روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان البارت السادس والثلاثون

رواية ماسة وشيطان الجزء السادس والثلاثون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة السادسة والثلاثون

الخاتمة

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا
==============
*بعد ثمانية أشهر من الأحداث السابقة*
=================
_حمداً لله على سلامتك يا “زوزو”!!!
هتف بها معتصم بترحاب حقيقي وهو يضم والدته لصدره في المطار…
فابتسمت المرأة وهي تحتضنه بدورها قبل أن تلتفت لدعاء لتهتف بنبرتها الطيبة:
_اتركني يا “ولد” …أريد أن أضم ابنتي!
ضحكت دعاء بمرح وهي تستسلم لأحضان المرأة الطيبة للحظات…
قبل أن تقول بصدق:
_افتقدناكِ يا أمي!
ربتت المرأة على ظهرها بحنان قبل أن تمضي في طريقها معهما نحو سيارة معتصم بالخارج…
لتقول بسعادة مشوبة بحنانها:
_بارك الله لك ياابني…السيارة جميلة جداً.
فابتسم معتصم وهو يفتح لها الباب المجاور للسائق ليقول بمرح:
_وددت لو تكوني أول من يركبها يا زوزو…لكن لا بأس…ملحوقة!
ضحكت المرأة ببشاشة وقد انطلق لسانها بالدعاء له…
فيما تأملتهما دعاء من مقعدها الخلفي وهي تشعر بالفرحة المنغمسة بالأمان…
لقد بدأت ظروف معتصم تتحسن تدريجياً…
اشترى هذه السيارة بالتقسيط ولم يكد يدخر مبلغاً مناسباً حتى أرسل في طلب أمه لزيارته هنا أولاً قبل أن يصطحبها لآداء فريضة الحج…
يومها أخبر دعاء أنه كان نذراً عليه وجب قضاؤه…
وها هو ذا يوفيه!!
ابتسمت بحنان وهي تراقب مشاكسته الودود لوالدته طوال الطريق…
قبل أن تفتح حقيبتها لتنظر بداخلها لتلك “القابعة” في حافظتها الجلدية…
أجل…نظارتها السوداء!!!
ورغم أنها لم تعد ترتديها منذ طلب منها معتصم هذا لكنها تحتاج لنظرة إليها من آنٍ لآخر…
كي تذكّر نفسها بعهدها الجديد…
وحسن ظنها في موعود السماء للصابرين!!!
وكم تحتاج لهذا الآن بالذات…
انقطعت أفكارها عندما وصلت بهم السيارة لبيتهم البسيط…
ليصعدوا جميعاً لشقتهم الصغيرة تحيطهم دعوات الأم ومباركاتها التي انتهت بقولها:
_وليد يبلغك السلام…كان يتمنى لو يجئ معي لكن ظروف دراسته لم تسمح.
فضحك معتصم ليقول بحنان:
_الزيارة القادمة ستكون له…دعيه فقط يركز في مذاكرته!
عادت المرأة تدعو لهما معها بالخير والبركة…
فدفعها برفق للغرفة الوحيدة في الشقة ليردف :
_بدلي ملابسك حتى نعد الطعام.
ثم غمزها بمكر قائلاً:
_دعاء أعدت لك “ملوخية ” ب”الأنارب”!
ضحكت والدته ضحكة عالية قبل أن توكزه في كتفه لتهتف :
_اشتقت مشاكستك يا “ولد” …هل تعلم إني لم أطبخها منذ سافرت أنت…قلبي لم يطاوعني!
فاحتضنها بقوة ثم قبل رأسها ليقول بحنان:
_أعلم يا “ست الكل”…أعلم!
وبعد الغداء الذي كان عامراً بمشاعر الود بين ثلاثتهم استأذنتهما والدته للنوم في غرفتها…
فيما تمدد هو جوار دعاء على الأريكة الجانبية في الصالة الصغيرة ليقول بصوتٍ غلبه إرهاقه:
_لا بأس…أعرف أن الشقة ضيقة …لكنني أعدك عندما تتحسن الأحوال أن نؤجر شقة أكبر.
ابتسمت وهي تربت على كتفه بمؤازرة…
كم تود لو تساعده بمالها لكنه يرفض…
عرضتها عليه مرة وأبت بعدها ألا تكررها لمّا رأت مزيج المرارة والغضب بعينيه…
معتصم عزيز النفس جداً فيما يتعلق بأمر “المال ” هذا…
ورغم أنها كانت تضيق بهذا حقاً لكن هذا الأمر جعله يكبر في عينيها أكثر!!!
ورغم أن حياتها المترفة مع حسام برونقها وزخرفها البراق كانت مبهرة…
لكن حياتها الكادحة مع معتصم لها مذاق آخر…
شتان بين قشرة زائفة وجوهر نفيس!!!
حياتها مع حسام كانت قائمة على المظاهر وكلام الناس لهذا لم تصمد أمام أول اختبار…
أما حياتها مع معتصم فهي مشاركة حقيقية …
على “الحلوة” و “المُرة” كما يقولون!!!
لكنه قطع أفكارها عندما التفت نحوها ليقول بعتاب:
_ألم أطلب منكِ ألا ترتدي “عدستك” في البيت؟!أريحي عينك!
فاتسعت ابتسامتها وهي تقول ببعض الحرج:
_لأجل وجود والدتك فحسب!
هز رأسه رافضاً وهو يقول باعتراض:
_أمي تعلم ظروفك جيداً…ولا أريدك أن تشغلي بالك بهذه الحساسيات!
تنهدت بحرارة وهي تشيح بوجهها دون رد…
قبل أن تعاود التفاتها نحوه لتقول ببعض التردد:
_والدتك كلمتني بشأن موضوع الإنجاب مرة أخرى عندما كنا وحدنا في المطبخ!
مد ذراعه جواره ليضمها إليه برفق مع ابتسامة رفيقة ناقضت قوله المشاكس:
_لعلها ألانت رأسك الصلب هذا!!!
رفعت إليه عينيها بنظرة حائرة وأناملها تتحسس صورة والديها في سلسلة عنقها دون رد…
هذا هو الأمر الذي يشغل بالها منذ أيام…
هي كانت قد اتفقت معه أن يؤجلا موضوع الإنجاب هذا حتى تتحسن ظروفه المادية…
وقد صادف هذا هوًى لديها وهذا الأمر -بالذات- يؤجج مخاوفها القديمة…
نعم…بقدر ما تتمنى طفلاً من الرجل الذي أحبته بكل جوارحها …
بقدر ما تخشى أن يرث أطفالها مرضها ومعاناتها!!!
الآن فقط جربت شعور والديها …
خوفهما وقلة حيلتهما…
ألمهما الصامت وسط ظلم مجتمع لا يد لهما فيه!!!
لكن معتصم عاد يفتح معها الأمر من جديد ليطلب منها زيارة الطبيبة زاعماً أنه قد آن الأوان لهذا!!!
فهل تراه قد آن الأوان حقاً؟!
_أنا أعلم بماذا تفكرين!
قالها وهو يضمها إليه أكثر قبل أن يحتضن عينيها الحائرتين بنظراته العاشقة مع استطراده:
_لا تخافي…هو قدرنا الذي سنتقاسمه تحت أي ظرف…أنا واثق أن سعادتي التي بدأت بكِ لن تنتهي أبداً.
تأوهت بخفوت وهي تخفي وجهها في صدره لتهمس برهبة خفية:
_خائفة!
ثم ابتلعت غصتها لتهمس:
_أخاف أن يكون هذا ابتلائي الجديد…أخاف أن أقدم للدنيا دمية معيبة أخرى يقذفونها بألسنتهم ونظراتهم الجارحة…أخاف أن يجبرني حبي لها أن أظلمها بدعوى أني أخاف عليها!!
_لن تفعلي!
همس بها قاطعة في أذنها وأنامله تلملم خصلات شعرها المتهدلة على وجهها…
وتلملم معها شعث أفكارها المتخبطة…
لتأتيها كلماته بطيئة…واثقة…مفعمة بالأمل واليقين:
_كوني واثقة من لطف السماء كما عهدتك…هل تذكرين رؤياكِ التي حكيتِ لي عنها؟!قلبي يخبرني أن طفلنا سيكون سليماً معافًى…وأن الله لن يجزيكِ على صبرك إلا خيراً!
رفعت إليه نظراتها الظمآنة وهي تشعر بحاجتها لأن تسمع منه هو بالذات هذا الكلام…
بينما استطرد هو بنفس النبرة الواثقة:
_وحتى لو حدث ما تخافين منه…ما يضيرنا لو قبلنا قضاءنا برضا؟!
ثم قبل جبينها بعمق ليردف:
_يزعمون أن فاقد الشئ لا يعطيه…لكنهم لا يعلمون أن من فقد هو أقدر الناس على منح ما افتقده …لهذا أنا أثق أنكِ ستكونين أماً رائعة على كل حال!!
دمعت عيناها بتأثر وأناملها تتشبث بقميصه تطلب منه الدعم…
معتصم لم يخيب ظنها فيه…
حبه لها جعلها أقوى في مواجهة مصيرها…
حتى نوباتها قلت وتيرتها كثيراً مع استقرار حالتها النفسية …
ربما هو على حق…
الحِمل يقل كثيراً عندما نقتسمه مع من نحب!!!
وبهذا الخاطر الأخير عادت رؤياها -القديمة – تملأ ذهنها لتملأ قلبها نوراً على نور…
فتختفي هواجسها رويداً رويداً…
مع تلك السكينة التي ملأتها وهي تهمس أخيراً بيقين:
_معك حق…غداً نذهب للطبيبة قبل سفركما للحج…عسى الله أن يتم علينا فضله!
======
_لماذا تأخرتِ؟!
قالها جهاد بابتسامته الآسرة هو يواجهها ببصره متفحصاً بعد انتظار طال في المتنزه الذي يلتقيان فيه…
فتنحنحت بحرج وهي تتحاشى النظر نحوه مع قولها بارتباك:
_حمداً لله على سلامتك!
اتسعت ابتسامته وهو يراقب ارتباكها برضا قبل أن يقول ببطء مشاكس:
_افتقدت…كتاباتك!
رفعت عينيها إليه بحذر وقلبها يخبرها أنه يعني ما يفوق عبارته بكثير…
لتستعيد بذهنها ذاك اليوم الذي التقته فيه هنا عقب قراءته لروايتها بصيغتها الأولى
يومها تأخرت عليه أيضاً…لكن السبب كان مختلفاً!!!
فقد كانت تجرب كل الثياب في خزانة ملابسها…
قبل أن تستقر أخيراً على واحد!!!
كما أنها تفننت في تزيين وجهها بمساحيقها لتجرب عدة مرات…
قبل أن تغسل وجهها بعدها وقد قررت الاستماع لنصيحة جنة التي نصحتها بها يوماً في موقف مشابه !!!
لتذهب إليه كما اتفقا فيفاجئها برأيه الصريح في كتاباتها:
_يقولون إن الكاتب يترك جزءاً من روحه في كتاباته….لكنني لم أجدكِ وسط كل هذا!!
رفعت إليه عينين خجلتين وهي تهمس ببعض الخزي:
_لم تعجبك؟!
فالتمعت عيناه ببريق استكشاف وهو يقول بمكر:
_لم أقل إنها لم تعجبني…قلت…لم أجدك فيها!!
عقدت حاجبيها بتساؤل زاد من براءة طلتها الطفولية…
فابتسم وهو يقلب في الأوراق ليقول بجدية هذه المرة:
_أفكارك مبعثرة…تارة أشعر فيها بالقوة…وتارة أراها بمنتهى الضعف…أحياناً شديدة الرقة حد الحالمية…وأحياناً شديدة الجفاء حد القسوة…حتى بطلات قصصك مثلك…مذبذبات!
احمرت وجنتاها بخجل وهي تشبك أناملها على الطاولة لتقول مطرقةً برأسها:
_أنا حقاً كذلك…وهذا ما يضايقني في نفسي كثيراً…سريعة الانبهار دائمة التقلب كثيرة الخطأ…ربما…لأن نشأتي كانت منغلقة…ثم وجدت نفسي فجأة مضطرة للتفاعل مع هذا العالم وحدي!
فبدا وكأنه وجدها فرصة سانحة ليتعرف على المزيد عنها…
عندما ضاقت عيناه بمزيد من التفحص وهو يقول بنبرة ودود:
_هلّا حدثتني عنكِ أكثر!!
وقد كانت هذه بداية حديث طال بعدها لساعتين…
كانت تتحدث فيهما دون توقف وكأنها كانت تنتظر هذا الاهتمام…
وكذلك هو الذي بدا مستمتعاً لأقصى حد بحديثها الطفولي البرئ المطعم بعاطفتها النقية نحوه…
حتى انتبهت هي لمرور الوقت فانتفضت واقفة مكانها لتقول بأسف:
_ الوقت سرقنا…مضطرة للانصراف الآن!
ولم يكن هو بأقل منها أسفاً وهو يناولها أوراقها ليقول بنبرة شابها بعض الضيق:
_أنا مضطر للسفر لعدة أشهر.
انقبض قلبها لعبارته وقد ساءها أن باب “الأمل” الذي انفتح أخيراً معه يوشك أن يُغلق…
لكنه منحها أجمل ابتساماته وهو يقول بما يشبه الوعد:
_سأهاتفكِ عندما أعود…أتمنى وقتها أن تكوني قد أعدتِ صياغة روايتك كي تكون أكثر توازناً…راسليني عبر الايميل .
ثم وقف مكانه بدوره ليقابلها بعينيه اللتين توهجتا بزرقتهما الصافية مع استطراده بنبرة ذات مغزى:
_أريد أن أراكِ أنتِ فيها…وقد رست نفسكِ على شاطئ واحد!
أومأت برأسها إيجاباً وهي تنسحب من أمامه بخطوات متثاقلة …
ثم التفتت نحوه برأسها لتمنحه نظرة طويلة حملت كل مشاعرها قبل أن يختفي عنها طوال هذه الأشهر!!!
_فيمَ شردتِ؟!
انتزعها سؤاله من ذكراها فابتسمت ابتسامة أكثر ثقة وهي تهز كتفيها مع قولها:
_لا شئ…فقط تذكرت رأيك الأول في كتاباتي!
فابتسم بدوره وهو يعود بظهره للوراء على كرسيه ليقول وهو يقرأ ما أرسلته له عبر البريد الاليكتروني:
_لم أقرأ سوى خمس فصول…تطور ممتاز!
ثم صمت لحظة ليشير نحو إحدى صفحاتها مردفاً:
_هذه الخواطر…بها سحر خاص!
أنا لا أحبك كالأخريات…
أنا لا أتاجر بالحديث …
ولا أبيع الأغنيات…
أنا لا أبدل الأثواب…
كي أبدو أحلى البنات…
لكن أمشط ب-الحب- شعري..
وأطلي بسحر البراءة ثغري…
ولا أمل الأمنيات…
وإن طاف قلبي يوماً ببابك..
سأهمس أحبك…بلا كلمات!!!
أنا لا أريدك دمية…
تلهو معي…ألهو بها…
لكن أريدك قصة …
أزهو بها…
أحيا بها…
نعم أريدك عالماً خلف السحاب والنجمات…
أريدك طيفاً يلملم حزني…
وأجمع فيه كل الصفات…
أريدك حباً يُكذّب من قال
“هذا الزمان بلا معجزات”!
أريدك صبحاً وسكناً …وحلماً…
لا تزاحمني به …أخريات!!!
اتسعت ابتسامتها التي حملت قدراً أكبر من الثقة وهي تسمعه يقرأ كلماتها بصوته العذب…
لتقول برضا:
_صديقتي الكاتبة أيضاً ترى هذا…الشهور الماضية كانت محطة فاصلة في حياتي…أحياناً نحتاج لوقفة مع النفس نحدد فيها هدفنا قبل أن نكمل طريقنا على أرض صلبة.
أمال رأسه بتفحص وهو يسألها باهتمام:
_وماذا حدث بالضبط في الأشهر السابقة؟!
أطرقت برأسها دون رد وهي عاجزة عن أن تشرح المزيد…
لقد كانت خطوة ابتعادها عن العمل معه نافعة حقاً…
ليس فقط لأنها جعلتها تدرك عمق مشاعرها نحوه لكن لأن تركيزها في بقية تفاصيل حياتها صار أقوى…
صارت أكثر مهارة في عملها الجديد…
وأكثر اهتماماً بنفسها…
وهو ما كانت تحتاجه لتستقر شخصيتها المذبذبة أكثر…
خاصةً مع طيف الأمل الذي عاد يلون سماءها بألوان قوس قزح مع عودة جهاد ب-نظرته الجديدة- إلى حياتها!!!
ولما طال صمتها أمامه احترم تحفظها في الحديث فتجاهل سؤاله وهو ينقر بأصابعه على المائدة للحظات…
ثم قال بشرود:
_أنا الآخر تغيرت حياتي كثيراً في الأشهر الماضية…لقد حرصت أن أستفيد من سفري الطويل هذا للخروج من دائرة ماضٍ كنت أدور فيها بلا ملل.
قالها وهو يتذكر حديث صديقه وقبله حديث ماسة عن كونه مجرد سجين!!!
ذاك السجن الذي حاول العبور عبر قضبانه مؤخراً ليدرك ما بقي من عمره…
ولو أن ماضيه سيبقى حياً بين ضلوعه أبد الدهر يدعو الله في كل ساعة أن يرده لحضن وطنه…
لكنه تعلم أن الحياة لا تتوقف…بل تستمر!!!
لهذا عاد يبتسم أخيراً وهو يتلقف نظراتها الحنون المشبعة بعاطفتها قائلاً بصدق وجد صداه في قلبها:
_تعلمين أنكِ أول من فكرت في رؤيته عقب عودتي؟!
_أنا؟!
هتفت بها في لهفة مشوبة بخجلها وقد عاد إليها نزقها القديم وغلب طبعها تطبعها!!!!!!
فأطلق ضحكة صافية وهو يشعر أن تعابيرها تروقه لأبعد حد…
يقولون إن الرجل يزهد المرأة التي يشعر بعاطفتها نحوه…
لكن…ليس هو!!!
هو الذي افتقد دفء الوطن والأهل لسنوات ويحتاج لمن يشعر بعاطفته بصدق دون زيف!!!
أما هي فقد ازداد ارتباكها الذي وصل حد الحرج وهي تشعر بنفسها تعود لضعفها القديم معه…
ولما أشفق عليها من هذه المشاعر التي كانت ساطعة على ملامحها كالشمس …
تنحنح بخفة ثم قال ببعض المرح:
_أنتِ وأولاد صديقي هؤلاء!
ابتسمت وهي تلتفت خلفها حيث أشار لثلاثة أطفال في أعمار متقاربة أتوْا عدواً إليهما الآن مع رجل بدا وكأنه والدهم …
ليتلقفهم جهاد بأحضانه وضحكاته التي امتزجت بضحكاتهن…
وضحكاتها هي أيضاً!!
بينما تقدم منهم صديقه ليرمق زهرة بنظرة متفحصة قبل أن يغمز لجهاد خفية في إشارة ذات مغزى!!!
ثم ألقى السلام ليجلس معهم على المائدة…
عندما تقدم منهم النادل ليسألهم عما يطلبونه:
فقال جهاد وهو يدور بعينيه بينهم:
_المثلجات للأطفال…مع فنجان قهوة…
ثم استقرت عيناه على زهرة بقوله :
_وكوبان من الشاي الأخضر!
ابتسمت بخجل وهي تطرق برأسها بينما نقل صديقه بصره بينهما ليقول بتخابث:
_قليل الذوق!ألا تسألها أولاً؟!
لكن جهاد ابتسم وهو يواجهها بنظرته العميقة ليقول بنبرة ذات مغزى:
_أنا أعرف ماذا…تحب!!
=========
_السلام عليكم!
هتف بها عبد الله كعادته وهو يعود لبيته بعد صلاة العشاء لتستقبله صفا بحنانها الدافق مع همسها وهي تتعلق بعنقه:
_وعليكم السلام …تأخرت اليوم يا عبد الله!
ضمها إليه بأحد ذراعيه برفق ثم ربت على وجنتها قائلاً:
_كنت أشتري لمحمد حاجيات الدراسة!
قالها وهو يرفع ذراعه الآخر بما يحمله من أكياس ضخمة…
فدمعت عيناها رغماً عنها وهي تتوجه ببصرها نحو غرفة فتون هناك لتهمس بصوت خفيض:
_لقد نام اليوم مبكراً.
أومأ برأسه وهو يضع ما بيده جانباً …
قبل أن ينتبه لتلك الدموع التي تحجرت في عينيها فانعقد حاجباه بقلق مع سؤاله:
_ما الأمر يا صفا؟!
قالها وهو يتلفت حوله بحثاً عن فتون لكنه كان يعلم أنه لن يجدها كعهدها كل ليلة…
تغلق على نفسها باب غرفتها كي تمنح صفا “خصوصية” استقباله!!!
لكن دموع صفا الغريبة هذه لا ريب إنها تخصها…
ترى هل بدأ الشجار بينهما كما كان يترقب منذ وافق صفا على قرارها بالجمع بينهما؟!!!
لكن صفا جذبته من ذراعه برفق إلى غرفتها التي أغلقت بابها خلفها …
قبل أن تداعب لحيته بأنامله بحركتها الحانية لتهمس باسمه بصوت مختنق…
فازداد انعقاد حاجبيه وهو يحتضن خصرها بكفيه مع تساؤله بجزع:
_ماذا بكِ؟!تبدين حزينة!
_بل سعيدة…سعيدة جداً يا عبد الله!!
تهدج بها صوتها حد البكاء الذي كتمته بصعوبة ليهز هو رأسه بانفعال…
فتطلعت هي لعينيه طويلاً قبل أن تهمس:
_فتون…حامل!!
قالتها ثم ارتمت بين ذراعيه لتضمه بكل قوتها…
ذراعاها كانا يتشبثان به تشبثها بالحياة نفسها!!!
ورغم أن جسدها كان يرتجف بقوة بكائها الصامت لكن أناملها كانت منغرسة في قماش قميصه بثبات راسخ…
وكأنها تخشى فقده!!!
وأمامها كان هو عاجزاً عن الرد إلا من ضمته العنيفة لها وهو يحتوي وجهها في صدره…
ليصمت طويلاً وهو يستعيد ما حدث خلال الأشهر الماضية…
وبالذات منذ أخبرته عن شرطها الغريب لتعود إليه!!!
غريب؟!!!
وأي غرابة!!!
لقد تصورها يومها قد أصيبت بالجنون وهي تطلب منه أن يجمع بينها وبين فتون في بيت واحد!!!
لم تستطع كشف ما دار بينها وبين فتون في زيارتها الأخيرة احتراماً لسرها… لكنها اكتفت بعبارتها :
_أريد أن أربي أطفالك بنفسي يا عبد الله!!
يومها لم يستطع النوم وهو لا يكاد يصدق ذاك التغيير الذي طرأ على شخصها -ذي الكبرياء-
ظنها تختبر حبه لها وتمسكه بها…
لكن لقاءاته المتكررة لها بعدها أكدت له جديتها…
حتى أتم زواجه بها من جديد ليفاجأ بها تطلب منه أن يقسم أيام مبيته بينها وبين فتون!!!
ليلتها فكر أن يصارحها بحقيقة أمره معها…
أن يعلن لها أنه لم يستطع أن يمس امرأة سواها…
أن يخبرها أن قلبه لم يزل على عهده…
لكنه لم يفعلها!!!
لماذا؟!
ربما هو شئ بداخله كان يخشى من تجبر صفا على شخص فتون الضعيف لو عرفت عن هذا…
وربما هي خشيته من ألا تصدقه…
وربما لأنه كان -يشك – بشعوره العارم بها أنها …تعرف الحقيقة أصلاً ولهذا قبلت العودة!!!
لهذا صمت طويلاً يومها دون رد…
حتى فوجئ بها في اليوم التالي تدفعه بنفسها نحو غرفتها!!!
ليلتها كاد يجن من فرط إحساسه بمزيج الذنب والعجز وهو يشعر بنظرات فتون الحائرة بين خجلها وعزة نفسها!!!
لكنه -ومع هذا- لم يستطع أن يمسها تلك الليلة أيضاً!!!
ثم دارت الأيام دورتها لتؤلف بين القلوب…
يوماً بعد يوم..
وساعةً بعد ساعة…
و-مع شعوره الذي ازداد يقينه به أن صفا راضية حقاً بمصيرهم الجديد –
تشقق جدار عزلته عن فتون رويداً رويداً…
حتى تصالح جسده مع قلبه ليتقبلها أخيراً فمنحها -حقها المسلوب- الذي طالما ضيعه!!!
سعيد؟!!
يكذب لو قال أنه كذلك!!!
وهل لزوج “اثنتين” سعادة؟!!
إنه يشعر وكأنه يسير على حد السيف محاولاً العدل بينهما…
وأنّي له هذا؟!!!
لكنه راض!!!
راضٍ بقسمة قدره التي ارتضت له هذا الوضع…
راضٍ بعودة صفا إلى حضنه…
وبرّه بقسمه لفتون واحتفاظه بمحمد “معجزة السماء” كما تحلو له دوماً مناداته!!!
لهذا تنهد أخيراً باستسلام وهو يرفع وجه صفا إليه ليهمس بصوت مختنق:
_تكلمي يا “صفا روحي”…لا تجملي حديثاً ولا تدّعي فرحة…صارحيني بجرحك يا رفيقة العمر.
لكنها مسحت دموعها بأناملها وهي ترفع عينيها إليه لتهمس بابتسامة حقيقية وسط كل هذه الدموع:
_ولأنني رفيقة العمر…فأنا سعيدةٌ لأجلنا معاً…أولادك سيكونون أولادي…أنا سأربيهم هنا تحت عيني…سينادونني “أمي” كما يفعلون مع فتون…اعذرني على هذه الدموع …أنت تعلم كم تمنيت هذه اللحظة طوال عمري…أن..
انقطعت عبارتها بآهة ألم طويلة وهي تعاود إخفاء وجهها في صدره …
فضمها بقوة أكبر وهو يهمس بألم:
_يشهد ربي إنني ما تمنيت الولد إلا منكِ أنتِ…أنتِ نعمتي الكبرى .
ظلت تخفي وجهها في صدره لدقائق طالت…
تستمد من حضنه الدافئ أمان عمرها القادم…
عبد الله سيبقى “ابن قلبها” وهي ستبقى “صفا روحه” …
هذه هي الحقيقة الثابتة التي قد تدور في فلكها أي حقيقة أخرى!!!
هي لا تكذب في فرحتها لأجله ولأجل فتون…
أجل…رغم أنياب غيرة -ليس لها فيها يد- تنهش قلبها بضراوة…
لكن الله -بلطفه- أنزل عليها في هذه اللحظات برداً وسلاماً وهي ترى -بعين خيالها-طفله القادم بين ذراعيها…
هي أول من يحمله ويكبّر في أذنيه…
بل …وربما تسبق أمه في تقبيله!!!
هي من ستربيه في حضنها ليكون لها ابناً طوال العمر!!
من قال إن الأم فقط هي من تحمل وتضع ؟!!!
الأم هي التي تحنو وتربي و ترعى…
وهي ستكون أماً لأولاد عبد الله كما هي أم لجميع أولادها في المدرسة!!!
لهذا عادت ترفع عينيها إليه أخيراً بابتسامة راضية هذه المرة …
وهي تسحب أناملها من تشبثها السابق على خصره لتربت بها على صدره مع همسها الحاني الذي لا يجيده مثلها:
_مبارك يا “ابن قلبي”!
دمعت عيناه بتأثر وهو يستشعر صدق فرحتها بالخبر!!
قبل أن يفاجئها بفعلٍ لم تتصور يوماً أن يصدر منه هو بالذات…
لقد قبّل يدها!!!
الشيخ عبد الله بكل كبريائه فعلها!!!
بل إنه لم يرفع أناملها إلى شفتيه بل انحنى بجذعه نحوها لتمنحها شفتاه قبلة امتنان عميقة…
قبل أن يعاود رفع عينيه إليها مع همسه:
_لا كلام لديّ كي أقوله لكِ…لكنكِ تشعرين بي كعهدك…صحيح؟!
أومأت برأسها إيجاباً وهي تعانق عينيه بمشاعرها الصادقة…
لتهمس أخيراً بما يشبه الرجاء:
_اذهب الآن لفتون وشاركها فرحتها بالخبر…هي تشعر بالحرج منذ أخبرتني.
فانعقد حاجباه بضيق وهو يغمغم باعتراض:
_لكن…
فوضعت أناملها على شفتيه تقاطعه وهي تغمض عينيها بقوة مع همسها الذي حمل ألمها رغماً عنها:
_فقط…أحضر محمد لينام معي الليلة…أنا لا أحتاج إلا هذا!
طال صمته الواشي برفضه وهو يشفق عليها من وحدتها هذه الليلة بالذات…
لكنها فتحت عينيها أخيراً لتهمس بحزم أقوى:
_صدقني يا عبد الله…محمد هو من أحتاجه الآن!
رمقها بنظرة متفحصة طويلة ثم تردد قليلاً مع همسه :
_دعيني معكِ هذه الليلة بالذات.
فابتسمت وهي تبتعد عنه مع قولها :
_فتون تحتاجك لتطمئنها على مستقبلها معنا…أما أنا فمطمئنة تماماً!
أشاح بوجهه في عدم اقتناع وقلبه لا يطاوعه في تركها…
لكنها عاودت رجاءها لبضع مراتٍ أُخَر…
حتى أومأ برأسه أخيراً في استسلام…
قبل أن يذهب لغرفة فتون حيث حمل محمد النائم بحذر ليضعه على فراش صفا التي تمددت جواره لتهمس بخفوت:
_أطفئ الأنوار كي لا يقلق …ودعني معه.
صوب نحوها نظرةً أخيرة حملت كل مشاعره من عشق وامتنان وإشفاق…
وألف ألف وعد ألا يخذلها يوماً!!
ثم ترك الغرفة بخطوات متمهلة ليطفئ الأنوار كما طلبت متوجهاً لتلك التي تنتظره بقلقها هناك!!!
بينما أخذت صفا نفساً عميقاً وشيطانها يغذي خيالاتها بأفكار سوداء عن مستقبلها هنا بعد هذه التطورات الجديدة…
لكنها زفرت زفرة قصيرة ثم استغفرت الله بخفوت…
قبل أن تميل بوجهها نحو الصغير النائم بملامحه الملائكية…
لترتسم على شفتيها ابتسامة حانية وهي تضمه بين ذراعيها برفق لتشرد ببصرها في الفراغ للحظات…
قبل أن تهمس لنفسها بشجن:
_صافي عادت يا أنس…عادت لنفسها كما كنت ترجو…تضحيتك لم تضِع هدراً!!
وفي غرفة فتون وقف عبد الله أمامها بابتسامة هادئة ليشملها بنظرة عطوف مع قوله:
_مبارك!
تقدمت نحوه ببطء وهي تتعلق بعينيه محاولةً قراءة مشاعره الحقيقية قبل أن تهمس بنبرتها الوديعة:
_سعيد يا شيخ؟!
ربت على كتفها برفق ثم مال على رأسها بقبلة قصيرة قبل أن يهمس برضا:
_الحمد لله رب العالمين.
فدمعت عينا بقوة انفعالها وهي تسأله بحذر:
_وسيدتي صفا؟!
تنهد بعمق وهو يبتعد عنها بضع خطوات ثم أعطاها ظهره ليقول بنبرة شاردة:
_ألم تطلب هي منكِ ألا تناديها ب”سيدتي” هذه؟!
فاقتربت منه لتقول بطيبة لا تدعيها:
_لآخر يوم في عمري سأناديها هكذا…ليس فقط لأجلها بل لأجل أن أذكر نفسي بصنيعكما معي!
التفت إليها من شروده بابتسامة متعجبة…
لا يصدق أن الله قد ألف بين قلبيهما هكذا!!!
لكن هذا لم يمنع سؤاله المتردد لها:
_ألا تشعرين بالغيرة منها؟!
أطرقت برأسها للحظات ثم رفعت إليه رأسها بإجابتها المقتضبة:
_جداً!
ارتفع حاجباه بدهشة للحظة من صراحتها المناقضة لقولها السابق…
لكنها أشاحت ببصرها لتقول بهدوء لم يُخفِ مرارتها:
_أغار منها وأعرف أنها تغار مني…هذا أمر طبيعي…لكنني أعرف كما تعرف هي أنك لن تظلم واحدة منا.
تنهد في حرارة وحديثها يضغط على أسوأ مخاوفه…
ليته حقاً يستطيع العدل بينهما!!!
لكن فتون شعرت أنها ربما قد تكون قد تجاوزت في حديثها معه هكذا…
خاصةً مع هذا الحزن الذي كسا ملامحه فجأة!
فاقتربت منه أكثر لتقول مغيرة الموضوع:
_تريد أخاً لمحمد…أم تفضل أن تكون فتاة؟!
وكأنما انتزعته عبارتها من أفكاره فجأة لتلونها ببعض البهجة وهو يحلم بهذه اللحظة…
فابتسم ابتسامة حقيقية هذه المرة وهو يلتفت نحوها ليقول بعفوية:
_فتاة تشبهكِ ستكون كارثة…لن أدعها تخرج من باب البيت!
اتسعت عيناها للحظة وهي تسمعها منه بهذه البساطة…
لقد كانت أول عبارة غزل تسمعها منه!!!
ورغم أنها توقن من شدة جمالها الذي طالما أثنى عليه الناس…
لكن سماعها منه شأن آخر!!!
لهذا خفق قلبها بجنون مع احمرار وجنتيها وهي تطرق بوجهها دون رد…
فيما ابتسم هو لخجلها ليهمس أخيراً بحنان:
_أنتِ طيبة حقاً يا فتون…محظوظٌ أنا بك!
================
_هل تذكرني يا شيخ؟!
قالها عبد الله لذاك الشيخ الذي التقى به ليلة زواجه بفتون…
تلك الليلة التي قضاها هائماً في الشوارع قبل أن تسحبه قدماه لذاك المسجد الذي أدى فيه صلاة الفجر ليقسم له القدر لقاءه بالشيخ الذي أراحه حديثه وقتها كثيراً…
والذي استقبله الآن ببشاشة عقب صلاة الفجر أيضاً هذه المرة ليقول بنبرة ودودة:
_وهل يُنسَى الصالحون مثلك يا ابني؟!
ابتسم عبد الله بهدوء عندما ربت الشيخ على كتفه ليردف:
_لماذا لم تأتِ من يومها؟!يعلم الله أنك كنت تخطر على بالي كثيراً وكنت أدعو لك !
اتسعت ابتسامة عبد الله وهو يدعو له بدوره جهراً…
عندما اقترب الشيخ منه بجلسته على أرضية المسجد ليسأله باهتمام:
_ماذا جدّ في أمرك يا ابني؟!
تنهد عبد الله بحرارة ثم مضى يحكي له تطورات قصته الأخيرة…
بداية من زواج صفا بأنس ثم موته وعودة صفا إليه مع شرطها الغريب …
وانتهاء بخبر حمل فتون الذي جدد المياه الراكدة…
والذي يخشى منه على استقرار حياته مع صفا!
كان الشيخ يستمع إليه باهتمام وهو يبتسم ابتسامة هادئة حتى انتهى عبد الله بقوله :
_لقد تغيرت هي كثيراً يا شيخ…كما أنها الآن تعيش في بيتي أنا…أنفق عليها من حُرّ مالي…ولا تدري كم صار يعني هذا لي!
اتسعت ابتسامة الشيخ وهو يقول بتعقل:
_أنت أيضاً تغيرت…زواجها من رجل آخر جعلك تدرك قيمتها الحقيقية…قهر شيطان نفسك الذي كان ينتقص من صورتها في عينيك…روض جموح تهورك وطبعك الانفعالي …ولعل هذه حكمة المولى عز وجل في تحريم المرأة على زوجها بعدالطلاق الثالث وعدم جواز ردتها إليه إلا بعد زواج آخر صحيح!
فهز عبد الله رأسه مؤيداً وهو يقول بانفعال:
_مهما وصفت لن أستطيع أن أشرح لك قسوة شعوري بهذا الأمر…نارٌ تشتعل بصدري كلما تذكرت…
ثم تأوه بخفوت ليردف:
_الحمد لله رب العالمين…عسى أن يكون هذا تكفيري عن ذنبي معها!
ربت الشيخ على كتفه وهو يدعو له بالهداية…ثم سأله متفحصاً:
_لكن مجيئك اليوم هنا له سر….صحيح؟!
صمت عبد الله لبضع لحظات ثم أومأ برأسه ليقول أخيراً بنبرة مُتعَبة:
_خائف!
عقد الشيخ حاجبيه بتساؤل فيما أردف عبد الله بنفس النبرة:
_خائف ألا أعدل أنا بينهما…لقد قسم القدر بينهما بالعدل…إحداهما معها قلبي والأخرى معها ولدي…وأخشى أن أظلم إحداهما بما ينقص الأخرى!
ثم ابتسم ليقول بسخرية:
_الناس يحسدونني!!الشيخ المحظوظ تزوج من اثنتين…ولا يدركون أي صراعٍ أعيشه معهما!!
أومأ الشيخ برأسه متفهماً ثم قال برفق:
_الله سبحانه وتعالى لم يشرع التعدد للرجال مزيةً وتفضيلاً …بل من باب القوامة …وأنت لم تختر هذا الوضع بل فرضته عليك الظروف…ولعلها حكمة القدر لتكون لك ذرية صالحة تعمر الأرض.
فشبك عبد الله أنامله وهو يقول بتخوف:
_أنت تعرف الحديث الشريف …”من كان له زوجتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقّه مائل”…وأنا جربت مرارة العقاب على التفريط بالحرمان.
فابتسم الشيخ وهو يرد برفق:
_والله سبحانه وتعالى يقول”ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”…فكيف يعاقبك وهو الذي يقرر أن العدل مستحيل؟!!
انعقد حاجبا عبد الله باهتمام وهو يقول:
_صحيح يا شيخ!!أنا لا أفهم هذه النقطة…كيف يشرع الله التعدد ثم يقضي بعقاب من لا يعدل…وهو عز وجل الذي يقول أننا لن نعدل!!!
اتسعت ابتسامة الشيخ وهو يقول مفسراً:
_العدل المقصود هنا يا ابني هو العدل فيما تملكه جوارحك…لكن العدل القلبي مستحيل…النبي صلي الله عليه وسلم كان يحب السيدة عائشة أكثر من بقية نسائه لكنه كان يعدل بينهن في المعاملة وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم”اللهم إن هذا قَسمي فيما أملك …فلا تلمني فيما تملك ولا أملك “…يعني قلبه.
هز عبد الله رأسه بفهم بينما صمت الشيخ لحظة ليردف:
_خلاصة القول يا ابني…لا حرج عليك في محبتك لواحدة دون الأخرى …لكن الإثم هنا أن تفرق بينهما في المعاملة!
هنا ابتسم عبد الله ببعض الارتياح وقد منحته كلمات الشيخ الكثير من السكينة…
فابتسم الشيخ بدوره وهو يقول بحنان أبويّ:
_لا تخف يا ابني…من له نفسٌ لوامة مثلك لن يضل…حتى لو تعثرت خطواته سيعاود طريقه ولو بعد حين.
ثم نظر في ساعته ليردف:
_لقد مر الوقت سريعاً…ها قد حان وقت صلاة الضحى…هيا لنصليها !
أشرقت ملامح عبد الله بنور سكينته وهو يقوم من مكانه ليستند الشيخ على كفه الممدود…
قبل أن يقوم بدوره ليتقدمه خطوة للإمامة…
ثم رفع كفيه بالتكبير…
وخلفه كان عبد الله يحاول استحضار خشوعه للصلاة…
وهو يشعر أن حديث الشيخ أزاح الكثير من هواجس قلبه…
سيؤدي دوره كما كتبه له القدر…
وسيحاول العدل بينهما قدر استطاعته…
لعله يجد راحته في” الرضا والعدل”!!
وبهذا الخاطر الأخير أخذ نفساً عميقاً قبل أن يقول بملء روحه وعقله:
_الله أكبر!
===========
_أهلاً ست البنات!
هتف بها عبد الله بحنان حقيقي وهو يتناول صغيرة رؤى بين ذراعيه ليداعب شفتيها المنمنمتين بأنامله قبل أن يردف بمرح غريب على طبعه الجاد:
_لقد خطفت منكِ اللقب يا رؤى…هي التي صارت ست البنات!
ضحكت رؤى بمرح على فراشها في غرفتها بالمشفى بعد ولادتها …لتقول وهي تنظر لراغب بحب:
_وست الحسن أيضاً…هل رأيت ذقنها؟!
فضحك عبد الله بانطلاق قبل أن يطبع على ذقن الصغيرة -المشقوق -قبلة عميقة…
بينما هتف راغب بسعادة عارمة مخاطباً عبد الله:
_كنت سأتركها لهم هنا في المشفى لو لم تحمل طابع حسن كشقيقتك !
فعادت رؤى تضحك وهي ترفع كفيها للسماء بقولها:
_الحمد لله..طوال أشهر الحمل وهو مهووس بهذا الأمر!
ضحك الجميع بسعادة وهم يتناولون الصغيرة بدعائهم …قبل أن تلتفت رؤى لعبد الله بقولها الحنون:
_ومباركٌ لك أنت أيضاً يا أخي…صبرت ونُلت!
تمتم عبد الله بعبارات حمد خافتة …ثم ناولها الصغيرة ليقول لها بنبرة اعتذار :
_سأضطر للانصراف الآن وسأمر عليكِ في المساء كي أملأ عيني من ست البنات !
قالها وهو يميل على الصغيرة بقبلة أخيرة…قبل أن يغادر الغرفة…
فتابعته رؤى ببصرها لتقول بمزيج من حنان وفرحة:
_أخيراً سيكون أباً!
فصمت راغب للحظات قبل أن يقول بتردد:
_لا أتصور رجلاً يسعد بزواجه من اثنتين…
ثم غمزها مشاكساً:
_أنا بالكاد أحتمل عناء واحدة!
فزمت شفتيها بحركة طفولية وهي ترمقه بنظرة عاتبة جاوبها بضحكة طويلة…
قبل أن يطبع على شفتيها قبلة ناعمة مع همسته:
_حبيبتي أنتِ!
تنهدت بحرارة وهي تضم الصغيرة لصدرها ثم قالت بجدية هذه المرة:
_فتون وصفا حالة خاصة…كل منهما تدرك أنها تملك ما يميزها عن الأخرى وتعرف قدرها جيداً…صفا تعرف أن قلب عبد الله لن يسع غيرها…وفتون راضية بأن تكون أم أولاده…
ثم صمتت لحظة لتردف بشرود:
_زواج صفا من أنس كان النقطة الفاصلة في حياتها…ربما لولا هذا لما قبلت هذا الوضع أبداً…ولظل عبد الله طوال عمره محروماً من طفل من صلبه…فمع عشقه الجارف لها لم يكن ليؤذيها بهذا أبداً…لكنها قبلت هذه التضحية بصبر تُحسَد عليه!!
أومأ برأسه موافقاً قبل أن يسألها ببعض التردد:
_وعبد الله؟! أتعجب كيف رضي أن يعود إليها بعد زواجها السابق؟!هذا أمرٌ يصعب على أي رجل تقبله!!!
فشعرت بالحرج و-كلماته تذكرها بعهدهما القديم -لكنها تجاوزت عن هذا وهي تتشاغل بالنظر إلى الصغيرة النائمة مع قولها:
_لقد سألت صفا عن هذا يوماً فقالت لي أنه لم ولن ينسى هذا أبداً…شئٌ ما بنظرة عينيه إليها قد انكسر…لكن لعل ما جعله يتقبل هذا الأمر هو شعوره بالذنب…وأنه هو الذي دفعها بيديه لرجل آخر بأيمان طلاقه المتهورة…لقد تعلم كلاهما الدرس بأقسى طريقة…والآن يعلم كل منهما قدر الآخر جيداً!
صمت للحظات مفكراً قبل أن يقول باستسلام:
_وضع صعب على ثلاثتهم…لكن …له في خلقه شئون!!!
فابتسمت وعيناها البريئتان تحملان الآن لمعة مشاكسة مع قولها :
_ما دام بيتك من زجاج فلا تقذف الناس بالحجارة….كنت لتكون مثله لولا أن عزة أصرت على الطلاق بشدة.
ورغم أنها كانت تمازحه بقولها وهي تدرك أن زواجه من عزة لم يكن حقيقياً…
لكن ملامحه تجهمت فجأة وهو يجلس جوارها على الفراش ليقول بعتاب:
_أنت التي تقولين هذا؟!
أطرقت بوجهها دون رد…فأردف بشرود لم يخلُ من ضيق:
_أكذب عليكِ لو زعمت إنني لم أكن أنتوي إتمام زواجي بها…رغماًّ عن قلبي كنت سأفعلها …لكنني أحمد الله أن عصمني القدر من هذا بما حدث وقتها…لو كنت فعلتها لما كان لي معك أي أمل…فلم أكن لأجمع بينك وبين أي امرأة أخرى مهما حدث…لأنني أعرف أنني ما كنت لأعدل بينكما.
هنا شعرت هي ببعض الذنب وهي تعود به إلى تلك الذكريات البغيضة فقالت لتصرفه عنها:
_أنا سعيدة لأجل عزة حقاً…كلما رأيتها على شاشة التلفاز بمظهرها الواثق وابتسامتها المنطلقة واعتدادها بنفسها أشعر بالاعتزاز نحوها.
فابتسم أخيراً ليقول بارتياح :
_أجل…ولعل هذا ما يخفف من شعوري بالذنب نحوها…هي وجدت طريقها وستكمله كما تحب!
لكن رؤى عقدت حاجبيها بقلق وهي تسأله باهتمام:
_لكن…خطيبها السابق…لو خرج من السجن فمن الممكن أن يؤذيها.
هنا التفت هو نحوها ليقول باقتضاب:
_قُتِل!
شهقت بعنف وهي تضم الصغيرة نحوها بحركة تلقائية …
فأومأ برأسه مؤكداً ليقول ببعض الضيق:
_مشاجرة مع أحد السجناء الخطرين غلبه فيها طبعه السئ…ترصده الرجل وتخلص منه….ربما لولا ثقتي من أننا تخلصنا منه للأبد لما طلقتها خوفاً عليها!
زفرت زفرة قصيرة ثم هزت رأسها لتهمس بخفوت:
_سبحان من يهلك الظالمين بالظالمين!
هنا أصدرت الصغيرة صوتاً خافتاً قبل أن تبدأ بالبكاء فبدأت رؤى في إرضاعها بارتباك يليق بعهدها الأول في هذا الشأن ليراقبها هو ضاحكاً مع قوله:
_لو رأتكِ أمي تائهة هكذا فستأخذها منك لتعتني هي بها.
ضحكت بدورها وهي تتأمل الصغيرة بحنان قبل أن تسأله بترقب:
_ماذا سنسميها؟!
فاقترب منهما أكثر ليتناول أنامل رؤى بأحد كفيه ويمسك كف الصغيرة بالآخر ليقول ببطء متلذذ:
_أول حرف من اسمينا…وآخر حرف من اسمي واسمك.
فعقدت حاحبيها تفكر قبل أن تلتمع عيناها بالجواب:
_رُبَى!
ضحك بسعادة وهو يميل على وجنتها بقبلة ليتبعها بأخرى على جبين الصغيرة ثم تنهد بارتياح مع همسه :
_هكذا نتشارك أنا وأنتِ اسمها…كما تشاركنا كل شئ!
============
استيقظ من نومه على صوت صرخاتها المكتومة جواره …
فانعقد حاجباه بقلق وهو ينتفض من نومته ليسألها بلهفة:
_ماسة…لماذا تصرخين؟!
كتمت أنينها بصعوبة وهي تلاحظ الجزع الذي ارتسم على ملامحه لتقول بصوت مختنق:
_أخشى أنني سألد الآن…أنا اتصلت بفهد…هو على وصول!!
ارتجفت شفتاه بقلق وهو يلعن هذا الظلام الذي يجعله لا يميز شيئاً حوله…
كم يتمنى الآن لو يعود إليه بصره لساعة واحدة…
فقط ساعة!!!
يملأ عينيه فيها من ماسته وطفليْه وبعدها لن يبالي لو عادت عيناه لظلامها الأبديّ!!
طفليْه؟!!!!
أجل…لقد عوضه القدر عن طفله الذي فقده باثنين!!!
هكذا أخبرته ماسة وهي تكاد تطير فرحاً منذ أعلمتها طبيبتها بالأمر…
وقتها تمنى لو يراهما على شاشة الجهاز …يحتضنهما بأنامله …
يعوض بهذا حرمان شوق سنواتٍ طويلة !!
ولعل هذا هو ما دفعه حقاً ليبدأ العلاج النفسي كما طلبت منه ماسة…
العلاج الذي لم يؤتِ ثماره حتى الآن…للأسف!!!
ربما لطبيعته الكتومة…
وربما لأنه هو نفسه لا يشعر بأحقيته بهذه المنة من السماء!!!
انقطعت أفكاره عندما سمع صوت صرختها جواره من جديد تؤجج نيران عجزه أكثر وهو لا يدري ماذا يفعل الآن…
لتتزامن صرختها هذه مع هذه الصرخات “الشيطانية” التي عادت تزأر في رأسه:
_لن يعيشا…
_بل…وربما هي أيضاً لن تعيش!!!
_ستفقد كل من أحببتهم يوماً عقاباً لك على ماضيك!!
_حتى لو عاشا …لن تراهما…!!!
_سيكبران أمام الجميع إلا أنت!!!
_أنت الذي طالما زعمت ألّن يعاندك قدر ولن توقفك ظروف…والآن ماذا صرت؟!مجرد رجل عاجز يستجلب الشفقة!!
_يالسخرية!!الآن تحصل على الولد الذي طالما حلمت به …لكنك أبداً لن تراه!!
_لن تراه!!!
_لن تراه!!!
هنا اشتدت الصرخات بالعبارة الأخيرة ليجد نفسه يرفع كفيه إلى أذنيه ككل مرة وهو عاجز عن احتمال هذا الألم …
لتفطن هي -بحدسها- لما يدور بداخله من صراع …
فكتمت صرخاتها قهراً وهي تقترب منه لتضم رأسه إلى صدرها بقوة هامسة بصوت متقطع:
_لا تقلق…سنكون بخير…كلنا…سنكون بخير!!
قالتها ثم ضمت شفتيها بقوة لتخفي ألمها فتفصد جبينها بعرق غزير …
بينما طوقها هو بذراعيه بقوة وهو يهمس بقلق:
_بماذا تشعرين؟!
أغمضت عينيها بقوة للحظات حتى خفت الألم نوعاً…
فأخذت نفساً عميقاً ثم مدت أناملها لتتناول كفه الذي بسطته على بطنها وهي تقول له في محاولة للتماسك:
_هل تشعر بحركتهما؟!
انعقد حاجباه بشدة وقد توارت “صرخاته” الشيطانية رويداً رويداً مع تلك الحركة المميزة التي شعر بها تحت أنامله …
تلك الحركة التي كان يترقبها بلهفة طوال الأشهر الماضية وكأنها صارت فجأة همه الشاغل في هذه الحياة…
لهذا ظل يتلمس بطنها بأنامله برفق صاحب همسها الراجي:
_ادعُ الله لنا يا عاصي!
أغمض عينيه بألم ليزداد انعقاد حاجبيه بعجز…
دعاء؟!!
وهل يجوز لمثله دعاء أو تنفتح له أبواب السماء؟!!
هو يشعر أنه مكبلٌ بخطاياه …
مدفونٌ تحت أنقاض آثامه…
فأنّى له دعاء؟!!
انقطعت أفكاره عندما انفلتت منها صرخة عالية رغماً عنها فاعتصرها بين ذراعيها أكثر …
ليتزامن هذا مع رنين الجرس الذي فتحه الخادم ليدلف فهد بسرعة إلى الداخل…
ولم تكد تمضي ساعة واحدة حتى كانت هي قد دخلت إلى غرفة العمليات …
ووقف هو بالغرفة الخارجية مع فهد وجنة ينتظرون خروجها…
تبادل فهد وجنة نظرات مشفقة وهم يرون الألم المنقوش على ملامحه ممتزجاً بقلق جعل أطرافه ترتعش بقوة..
فحاول فهد الاقتراب منه بقوله الرفيق:
_لا تقلق!!
لكنه لم يسمعه …
تلك الصرخات عادت تدوي في أذنه من جديد…
لينهش القلق قلبه أكثر وأكثر…
_ستعيش وحيداً وتموت وحيداً…
_ستفقد كل من أحببتهم عقاباً لك على ما كان…
_سيموتون بذنبك كما مات ابنك وزوجتك من قبل…
_أنت لا تستحق…لا تستحق!!!
ووسط كل هذه الصرخات وجد همستها البريئة تخترق وعيه:
_ادعُ الله لنا يا عاصي!
فأطبق شفتيه بقوة وهو يهز رأسه يمنة ويسرة بعجز …
ليته الآن يرى …!
ليته يستعيد سطوته القديمة فيأمر الجميع أن يبقى مع زوجته ولا يتركها حتى يطمئن…!
وبهذا الخاطر الأخير انفرجت شفتاه أخيراً ليقول مخاطباً فهد بنبرة مختنقة جافة:
_خذني عند باب الغرفة التي دخلتها.
عاد كلٌ من فهد وجنة يتبادلان النظرات المشفقة…
لكن فهد طاوعه مجبراً وهو يرى على وجهه أمارات معاناته الصامتة…
وما كاد هو يصل للباب حتى تلمسه بأنامله بخشية قبل أن يقول بقلق وهو يتعجب عدم سماعه لصوتها:
_لماذا هذا الهدوء الشديد؟!ولماذا تأخروا؟!
فربت فهد على كتفه ليقول مطمئناً:
_الهدوء طبيعي …و هي دخلت لتوها…لم تتأخر.
لكن حاجباه انعقدا بشدة وقلبه يخفق بصدره بجنون لتتنازعه صرخاته من جديد بضراوة قاتلة:
_لن تفرح…ليس لمن مثلك توبة!
فتقابلها عبارتها النقية يوم قالت له:
_لم يكن ليلهمك التوبة وهو يريد بك العذاب!
وبينهما تصارعت أعماقه بأقوى صراع عرفه منذ الحادث…
صراع كاد يشق صدره نصفين…
حتى كاد يتأوه بقوة وكلا الصوتيْن يتنازعانه:
_ستفقدهم جميعاً…
والآخر منها يقابله…
_سنكون بخير…كلنا…سنكون بخير!!
لتزداد أنفاسه تلاحقاً…
وتزداد أنامله تشبثاً بالباب المغلق …
وتتساقط قطرات عرقه على جبينه الذي ألصقه بالباب مترقباً…
قبل أن تحسم جملتها الأخيرة الصراع:
_ادع الله لنا!!
هنا انفرجت شفتاه ببطء وانفتحت معهما عيناه بتثاقل…
ليتحرك لسانه أخيراً هامساً بخفوت شديد:
_يارب…يارب!!
كان يرددها بتتابع وكأنه يريد أن يقهر بها تلك الصرخات الشيطانية التي عادت تهاجمه بقسوة…
لكنه ازداد تشبثاً بهمسات دعائه وهو يحرك جبهته على الباب المغلق ببطء…
وكأنما صارت حياته كلها رهينة مَن خلف هذا الباب!!!
لتتوارى الصرخات أخيراً رويداً رويداً…
فيخفت صوتها تدريجياً…
حتى عادت صرخاتٌ أخرى تحتل أذنيه…
صرخاتٌ حقيقية هذه المرة!!!!
أجل…صرخات الصغيرين التي دوت في المكان أخيراً لتملأ قلبه قبل أذنيه…
وتقهر كل ما عداها!!!!!
فدمعت عيناه بفرح ولازالت شفتاه تتمتمان بالدعاء …
قبل أن ينفتح الباب الذي يستند عليه فجأة!!!!
هنا اصطدم وجهه بصدر الطبيب الذي خرج لتوه قبل أن يتمتم بكلمات اعتذار…
فأغلق عينيه بقوة وهو يبتعد عنه خطوة…
قبل أن يعاود فتحهما ببطء…
لينقشع الظلام شيئاً فشيئاً أمام نظراته المرتعشة…
ثم يغشي النور عينيه اللتين ميزتا ضوء الغرفة ببعض العسر…
مع هتاف فهد الفرح:
_الصغيران بخير…اطمئن!
هنا شعر بشئ من الغرابة وعيناه تجوبان الغرفة بتفحص…
حتى توقفتا على ماسة الراقدة هناك جوار…صغيريه!!!
هل يراهما حقاً؟!!
أم أنه…يتخيل؟!!
ضاقت عيناه بترقب وهو يسير متكئاً على عصاه برفق حتى وصل إليهم…
ولم يكد يميز ملامح الصغيرين حتى ابتسم أخيراً بين دموعه التي ملأت عينيه وهو يلقي عصاه هامساً بصوت مرتعش:
_أنا …أرى!!!
============
_الحمد لله يا ابنتي…يعلم ربي إن لساني لم يكن يكف عن الدعاء لكما!
هتفت بها رحمة بسعادة بالغة وهي تضم أحد الصغيرين لصدرها في غرفة ماسة ببيت الساحل…
فابتسمت ماسة وهي تقول بفرحة لم تعرفها منذ زمن بعيد:
_أرأيتِ كم تشبهني نور…عيناها فضيتان مثلي!!
ضحكت رحمة بانطلاق وهي تقبل الصغيرة بحنان قبل أن تتناول أخاها لتسألها بترقب:
_وذاك الوسيم…ماذا أسميتماه؟!
اتسعت ابتسامة ماسة وهي تجيبها باعتزاز:
_ضياء!
ارتفع حاجبا رحمة بتأثر وهي تتأمل ملامح الرضيع بتفحص مع همسها:
_سبحان الله!!وكأنها قسمة العدل…هو نسخة من أبيه!!!
تنهدت ماسة بارتياح وهي تسند ظهرها للفراش مع قولها المنغمس بنبرة الحمد:
_عاصي أسماهما نور وضياء…قال إنهما حقاً كذلك…بعدما استعاد بصره فور رؤيتهما!
فهزت رحمة رأسها وهي تعاود التسبيح والتحميد…
فيما استطردت ماسة بنفس النبرة:
_لم أفقد يقيني بالله يوماً…رغم أن جلسات عاصي النفسية لم تكن مجدية…لكنني كنت واثقة إن مجئ الطفلين سيكون له بالغ الأثر…
ثم ابتسمت لتردف بنبرة راضية:
_طبيبه المعالج يقول إن صرخات الطفلين فور ولادتهما صنعت له “صدمة عكسية” لتحارب تلك الصرخات التي كانت تملأ عقله بعد حادث مقتل زوجته لتشبعه بالحقد على نفسه أكثر….تلك الصدمة هي ما ساعدته في استعادة بصره…بل…استعادة يقينه بقبول الله لتوبته!
فرفعت رحمة رأسها للسماء وهي تقول بخشوع:
_سبحان من لم يقنطنا من رحمته مهما بلغت معاصينا!
أومأت ماسة برأسها وهي تنقل بصرها بين الصغيرين بحب…
نور…وضياء!!
هكذا كان اسماهما…وهكذا كانا هما حقاً في حياتها هي وعاصي!!!
عاصي الذي طالما افتقد الحب في عالم أرسى فيه أعمدة طغيانه وجبروته…
حتى انهدم على رأسه لينتهي به وحيداً ك”شيطان” منبوذ!!
لكنه عرف كيف يزيل الغبار عن “ماسة” فطرته ليعود لها بريقها…
وتعود معها سحب الحب واعدةً بصيّب نافع…
قادرٍ على إحياء هذا الجديب بعد طول جفافه!!!
انقطعت أفكارها عندما سمعت صوت الباب يفتح بعد طرقات هادئة ليتبعه دخول عاصي بابتسامة ما عادت تفارق ملامحه…
ابتسامة أزاحت الكثير من تجاعيد الزمن على وجه طالما أثقلته الذنوب…
لتشعر وكأن سن?

_عزة الأنصاري…مقدمة برنامج “أكلتين وعافية”!!
كانت تجلس في أحد المطاعم القريبة من شقتها الجديدة والتي تقيم فيها الآن وحدها بعدما استقلت بمعيشتها عقب طلاقها من راغب…
عندما سمعت -أحدهم- يحدثها بهذه العبارة…
رفعت رأسها إليه بنظرة تقييمية…
رجلٌ ثلاثيني ممتلئ الجسد بما يقارب البدانة…
لكن هذا أضفى الكثير من الطيبة على ملامحه الوسيمة…
لا تدري سر ارتباط البدانة عندها بالطيبة سواء للرجال أو النساء…!!!
دوما تعتقد إنهم يملكون قلوباً نقية ومشاعر حساسة لأبعد حد…
لكن يبدو أن هذا الرجل سيغير نظرتها …!!!!
فلم تكد تومئ برأسها إيجاباً حتى سحب المقعد ليجلس أمامها قائلاً ببساطة بدت في موقفهما هذا أقرب للوقاحة:
_رأيت آخر حلقاتك منذ بضعة أيام…من الفاشل الذي يعد لكِ هذه الوصفات؟!
احمرت وجنتاها بانفعال للحظات وقد أعجزها تصرفه السريع عن الرد في أول الأمر…
قبل أن تهتف بحدة:
_أولاً…أنا لم أسمح لك بالجلوس…ثانياً…الجميع يعلمون إن وصفاتي هي إبداعي الشخصي…ثالثاً…احتفظ برأيك السخيف لنفسك فلم يطالبك به أحد!
ارتفع حاجباه بدهشة للحظة قبل أن يغمغم بأسف حقيقي:
_عذراً سيدتي…يبدو أنك أخذت الأمر بصورة شخصية…أنا أردت النصيحة فحسب!
قالها وهو يقوم من مكانه بسرعة لترمقه هي ببعض الندم…
لا تعلم لماذا صارت فجأة هجومية هكذا…
بل…ربما تعلم!!!
لقد عاشت عمرها السابق كله تخشى أحاديث الناس وتخاف ظلمهم لامرأة في ظروفها…
ذاك الخوف الذي مكّن منها شخصيةً حقيرة كخطيبها السابق…
وهو نفسه ما دفعها للقبول بكونها زوجة ثانية لراغب…
والحمد لله إنها خرجت بكرامتها من هذه الزيجة فلم يصبها منها سوى لقب “مطلقة”…
وقطيعة شقيقتها هيام لها بعدما تجرأت على معارضة مخططاتها لها لأول مرة في عمرها!!!
لكن لا بأس…
المهم أنها الآن سيدة مصيرها…
مصيرها الذي ستكتبه بيدها بعدما استغلت فرصة القدر الثانية لها…
عملها الذي صارت حقاً ماهرةً فيه حتى إن حلقات برنامجها في بضعة أشهر صارت تحقق نسبة مشاهدات عالية جداً بالمقارنة بنظيراتها …
لكن…هل أصابها هذا بالغرور حتى تحرج هذا الرجل هكذا؟!!!
أم أنه فعلاً يستحق؟!!
انقطعت أفكارها بحركة بسيطة عندما اصطدم البدين عقب وقوفه -المفاجئ- بالنادل الذي كان قد أحضر لها “طلبها” لتوه…
لتسقط الصينية بمحتوياتها على قميص البدين بلونه -الأخضر الفاتح جداً- ليصير فجأة “لوحة ألوان”!!!!
أطلق النادل عدة عبارات اعتذار ليقابله البدين بابتسامة متفهمة مع قوله الذي اكتسى بمرح غريب على الموقف:
_لا عليك…أنا فقط أشفق على المسكينة التي ستغسله!!!
ابتسم النادل وهو يعيد اعتذاره المرتبك وقد خشي أن يعنفه مديره…
ليردف البدين ببساطته العفوية دونما اهتمام بنظرات المحيطين الفضولية:
_فقط أحضر لي منشفة مبللة كي أنقذ ما يمكن إنقاذه.
أومأ النادل برأسه بسرعة قبل أن يلتفت لعزة بقوله المرتبك:
_سأحضر لكِ غيره …سامحيني سيدتي!
لكن عزة لم تكن بقدر “تسامح” هذا البدين عندما هتفت بضيق:
_في المرة القادمة انتبه لخطواتك…هيا أحضره بسرعة فلا وقت لديّ!
اندفع النادل ليحضر لها طلبها من جديد …
فيما أعطاها البدين ظهره دون كلمة زائدة ليهم بالانصراف …
فهتفت ببعض التردد:
_انتظر!
التفت نحوها بجسده وهو يشير بسبابته على صدره بتساؤل دون كلام…
وقد التمعت ملامحه الطيبة بجاذبية شقاوة طفولية محببة…
فالتوت شفتاها بشبه ابتسامة وهي تقول بنبرة أرادتها جافة:
_ماذا كنت تريد أن تقول؟!
ارتفع حاجباه بتسلية وهو يشير لقميصه قائلاً بتهكم:
_ماذا؟!لا تقولي إن سحر قميصي المتسخ قد أغراكِ… أو ربما …
ثم أشار بعينيه لما ترتديه هي مردفاً :
_لأنكِ ترتدين مثله!!!
اتسعت عيناها بدهشة وهي تنظر لقميصها الذي كان يشبه كثيراً لون قميصه…بل وتصميمه البسيط!!!
مع فارق الحجم طبعاً!!!
ولا تدري لماذا ورد في ذهنها ساعتها ما تتداوله إعلانات أدوية التخسيس من فارق قياسات الملابس بصورتي “قبل-بعد” الشهيرة!!!
ترى كم يجب أن يفقد هذا الرجل من وزنه كي يصل لوزنها…
ما لا يقل عن أربعين كيلو جراماً بأهون تقدير!!!
ولا تدري لماذا احتلت ذهنها الآن صورة الممثل الشهير “أحمد حلمي” في فيلمه “إكس لارج”…
ربما لأن هذا البدين كان يشبهه كثيراً…
باستثناء شعر الأخير الذي كان شديد النعومة والكثافة بما منحه مظهراً أكثر وسامة!!
وعند خاطرها الأخير كتمت ابتسامتها بصعوبة لتقول بنفس النبرة الجافة:
_لو كان لديك ما تقوله فافعل…وإلا يمكنك الانصراف!
_هل أنتِ دوماً شديدة الفظاظة هكذا؟!أم أنه غرور المشاهير؟!
قالها بنبرته العفوية وهو يعاود الجلوس ببساطة وكأن عبارته لم تحمل شيئاً من إهانة!!!
فتأففت بنفاد صبر قبل أن تهتف بضيق:
_اسمع يا هذا…إذا كنت ت..
_إيهاب!
قالها ببساطته الشديدة مقاطعاً كلماتها الضائقة ليردف بابتسامة عذبة:
_إيهاب الخولي…مهندس بترول!
زفرت زفرة قصيرة دون رد…فاتسعت ابتسامته المتسلية وهو يتفحص ملامحها بنظراته التي لم تضايقها رغم كل شئ…
فلم تكن بالوقحة الجريئة ولا العابثة المستهينة…
بل كانت فضولية حقاً مطعمةً ببساطته وطيبة ملامحه!!!
هنا كان النادل قد عاد بمنشفة مبللة وأخرى جافة تناولهما منه إيهاب ليعالج ما علق بقميصه قدر المستطاع…
قبل أن يقول بنبرته المرحة:
_تُشكَر يا “ذوق”!!!لا أراك الله مكروهاً في “قميص” لديك!!!
ابتسم النادل ابتسامة حقيقية شابهت ابتسامة عزة في هذه اللحظة…
قبل أن ينقل بصره بينهما بحذر ليقول بتردد مخاطباً إيهاب:
_هل أحضر لك “طلبك” هنا أم على مائدتك؟!
فالتفت نحوها إيهاب بنظرة استئذان حملت لها طابعاً طفولياً لا تدري من أين أتت به!!!
ورغم أنها غضنت وجهها بتعبير ساخط مع تلويح بكفها دون رد…
لكنها كانت تشعر بالفضول حقاً لمعرفة ما الذي يود قوله بشأنها…
لهذا شعرت ببعض الارتياح عندما اعتبر إشارتها موافقة وهو يقول للنادل بنفس النبرة الصاخبة بالمرح:
_”هوت شوكليت”…
ثم صمت لحظة ليلوح بسبابته مع استطراده:
_ سكر “دايت”!!!
ضحك النادل بخفة وهو يشير بسبابته نحو عينيه واحدة تلو الأخرى بتلك الحركة الشهيرة قبل أن ينصرف…
بينما لم تستطع هي منع ابتسامتها المتهكمة وهي تكرر خلفه :
_”دايت”؟!!!
ضحك ضحكة مجلجلة ارتج لها جسده الممتلئ ثم اقترب بجذعه ليقول لها بجدية مصطنعة:
_كلامٌ في سرك…أنا أسير على “الريجيم” الإسلامي الذي يحكون عنه.
انعقد حاجباها بشدة وهي تقول بتشكك:
_”ريجيم” إسلامي؟!!تعني “نظام اللقيمات”؟!!
فهز رأسه نفياً ليقول:
_بل أبسط من هذا…أنا آكل كل ما أريده ثم أدعو الله بخشوع أن يخف وزني!
ابتسمت ابتسامة واسعة وهي تشيح بوجهها للحظة …
قبل أن تعاود التفاتها نحوه لتقول بجدية تامة هذه المرة:
_ما الذي تنتقده في “برنامجي” بالضبط؟!
أطلق همهمة خافتة عقبها صمت قصير ثم قال أخيراً بنفس الجدية:
_لا أحب أولئك الذين يسايرون “الموضة” لإرضاء “الزبون”…كلهم الآن يلهثون خلف “هوجة” الغذاء الصحي قليل السعرات…دونما اكتراث لتكلفة هذه الوصفات بالنسبة لمستوى معيشة أغلب المصريين…
انعقد حاجباها باهتمام حقيقي فيما أردف هو بحديث متعقل:
_وصفاتك كلها تلقى رواجاً كبيراً لكن في وسط معين…لماذا لا تحاولين تنويع حلقاتك لتكون وصفاتك في متناول الجميع ؟!لماذا لا توفرين بدائل مناسبة بأسعار أرخص؟!
ثم عاد له مرحه وهو يهز كتفيه مستطرداً:
_لقد حاولت تنفيذ آخر وصفاتك فكلفتني نصف راتب الشهر!!
هنا ارتفع أحد حاجبيها لتقول بتشكك:
_قلت إنك “مهندس بترول”!!!
فابتسم ابتسامة واسعة أظهرت بياض أسنانه و-بياض قلبه معها- وهو يبسط كفه في وجهها في حركة “التخميس” الشهيرة مع قوله:
_ومن شر حاسدٍ إذا حسد!!!
كان النادل قد عاد بطلبيهما معاً وقد وضع أمامها صينيتها التي احتوت طبقاً أجنبياً شهيراً…
بينما وضع أمامه مشروبه لينصرف…
فأشار إيهاب لطبقها ليقول بما بدا وكأنه على علم كبير به:
_طبقك هذا مثلاً…يمكن تنفيذه بصورة أبسط وأقل تكلفة عشر مرات …لو غيرنا نوع اللحم والجبن المستخدمين…وصدقيني لن يختلف الطعم كثيراً!!
ابتسمت بإعجاب وقد راقتها الفكرة لتقول بنبرة أكثر لطفاً:
_تبدو خبيراً!!
فأطلق همهمة استمتاع طويلة وهو يغمض عينيه ليقول بتلذذ:
_الأكل هذا …فن!!
اتسعت ابتسامتها وهي تشعر بارتياح عميق نحوه لتقول أخيراً بنبرة هادئة خلت من تحفزها:
_فكرة جيدة وتلائم نشأتي البسيطة…أعدك أن أدرس الأمر…سأعرض الأمر على المخرج و إدارة الإنتاج وربما تكون هذه فكرة “برنامج” رمضان القادم!
فتح عينيه ليبتسم ابتسامته البسيطة وهو يرفع كوبه نحو شفتيه بتلذذ ليرتشف منه رشفة تبعها بقوله:
_وأنا سأبدأ من اليوم في التفكير في اسم مناسب!!!
انعقد حاجباها بما لا تدري هل هو ضيق أم ارتياح…
وعبارته تحمل لها إيحاءً أن هذا لن يكون لقاءهما الأخير…!!!
لكنه صرفها عن التفكير في هذا وهو يشير لقميصها “الفستقي” ليقول باهتمام:
_ألاحظ أنكِ ترتدين هذا اللون كثيراً…هل هي شروط الإنتاج ل”لوجو ” القناة و”البرنامج”؟!
فهزت رأسها نفياً وهي تعدل حجابها ببعض الخجل -من ملاحظته-والذي لم يعجبها أن تشعر به الآن…
لتقول ببعض التحفظ:
_الأخضر بدرجاته هو لوني المفضل!
فرفع راحته في وجهها ليقول ببساطته التي كانت الآن -لقلة الذوق- أقرب:
_لا أحبه!!
مطت شفتيها باستياء وهي تشير بعينيها لما يرتديه…
فقال مفسراً:
_هدية! لم أختره
ثم غمزها غمزة خفيفة ليردف بمرح:
_لهذا لم أعنف النادل كثيراً على فعلته …بل وربما شكرته قبل أن أنصرف!
ابتسمت وهي تشعر نحوه بألفة عجيبة…
فيما استطرد هو بنبرة أكثر جدية:
_محبّو اللون الأخضر يميلون إلى ألانسجام مع الطبيعة و أيضا يتميزون بالحذر الشديد و يعتبرون متوازنين اجتماعياً ليسوا انعزاليين ولا انطوائيين…يحبون التفرج على الأحداث و لا يفضلون أن يكونوا جزءاً منها…لكن من عيوب مدمني اللون الأخضر الخوف الشديد و القلق و هذا يجعلهم يميلون إلى الرفض و التواكل….
انعقد حاجباها باهتمام وهي تشعر باتفاق حديثه هذا مع شخصيتها…
بينما أردف هو ببعض المرح:
_كما أنهم يعانون من نقص الثقة في النفس مع شدة الغيرة لهذا يُنصح بعدم دفع هؤلاء الأشخاص إلى اتخاذ قرار فذلك يسبب لهم ضغطاً عصبياً شديداً.
ازداد انعقاد حاجبيها وقد لامس حديثه وتراً حساساً لديها…
ليقول هو أخيراً وقد عادت إليه ابتسامته “الطيبة”:
_عندما يقول لك أحدهم أنه يحب اللون الأخضر…فكأنه يقول لك أنا محتاجٌ لأن تحبني وتحميني!
نقرت بأصابعها على المائدة ثم أطرقت برأسها دون رد…
ورغم أن عبارته الأخيرة تحمل معنى “المغازلة”…
لكنها -منه هو – حملت معنًى آخر ضايقها…
معنى الإشفاق!!!
أجل…عيناه “الطيبتان” حملتا لها شعوراً بكونه يقرأ دواخلها …
ورغم ما يوحي به مظهره من بساطة ومرح…
لكن كلماته بدت على قدر كبير من العمق…
أو هكذا كان يهيؤ إليها!!!!
هذا ما أوحى إليه به عقلها أخيراً وهو يحذرها من عاقبة الثقة بأشخاص تراهم لأول مرة…
فأخذت نفساً عميقاً ثم رفعت إليه عينيها لتقول بثقة :
_ربما كنت أنا يوماً كما تزعم…لكنني لم أعد!
ثم قربت طبقها لتبدأ في تناول طعامها مع قولها المقتضب الذي أجادت صبغه بالقوة:
_عطلتني عن طعامي حتى برد!!
فارتفع حاجباه بتسلية رغم استيائه من ردة فعلها…
ليستمر هو الآخر في ارتشاف مشروبه الذي أنهاه بسرعة ليقوم واقفاً مع قوله الودود:
_سعدت بلقائك سيدتي…شهية طيبة!
رفعت إليه نظراتها بحذر وكأنها لا تصدق أنه سينصرف بهذه البساطة…
لكنه حقاً قد فعل!!!
أجل رحل ببساطة تشبهه تاركاً إياها خلفه تشعر بأن هذا الرجل…
مختلف!!!
==============
_هل رأيتِ يسرا بعد عودتها من لبنان؟!
هتفت بها إحدى رفيقاتها في النادي لتلك الجالسة جوارها والتي أجابتها بسخرية لاذعة:
_يقولون إنها تعاني اكتئاباً حاداً بعدما تركها فهد الصاوي لأجل تلك المحامية!!
ضحكت الأولى ضحكة صاخبة وهي ترد بشماتة ظاهرة:
_وهي التي كانت تزعم أنه يعشق تراب قدميها!!!
ثم رفعت أحد حاجبيها لتقول بنبرة غارقة في الحسد:
_جمالها قشرة…يبدو أنه لا يعجب الرجال…أولاً كان حسام القاضي ثم تلاه فهد الصاوي…وظني أنها لن تستقر يوماً مع رجل…فالرجال لا يحبون فارغات العقول!!!
فتنهدت الأخري لترد بإشفاق مصطنع :
_مسكينة!لعلها الآن تحبس نفسها في غرفتها وتبكي على حظها ال….!!!
انقطعت عبارتها مع انفراج شفتها بذهول وهي تراها تدخل من بوابة النادي بأبهى طلة رأتها عليها يوماً…!!!!
بلوزة قصيرة فضفاضة- بحمالات رفيعة- من الشيفون بلونها الأحمر الغامق الذي تفضله…
بدا من تحتها لون بشرتها العاجي بفتنة ملفتة…
مع بنطال أسود من الجينز تقطع في أماكن مقصودة ليمنح ساقاها إغواءً لم يكن ينقصها!!!!
واستطالت قدماها فوق حذاء بكعب شديد الطول منح خطواتها الراقصة المزيد من الدلال…
وتموجت خصلات شعرها الأشقر بشدة فقصر طوله كثيراً حول وجهها ليمنحه استدارة محببة…
وقد اكتفت من زينتها بظلال دخانية وكحل شديد السواد منح عينيها الخضراوين لمحة شراسة غامضة …
وطلاء شفاه قرمزي لامع جعل منها “أيقونة” للفتنة العابثة بالعقول!!!!
لهذا لم يكن عجيباً أن تقدمت بخيلاء كعادتها تتجاوز النظرات المخترقة لجسدها بكبرياء يليق بها…
قبل أن تستقر على المائدة التي جلست عليها المرأتان واللتان هتفتا في وقت واحد وكأنهما لم تكونا تغتابانها منذ قليل :
_ياسّو!!!أين كنتِ؟!جلساتنا بدونك لا طعم لها!!!
فالتوت شفتاها بابتسامة ساخرة لتقول بتهكم مرير:
_بي…وبدوني…لاطعم لها!!!
ثم غامت عيناها بشرود أسود ناسب عبارتها:
_تظنون أننا أحياء؟!نحن موتى نسير على الأرض !
قالتها وهي حقاً تشعر بها !!!
طوال الشهور الماضية وهي لا تشعر بداخلها إلا بالخواء!!!
لقد ساعدها السفر مع والدتها كثيراً وربما لولا هذا لأقدمت على الانتحار!!!
فرااااغ!!!
حياتها كلها فراغ عريض تسبح هي فيه معلقة بين سماء لن تبلغها وأرض لن تستقر عليها!!
لقد ظنت أن فهد سينتشلها من هذا …
أما وقد فقدته…
فلم يعد أمامها حل إلا أن تتناسى هذا الوضع…
وستفعل!!!
ستفعل بأي طريقة!!!
بينما تبادلت “العقربتان” رفيقتاها نظرات مفعمة بالسخرية والشماتة التي حاولتا إخفاءها عندما هتفت إحداهما:
_لا تكوني ثقيلة الظل هكذا!!!النادي سيقيم حفلة غداً …سنشعلها كالمعتاد!!
انطلقت الأخرى ضاحكة بميوعة قبل أن تميل على يسرا لتغمزها بقولها:
_أفيقي من جو “الأبيض والأسود” الكئيب هذا واستمعي لآخر نوادر شلتنا!!!
قالتها ثم انطلقت تروي المزيد من التفاصيل- البذيئة- التي اعتدْن التندر بها في جلساتهن…
فارتسمت على شفتيها ابتسامة شاردة وهي تتلفت بعينيها حولها…
تحاول أن تروي ظمأ أنوثتها من تحديق العيون فيها…
لكن هذا حتى لم يفلح هذه المرة!!!
لهذا زفرت بقوة قبل أن تهتف بسخط لتلك التي بدت وكأن بذاءاتها لن تنتهي:
_كفاكِ ثرثرة!!!
فسكتت مجبورة وهي تتبادل مع الأخرى نظرات واضحة المعاني…
قبل أن تنتفض يسرا واقفة لتهتف بضجر:
_أنا راحلة…لكنني سأحضر حفلة غد !!!
صاحت رفيقتاها عدة صيحات عالية وهما تخبطان كفيهما بالتبادل في حركة حماسية…
فضحكت ضحكة عالية مفتعلة لتتركهما خلفها يتبادلان نظرات مشوبة بالدهشة…
قبل أن تحرك إحداهما أناملها في حركة دائرية متتابعة جوار صدغها في إشارة للجنون!!!
وهو مالم تكن تلك -النارية- ببعيدة عنه على أي حال!!!
فلم تكد تغادر النادي بخطواتها المنفعلة والتي تعثرت بها بسبب كعب حذائها بالغ الطول…
حتى كان أول ما فعلته عندما استقلت السيارة أن خلعت فردتي حذائها لتكسر كعبيهما بعنف…
قبل أن تلقيهما بحركة عصبية من النافذة…
لتأخذ عدة أنفاس عميقة متتابعة قبل أن يرن هاتفها برقم والدتها …
فتحت الاتصال بسرعة ولم تكد تستمع لبضع كلمات حتى هتفت بانفعال:
_لن أعود للبنان يا أمي…لو أردتِ صالحي حقاً كما تزعمين فعودي أنتِ إلى هنا!!
كانت تعلم أنها تطلب المستحيل…
وأن “اليمامة” التي هربت من بطش رفعت الصباحي لن تعود بهذه البساطة!!!
ولماذا إذن لم تبقَ هي معها هناك ؟!!
لأنها -ببساطة- قد ملّت!!!
لقد ظنت أنها ستعود لحالتها الطبيعية عندما ترجع إلى مصر لكن الواقع أنها تبدو وكأنها تبحث عن شئ لن تجده أبداً!!!!
لهذا أغلقت الاتصال بعنف مع والدتها غير آبهة بعاطفة أو ذوق…
قبل أن ترتجف أناملها على الأزرار ونفسها تراودها باتصال آخر!!!
معقول؟!!
هل ستعود للغرق في هذا البحر الهائج من جديد بعد كل ما حدث؟!!
تعقّلي يا يسرا!!
لا تضيعي تعب الشهور الفائتة هدراً!!!
لا تفقدي نفسك!!
والجواب من “شيطان” نفسها كان ابتسامة ساخرة!!!!
أفقد نفسي؟!
وهل وجدتها كي أفقدها؟!!!
لا فارق بين الصواب والخطأ لمن هي مثلي!!!
في الحالين أنا خاسرة!!!
وبهذا الخاطر الأخير أخذت قرارها النهائي لتضغط زر الاتصال بعنف…
ولم يكد الاتصال يفتح حتى كتمت أنفاسها بقوة وكأنها تخشى القرار …
لكن رغبة عارمة في التمرد ممتزجة بشعورها الحالي بالضياع جعلتها تهتف أخيراً بحسم:
_نفس الصنف…نفس الكمية!!
ثم أغلقت الاتصال لتعود برأسها للوراء فتستنتد بظهرها للمقعد شاردة للحظات…
قبل أن تردف بشرود:
_نفس الضياع!
=======
_كاتبتنا المبدعة…لمن تهدين هذا النجاح؟!
قالتها المذيعة التلفزيونية بابتسامة أنيقة وهي تجلس أمامها في “الاستوديو” …
فغامت عينا طيف بنظرة شاردة للحظات …قبل أن تستعيد صلابتها لترد بحسم:
_لنفسي!
ارتسمت الدهشة على وجه المذيعة للحظة مع ارتباك ابتسامتها موحيةً بغرابة الرد…
فيما رفعت طيف أنفها بشموخ لتردف:
_لا تصدقي من يزعمون إن نجاحهم يرجع لأشخاص آخرين…لا أحد يمكنه أن يدفعك في هذا الطريق مالم تكن خطواتك نفسها هي الثابتة!
اتسعت ابتسامة المذيعة وهي تنظر في الأوراق أمامها …قبل أن تقول لها بمرح لم يخلُ من حذر:
_بعض ناشطي “الفيسبوك” أطلقوا عليكِ لقب “الأرملة السوداء” في إشارة منهم لعدائك الواضح نحو الرجال وتحاملك عليهم في كل كتاباتك…فماذا ترين؟!
فضحكت طيف ضحكة عالية وكأن الأمر أعجبها…ثم تنهدت لتقول بجدية تامة:
_أفكار الكاتب غير ملزمة لأحد…من راقته كتاباتي فليقرأها وإلا فالخيار له.
اصطنعت المذيعة ابتسامة دبلوماسية وهي تدير الحوار بذكاء:
_هل يعني هذا إنك تهربين من الإجابة؟!
أطرقت طيف برأسها للحظات ثم عادت ترفعه بشموخه المعهود لتقول :
_أنا لست متحاملة على “الرجال”…لكن هناك فارق كبير بين “الرجال” و”الذكور”…أعدكِ لو قابلت “رجلا” حقيقياً أن أكتب عنه بمنتهى الحيادية!
اتسعت ابتسامة المذيعة وهي تتعجب جرأة هذه المرأة التي تصرح بشئ كهذا على الهواء…
لكنها تمالكت دهشتها بسرعة تليق بعملها لتقول بنبرة أنيقة:
_ونحن في انتظار إبداعاتك سيدتي.
ثم استدارت بجسدها نحو “الكاميرا” لتردف:
_كانت معنا الكاتبة القديرة “طيف الصالح” والتي حصلت على جائزة الدولة ال”……” بعد روايتها التي حققت أعلى نسب مبيعات لهذا العام ونالت لقب الأكثر شهرة و……
شردت طيف ببصرها وقد صمت أذناها عن بقية عبارة المرأة لتلتمع عيناها ببريق حقيقي …
بريق دموع!
يتحدثون عن طعم النجاح العذب…
فما بالها الآن لا تشعر إلا بالمرارة!!!
تلك الغصة المستحكمة في حلقها وهي تشعر بالفراغ حولها يكاد يخنقها…
فراغ؟!!
نعم…فراغ رغم كل ما يحيطها من بشر!!!
زيارتها الأخيرة لمصر كانت شديدة الوقع على قلبها الذي ظنته قد مات مختنقاً بدخان حرمانه…
لكن الزيارة -التي بدأت بعاصي وانتهت بحسام -أحيت مومياء عاطفتها لتنهض بأكفانها البيضاء مثيرة الرعب في أعماقها الكافرة بكل هذا!!!
وعلى ذكر حسام تركزت أفكارها المشتتة لترتسم على شفتيها ابتسامة باهتة وهي تتذكر لقاءها الأخير به…
_آنسة طيف…أحدهم يريد مقابلتك….هو ينتظرك هناك في بهو الفندق!
قالها موظف الاستقبال بالفندق الذي كانت تقيم فيه عقب عودتها إليه…
فالتفتت حيثما أشار لترتسم على شفتيها ابتسامة قاسية وهي تتبين ملامح ذاك “المنتظر”!!
اقتربت منه بخطوات ثابتة متئدة ليقف بدوره في انتظارها حتى صارت على مسافة مناسبة منه…
عيناه الصقريتان عادت إليهما حدتهما القاسية وإن اتشحت بطيف شاحب من عاطفة عرفت طريقها لقلبيهما يوماً!!!
أذناه كانتا محمرتين بقوة كعهده عندما ينفعل…
وشفتاه كانتا مطبقتين بقوة لتمنحه مظهراً أقسى…
بينما كان كتفاه متهدلين على عكس ما اعتادته من وقفته الشامخة…
فعادت بعينيها إلى عينيه اللتين تنازعهما الآن صراعٌ من اشتياق وعتاب…
حنينٌ يقبع منزوياً في ركن قصيّ خلف شراسة نظرات نارية احتلت حدقتيه باقتدار…
عندما اقتربت هي منه أكثر محافظةً على جمود نظراتها الثلجية…
اشتاقته؟!!
لا…نعم…لا…نعم…بل …لا تدري!!!
مهما ادعت من قدرتها على تجاوز هذا الماضي…
مهما لعنت نذالته وجبنه وأنانيته….
مهما أخفت قلبها خلف ألف ستار من قسوة وصلابة…
لن تستطيع نكران هذه الحقيقة…
إنها…افتقدته!!!!
وكيف لا تفعل؟!!!
وجزءٌ من عمرها قد سُطِر على جبينه بمدادٍ لم يكن ليجف أبداً!!!
قطراتٌ من -عطر أنوثتها- لازالت تبلل -قميص رجولته- الذي جعدته سوءات ماضيه….
ومع هذا لازالت تتنشق بين أنفاسه عبير عاطفة -لم تعرفها إلا معه- !!
هو الذي تفتحت براعم قلبها البكر تحت شموس هواه…
قبل أن تذبل على أغصانها بعده؟!!
فكيف بعد كل هذا لا تفتقده؟!
وعند خاطرتها الأخيرة تذكرت كيف انتهت قصتهما…
كيف انتزع من صدرها خنجراً غرسته الليالي ليمنحها بعض الأمل في الحياة…
قبل أن يعاود إغماده في قلبها بقوة أكبر ليبدلها مكان الأمل يأساً وقنوطاً!!!
كيف أنقذها من الموت -غرقاً- في بحار وحدتها….
ليقتلها بعدها -حرقاً- في جحيم غدره!!!
كيف داواها بأحد كفيه لينشب أظافر كفه الآخر في لحم أمانٍ ظنته سيبقى العمر كله معه!!!
فكيف بعد كل هذا تفتقده؟!!
كانت قد وصلت قبالته تماماً في هذه اللحظة لتتلاقى العيون بحديث غريب…
وهل أغرب من حديث تباينت لغاته لتحمل عباراته من كل لغة كلمة؟!!
من كل أبجدية حرف؟!!
هكذا كان الحوار بين عينيهما الآن…
قبل أن يرتفع كفه نحو وجهها بصفعة!!!
صفعة لم تنلها أبداً!!!!
أجل…!!!
أوقفها كفها في اللحظة الأخيرة وهي تناظر عينيه الصقريتين بعينين لا تقلّان عنهما حدة مع همسها الشرس:
_إياك !!
انقبضت أنامله التي أحاطتها قبضتها الصغيرة وبريق عينيها يزداد ضراوة مع استطرادها:
_الزم حدك يا “حضرة الضابط”!!!
_حدّي يا بنت ال…….”رفاعي”!!!
همس بها من بين أسنانه بغضب مشتعل بغيظه …
غضبٍ -على حدته- لكنه أرضى شيطان انتقامها لتبتسم ابتسامة جانبية مع همسها الصلد:
_بالضبط…بنت”الرفاعي”!!
ثم نفضت كفه بعنف لتردف بنبرة أعلى:
_الآن أقولها بملء فمي بعدما أعلن عاصي الرفاعي استعداده الكامل للاعتراف بي!
انعقد حاجباه بشدة وهو يتفرس ملامحها بمزيج مشاعره الهائج…
لتبتعد هي خطوة مع انعقاد ساعديها باستطرادها:
_والآن…كيف انتهت بنا لعبة الحياة يا “حضرة الضابط”؟!!دعني أنا أخبرك!!
انقبض قلبه بعنف إحساسه بالخسارة وقد أدرك بحدسه ما تنتويه ….
قبل قولها وهي ترفع أنفها بشموخ كعهدها الجديد:
_أنا.. طيف الصالح…أخت عاصي الرفاعي..كاتبة ناجحة…وامرأة يتمناها ألف رجل!!
ثم ابتعدت خطوة أخرى لتردف بقسوة تدرك أنها تذبحه :
_أنت…حسام القاضي…ضابط فاشل باع ضميره لينتهي به الأمر بلا عمل…عملك الذي كنت تتكبر به على الناس وعليّ…عاجزٌ عن الإنجاب لفظتك أولى نسائك…ولحقت بها الثانية هرباً من جحيمك…هل أكمل أم نكتفي بهذه القدر؟!
أغمض عينيه بألم وقد أصابته كلماتها في الصميم…
كل كلمة…بل كل حرف كانت تهوي على قلبه كجلدة سوط!!!
لقد أجادت “الماكرة” اختيار سلاحها النافذ بل…ومكان طعنتها القاتلة!!!
لكن…هل سيسكت؟!!
هل سيتركها تتشفى فيه؟!!
هل سيتقبل إهاناتها هذه دون رد؟!!!
هل يفعلها حسام القاضي بغروره وعجرفته؟!!
نعم!!!!
هو -للعجب- فعلها!!!!
بقي صامتاً أمامها للحظات مغمضاً عينيه وكأنه يريد أن يجلد نفسه بكلماتها أكثر…
لعل هذا يطهره من دنس خطاياه!!!
قبل أن يفتحهما ببطء لتختفي نظراته الصقرية خلف غشاوة من جرح وألم…
ثم همس بصوت متقطع لم يفقد قوته بعد:
_أنا..أحببتك…حقاً!
اتسعت عيناها قليلاً وهي لا تكاد تصدق نفسها…
ليس من عبارته نفسها فطالما ألقى كلام الحب على مسامعها….
وإنما من قوله هذا الآن!!!!
الآن؟!!!
الآن وهي تعيّره بعجزه وخسارته؟!!!
لقد توقعت منه ثورة لاعنة…
إهانةً بالغة…
أو ربما صفعة أخرى لن تخطئ طريقها هذه المرة!!!
لكن…
من قال إن عبارته لم تصفعها؟!!!
لقد حلت على صفحة قلبها المكدوم كأعنف صفعة!!!!
وكيف لا؟!!
وهي تشعر بحروفها تقطر صدقاً…
تنبض ألماً…
تنغمس بعتابٍ صادق قيّد قلبها بسلاسل من ندم!!!
ندم؟!!
لا …!!!
مضى وقت الندم ولا عزاء لرقيقات القلوب!!!
أفيقي لنفسك يا بنت “الرفاعي”!!!
واطعنيه الطعنة الأخيرة!!!
وبهذا الخاطر الأخير ابتعدت خطوة إضافية حتى صارت المسافة بينهما بعيدة نوعاً لتقول أخيراً بنبرة باردة:
_أنت لم تحب يوماً إلا نفسك…حسناتك لك…وذنوبك تلقيها على غيرك….
ثم صمتت لحظة لتردف :
_ومثلك لن يعرف الحب أبداً حتى يحترق بعذاب آثامه…ربما…وأقول ربما… بعدها تكون للرماد حياة!!!
قالتها لتتبادل عيناهما حديثاً عميقاً مفعماً بمشاعره…
قبل أن تشيح بوجهها هاربةً من نظراته لتقول بنبرة غامضة:
_لا تحزن لأجل صفعتك التي أوقفتها أناملي الآن فلم تشفِ غليل انتقامك…صفعتك الحقيقية تركت أثرها الغائر منذ زمن!
التوت شفتاه ب-شبه ابتسامة- مريرة قبل أن يتقدم نحوها ببطء ليتوقف إزاء كتفيها للحظات…
قبل أن يصلها همسها الذبيح بين حسرته وكبريائه:
_أنتِ الشئ الوحيد في حياتي الذي بقي يذكّرني أن لي قلباً…والآن…
التفتت نحوه ببطء لتلتقي عيناهما للحظة بهذا القرب…
فيقرأ كل منهما ما يجيش بصدر الآخر من أحاديث مختلفة تماماً عما تردده كلماتهما…
بمذاق الحب المنغمس بعلقم الانتقام!
قبل أن تتسع ابتسامته المريرة ليتجاوزها ويسير في طريقه بخطوات ثقيلة منهزمة لا تليق به…
بل…ربما…ما عادت تليق به سواها !!!!!!!
_آنسة طيف…كلمة توجهينها لجمهورك في نهاية اللقاء؟!!!
انتشلتها بها المذيعة من ذكراها العاصفة فتنحنحت برفق لتستعيد رباطة جأشها…
ثم واجهت “الكاميرا” بوجهها الذي دمعت عيناه قليلاً مع قولها الأخير:
_احذر ما تتمناه!! فربما عندما تصل لآخر الطريق تدرك أنك كنت….ضالاً!!!
================
_فهد وجنة!!!
هتفت بها جنة بفرحة بالغة وهي تفتح له باب شقتهما لتجد بيده قفصاً بداخله عصفوران أحدهما أصفر والآخر أزرق…
فضحك وهو يدخل ليغلق الباب خلفه هاتفاً بمشاكسة:
_مفاجأة!!
أطلقت صيحة استحسان عالية وهي تتناول منه القفص لتهتف بمرح:
_حبيبي يا فهد!كنت على وشك أن أطلب منك أن نشتري اثنين بدلاً من اللذين تركتهما هناك .
ثم مدت لهما إصبعها عبر حديد القفص لتردف بحنان:
_أحلى مفاجأة!!أنت أعدت لي أجمل ذكرياتي!!!
فضم خصرها إليه وهو يمنحها إحدى قبلاته العاصفة قبل أن يقول بنبرته العابثة:
_أدام الله علينا رضا الأستاذة!!
ثم تناول القفص ليذهب به إلى شرفة شقتهما حيث وضعه هناك فوق مائدة صغيرة ليقول بلهفة :
_انتظري حتى أوقظ ملك كي تراهما!!ستجنّ بهما!!!
فانطلقت ضاحكة بمرح عندما غادرها ليعود حاملاً الصغيرة التي كانت متذمرة لاستيقاظها من النوم …
لكنها ما كادت ترى العصفورين حتى ضحكت وهي تمد إليهما كفيها بصيحاتها الطفولية…
فهتف فهد بسرعة وهو يستخرج هاتفه من جيبه:
_هيا يا جنة…موعد صورة اليوم!!!
تقدمت جنة جوارهما لتحيطهما بذراعها فيما ضبط فهد الكاميرا مخاطباً الصغيرة بهتافه المنطلق:
_لوكا…ضحكة “بابا”!!!
لتضحك الصغيرة ضحكتها المميزة وفهد يضغط زر التصوير قبل أن يتأمل الصورة مع جنة باعتزاز ناسب قوله:
_مذهلة!
دمعت عينا جنة بفرحتها وهي تحدق في الصورة بشعور يفوق السعادة بكثير…
هي وفهد وملك وخلفهما العصفوران!!!
لقد أوفى فهد بعهده الذي قطعه على نفسه منذ زمن…
صورة كل يوم للصغيرة حتى إذا ما كبرت يكون لديها “ألبوم صور” بعدد أيام عمرها!!!
وها هي ذي قد تخطت عامها الأول ببضعة أشهر ولازال يحافظ على عادته!!!
تنهدت بارتياح وهي تتأملهما الآن وقد انشغل فهد مع الصغيرة بملاعبة العصفورين لتتذكر كيف كان القدر كريماً معها…
هي التي عانت من وحدتها كثيراً ليعوضها القدر بعائلتها الصغيرة التي ملأت حياتها سعادة ونوراً…
يقولون إن الحب أجمل ما في الوجود…
لكنها ترى أن الأهم من الحب هو الثقة به!!!
تلك الثقة التي منحها لها فهد ولازال يبرهن لها عليها كل يوم يزداد فيه ثباته على طريق الحق رغم المغريات…
ورغم أن الطريق كان صعباً بحق…لكن النهاية كانت تستحق!!!
وكأنما صدّقت الصغيرة على فكرتها الأخيرة عندما انطلقت ضحكاتها الرنانة وفهد يدغدغها بمرح …
فابتسمت بدورها وهي تكتف ساعديها بقولها مدّعية الغيرة:
_نحن هنا!!!الدلال كله ل”لوكا” وأنا …راحت أيامي!!!
ليلتفت هو نحوها بحدة قبل أن يتلفت حوله ليقول بمكر عابث:
_لولا أننا في الشرفة لكان لي رد آخر!!
ثم مال على أذنها هامساً بشقاوته اللذيذة:
_موعدنا ليلاً يا أستاذة…كي أثبت لكِ أنكِ في عزّ أيامك!!
فعادت تضحك بانطلاق عندما قاطع حديثهما رنين هاتفه ليفتح الاتصال بقوله المنطلق:
_حبيبة أخيكِ!!!أخيراً !!
ثم صمت لحظات مستمعاً قبل أن ترتسم على شفتيه ابتسامة واهنة مع قوله بجدية تامة:
_كنت أعلم أنك ستفعلينها يوماً!!
قالها ثم أغلق الاتصال وعلى وجهه علامات ارتياح كبيرة…
قبل أن يناول الصغيرة لجنة التي حملتها برفق مع قوله :
_أنا ذاهبٌ لزيارة قبر أبي اليوم!!
أومأت جنة برأسها في تفهم وهي ترمقه بنظرة اعتزاز …قبل أن تسأله باهتمام:
_ماسة ستأتي معك هذه المرة؟!
كانت تعلم أن فهد يواظب على زياراته لقبر أبيه من آنٍ لآخر…
أجل…رغم ما كان بينهما في حياته لكن فهد حافظ على برّه بعد موته!!!
وحدها ماسة كانت ترفض الأمر تماماً…
لكن يبدو أن رأسها قد لان أخيراً فقد قال فهد بارتياح:
_نعم…وددت كثيراً لو تأخذ هذه الخطوة…لو تسامحه…لأجلها هي قبل أن يكون لأجله!!
فابتسمت جنة وهي تقول بشرود:
_لا تزر وازرةٌ وزر أخرى…حتى لو كان هو قد ظلمها في حياته …فواجبٌ عليها أن تبرّه !
أومأ برأسه موافقاً ليمنحها والصغيرة قبلتين متتابعتين قبل أن يغادرهما بقوله:
_سأذهب الآن لأصطحبها كي نذهب سوياً!
وبعدها بقليل…
كان يقف مع ماسة أمام قبر مميز ببنائه قد خصص مع أشباهه لعلية القوم…
عندما التوت شفتا ماسة بابتسامة شاحبة وهي تتلفت حولها لتقول باستهجان:
_حتى المقابر انتقلت إليها عدوى المظاهر…لا أظنني رأيت قبراً بهذه الفخامة!!
فالتفت إليها فهد بنظرة حنون وهو يدرك ما خلف عبارتها من ألم تريد مداراته…
ليتنهد بدوره بحرارة قبل أن يحيطها بذراعه قائلاً بحزم رفيق:
_الحقد لا يليق بقلبك يا ماسة…دعي قلبكِ وما جاء هنا لأجله!
ظلت ترمقه ببصرها للحظات قبل أن تبتلع غصة حلقها لتعود ببصرها للقبر الذي حمل اسمه…
جاسم الصاوي!!!
امتلأت أعماقها بالمرارة وهي تدرك الآن في هذه اللحظة أن اسمه لم يكن له صدًى لديها إلا بعد موته!!!
هو بخل به عليها علناً في حياته…
والآن …لم يعد يصيبها منه إلا رجفة باردة وهي تقرأه على قبره!!!
لكنها ومع هذا لم تعد تشعر عليه بحقد كما السابق!!!
فقد رضيت بتصاريف القدر معها كلها…
كرم السماء أدركها بصدق موعودها…
إن مع العسر يسراً!!!
وهنا دار شريط حياتها كله في مخيلتها…
طفولتها الهانئة مع رحمة…
مراهقتها البريئة مع عزيز…
ذكريات حادثها الأليم التي ما عادت تؤرقها بل تمنحها المزيد من القوة…
وأخيراً قصتها العامرة مع سيد قلبها…عاصي!!
والتي أخذت منحنيات ألمها بصعودها وهبوطها حتى وصلت بها أخيراً لبر الأمان!!!
وبهذا الخاطر الأخير استعاد قلبها سكينته…
لتأخذ نفساً عميقاً ثم استغفرت الله بصوت خفيض…
قبل أن ترتفع أناملها بدعاء خاشع لرجلٍ أفضى الآن إلى ما قدمه…
ولم يعد باقياً له من عمله إلا ولد يدعو له!!!
ظلت على هذا الحال لدقائق مغمضة العينين قبل أن يسحبها فهد ليقول بحنان قلق:
_يكفيكِ هذا اليوم!
قالها وهو يشعر بمزيج من القلق والإشفاق عليها من ذكرياتها -خاوية الوفاض- مع أبيه…
فالتفتت نحوه بنظرة مطمئنة قبل أن تومئ برأسها موافقة لتغادر معه المكان…
ولم تكد تستقل معه سيارته حتى سألته بشرود:
_كيف عرفت أنت عن وجود أخت لك قبل عثورك عليّ؟!
فابتسم مدركاً مغزى سؤالها ليقول وهو ينطلق بالسيارة:
_هو أخبرني…تعرض ليلة ما لإطلاق نار…ولما شعر باقتراب أجله أوصاني عليكِ!
فدمعت عيناها رغماً عنها لكنها عضت على شفتها لتهمس بتساؤل:
_ولماذا إذن لم يعترف بي؟!
تنهد فهد بحرارة ثم قال بتعقل:
_هو ذات الصراع القديم بين الضمير والمصلحة…بين العاطفة والعقل…وهو -رحمه الله- أخطأ الاختيار!
أطرقت برأسها للحظات ثم همست بأسى:
_هل تظن أنه قد كان له مبرر في ما فعل؟!
فالتفت فهد نحوها ليقول بعد تفكير :
_قرأت مرة عبارة تقول “لو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه”…لقد تعلمت ألا ألوم أحداً على اختياره طالما لم تضعني الظروف مكانه…لا يدري بالعباد إلا رب العباد!
أومأت ماسة برأسها موافقة قبل أن ترفع عينيها إليه لتهمس بابتسامة واهنة:
_أنا سامحته!
ارتفع حاجباه بدهشة للحظة ثم ابتسم بدوره ليقول بشرود:
_وأنا أيضاً…في البداية كان الأمر صعباً…لكن الأيام تدور لتجعل الهم الكبير يصغر حتى يتلاشى.
تنهدت بحرارة وهي تشيح بوجهها لتراقب الطريق بشرود هي الأخرى…
قبل أن ينتزعها هو منه بقوله الذي اكتسب الآن الكثير من المرح:
_ستتناولين العشاء معنا…لوكا صارت قنبلة شقاوة…تعاليْ واستمتعي بانفجاراتها!!!
فضحكت بحنان حقيقي وهي تلتفت نحوه قبل أن تقول بنبرة اعتذار:
_لن أستطيع اليوم…عاصي وحده مع نور وضياء .
ليضحك بدوره وهو يقول مشاكساً:
_نور ليست مشكلة…لكن ضياء هذا كارثة…يقولون “الولد لخاله”!!!
فخبطت كفيها وهي تنطلق ضاحكة بانطلاق هذه المرة لتقول أخيراً بمرح:
_بالطبع كارثة!!!ما بين “أبيه” و”خاله” …ماذا تنتظر منه أن يكون؟!
==============
جلس على كرسيه الطويل أمام ذاك القائم الخشبي والذي نصبت عليه لوحة رسم سارت عليها فرشاته بمهارة لم يؤثر عليها طول هجرانه لفنه…
قميصه الأبيض بياقته المستديرة الواسعة يشبه إحساسه بصفاء روحه الآن…
وقد أطلق لحيته -نوعاً- مع تهذيبها وسمح لخصلات شعره باستطالة محببة أبرزت لونه المميز …
والذي صنع مع “غابات الزيتون” في عينيه مزيجاً آسراً خاصةً لعينين -مغرمتين- كعينيها!!!
اقتربت منه بخطوات متئدة وهي تحمل صغيرها الذي أوشك أن يكمل عامه الأول…
حتى صارت جواره تماماً فابتسمت وهي تراقب لوحته بانبهار وشت به نبرتها الهانئة:
_خطفت قلبي يا عاصي!
التفت نحوها برأسه ليمنحها ابتسامة ساحرة ما عادت تفارق شفتيه مع قوله الحنون رغم وقاره:
_مَهر ماسة!
ضحكت بسعادة بالغة وهي تتذكر ذاك اليوم الذي طلبت فيه منه أن يزيد لها في مهرها لوحة لها وسط الطبيعة …
يومها أخبرها أن اليد التي تصادق السلاح لن تستقر فيها فرشاة رسم!!
لم تكن تعلم وقتها أنه سيفعلها!!!
وأن -مهرها- الذي تأخر هذا سيكون بهذه الروعة…
وهذا الوقْع على قلبها الذي يكاد الآن يضج بدقاته!!!
لهذا ضمت الصغير إليها بأحد ذراعيها …بينما ضمته هو بالآخر مع قبلة عميقة على وجنته صاحبت همسها:
_تصدقني لو قلت إنها تساوي عندي كنوز الدنيا كلها؟!
فاتسعت ابتسامته وهو يتناول منها الصغير ليداعبه بمرح للحظات…
قبل أن يضمه لصدره بقوة رفيقة وقد أسند ظهر الصغير إلى صدره هو…
ثم وضع -الفرشاة- في يد الصغير التي أمسكها عاصي بنفسه ليعاود الرسم لكن بأنامل الصغير هذه المرة!!!
الصغير الذي كان يطلق الآن ضحكات عالية وقد سرته هذه الحركة ليهتف بصوته الطفولي:
_”بابا”!!
ظل يكررها وسط صيحاته الفرحة العالية وهو يحاول لمس اللوحة بكفه الطليق لكن عاصي أجاد تطويقه بحزمه الحنون مع قوله وكأنه سيفهمه:
_ليس الآن…فيما بعد!
فدمعت عينا ماسة بتأثر وهي تراقبهما بعاطفة فائرة…
عاصي سيعلم ابنه كيف يمسك فرشاة الرسم …
وليس السلاح كما فعل به أبوه من قبل!!!
لقد وعى الدرس جيداً بعدما دفع الثمن غالياً…
لكنها انتزعت نفسها من شعورها هذا بضحكة صافية وهي تميل على رأس عاصي بقبلة عميقة مع قولها:
_أرأيت كم يشبهك “السيد” الصغير؟!نور نامت بمجرد ما وضعتها في فراشها بينما تشبث هو بي حتى أتيت به إلى هنا.
فضمه عاصي إليه أكثر مكتفياً بابتسامة حانية ولازال يرسم وأنامله قابضة على كف الصغير …
لتتابعه ماسة ببصرها للحظات تتأمل اللوحة بشرود…
والتي ضمت وجهاً يشبه وجهها بعينيها الفضيتين وسط سماء صافية في أعلى اللوحة…
بينما هناك في أسفلها كان قاربٌ صغير مائل …
نصفه فوق سطح البحر ونصفه بدا مختفياً أسفله…
وحول القارب كانت أمواج عالية يعلوها زبد أبيض …
فعقدت حاجبيها بتفكر لتسأله بدهشة:
_ماذا قصدت بها؟!
صمت للحظات مكملاً ما يفعله…
ثم ناولها الصغير الذي كان قد بدأ في البكاء لتحمله برفق على كتفها مع تربيتها على ظهره…
ليقول أخيراً بغموضه العتيد:
_أخبريني أنتِ…ماذا ترين فيها؟!
فابتسمت وهي تقول ببعض المرح:
_اختبار؟!
هنا التفت هو نحوها برأسه لتشرق شموسه الزيتونية على بحار فضتها مع قوله بنبرته المميزة:
_وهل تحتاج ماستي لاختبار ؟!أنتِ دوماً تنجحين في قراءتي وكأن مفاتحي كلها لديكِ!
ضحكت بفخر يليق بعاشقة تسمع هذا الكلام…
ثم عادت تشرد ببصرها في اللوحة لتشير نحو البحر بإصبعها هامسة :
_هذا البحر هو أنت…طالما كنت أشبهك بالبحر…في جنونه وغموضه …حنانه وسحره…هياجه وسكونه…هو مثلك…يا سيد الأضداد!
_أكملي!
همس بها وهو يحدق مثلها في تفاصيل اللوحة وكأنه يريد أن يراها بعينيها هي …
فتنهدت بحرارة ثم انتقل إصبعها لصورة وجهها في اللوحة وسط السماء لتقول باعتزاز:
_وهذي أنا…رسمتني مكان الشمس!
فالتفت نحوها بنظرة جانبية مع ابتسامة استحسان لتردف هي بحيرة :
_لكن…هذا القارب!!!
صمتت للحظات وكأنها تبحث عن تفسير لهذا القارب -شبه الغارق-
لكنه أنقذها من حيرتها عندما همس بصوته ذي الشجن:
_هو عمري…نصفه غرق في أعماق حالكة وكم أتمنى لو أدرك النصف الآخر!
كان الصغير قد استسلم للنوم وقتها تماماً فأرقدته على الأريكة المجاورة برفق…
ثم عادت إليه لتحتضن كتفيه بكفيها مع همسها الواثق:
_ستدركه…بل سندركه معاً!!
فرفع إليها رأسه بابتسامة واسعة قبل أن يتناول كفيها بقبلتين متتابعتين…
ثم قام من مكانه أخيراً ليواجهها بقوله :
_تعلمين؟!أنتِ معجزتي في زمانٍ يزعمون إنه بلا معجزات!!
التمعت عيناها ببريق فضتها الذائبة والتي امتزجت بأطياف العشق في مقلتيها مع همسها :
_معك حق…ما بيننا لا يمكن إلا أن يكون هكذا…
ثم صمتت لحظة قبل أن تتعلق بذراعيها في عنقه لتكمل عبارتها بين شفتيه:
_معجزة!
============
جلست علي رمال الشاطئ تراقب الشروق بابتسامة واسعة…
ورغم أنها لم تكن أول مرة تفعلها فطالما عشقت هذا المنظر ،لكنها تشعر به اليوم مختلفاً…
أم أن الاختلاف نابعٌ من روحها هي هذه المرة؟!
روحها التي تشبعت بفرحتها بعد طول حزن…
وأمانها بعد طول خوف؟!
انقطعت أفكارها عندما شعرت به يرفعها من كتفيها ليوقفها أمامه …
شموسه الزيتونية تعانق نظراتها العاشقة بحنان لا يجيده مثله…
قبل أن يهمس بعد صمت قصير:
_ماستي والشروق…قصة لن يفهمها إلا أنا وأنتِ!!
اتسعت ابتسامتها وهي تبسط راحتها على صدره بحركتها الأثيرة لديه لتهمس بحب:
_قلتُ يوماً إنك تشبه الشمس…مهما آذانا لهيبها لا يسعنا إلا أن ننتظرها كل شروق….لأن غيابها يعني النهاية!!
خفق قلبه بعنف تحت راحتها ليفضح لها تأثره بما قالته…
فيجيب قلبها بجنون خفقاته هو الآخر!!!
عاصي عاد لتوه من داخل البيت وقد أدى صلاة الفجر!!!
صار يؤديها بحق الآن…
لا رياءً ولا سمعة!!!
وليس مجرد إثبات لسطوة أو واجب اجتماعي !!!
لكنه أداها بقلبه…
قلبه الذي نفض عنه ركام خطاياه بعدما جرب مرارة “العقاب” وحلاوة “التوبة”…
قلبه الذي نصر “ماسة” فطرته على “شيطان” جبروته…
قلبه الذي أنقذ نفسه من الغرق…
وأنقذها هي معه!!!
لهذا اتسعت ابتسامتها العاشقة عندما فاجأها الآن بأن جلس على الرمال متملكاً خصرها بكفيه …
حتى أجلسها على ركبتيه كذاك اليوم الذي كانا فيه على سطح القصر …
قبل أن يطيل النظر لبحار فضتها التي غشيتها السكينة الآن مع همسها وكأنها تذكره بعبارته وقتها:
_لم تكن لتترك ماستك تلامس الأرض دون أن تلتقطها!!
اتسعت ابتسامته كثيراً وهو يضمها لصدره بقوة مع همسه الحاني جوار أذنها:
_تقرئين صمتي كعادتك!
فتعلق ذراعاها بعنقه بقوة وهي تراقب شموسه الزيتونية التي عادت لتألقها الحنون …
ثم همست بملء ما تحمله روحها من حب:
_رغماً عني…أنت أمامي كتاب مفتوح يقرأه قلبي قبل عيني!
فأراح رأسها على صدره ليهمس بحنان مع مسحة من ندم:
_رغم كل ما كان؟!
خفضت ذراعيها المعلقان بعنقه لتعاود ملامسة صدره في موضع القلب تماماً مع همسها الدافئ:
_لولا ما كان…لما وصلنا إلى ما نحن فيه الآن…هو اختبار تجاوزناه معاً حتى ذقنا فرحة نجاحنا.
ثم عادت تدفن وجهها في صدره مع آهة خافتة ناسبت همسها الحار:
_وأي فرحة!!!
هنا امتدت أنامله تداعب خصلات شعرها التي أثارها الهواء بشرود وهو يراقب قرص الشمس الذي بدأ يعلن سلطانه على صفحة السماء …
قبل أن تولد على شفتيه ابتسامة رائقة مع همسه :
_لم أحلم يوماً بسعادة كهذه …
ثم رفع ذقنها إليه ليردف بحرارة أذابتها:
_ما كان معنى العمر لو لم تكوني فيه؟!
ارتفع حاجباها بتأثر وعيناها تطوقان ملامحه بقوة عشقها…
قبل أن تنسحب أنامله ببطء مثير من شعرها إلى وجنتيها…
ثم طافت أخيراً على شفتيها مع همسه المتوهج بعاطفته:
_غنّي!
ابتسمت ابتسامة بعمق عاطفتها الآن نحوه لتهمس بصدق:
_كنت أشعر أنك ستطلبها…حتى لو لم تفتقد أنت صوتي…أنا افتقدت أن أسكب ألحاني على صدرك.
أخذ نفساً عميقاً يملأ صدره من هذا الهواء النقي الذي يحيط به…
فيما بدأت هي غنوتها التي اختارتها لأجله…
ربك لما يريد أحلامنا هتتحقق
وكلامنا هيتصدق والغايب هيعود
ربك لما يريد قلب العاصي يسلم
وعيونا هتتكلم و لا شىء يبقى بعيد
ربك لما يريد الصعب بيتهون
والحزن بيتلون طول ما الايد في للايد
ربك لما يريد هلاقيك بتقربلي
تفتح حضنك قبلي ولا فى بينا حدود
ربك لما يريد
حب لأخر حته في قلبك، دوب دوب
متخبيش شوقك ولا حبك، دوب دوب
سيب احساسك ياخدك ليا
واهجر ناسك واسكن فيا
بكره ده لسه حكاية بعيدة
لسه فى علم الغيب
ربك لما يريد
حب كانك حلم معدي، عيش عيش
متخليش ولا ثانية تعدي، وعيش عيش
خدني لحضنك اروي حنينك
واقسم حزنك بيني وبينك
وارضى بكل اللى بيتقسم
ده المكتوب مكتوب
أنهت غنائها مغمضة العينين كعادتها قبل أن تفتحهما لتصطدم بابتسامته الواسعة على شفتيه …
ثم أتبعها بقبلته على جبينها مع همسه:
_صوتك مع جمال الشروق سحرٌ .
فابتسمت بدورها قبل أن تحتضن وجنته براحتها لتسأله بدلال:
_هل تذكر أول عبارة قلتها لي في أول لقاء لنا؟!
شرد ببصره مفكراً وهو يسترجع بذهنه أول لقاء لهما…
ليبتسم هامساً بإدراك:
_يومها كنتِ شاردة…فسألتكِ هل ستبقين هكذا طويلاً؟!
تأوهت بخفوت وهي تمرغ وجهها في صدره لتهمس بنبرة دافئة:
_وكأنك تنبأت وقتها بحكايتي معك…أنت لم تنتزعني من شرودي فحسب بل من حزن عمري كله…وكأن ما سبق في حياتي قبلك كان وهماً أفقت منه على حقيقة واحدة…
ثم رفعت عينيها مع شفتيها إلى شفتيه في هدية أخرى ناعمة تليق بهمسها:
_حبنا!
ضمها إليه أكثر وهو يبادلها عاطفتها بأخرى أكثر حرارة…
وأمامهما كانت الشمس تستأنف رحلتها في الشروق…
شعاعها النقي بقوته يبسط سلطانه على المرئيات لينعكس على موج البحر ببريق يشبه “الماس”
فيقهر بروعته “شيطان” الظلام الذي اندحر مه?

يتبع…

لقراءة الفصل التالي (الجزء الثاني من الرواية) : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى