روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل السادس والعشرون 26 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل السادس والعشرون 26 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء السادس والعشرون

رواية ماسة وشيطان البارت السادس والعشرون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة السادسة والعشرون

_يسرا!!!
همس بها فهد بضيق وهو يراها واقفة أمام سيارتها على بعد خطوات منه…
تراها كانت تتبعه طوال تلك المسافة الطويلة؟!!
والإجابة جاءته منها وهي تتقدم نحوه لتهتف بذهول مشتعل بالغضب:
_طوال الطريق وأنا أكذب عيني!!لا أكاد أصدق أنك تركتني لتقيم هنا مع صديقك!!
كانت قد ذهبت إلى شركة جاسم الصاوي لتسأله عن فهد بعدما لاحظت تهرب جاسم من الرد على اتصالاتها الهاتفية…
لكنها فوجئت بفهد نفسه يخرج من الشركة ليستقل سيارته…
فتبعته إلى هنا وهي تتساءل طوال الطريق الطويل الذي استغرق بضع ساعات عما يمكن أن يكون وراء اختفائه الغريب هذا…
لكنها ما كادت تتبين المدينة حتى قفز اسم زوجها السابق لذهنها…
حسام القاضي!!!
معقول؟!!
هل اختفى فهد عنده طوال هذه الأيام؟!!
لماذا؟!!
وكيف؟!!
وإلى متى كان ينتوي الاستمرار في هذا العبث؟!!!
ألم يتذكرها ولو حتى بمجرد مكالمة هاتفية؟!!
أم أن الأمر كله مخطط؟!!
وعند خاطرها الأخير التهبت جميع خلاياها برغبة في الانتقام تنافس رغبتها في الصراخ بكل قوة!!!!
بينما انعقد حاجباه هو بغضب وهو يحاول كظم غيظه ما استطاع!!!
كيف نسي أن يطلقها بعد كل ما حدث؟!!
لكن الحقيقة أنه نسيها هي -نفسها- تماماً !!!
صدمته بموت جنة ثم ظهور ماسة جعلت رأسه يدور في دوامات لا متناهية من حزنه وحيرته…
لكن لا بأس…
هذا خطأ يسهل إصلاحه…
ب”كلمة”!!!
لكنها قطعت أفكاره وهي تلوح بذراعيها مردفةً بهياج هستيري:
_هل هذه خطتك مع حسام الحقير؟!!هل هي مؤامرتكما لتدميري؟!!تظنان أنكما ستنالان مني؟!!
تلفت حوله بضيق وهو يرى كيف اجتذب صياحها المارة والجيران…
فجذبها من مرفقها نحو المدخل ليغلق الباب خلفه مع مقاومتها العنيفة له وسط صراخها:
_كلاب!!كلكم كلاب!!!لكنني لن أسكت!!سأخفيكم خلف الشمس!!!لست أنا من تلعبون بها هذه اللعبة الدنيئة!!!سأدمركم …سأدمركم كلكم!!!
كان حديثهامتزامناً مع ضربات عشوائية بكفيها له على كتفه …
بينما زاد صراخها الهستيري من غضبه وإرهاقه فأمسك ذراعيها بعنف ليلصقها بالجدار خلفها مقيداً حركتها وهو يهتف بانفعال:
_اهدئي يا مجنونة!!!كلها خيالات مريضة برأسك!!!
لكنها كانت تهز رأسها بانفعال مبالغ فيه وكأنها ممسوسة…
جسدها كله كان ينتفض بانفعالها المحموم وتأثير “قرصها السحري” كان قد تلاشى…
وبالطبع كانت خلاياها كلها تئن بحاجتها إليه لكن الحقيبة كانت في سيارتها …
لهذا دفعته بعنف لتفتح الباب وتندفع نحو سيارتها …
وقف مكانه متردداً للحظة في أن يتبعها لكنه حسم تردده سريعاً وقد غلبه قلقه على تلك “المجنونة” التي قد تؤذي نفسها بأي حركة تهور…
فلحق بها بدوره ليستقل سيارتها جوارها عندما لاحظ ارتعاش أناملها الشديد وهي تتناول من حقيبتها شريط أقراص أدرك ب-سابق خبرته-ماهيته ومفعوله!!!
فاختطفه من يدها ليهتف بحنق:
_مخدرات؟!!هل وصلتِ لهذه الدرجة؟!!
لكنها صرخت به بجنون وهي تحاول انتزاع الشريط منه:
_لا شأن لك بي!!!هاتِه حالاً وإلا قتلتك!!!
رفع شريط الأقراص بعيداً عن متناول يديها لكنها كانت تقاتله بعنف لتحصل عليه هاتفة :
_دعني وانزل من السيارة …انزل!!
لكن قلقه كان يتزايد مع تصاعد وتيرة انفعالها الذي أكد ظنونه بخصوص هذه الأقراص …
فهتف هو الآخر بانفعال:
_لن أتركك في هذه الحالة!!!
ولما يأست من مقاومته صرخت صرخة هستيرية أخيرة وهي تستدير بجسدها لتشغل السيارة …
قبل أن تهتف بجنون:
_حسناً!!!لا تريد أن تتركني؟!!!فلتذهب معي إذن إلى الجحيم!!!
قالتها وهي تنطلق بالسيارة بأقصى سرعتها فمد يده يحاول السيطرة على المقود وقد أنبأه حدسه بما تنتويه لكنها تشبثت به بدورها وقد فقدت سلطتها تماماً على عقلها المشوش…
فاستمر الصراع بينهما على القيادة لبضع دقائق فقد فيها اتزانه بفعل توتره….
قبل أن ينتهي بهما الأمر باصطدام السيارة بإحدى السيارات الأخرى بقوة مقلقة جعلت رأسها يصطدم بالمقود قبل أن تفقد وعيها بعدها تماماً….
=================
_أنت زوجها؟!
قالها الطبيب لفهد في المشفى الذي انتقلا إليه بعد الحادث فأومأ فهد برأسه إيجاباً وهو يتطلع بقلق لجسدها المسجى على الفراش وقد أحاطت رأسها المستلقى على الوسادة ضمادة كبيرة…
فخفق قلبه لها بعطف وقد أثار المشهد ذكرى أخرى له مع- جنته -المفقودة…
لكنه ازدرد ريقه ببطء مبتلعاً غصته وهو يقول للطبيب بحذر:
_ماذا بها؟!
عدّل الطبيب نظارته بارتباك ثم قال بحرج:
_جرح رأسها بسيط…لكن التحاليل التي أجرتها أثبتت وجود مواد مخدرة بالدم…الأمر قد يخضع لتحقيق رسمي!
عقد فهد حاجبيه بضيق ثم قال بحزم محاولاً تدارك الموقف:
_أنا فهد جاسم الصاوي وهي يسرا رفعت الصباحي!!لا أحتاج لإخبارك بما يفترض عليك فعله!!!
قالها وهو يشعر بالضيق لأنه اضطر لاستغلال منصبي والديهما لكنه لم يجد حلاً أفضل لتدارك هذه الفضيحة ولو مؤقتاً….
فازداد ارتباك الطبيب وهو يغمغم بمداهنة:
_لا تقلق يا سيدي!أعدكِ بتسوية هذه المسألة!
لكن فهد اقترب منه أكثر ليقول بنبرة أكثر صرامة:
_الأمر سريٌ تماماً…لن يعرف عنه أي أحد!
أومأ الطبيب برأسه في طاعة فأردف فهد :
_ولا حتى والدها سيادة اللواء.
غمغم الطبيب بموافقة قاطعة ثم غادره مسرعاً…
فتنهد فهد بحرارة ثم عاد ليجلس جوارها على طرف الفراش متأملاً ملامحها الساكنة…
وقد بدت له الآن في أضعف حالاتها بعيدة تماماً عن تلك المتنمرة المستفزة التي طالما احتك بها…
ظل يرقب وجهها لوقت قصير وهو يشعر ببعض الذنب نحوها …
خاصةً عندما بدأت تسترد بعض وعيها لتهذي بلا توقف:
_كلاب…خونة…كلهم نسخة منه…كلهم “رفعت الصباحي”.
كانت تكررها بلا توقف ورأسها يهتز يمنةً ويسرى حتى بدت وكأنها تختنق بهمساتها…
فانعقد حاجباه بإدراك وهو يرى هذا الوجه منها لأول مرة…
هل تكره يسرا أباها؟!!
هل هي حانقة عليه كما هو حانق على أبيه؟!!
عجباً!!!
لقد كان يظنها دوماً راضية متفاخرة بنسبها !!!
لكنها قطعت أفكاره عندما عادت لهذيانها الذي صاحبته دموعها هذه المرة :
_أمي…أمي…أريد أمي…لماذا رحلت وتركتني؟!!أمي…
ففاض قلبه بالعطف وهو يربت على كتفها دون كلمات…
لقد تشقق القناع عن وجه “الشقراء المتعالية” أخيراً لتبدو تحته على حقيقتها…
مجرد طفلة ضالة!!
بل ربما “ماسة” مدفونة في “الوحل” تنتظر فقط أن يكتشفها أحدهم ليطهرها من دنسها فيسمح لبريقها بالتوهج تحت شمس سماء “نقية”…
بعيدة تماماً عن هذا المستنقع “الآسن” الذي تعيش فيه…
نعم…لقد تعلم من “جنته” أن بداخل كل امرئ ماسةً وشيطاناً يتصارعان…
ومصيره مرهونٌ دوماً بنتيجة هذا الصراع…
لكن…هل يصلح هو لهذا الدور؟!!
وكيف يفعل؟!!
إنه الآن يتنفس الصعداء لأنه تخلص من كل ما يربطه بعالم جاسم الصاوي…
ولن يعود إليه أبداً!!!
فكيف يساعد هذه البائسة التي تغرق ب”ثقل أوزارها” المربوط في قدميها…
بل إنه -ربما- لو مد إليها يداً منقذة فسيغرقان معاً!!!!
انقطعت أفكاره عندما شعر بحركة غريبة في الخارج …
تبعتها ههمهات عالية قبل أن يميز الحرس الخاص ب”سيادة اللواء” الذي ظهر في الصورة أخيراً ليدلف إلى داخل الغرفة هاتفاً بنبرته المتسلطة:
_ما الأمر يا فهد؟!!ماذا تفعلان هنا؟!!
قام فهد واقفاً ليصافحه ثم قال بأقصى ما استطاعه من هدوء:
_لا تقلق يا سيادة “اللواء”…مجرد حادث بسيط!
رمقها رفعت بنظرة قلق عابرة قبل أن يتلفت حوله هاتفاً بصرامة:
_هذا المكان لا يليق بها!!!سأنقلها إلى العاصمة!
لكن فهد خشي من افتضاح الأمر فهتف بسرعة:
_لا داعي يا عمي…الأمر بسيط…هي ستخرج اليوم!
نظر إليه رفعت بتفحص ثم سأله بنفس اللهجة الصارمة:
_أين كنت مختفياً طوال الفترة السابقة؟!!ولماذا جئتما إلى هنا؟!
صمت فهد للحظة مفكراً وشئ من الحيرة يغزوه…
هاجسٌ عظيم بداخله يدفعه للتخلص من هذه الزيجة الآن والمبرر موجود…
فالعروس المصون مدمنة للمخدرات ولن يلومه أحد لو رغب في تطليقها…
مجرد “بضاعة فاسدة” سيردها لصاحبها!!!!
لكن نبضاً ضعيفاً بداخله كان يحضه على مساعدتها للخروج من أزمتها…
للقيام بنفس الدور الذي قامت به جنة معه…
لعله عندما ينقذها يجد نفسه هو الآخر ك”فهد”…. لا ك”ابن الصاوي”!!!!
ويبدو أن الغلبة كانت لشعوره الأخير …فقد ابتسم بدبلوماسية ليقول بلهجة مقنعة اكتسبها من طول العمل مع أبيه:
_للأسف انشغلت بمشروع جديد ولهذا أردت تعويض يسرا ب”شهر عسل” هنا!
عقد رفعت حاجبيه بتشكك وهو يقول بنبرة مستنكرة:
_هنا؟!!ألم تجد سوى هذه المدينة؟!!
ضحك فهد بتكلف وهو يقول بنفس النبرة:
_هي رغبة يسرا يا عمي…لقد قالت أنها تريد بدء الرحلة من هنا من باب التغيير.
كان يعلم أنه يقامر بهذه الكذبة لكنه كان يراهن على ما يعرفه من تباعد العلاقة بين الأب وابنته…
لهذا لم يتعجب كثيراً عندما قال رفعت أخيراً بنفاد صبر:
_حسناً…هل ذكروا متى ستفيق ؟!!
التفت فهد نحوها ليلاحظ تململ جسدها فاقترب منها ليبادرها بقوله :
_يسرا!هل أفقتِ؟!!
فتحت عينيها ببطء وهي تتلفت حولها بدهشة أول الأمر…
قبل أن تنتبه لوجود والدها فارتعشت نظراتها ببعض الخوف قبل أن تعود ببصرها نحو فهد الذي ربت على كفها مطمئناً…
قبل أن يقول لها برفق:
_لا تقلقي…مجرد حادث بسيط .
ثم غمزها غمزة خفيفة ليردف:
_أنا أخبرت “سيادة اللواء” أننا سنبدأ نزهتنا من هنا كما كنتِ تريدين.
نظرت إليه بتشتت حقيقي وهي تشعر برأسها يكاد ينفجر من الألم…
لكن شعورها بالخوف من أن يكتشف والدها حقيقة إدمانها غلبها أكثر…
لهذا اكتفت بالصمت بينما اقترب منها رفعت بخطواته الثابتة ليقول بنبرته الصارمة:
_انتبهي لصحتكِ يا فتاة!لا تقودي السيارة برعونتك المعهودة وإلا سحبتها منك!
ثم قبل جبينها قبلة روتينية جامدة قبل أن يقول بلهجة عملية:
_حمداً لله على سلامتك…استمتعا بوقتكما!
ثم صافح فهد بقوة قبل أن يتخذ طريقه للمغادرة مع حرسه الخاص…
راقبت يسرا حركاته المنصرفة بترقب حتى اطمأنت لرحيله تماماً…
فالتفتت نحو فهد لتسأله بانزعاج:
_هل علم؟!
هز فهد رأسه نفياً فتنهدت بارتياح ….
ثم انخرطت فجأة في بكاء عنيف جعله يقترب منها أكثر ليهمس لها برفق:
_أولاً وقبل أي شئ يجب أن تخضعي لعلاج من هذا السم الذي أدخلتِه لجسدكِ طواعية!
بدت أنها لم تسمعه للحظات قبل أن تئن بخفوت أنّاتٍ متألمة مع همسها المتقطع:
_لم أكن أظن الأمر سيصل لهذه الدرجة….هذه الأقراص كانت تريحني…وكنت أضمن أنها ستكون دوماً متوفرة.
ثم استعادت بعض تنمرها لتعود هاتفةً بحدة:
_ثم ما شأنك أنت بي؟!!ألم تكن تنتوي تدميري بمؤامرتك مع صديقك؟!!لكنني لن أسكت سأ…
_يسرا!
هتف بها مقاطعاً سيل عباراتها الغاضب ثم زفر بقوة قبل أن يردف بحزم مشوب بالأسف:
_أعلم أنني ظلمتكِ يوم أدخلتك في حسابات لا تخصك…لكن الأمر لم يكن بيدي…
رمقته بنظرة متسائلة وقد غلب فضولها ألمها…
فأكمل بنبرات مختنقة وقد عاودته -ذكراها -المهلكة:
_زواجنا كان مقايضة أمام حياة أغلى انسانة في دنيايَ كلها!
اتسعت عيناها بذهول مع هذه العاطفة التي انسابت كالسيل بين حدقتيه وهو يروي لها باقتضاب حكايته مع جنة…
وكيف أجبره والده على هذه الزيجة بتهديده له بقتلها…
الأمر الذي فعله أخيراً على أي حال!!!
فشهقت بارتياع وهي تضع كفها على شفتيها للحظات…
قبل أن تهمس مصدومة:
_قتلها؟!
أشاح بوجهه أخيراً يخفي ضعف رجولته بدمعه قبل أن يجيبها بتماسك:
_هو لم يرَها أكثر من حجر عثرة في طريقه…أزاحه ببساطة ليعبر نحو هدفه .
تأملته للحظات بمشاعر متباينة ما بين غيرة وإشفاق قبل أن تسأله بفضول هزم كبرياءها:
_لماذا أحببتها إلى هذا الحد؟!ما الذي جذب فهد الصاوي بمكانته ومغامراته لامرأة مثلها حتى يتنازل طواعية عن كل شئ لأجلها؟!
شرد ببصره للحظات مستعيداً ذكرياته العامرة معها ثم همس بعاطفة لم يتمكن من إخفائها:
_كلنا “نعيش” لكن القليل من يحيا حياة حقيقية…هي علمتني كيف يكون للعمر معنىً وهدف…كيف أحترم نفسي عندما أقهر شيطاني…هي كانت “جنة” حقيقية وسط جحيم عالم مستعر بخطاياه…
فمسحت دموع عينيها لتهمس بلهجة امرأة خاسرة:
_هل كانت فاتنة إلى هذا الحد؟!
أفاق من شروده ليبتسم ساخراً قبل أن يقول بيقين:
_تظنين رجلاً مثلي يفقد عقله لأجل جمال امرأة؟!!ربما كنت هكذا قبلها…لكنني معها تعلمت أن جمال المرأة ينبع من روحها…
ثم أردف بصوت متهدج:
_وروحها بالذات احتكرت جمال الأرواح كلها.
عادت برأسها للوراء وهي تشعر بأنها عالقة في متاهات من مشاعر صاخبة….
الآن فهمت سر تباعده الغريب عنها منذ عرفها…
ولماذا لم يتأثر بفتنتها كغيره…
قلبه كان مزدحماً بزهور حب لم تسمح لها بموطئ قدم!!!
لا تدري- بعد ما صارحها به -هل تسخط أم تشفق عليه؟!!
هل تلعنه أم تواسيه؟!!
هل غدر بها أم غُدر به؟!!
كم تود الآن بالصراخ…
صرخة طويلة…
بل …صرخات !!!
تريد أن تنسى كل ما سمعته …
لا…بل تتذكره…!!!!
تنقشه نقشاً على جدران روحها الخربة حتى تعمر بالأمل…
أن تستعيد لذاتها التي فقدت الإحساس بها…
أن تجد معنىً لحياتها الفارغة…
أن تكون مثل “جنة” لعلها تكسب قلباً كقلب “فهد” يبيع لأجلها الدنيا وما فيها!!!
ورغم مرارة شعورها الآن بالغيرة والخسارة…
لكن قبساً من نور تسرب ليضئ جنبات روحها برغبة حقيقية في التغيير…
لماذا الآن بالذات؟!!
وهل ينقلب حال المرء هكذا في لحظة؟!!
ربما…
ربما هو شعورها بأنها كادت تفقد حياتها في لحظة طيش؟!!
ربما هو خوفها -الذي جاء متأخراً- من نتيجة إدمانها …
ليس فقط من غضب والدها لكن ..حسرة والدتها عليها؟!!
وربما هي صدمتها الأخيرة بفهد و”جنته” التي جعلتها تدرك أي عبثٍ كانت تحياه وهي غافلة؟!!
وربما…
هوكل هذا!!
ماذا يضيرها لو جربت هذه المرة أن تركض خيولها الجامحة في فضاء “الأبيض” ؟!!
ألم تكتفِ بما نالها من “دنس” السواد؟!!
فلتكن “مغامرة” كغيرها لعل الأمر يستحق المجازفة هذه المرة!!!
لكنه قطع أفكارها عندما قال لها بحزم:
_هل تريدين أن أساعدكِ لتتجاوزي هذه المحنة وتحظيْ ببداية جديدة دون علم والدك؟!!أم تريدين الاستسلام لما كنتِ منغمسةً فيه؟!
رفعت إليه عينيها بتردد وقد ضاعت كلماتها في صحراء حيرتها…
فاقترب بوجهه منها ليحتكر نظراتها مردفاً بحسم:
_لن أستطيع أن أمنحكِ مشاعر زوج لزوجته…ولن أكون ابن جاسم الصاوي بماله ونفوذه…سأعيش حياتي التي اخترتها ك”فهد” وفقط…لكنني قد أمنحكِ مساعدتي لتتجاوزي أزمتكِ هذه…وبهذا أكون قد كفرت عن ذنبي تجاهك…هذا هو عرضي كاملاً فهل تقبلينه؟!!
أغمضت عينيها في استسلام للحظات كان هو فيها ينتظر ردها بترقب…
هو لن يفكر فيها يوماً كامرأة فقد ماتت بعينيه كل النساء يوم فقد جنته…
لكنه فقط يريد بحق أن يساعدها…
قربانٌ آخر لغرام “الأستاذة” التي علمته كيف تكون الرجولة وكيف يكون الشرف…
لهذا ابتسم بارتياح حقيقي عندما فتحت عينيها أخيراً لتومئ برأسها موافقة مع همسها:
_أنا أقبل!
============
_يا لخيبتكِ!!!تعنين أنه لم يبتْ ليلته هنا؟!!!
هتفت بها هيام بغيظ وهي تستمع من عزة لما حدث بالأمس…
فغمغمت عزة بضيق:
_نعم!!ظللت أنتظره حتى مللت وعندما خرجت لأبحث عنه لم أجده بالخارج!!!
كزت هيام على أسنانها وهي تهتف بغضب:
_ماذا تفعل هذه الفتاة من خلف ظهورنا؟!!!تراها تذهب لأحد السحرة كي تضمن تشبثه بها؟!!
أشاحت عزة بوجهها في ضيق مع غمغمتها الحانقة:
_أي سحر يا هيام؟!!هي فتاة متعلمة ولن تلجأ لهذه الخرافات؟!!
وكزتها هيام في كتفها وهي تهتف بغيظ أكبر:
_خرافات؟!!ألم أقل لكِ أنك حمقاء؟!!كيف تفسرين إذن حب حماتي الشديد لها بعدما كانت لا تطيقها ؟!!كيف تبررين أن يتركك زوجك ليلة زفافك ليهرع إليها؟!!
زفرت عزة بضيق ثم قالت بنبرة قانطة:
_لم أكن مقتنعة بهذه الزيجة من البداية..ما الذي يدفعني لأن أكون زوجة ثانية لرجلٍ تزوجني فقط من باب الشهامة؟!!
فاحتقن وجه هيام وهي تهتف بانفعال:
_ظروفك يا حمقاء!!!هل تظنين أنكِ كنتِ تملكين حق الاختيار؟!!خطيبك السابق لوث سمعتك في كل مكان…وأنتِ تعلمين كيف تسري هذه الأحاديث بين الناس كالنار في الهشيم!!
أجهشت عزة في البكاء فجأة ثم انهارت جالسةً على فراشها …
فتنهدت هيام بحرارة ثم جلست جوارها لتضمها لصدرها هامسة بنبرة أكثر رفقاً:
_لقد كدت أطير فرحاً عندما طلبك راغب للزواج ..راغب رجل حقيقي سيتقي الله فيكِ.
فرفعت إليها عزة عينيها لتهتف بين دموعها:
_وكيف يفعل وهو يعشق امرأته الأولى بهذه الصورة؟!!!لقد تركني من أول ليلة!!!
فعاد الغضب يكسو ملامح هيام التي هتفت باندفاع:
_لا تكوني ضعيفة هكذا!!!أنا سأجعلها تدفع ثمن دموعك هذه في ليلة عمرك!!لن أكون هيام لو لم أخلع قدميها من هذا البيت!!!
لكن عزة مسحت دموعها لتهتف بسرعة:
_أنا لا أتحامل عليها…أنا التي تعديت على حياتها مع زوجها…بل إنني حتى الآن لا أفهم كيف رضيت هي عن زواجه الثاني بهذه السرعة بل وحضرت الزفاف أيضاً؟!!
عقدت هيام حاجبيها بشك وهي تفكر في هذا الأمر…
حال راغب مع رؤى غريب حقاً…
أحواله معها ليست طبيعية…
لو كان حقاً يحبها بهذه الصورة فلماذا تزوج عليها؟!!
مروءة؟!!
لا …لن يقنعها هذا التفسير الساذج رغم ملاءمته لشهامة راغب…
لكن حتى لو كان الأمر هكذا معه هو فلماذا وافقت رؤى على هذا؟!!
ما الذي يجبرها على هذا الوضع المهين؟!!
هناك سرٌ ما في الأمر!!!
ولن تهدأ حتى تعرفه!!!
لكن عزة قطعت أفكارها وهي تقول أخيراً بأسى:
_دعكِ من هذا كله فأنا أعلم أنني قليلة الحظ دوماً…أخبريني لماذا جئتِ باكراً هكذا؟!!
هنا أفاقت هيام من شرودها لتهب واقفةً مع شهقتها…
قبل أن تهتف بانفعال:
_يالحماقتي!!!لقد نسيت…الحاجة مريضة وقد جئت لأخبر راغب!!!
فشحب وجه عزة وهي تهتف بدورها:
_وتضيعين الوقت في الحديث يا هيام؟!!!اذهبي وأخبريه بسرعة!!!
تركتها هيام بخطوات مندفعة لتغادر نحو شقة رؤى بالأسفل…
فيما وقفت عزة مكانها حائرة لا تدري ماذا تفعل…
وما هو دورها الحقيقي هنا؟!!
هي لم تكن تطمح بالكثير…
فقط أرادت “الستر” كبقية الفتيات…
أرادت أن تؤويها جدرانٌ آمنة تخفيها عن أعين الطامعين…
هي لم تختر راغب…
وكذلك لم تختر خطيبها السابق…
كل ما كان يعنيها في الأمر أن تجد “رجلاً” يمنحها الأمان وهي اليتيمة التي ليس لها أحد!!!
لهذا لم تتردد في الموافقة على راغب رغم علمها أنها ستكون زوجة ثانية…
فمع الإشاعات الحقيرة التي بث سمومها خطيبها السابق بين ألسنة أهل الحي لم يكن لديها خيارٌ أفضل…
والآن تجد نفسها منبوذة من أول ليلة وكأنها مجرد واجب ثقيل أداه زوجها مجبوراً…
فهل تلومه؟!!
أم تلوم نفسها التي دفعتها لهذا المصير؟!!
أم تلوم هذا المجتمع الذي خاض في شرفها بالباطل لمجرد أنها يتيمة وتقيم وحدها؟!!
ثم تنهدت بحرارة وهي تتلمس نعومة “روبها” الحريري الأبيض الذي احتضن جسدها لتهمس بابتسامة مريرة:
_يالهامن بداية ل”حلم العمر”!!!
===========
فتح عينيه ليجدها نائمة على صدره فابتسم بحب وهو يظنه حلماً أول الأمر…
حتى استعاد كامل إدراكه بعدها ليتذكر كل أحداث الليلة الماضية…
فتنهد بحرارة وقلبه يوخزه ألماً على تلك المستكينة بين ذراعيه…
ثم دارت عيناه على جسدها الذي هدأت جروحه نوعاً وإن كان أثرها باقياً -على قلبه -قبل بشرتها!!
فازدرد ريقه ببطء وهو يقاوم إحساسه -المشتعل- الآن بها…
ثم أشاح بوجهه عنها بكل ما أوتي من قوة وهو لا يدري كيف يفسر لعزة بقاءه هنا الليلة الماضية…
لاريب أنه جرحها حقاً بفعلته لكنه لم يفكر…
طالما احتاجته مليكته فسيلبي النداء بكل روحه مهما كان!!
لكن ما ذنبها عزة هي الأخرى في صراع قلبه وعقله هذا؟!!
لابد أن يعود إليها الآن بأي تبرير يرضي كبرياءها المهدور…
هو اختار هذا الطريق فليكمله لآخره إذن…
فليس هو من يظلم امرأة منحها اسمه!!!
لهذا حاول دفع رؤى برفق لينهض من رقدته متحاشياً إقلاق نومها…
لكنه ما كاد يبتعد بجسده حتى فوجئ بأناملها تتشبث به بضعف مع همهمة غير مفهومة …
فتنهد بحرارة ثم عاد يستقر مكانه مربتاً على ظهرها برفق لتصله تمتمتها في حلمها :
_أبي خذني معك!!
انعقد حاجباه بضيق وهو يرى ارتجافة جسدها التي عادت إليها مع شهقاتها المكتومة في نومها…
لقد رآها يوماً تحلم بأبيها وكانت مبتسمةً وقتها بسعادة….
فلماذا تبدو الآن وكأنه تختنق؟!!!
بل إن جسدها ازداد ارتجافاً فرفع الغطاء عليها أكثر وهو متردد في إيقاظها وقد بدا له أنها الآن ترى كابوساً…
لكنها قطعت عليه حيرته عندما انتفضت فجأة من نومها لتصرخ صرخة قصيرة…
فقام بدوره ليطوقها بذراعيه هاتفاً بقلق:
_لا تخافي!إنه مجرد كابوس!
التفتت إليه بحدة ولازالت تحت تأثير نومها لتغمغم بنبرة تائهة:
_أبي….كان يضربني…لم يفعلها يوماً !!
أغمض عينيه بألم للحظة ثم ضم رأسها لصدره وهو لا يجد ما يقول…
لكنها كانت -شبه-غافلة عنه وهي تردف بشرود مسترجعةً أحداث حلمها:
_نعم…كان يضربني لكنني لم اكن اشعر بألم…
ثم رفعت إليه وجهها بابتسامة مرتبكة لتكمل :
_على العكس… كل ضربة كانت تشعرني أنني قوية اكثر.. حتى إذا ما انتهى شعرت وكأنني ولدت من جديد!!
ابتسم بحنان اختنق بحزنه وهو يلصقها بصدره أكثر…
فاتسعت ابتسامتها وهي تهمس بوداعتها المعهودة والتي اكتسبت الآن بعض القوة:
_أنا وجدت طريقي …ولن ارضى بضعفي بعد!
قبل رأسها بعمق وهو يربت على وجنتها هامساً:
_لا بأس! أنا معك!
وكأنما نبهتها عبارته للواقع أخيراً فابتعدت بجسدها عنه لتهتف بإدراك:
_أنت قضيت ليلتك هنا؟!
رمقها بنظرة طويلة حملت كل عاطفته لكنه غمغم باقتضاب:
_لم أكن لأترككِ هكذا!!
هزت رأسها وهي تدور بعينيها في المكان ليقع بصرها على خصلات شعرها المقصوصة هناك على الأرض..
فشهقت بحدة وهي تضع كفها على رأسها لتتلمس شعرها بأناملها للحظات…
مستعيدة بدورها ذكرياتها المشوشة بالأمس …
لينتابها الآن شعورٌ جارف بالتمرد على كل هذا الضعف…
فصمتت طويلاً تستجمع قوتها ثم رفعت رأسها لأعلى متحاشية النظر إليه وهي تقول بنبرة أكثر تماسكاً:
_عد لعروسك…أنا لن أكون عبئاً على أحد بعد الآن!
تشبثت نظراته بعينيها لكنها لم تنظر إليه وهي تحرر نفسها من ذراعيه لتقوم واقفة …
توردت وجنتاها بخجل وهي تنتبه لقميصها القصير الذي كانت ترتديه لكن مرأى تلك الخدوش على جسدها جعلها تستعيد شعورها بالدونية…
فتناولت “روبها” الطويل لترتديه على عجل عندما وقف هو بدوره ليتوجه نحوها قائلاً بحزم مشوب بحنانه:
_لن تبقيْ هنا وحدك!ستقيمين مع أمي!
لكنها كتفت ساعديها لتقول بحزم غريب على طبيعتها الخانعة:
_لا!يكفينا هذا!
عقد حاجبيه بضيق وهو يسألها بترقب:
_ماذا تعنين؟!
تحركت بضع خطوات مبتعدة عنه لتقول بعدها بتصميم:
_لقد كنت أنانية حقاً عندما أصررت على البقاء معك!شهامتك وضعفي سيجعلان مني دوماً عائقاً في طريقك…لكنني سأصحح هذا الوضع.
ثم أطرقت برأسها لتردف بنبرة قاطعة رغم تهدج صوتها:
_سأعود اليوم لعبد الله وأنتظر منك ورقة الطلاق!
لكنه اقترب منها ليرفع وجهها إليه قائلاً بضيق لم يستطع التحكم به:
_لكن هذا لم يكن رأيك من قبل!!
فارتعشت شفتاها ب-شبه -ابتسامة وهي تهمس بإصرار:
_كنت حمقاء…والآن عاد إليّ عقلي!
اختنق صوته بغصته للحظة قبل أن يهمس بعجز:
_رؤى…أنا…
صمت لحظة وكأنه يبحث عن كلمات تسعفه…
لكنها أغمضت عينيها لتهمس بنفس النبرة القوية:
_أنت كنت جائزتي مع عقابي….بياض توبتي مع سواد إثمي…هدية السماء لقلب أراد مبتدأ الطريق لكنك لن تكون منتهاه!
انقبض قلبه بعنف وهو لا يدري بماذا يرد…
هو ما عاد قادراً على احتمال عذاب قربها…
ولا هي كذلك!!!
وجودهما سوياً يعذبهما بعاطفة يائسة لن يحتضنها أمل…
نعم…ربما كان فراقهما مهلكاً لكن لا مفر منه الآن!!
ورغم شعوره في هذه اللحظة بأن قلبه يحتضر لكنه كان يدرك أنها على حق…
لهذا ربت على كتفها برفق ثم تنحنح ليستعيد خشونة صوته:
_انتظري فقط بضعة أيام حتى تهدأ جروح جسدك…لا أريد أن يراكِ أخوكِ هكذا!!
هزت رأسها بعدم اقتناع وهي تهم بالاعتراض عندما سمعت صوت رنين جرس الباب الطويل وكأن الطارق لا يرفع إصبعه من عليه…
فأشاحت بوجهها في ضيق وهي تعد نفسها للسان هيام الطويل فلا ريب أنها هي الطارقة…
بينما لم يكن راغب أقل منها ضيقاً وهو يتوجه نحو الباب ليفتحه بقوة هاتفاً بغضب لم يتحكم فيه إزاء كل هذه الضغوط:
_ماذا هناك؟!!هل هذه طريقة ترنين بها الجرس؟!!
أجفلت هيام من صياحه الغاضب فعادت برأسها للخلف وهي تتفحصه ببصرها…
إنه لا يزال بثياب الأمس دون سترته…
فلماذا لم يبدلها بملابس أكثر راحة؟!!
ثم تعلقت عيناها بقميصه الذي تلطخ بما يشبه الدم وسواد الكحل!
فعقدت حاجبيها بحيرة للحظة قبل أن تستعيد شراسة نبراتها وهي تهتف بانفعال:
_عفواً يا “عريس”!!!انتزعناك من عروسك…لكن والدتك مريضة بالأسفل وتحتا..
لم يكد يسمع عن مرض والدته حتى أزاحها بعنف من طريقه ليهبط الدرج متوجهاً لشقتها…
ولم تكن رؤى أقل منه استجابة فسحبت حجاباً ساتراً غطت به “كارثة” شعرها ثم اندفعت بدورها للأسفل متجاهلةً نظرات هيام النارية لها…
وأمام فراش والدته وقف الجميع بقلق فقد كانت حالتها سيئة حقاً…
بل إنها بدت وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة…
لهذا هتف راغب بانفعال:
_سأتصل بالإسعاف حالاً!
=============
_يمكنكِ العودة إلى البيت الآن…لقد نجحت الجراحة بفضل الله…وهي الآن أفضل!
قالها راغب في المشفى الذي انتقلت إليه والدته …والتي استدعت حالتها إجراء جراحة عاجلة …
فردت رؤى وهي تمسك بيد والدته التي استسلمت للنوم:
_لا…سأبقى معها هنا!
رمقها بنظرة مشفقة طويلة ناقضت خشونة نبرته:
_أنتِ هنا منذ الأمس …عودي للبيت واستريحي ويمكنكِ القدوم مساءً!
هزت رأسها باعتراض وهي تقول بحسم:
_أنا ليس لديّ ما يشغلني…اذهب أنت لزوجتك.
ثم التفتت نحو هيام الواقفة جوار زوجها لتردف:
_وهيام أيضاً ينبغي أن تعود لأولادها.
فزفر بقوة ثم هتف ببعض الحدة:
_لن أنتظر حتى تسقطي أنتِ الأخرى من التعب !
وهنا تدخلت هيام في الحديث هاتفة:
_دعها تبقَ كما تشاء…ولنعد نحن الآن للمنزل…وفي المساء نتبادل الأدوار حتى يستريح الجميع.
فالتفت نحوها راغب ليهتف بتذمر:
_اذهبي إذن مع زوجك لأولادكما…أنا لن أترك أمي.
هنا اشتعلت ملامح هيام بالغيظ مع قولها:
_ألن تعود لعزة التي تكاد تموت قلقاً عليك؟!!
قبض أنامله بقوة محاولاً كظم غيظه وهو يلاحظ تلون وجه رؤى بانفعالها عندما سمعت اسم عزة…
فقال بتهكم غاضب:
_صحيح؟!!ولماذا لم تأتِ لتطمئن عليّ وعلى حماتها إذن؟!!
نظرت هيام إلى رؤى نظرة حقودة ثم ردت بنبرتها المستفزة:
_كانت تريد هذا لكنني منعتها…العروس لا تخرج من بيتها هكذا عقب زفافها مباشرة!!
زفر راغب بقوة ثم قال لأخيه بنفاد صبر:
_خذ زوجتك وعودا للمنزل…أنا باقٍ هنا!
وبعد انصرافهما اقترب من رؤى ليهمس برفق:
_استريحي على السرير الآخر …لن يمر عليها الطبيب قبل ساعة.
لكنها تشبثت بكف والدته وهي تنظر إليها هامسة بأسى:
_أنا لا أشعر بالتعب…كما أنني أريد أن أشبع من صحبتها.
وخزت عبارتها قلبه وقد أدرك صدق شعورها…
بينما دمعت عيناها هي وهي ترقب وجه عفاف بعاطفة حقيقية…
لقد رأت فيها “أماً” ثانية…فهل من العدل أن تذوق اليتم مرتين؟!!
لكنها مع هذا لن تتراجع عن قرارها…
مشرط “الجرّاح” ربما يكون قاسياً لكنه قد يكون العلاج الوحيد !!
لكنها فوجئت به يقترب منها أكثر ليحتضن كفها الممسك بكف والدته …!!!!
فرفعت إليه عينيها بنظرة متسائلة لكن لسانه كان معتقلاً خلف أسوار كبريائه…
فقط عيناه كانتا سخيّتين بحديث وصل قلبها زاخراً بفاخر عطاياه من عاطفة وأسف وحزن تشاركاها معاً لدقائق طويلة بلا كلمات…
حتى سحبت هي كفها منه لتشبكه بكفها الآخر في إشارة ذات مغزى…
وصلته كما أرادتها تماماً…
لن يمتد كفي إلا لكفي!
ولن تشتبك أناملي إلا بأناملي…!!
هو طريقي الذي سأكمله وحدي …
وحِملي الذي لن يسعه إلا ظهري!!
لكن طرقات الباب الخافتة قطعت حديث عيونهما الصامت هذا…
عندما دخل الطبيب الشاب ليتفحص الأم باهتمام …
ثم طمأنهما على الحالة ليلاحظ راغب وقتها تعلق بصر الطبيب الشديد برؤى قبل أن تنتقل عيناه بحركة غريزية نحو أناملها وكأنه يبحث عن خاتم زواج…!!
فاشتعل وجهه بغيرته كالعادة حتى إذا ما انصرف الطبيب التفت نحو رؤى ليغمغم بضيق:
_لقد نسيتِ ارتداء دبلتك.
فابتسمت بسخرية مريرة وقد لاحظت هي الأخرى تعلق نظر الطبيب بأناملها…
لترد بنبرة شاحبة رغم قوتها:
_آن الأوان أن تتخلص من هواجس شكك وغيرتك…أن تنسى هذا الخطأ الذي تأخر إصلاحه كثيراً…لقد قرب الخلاص !
هنا شعر حقاً أنه سيختنق لو بقي معها أكثر…
كل هذا كثيرٌ على حدود احتماله …
فلترحل ولينتهِ كل هذا العذاب…
لكن أن تبقى هكذا عالقةً في منتصف الطريق بين قلبه وعقله فهو الجحيم بعينه!!!
لهذا غادر الغرفة بخطوات مندفعة لينتظر بالخارج…
ولم يعد إليها إلا بعد عودة هيام مع أخيه الذي قال مخاطباً رؤى:
_يمكنكِ الآن العودة للمنزل كي تستريحي!
كادت تهم باعتراض لكن راغب حسم الأمر بقوله:
_لا نقاش!!!هيا لأقوم بتوصيلك.
ولا تدري لماذا شعرت ساعتها بعدم رغبته الحقيقية في وجودها هنا…
لكن غالب ظنها أن الأمر يتعلق ب”الطبيب الشاب”!!!
لهذا احترمت غيرته لتقول بنبرة قوية:
_لا داعي لتأتي معي…لازال الوقت مبكراً…ابقَ أنت مع أمي ربما يحتاجون شيئاً!!
ثم انصرفت بخطوات سريعة حاسمة دون أن تنتظر رده…
تاركةً إياه خلفها يراقبها بمرارة خائبة…
وطوال طريقها في سيارة الأجرة كانت تفكر في أمر طلاقهما الحتمي…
وما تنتوي فعله بعدها…
لن تسمح لأحد أن يتحكم في حياتها بعد…
ستنهي دراستها…ثم تقيم مشروعاً بسيطاً بنقود وديعتها التي تركها لها والداها…
ستحصل على دورات متقدمة في مجالات بعينها تؤهلها لفرص عمل أفضل…
ستسافر لأماكن كثيرة كما كانت تحلم دوماً…
ستعود لشغفها بالقراءة الذي نسيته في خضم أحداث حياتها الأخيرة…
ستصنع عالمها بنفسها…
عالماً لن تطاردها فيه خطيئة كفرت عنها باقتدار…
ولن تعود لتنظر بعدها للخلف قط!!!
كانت قد وصلت إلى البيت وقتها فاستخرجت مفاتيحها من حقيبتها لتفتح الباب…
لكنها فوجئت به موارباً في إهمال!!!
يبدو أن هيام وزوجها كانا متعجليْن فنسياه مفتوحاً!!
صعدت الدرج بخطوات مثقلة من فرط إعيائها لكنها ما كادت تصل لشقتها حتى انقطع التيار الكهربائي فجأة…
شهقت بعنف وخوفها -المرضي-يعاودها…
لكن الأمر ازداد سوءاً بتلك الجلبة التي سمعتها من أعلى…
بالتحديد…من شقة عزة!!!
فتحسست محتويات حقيبتها محاولة التقاط هاتفها لتتصل براغب…
لكنها وجدته قد فرغ شحنه منذ ليلة الأمس…!!!
وقفت مكانها للحظة وقد تصبب جبينها بعرق غزير …
وقد راودتها نفسها بالخروج من جديد…
لكنها لم تشأ الهروب هذه المرة!!!
لن تفشل كما فعلت من قبل…
هذه المرة ستقهر خوفها وضعفها…
ولتكن فقط مجرد بداية…
لهذا تحاملت على نفسها لتصعد الدرج في الظلام بخطوات مترددة…
يغلبها خوفها تارة…
وتسعفها شجاعتها أخرى….
كانت تصعد السلم درجة…
درجة…
ومع كل درجة كانت قدماها وكأنهما تدهسان ذكرى بغيضة …
تفاصيل ليلتها الوحيدة مع فهد…
تفاصيل ليلة زفافها براغب…
إهانات هيام…
جفاء عبد الله…
نظرات راغب المشبعة باحتقاره ورفضه لها كزوجة…
ليلة زفافه على عزة…
نظرات الناس الشامتة…
خصلات شعرها المقصوصة التي تناثرت على الأرض…
خدوش جسدها الدامية…
ليختفي كل هذا ويحتل ذهنها فقط حلمها الأخير بوالدها…
ضربة تلو ضربة…
لكن الضربات لم تعد موجعة…
بل صارت تجعلها أقوى…
نعم…أقوى يا رؤى!!!
هيا اصعدي المزيد من الدرجات…
ستصلين…حتماً ستصلين!!!
ومع كل درجة كانت تصعدها كانت تردد قسمها لنفسها أنها ستكون أكثر صلابة…..
لن تخاف الظلام…
لن تخاف الوحدة…
لن تخاف عبد الله…
لن تخاف فراق راغب…
لن تخاف ضعف نفسها…
لن تخاف…
لن تخاف!!!!
حتى وصلت أخيراً لشقة عزة ليصلها صوتٌ غريب بالداخل:
_تظنين أنكِ ستفلتين مني؟!!أنا سأعرف كيف أرد الضربة لكِ ولذاك الوغد الذي تحداني!!لقد كنت أترصد البيت منتظراً الفرصة…لم أظنها ستأتي بسرعة هكذا…
اتسعت عيناها بذعر وهي تدرك هوية المتحدث…
لابد أنه خطيب عزة السابق …
انتهز فرصة انشغال الجميع بمرض الأم ليقتحم المنزل …
لكن ذعرها بلغ مبلغه مع صرخات عزة المكتومة والتي تبعها هتاف ذاك السافل:
_لماذا تقاومينني هكذا؟!جربيني ربما كنت أفضل من زوجك الحقير!!
زادت خفقات قلبها جنوناً وهي لا تدري ماذا تفعل…
خوفها يدفعها للعدو هرباً الآن وليكن ما يكون…
كفاها ما تحملته حتى الآن بل إنها تشعر وكأن قدميها لن تحملاها بعد!!!
لكن…
إنه “شرف” راغب…!!!!
راغب الذي حفظ لها شرفها طوال هذه الأيام…
ألا يستحق أن ترد له صنيعه بمثله؟!!
بلى…يستحق!!!
ولو دفعت عمرها بالمقابل!!!
لهذا أخذت نفساً عميقاً تتمالك به شجاعتها ثم دلفت إلى الداخل لتصرخ بكل قوتها :
_دعها أيها الوغد…
بوغت الرجل بصراخها فارتبك للحظة كانت كافية لتتحرر منه عزة التي اندفعت نحو النافذة لتصرخ بكل قوتها طالبة الغوث…
فاندفع بدوره ليهرب لكن رؤى سدت الباب بذراعيها وقد منحها شعورها ب-قرب وصول نجدة -المزيد من الشجاعة…
فما كان منه إلا أن انتزع مديته التي التمع نصلها إزاء الضوء الخافت في الظلام أمام عينيها…
فأطلقت صرخة أخيرة قبل أن تستقر المدية في صدرها!!
===========
_تضحكين يا حسناء؟!!أنتِ السبب في هذا الموقف…سيظنني الآن مجرد فتاة رخيصة تسعى لجذب انتباهه!!!
هتفت بها زهرة لصديقتها التي لم تتوقف عن الضحك منذ أخبرتها زهرة عن نتيجة “خطتها” الفاشلة…
لقد فعلت ما نصحته بها حسناء فانتظرته بعد انتهاء الدوام وقد ارتدت ثوباً ملفتاً شديد الضيق بطراز مثير لا ترتديه في العادة…
وتزينت بأبهى صورة حتى أنها أزاحت حجابها للخلف كثيراً ليبدو شعرها المميز تحته …
ثم انتظرته عند سيارته حتى اقترب فتظاهرت بالتعب ثم طلبت منه توصيلها لمنزلها …
_لا أصدق أنه رفض طلبكِ بهذه البساطة!!
قاطعت بها حسناء سيل أفكارها الحانقة…
فتناولت زهرة كوب الماء المجاور لتهددها به هاتفةً بسخط:
_تعلمين؟!!كم أود الآن لو أسكبه على رأسك لتدركي شعوري وقتها وهو يتجاوزني ببساطة ليطلب من إحدي الطبيبات أن توصلني هي!!!
ضحكت حسناء بانطلاق وهي تخفي وجهها بكفيها …
فهزت زهرة رأسها بيأس هامسة:
_هذا الرجل سيصيبني بالجنون ….ماذا أفعل له كي يراني؟!!
كانتا جالستين في أحد المطاعم أمام المشفى تتناولان وجبة العشاء كعادتهما بعد انتهاء دوامهما…
عندما دخلت إحداهن للمكان فهتفت زهرة بلهفة:
_إنها مريم…سأناديها لتجلس معنا.
فمطت حسناء شفتيها باستياء لتميل عليها هامسة:
_لا أدري لماذا تثقين في مريم هذه هكذا!! إننا لم نتعرف عليها سوى منذ أسبوع واحد وأنتِ تصرين على أن تنضم إلينا في كل مرة نلتقي بها هنا.
فهزت زهرة رأسها وهي تقول بحنانها الفطري:
_دخلت قلبي منذ أول لقاء.
_لأنكِ حمقاء كعادتك!!
غمغمت بها حسناء بقنوط لتردف:
_أنا أراها غريبة الأطوار…وكئيبة أيضاً…ثم إننا لا نعرف عنها أي شئ!!!
فابتسمت زهرة وهي تخرج لها لسانها مغيظة إياها…ثم همست لها بمرح:
_يكفيني أنها مصرية مثلنا…أم أنكِ تغارين منها عليّ؟!!
خبطتها حسناء على كفها بغضب مصطنع فضحكت زهرة بمرح قبل أن تنادي مريم بلهفة…
ابتسمت مريم بدورها وهي تلوح لها بكفها ثم لم تلبث أن انضمت إليهما ليتشاركن العشاء…
عندما قالت حسناء وهي تتفحص مريم ببصرها:
_مع من تقيمين هنا يا مريم؟!!
التفتت نحوها مريم لتقول ببساطة :
_مع طفلي!
فارتفع حاجبا حسناء بدهشة مع قولها:
_فقط؟!
أومأت مريم برأسها إيجاباً فسألتها زهرة بإشفاق:
_وماذا عن زوجك؟!
أطرقت مريم برأسها للحظات ثم همست باقتضاب:
_منفصلان!
رمقتها زهرة بنظرة عطوف طويلة…بينما حملت لهجة حسناء الكثير من الشك وهي تسألها بحذر:
_ومن أين تعيشين إذا كنتِ لا تملكين عملاً هنا؟!!
فرفعت إليها مريم عينيها لتقول بابتسامة متحفظة:
_لديّ ما يكفيني!!
مطت حسناء شفتيها بعدم اقتناع…
بينما تجاهلت مريم شعورها السلبي نحوها لتخاطب زهرة بقولها:
_تبدين مختلفة هذه الليلة…طلّتكِ تبدو….
صمتت لحظة تحاول البحث عن تعبير مناسب غير جارح…
ثم أردفت :
_أكثر تحرراً!!
_بل منحلة!!!
هتفت بها زهرة بحنق وهي ترمق حسناء بنظرة غيظ طويلة قبل أن تردف:
_فليجازِ الله من كان السبب!!!
عادت حسناء تضحك بمرح للحظات ثم استأذنتهما للذهاب للحمام المجاور…
فابتسمت مريم ابتسامة مشرقة وهي تتفحص ملامح زهرة ثم قالت بهدوئها الحاني:
_لماذا أشم رائحة “رجلٍ ما” في الأمر؟!
تورد وجه زهرة بخجله وهي تومئ برأسها إيجاباً…
فربتت مريم على كفها وهي تقول بنفس النبرة الحانية:
_ربما تكون علاقتنا حديثة العهد لكنني أشعر أنكِ قريبةٌ بحق لقلبي…فاقبلي نصيحتي.
أومأت زهرة برأسها فأردفت مريم بحزم حنون:
_أرخص طريق لكسب قلب رجل هو الجسد…من يعشقكِ لجسدك فسيستهويه جسد غيرك…لكن من يعشق قلبك فلن ينظر لسواكِ!
ابتسمت زهرة ببعض الخزي وهي تعيد حجابها المتهاوي لتستر به شعرها كاملاً ثم همست لها بخجل:
_معكِ حق…لكنني فقط كنت…
قطعت عبارتها وقد عجزت عن إكمالها فابتسمت مريم بحنان وهي تتفحص ملامحها البريئة لتهمس لها :
_تحبينه؟!
أومأت زهرة برأسها إيجاباً ثم قالت بارتباك:
_لكنه لا يراني…بل لا يرى أي امرأة.
_ربما كان معقداً…أو مريضاً بمرض يمنعه من الزواج!!!
هتفت بها حسناء -التي عادت لتوها – وهي ترفع أحد حاجبيها بمكر…
فشهقت زهرة بعنف ثم قامت لتخبطها في كتفها هاتفة :
_الملافظ سعد!!!
تأوهت حسناء بألم مصطنع فالتفتت لهن أنظار رواد المطعم بفضول…
بينما ابتسمت مريم بهدوء وهي ترقبهما بمودة…
ليستمر الحديث بينهن لوقت طويل بعدها بمرح أزال الكثير من شوائب التحفظ وبالذات من حسناء نحو مريم التي استأذنتهما الآن في الانصراف على وعد بلقاء قريب…
فراقبت زهرة انصرافها بحنان ثم قالت لحسناء بعطف:
_طيبة القلب وتبدو منكسرة وحزينة.
فأومأت حسناء برأسها ثم قامت من مكانها وهي تقول بلهفة:
_لقد تأخر الوقت …هيا !
فتناولت زهرة حقيبتها لتسير جوارها مغادرتيْن المكان…
عندما التفتت نحوها حسناء فجأة لتقول وكأنها تذكرت شيئاً:
_نسيت أن أخبرك…كاتبتك المفضلة دخلت المشفى اليوم في حادث بسيط..فرصتكِ للتعرف إليها!
============
وقفت فتون في غرفتها تجمع حاجياتها في حقيبة كبيرة وهي تتجهز للرحيل…
عندما هتف محمد ببراءته الطفولية:
_هل سنغادر لمنزل آخر من جديد؟!
أومأت برأسها إيجاباً دون رد…فعاد الصغير يهتف بحزن:
_لماذا؟!!أنا أحب “ماما صفا” ولا أريد أن أتركها!
فابتسمت بمرارة وهي تتمتم بخفوت:
_ولأننا نحبها فلابد أن نرحل من هنا!
نظر الصغير إليها بحيرة مشوبة بحزنه وقد بدا لها الآن -بالألم الذي انحفر على ملامحه- كيوم عرف عن وفاة أبيه…
نظرت إليه نظرة طويلة حاولت أن تتشبث فيها بتماسكها…
لكن دموعها خانتها وهي تتذكر حديثها صباحاً مع عبد الله…
كانت قد ذهبت إليه في المحل كما طلب منها لتفاجأ به يعرض عليها الزواج…
ظنته يستهزئ بها في أول الأمر وقد كانت الفكرة وحدها كفيلة بأن تستجيب لكبريائها وترحل…
لكنها وقتها تذكرت كيف صارت صفا تتحاشاها تماماً منذ طلاقهما…
وعندما حاولت الصعود إليها في شقتها المقابلة لشقة عبد الله كادت تطردها…!!!
يومها تعجبت معاملتها الجديدة الجافة لها لكنها عللت هذا بسوء مزاجها بعد الطلاق…
لكنها الآن تشك أن طلاقهما في هذا التوقيت بالذات له علاقة بها…
خاصةً بعد طلب عبد الله الغريب…
والذي كان جوابها عليه هو الرفض القاطع!!!
نعم …
لقد قالت له بحزم أنها لن تخون عشرة المرأة التي طالما ساعدتها…
لن تعضّ اليد التي امتدت لها بالخير …
ولن تكسر قلب امرأة أدخلتها بيتها فتخربه!!!
سترحل من هنا وتبحث عن عمل جديد والرحمن لا يغفل عن عباده!!
_لماذا تبكين يا أمي؟!!
قاطع بها الصغير أفكارها العاصفة فمسحت دموعها بأناملها بسرعة ثم غمغمت :
_لا شئ يا حبيبي!لا تقلق كل شئ سيكون على ما يرام!
لم تكد تتم عبارتها حتى سمعت طرق الباب فانعقد حاجباها بقلق…
ثم تناولت طرحتها لتغطي شعرها وقد انقبض قلبها بتوجس لكنها ذهبت لتفتح الباب بحذر …
قبل أن تغمغم بضيق لم يخلُ من خوف:
_حسني!!ماذا تريد؟!!
ابتسم الرجل بخبث وهو يدفعها برفق ليدخل ويغلق الباب خلفه بجرأة…
لكنها عاودت فتحه بسرعة وهي تهمس بتوتر:
_لا داعي للفضائح يا حسني!!!ارحل وإلا صرخت لتكون فضيحة!
فاتسعت ابتسامته الماكرة وهو يتقدم نحوها أكثر ليركل الباب بقدمه فيغلقه من جديد هامساً بصوت كالفحيح:
_حقاً ستكون فضيحة لكن ليس لي…لكِ أنتِ!
توهج الخوف في عينيها وهي تحاول التحلي بشجاعتها مسترجعةً حديث صفا معها عن ذاك الأمر…
فهتفت بصلابة مصطنعة:
_ماذا تريد مني؟!
دارت عيناه ببطء متمهل على جسدها الفائر بأنوثته فشعرت وكأنه يجردها من ملابسها بنظراته الوقحة…
لتستمر في تباعدها عنه بظهرها …
لكنه جذبها فجأة من مرفقها نحوه ليهمس أمام عينيها المذعورتين:
_أريد تذوق الكعكة كالجميع!
اتسعت عيناها باستنكار وهي تفهم المعنى المبطن لكلماته فغمغمت بارتباك :
_اتقِ الله يا حسني…أنا لست من هذا النوع!
ابتسم ساخراً وهو يرفع أحد حاجبيه ليهمس وهو يقترب بوجهه منها أكثر:
_أم أنني أنا الذي لست نوعك المفضل؟!!هل تفضلين أن أربي لكِ ذقني كي أعجبك؟!!
سحبت مرفقها منه بعنف وهي تهتف بحدة رغم خوفها:
_اخرس أيها الحقير…ماذا تقصد؟!
فتملك ذراعيها بكفيه ليدفعها أمامه ملصقاً ظهرها بالحائط وهو يقول بغضب:
_لا تدّعي العفة بعد يا فتاة…الحي كله يتحدث عنكِ وعن الشيخ عبد الله الذي طلق زوجته بسببك!!
اتسعت عيناها بذعر وهي تهز رأسها نفياً لتهتف بجزع:
_كذب!!!كذب وافتراء!!الشيخ عبد الله لن…
لكنه لم ينتظر إكمال عبارتها وهو ينقض عليها لينال منها ما يرضي ثورة جسده…
فصرخت صرخة قصيرة قبل أن تهتف بعجز وهي تدفعه بكل قوتها :
_ابتعد ولا تجعلني أرفع صوتي بالصراخ!
لكنه كتم فمها بكفه وهو يلتصق بها أكثر هامساً بين أنفاسه اللاهثة:
_لن ينجدكِ أحدٌ مني!!الليلة أنتِ لي!!
قالها بحسم وقد ازدادت جرأة لمساته لها مع انتفاضة جسدها الكاره فأغمضت عينيها بعجز وقد تحولت صرخاتها المكتومة لأنين بائس …
لكنها كانت غافلةً عن الصغير الذي كان يراقبهما بذعر في زاوية الغرفة منذ دخل هذا الوغد …
كانت طفولته البريئة عاجزة عن فهم ما يجري لكنه ما كاد يرى هذا الرجل يكتم صرخات أمه حتى اندفع بسرعة ليفتح باب الغرفة ويهرع إلى البيت الوحيد الذي يعرفه هنا…
نعم…شقة عبد الله!!!
===========
كان عبد الله جالساً على أريكة الصالة بعدما عاد للبيت عقب صلاة العشاء كعادته …
لم يستطع النوم في فراشهما هذه الليلة…
وكيف يفعل وقد وقّع اليوم وثيقة خيانتها بطلبه للزواج من فتون…
ورغم أن رفضها قد خدش كبرياء رجولته…
لكنه لا ينكر أنه قد شعر ببعض الارتياح!!!
وكأنه لم يكن مقتنعاً تماماً بما أوشك على فعله…
نعم…للأسف…
لازال طبعه الانفعالي يغلب على عقله …
هذا الطبع -الذي لولاه- لما طلّق “صفا روحه” ثلاثاً!!!
تنهد بحرارة وهو يستغفر الله سراً ليتبعها بدعاء خاشع بالهداية….
لكنه سمع طرقات عنيفة على الباب فأجفل مكانه ثم قام ليفتحه ….
عندما اصطدم بصره بالصغير الذي اصفر وجهه مع هتافه المذعور:
_أدرك أمي يا شيخ!!
لم ينتظر عبد الله المزيد من التفاصيل فانطلق معه للأسفل ليجد باب الغرفة موارباً..
والمشهد خلفه أبلغ من أي شرح!!!
فهتف بغضب هادر وهو يندفع ليسحب الرجل من ملابسه :
_أيها ال(…….)!!!
كانت لفظته الخارجة كافية لإثارة غضب الرجل الذي التفت نحوه متمالكاً دهشته ليهتف بصفاقة :
_تريد إنقاذ عشيقتك يا شيخ!!!لا تقلق يمكننا اقتسامها!!!
هنا ازداد احتقان وجه عبد الله بغضبه الذي قلّما يتحكم به…
فعاجله بلكمة قوية في فكه أدمت شفتيه قبل أن يتبعها باُخَرَ متفرقات على صدره ووجهه…
لكن الرجل لم يكن أقل منه قوة وهو يتفادى لكماته تارة…
ويردها له تارة أخرى ليزداد تصعيد الموقف مع ظهور أحد الجيران على الباب …
ثم لم يلبث الأمر أن تحول لفضيحة حقيقية بتجمع المزيد من الجيران الذين تدخلوا لفض النزاع بطبيعة الحال وسط صراخ حسني واتهاماته الباطلة ودفاع عبد الله الثائر بدوره…
وفي زاوية الغرفة كانت -هي- تقف صامتة…
تحمل الصغير ضامةً إياه لصدرها بقوة وهي تغمض عينيها بيأس!!!
لازالت واقعة بين شقيّ رحى ظروفها البائسة…
جمالها…وحدتها…فقرها…
المثلث الشهير الذي يستدعي -بعيون مجتمع مريض- أن تضم أضلاعه أنثى عاهرة!!!
وربما لو نظرنا -بعين الرحمة- لوجدنا الأضلاع نفسها تنحني لتضم امرأة ضعيفة لا تطمع سوى في العيش بكرامة وشرف!!!
لهذا لم تجد من يسندها في موقفها هذا سوى دموعها التي اختلطت بدموع صغيرها على صدرها وهي تشعر بالظلم يكوي خلاياها!
كانت تستمع للأصوات حولها بخوف ممتزج بحرجها في بادئ الأمر قبل أن يتحول شعورها تدريجياً للامبلاة حقيقية…
فليقولوا ما يشاءون…
هي في نظرهم مجرد” أيقونة “للخطيئة ولن يتغير هذا …
إلا إذا….!!!
ومع خاطر أخير غزا روحها باكتساح…
خفتت الأصوات تماماً حولها لتنتبه أخيراً أنها صارت وحدها مع صغيرها بعدما انفض الجمع !!!
ساعتها رفع محمد الصغير رأسه إليها ليسألها بحزن طفولي:
_لماذا يفعلون بنا هذا يا أمي؟!!
فخرجت منها تنهيدة بحرارة شعورها بالظلم والقهر ثم قبلت الصغير بعمق لتهمس بأسى:
_لأننا وحدنا يا صغيري!!!ليس لنا أحد!!
عاد الصغير يبكي وهو يتشبث بها بذراعيه فربتت على ظهره وهي تسير به لتغلق باب الغرفة عليهما لعلها تستعيد شعورها بأمان مؤقت…
ثم وضعت الصغير على الفراش لتستلقي جواره حتى اطمأنت لنومه…
وقد عادت أفكارها تلتهم كيانها بأنياب من قنوط…!!!
ستبقى مطمعاً للذئاب مالم تلجأ لجوار آمن…
حتى لو رحلت من هنا وتخلصت من “حسني” هذا…
ستجد العشرات من “حسني” يلاحقونها بخِسة!!!
لا خيار لها لمن هي مثلها في صراع الحياة هذا…
لا مجال ل”رفاهية” الوفاء!!!
فسالت دمعتها الحارة على وجنتها وصورة صفا في خيالها تجلدها بسياط الذنب…فهمست لنفسها بأسى:
_سامحيني يا سيدتي!!!ليس بيدي!!!
وبعدها بقليل كانت تغادر غرفتها لتصعد نحو شقة عبد الله باندفاع تعمدته قبل أن تغير رأيها…
وما كاد يفتح الباب بوجهه المكدوم حتى هتفت بين دموعها:
_أنا أوافق على الزواج يا شيخ!!
==============
_هل أعجبكِ المكان؟!
قالها حسام وهو يسير معها على شاطئ الفندق الذي اصطحبها إليه لقضاء إجازة قصيرة شعر بحاجة كليهما إليها…
فالتفتت نحوه لتقول برضا:
_ساحر حقاً…رغم أني لا أحب البحر.
ابتسم بدهشة وهو يجذبها من كفها ليجلسا متجاورين على كرسيين من كراسي الشاطئ …
ثم سألها بترقب وهو يرمق جانب وجهها الذي استند على ظهر مقعدها:
_لماذا لا تحبين البحر؟!هذا غريب!
ظلت ترقب الفضاء بشرود للحظات…
ثم غمغمت بهدوء:
_أعتقد أن أولئك الذين يحبون البحر هم المولعون بالمغامرة والتحدي…لكنني على العكس…أحب الشعور بالأمان أكثر…لهذا أفضل مشهد النيل الهادئ في مدينتنا عن هذه الأمواج الهادرة.
ورغم أن عبارتها عكست له الكثير من مشاعر الخوف بداخلها…
والذي انتزع منه شعوراً بالحمية لاحتوائها…
لكنه هتف مشاكساً:
_جبانة…وأنا الذي كنت أنتوي السباحة معك؟!!
فالتفتت إليه بضحكة ساحرة تبعها قولها المرح:
_لو كنت تقصد بهذا استفزازي لفعلها فلن تفلح في استدراجي كما تفعل مع المجرمين يا “حضرة الضابط”.
ثم أشارت بكفها على صدرها لتردف بفخر مصطنع:
_أجل …أنا جبانة!
ضحك بدوره ضحكة طويلة ثم عاود احتضان كفها بأنامله ليهتف بعفوية:
_أعجبتِني!
ورغم أن كلمته كانت عفوية تماماً لكنها مست شعورها القديم ب”النقص”…
فتيبست ملامحها للحظات أمام نظراته المتفحصة…لتباغته بقولها:
_صفني كما تراني!
همست بها بلهجة غريبة بين رجاء وخوف…
فلم يدرِ أيهما فاجأه أكثر…
عبارتها…
أم اللهجة التي اتشحت بها- والتي جعلته يدرك بحق -أن مرحها الواثق ليس أكثر من قناع….؟!!!
فخفق قلبه بشعور غريب نحوها لكنه رفع أحد حاجبيه ليهمس بخبث وهو يميل عليها:
_تريدين مغازلة؟!
اغتصبت ابتسامة باهتة وهي تهز رأسها نفياً لتجيبه :
_أنت لن تغازلني!
ثم عاد بريق المرح يلتمع بعينيها مزداناً بنظرة واثقة قبل أن تردف :
_الآن على الأقل!
فتألقت عيناه ببريق إعجاب -لم يخطئه حدس أنوثتها- مع تلويحه بسبابته في وجهها قائلاً بنفس النبرة المشاكسة:
_أنا لا أجيد المجاملة!
هزت رأسها وهي ترمقه بنظرة طويلة لم يفهمها ثم همست بثقة:
_وأنا لا أريدها…لهذا سألتك وأنا واثقة من صراحتك!
فتنهد بحرارة ثم عاد يسند ظهره على كرسيه مغمضاً عينيه للحظات قبل أن يغمغم بشرود:
_حسناً…فلنبدأ بشعرك…هل تعلمين أنه يشبه شخصيتك كثيراً؟!!نعم…ليس ناعماً منسدلاً في استسلام ولا خشناً ثائراً بتمرد..هو بين هذا وذاك….لكنه قوي…ملمسه مميز خاصةً لرجل مثلي يكره التطرف في أي شئ.
ابتسمت بدهشة للحظة ثم قالت بمرح مكسوّ بنبرة عاتبة:
_تبدو خبيراً يا سيدي!
فابتسم بدوره دون أن يفتح عينيه ليردف بعدها وكأنه يراها بعين خياله:
_عيناكِ أجمل ما في ملامحك …لم أرَ عينين في حياتي بهذا الاتساع…منذ أول مرة رأيتكِ فيها وأنا تبينت فيهما فضاء عريضاً يكفي الناظر لينطلق فيه دونما حدود براحة غريبة.
ضحكت طويلاً هذه المرة ففتح عينيه لينظر إليها بدهشة عندما هتفت بمرح :
_ماذا كنت ستقول إذن لو أردت مجاملتي؟!!
فأمال رأسه قليلاً ليرمقها بنظرة متفحصة من أسفل لأعلى قبل أن يهمس وقد عادت إليه نبرته المشاكسة:
_ربما لو ذكرت شيئاً عن إعجابي بجسدك فلا تصدقيني…لا أحب البدينات!
اتسعت عيناها بدهشة عقبها غضب طفولي وهي تسحب كفها منه بعنف هاتفة بانفعال احمرت له وجنتاها ب-ما وجده هو-لذة خاصة :
_أنا لست بدينة…نحن اتفقنا على الصراحة لا الوقاحة !
فتعالت ضحكاته المرحة تحت نظراتها الساخطة للحظات…
قبل أن يغلبها مرحها فابتسمت بدورها وهي تشيح بوجهها…
لكنه عاود احتضان كفها برفق ليتراقص حاجباه بمداعبة مع عبارته الماكرة:
_هل أكمل؟!!
زمت شفتيها بغضب مصطنع فعاد يميل عليها هامساً :
_حسناً…لن أكمل…لكن باختصار…أراكِ امرأة مميزة يمكنني التفاخر أمام الجميع بأنها زوجتي.
وهنا ابتسمت ابتسامة حقيقية وهي تطرق برأسها..
ورغم أن عبارته أكدت لها -هوسه-العتيد برأي الآخرين لكنها أرضت كبرياء أنوثتها…
بينما عاد هو يسألها بجدية هذه المرة:
_لماذا سألتِني هذا السؤال؟!
التفتت نحوه بنظرة أخرى طويلة لم يفهمها أيضاً…
ثم عادت تطرق برأسها دون رد…
ماذا عساها تخبره؟!!
إنها تحتاج حقاً لتعرف كيف يراها…
تحتاج لنظرة رجل تخبرها أنها ليست “دمية معيبة”…
تحتاج أن ترتشف نظرات الإعجاب هذه في عينيه تروي بها ظمأ سنوات من شعور بالانتقاص…
وهو ما منحه لها بسخاء!!!
وأمامها كان هو يتأملها بتفحص وكأنه يريد قراءة ما تخفيه خلف صمتها…
كلاهما يبذل قصارى جهده ليغلق دفاتر الماضي ويبدأ من جديد…
لكنه مع هذا يشعر بحاجز غير مرئيٍ يقف بينهما…
لا ..ليس الأمر في كونها ستسامح فيما مضى…
فقربه منها في الأيام القليلة السابقة جعله يفهمها أكثر…
والآن يظن أن قلباً -كقلبها- سيغفر ما كان…
لكن…ماذا عما سيكون؟!!
عن “عيبه” الذي لا تعرفه حتى الآن؟!!
لكنها قطعت هدير أفكاره عندما رفعت إليه عينيها لتقول فجأة:
_حدثني عن طيف!
تجمدت ملامحه فجأة قبل أن تتلون بألم مشوب بالغضب…
حمقاء يا دعاء!!!
حمقاء!!
الرجل -بالكاد- شعر بكِ أخيراً وبدأ يسعى في طريقه إليكِ …
فلماذا تذكرينه بآثام الماضي؟!!
لماذا تسمحين لها بالطفو على سطح مستنقع راكد لن تغوص فيه بعدها بسهولة؟!!!
لكن هذا -بالضبط- ما كانت هي تبتغيه وقتها…
أن تجعله يواجه هواجسه بدلاً من الهروب منها…
أن تجعله يبوح لها- بنفسه -بما يخفيه في صدره لأن هذا مكسبها الحقيقي في هذه المرحلة معه…
لهذا أردفت بنبرة أكثر ليناً:
_ألم نتفق على أن نكون صديقين؟!وأنا صارحتك بحقيقة ما كان بيني وبين معتصم.
زفر بحرارة فتشبثت بأنامله لتكمل حديثها بهدوء مشوب بحنانها:
_لا أريد مضايقتك…لكنني أريد أن أسمع منك عنها…أريدك ألا تتعامل مع الأمر كذنب مقدس لا يجوز الاقتراب منه…بل مجرد ماضٍ يسهل الحديث عنه.
هز رأسه للحظات وعيناه تتعلقان بالأمواج الهادرة أمامه…
ثم قال بنبرة أرادها قوية لكنها شعرت بالعكس:
_بعدما عرفت حقيقة قتلها على يد أخيها لم يعد شعوري نحوها بالذنب كما كان…لكن هذا لا ينفي شعوري بخذلانها…ربما لو لم أستجب لطموحي وقتها لاستطعت حمايتها من بطش الرفاعي.
وكأنما أعادت لها عبارته قلقها على ماسة فسألته بجزع:
_هل تظنه حقاً قتلها؟!!هل يعني هذا أنه قد يؤذي ماسة؟!!
فابتسم ساخراً ليجيبها بقسوة احتلت نبراته:
_لن تمهله الظروف حتى يفعل…نهايته اقتربت.
شهقت بخوف لتهتف بقلق بالغ:
_ماذا تعني؟!!هل تعرف عن هوية من يترصده؟!!
فأومأ برأسه إيجاباً دونما رد…لتردف هي ببعض الغضب:
_ولماذا لا تلقي القبض عليه؟!!
فاتسعت ابتسامته الساخرة وهو يقول بتهكم:
_فكرتكِ عن الضابط واللص لا تزال طفولية يا صغيرة…بعض الأمور نتغاضى عنها طواعيةً فيما يتعلق بهؤلاء الحيتان…لماذا نتعب أنفسنا في إيجاد طريقة للخلاص منهم إذا كان يمكن لغيرنا أن يفعل؟!!!…ساعتها نكتفي فقط بالمراقبة ثم نتدخل في اللحظة الأخيرة لنحصد النتائج !
انقبض قلبها بخوف كسا عينيها فحملت ملامحه بعض الرفق وهو يردف :
_لا تقلقي على ماسة…لن يصيبها مكروه.
تنهدت بحرارة وقد عجزت عن الرد…
ماسة واقعةٌ حقاً في ورطة…
وأي ورطة أكبر من أن تعشق رجلاً كعاصي الرفاعي؟!!
عاصي الذي تعلم هي -كما يعلم الجميع- أنه لا يفكر إلا في نفسه فقط…
وليس هذا فحسب…لكن يبدو أنه قد آن الأوان لتسديد دفاتر ماضيه القديمة…
وكما يقول حسام فالنهاية تبدو وشيكة…
ولترحم الأيام قلباً تعلق بعشق لا يليق به!!!
لكنه سحبها من أفكارها عنوة عندما قام واقفاً ليجذبها معه هاتفاً باقتضاب :
_دعينا من هذا الآن…فهناك ما أرغب في التحدث إليكِ بشأنه!!
رمقته بنظرة قلقة متسائلة لكن ملامحه اكتست بجمودها طوال طريق عودتهما لغرفتهما بالفندق…
حتى أغلق الباب خلفه فالتفتت نحوه لتسأله بحذر:
_ماذا هناك؟!
تألقت عيناه ببريق خاص وهو يحتضن خصرها بكفيه ليعانق ملامحها بنظرات متفحصة حارة…
ثم اقترب بوجهه منها هامساً:
_نسيت أن أقول لكِ…ضحكتكِ مهلكة!!
فاحمرت وجنتاها بانفعال خجول مع ضحكة خافتة…
عندما أزاح حجابها برفق ليردف بمكر:
_أريد أن أكمل وصفي على مهَل!!!
قالها وشفتاه تترنحان على ملامحها بشغف فهمست باعتراض:
_حسام…ألم نتفق أن …
قطعت عبارتها خجلاً من أن تكملها …
فقد اتفقا سوياً منذ ذاك اليوم الذي اصطحبها فيه من مشغل ماسة أن يتريث في علاقته بها…
فلازالت تفاصيل ليلتهما الأولى القاسية تشعرها بالكثير من النفور نحوه…
وقد تفهم هو رغبتها بكثير صبر…
ربما لأنه اعتبره تكفيراً بسيطاً عن ذنبه معها…
وهو ما حمدته له على كل حال…
فلم تكن يوماً ممن يطمع بالكثير!!!
لكنه الآن احتضن وجنتها براحته برفق ليهمس بسيطرة رجولية لم تخلُ من حنوّ:
_هذه المرة ستكون…مختلفة!!
وقد صدق وعده…
حقاً…كانت مختلفة…
مختلفة بما يكفي لري ظمأ أنوثةٍ طال غبنها خلف أسوار اعتقاد بأنها مجرد “دمية معيبة”….!!!!
=========
_عاصي!!
اندفعت نحوه بلهفة لتجده راقداً على فراشهما يستند برأسه إلى ظهره…
فألقت نفسها بين ذراعيه تضمه إليها بكل قوة عاطفتها هامسة بين دموعها التي انهمرت الآن غزيرة:
_أنت بخير؟!!
ربت على ظهرها برفق ثم قبل رأسها ليرد بفتور:
_حتى الآن!
ظلت مخفية رأسها في صدره للحظات تتمالك انفعالها قبل أن ترفع عينيها إليه لتسأله بجزع:
_ماذا حدث؟!
مسح دموعها بأنامله بشرود قبل أن يهمس بنبرة استسلام غريبة على أذنيها:
_هذه المرة كان قريباً جداً مني…استغل غفلتي ليباغتني بسلاحه في وجهي.
شهقت بحدة وهي تضمه إليها أكثر وكأنها تحميه …!!!
منذ سمعت الخبر وقلبها لا يكاد يكف عن ارتجافه…
ستموت يوماً من فرط خوفها عليه!!
لكنه التفت إليها من شروده ليردف بغضب مكتوم:
_ليته قتلني ساعتها…لكنه تعمد ألا يفعلها…وكأن الوغد كان فقط يريد إثبات قوته بحركة غدر كهذه!!
ازدردت ريقها الجاف بصعوبة مع همسها القلق:
_تعني أنه اكتفى بالظهور أمامك فحسب…لم يهددك بشئ؟!!لم يطلب أي شئ؟!!
هز رأسه نفياً ثم غمغم وقد عاد لشروده:
_كان ملثماً ومع هذا شعرت أني رأيته من قبل….لقد كانت عيناه مشتعلتين ببريق غضب كاسح …توقعت معه أي رد فعل إلا أن يتركني هكذا مكتفياً بطلقات نارية في الهواء …
ثم أردف بنبرة قاسية:
_تماماً كما يفعل كل مرة…وكأن غرضه الحقيقي ليس إيذائي بل إثارة قلقي فقط.
بسطت راحتها على صدرها تحاول تهدئة خفقاتها المرتجفة ثم تمالكت أنفاسها أخيراً لتهتف باستنكار:
_وأين كان حراسك؟!!كيف استطاع الوصول إليك ثم الهرب بهذه السهولة؟!!
كز على أسنانه بغضب اشتعلت له غابات زيتونه ثم دمدم بين أسنانه:
_اشترى أحد حراسي ممن لم أكن أشك لحظة في ولائهم …تسرب خفيةً إليّ في الطريق بعدما أدينا صلاة الفجر مستغلاً ظلام المكان.
انعقد حاجباها بقلق مضاعف وهي تهمس بإدراك:
_إذن هو يعرف عاداتك جيداً…يعرف أنك تكتفي بحارس واحد في صلاة الفجر…حارس أمكنه شراؤه رغم ولائه كما تزعم.
أومأ برأسه موافقاً قبل أن يقول بشراسة جعلتها ترتجف أمامه:
_لكن الخائن نال عقابه على أي حال كي يكون عبرة لغيره.
_قتلته؟!!
همست بها بذعر وهي تتراجع عنه بجسدها …فأشاح بوجهه قائلاً باقتضاب:
_القتل ليس سهلاً عندي كما تظنين…لكن عقابي أحياناً يكون أقسى من الموت.
رمقته بنظرة طويلة حملت كل تناقضات مشاعرها نحوه…
قبل أن تعاود الاقتراب منه لتضع كفها مبسوطاً على صدره هامسةً برجاء:
_عاصي!!دعنا نبتعد عن هذه البلدة بأكملها…لن أحتمل أن يصيبك مكروه…رفقاً بقلبي وبنفسك قبلي.
لكنه هدر في وجهها وهو ينتفض مكانه خابطاً بقبضته على صدره :
_أنا الذي عشت عمري كله أسداً مهيمناً في عرينه …تريدينني الآن أن أهرب كفأر مذعور في مصيدة؟!!
هزت رأسها نفياً وهي تهتف بدورها في انفعال:
_ليس هروباً…بل بداية جديدة…بداية نظيفة طاهرة بلا ذنوب ولا كراهية ولا انتقام.
فابتسم ساخراً ليهتف بقسوة فجرتها انفعالاته:
_أخبرتك من قبل أن هذا الطريق لا يعود سالكه…إما أن يكمله لآخره أو يموت مكانه!!
ضغطت راحتها على صدره أكثر وكأنها تطلب مؤازرة قلبه الذي تثق أنه يدعمها في اعتقادها…
لتهتف بمزيج غريب بين القوة والتوسل:
_من قال هذا؟!!إنها مجرد اعتقادات رسخها ماضيك في قلبك….كل طرق الحياة ذات اتجاهين…باب الرجوع مفتوحٌ دوماً فقط لمن أراده.
كانت نبضات قلبه تدوي صارخة تحت أناملها في هذه اللحظة فاضحة انفعاله الذي ناقض ملامحه الآن وقد عاد إليها برودها …
مع قوله الصارم بعدها :
_نعم…لمن أراده…وأنا لا أريد!!!
أغمضت عينيها في يأس بينما أكمل هو مبرراً:
_لن أضيع كل ما بنيته طوال هذه السنوات …الأمر ليس مجرد فرض سلطة أو نفوذ…لكنه حصاد عمري كله…هل تفهمين؟!!
ظلت مغمضة عينيها للحظات عاجزة عن جداله…
ثم فتحتهما فجأة لتطالعها عيناه بنظرة غريبة…!!!
غمامة ترددٍ رمادية أمطرت على غابات زيتونٍ تشابكت قسوتها مع غموضها …
وجعلتها تتوقع ما يسوؤها أكثر…
قبل أن يرحمها من ترقبها أخيراً ليقول ببطء:
_أنا طلبت إحدى بنات عمومتي للزواج!
هل فاجأها؟!!
يظن نفسه قد فعل؟!!
هي -للعجب-قرأتها في عينيه قبل أن يتفوه بها…!!
قرأت سطوراً من عاطفة اختنقت بعجزها أمام طغيان لن يهتز…
قرأت نحيب روح تتعطش للخلاص من جحيم خطايا مستعر…
قرأت غضباً مرتعشاً بخزيه أمام شعوره بعظم الذنب…
قرأت نظرة رجلٍ يعرف أنه يذبحها لكنه يستجديها المغفرة!!!
لهذا صمتت طويلاً هذه المرة…
ثم عادت برأسها قليلاً إلى الوراء لتأخذ نفساً عميقاً وهي تسبل جفنيها متحاشيةً سهام نظراته…
ثم همست بصوت خانها ليغادر حلقها مهتزاً:
_هل هو قرارك الأخير؟!
فأشاح بوجهه عن أطياف الألم التي لونت ملامحها ليهتف بخشونة:
_ليس لدي بديل!
فتحت عينيها ببطء لتزأر أمواج فضتها بقوتها الثائرة التي انعكست على صوتها:
_هل تدري ما معنى هذا؟!!
فعاود التفاته نحوها وقد أدرك ما تنتويه…
ليصمت لدقيقة كاملة…
قبل أن يتراقص لهب الألم بعينيه مع ارتعاش صوته وهو يهمس بنبرة “عزيز قلبٍ ذَل”:
_يشهد الله أنني لم أرجُ أحداً في حياتي…لكنني الآن..
قطع عبارته بزفرة حارة وكأنه استنكف أن يكملها مع تشبثه بأناملها في كفه…
لكن معناها وصلها كاملاً!!
فابتسمت بمرارة لتهمس وهي تداعب أنامله بأناملها في شرود:
_ويشهد الله أنني لم أخذل رجاء أحد في حياتي…
ارتخت ملامحه ببعض الارتياح لكنها عادت تهمس بكبرياء لم يخذلها هنا:
_إلا هذا!!
فعاد يهتف بنفاد صبر:
_لماذا لا تنظرين للأمر كما أراه؟!!الأخرى لن تكون سوى مجرد أم لطفلي!!
فالتوت شفتاها بابتسامة ساخرة مع قولها:
_لو كنت مكاني …هل كنت لتحتمل؟!!
انعقد حاجباه بغضب فائر ازدادت ثورته مع استطرادها:
_أن تراني مع رجلٍ آخر….تقضي ليلك وحيداً تتخيلني بين ذراعيه…حتى أفاجئك ببشرى أنني سيكون لي طفلٌ منه؟!
فاشتعلت النيران في غابات زيتونه وهو ينقض على فكها فجأة ليتملكه بقبضته هامساً بين أسنانه:
_كفى!!اسكتي!!
لكنها أزاحت أنامله عن شفتيها لتبتعد برأسها هاتفة بانفعال:
_لماذا؟!تظنني سأحتمل عذاباً حقيقياً وأنت لا تجرؤ فقط على تخيله؟!!
قبض أنامله بغضب قبل أن يشيح بوجهه دون رد…
فأشاحت بوجهها هي الأخري لوقت قصير…
ثم همست بابتسامة ذابت في مرارتها:
_طالما كنتَ تزعم أن رهانك عليّ دوماً رابح…وطالما كنتُ أنا أكذّب شعوري أن رهاني عليك …خاسر!
انعقد حاجباه أكثر وهو يلتفت نحوها بحدة…
لتمتد أنامله فتقبض على كفها بقوة آلمتها…
كان الآن يصارع أقوى شخص يمكن أن يصارعه يوماً…
كان يصارع…نفسه!!!
جزء صغيرٌ بداخله يتمنى حقاً لو يحقق لها رغبتها…
لو يهرب ب-ماسته- النقية خارج جحيم شيطانه…
لو تعود ليده- التي صادقت سلاحه البارد-فرشاة رسمها بألوانها الدافئة…
لو يمزق كل دفاتر ماضيه ليبدأ معها -وبها- صفحة بيضاء جديدة تليق بنقائها…
لكنه يعلم أنه لن يفعلها…!!!
صرح عاصي الرفاعي الذي بناه ساعة بساعة لن يهدمه بلحظة ضعف فجرتها عاطفة…
لا…ليس هو!!!
لهذا عاود همسه الذي اهتز كثيراً هذه اللحظة:
_هذه الزيجة يجب أن تتم في أقرب وقت…أخاف أن يداهمني الموت هذه المرة فلا أجد من يحمل اسم “الرفاعي” بعدي.
يبرر؟!!!
هل هذا ما يفعله الآن؟!!
ماذا تبرر يا سيد عاصي؟!!
خذلانك لي أم لنفسك قبلي؟!!
خسارتي لك أم خسارتك لي؟!!
للأسف …
إذا خسف القمر وكسفت الشمس وانكدرت النجوم فليس خلف الظلام…
إلا الظلام!!!
وسحب الصيف خادعة لن تبشر يوماً بمطر!!!
لهذا فاجأته بأن مدت أناملها الحرة لتحتضن كفه الممسك بكفها الآخر ثم ترفعه إلى شفتيها …
فتقبله قبلة عميقة قبل أن ترفع إليه عينيها لتهمس بامتنان لا تدعيه:
_هذه لأجل تلك الليلة التي أخذتَ لي فيها حقي ممن انتهكوني.
اضطربت خفقات قلبه مع احتقان ملامحه وقد التصقت نظراته بغمامتيها الفضيتين اللتين خاف قراءتهما هذه المرة…
عندما عاودت تقبيل كفه بين كفيها لتردف بعدها بنفس النبرة الغريبة بين الامتنان والخذلان:
_وهذه لأجل كوابيسي التي خلصتني منها!
زمّ شفتيه بضيق مكتوم مقاوماً انقباض قلبه في هذه اللحظة…
بينما منحته هي آخر قبلاتها على كفه والتي طالت كثيراً هذه المرة لتهمس بعدها:
_وهذه لأجل كل لحظة منحتني فيها الأمان الذي لم أعرفه إلا معك…لأجل كل مرة ربتت فيها أناملك على شعري…لأجل كل حضنٍ دافئ لم أنكر احتياجي له….لأجل دور الأب والصديق الذي أديته أنت باقتدار…
ثم سحبت كفيها منه أخيراً ببطء لتردف :
_كنتَ حقاً محطةً هامة في طريقي!!
فازداد انقباض قلبه رغماً عنه وهو يغمغم بانفعال مكتوم:
_كنت؟!!
ابتسمت وهي ترفع كفها أمام عينيها -متجاهلةً الرد على كلمته -لتغمغم بشرود:
_أنتَ لم تلبسني “دبلة” زواج طيلة هذه الأيام.
كانت عبارتها تبدو غامضة في هذا الموقف لكنه قرأ بقلبه ما تعنيه…
فجذبها من ذراعها بقوة نحوه ليلصقها بصدره هاتفاً بلهجته المسيطرة:
_نعم…لم أفعل…عاصي الرفاعي لا يحتاج لهذا كي يثبت حقه في امرأة أرادها!!
لكنها حررت ذراعها منه بقوة شبيهة وهي تقول ببرود خادع:
_ربما هذا هو تفسيرك…أما أنا فلم أفهمها هكذا…
ثم قامت من جواره لتقف قائلة بكبريائها الماسيّ:
_أنا فهمتها على أنني سأبقى حرة حتى ولو خنقتني ب”عقد زواج”!!!
اشتعلت عيناه بغضب أسود وقد انفرجت شفتاه وكأنه سيهمّ بقول شئ ما…
لكنه عاد يطبقهما بقوة مكتفياً بنظراته المتحدية نحوها….
فأردفت وهي تعطيه ظهرها ببطء وبنبرة ذات مغزى:
_سأتركك…كي…تستريح!!
خدشت عبارتها قلبه وهو يشعر أنها تحمل أكثر بكثير من معناها الظاهر…
ماسة تودعه!!!
فعلتها بقبلاتها الممتنة لكل ما فعله وكأنها تسدد له -فواتير مشاعر- قديمة قبل أن تمزقها تحت قدميهما معاً!!!
فعلتها بهمساتها الدافئة التي بخلت ب-اعتراف حب-فضحته نظراتها بسخاء…
فعلتها بقوة تليق بها…
وبتحدٍ يليق به!!!
لكنه لم يشأ الاعتراف بأي ذرة ندم أو تراجع…
فاكتفى بمراقبة ظهرها المنصرف بحسرة لم يستطع نكرانها….
قبل أن يسألها بقلق غلب غضبه:
_أين ستذهبين؟!!
التفتت نحوه بجانب وجهها صامتة للحظات قبل أن تقول بحسم:
_لأخي!!
هذه الكلمة التي لم يألفها لسانها بعد…
لكن كم كانت تحتاجها في هذه اللحظة بالذات…
وكأنها يوم همست “لو أن لي قوة أو آوي إلى ركن شديد”
جاءها المدد بأسرع مما توقعت…
قدرٌ رحيم لم يسلبها أسلحتها كاملة في حرب عاطفتها هذه…!!!
نعم…برغم كل ضربات الأيام الموجعة على ظهر احتمالها…
تأتي تربيتةٌ ناعمة من السماء مبشرة …
إن مع اليسر يسراً…
و”لسوف يعطيك ربك فترضى”!!
بينما عقد هو حاجبيه وهو يقول لها بلهجته المسيطرة:
_لن أطلقك !
هنا استدارت له بكامل جسدها لتبتسم بمرارة قائلة وهي تكتف ساعديها:
_ستفعل!!اتفاقنا من البداية كان أن “لا إجبار” …وأنت لن تكرر خطأ حورية معي.
فقام من الفراش ليهتف بحنق وهو يلوح بقبضته في غضب أثاره عجزه:
_حتى مع هذا ….ستبقين زوجتي مادام في صدري نفسٌ يتردد.
تنهدت بحرارة ثم أخذت خطوة نحوه لتميل رأسها قائلةً بتهكم مرير:
_إذن تريد أن يبقى ما بيننا مجرد ورقة؟!!
فاقترب منها مندفعاً ليجذبها نحو صدره بقوة هاتفاً بنبرة مشتعلة:
_أنتِ تعلمين جيداً حقيقة ما بيننا!!
وساعتها تشقق بعضٌ من جدار قوتها لتنحسر أمواج فضتها بخيبة لم تستطع مداراتها وهي تهمس بعتاب:
_لو كان ما بيننا أكثر من مجرد ورقة لما استطعت أن تستبدلني بهذه البساطة…أنت حتى لم تمنحنا فرصة لانتظار علاج!!!
فهزها بعنف مع صرخاته الثائرة:
_لست أنا!!!لكنها الظروف…أنا فوجئت مثلك بالدنيا تشتعل حولي ولن أنتظر حتى أحترق!!!
رفعت رأسها لأعلى بعجز وقد أدركت عقم هذا الجدال…فزفرت هامسة:
_لا فائدة!
ثم نفضت ذراعها منه لتعاود سيرها نحو باب الغرفة ….
ثم توقفت أمام المرآة للحظة…
قبل أن تستدير نحوه لتقول بنبرتها القوية رغم مرارتها:
_هل تذكر صورتنا في هذه المرآة ذاك اليوم الذي جدلت لي فيه شعري؟!!ساعتها قلت لي أن هذه المرآة لم تحمل لك سوى صورتك وحدك طوال هذه السنوات …
أغمض عينيه بألم وهو يتذكر ما تحكي عنه….
بينما أردفت هي بنفس النبرة:
_ترى أي صورة ستحملها لك مرآتك بعد اليوم يا “سيد” عاصي؟!!
أشاح بوجهه في حسرة وكلماتها -الخبيرة ببواطنه- تخترق روحه كسهام خبيرة يعرف كل منها موضعه وأثره…
ثم انتفض فجأة مكانه على هذا الصوت جواره ….!!!
عندما قذفت هي إحدى قوارير عطرها بعنف نحو المرآة فتصدعت بخدوشها التي أصابتها كلها….
قبل أن ترمقه بنظرة طويلة ذات مغزى عقبتها مغادرتها للغرفة بخطوات ثابتة لا تعكس شيئاً من انفعالاتها الآن….
بينما ظل هو واقفاً مكانه للحظات بعد رحيلها….
قبل أن يتقدم بخطوات متثاقلة نحو المرآة التي منحته صورة مشوهة لنفسه ليست أفضل بكثير مما يرى عليه حاله الآن…
للأسف…
لقد خسر ماسته…
خسرها…فداءً لشيطانه!!!!
===============
صراخٌ …
صراخٌ…
صراخ…
ثم أظلمت الدنيا في عينيها فجأة…
قبل أن تفتحهما من جديد -بعد وقت لم تعلمه -على همسه الحار :
_رؤى…..بالله عليكِ تماسكي….افتحي عينيكِ.
تشوشت الرؤية في عينيها للحظات…
لكنها تبينت وجهه أخيراً وقد احتضن كفها بين راحتيه …
فابتسمت بوهن وعيناها تميزان الجدران البيضاء للمشفى وتلك الأسلاك الرفيعة التي اتصلت بجسدها…
بينما هتف هو بلهفة:
_أنتِ تسمعينني؟!
أومأت برأسها في ضعف…
ثم همست بصعوبة :
_اقترب!
اقترب منها بجذعه حتى كاد يلاصق وجهها لتلمح الدمع المترقرق في عينيه…
فاتسعت ابتسامتها الواهنة وهي تتعلق بنظراته لتهمس بصوتها المتقطع:
_أنا أنقذت… شرفك…. كما أنقذت أنت شرفي…فهل وفيت… ديني؟!
امتلأت عيناه بدموعه التي بللت كفها وهو يقبله بلهفة عدة قبلات متتابعة…
وقد عجز عن الكلام…
فعادت تهمس بتأثر:
_هل تبكي …لأجلي؟!
اعتصر أناملها بين كفيه مبتلعاً غصة حلقه قبل أن يهمس بخفوت شديد:
_ولمن سواكِ أفعلها؟!
فأغمضت عينيها بتعب للحظات ثم عادت تفتحهما لتلتقط نظراته التي كانت الآن تقطر عشقاً…
تشتعل بعاطفة طالما تمنتها لكنها لم تكن من حقها…
لهذا تشبثت بأنامله بضعف وهي تهمس بابتسامتها التي لم تغادر شفتيها:
_طالما كنت أسأل نفسي…ما هو الثمن الذي عليّ دفعه كي أحظى بنظرة احترام في عينيك… أنت بالذات…لو كان عمري هو المقابل فأنا راضية.
تأوه بقوة وهو يضم كفها لصدره الذي كان يضج بخفقاته…
ثم همس بحرارة:
_لقد نلتِ ما فوق الاحترام بكثير منذ زمن…ودون أن تحتاجي لثمن!
لكنها بدت وكأنها لم تفهم ما يعنيه فأسبلت جفنيها بوهن…
بينما أردف هو بهمسه المتهدج:
_استريحي الآن فقط ولا تتحدثي كثيراً.
لكنها عادت تهمس بنبرة سعادة طفولية هزمت ضعف صوتها:
_هل علمت ما حدث؟!!أنا هزمت خوفي…لم أخشَ الظلام…لم أخشَ الوحدة.
فابتسم بدوره وهو يقبل باطن كفها بعمق هامساً بتأثر:
_نعم حبيبتي…كنتِ بطلة!
_حبيبتك؟!
همست بها لا تكاد تصدق ما سمعته …
بينما أردف هو وكأنه ما عاد قادراً على كتمان شعوره أكثر:
_حبيبتي…أجل حبيبتي…حبيبتي منذ أول مرة رأيتكِ فيها…فلم أرَ بعدكِ امرأة أخرى…حبيبتي التي تعذبت بها ولأجلها…حبيبتي التي لن تغادر قلبي حتى يلفظ آخر دقاته.
قالها بعمق شعوره بها منذ عرفها…
بقوة خوفه أن يفقدها فيفقد نفسه معها…
بلهب حسرته الذي كاد يهلكه عندما علم بما حدث لها…
لقد ظن أنه نال من عذابها كفايته …
لكنه كان مخطئاً!!!
فقد كاد يفقد عقله طوال الساعات السابقة حتى استعاد خفقاته الآن عندما فتحت عينيها!!!
بينما ضحكت هي ضحكة قصيرة تبعتها آهة ألم …
ثم امتدت أناملها ببطء تحتضن وجنته لتمسح دموعه هامسة:
_تكفيني من الدنيا هذه الكلمات.
ثم أغمضت عينيها لتردف بتردد:
_هل ستصدقني لو أخبرتك …أنني أحببتك أيضاً؟!!
فتلمس جفنيها المطبقين بأنامله بين أنفاسه اللاهثة:
_افتحي عينيكِ وأنتِ تقولينها.
فتحت عينيها ببطء لترفرف رموشها للحظات قبل أن تتحرك شفتاها بها في تمتمة خافتة…
فمال عليها برفق يحتضن شفتيها بشفتيه هامساً بينهما:
_أصدقك حبيبتي…أصدقك.
تشبثت عيناها بعينيه الهائمتين ليدور بينهما حديث طويل…
عيناها كانتا مشبعتين بشعور عارم لم تعرفه منذ زمن بعيد…
شعور بالرضا…
أخيراً تحررت روحها المثقلة بذنبها لتحلق في سماوات نقية…
أخيراً نفضت عنها رداء ضعفها لتنهض من كبوتها…
أخيراً تذوقت لذة السكينة والاطمئنان بعد طول خوف ووحشة…
أخيراً!!!
بينما كانت عيناه تسردان أساطير عشق لم يعرفه إلا لها…
تلونان الهواء حولها بألوان سحرية …
وتغزلان لها ثياباً ملكية تليق بسلطانة لم يتربع على عرش قلبه سواها…
تطوقانها بحنان يزرع بين جنباتها ألف زهرة…
ويعزف ألف ألف أغنية…
لتهمس هي أخيراً بوداعتها المعهودة:
_راغب…أنا سعيدة…سعيدة جداً!
فابتسم وهو يبتعد عنها بجسده لتلاحظ تلك “اللاصقة الطبية” على ذراعه فرمقته بنظرة متسائلة…
عندها شبك أنامله بأنامله من جديد ليهمس بحنان:
_لقد اختلطت دماؤنا…
هزت رأسها بضعف فاتسعت ابتسامته وهو يردف:
_نعم…دمي الآن يسري في عروقك .
اتسعت عيناها بإدراك للحظة ثم ضغطت برفق على كفه قبل أن تغمض عينيها لتهمس بشرود:
_سبحان الله…وكأنما أراد القدر أن يتطهر جسدي من دم أفسدته خطيئته…لتحل دماؤك النقية مكانه.
لكنه قبّل ظاهر كفها بتقديس استشعرته خلاياها كلها…مع همسه الذي امتزج حنانه بصدقه:
_ولمَ لا تقولين أنها رسالةٌ لي أنا؟!!كي أدرك أنكِ صرتِ بحق قطعةٌ مني…لن أفترق عنها ولن تفترق عني.
فابتسمت وهي تفتح عينيها لترتشف من عينيه نظرة عشق أخيرة…
قبل أن تهمس بنبرة غلب ارتياحها تعبها:
_أريد أن أنام الآن…مطمئنة راضية مُرتاحة…كما لم أفعل منذ زمن بعيد.
ثم أغمضت عينيها باستسلام عامر بسكينته….
لتشعر بشفتيه تطوفان على أطراف أناملها بتبتل عاشق…
جعلها تشعر وكأنها عادت طفلة تتأرجح بسعادة فترتفع ساقاها تكادان تلامسان السماء …
ما أجمل الشعور بالطهر بعد الدنس…
بالأمن بعد الخوف….
بالبعث بعد طول عدم…

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى