرسيها لتتناول قهوتها دون إفطار كعادتها…
بينما بدأ هو في تناول طعامه وهو يكاد لا يرفع عينيه من عليها…
لتعود هي لشرودها كعادتها كي تهرب من جحيم واقعها لإحدى ذكرياتها مع حسن…
_صباحكِ سكر يا جنة الأرض!!
همس بها حسن جوار أذنها كعادته كل صباح…
!!!!!”جنة الأرض”
هذه كانت كنيتها التي طالما كان يناديها بها…
وعندما سألته يوماً عنها ابتسم قائلاً أنها جنته على الأرض حتى تجمعهما معاً جنة السماء!!!!
نظرت إليه وابتسمت في خجل وهي تهمس بشقاوة لذيذة:
_صباح الخير يا “أبو علي”!!!!
ضحك ضحكة عالية وهو يرمقها بنظرات ماكرة…ليعود و يهمس من جديد في أذنها:
_صباح النور يا “أم علي”….كم أتشوق لمجئ “علي” هذا لينتقم لي منكِ !!!!
ضحكت بدورها في خجل…ثم نظرت لعينيه هامسة بحرارة:
_لم أتصور يوماً أن أكون أماً…ولا حلمت بأطفال إلا عندما أحببتك…ساعتها تمنيت لو أجلب للعالم جيشاً منك…بحنانك وحزمك…وقلبك الذي تأسرني صلابته قبل رقته….أحبك يا حسن…أحبك…وأحب أطفالي الذين لم أنجبهم منك بعد…لأنهم سيكونون مثلك.
_هل تناولتِ دواءك؟!!!
شهقت بحدة وصوته البارد يقطع عليها ذكراها الغالية…
لكنه فعلها متعمداً عندما أدرك بحدسه سبب شرودها…
والذي كان يثير ضيقه بشدة.
بينما تمالكت هي نفسها سريعاً لتهمس بخفوت:
_نسيت!
قام من على كرسيه ليغيب فترة بالداخل…
غطت فيها هي وجهها بكفيها وهي تهز رأسها بعجز…
غير قادرة على استيعاب وضعها الجديد معه…
عندما شعرت به جوارها فرفعت كفيها من على وجهها لتنظر إلى عينيه بترقب…
قبل أن تخفض بصرها لكفه الذي جاور شفتيها ممسكاً بقرص الدواء…
هنا شعرت بشئ من الدهشة لكنها لم تتوقف عند شعورها هذا كثيراً….
بل رفعت أناملها لتتناوله منه…
لكنه قربه أكثر من فمها حتى لاصقت أنامله شفتيها…
كادت تجادله كعادتها وتطلب منه القرص لتتناوله بنفسها…
لكنها كانت تعلم أنه يريد استفزازها فحسب…
وهي لن تمكنه مما يريد..
فأغمضت عينيها بقوة وهي تفتح شفتيها لتلتقط القرص بحركة خاطفة!!
ارتجف جسده ارتجافة خفيفة لحركتها وهو يشعر بمزيج من الضيق والنشوة…
الضيق لأنه فشل في استفزازها كما كان يرجو…
و-نشوته- هذه المرة كانت مختلفة مشبعة بملمس شفتيها الفريد!
عاود الجلوس على كرسيه لترمقه بنظرة متفحصة وهي تفكر في سبب تصرفه هذا لتقول بسخرية:
_لازلت تجيد العناية بممتلكاتك!!!
نظر إليها نظرة طويلة أربكتها حقاً …قبل أن يهمس بعدها ببطء:
_فوق ما تتخيلين!!!
أشاحت بوجهها في ضيق …
لكنه تناول كفها ليقبض عليه بقوة دفعتها لتعاود النظر إليه مرغمة…
ليهمس أمام عينيها بثقة:
_عندما يمتلك فهد الصاوي شيئاً…فإنه يُدمغ باسمه…فلا يمتلكه أحد بعده…لهذا أحافظ على ما أمتلكه دوماً …فهو أولاً وأخيراً لي…لي وحدي!!!!
دق قلبها بعنف وهي تشعر بمدى جديته فيما يقول…
ورغماً عنها ارتجف جسدها وهي تجرب إحساس العجز هذا معه….
نعم…
هي عاجزة تماماً عن رؤية مستقبل هذه العلاقة…
وما تخفيه لها الأيام مع وغد كهذا يبدو أنه لن يتركها بسهولة!
حاولت نزع كفها من كفه لكنه لم يفلته…
ليعود يهمس في إصرار:
_قلت لك إن قرارك ليس من رأسك…بل في يدي أنا!!!
فأشاحت بوجهها عنه …ليصلها صوته قائلاً بصرامة:
_تناولي إفطارك طالما أخذتِ الدواء.
كزت على أسنانها بغيظ وهي تحاول التقاط بعض اللقيمات بكفها الحر…
فقط لتخرس لسانه الذي تتمنى الآن لو تقطعه!!!!
وجوارها هو كان يتأملها بابتسامة جانبية خفيفة…
بعيدة تماماً عن صرامة كلماته وسخافتها…
هذه امرأة ساحرة بكل تفاصيلها…
غضبها المكتوم الواضح في شفتيها المزمومتين بقوة -مهلكة-
وحاجبيها المعقودين بشدة كحارسين غليظين على كنوز البندق في عينيها الثريتين ….
وخصلات شعرها التي تحالفت مع المشهد -كما يبدو-لتشعث قليلاً فتمنحها مظهراً فوضوياً مثيراً…
باختصار…
كان يراها الآن صورة مجسدة من الفتنة التي لم تشبهها فيها امرأة سواها!!
بينما كانت هي غافلة عن كل ما يدور برأسه…
تحاول أن تنهي هذا الموقف السخيف لتعود لغرفتها -الآمنة-
لهذا أزاحت طبقها جانباً لتهمس بخفوت:
_الحمد لله.
رفع أحد حاجبيه ليهمس بمكر:
_هنيئاً يا أستاذة!
رمقته بنظرة حارقة اتسعت لها ابتسامته الماكرة…
ليمد بعدها كفه متناولاً كوب قهوتها…
ثم أداره متلمساً مكان شفتيها ليرتشف منه رشفة وعيناه مثبتتان في عينيها المترقبتين لما يفعله..
قبل أن يعيد الكوب مكانه بعدها ليقترب من وجهها حتى كاد يلاصقه هامساً ب-ما رأته هي-وقاحة:
_لا أحب القهوة…لكنني أردت تجربتها بنكهة شفتيكِ..
احمرت وجنتاها رغماً عنها وهي تود الآن لو تتخلي عن برودها وتصفعه!!!!
صفعة واحدة فقط تشفي بها غليلها …
وليكن بعدها ما يكون!!!!
لكنها تمالكت غيظها باقتدار لتبتسم بسخرية وهي تقول ببرود مشابه:
_وهل أعجَبَتْك؟!!!
ابتسم بدوره دون أن يرفع عينيه من عليها…
ثم همس بثقة:
_مُرّة…قابضة…لكنها لذيذة…تماماً كما أحب.
فهمت مغزى عبارته فأردفت بنبرة واثقة:
_قد تتمكن من خداع فتيات بريئات بمظهرك الجيد وكلماتك المعسولة….لكن “أسطوانات الغزل القديمة” هذه لن تجدي مع امرأة تعرف حقيقتك جيداً.
اتسعت ابتسامته وهو لا يزال يحاصرها بنظراته ليهمس ببرود:
_ومن قال أني أغازلك؟!!!
مطت شفتيها باستياء ليقترب هامساً في أذنها:
_هذه حقيقة يا أستاذة!!
قامت من مكانها بعنف ولازال كفها محتجَزاً -جبرياً-في قبضته…
فقام ليقف قبالتها في تحدٍ وعيناه تبادلان عينيها سهاماً متراشقة من نظرات حادة…
كانت هي أول من قطع هذا الصراع عندما سألته بخشونة:
_متى سأعود لعملي…لديّ قضايا متأخرة…ومصالح الناس ليست لعبة!!!
هز كتفيه قائلاً:
_الآن …لو أردتِ…لكن…
قطع عبارته متعمداً لاستفزازها…لكنها تحملت صابرة -على مضض-حتى أكملها هو من نفسه:
_لن تتحركي خطوة واحدة إلا بعلمي!
عقدت حاجبيها بشدة وهي تقول باستخفاف:
_أنا أتنقل طوال اليوم بين المحكمة والمكتب ….هذا بالإضافة لبعض مصالح العملاء التي تقتضي مني بعض المشاوير الإضافية….كيف تريد مني إبلاغك بكل هذا؟!!!
ابتسم بسماجة مقصودة ليقول ببرود:
_لهذا اخترعوا الهواتف المحمولة يا صغيرة!!
اتسعت عيناها باستنكار وهي تهتف بحنق وقد فاض بها الكيل:
_صغيرة؟!!! من هذه الصغيرة؟!!! أنا أكبرك بثلاثة أعوام سناً وبأضعافها خبرة…ماذا تعرف أنت عن الحياة حتى تتبجح هكذا؟!!! بعض العلاقات العاطفية الفاشلة ؟!!!! بعض المشاريع التي تشرف عليها من باب التسلية مع والدك؟!!!بعض الأسفار للسياحة واللهو؟!!! أنت لم تعرف من الحياة سوى قشور وتظن نفسك ملكتها!!!!!
اشتد ضغط قبضته علي كفها حتى تأوهت بضعف…
ليكز هو على أسنانه قائلاً بغضب مكتوم:
_هذا هو ثاني دروسك هنا يا أستاذة…لا ترفعي صوتكِ عليّ أبداً وإلا فلن يعجبكِ عقابي.
عقدت حاجبيها بشدة…
فاقترب منها حتى لاصقها ليردف بقسوة حقيقية:
_أبداً!!
أشاحت بوجهها عنه وهي تتمنى لو تحدث معجزة الآن…
فتنشق الأرض وتبتلع هذا البغيض…
كم تكرهه..
تكرهه!!!!
لكنه أعتق كفها من قبضته أخيراً…
وهو ينفضه عن يده بعنف ليهتف بصرامة:
_سأذهب بكِ الآن لشقتك لتحضري كل حاجياتكِ هنا…وبعدها سأوصلك للمكتب…ولو تحركتِ أي خطوة دون علمي …فسأغلق لكِ هذا المكتب نهائياً…هل تفهمين؟!!
أشاحت بوجهها في ضيق وهي موقنة من قدرته على تنفيذ تهديده هذا…
فهي لم تنسَ بعد من هو ومن أبوه…
مدت أناملها ببطء تتلمس دعمها من دبلة حسن كعادتها…
لكنها لم تكن مكانها…لأول مرة منذ سنوات!!
فدمعت عيناها رغماً عنها وهي تشعر أن انتقام هذا الوغد بدأ ينال منها…
حقاً…لقد فعل!!!!
===========
_والد ميادة ينتظرنا الليلة على العشاء لنتم الخطبة!
قالها والده بصرامة فغمغم عزيز بتوتر:
_هل سنعود للحديث عن هذه الخطبة مرة أخرى؟!!!
خبط والده علي مكتبه وهو يقول بصرامة :
_لا…لن نعاود الحديث عن الأمر لأنه محسوم!!
زفر عزيز بقوة وهو يقول برجاء:
_أرجوك يا أبي…أنا لا أفكر في الزواج الآن.
قام والده من على مكتبه ليتوجه نحوه ثم وضع كفه على كتفه ليقول بتفحص:
_ألازلت على علاقة بهذه الفتاة؟!
أطرق عزيز برأسه وهو يشعر بالألم…
هذه الفتاة التي يتحدث عنها والده هكذا بهذا الاستخفاف هي حب قلبه الوحيد…
بل هي قلبه كله!!!
منذ رحلت وهو غائب عن هذا العالم …
يكاد يجن من فرط شوقه تارة…
ومن فرط قلقه تارة أخري…
ماسته الحبيبة كانت أقسي مما تصور…
وربما أشجع!!!!
لم يعد يدري كيف يقيم رحيلها المجنون هذا!!!!
لكن الشئ الوحيد الذي يثق به أنها كسرته حقاً برحيلها…
وهي التي طالما رممت كسور روحه!!!
عاد والده يربت على كتفه وهو يقول برفق:
_أنا علمت أنها تركت منزل والدتك…وتركت عملها كذلك…عساها تكون وجدت حياة أخرى في مكان جديد…فتاة عاقلة…ليتك تكون عاقلاً مثلها وتبدأ حياتك أنت الآخر.
أغمض عزيز عينيه بقوة وهو يشعر بقسوة كلمات والده…
كيف يمكنه تصوير الأمر بهذه البساطة…؟!!!!
ماذا يعرف هو عن جرح ماسة الآن…؟!!!!!
ماذا يعرف عن غربتها ووحدتها وشعورها بالنبذ…؟!!!
ماذا يعرف عن منفاها الاختياري والذي يسميه هو بداية جديدة…؟!!!!!
ماسة ذبحت نفسها بسكين بارد لتقدم دماءها قرباناً له ولرحمة…!!!
كم يشعر الآن بأنه صغير…
صغير أمام عظم تضحيتها….
فقط لو يعود به الزمن…
فيضمها لصدره ولا يسمح لأي شئ بالتفريق بينهما…
فقط…لو تعود!!!!
عاد والده يقطع أفكاره وهو يقول بحزم:
_يمكننا تأجيل الخطبة قليلاً…لكن ميادة ستعمل معك في مشروعك الجديد…وهي فرصة لتتعرف عليها أكثر…نسب والدها فرصة كبيرة لا أريد أن تضيع بسبب (طيش شباب)!!!
ابتسم عزيز في مرارة…
طيش شباب؟!!!
هل صار هذا توصيف كل الحب الذي جمعه يوماً بملاك كماسته؟!!!
لكن ماذا عساه يقول؟!!
هو الذي سمح لنفسه بخسارتها…
وكان أضعف من أن يحافظ عليها…
فضاعت منه…
وضاع معها!!!!
============
_تعاليْ يا ماسة!
هتفت بها حورية بطيبتها الظاهرة فتقدمت منها ماسة بابتسامة بشوش لتقوم بواجباتها اليومية معها…
حتى انتهت من متابعتها لها…
فجلست جوارها على طرف الفراش صامتة تنتظر منها أن تبدأها في الحديث كعادتها…
لقد مضى عليها قرابة الشهر هنا…
لم يتغير فيهما هذا “الروتين” اليومي لها…
تقضي أغلب يومها تتسامر مع السيدة حورية…
ثم تتوجه لغرفتها المنعزلة تجتر ذكرياتها الثمينة مع عزيز وخواطره …
قبل أن يغلبها النوم ليسلمها لكوابيسها التي لا تنتهي!!!
بينما ابتسمت حورية وهي تتأمل جلستها الملائكية لتسألها باهتمام:
_أين أهلك يا ماسة؟!! منذ جئتِ إلي هنا وأنتِ لم تطلبي يوماً إجازة…ولم أسمعكِ تتحدثين إلى أي أحد على الهاتف.
ابتسمت ماسة ابتسامة حزينة وهي تهمس بشرود
_أنا لا أهل لي…(مقطوعة من شجرة) كما يقولون!
رمقتها حورية بنظرة مشفقة…
لكن ماسة لم ترها بل تلاعبت أناملها بهاتفها الذي حصلت له على شريحة جديدة برقم جديد…
وقد دفعها حديث السيدة حورية للبحث عن آخر ما كتبه عزيز في مدونته…
لعلها تطمئن عليه…..
وأنتِ السعادة لو تعلمين…
وأنتِ الهواء…
وأنتِ السماء…
وأنتِ البكاء…
وأنتِ ابتسامي..
وأنتِ الأنين…
وأنتِ الذنوب التي أهلكتني…
فأشتاق صفحكِ لو بعد حين…
وأنتِ الغرام الذي ضاع مني…
فأقسمت عمري…
أفتش عنه…
على درب عشقك…
مع الهائمين…!!!
أذوب اشتياقاً لبسمة ثغر…
وضمة كف…
ونور الجبين…
أذوب اشتياقاً لهمسة عشق..
وتنهيد شوق…
ولحن قديم…
أذوب اشتياقاً يا كل عمري…
ويا كل يأسي…
ويا كل أملي…
أذوب اشتياقاً…
فهل ترحمين؟!!
ومع آخر كلماته دمعت عيناها بقوة وهي تضع كفها علي شفتيها….
فهمست حورية بقلق:
_ماذا بكِ يا ماسة؟!!! ناوليني هاتفكِ لأرى ما الذي يبكيكِ هذا؟!!!
ترددت ماسة للحظة…
ثم دفعت إليها بالهاتف وهي تشعر بحاجتها للتحدث لأحد ما…
وحدتها القاتلة هنا تكاد تصيبها بالجنون…
كوابيسها المعتادة ليلاً…
وخوفها الدائم من السيد عاصي نهاراً…
نعم…رغم امتنانه لموقفه معها يوم ذهب بها إلى ركنه الخاص في الحديقة عندما شعر بحاجتها إلى هذا…
لكن المواقف التي تراها منه يومياً هنا تزيد شعورها معه بالنفور…
صرامته وقسوته مع الجميع….
وأحاديث الخدم التي لا تنتهي عن جبروته وتسلطه….
لقد رأته بالأمس يصلب رجلاً علي جذع نخلة في الحديقة في عز الظهيرة!!!
صرخات الرجل المتوسلة كانت تملأ القصر…
لكن لا أحد جرؤ على التدخل في الأمر وإلا شاركه المصير!!!!
ووسط كل هذا تبقى ذكرياتها- الرقيقة -مع عزيز هي زاد صحرائها هنا…
أحياناً تراودها نفسها أن تترك هذا المكان الذي صارت تكرهه حقاً…
وتعود من جديد إلى عزيز لتقضي بقية عمرها معه كما حلما معاً منذ سنوات…
لكن صورة رحمة العزيزة تتقاطع دوماً مع رغبتها هذه!
وكلماتها التي سمعتها منها بنفسها ذاك اليوم تكاد تصم أذنيها بقسوة وَقْعِها عليها…
لتجد نفسها مدفوعة للبقاء هنا رغم أنفها…
لأجل أن توفي ديناً عظيماً في رقبتها…
ما له من مناص!!!
قطعت حورية أفكارها وهي تسألها بحنان:
_من عزيز هذا يا ماسة؟!
فابتسمت ماسة ابتسامتها الحزينة لتهمس بشرود:
_عزيز كان حلماً أجمل من أن يتحقق!!
دمعت عينا حورية وهي تسألها بإشفاق:
_يبدو أنه لازال يحبك…كلماته تفيض عشقاً وشوقاً.
أومأت ماسة برأسها لتهمس بيقين:
_يحبني فوق الحب و أكثر….لكننا أبداً لن نلتقي في طريق!!!
ربتت حورية علي كفها وهي تشعر بحزنها الكبير…لتهمس بحنان:
_لا تضيعي الحب من يديكِ يا ماسة…وإلا قضيتِ بقية عمركِ في جحيم.
تنهدت ماسة بحرارة ثم همست بغموض:
_لا أحد يضيع الحب برغبته…هو الذي يتسرب من بين أيدينا رغماً عنا…ليتركنا وحدنا في يُتم أيامنا بعده…لكن عزائي أنني أوفي ديناً قديماً…لن يكفيه عمري كله كي أتم قضاءه.
عقدت حورية حاجبيها بتساؤل…
لكن ماسة عجزت عن الإفصاح عن المزيد…
فاحترمت حورية صمتها واكتفت بتربيتها الصامت علي كفها في مؤازرة..
لتسألها بعدها بحذر:
_هل يسئ السيد عاصي معاملتك؟!!!
هزت ماسة رأسها نفياً …..
ثم نظرت إليها بإشفاق واضح تشعر به يزداد داخلها يوماً بعد يوم….
لا تتصور كيف جمعت الظروف بين رجل في قسوة السيد عاصي وفراشة رقيقة كالسيدة حورية!
لاريب أنها تعذبت معه كثيراً…!
لهذا عقدت ماسة حاجبيها بضيق ثم سألتها بتردد:
_عفواً يا سيدتي…لا أريد التدخل في أموركما الخاصة…لكن…لماذا يمنع أهلكِ من زيارتكِ…ولماذا يرتضون هم بهذا؟!!
تنهدت حورية بحرارة..ثم أسندت ظهرها على وسادتها لتقول بشرود:
_يبدو أنكِ لا تعلمين الكثير عن عاصي الرفاعي…لا أحد من عائلتي بل لا أحد في مدينتنا كلها يجرؤ علي معارضة أوامره أو حتي مناقشتها.
هزت ماسة رأسها في تعجب لتسألها ثانية:
_لكن…لماذا هذا القرار الجائر؟!
ابتسمت حورية في مزيج من السخرية والتشفي…
لتتغير ملامحها البريئة للحظة كما هيئ لماسة وهي تقول ببطء:
_عاصي يشك أن الطفل ليس له…بعد كل هذه السنوات من زواج بلا أطفال.
شهقت ماسة بعنف وهي تضع كفها علي شفتيها هاتفة بذهول:
_يا إلهي!!
اتسعت ابتسامة حورية وهي تقول بنبرة يائسة:
_لهذا يمنعني عن الجميع…لا خروج ولا زيارات…ولا حتى أبي وأمي لأنه لا يثق بأحد…حتى يأتي الطفل.
فهتفت ماسة بانفعال واضح:
_هذا جنون!!!! لماذا يشك في أمر كهذا؟! الرجل الذي يطعن في شرف زوجته بعد عشر سنوات من الزواج هو رجل فقد عقله.
تنهدت حورية لتقول بحسرة:
_فقد عقله كما فقد قلبه منذ دهور !
هزت ماسة رأسها بحزن…
وحدسها السابق يزداد رسوخاً في عقلها …
عاصي الرفاعي مجنون بالسلطة …
مهووس بالسيطرة…
لكن حكاية شكه في امرأته هذا جاوزت كل توقعاتها…
ازدردت ريقها بتوتر وهي تشعر بالقلق يعتصر قلبها …
يبدو أن أيامها هنا تزداد سواداً وقتامة…
وما خفي كان أعظم!!!
========

سمع عاصي صوت طرقات قوية على باب غرفته عند منتصف الليل…
فانتفض من سريره بغضب…
من ذا الذي يجرؤ على طرق بابه بهذه الطريقة؟!!!
فتح الباب بعنف ليتطلع لجسد ماسة الضئيل التي هتفت بارتباك :
_عذراً سيد عاصي…لكن السيدة حورية تنزف وأنا أخشى…
دفعها من طريقه بسرعة مقاطعاً عبارتها عندما سمع ما قالته…
ليتوجه بسرعة نحو غرفة حورية…ثم سألها بقلق لم يستطع إخفاءه:
_ماذا حدث بالضبط؟!!!
جاءته الإجابة من ماسة التي تبعته لتهتف بانفعال:
_أنا اتصلت بالإسعاف وسيصلون حالاً…لا تقلق …ستكون بخير.
بينما أشاحت حورية عنهما بوجهها وهي تشعر بلا مبالاة عجيبة!
هذا الطفل لا يعنيها…
بل- بالأدق- هي لا تريده….
قد يتهمها أحدهم بالقسوة والجفاء…
لكنها لا تهتم…
هي لا تريد ولداً لعاصي…
لا تريده أن يفرح لأنه لا يستحق هذه البشارة…!!!!
وبعدها بوقت ما كانت حورية قد نقلت للمشفي القريب حيث تمت السيطرة على النزيف…
لكنها احتاجت لنقل دم وتطوعت ماسة للتبرع لها بسرعة….
قبل حتى أن يطلب منها عاصي ذلك…
لكنها فعلتها حباً في تلك المرأة المسكينة التي طالما أغرقتها بعطفها وحنانها…!!!
وبعدها بقليل…
كانت ماسة جالسة ممسكة كفها برفق لتهتف بأنفاس متقطعة رغماً عنها:
_لا تقلقي يا حبيبتي…كل شئ سيكون علي ما يرام.
ابتسمت حورية بشحوب وهي تتحاشى نظرات عاصي الهادرة…
لتقول لها بحنانها المعتاد:
_أنفاسك منقطعة تماماً يا ماسة….هل جلبتِ معكِ (بخاخ الأنف)؟!!!
هزت ماسة رأسها نفياً لتقول لها بصوت متهدج:
_لا تشغلي بالكِ بي…اهتمي بنفسك.
تقدم منهما عاصي ليقول لماسة بنبرته المسيطرة:
_ما اسم بخاخ الأنف هذا؟!
التفتت نحوه ماسة وصدرها يعلو ويهبط في سرعة غير طبيعية…
لتهمس بخجل:
_لا داعي لتتعب نفسك…أنا…
قاطعها هاتفاً بصرامة:
_ما اسمه؟!!!
ازدردت ماسة ريقها بتوتر ثم ذكرت له اسم بخاخها الخاص…
فتناول هاتفه ليطلب من حارسه إحضاره لها…
بينما أطرقت ماسة برأسها وهي تضع كفها علي صدرها …
أنفاسها صارت شديدة التلاحق…حتى أنها بالكاد تحافظ علي ثباتها!
لكن الحارس جاء بسرعة محضراً ما طلب منه …
فناوله لها عاصي وهو يقول بلهجته الآمرة:
_خذيه حالاً!!
لم تكن تحتاج لأمره في الواقع فهي كانت على شفا الاختناق…
لهذا ابتعدت قليلاً نحو زاوية الغرفة لتتعامل مع بخاخها كالعادة…
حتى انتظمت أنفاسها أخيراً…
فسمعت صوته خلفها يسألها بصوته الأجش:
_مادمتِ لا تحتملين المجهود والانفعال…لماذا أصررتِ على المجئ معنا؟!!
أخذت نفساً عميقاً ثم قالت بصدق وهي تتحاشى النظر لعينيه القاسيتين:
_لم أكن لأترك السيدة حورية أبداً.
عقد حاجبيه وهو يتأملها بتفحص ليزداد ارتباكها أمام نظراته الثاقبة…
خاصة عندما اصطحبها معه ليعيدها للمنزل بعدما قرر الأطباء استبقاء حورية في المشفي لوقت غير محدد…
حاولت ماسة الاعتراض لتبقى معها لكن عاصي أصر على أن يعيدها للقصر!!
كانت تجلس جواره صامتة في سيارته طوال الطريق…
وهي تشعر برهبة شديدة وذبذبات من التوتر تملأ الهواء بينهما…
عندما سمعت صوته القاسي جوارها:
_لم أعلم أنكِ تعانين من ضيق التنفس أحياناً.
اختلست نظرة خاطفة إليه لتقول بهدوء:
_لا تخشَ شيئاً سيد عاصي…إنه ليس مرضاً معدياً.
ابتسم ابتسامة ساخرة وهو ينظر إليها قائلاً بخشونة:
_أعرف أنه ليس معدياً….ماذا تظنين عني ؟!!!
أطرقت برأسها دون رد…
لتسمع صوته جوارها يردف بشرود:
_أنا أكملت دراستي الجامعية….درست في كلية التجارة قسم إدارة الأعمال…منذ ما يقارب خمسة عشر عاماً.
التفتت إليه بدهشة وهي تعقد حاجبيها …
لم تتصور هذا عنه أبداً…
لقد ظنته مجرد رجل جاهل…اكتفى برصيده من أموال عائلته ليقهر بها خلق الله…
ورغماً عنها وجدت نفسها تتفحص هيئته بنظرة جديدة…
ثيابه البسيطة العصرية التي لا تخلو من أناقة مهذبة…
والتي تختلف تماماً عن ثياب عزيز شديدة البذخ والتي تظهره كنجم سينمائي…
تصفيفة شعره الذي غزا الشيب فوديه والتي تجعله أقرب لمظهر الأب العاقل…
على عكس تصفيفة شعر عزيز الجذابة التي تظهر وسامته وعذوبة تقاسيمه….
ابتسامة شفتيه القاسية والتي تصنع مع عينيه الزيتونيتين مزيجاً يقبض قلبها بنفور…
على عكس ابتسامة عزيز بلمعة الزمرد العسلي في عينيه …والتي كانت ترقص لها دقات قلبها حباً!!!!
ابتسمت في مرارة وهي تفكر في نفسها…
عزيز سيبقي مقياساً لكل الرجال دونه!!!
أي رجل ستقابله سيكون في مقارنة معه…
مقارنة سيربحها عزيز بلا شك…
لأنه أفضل الرجال!!
بينما التفت إليها هو بدوره ليلحظ تفحصها فيه…
فاتسعت ابتسامته الساخرة وهو يقول بغموض:
_ظننتكِ أكثر عمقاً من أن تنخدعي بالمظاهر…أنتِ بالذات….توقعتُ ألا تغريكِ القشور!
ازدردت ريقها ببطء وهي تشعر أنها وقعت أسيرة غابات الزيتون المشتعلة في عينيه…
وقد عجزت عن الفرار من متاهاتها المتشابكة…
هذا الرجل محيرٌ حقاً…
عندما رأته يحافظ على صلاة الفجر ظنت فيه التقوى رغم تعارض هذا مع خوف الجميع منه…
لكن مكوثها هنا جعلها تعرف الكثير عن عادات هذه المدينة….
“كبير البلد” كما يطلقون عليه لابد أن يؤدي صلاة الجماعة في أول صف…
نوع من إثبات السيطرة والنفوذ بعيداً عن قدسية الصلاة كشعيرة…!!!!!
هذا الرجل يعرف كيف يسيطر على كل الأمور بدقة…
وكيف يقرأ أفكار من أمامه بوضوح…
لكن …ماذا يقصد بقوله إنه توقع ألا تنخدع هي بالذات بالمظاهر؟!!!
وجدت صوتها أخيراً فهمست بتساؤل :
_ولماذا أنا بالذات؟!!
أعتقها أخيراً من أسر عينيه ليعاود النظر أمامه قائلاً بغموضه المريب:
_لأنكِ….ماسة!!
عقدت حاجبيها بشدة وهي تفكر في كلماته…
لماذا يقول هذا؟!!!
هل يعرف شيئاً عن ظروفها وحياتها….
هل يعرف أنها مجرد لقيطة ؟!!!
هل هذا معنى كلامه عن الأخذ بالظواهر؟!!!
أخذت نفساً عميقاً ثم سألته بحذر:
_هل تعرف شيئاً عن حياتي الخاصة؟!!!
فالتفت إليها لتتوه في غابات الزيتون من جديد …
ويلتقط هو حزنها الذائب في بحار الفضة الآسرة…
للحظات مرت علي لقاء عينيهما…
قبل أن يقول بنبرته المسيطرة:
_لم أكن لأدخل امرأة بيتي قبل أن أعرف عنها كل شئ..
ثم صمت لحظة ليردف بعدها بلهجة مؤكدة:
_كل شئ!!
ارتعشت أناملها وهي تشعر بمزيج من الخزي والخوف…
ما الذي عرفه عنها بالضبط…؟!!!!
إلى أي حد وصلت معلوماته…؟!!!!
قطعت أفكارها عندما وصل بسيارته للقصر…فقالت بصوت مرتبك:
_شكراً سيد عاصي.
نظر إليها طويلاً ثم قال ببرود غلف قسوة عباراته:
_أنتِ تستحقين الشكر على ما فعلتِه اليوم….لكن عاصي الرفاعي لا يشكر أحداً…راتبك سيتضاعف منذ الشهر القادم…عودي لغرفتكِ…واستريحي.
عقدت حاجبيها بشدة وشعورها بالنفور منه يزداد…
ممَّ خلق هذا الرجل؟!!!
إنه يبدو وكأن القسوة قد اختلطت بدمه وعظامه….
فلم يعد له منها مفر!!!
بل كأن قلبه الصخري قد تشبع بجبروته…
فلم يعد هناك هناك مجال لمشاعر أخري!!!
ترجلت من السيارة وهي تشعر بالارتياح لأنها تخلصت أخيراً من صحبته المنفرة….
فيما ظل هو يراقب ظهرها المنصرف بنظرات متفحصة….
وفكرته التي بدأت منذ رآها تزداد تخمراً في رأسه…
هذه الفتاة مناسبة…
مناسبة تماماً لما يريد!!!!
قطعت أفكاره عندما جاءه اتصال ينتظره منذ أيام…
فتح الاتصال ليأتيه صوت محدثه يخبره بشئ ما ضاقت له عيناه بقسوة رهيبة…
ثم همس بصوته المسيطر:
_لا تفعل شيئاً ….أنا قادم!
لم يزد كلمة عن هذا ثم أغلق الاتصال بحسم…
ليعيد تشغيل سيارته وينطلق نحو وجهته….
وبعدها بقليل…
كان واقفاً أمام رجل جسده مربوط علي أحد الأعمدة…
وتبدو على جسده علامات التعذيب…
اقترب منه عاصي ببطء وقد اشتعلت عيناه بغضب رهيب…
فارتجف جسد الرجل تلقائياً وهو يشيح بوجهه عنه…
لكن عاصي وصل إليه ليدير وجهه نحوه هامساً بصوته المخيف:
_كيف جرؤت؟!!
رمقه الرجل بنظرات مرتعدة…
لكنه لم يقوَ علي الكلام….
فتناول عاصي مسدسه من سترته ثم صوبه نحو صدره ليقول بقسوة:
_لم أقتل رجلاً بيدي من قبل إلا أنت…
اتسعت عينا الرجل بذعر واضح…
لكن ملامحه سكنت تماماً بعد الرصاصة التي تلقاها مباشرة…
ليسقط رأسه بعدها على صدره معلناً انقضاء أجله..
نعم..
قتله الشيطان!!
==============
تقلب عبد الله في فراشه وهو يشعر بضيق يخنق أنفاسه…

يكره اعترافه بأنه يفتقدها…

لكنه حقاً كذلك….!!!!

يفتقد وجهها الصبوح بابتسامته الحانية وهي تنتظره كل ليلة عائداً من عمله…

فتساعده في تبديل ملابسه…

لتحضر له طعامه الذي يحبه ساخناً وهي تحرص على أن يكون دوماً كذلك…

ثم تتبعه بصنف خاص من الحلوي يتغير كل يوم كي لا يزهده…

حتى ينهي طعامه فتشاركه كوب الينسون الذي يحبه…

والذي أحبته هي لأجله!!!!

لترافقه بعدها إلى السرير حيث تمسد له ظهره برفق لتخفف عنه آلام يومه الطويل الناتجة عن طول جلوسه في المحل….

المحل الذي اشترته هي بنقودها ومنحته له!!!

ثم تستمع بصبر لحكاياته الطويلة عما حدث له طوال يومه….

ومناكفاته الكثيرة مع التجار والزبائن….

فتمنحه رأيها الذي كان يقدره….

وهل في النساء كعقل صفا؟!

زفر بقوة وهو ينتفض من نومه ليجلس على السرير شاعراً بالسخط…

السخط من نفسه قبل أي شئ…

لماذا لا يستطيع أن يستمتع بحياته معها…

من ذا الذي لا يعشق امرأة كهذه؟!!!!

تنهد في حرارة وهو يدفع عنه الغطاء…ليتوجه نحو شرفة غرفته…

لمح ضوء غرفتها المجاور لغرفته في شقتها المقابلة مضاءً …

فعلم أنها لازالت مستيقظة مثله…

هل تراها تفتقده كما يفتقد وجودها في حياته….؟!!!!

أم أنه أحرق سفنه كلها لديها؟!!!!

وفي غرفتها كانت صفا جالسة على سريرها لا تستطيع النوم كذلك…

افتقدته بشدة…

عبد الله ليس حبيبها ولا زوجها فحسب…

عبد الله هو ابن قلبها الأول كما قال لها يوماً…

كم تود الآن فقط لو تطمئن عليه…

لو تراه وتسمع منه حكاياه الطويلة عما حدث له في هذه الأيام القليلة التي ابتعد فيها عنها…

لو تتفقد طعامه وشرابه وثيابه كعادتها لتتأكد من أنه لا ينقصه شئ…

لو تسند رأسه على صدرها حتى يسبقها في النوم ككل ليلة…

فتضمه إليها بقوة لتستيقظ بضع مرات بعدها فقط لتطمئن أنه لم يزح غطاءه من على جسده كعادته!!

غريب؟!!!!

لا…ليس غريباً…

هذا هو قلب صفا المعموري..

وهذا هو حبها لعبد الله والذي لم تنل منه عيوبه وزلاته كلها رغم كل شئ!!!!!

قطعت أفكارها عندما سمعت طرقاً خفيفاً علي باب شقتها…

خفق قلبها بقوة وهي تشعر بالخوف…

من سيطرق بابها الآن؟!!!

ازدردت ريقها ببطء وهي تقوم لتتوجه نحو الباب هاتفة بتماسك مصطنع:

_من؟!!!

لم يصلها صوت ….

فزاد توجسها أكثر…

خاصة أنها عندما نظرت في العين السحرية للباب لم ترَ أحداً…

فوضعت كفها على صدرها وهي تشعر بالاضطراب….

لكن الطرقات عادت من جديد…

خافتة…

متباعدة…

وكأن صاحبها يتردد كثيراً فيما يفعل….

فاستجمعت شجاعتها لتفتح الباب فتحة صغيرة…

قبل أن تشهق بعدها بدهشة وهي تهتف :

_أَنَس؟!!!

============

_ألم تجد سوى تلك الفتاة يا راغب؟!!!!

هتفت بها والدته عفاف في ضيق وهي تمصمص شفتيها قائلة بسخط:

_دائماً كلمتك من رأسك ولا تسمع لرأيي!!

ابتسم راغب في حنان وهو يقبل يدها ليقول بصوته الخشن:

_وما الذي لا يعجبكِ فيها يا (ست الكل)؟!!! أنتِ حتى لم تلتقي بها!!!

أشاحت بوجهها لتقول بضيق:

_الخطاب يظهر من عنوانه!!!! هذه فتاة جامعية ستتكبر عليك بتعليمها…تربت بلا أب ولا أم….ماذا ستعرف عن شئون المنزل ؟!!!وبالطبع سترغب في العمل بعد الدراسة لتتركك وبيتك خلف ظهرها….ولو اعترضت أنت…فستعيرك بالفارق بينكما!

تنهد راغب في حرارة …فشعرت ببعض الأمل دفعها لتقول برجاء:

_عزة شقيقة هيام زوجة أخيك…فتاة ممتازة…و(على قدر يدنا) كما يقولون!!!

زفر زفرة قصيرة وهو يشعر بالمزيد من الضيق…

عبد الله أخبره بموافقته المبدئية وكم كان سعيداً جداً يومها….

لكنه لم يحدد معه موعداً ليذهب لخطبتها رسمياً في بيته…

ووالدته لا تبدو مرحبة بهذه الزيجة…

رغم أنها لم ترَ رؤى ولا مرة ….

لكنها تريد من تزويجه بشقيقة زوجة أخيه…

هيام تسيطر على رأس أمه كثيراً…

وليس أمه فحسب…لكن أخاه أيضاً يتأثر بكلامها…

لو تزوج رؤى كما يتمنى فهيام ستكون غريمتها الحقيقية هنا!!!!

لكن من سيسمح لها بأن تؤذي حبيبته…؟!!!

هو سيحميها حتى من خدش النسيم…

فقط لو تقبل به!!!!

عاد يتنهد أخيراً بحرارة…ثم واجه عفاف قائلاً بحزم:

_رؤى هي اختياري يا أمي…الفتاة رائعة جداً وغداً ستدركين ذلك.

قالها ثم توجه لغرفته مغلقاً بابها خلفه…لترتسم ابتسامة حانية على شفتيه…

وصورة رؤى تملأ كيانه كله….

فيخفق قلبه بعنف وهو يتصورها وقد صارت أخيراً له…

كما يحلم منذ زمن بعيد….

حلم جميل…والأجمل لو …يصير حقيقة!!!

=======

عاد إلى قصره بعد الشروق وقد أنهى مهمته المشئومة…

شعر بضيق هائل يجثم على صدره فلجأ لمكانه المفضل المنعزل في حديقة قصره…

لكنه اقترب بخطوات حذرة عندما وجدها جالسة وحدها هناك…

تبسط كفها على صدرها وهي تنتحب بضعف…

فزفر بقوة ثم تقدم أكثر نحوها حتى انتبهت إليه…

فقامت من مكانها وهي تشعر بالارتباك لتهمس باعتذار:

_عفواً سيد عاصي…أنا كنت…

قاطعها بإشارة من كفه ثم أشار لها بالجلوس دون أن يتكلم…

فعاودت الجلوس وهي تشعر بمزيج الرهبة والغموض الذي ينتابها دوماً أمام هذا الرجل…

مع الكثير من الخجل لأنها تجلس هكذا دون إذنه…

لكنها لم تستطع مقاومة سحر هذا المكان بعدما جربته لأول مرة…

حقا…لقد وجدت سكينتها هنا…

ولم تجد لها سوى هذا المكان تلجأ إليه بعد كوابيس كل ليلة ….

توقعت أن ينصرف ويتركها كما فعل المرة السابقة…

لكنه جلس على الأريكة المقابلة لها ليسألها وهو يتفحص ملامحها بدقة:

_كوابيسك المعتادة؟!!

أطرقت برأسها للحظات…ثم أومأت برأسها إيجاباً….

فقال بنبرته المسيطرة:

_لن تتخلصي منها بسهولة….تدرين لماذا؟!!!

رفعت وجهها إليه بحذر يمتزج بخوفها…

فأردف بغموض:

_لأنها تنبع من داخلكِ أنتِ…لو هزمتِ نفسكِ فستتخلصين من كوابيسكِ كلها.

هزت رأسها بعدم فهم وهي ترمقه بنظرات حائرة…

هذا الرجل يبدو وكأنه يعلم جيداً ما يتحدث عنه…

ابتسم ابتسامته الجانبية وهو يراقب نظراتها الحائرة نحوه …

ليلوح بسبابته في وجهها قائلاً بحزم:

_أنتِ خصيمة نفسكِ في هذه المعركة.

نظرت إليه مأخوذة بما يقول وهي عاجزة عن الرد…

كتلميذة تتلقى درساً صعباً من معلم ماهر…

لكن ذهولها وصل لذروته عندما عاد يسألها ببرود:

_هل افتقدتِها؟!!! تريدين أن تعودي إليها؟!

ازدردت ريقها ببطء وهي تسأله بحذر:

_من تقصد؟!!

نظر إليها طويلاً تلك النظرات التي تسرق من روحها أسرارها…

ليقول بعدها باقتضاب:

_رحمة!

فانتفضت من مكانها وهي تسأله بدهشة:

_تعرف أمي؟!!

أشاح بوجهه عنها ليقول بنفس البرود:

_وهل هي حقاً أمك؟!!

دمعت عيناها وهي تشعر بالضياع…

هذا الرجل مخيف حقاً…

وجوده حولها يجدد كل أحزانها ومخاوفها…

وغموضه المريب هذا يكاد يدفعها للجنون…

ما الذي يعرفه عنها بالضبط؟!

لكنه عاد ينظر إليها لتعاود عيناها ضياعها بين غابات زيتونه…

ثم قال بحسم:

_لا داعي لدهشتكِ هذه…أنا أعرف عنكِ كل شئ.

ظلت واقفة مكانها تراقبه برهبة…فوقف بدوره ليقول لها بغموض:

_يوماً ما قد أخلصكِ من كوابيسكِ هذه…لكن هل ستقدرين على دفع المقابل؟! !

خفق قلبها بعنف وهي عاجزة عن فهم ما يقول…

فاقترب منها خطوة ليقول بحزم :

_عاصي الرفاعي لا يفعل شيئاً دون مقابل…والمقابل دوماً غالٍ…

تلاحقت أنفاسها وهي تشعر بالاختناق…

هذا الرجل سيقتلها ببطء حقاً لو بقي يحدثها بهذه الطريقة…

وبهذا الكلام الغامض الذي ربما لا تفهمه…

لكنه يقبض قلبها أكثر….

ومع هذا وجدت نفسها بلا وعي تهمس بتساؤل:

_وما هو المقابل؟!!

اشتعلت غابات الزيتون بعينيه للحظة…لكنها انطفأت في بحار الفضة بعينيها …

ليقول هو بعدها ببطء ضاغطاً على حروفه:

_المقابل….ماسة!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى