رواية ماسة وشيطان الفصل السادس والأربعون 46 بقلم نرمين نحمد الله
رواية ماسة وشيطان البارت السادس والأربعون
رواية ماسة وشيطان الجزء السادس والأربعون
رواية ماسة وشيطان الحلقة السادسة والأربعون
*برتقالي*
======
_تدللي!
الكلمة السحرية تدوي في أذنيها بطنين لذيذ ..مريح ومتعب!!
خمسة حروف فقط تجتاحها بما يشبه “القصف” ..
فتتلقاه بما يشبه “السُكنى”!
كيف يمكن هكذا أن يتجلى معنى “الاستيطان” في قلبٍ سأم أن تلفظه كل البلدان ؟!
هل قالها حقاً أم أنها توهمتها من فرط ما تمنتها ؟!!
“القضبان” تعود لترتفع في عينيه العنيدتين فيزداد “سديم” عينيها فوضوية ..ولمعاناً !!
شفتاها تنفرجان مع تعلق نظراتها بعينيه اللتين أغمضهما بسرعة كأنه هو الآخر يتعجب كيف خرجت منه الكلمة “العادية” بهذه الحميمية “غير العادية” !
يراها تتجاوزه لتغادر الشرفة مبتعدة بسرعة واهمة بفظاظتها المعهودة..
لكنه كان يقرأ -بخبرته- ما يعنيه تشبث أناملها -المتشنج-بسلسلته !
_مجد ستبيت معي ! انصرفوا الآن كي تستريح!
تهتف بها بخشونة لا تتكلف المجاملة فيرتفع حاجبا نزار بهتافه المرح كعهده :
_مستحيل! “السندباد” وافق؟!
تتعجب لوهلة من وقع الاسم على أذنيها لكن شعورها بالخجل مما خلف سؤاله يغلبها فتترجمه طبيعتها لعبارتها الخشنة :
_عندما أكرر كلامي مرتين فالثانية كالعادة لا تكون جيدة الأثر على الآخرين!
تكتم الخادمة ضحكتها فيما يزم نزار شفتيه وهو يتخصر ليهتف مدارياً حرجه :
_أتمنى أن تعجبكِ هديتي !
لا تدري لماذا شعرت بطيف من التوعد في كلماته لكنها لم تبالِ على أي حال ..
خاصةً و”السندباد” -بزعمه- ينحني على ركبتيه أمام الصغيرة قائلاً بنبرته المنهكة :
_ستبيتين هنا الليلة .
لم يبدُ وكأنه يسألها عن رأيها خاصةً مع هذه السعادة التي كانت تتقافز على وجهها ..
والتي تراجعت مع مسحة خوف طفيفة ناسبت قولها وهي تتعلق بذراعيها في عنقه :
_ستكون أول مرة أبيت فيها بعيدة عنك.
_لو لم تكوني راغبة ..
يقولها وهو يربت على ظهرها مطمئناً لكنها تقاطعه بالتفاتها نحو طيف هاتفة ببراءة:
_ألا يمكن أن يبيت “بابا” معنا؟!
ضحكة نزار العالية تزيد من حمرة وجنتي طيف التي رمقته بنظرة أجبرته أن يبتلع بقية ضحكاته ..
نظرة صارمة ناقضت قرع الطبول الذي كان يدوي بين ضلوعها ..
الصغيرة مرتاعةٌ من أول ليلة تبيت فيها بعيداً عنه ..
وهي مرتاعة من أول ليلة تبيت فيها مع أحد !!
أجل ..لقد اعتادت وحدتها حتى ألفتها وصار ما دونها غربة !!
تراقبه وهو يعانق مجد بهذه الطريقة التي تكاد تذيب أوصالها ..
ورغماً عنها تجد نفسها تقارنه بحسام من جديد ..
الغريب أنها في علاقتها بحسام لم تكن مهتمة بهذا الجانب المادي الملموس من العاطفة ..
كانت تتأفف حتى من مجرد مصافحة باليد بينهما ..
كانت -ببساطة- تخاف!
تخاف أن تنجرف لتلك الهاوية التي سقطت فيها أمها يوماً!!
لكنها لا تدري لماذا مع يحيى تتوق لعناق يشبه هذا الذي يمنحه لمجد ..
تتوق للمسة أنامله الحانية كما يفعل بوجنتيها ..
تتوق لهذا الحنان الذي تترجمه أفعال لا أقوال ..
ربما هو ليس توْق امرأة لرجل إنما ..توْق طفلة لأب!
الدمع العصي من جديد في عينيها ينذر بخيانة فتطرق برأسها ..
_قيمر!
تبتسم ابتسامة بمذاق الدموع وهي تسمع الكلمة تنطلق من يحيى ومجد في نفس اللحظة !!
كأن كليهما وصل من الالتحام بالآخر ما جعله يشعر بخوفه ويرغب في طمأنته في ذات اللحظة ..وبنفس الطريقة !!
آه!
كم تشعر الآن أن لغة “الكاتبة” -الثرية التي طالما افتخرت بها- فقيرة بل معدمة !
وكيف لا وهي تخلو من كلمة بمعنى “قيمر” هذه ؟!
بكل ما تحويه من احتواء ..حب ..وأمان!
ترفع عينيها فجأة لتصطدم بنظراته هو نحوها ..
يالله!!
لم تتصور يوماً أن تصرخ عينان بتناقض كهذا الذي يضطرم الآن في أحطاب نظراته ..
رجاء ..غضب ..حزن ..يأس ..وعيد ..اعتذار ..والكثير..بل الكثير جداً من الوجع !
تدرك أنها لتوها فتحت قفلا عنيداً في قضبان عينيه لكن هل يكفي؟!
يستقيم في وقفته أخيراً ليعطيها ظهره دون سلام في تصرف فظ كان سيغضبها في أي موقف سوى هذا ..
بل إنها لا تبالغ لو زعمت أن خروجه هكذا يستحق الشكر ..
تخاف أن يخذلها وهنها معه أكثر!!
تغلق الباب خلفهم وهي تتمنى لو كانت -بهذه السهولة- تستطيع غلق كل أبوابها المفتوحة ..
تشعر ببعض الألم في كفها فتنتبه لانغراز سلسلته في لحم أصابعها ..
هل يقترن الألم باللذة ؟!
نعم..الآن يمكنها الحلف بهذا غير حانثة !!
ترفع السلسلة نحو عينيها الغائمتين بذات الدمع العصي الذي ازداد كثافة بتعليق مجد :
_”بابا” من صنعها ! تشبه خاصتي! ارتديها بسرعة ..أريد رؤيتها عليكِ .
تزدرد غصة حلقها وهي تشعر بنفسها في حلم غريب ..
تقترب من الصغيرة لتجثو على ركبتيها أمامها ..
_ألبسيني إياها !
لا تدري بأي صوت خرجت منها !!
هي لم تشعر سوى بأنامل الصغيرة -التي حملت مذاق لمسته منذ لحظات- تدغدغ عنقها بهذه القشعريرة الدافئة ..
لم تشعر سوى برائحة عطره التي علقت بها تكتسح حواسها ..
لم تشعر سوى بالصَدَفة “الباردة” تتدلى على صدرها “المشتعل”..تتأرجح فوق قلبها يمنة ويسرة فيرقبها كطفل يمد لها ذراعيه اشتياقاٌ متقافزاٌ بنشوة لم تعرفها من قبل بهذه الضراوة ..
_أن أهديكِ إياها يعني أنني أمنحك ما لم أمنحه لامرأة منذ زمن بعيد ..احترامي!
تكاد تسمعها بصوته الذي يتردد صداه بلا ملل بين جدران روحها الشاسعة ..والخربة !
احترامي؟!
احترامي!!
ربما لو كان قال (إعجابي) أو حتى (حبي) ..لما زلزلتها كما فعلت هذه الكلمة ..
هذه الكلمة التي تعني الكثير ل”امرأة” بتاريخها..ومن “رجل” مثله !
_ماذا أحضر لك “أنكل” نزار؟!
تنتزعها بها مجد من طوفان عاطفتها فتتكلف ابتسامة وهي تنهض من مكانها لتتوجه نحو الجوار ..
تفض غلاف هديته لينتابها بعض الفضول نحو الصندوق المربع ..
تحاول فتحه بصعوبة وهي تصب عليه لعناتها سراً ولولا وجود مجد لجهرت بها ..
قبل أن تشهق أخيراً ببعض الذعر!!
فقد انفتح الصندوق أخيراً لتخرج منه لعبة زنبركية سوداء بشعة المظهر وقد كتب جوارها داخل الصندوق (مع تحياتي ..فرقع لوز)!
ضحكات مجد العالية جوارها تمتزج بانعقاد جبينها هي الساخط والذي يتحول رويداٌ رويداً لابتسامة تتسع شيئاً فشيئاً ..
ابتسامة تتحول لضحكة قصيرة خافتة..
ثم طويلة عالية ..
ثم تصطدم بنظرتها في مرآة قريبة لهذه الدلاية في عنقها ..
هنا فقط ينتصر ..ينتصر الدمع العصي!!
تجهش فجأة في بكاء خافت وهي تركض نحو مجد المندهشة ..
تجثو على ركبتيها أمام كرسيها تعانقها بقوة ..
بقوة توازي حرمان العمر الطويل !!
العالم يدور بها ..
يدور،ويدور ..
فلا تبصر سوى طفلة حافية القدمين تمسك بقطعة خبز جافة تجوب الطرقات متعلقة بجلباب أمها ..
طفلة تبكي ..والآن ..
الآن تضحك !!
_هل أزعجتكِ هدية “أنكل” نزار إلى هذا الحد ؟! سأخاصمه ! سأشكوه ل”بابا”!! لا تبكي ..أرجوكِ ..لا تبكي!!
براءة مجد الطفولية تبدو وكأنها تسكب المزيد من الملح فوق جراحها ..
كيف تخبر هذه الطفلة أنها فعلت بها مالم يقدر عليه أحد قبلها ..
أخرجتها من صومعتها الحامية لتواجه العالم من جديد ..
لا كطيف الرفاعي ..ولا حتى طيف الصالح ..
بل طيف ..طيف فحسب دون أية حسابات!
طيف بكل احتياجها ..حرمانها ..رغباتها ..أحلامها التي دفنتها بين سطور الورق !!
_أنا بخير! فقط ..لم أشعر هكذا بالسعادة قبل عهد بعيد !
دون محاذير ..
دون كذب ..
دون مبالغة ..
تقولها وهي تكاد تعتصر الصغيرة بين ذراعيها ..
الصغيرة التي مدت أناملها لتمسح دموعها فتناولت هي أناملها الصغيرة لتغرقها بقبلاتها ..
لم تمنح هذه العاطفة منذ زمن طويل ..
طويل جداً لا تعلمه ..
كأنما أقفال قلبها الصدئة انكسرت فجأة لتندفع كل مشاعرها من سجونها متمردة طاغية .
_سأنام في حضنك!
تهتف بها مجد بضحكتها الطفولية لتهز طيف رأسها قائلة بشرود :
_طوال هذه السنوات بعد وفاة أمي لم أنم جوار أحدهم ..
ثم تلتفت نحوها لتقبّل خدها الممتلئ مردفة:
_لكنك استثناء!
ضحكات مجد تتزامن مع طرقات الباب الذي عادت طيف تفتحه لتجد الخادمة تحمل لها ثياب النوم لمجد مع حاجياتها الضرورية ..
تساعد الصغيرة في تبديل ثيابها ثم تحملها بين ذراعيها لتستلقي جوارها على الفراش ..
_بابا يحب النوم على جانبه الأيسر ..أخبرته أن هذا قد يكون محرماً فصار يستمع لي وينام على جانبه الأيمن ..لكنه عندما يستغرق في النوم يعود للاستلقاء على الأيسر .
تثرثر مجد بعفويتها الطفولية فتبتسم طيف بشرود وهي تداعب خصلات شعر الصغيرة متسائلة :
_تحبين مراقبته نائماٌ؟!
_دوماً ! أحب مراقبته دوماً ! تعلمين أنه يشبهك ؟! لا يضحك كثيراً ..يشرد كثيراً ..ويحبني كثيراً كثيراً كثيراً ..
تفرد معها مجد ذراعيها في تصوير لكلامها فتتسع ابتسامة طيف وهي تستعيد ملامحه البائسة لهذه الليلة ..
نبرته المنهكة ..
وهذا الوجه المنطفئ الذي تراه منه لأول مرة ..
فتسألها بحذر:
_هل أحببتِ بغداد؟! ضايقكِ شيء هناك؟!
_على العكس ..أحببتها كثيراً ..لكن “بابا” يقول إن بغداد كالشمس ..ننعم بدفئها في البعد ولو اقتربنا نحترق .
ينعقد حاجباها مع قسوة التشبيه للحظة لكنها تعاود الابتسام بمرارة ..
ربما لو أرادت وصف مصر لما وجدت تشبيهاً أرق!!
آه !
كم يشبهها!!
ربما هذا سبب التجانس الغريب الذي تستشعره نحوه !!
_احكي لي حكاية !
تنتزعها بها مجد من شرودها فتتنهد وهي تضم رأسها لصدرها ..
ورغماً عنها تتذكر حكاية قديمة تطفو على سطح أفكارها الآن ..
كانت أمها تحكيها لها وهما تفترشان أحد “الأجولة” القديمة فوق فرن خارجي لأحد البيوت ..
الذكرى تبدو طازجة جداً حتى إنها تسمع صوت نقيق الضفادع ..صرصار الحقل الذي يشكو الليل الطويل ..تشم رائحة الطين المبلل ..تحتضن فراغ الحقول القريبة التي تبدو في الظلمة كسماء أخرى إنما غاب قمرها ..
ترى أعمدة الإنارة من بعيد بضوئها الهزيل الذي التفت حوله حشرات تزاحمت ولا تدري أن في الاقتراب هلاكها ..
تسمع صوت نهيق حمار ..ثم نباح كلب ..
هذه التي كانوا يزعمون لها في طفولتها أنها أمارة رؤيتها لشيطان ..
لكنها -حتى في ذاك العمر الصغير- تعلمت بأقسى طريقة أن شياطين الإنس الذين نراهم يخيفون أكثر من شياطين الجان الذين لا نراهم ..
ربما لهذا تضم طرف الغطاء “الفخم” الذي تلتحفه الآن بنفس الطريقة التي كانت تضم بها البطانية “المهترئة” وقتها و التي كانت تتظاهر بأنها تمنحها ستراً أو دفئاً ..
والحقيقة أنها لم تكن تمنحها أياً منهما!!
_”كان ياما كان ..في سالف العصر والأوان ..وقبل الزمان بزمان ..وما يحلاش الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام ..كان فيه أميرة ..”
ترويها ب”العامية المصرية” كما كانت تسمعها من أمها لتتسع ابتسامتها موازية لابتسامة مجد المستمتعة بما ترويه ..
فلا تدري أيهما تسلي الأخرى !!
تقطع حكايتها أخيراً بعد دقائق طالت وهي ترى مجد قد استسلمت تماماً النوم ..تضمها إليها بقوة رفيقة وهي تقبل رأسها شاعرةً كم افتقدتها للفترة السابقة ..وخائفة من فراق أيام قادمة ..
ثم تتنهد بعمق وهي تنتبه أنها تنام على جانبها الأيسر ..
تتذكر ما روته لها مجد عن طريقة نومه فتسبل جفنيها وهي تتردد قليلاً قبل أن تستدير بجسدها لتنام على جانبها الأيمن تتخيل أنها تواجهه في نومته !!
شعورٌ ممتع تشعله لذة الاختلاس وهي تغمض عينيها للحظات شاعرةً بعظم المؤامرة!!
أجل ..كلهم تآمروا عليها !!
ذكرياتها ..ماضيها ..افتقادها لمجد ..وله ..و…وهو!!
هو ..بوسامته ..بحنانه ..بنبرته المنهكة ..بهديته ..بصوته ..
وهذه ال “تدللي” المرعبة ..الفتاكة ..التي تستحق أن تصنف مع الأسلحة المجرمة دولياٌ !
وأخيراً هذه الابتسامة الخاصة ..الخاصة جداً على وجهها والتي تقسم أنها جديدة على رمال شفتيها ..
أتى بها “سندباد” على سفينته وزرعها هناك على ملامحها هي!
تبتسم لسحر التخيل ثم تشهق فجأة وهي تنهض من رقدتها فجأة كأنما لدغها عقرب!!
ما هذا الذي تفعله ؟!
كيف تستسلم لهذا الوهن ؟!
للمزيد من هذا الغرق في بحر لا تأمن أمواجه ؟!!
_خرب بيت…!!
تقطعها دون أن تكملها هذه المرة كأنما لم يطاوعها قلبها ..
فتكتفي بزفرة ساخطة وهي تغادر الفراش ..
تهم بتبديل ثوبها استعداداً للنوم لكنها تتسمر أمام المرآة ..
وبالتحديد أمام صدفته التي استقرت جوار قلبها ..
ستخلعها !
لن تسمح له أن يراها وهي ترتديها ..
أبداٌ ..أبداً ..
فقط ستحتفظ بها جوار قلبها هذه الليلة ..
هذه الليلة فقط !!
فلتكمل استثنائيتها لآخرها!!
وفي غرفة مجد كان هو يقف أمام فراشها الخالي يشعر بالغرابة ..
لماذا سمح أن تبيت هذه الليلة بعيدة عنه؟!
منذ متى يأتمن عليها أحدهم ؟!
هل ستهزم هذه المرأة قناعاته ؟!
هل ستتسلل عبر هذا الشق الضيق للباب الذي طالما أغلقه ؟!!
يغمض عينيه ثم يضغطهما بتعب حقيقي وهو يجلس على طرف الفراش الخالي فتصطدم مخيلته بها وهي تمد ذراعيها بلهفة تحتضن مجد بعدما فتحت لها باب شقتها ..
المشهد يعاد ويكرر فتختلط صورتها ..ب ..صورة أخرى !!
نفس اللهفة ..نفس الشوق ..نفس الذراعين اللذين ظن أن بينهما تنبت الف جنة فكانا له جحيم سقر !!
افتقدها ؟!
كاذب لو قال لا ..
وملعونٌ لو قال نعم!!
_انسَ يا يحيى..انسَ!
يرفع وجهه فجأة لتصطدم نظراته بعيني نزار الواقف أمامه وقد تخلى عن نبرة عبثه المعهودة وهو يسأله بملامح جامدة :
_لماذا منحتها السلسلة بدلاً من الخاتم ؟!
ينعقد حاجباه بشدة مع انفراج شفتيه وكأنه يهم بالرد لكنه استنكف ..استنكف أن يكذب على صاحبه !
هذا الذي شعر به نزار وهو يكمل أسئلته بنبرة لاتزال على جمودها الخطير :
_لماذا تركت مجد تبيت معها ؟! ظننتك لن تفعلها أبداً !
يطرق برأسه دون رد فيقترب منه نزار ثم يجلس على الأرض أمامه مربتاً على ركبته بقوله :
_ليس لي أن أخبرك بما يجب أو لايجب عليك فعله ..إنما دعني فقط أسألك ..هل تنتبه أين تحملك خطواتك ؟!
يرفع رأسه ببطء وهو يعي جيداً ما يقصده صديقه بكلماته فيشيح بوجهه لكن نزار يستقيم واقفاً من جديد ..
يربت على كتفه بحركة داعمة مكتفياً بقوله :
_تصبح على خير يا ..يا “سندباد”!
يبتسم بمرارة وهو يدرك أن “سندباد” لم يعد لقباً ..بل قدراً!
قدراً تصالح معه منذ عهد بعيد ..
منذ أجبروه أن يحترق بخطاياهم ويقف متنشقاً رماد فنائه !!
لهذا يعاود الوقوف ونظراته تزداد قتامة ..
خطواته تحمله نحو النافذة القريبة فيتحرك إليها ببطء ليزيح ستارها ..فيجدها أمامه!!
الغريب أن كليهما لم يفاجأ بصاحبه كأنما كان ينتظره !!
العيون تلتقي على هذا البعد فتتعلق نظراتها بملامحه البائسة ..
وتتعلق نظراته بصدفته على صدرها!
هذا الذي انتبهت إليه أخيراً وهي تكز على أسنانها فجأة قبل أن تسدل الستار بعنف وهي تلعن نفسها ..
كيف نست ؟!
كيف تركته يراها بها ؟!
الغضب الأحمق يجعلها تخلعها ببعض العنف لتلقيها على طاولة زينتها بحدة ..
_هي ليلة طويلة ولن أذوق النوم ! أنا أعلم !
تهتف بها بسخط وهي تجلس أمام حاسوبها تحاول إلهاء نفسها عن غضبها بالكتابة ..
وفي مكانه ظل هو واقفاً بعد رحيلها للحظات قبل أن تلتوي شفتاه بابتسامة غامضة ..
يسدل الستار بدوره ثم ينتزع سترته ليلقيها جانباً فيفاجأ عليها..بهذه !!
شعرةٌ سوداء طويلة يعرف لمن تكون !!
تغيم عيناه بنظرة شاردة وهو يتذكر وقفتها أمامه ..
شعرها الذي لاصق صدره بنعومة تناقض مظهرها المتقنفذ دوماٌ ..
لهذا يكره الشعر الطويل عادة ..إنما هذه ..!
هذه استثنائية ..مثلها!
يرفع الشعرة أمام عينيه ببطء لتتسع الابتسامة الغامضة فوق شفتيه ..
يتوجه نحو حاسوبه ليفتحه ..
وفي مكانها كانت هي منهمكة في كتابة مشهدها لتفاجأ بإشعار عن وصول رسالة منه لحسابها المزيف ..
تتسع عيناها بلهفة وهي تفتحها ..
_مستيقظ يا ضياء؟!
_نعم ..كيف حالك؟!
تكتبها له بسرعة وقلبها يخفق بجنون تنتظر رسالته ..
_شيء ما يؤرقني ..شيء يناقض طبيعتي ..ربما لو أخبرتك به لاتهمتني بالنفاق ..
خفقاتها تزداد فوضى وهي ترسل له مطمئنة :
_أنا أثق بك يا صديقي ..يمكنك أنت أيضاً الوثوق بي ..
وفي مكانه كان هو لايزال يتأمل الشعرة السوداء الطويلة ..
يلفها ببطء حول سبابته ثم يغمض عينيه كأنه يخشى فوضى شعوره ..
فتحة ذراعيها لمجد ..ابتسامتها الشاردة ..صوتها المذبوح بحكايات ماضيها ..شعرها المقابل لصدره ..سديم عينيها الواعد بألف نجمة ..وأخيراً ..صدفته الراقدة بنعومة على جيدها..
صوت حاسوبه برسالة من ضياء يتعجله الرد ..
فيتنهد بحرارة وهو متردد في البوح ..
قبل أن يكتب أخيراً :
_أخشى أنني ..أوشك أن أقع في فخ الحب!
========
*بنفسجي*
========
من قال إن العمر يحسب بالسنين؟!
عجوز هرمة تسكن جسد امرأة عشرينية بوجه طفلة توقف عداد سعادتها هناك ..في سورية !
“سجينة المرايا” ..رفيقة الأشباح ..
كهذا “الأبيض” الذي وقف يواجهها الآن بعد طول عتابه بنظرة راجية ..قائلاً:
_سند !
فترد بحرقة وهي تتحسس فردة القرط البنفسجية :
_لا تخافي يا هالة ..لن أتركه ..لن أتركه أبداً ..عاصي يمهد للانتقال للسكنى هنا في العاصمة ..اختار بيتاً في أحد التجمعات السكنية الهادئة واختار لي البيت المقابل له تماماً كي أسكنه مع سند ..سند متعلق بي تماماً ..يشم فيّ رائحتك كما أشمها أنا فيه ..سأعيش معه ..بل سأعيش له ..
يهيأ إليها أن الشبح الأبيض يبتسم ..فتبتسم بدورها ..
لكن الشبح الأسود يظهر لها فجأة في المرآة بوجهه القبيح ..
_تظنين أنكِ ستهنإين بحياة ؟! مثلك لم يخلق سوى للمهانة ..للإذلال ..تلبسين ثوب الضحية تدارين به ضعفك ..أنا قهرتك في الماضي والآن يفعلها عاصي الرفاعي ..يسجنك في بيت يختاره لتكوني خادمة للولد ..ظننتكِ لوهلة ستنتفضين لحق صاحبتك ..ستأخذين بثأرها من حسام القاضي ذاك ..لكنك فضلتِ حظيرة الأرانب التي فتح بابها لكِ عاصي الرفاعي ..جبانة ..مهانة ..تستحقين أن تركلكِ الأقدام ..
وجهها يحمر بغضبها الذي تحول لخوف شديد وهي ترى الشبح يقترب أكثر يمد لها كفه بصفعة !!
تعود للخلف كي تتحاشاها فتتعثر بطرف سجادتها لتسقط ..
عيناها لا تزالان متعلقتين بالمرآة ..
الشبح الأسود يقهقه ضاحكاً بشماتة وهو يعطيه ظهرها ليختفي ..
فتصرخ كأنه يسمعها :
_سأنتقم ! غداً أنتقم ! غداٌ آخذ حقي وحق هالة ..وسند ..سند سيكون معي ..سأريه بعينيه كيف أخذت حق أمه ..
هنا يرمقها الشبح الأبيض بنظرة عاتبة ثم يعطيها ظهره بدوره ليختفي كذلك ..
الشبح الأرجواني فقط هو ما يبقى معها ..
_سيري في طريقك ..لن يروي عطشك سوى كأس الانتقام ..هو وحده من سيرد لك ديمة القديمة بعمرها الذي ضاع ..
تلتمع عيناها بشراسة وهي تنهض مترنحة ..
أشباح المرآة تختفي لكنها تعلم أنها تسكن روحها هي !!
رنين هاتفها يقاطع أفكارها فتتناوله لينعقد حاجباها بضيق وهي تميز اسم أديم ..
تأخذ نفساً عميقاً ثم تفتح الاتصال لترد ببرود ..
برود كان أبعد ما يكون عن نبرته الدافئة رغم القوة المتأصلة فيها :
_لن أسألك كيف حالك فأنا أعلم .
_ما الذي تعلمه بالضبط ؟!
بنفس البرود تسأل ليرد :
_زيارة منزل عاصي لأجل رؤية سند ..ثم زيارة طبيبه في القاهرة ..عودتك إلى هناك معهم ..ثم رجوعك إلى هنا .
_أضف إلى معلوماتك إذن أنني سأغادر هذا البيت ..سأقيم في بيت مقابل لبيت عاصي لأجل أن أرعى الصغير أمام عينيه .
تهتف بها ببعض الانفعال والغيظ يتسرب لنفسها من شعورها بأنه يحاصرها ..
يقول أنه يحبها ؟!!
يظنها لا تزال تؤمن بهذه الترهات؟!!
غازي كان يقول أنه يحبها ..
وهي آمنت يوماً أنه يحبها ..
فإلى ما آل المصير ؟!!
_عظيم ! قربك من سند سيبعد عن رأسك أفكارك السوداء .
يقولها بحذر لتهتف بانفعال متزايد :
_ماذا تقصد ؟!
_تعلمين ماذا أقصد ! ابتعدي عن حسام يا ديمة ! ثوب الانتقام هذا لا يناسبك !
_لا شأن لك !
_تظنين أنني سأتركك تؤذينه أو تؤذي نفسك ؟!
_لماذا تكرر الكلام؟! لماذا لا تفهم ؟!! أنا امرأة منتهية ..منتهية !!
تصرخ بها بانهيار يرجه مكانه ..
_تظنني جاحدة بالنعمة ؟! واحدة ترى رجلاً مثلك يعرض عليها حياة جديدة وينتظر أن تقول نعم فيتزوجان وينجبان ويعيشان عيشة طبيعية ..تظنني أصلح فعلاً لعيشة طبيعية ؟!
كلماتها السابقة لم تغادر شفتيها إنما أطبقت عليها روحها ..
هو لا يفهم ..
هي نفسها لا تفهم ..
جزء بداخلها غاضب ..غاضب حد الجنون ..
يريد تحطيم كل شيئ حولها حتى ولو تحطمت معه ..
وجزء آخر خائف ..خائف حد الرعب ..
لا يريد سوى زاوية منسية في حائط متهالك يتكوم فيها كي لا يؤذيه أحد ..
وبينهما ألف ألف جزء ..
ألف ألف شظية ..
كلها لا تكاد تميز أمساً من يوم من غد ..
فمن القادر على لملمة كل هذا ؟!
من؟!!
_ديمة ..أنا لا أراقبكِ تسلطاً ..أنا أخاف عليكِ ..قاتل غازي لايزال حراً طليقاً ولا ندري كيف يفكر من خلفه ..ديمة أنا ..أنا أحبك ..امنحيني فقط الفرصة ودعيني أقترب ..
يقولها راجياً لكنها تأخذ نفساً عميقاً لترد :
_وأنا لا أحبك ..ولن أحب أحداً بعد اليوم سوى نفسي ..لا تتصل بي ثانيةً ..سأغادر هذا البيت منذ الغد ..جلسة الحكم في قضيتي اقتربت ..عندما أنال إرثي من غازي سأرد لك كل ما دفعته لأجلي ..لم يعد بيننا سوى هذا !
تقولها ثم تغلق الاتصال بعنف دون انتظار الرد ..
قسوتها معه تملؤها نشوة للحظات ..
لكنها تتحول لخوفها المعهود وهي تخشى رد فعله ..
تكتف ساعديها وهي تهم بالاتصال به كي تعتذر له ..
ترتعب وهي تتصوره يأتيها غاضباً فيشدها من شعرها ثم يلقيها في إحدى الزنزانات المظلمة ..
تراه في خيالها يصفعها فتتشوش صورته وتختلط بصورة غازي !!
هكذا صارت !!
مزيجاً غير متجانس من قسوة وخوف ..بل رعب!!
تعض شفتها بقوة تكاد تدميها وهي تكتف ساعديها ..
صوتٌ بداخلها ينادي :
_أديم لن يؤذيكِ ..
فيرد آخر :
_كنتِ تقولينها يوماً على غازي كذلك !!
رنين هاتفها يقاطعها من جديد فتتنتفض مكانها بفزع لكنها تسترخي نوعاً ما وهي ترى اسم ماسة واعداً بالمزيد من “سند ” ..
هل كنتِ تعلمين يا هالة وأنتِ تختارين له هذا الاسم أنه يوماً ما سيكون لي سنداً ؟!!
تفتح الاتصال لترد بصوت مرتجف على سؤال ماسة عن أخبارها ..
_سند بخير؟!
تسألها لتعطي ماسة الهاتف للصغير الذي لايزال لا يتفوه سوى بكلمة واحدة منذ رآها ..
_ماما!
فتسيل دموعها صامتة وهي تمنحه عدة قبلات عبر الهاتف قائلة :
_غداً آتيك ..سأعيش معك ..لن أفارقك يوماً ..كن بخير يا سند ..
الرد يصلها من ماسة التي عادت تحدثها بقولها :
_لن ننسى لكِ هذا المعروف أبداً ..دكتور كنان يقول أنه سيكون لكِ دور كبير في علاج سند .
_فقط عديني ..لو استعاد عافيته..ألا تحرموني منه أبداً !
_بالطبع!
تهتف بها ماسة بحرارة وإن كانت في قرارة نفسها تشعر أن عاصي ليس راضياً تماماً عن ديمة ..
وأنها لا تزال في منطقته الرمادية الغائمة فلم يمنحها ثقته بعد ..
لكنها -ماسة- تثق بحدسها ..
ديمة لن تؤذي سند ..بل إنها تحتاجه بأكثر مما يحتاجها !!
لهذا عادت تقول بحنان :
_لنا حديث طويل عندما نلتقي غداٌ ..
_قبّلي سند ..قبّليه كثيراً ..افتقدت عناقه ..
تقولها بحرارة ثم تغلق الاتصال لتضم الهاتف لصدرها بقوة ..
سند!
نسمة هادئة وسط كل هذه الأعاصير التي تغشى حياتها !!
نسمة عكرها حسام القاضي بجريمته مع أمه ..
ولايزال الصغير يدفع ثمنها إلى اليوم !!
الخاطر الأخير يعاود إلقاء غلالة القسوة على ملامحها ..
الشبح الأرجواني يعربد داخل حناياها وهي تتوجه نحو الأريكة القريبة تمارس هوسها اليومي الذي صار عادتها بمراقبة حساب حسام القاضي ..
عادته بتصوير مشاهد حياته جعلتها تشعر وكأنها تعيش معه ..
تعرف شكل بيته ..شرفته ..الكلبة التي يسميها سلطانة ..
كلبة؟!!
المنافق يبدي كل هذا الاهتمام لكلبة !!
وهو الذي دهس هالة دهساً !!
تكز على أسنانها مع الخاطر الأخير وهي تكمل تصفح حسابه ..
تعرف النادي الذي يذهب إليه ..
المطاعم التي تروقه ..
عجيبٌ أمره !!
رجلٌ بمهنته توقعت أن يكون مشغولاً عن هذه التفاهات ..
لكنه يبدو مهووساً بتصوير حياته للآخرين ..
مغرور! منافق ! مدّعٍ!!
ربما كان هذا من حسن حظها هي !!
لقد كانت ماهرة جداً في دراستها ..
و”هو ” صار مادتها التي ستحفظها ظهراً عن قلب ..
يجب أن تفهم كل ثغراته كي تجيد دخول حياته ..
ثم تدميرها !!
تمر على منشوراته بدقة تراقب كل التعليقات ..
تحفظ كل الصور وتخزنها في ذاكرتها بهوس..
الآن ..هو في النادي الراقي الذي يمارس فيه رياضته أسبوعياً ..
فلماذا لا …؟!!
الجواب تقدمه عملياً وهي تلقي الهاتف جانباً لتتحرك نحو خزانة ملابسها فتفتحها ..
وتفتح معها المزيد من الأبواب معه !
========
العرق الغزير يغمر جبينه وهو ينهي تمارينه في صالة الألعاب الرياضية الخاصة بالنادي ..
يرى إحداهن ترمي له نظرة خاصة وهي تشاهده في مجلسها عبر الزجاج الفاصل بين صالة الألعاب وكافيتيريا النادي ..
فيلقي لها ابتسامة عابرة ..
تعد ولا تمنح !!
هل يزعم أنه زهد النساء؟!
لا ..ليس بالضبط!!
لايزال على علاقاته “الطائرة” كما يسميها مع بعضهن واللائي يقبلن شروطه ..
قاعدته الأولى والأخيرة لهن جميعاٌ ..
(مرة واحدة فقط لا تتكرر )!
فهو لن يقع في فخ التعلق !!
لكن له خطّين أحمرين..
العمل ..والزواج!!
لا ينظر لامرأة تربطه بها علاقة عمل ..
ولا لامرأة تريد ربطه بعقد رسمي..
_أريد أن أفرح بك يا ابني قبل موتي !!
عبارة أمه الدائمة والتي يجيد إخراسها بجوابه :
_كي تجرحني مثل يسرا ؟!..أو كي أجرحها أنا مثل دعاء ؟!
فلنقل إنه زهد الزواج إذن ..وليس النساء!!
دينا؟!
لا ..دينا ..شأنٌ آخر !!
صحيحٌ أنه فكر فيها يوماً بهذه الطريقة خاصة مع ما كان يعرفه من ماضيها ..
لكنه عندما قرر مساعدتها لتغيير حياتها نقلها بمنتهى الحزم لخانة أخرى ..حتى ولو كانت هي نفسها ترفض هذه الخانة معه !!
يتحرك نحو الجوار ليغتسل ثم يبدل ثيابه ..
يمشط شعره باهتمام كعهده وهو يضع هذا العطر الخاص بإجازته الأسبوعية ..
وقد اختاره خصيصاً برائحة أكثر انتعاشاً كي تمنحه الراحة المطلوبة ..
يحب الاستمتاع بإجازته كما يحب إجادة عمله ..
يغادر صالة الألعاب نحو الكافيتيريا القريبة فيجلس على إحدى الموائد مراقباً شمس الغروب التي مالت تعانق سطح الماء ..
ذكرى خاطفة له مع دعاء تجتاحه ..
كان يحب السباحة ..وكانت تخافها ..
فغرق هو ..ونجت هي !!
هو ارتضى أن يكون شيطان الحكاية ..والشياطين لا تعيش سوى محترقة في نيران جحيمها !!
ذكرى أخرى من طيف تجتاحه ..لكنه يئدها في مهدها..
لا يريد الاستسلام لهذا الطوفان الجارح من جديد ..
يتناول سيجارة ليشعلها ثم ينفث دخانها ..
عيناه الصقريتان تصطدمان بأحد زملائه القدامى من ضباط الشرطة والذي غادر مكانه ليتقدم الآن نحوه ثم يصافحه ببعض العجرفة مدعيا الود :
_كيف حالك يا حسام؟! بارك لي ..صرت “رائد”!!
يباركه ببرود دون أن يقف مكانه أو يغير جلسته فيرد الرجل بشماتة خفية :
_لو كنت بقيت في الخدمة لكنت سبقتني ..خاصة أنك ترقيت بسرعة بعد زيجتك الأولى من ابنة اللواء رفعت الصباحي ..كنت صرت “مقدم” الآن ..لكن لا بأس ..أرحتَ دماغك ..سعيدٌ بممارسة المحاماة ؟!
_جداً ..فوق ما تتصور!
يرد بنفس البرود المستفز مخفياً ضيق صدره ليبتسم الرجل بالمزيد من الشماتة وهو يغادره بنظرة سمجة ..
نظرة يبادله إياها بنفس القوة ..
هل يشعر بالغضب من شماتته ؟!
يكذب لو قال لا ..أو نعم !!
هو راضٍ بكأس العذاب الذي يرتشفه قطرة قطرة ..
وينتظر المزيد !!
نظرته للرجل تنقطع برؤيتها وهو يفاجأ بها أمامه !!
ديمة !!
تبدو وكأنها لم تنتبه له بينما تتخذ مقعدها على الكرسي البعيد ليراها بهذا الوضع الجانبي ..
هما الآن ليسا في مكان عمل !!
ربما لهذا سمح لنفسه أن يتفحصها بنظرة رجولية خالصة ..
شعرها الأحمر القصير الذي ينافس شمس الغروب في لمعانه واشتعاله ..
عيناها شاردتان في الغروب مثله منذ قليل ..
شفتاها منفرجتان تتحركان ببطء كأنها ..تحدث نفسها!
ثوبها القصير عاري الذراعين أبيض اللون بزهور أرجوانية رقيقة ..
لا يتعجب من عدم ارتدائها للأسود ..رجلٌ كزوجها لا تحزن عليه امرأته !
تكتف ساعديها منكمشة على نفسها كأنها تشعر بالبرد رغم حرارة الجو ..
لها الحق في هذا الخوف !
امرأة بهذا الجمال ..بهذه الوحدة ..وبهذه الظروف ..
هي مطمع للكثيرين !
يدور بعينيه حولها ليجد الأنظار التي تعلقت بها مع الغمزات واللمزات التي يفهمها رجل مثله تؤكد نظرته ..
صوت غروره الداخلي يكاد يدفعه للتوجه إليها كي يحدثها أمام كل هؤلاء فيعلمون أن هذه الفاتنة التي تكاد عيونهم تأكلها تعرفه هو ..
لكنه يخرسه تماماً هذه المرة وهو ينهض من مكانه معتزماً المغادرة ..
يطفئ سيجارته ثم يتحرك باتجاه الخروج متجاهلاً النظر نحوها من جديد ..
لكنه يفاجأ بندائها خلفه :
_أستاذ حسام!
يلتفت نحوها ليراها تتحرك نحوه بخطوات مندفعة تباطأت نوعاً ما عندما التقت عيناهما ..
لكن قدميها انزلقتا فجأة على العشب الطيني المبلل ليراها تسقط مكانها !!
يبتسم مشفقاً لهذا الحرج الذي ظلل ملامحها وهو يقترب منها ليمد لها كفه كي يساعدها في النهوض ..
فيشعر بارتجافة حدقتيها وهي مترددة في مد كفها نحوه تماماً كما فعلت بمصافحتهما أول مرة ..
لكنها تحسم ترددها أخيراً وهي تستند على كفه محمرة الوجه لتنهض محاولة تنظيف ثوبها الذي صار ببقعة الطين كارثة !!
_أنتِ بخير؟!
تهز رأسها بارتباك وهي ترفع إليه عينيها ليستشعر حرجها ..فيكاد يرد بعبارة لبقة لكن لسانه يتجمد فجأة ..
لأول مرة ينتبه للون عينيها الغريب ..كان يظنهما زرقاوين فحسب !!
لكنه لأول مرة ينتبه لهذه الصفرة التي تتمركز وسط زرقتهما القاتمة ..
كأنها “حلقة زعفران” ذهبية وسط غابة في وقت السَحَر !!
يعجبه التشبيه فتتسع ابتسامته وهو يراها تسحب كفها منه ببعض العنف الذي وجده غير مبرر ..
لتهتف بارتباك عبر عينيها الزائغتين :
_كنت ..أريد سؤالك عن ..القضية !
يرتفع حاجباه للحظة وهو يتفحصها بخبرته ..
ربما لو كانت امرأة أخرى لظن أنها تحاول فتح حديث مختلق معه ..
لكنها تبدو وكأنها ..
لا يدري ..هو فقط يشعر أنها ..غير طبيعية !
يتقدم معها نحو منضدتها فيجلس قبالتها وهو يلاحظ تشتت نظراتها ..
تنظر للمنضدة ..لكفيها ..للجوار ..للنادل الذي اقترب بكأس العصير خاصتها ..
لكل ما حولها ومن حولها ..إلا هو!!
لا ..ليس خجلاً ..هو قادر على تمييز الخجل في وجوه النساء!
إنه ..نفور!!
لماذا إذن دعته للجلوس!!
غريبة هذه المرأة ..غريبة حقاً!!
يبدأ في الحديث عن تطورات قضيتها بنبرة عملية لم تمنعه من دراسة ردود أفعالها التي بدت له مثيرة للانتباه ..
تارة تتحرك للأمام كأنها تتعمد استعراض مفاتنها ..
ثم تعود للخلف بسرعة مكتفة ساعديها كأنها تستر نفسها !!
تارة تبتسم له هذه الابتسامة شديدة التكلف ..
وتارة تدمع عيناها ليسحبها هذا الشرود البعيد ..
غير متزنة !!
هذه المرأة غير متزنة تماماً !!
_أنتِ بخير ؟!
سؤاله هذه المرة كان له ما يبرره وهو يرى جبينها قد تفصد بعرق خفيف مع تلاحق أنفاسها ..
لتلتفت له من شرودها هاتفة بحماس مبالغ صحبته ابتسامة عصبية :
_جداً ..جداً ..أنت محامٍ ماهر كما أخبروني ..حقي ..حقي ..
تتلعثم حروفها فجأة في كلمتها الأخيرة التي كانت تكررها بشكل غريب ..لتتثاقل أخيراً مع تهدج صوتها :
_حقي.. لن يضيع !
يرفع حاجبيه بدهشة وهو يراها تجهش بعدها في بكاء خافت للحظات أكدت فكرته السابقة عنها ..
لم تغره يوماً دموع النساء!!
لكن هذه أمامه لم تكن تبكي ..
بل كانت تنزف روحها ببطء!!
ورغم أنها كانت تغطي وجهها كاملاً بكفيها لكنه يكاد يقسم أن “حلقة الزعفران” في عينيها تزداد اشتعالاً وفتنة !!
ليس حزناً ..ولا ألماً فحسب!!
بل غموضاً !!
غموضاً يغريه باكتشاف المزيد !!
تنفرج شفتاه وهو على وشك التفوه بما تجيده لباقته في أمور كهذه ..
لكنه يفاجأ بها تنهض فجأة وقد مسحت دموعها لتهتف بنفس التلعثم :
_آسفة ! تذكرت موعداً مهماً! هاتفني لو كان هناك جديد في القضية ..أو ..سأهاتفك أنا!
يقف بدوره وهو يشعر بالمزيد من غرابتها ..
لا تزال لا تنظر إليه ..
يمد إليها كفه متعمداً هذه المرة فلا يصدمه ترددها المعهود ..
بل ..هروبها شبه راكضة من جديد كأنها تفرّ من أقسى الوحوش بطشاً!
“الحلو ما يكملش”!
يقولها بالعامية المصرية بابتسامة متعجبة وهو يلاحظ الغمزات حوله فيتنهد بعمق وهو يرى النادل الكهل يتقدم منه من جديد قائلاً بنبرة ذات مغزى:
_الآنسة لم تشرب العصير .
_مدام!
يقولها مصححاً ليضحك النادل قائلاً بمكر:
_يبدو أن حسام “بيه” يعرفها جيداً ..مع أنها أول مرة أراها هنا.
يربت على كتف الرجل بحركة ودود تناقض النظرة المحذرة في عينيه :
_تعرف طبعي!
يهز له الرجل رأسه فيردف حسام وهو ينقده ورقة مالية كبيرة :
_حسابها عندي! لا تثرثر كثيراً ..هه؟!
يبتسم له الرجل بود فيردها له وهو يتحرك بخطواته الثابتة نحو سيارته ..
يشغلها لينطلق بها نحو البيت وشروده في هذه الأرجوانية يكاد يبتلعه ..
فردة قرط واحدة !!
الملحوظة تقفز فجأة لذهنه !!
كل هذه الأناقة وترتدي فردة قرط واحدة !!
رخيصة متأكسدة ..!!
هل هي مختلة حقاً؟!
أم ..هي ذكرى عزيزة من شخص ما؟!!
حبيب قديم مثلاً؟!!
يزفر زفرة قصيرة وهو يشعر أن موضوعها هذا نال منه أكثر مما يستحق ..
منذ عهد بعيد لم تشغله امرأة إلى هذا الحد !!
يصل للبيت أخيراً فتستقبله سلطانة عند الباب لينحني فيلاعبها كعهده قبل أن يهتف لها بعفوية لا يجيدها إلا قليلاً:
_جائع للغاية ! التمرين أهلكني!! بعد العشاء نكمل اللعب!!
نباحها المتواصل يبدو له كاعتراض متدلل فيضحك وهو يدلف إلى الداخل ..وبالتحديد نحو المطبخ ..
يتناول القداحة كي يشعل الموقد لكنها تسقط منه تحت الطاولة فينحني ليلتقطها ..
لكنه لم يكد يفعل حتى تعلقت عيناه بهذا الجسم الغريب المثبت في قاعدتها ..
تتجمد نظراته للحظات وهو ينتزعه من مكانه قبل أن يستقيم بجسده وهو يرفعه أمام عينيه بتفحص مدركاً ماهيته ..
جهاز تصنت!!
حاجباه ينعقدان بغضب هادر وهو يربط بعض الخيوط في ذهنه ..
تصورٌ ما يدفعه لفكرة غريبة ..تشعل المزيد من غضبه !!
يكز على أسنانه أخيراً بقوة وهو يدرك مَن الوحيدة التي يمكنها الوصول إلى هنا كي تفعل هذا ..
فيخبط بقبضته بعنف على الطاولة وهو يهمس من بين أسنانه :
_دينا!!
========
_ألن تصلي يا ماما؟!
يسألها ابنها الأكبر وهو يراها تقف شاردة أمام سجادة صلاتها التي فرشتها أمامها وقد زاغت عيناها في الفراغ ..
فراغ أسود رهيب يبتلع روحها يوماً بعد يوم ..
فترتجف شفتاها وأناملها تمتد لتعتصر قماش إسدال الصلاة خاصتها بقوة ..
شريط طويل يمر أمام عينيها ..
من “يولاند” إلى “فدوى” ..ثم إلى هذه ..هذه التي صارت لا تعرفها بينهما !!
نظراتها تتوجه نحو المرآة القريبة ..
خصلات من شعرها الأشقر الفاتح تبدو تحت طرحة إسدالها التي انحسرت بفوضوية ..
بعضٌ من بياض ذراعيها يبدو واضحاً تحت كمّي إسدالها اللذين شمرتهما إلى مرفقيها ..
سحّاب إسدالها المفتوح يظهر عنقها وبعض صدرها ..
كأن مظهرها لا يختلف كثيراً عن باطنها المشتت الآن ..
من هي؟!
_ألن تصلي يا “ماما”؟!
يعاود ابنها سؤالها لتلتفت نحوه بشهقة خافتة سبقت إغماضة عينيها وهي تحاول تمالك نفسها للحظات قبل أن تنحني لتلم السجادة التي وقفت عليها قائلة :
_تذكرت أنني لست على وضوء.
تقولها لتهرع نحو غرفتها ثم تغلق بابها خلفها ..
خطواتها تحملها لهذا المصحف القريب ..
تفتحه بأنامل مرتجفة لتتطلع لبعض حروفه التي تسري قشعريرة باردة في جسدها ثم تغلقه بسرعة لتضعه جانباً !!
اليوم السبت ..!
في مثل هذا اليوم كانت تقام الصلاة في المعبد الذي كان يقصده والدها معها ..
ترتجف ابتسامتها مع الذكرى ..
يولاند الحسناء مع أبيها يدخلان المعبد اليهودي “الكنيس” والذي بني متجها للقدس ….الحاخام وقد غطى رأسه ..الحوض الخارجي للمعبد حيث يغسلون أيديهم قبل أن يدخلوا للصلاة ..مقدمة المعبد المستطيل بالدولاب الثابت الذي يحوي لفائف التوراة وتزينه نجمة داوود ولوْحا العهد في مقدمته ..
تزداد ابتسامتها ارتجافاً وهي تتذكر تلاواتها ..صلواتها التي كانت تنتهي بالتبريك ..
لم تكن متدينة لكنها كانت تشعر بهذه القوة الروحية التي تنبض في صدرها فتوجهها للصواب والخطأ ..وتجعلها ترفع رأسها للسماء في السراء والضراء ..
ربما لهذا عندما التقت ريان لم تشعر أنها ستنحرف كثيراً عن المسار ..
تراها كانت واهمة ؟!
تغمض عينيها بقوة وهي تعاود فتح المصحف بحيرة ..
لماذا عادت تشعر بالغربة ؟!
وهل ذهبت حقاً كي تعود ؟!!
_ما معنى ريان؟!
تغيم عيناها بالذكرى وهي تسترجع تاريخهما الأول ..جوابه الذي بدا وقتها لامعاً كعينيه ..وكوعوده !
_الريان في اللغة هو من شرب حتى الارتواء ..لكن له معنى خاصاً لدينا نحن المسلمين ..فهو من حديث النبي صلى الله عليه وسلم باب في الجنة لا يدخل منه سوى الصائمون .
ابتسامة ساخرة غارقة في مرارتها تغزو شفتيها المرتجفتين ..
تتذكر لهفتها الأولى ..انبهارها الأول بكل ما كان يقوله أو يحكيه ..
لم تكن تفهم الكثير عن دينه ..لم تكن تهتم سوى أن تكون جواره ..أن ترضيه ..أن تشبهه !
وحتى عندما أشهرت إسلامها متحدية كل شيئ ..ملقيةً كل ماضيها وعائلتها خلف ظهرها ..
لم تفعلها سوى لأجله !!
هي! هي الطبيبة الحاذقة التي كان الجميع يحسدونها على رجاحة عقلها ..خذلها قلبها وهو يلقيها دون محاذير أمام بابه هو !!
ينعقد حاجباها بمزيج من حسرة وغضب عند الخاطر الأخير فتضع المصحف مكانه ثم تخلع عنها إسدالها بعنف لتلقيه بحدة على الأرض ..
تندفع نحو صورة زفافهما المعلقة على الجدار ..
صورة مرسومة بالزيت ..رسمها هو بنفسه ..بعدما..
_ولماذا يرسمكِ ذاك الرجل؟!!
تغيم عيناها بالذكرى من جديد وهي تستعيد غضبه الذي انفجر فيها في الأيام الأولى لزواجهما عندما أرسل لها أحد زملائهما في العمل هذا الرسم ..
_إنه صديقي!!
_لا أعترف بهذا المسمى!! ولا يسعدني أن يستعيد أحدهم ملامح امرأتي في ذهنه كي يرسمها بهذه الدقة ..وبهذا الثوب المكشوف !
_لكنني ارتديت الحجاب لأجلك !
_وهو لايزال يتذكر ملامحك بدونه !!
غضبه المشتعل وقتها يجعله يمزق لوحة زميلهما هذه ليلقيها تحت قدميها ثم يعتصر ذراعيها بين قبضتيه هاتفاً بغيرة صارخة :
_أنتِ لي!! لي !! لي وحدي!!
وقتها شعرت أنها كانت تملك الدنيا كلها بين ذراعيها ..غيرته الشرقية المجنونة هذه عليها كانت تشعرها بالفخر ..
لهذا ضحكت بدلال وهي تريح رأسها على صدره قائلة :
_وأنت ستكون لي ..لي ..لي وحدي؟!
تقولها بعربيتها الكسيرة مكررة كلماته فيزفر نافثاً غضبه ثم يضمها نحوه هامساً بما وجدته أغلى وعد :
_بلا شك!
_إذن ..ارسم لي غيرها!
تهمس بها بالمزيد من الدلال فيرفع حاجبه بمكر قائلاً:
_لا أجيد الرسم!
_تعلم!
تهز بها كتفيها بنفس الدلال الذي كان يجيد إذكاءه ..تماماً كما فعل وقتها وشفتاه تطوفان حول ملامحها بحب يليق برده :
_لأجلك ..أفعلها !!
بعدها بشهر واحد فقط كانت هذه اللوحة الزيتية بين أناملها ..تتأملها بمزيج من فخر وحب ..
لقد صدقها وعده ! على الأقل فعلها ذاك اليوم !!
تتكدس الدموع في عينيها مع الخاطر الأخير وهي تعاود تلمس اللوحة بأناملها التي كانت تدور حول وجهيهما ..
لماذا تشعر أنهما ..أنهما لم يعودا هما!!
خطواتها تحملها نحو ذاك الصندوق القديم الذي تحتفظ به سراً في الدرج السفلي للفراش ..
تنحني لتستخرجه ثم تفتحه ..
هنا ..هنا ما بقي من ذكرياتها ك “يولاند”!!
بعض الصور لها مع عائلتها ..أصدقائها ..شهاداتها الدراسية ..أوراق هويتها القديمة ..
دفتر مذكراتها ..
رسالة كتبتها يوماً لحبيبها القديم في الجامعة فلم يتسلمها أبداً ..
رسالة كتبتها بالفرنسية ..وبأقصى ما كانت تحمله روحها وقتها من عنفوان ..
(أخبروهم أن طيور قلوبنا عزيزة !
لا تطارد الفتات ولا شربة الماء العكرة في كوب منكسر !
طيور قلوبنا حرة ..
تعرف طريقها نحو حبوب العشق الطازجة وجدول الكبرياء الرقراق ..
لكم هزيل عطاياكم ..ولنا جزيل ما نستحق )
تنهيدة حارقة تغادر صدرها وهي تكتم شهقة بكائها ..
هل يمكنها اليوم أن تكون بنفس الكبرياء ؟! بنفس الشجاعة ؟!
أم أن السنين لم تزدها إلا وهناً ؟!!
تغلق الصندوق بحسرة ثم تعيده مكانه لتتوجه نحو خزانة ملابسها فتفتحها ..
تلك الخزانة الجانبية التي احتفظت بها بذاك الثوب ..
الثوب الذي التقت به ريان أول مرة ..عندما كانت “يولاند”!!
_”تايجر”! أحب دوماً رؤيتك فيه كأول مرة !يجعلكِ تبدين ك”نمرة” ثائرة ..وحدي أجيد ترويضها !
الثوب كان أصلاً هدية من والدها ..وهذا “البروش” الأنيق الذي يزين صدره كان هدية أمها ..بل إن حزامه الجلدي العريض كان هدية شقيقتها ..لهذا كانت حريصة أن تحتفظ به ..
ربما لأنه يذكرها بأعز من في حياتها ..
وربما لأنها كانت ترى فيه “ميزاناً” لم يكن أبداً مستوي الكفتين ..أبداً ..أبداً..
هي اشترته هو ..وباعت الجميع!!
والآن ..هو ..؟!!
تتشوش الرؤية تماماً في عينيها بأثر دموعها وهي ترفع الثوب لصدرها ..تتشممه كأنه يحوي عبق العمر المفقود ..
تتحرك كالمغيبة نحو الجهاز القريب لتشغله فتنبعث منه كلمات أغنية فرنسية تذكرها بطفولتها ..
اللحن والذكرى يتآمران عليها فتخلع ملابسها شبه مغيبة ..
ترفع الثوب كي ترتديه ..
لكنه ..يرفضها !!
أجل ..جسدها الذي ازداد امتلاء يجعله يتوقف عند حدود صدرها ..
هنا فقط ..تنهمر دموعها فجأة وهي تسقط أرضاً وقد كتف الثوب ذراعيها فبقيت ترفعهما وشهقاتها الباكية تمزق قلبها بالمزيد من شعور العجز ..
_فدوى!
يهتف بها ريان بجزع وهو يدخل الغرفة فجأة وقد عاد من العمل ليجدها على هذا الحال ..
ملقاة أرضاً وقد رفعت ذراعيها كالمقيدة بينما الثوب الذي تذكّره يتوقف معانداً عند حدود صدرها !!
_ماذا بكِ حبيبتي؟!
يهتف بها وهو ينحني على ركبتيه أمامها ليضمها نحوه فتهز رأسها وهي تهتف بما يبدو كالهذيان وسط شهقات دموعها:
_الفستان! الفستان لم يعد يناسبني!!
_ماذا؟!
يصرخ بها باستنكار وهو يبعدها ليهزها بين ذراعيه مردفاً بصوت مرتفع:
_كل هذه المأساة لأنك صرتِ بدينة لا يناسبكِ ثوب قديم!! أعود من العمل متعباً آخر اليوم كي أجدكِ منهارة هكذا لسبب بهذه التفاهة ؟! هل بلغ بكِ حب النكد هذا الحد ؟!
تتجمد ملامحها للحظات يشعر هو فيها بطيف من ندم يخالط غضبه ..
لكنها تهتف به ببرود مشتعل:
_ساعدني أن أخلعه !
يطلق زفرة ساخطة وهو يحرر جسدها منه ببعض الصعوبة لتنهض هي مترنحة ..
تجفف دموعها ثم تتناول الثوب لتضعه مكانه بحرص قبل أن تنتقي واحداً آخر كي ترتديه ..
لكنها تفاجأ بأنامله على كتفيها من الخلف مع همسه المشتعل بهذه النبرة التي تعرفها :
_تعلمين كم تبدين مثيرة هكذا عندما تدارين غضبك ببرودك المشتعل!
_كنمرة ثائرة وحدك تجيد ترويضها ..
تتمتم بها بشرود وهي تستدير بين ذراعيه فيبتسم وشفتاه تشعلان الحرائق على ثغرها ..
“حرائق صقيعية”!
لو كان لوصف كهذا أن تحمله لغة !!
_تناولت عشاءك ؟!
حروفها المغيبة ترمي السؤال ..
وحروفه المتعجلة تختصر الجواب :
_أنا الآن أفعل!
تتجمد المزيد من الدموع في عينيها وهي تتأهب لمعركته الخاسرة ككل مرة ..
معركة يريد أن يثبت بها شغفه نحوها ..فلا يجني كلاهما سوى خيبة الهزيمة !!
دقائق تمر بهما عاصفة الظاهر ..جليدية الباطن ..
لتلقيهما الموجة الهادرة أخيراً فوق شاطئ سكن ..
إنما ..دون اكتفاء!
لم يعد يرضيها ..ولم تعد ترضيه !!
تراه يعطيها ظهره أخيراً كأنما اكتفى بآداء واجبه ليرفع الغطاء فوقه قائلاً بنبرة واهنة :
_أيقظيني فجراً ..لدي مؤتمر مهم .
_ستسافر ثانية؟!
تسأله بنفس البرود المشتعل ليرد بهمهمة ناعسة مفادها الإيجاب ..
فتعاود القول بشرود :
_أحدهم عاكسني اليوم! ..جارنا في الشقة السفلية ..تعمد ملامستي في المصعد .
_تهيؤات! الرجل محترم جداً ولا أظنه يقصد ..أنا أحتمل عقدك فلا تثقلي بها على من سواي .
يقولها متهكماً كعهده بنفس النبرة الناعسة فترمق “اللوحة الزيتية” إياها بنظرة طويلة ذات مغزى ..
لوحة رسمها رجل ..كان يوماً يغار!!
تلتوي شفتاها بابتسامة مريرة وهي تنهض لتتكئ على جانبها في مواجهة ظهره تمرر أناملها بين خصلات شعره قائلة :
_طوال هذه السنوات وأنا أسأل نفسي ..هل استطعت أنا الأخرى أن أكون الوحيدة التي تجيد ترويض نمرك الشرس..
همهمة أخرى ناعسة تكون جوابه فتشد خصلات شعره ببعض العنف هاتفة بحدة مفاجئة:
_أجِب!
زمجرة غاضبة يطلقها وهو يستدير نحوها ليهتف بحدة مفاجئة :
_ماذا تريدين ؟! هه؟! شجاراً ككل مرة ؟!
_أريد جواباً لسؤالي .
_لا أحب ألغازك هذه ..ألقي سؤالك مباشرة ..
_هل تخونني؟!
الصمت يكتسحهما للحظات فيعقد لسانيهما ..
الخوف في عينيها يشبه نظيره في عينيه ..
إنما الأول غارق بخيبته ..والثاني طافٍ بذنبه !!
_يكفيك هذا كسؤال مباشر؟!
الحروف الساخرة تتوه على شفتيها من جديد وهي تبحث عن طوق نجاتها في ملامحه لكنه ينهض من رقدته هاتفاً بسخط:
_لا ! لا! لا! ثلاثة “لا”! تكفيكِ هذه كإجابة !!
تغمض عينيها بتعب حقيقي وهي تعلم أن الجواب أبداً لن يمنحها الراحة ..
_سأذهب للنوم مع الأولاد في غرفتهم ..يجب أن أستيقظ مبكراً وأنتِ صرتِ لا تطاقين ..
يهتف بها بسخط وهو يغادر الفراش مشيراً لجسدها العاري وهو يردف:
_لا فائدة ! رغم عودتي متعباً من العمل حاولت إرضاءك فيكون هذا ردك ! عندما أقصر في حقك يمكنكِ ساعتها أن تشكي فيّ!
تكز على أسنانها بقوة وهي تغمض عينيها ..
كعهده يعيرها بهذه الكلمات ككل مرة بعد كل علاقة جسدية بينهما ..
كأنما بقي هذا فقط حقها لديه ..
بل ..كأنما صار هذا كل ما بينهما !!
ليته يعلم أن بضاعته كاسدة في سوقها ..كما هي زهيدة في سوقه !!
لا بأس!
غداً تتأكد شكوكها ..
وحينها ..!!
عيناها تلتمعان بوعيد للحظة ..
قبل أن تعودا لبحر تشتتهما الزائغ !!
ماذا ستفعل لو أثبتت الحقيقة وواجهته ؟!!
هل ستهجره ؟!
تهجره كفدوى ..أم يولاند ؟!
الغنوة الفرنسية لاتزال تتردد في الغرفة تكرر نفسها بنفس النغم الشجي الذي يجلدها بسياط الذكرى ..
فتنزلق ببطء في الفراش لترفع الغطاء فوقها حتى رأسها ..
_الثوب صار ضيقاً “بابا” ..”البروش” ناله الصدأ “ماما” ..الحزام تقشر جلده “لارا” ..أريد أن أعود ..أخاف أن أعود ..أريد ..أخاف ..أريد ..أخاف ..أخاف ..أخاف ..
تمتماتها تختفي كالهذيان بين يقظة ومنام لتنتهي بين دموعها :
_أخاف أن أكرهك ! ربما بأكثر مما أخاف أن أفقدك .
======
*نيلي*
======
_كم ليلة قادمة ؟!
يسألها موظف الفندق لتزدرد زهرة ريقها بتوتر وهي تنظر لما تبقى من مال في حافظتها ..
فتدمع عيناها وهي تتحسس قرط أذنها الذهبي من فوق وشاحها لترد :
_سأخبرك عندما أعود .
يرمقها الرجل بنظرة متوجسة لكنها لا تراها وهي تغادر الفندق بنظرات زائغة ..ستبيع قرطها الذهبي حتى يمكنها تدبر ما بقي من إقامتها ..
أسبوعٌ كامل قضته هنا هاربة كالمذنبين ..
هاربة حتى من اتصالات جهاد المتكررة الذي يرجوها اللقاء فتخترع كل مرة كذبة ..
أمها؟!
لقد هاتفت إحدى جاراتهم سراً لتخبرها أنها هربت !!
هربت من بطش أبيها ومن الحي كله !!
أبيها الذي علمت أنه يتوعدها هي بالقتل لو رآها من جديد لكنها تعلم أنه يريدها حية كي لا يخسر بيضه الذهبي منها !!
أين عساها ذهبت أمها ؟!
وماذا سيفعل أبوها الذي لن تأمن مكره ؟!
وكيف ستعود لعملها في “أبو ظبي” وهو يعرفه ؟!
وجهاد ؟!!
جهاد ماذا ستفعل معه ؟!
_أخبريه بالحقيقة وارتاحي! لو وافق أن يكمل طريقه معك فهنيئاً لكِ بحبه ..ولو رفض فكفاكِ تعلقاً بحبال واهية !
تذكرها كما قالتها لها حسناء على الهاتف عندما أخبرتها ..
تماماً كما تذكر ردها هي:
_لن أحتمل أن يتركني ..أو أن تتشوه صورتي في عينه !
صوت نفير سيارة يأتيها صاخباً فتتجمد مكانها شاعرةً بالخوف قبل أن تتجاوزها السيارة وقد أطلق سائقها الوقح سباباً ساخطاً ..
_ أفيقي يا بنت ال (….)!
تحمر وجنتاها بل تكادان تحترقان بانفعال وهي تشعر بنظرات الناس حولها مهينة يضخمها شعورها الداخلي ..
يسبها بأبيها ؟!
يسبها بأبيها!!
وفي هذه اللحظة بالذات شعرت وكأن الجميع يفعلون ..وسيفعلون!!
تكتف ساعديها في وضع حمائي وهي تعبر الطريق بخطوات راكضة ..
نفس الوخزة في صدرها والتي اعتادت تكرارها طوال الأيام السابقة تكتسحها الآن ..
لكنها تتجاهل ألمها ..لو لم يؤلمها قلبها الآن ..فمتى؟!!
على الرصيف المطل على النيل أمام الفندق تقف ..
تتأمل “الساحر المعطاء” أمامها وقد ترقرقت مياهه بضوء الشمس المهددة بالغروب وإن كانت لا تزال في عنفوان قوتها ..
_افتقدتك يا نيلية !
تكاد تسمعها بصوته من فرط حنينها فتغمض عينيها بقوة وشريط حياتها الطويل يمر أمام ناظريها ..
هي اختارت طريق العطاء من أوله ..فهل بيدها الآن أن تقطعه ؟!!
هل ستكون أنانية لو اختارت ترك الجميع خلفها ولم تنظر سوى لسعادتها هي؟!
ومن أخبرها أن جهاد سيوافق ؟!
وحتى لو وافق كيف ستظهر أمامه بهذا الخزي من أهلها ؟!!
_افتقدتك يا نيلية !
هذه المرة هي لا تتخيل !
هو حقاً خلفها!
تلتفت نحوه مشدوهة لتعانقها ابتسامته قبل عينيه ..
تراه يخلع عنه شاله العزيز ليضعه برفق فوق كتفيها فلا تعنيها نظرات المارة بقدر ما يعنيها وجوده الآن معها ..
أي كذبة تختلقها ؟!!
أي كلام قد تقوله ؟!!
كل الحروف تذوب على شفتيها وبحور عينيه الزرقاء تحمل لها عتاباً لا تطيقه ..
فتسبل أهدابها هاربة وهي تشعر أنها ممزقة بين اشتياق وخوف!!
_كيف عرفت أنني هنا؟!
أخيراً تجد كلماتها المفقودة لكنها لا تزال غير قادرة على مواجهة عينيه بخفقات قلبها المذعورة ..
_حسناء !
يقولها باقتضاب فتشحب ملامحها بخوف وهي ترفع وجهها نحوه هاتفة :
_ماذا أخبرتك؟!
ينعقد حاجباه بشدة مع هذا الرعب الذي كسا ملامحها فيقترب منها خطوة حمائية وهو يرد بين ضيق وعتاب:
_لم تخبرني سوى بأنكِ تقيمين في ذاك الفندق ..وتركت لكِ الباقي!
تعاود إغماض عينيها وهي تضم شاله عليها بقوة تكاد تعتصره بأناملها ..
لا تدري هل ورطتها حسناء هذه المرة أم أنقذتها؟!!
لا يهم ! هي وضعتها على أول درجة في السلم وتركت لها الصعود !!
ربما غداً قد تلعن حماقتها ..لكنها الآن لا تملك سوى الاستسلام !!
_تعالي!!
تفتح عينيها و”الخمسة أحرف” تبدو لها كجنة تناديها ..وكسراب تناديه !!
تنفرج شفتاها وهي لا تدري بماذا ترد لكنه يعانق كفها بأنامله بقوة رفيقة ثم يتناول هاتفه لتتلاعب به أنامله للحظات قبل أن يتحرك بها مشيراً نحو سيارة أجرة قريبة توقفت أمامهما ليستقلاها معاً ..
يلتفت نحوها مردفاً بابتسامة لم يختفِ عبق عتابها:
_تطبيق “أوبر” هذا أفادني كثيراً منذ قدمت إلى هنا ..سنذهب لذاك “المول” في وسط البلد ..عزيز نصحني بالتسوق هناك .
_شامي يا أستاذ؟!
يسأله السائق وقد تبين لهجته ليرد جهاد بفخر:
_فلسطيني!
فيبتسم السائق ابتسامة منقوصة وهو ينظر إليه عبر المرآة قائلاً:
_لو تعلم كم ضربتُ بسببكم أيام الجامعة !
يرتفع حاجبا جهاد بدهشة ليردف الرجل ولايزال غارقاً بشروده :
_كنا نخرج في مظاهرات تندد بتجاوزات الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين..كانوا يثبطون عزائمنا بحديثهم عن أن الفلسطينيين غدارون باعوا أرضهم لليهود ..وكنا ندافع بأنكم أبطال لم تبيعوا القضية كما باعها غيركم ..
يبتسم جهاد وهو يتذكر اسم السائق كما رآه على تطبيق الهاتف ليأخذ دوره في الشرود :
_تعرف كيف تركت القدس يا إبراهيم؟!
يبتسم إبراهيم للود الصريح في حروفه قائلاً:
_أنت مقدسي؟!
فيهز جهاد رأسه بإيماءة موافقة مع رده :
_المقدسي لا يترك بلده مختاراً ..لكنهم لم يتركوا لنا حلاً آخر .. ! أبي كان ينتمي لإحدى القرى غربي القدس والتي أبادها الاحتلال تماماً ..لازلت أذكر صوت الرصاص يدوي في أذني ونحن نغادر القرية التي احترقت أشجارها ..الرعب الذي ملأني وأنا أكاد أفقد أنفاسي من سرعة الركض لكنني كنت لا آمن طلقة غدر تصيب ظهري لو توقفت ..أبي مات في الطريق ..سقط أمامنا غارقاً في دمه وأنا لا أفهم ماذا يحدث ..الموت لم يكن يوماً منا بعيداً لكنها كانت أول مرة يغدر بنا بهذا القرب ..تدري ماذا كانت آخر كلماته ؟! كان يحمد الله أن مات في القدس فلم تخرج روحه بسواها ..
تربت زهرة على كفه وهي تسمع منه القصة لأول مرة بينما يكز إبراهيم على أسنانه بغضب مكتوم ليردف جهاد بين وجع وغضب:
_بقينا فترة لدى جدي لأمي الذي كان يقيم في القدس جوار المسجد الأقصى ..لكنهم لم يتركونا وشأننا ..عمي كان منضماً لأحد فصائل المقاومة وذات يوم أخفى مناضلاً لدينا في بيت جدي ..علم اليهود فعاقبونا تدري ماذا كان العقاب ؟!
ينعقد حاجبا إبراهيم بالمزيد من الغضب مع استطراد جهاد الموجع:
_هدم البيت ! ليس هم من هدموه بل أجبروا جدي أن يفعلها بيده فيما يسمونه بقانون الهدم الذاتي ..جعلونا نهدم بيتنا بأيدينا قبل أن يأمروا بترحيلنا من القدس .. ولولا أقارب لأمي كانوا مقيمين في بلدة عربية مجاورة ساعدونا ،لعشنا مشردين ما بقي من عمرنا ..جدي مات وفي عنقه المفتاح ..رمز عودتنا لبيتنا بفلسطين ..المفتاح الذي ورثته والذي أوصاني أن أورثه لأولادي مع كواشين الطابو “أوراق إثبات ملكيتنا لبيوتنا”..وسأفعل ! لن أنسى!
يقولها وهو يضغط كف زهرة بين راحتيه كأنه يحمل لها الوصية هي الأخرى فيبتسم إبراهيم بفخر وهو يكرر خلفه :
_ستفعل! لن تنسى ! كلنا لن ننسى!!
يهز له جهاد رأسه بامتنان ليردف “الدرويش” بحماس قلما ينتابه :
_يظنون أنهم سيهدون عزمنا بسياسة التهجير القسري للمقدسيين لأجل ما يسمونه بإعادة التوزيع “الديموجرافي” للمنطقة ..أو بإقامة الجدران داخل القدس لسلخ أحياء مقدسية كبيرة وعزلنا فيما يشبه المخيمات ..أو إبدال الهويات المقدسية بالبطاقات الممغنطة الجديدة لتحديد مكان سكن المقدسي وهذه القوانين التي يجددونها كل وقت لتهويد القدس غصباً ..
تتسع ابتسامة جهاد وهو يراه يتحدث بضمير “الجمع” كأنه منهم خاصة وهو يستطرد بنفس الحماس:
_لا يعلمون أن قضيتنا في صدورنا نتنفسها مع كل شهيق ..القدس عربية ..كانت وستبقى لنا .
_صدقت يا أخي والله ! حماستك هذه افتقدتها على وجوه العرب منذ عهد بعيد .
يهتف بها جهاد وهو يربت على كتفه من الخلف برفق ليتنهد إبراهيم بحرارة قائلاً:
_لا ألومك ! كلنا ننتظر عودة قوس قزح مع زخة مطر بوعد الحرية فوق أرض تشققت بجفافها !
يقولها ثم ينتبه لوصوله للمكان المنشود فيوقف السيارة ليلتفت نحو جهاد قائلاً بود :
_لن تدفع!
يهم جهاد بالاعتراض لكنه يبسط راحته في وجهه مردفاً بابتسامته المنقوصة:
_هكذا يكون عليك لي دين ..حق ضيافة ..ترده لي في وطنك عندما تعود إليه ..قريباً ..قريباً بإذن الله !
يصمت جهاد للحظات والعزة الأبية تتراقص بين عينيهما قبل أن يبتسم وهو يهز له رأسه موافقاً ثم يمد له كفه مصافحاً بقوله :
_دكتور جهاد الريحاني ..تسعدني صداقتك يا إبراهيم ..راسلني دوماً فلن أمكث هنا كثيراٌ .
يقولها ثم يتبادلان البريد الالكتروني الخاص بكليهما قبل أن يفترقا وكلاهما يشعر أنه ليس اللقاء الأخير !
======
فوق إحدى الموائد يجلسان في ذاك المول الكبير ..
عيناه تحاولان سبر أغوارها وعيناها لا تزالان تهربان ..
_أما اكتفيتِ من الهروب؟!
يسألها بنفس النبرة العاتبة فتضم شاله عليها بقوة لترفع عينيها نحوه بوجل فيردف بابتسامة واهنة :
_طوال هذه الأيام وأنا أتصور عشرات الأسباب لما يحدث معكِ منذ عدتِ إلى هنا ..عشرات الأسباب لكنني أستبعد سبباً واحداً فأكدي لي استبعاده ..
تهز رأسها بتساؤل ليردف بعينين لائمتين:
_أنكِ تريدين التخلي عني!
_أنا ؟! أنا أتخلى عنك؟!!
ضحكتها العصبية تتحول لسيل من الدموع فتدفن وجهها بين راحتيها ليضم قبضتيه بعجز للحظات قبل أن يمد أنامله ليزيح كفيها عن وجهها قائلاً بحسم :
_أكدي لي استبعاده ..وأنا كفيل بعدها بأي سبب سواه يقف بيننا!
تأخذ نفساً عميقاً وهي تكفكف ما بقي من دمعها لتنفرج شفتاها بحروف مرتبكة :
_أنا ..
وصول النادل ينقذها مؤقتاً ..
كوبان من الشاي الأخضر يفصلان بينهما ..ويجمعان بينهما!
_تعلمين أنه أول كوب أشربه منذ وصلت إلى هنا؟
يقولها مسبلاً أهدابه على نفس النظرة العاتبة فتطرق برأسها دون رد ..
لكنه يمد أنامله ليحتضن كفها مردفاً :
_تعلمين كم حديثاً ادخرته لك؟! كم خبراً يفتقد أذنيك ؟! لم تفرقنا يوماً مسافات فكيف يشتتنا وطنك ؟!
كلماته تهدهدها بهذه القوة الذائبة بين طيات حنانه خاصة وهو يحتضن كفيها بكلا راحتيه مردفاً :
_ماذا تخفين عني ؟! قولي ولا تخافي !
تشيح بوجهها للحظة وهي لا تكاد تميزاً صواباً من خطأ ..
لكنها تحسم أمرها أخيراً ..
حسناء محقة !
فليعلم ..فإما رحل للأبد ..أو بقي للأبد !!
لهذا تعود ببصرها نحوه تستمد قبساً من نور عينيه الزرقاوين ثم تطرق برأسها لتروي له ..
حجبت بعض التفاصيل التي تحرجها لكنه فهم ما تخفيه ربما بأكثر مما صرحت به !
حتى إذا ما انتهت من حديثها شعرت أنها تعرت فجأة أمامه فعادت تنخرط في البكاء من جديد ..
لكنه ينهض من مكانه فجأة ليجلس جوارها كأنه -في هذه اللحظة بالذات- لا يريد أن تفصلهما مسافة !
قبضته الحنون تفرض وصايتها على كفيها المضمومين ..
الصدمة في عينيه تتصارع مع عجزه ..
أي أب هذا الذي تحكي عنه ؟!
أي مجرم ؟! بل أي حيوان ؟!!
طاقة غضب رهيبة تتملكه في هذه اللحظة وهو يتصور أية حياة كانت تعيشها ..
وأي جحيم واجهته !!
طاقة كانت وحدها كفيلة أن يقوم بتحطيم المكان حوله وهو يتصور يداً تمتد إليها بسوء وهي عاجزة تواجهها وحدها ..
لكنه بذل مجهوداً خرافياً وهو يكظم غضبه -مراعاة لها- ليقول أخيراً:
_لماذا لم تخبريني من قبل؟!
_وهل تجد فيما رويته ما يستدعي فخر الحكاية ؟!
تهتف بها بخزي أغرق حروفها لكنه يغرس كلماته في حدقتيها:
_أنتِ فقط كل الحكاية يا زهرة ..كل الحكاية !
ابتسامة أمل تتراقص على شفتيها مع استطراده بنبرة تزايدت حدة انفعالها :
_ما قيمة ما بيننا لو تقاسمنا فرحتنا وتركنا الحزن يأكل بواطننا وحدنا؟! أنا اخترتك وطني ..سكناي ..عائلتي ..ولا أبالي سوى بأن أكون لكِ هذا كله !!
ابتسامتها تتسع لكنها تصطدم بهذه النظرة التي يصرخ فيها عتابه غاضباً :
_كل هذا تعيشينه وحدك طوال هذه الأيام دون أن تخبريني ؟! ماذا كنتِ تنتوين ؟! لولا أن صديقتك ألقت لي طرف الخيط لما علمت !!
_بالله لا تغضب! صرتَ تدرك حساسية وضعي وحرجه .
تغمغم بها بخجل ليرد بنفس الانفعال:
_لا حرج ! من المفترض ألا حساسية بيننا ولا حرج !! رأسك الأحمق هذا كان يجب أن يفهم !!
يلكزها بسبابته في صدغها فتطرق برأسها وهي تشعر بأنها أزاحت حملاً ثقيلاً من على كتفيها ..
لكن ..هل الأمر حقاً بهذه البساطة ؟!!
_سنترك كل هذا خلفنا !
يقولها بحسم لترفع وجهها نحوه بينما يردف:
_سنعود من حيث أتينا ..لم تعد لنا حاجة في البقاء هنا ..كلانا اختار صاحبه ولا يعنينا ما دون ذلك .
_وأمي؟!
تغمغم بها بقلق مردفة :
_هي لا تعرف رقم هاتفي الجديد ..ولا أستطيع الوصول إليها..
_هي تعرف رقم حسناء ..أثق أنها ستتصل بها عندما تدبر أمرها ..
يقولها محاولاً بث الأمل فيها وإن كان بداخله يشعر بالخوف حقاً على تلك المرأة ..
لكن خوفه عليها هي كان يفوقه ..
رغبته في انتشالها من كل هذا والهرب بها بعيداً !!
_لا تقلقي ! نحن معاً !!
يقولها بنفس النبرة المنفعلة وقد نفر هذا العرق البارز في جبينه فيغلبها حنانها نحوه خاصة وهو يردف بنفس الحدة :
_المهم ألا تخفي عني شيئاً بعد اليوم ..لن أمررها لكِ!
_”روق يا ضاوي” !
تقولها بابتسامة شاحبة مستعيرة عبارته التي طالما يستخدمها مع ريان فيزفر بقوة وهو يشيح بوجهه للحظات محتوياً انفعاله ..
قبل أن يعود إليها ببصره ليعدل وضع شاله فوق كتفيها هي هامساً بمزيج غريب من رجاء وغضب:
_تعلمين ماذا صرتِ في حياتي ..بالله عليك ..لا تجعلني أذوق مرارة فقد وطني مرتين !
عيناها تفيضان بامتنانها رغم كل الخوف الذي يملأها من غد لا تملك مفاتحه ..
لكن ألا يكفيها أن يكون هو شريكها فيه ؟!!
======
_كيف حالك يا ريان ؟! وكيف حال فدوى ؟!
يقولها عبر الهاتف في غرفة الفندق الذي يقيم فيه مؤقتاً حتى موعد إقلاع طائرته وقد حجز الغرفة المجاورة لزهرة ..
ليرد صاحبه بضيق:
_كما هي! لا أدري ماذا أصابها! لقد جنت حقاً! تصور أنني عدت منذ يومين لأجدها ساقطة على الأرض منهارة في البكاء ..وقع قلبي في قدميّ لأكتشف أن السبب أن ثوبها القديم صار ضيقاً .
ينعقد حاجبا جهاد مفكراً قبل أن يقول بشرود :
_أسبابنا المعلنة لا يشترط أن تكون دوماً هي الحقيقية ..أحياناً يكتم المرء الكثير ثم ينفجر فقط لما يبدو كسبب تافه !
_لم أعد أفهمها ! مجرد عودتي للبيت صارت جحيماً..
يهتف بها ريان ليردف بسخط:
_وفي النهاية يلومون الرجل الذي يتزوج على امرأته !
_ماذا؟!
يهتف بها جهاد باستنكار ليتلعثم صاحبه قائلاً:
_مجرد كلام !
_إياك أن تحدثني في هذا الأمر من جديد ولو مزاحاً! أنت لا تخون يا صاحبي ..وفدوى لا تستحق الخيانة!
يهتف بها جهاد بغضب ليزفر ريان قائلاً:
_لهذا لا أحب الحديث معك عنها ..دوماً تأخذ صفها !
_فدوى لم تترك دينها وبلدها وعائلتها لأجلك فحسب ..بل وعملها كذلك! كل هذا فعلته لتتفرغ لبيتك وأولادك ..من الطبيعي جداً الآن أن تشعر أنها ..
_أنها ماذا؟! تعيرني بما تركته لأجلي؟! تخنقني بغيرتها المريضة ؟! أنا أشعر أنها ليست نفس المرأة التي تزوجتها ..كأنها شعلة توهجت لأيام ثم استحالت رماداً .
يقاطعه بها ريان بغضب ليهتف جهاد مهدئاً:
_ولو استحالت رماداً بيدك أنت أن تحييه !
_لا يا صاحبي! أنا لم تعد بي طاقة للمزيد من المعافرة ..كفاني مشاكل العمل في المستشفى الخاص بنا.
_أي مشاكل؟!
_آه ! أنت تسافر كثيراً ولا تعلم نواياهم !يريدون إنهاء عقود البعض لتخفيض العمالة ..لا أدري ماذا سيكون مصيري هنا .
_لا تقلق..خبرتنا جيدة ..حتى لو فقدنا عملنا في المستشفى فيمكننا البحث عن آخر .
يقولها محاولاً احتواء المزيد من قلقه ليرد ريان بتهكم مرير:
_من السهل أن تقول هذا وأنت رجل أعزب لا تحمل سوى هم نفسك ..لست مثلي عنقه مربوط بثلاثة أطفال وامرأة ..امرأة تبكي هماً لأن ثوباً قد ضاق ولا تفكير لها سوى في أن تحكم سيطرتها عليّ!
_لا تعجبني طريقة تفكيرك! تريد الحق؟! أنت الذي تغيرت وليست هي!
يقولها جهاد منصفاً ليرد صاحبه بتنهيدة حارقة:
_لا يهم من فينا تغير ..المهم أن كلينا لم يعد يليق بصاحبه .
_لا أحب كلامك بهذه الطريقة يا ريان! لو كررتها فسأكون أنا خصيمك !
يهتف بها جهاد بنفاد صبر ليهتف ريان هو الآخر:
_حسناً ! لن أكلمك في هذا الأمر ثانيةً ! متى ستعود ؟!
_بعد غد .
_أراك على خير!
الاتصال يغلق بينهما بتوتر فرض نفسه على الموقف ليطلق جهاد زفرة ساخطة وهو يخرج لشرفة غرفته فيجدها في شرفة غرفتها المجاورة ..
وقد وقفت مكتفة ساعديها مستندة على السور ..
شاله الأثير بلونيه الأبيض والأسود يغطي كتفيها ..
تكاد لا تخلعه عنها كأنه لم يعد رمز هويته هو فحسب ..بل هويتها هي كذلك !
خيط من الدموع يفضح شرودها عبر الفضاء الفسيح أمامهما فيقترب بخفة حتى آخر حدود السور بين الشرفتين ..
ثم يمد أنامله يحتضن كفها على السور فتشهق متفاجئة وهي تلتفت نحوه..
كفه الحر يقترب من وجهها ليمسح دموعها قائلاً بحنانه العاتب:
_بكاؤك هذا يذكرني بفعلتك التي لن أسامحك عليها ..قد أغفر لكِ أي شيء إلا أن تخفي عني ما يسوؤك ..فتوقفي عن البكاء كي لا تثيري غضبي أكثر .
_لك طريقة غريبة في المواساة !
تهز بها رأسها بشبه ابتسامة ليرد بنفس النبرة العاتبة :
_ما بيننا لا يحتمل المواساة ! المرء لا يواسي نفسه !ربما لم أحبك ذاك الحب الذي يسرق القلب من أول لحظة كما نرى في الروايات والأفلام ..لكنه هذا الحب الذي يتسلل خلسة ليحتل الضلوع يوماً بعد يوم فلا ينتبه المرء إلا وقد صار جزءاً من تكوينه .. أحببتك صفحة بيضاء أمامي أجيد قراءة سطورها دون جهد وأنا الذي اكتفيت من تعب الحياة ..لهذا يشقّ عليّ جداً أن تتشوش صفحتك في عيني !
تومئ برأسها فيما يشبه الاعتذار وهي تهم بسحب كفها منه كي تعدل وضع وشاحها الذي أطاره الهواء ..
لكنه يتشبث به بأحد كفيه بينما يعدل وضع وشاحه هو بنفسه على كتفيها ..
قبل أن يأتي بهذا الفعل الذي لم يكن بينهما من قبل ..
فقد رفع كفها لشفتيه يقبل ظاهره برقة تناقض خشونة عتابه :
_أنتِ صرتِ مني ! غصنٌ لا يتمرد على جذعه ..وجذعٌ لا يتخلى عن غصنه ..هكذا نحن ..كنا.. وسنبقى يا نيلية !
تدمع عيناها بتأثر من جمال التشبيه وهي تشعر أنها تكاد تذوب بدفء نظراته ..
هذا الاحتواء العارم في عينيه يشعرها بالندم حقاً أنها لم تخبره من البداية ..
وهذه العاطفة الهادرة التي تفضحها ملامحه تغزوها بهذا الوهن اللذيذ الذي تهرب منه بتغيير الموضوع وهي تسحب كفها منه بخجل :
_لا تبدو غاضباً مني أنا فقط! يبدو أن هناك سبباً آخر !
يبتسم لصدق شعورها به ثم يقول بشرود :
_ريان وفدوى!
_تشاجرا كالعادة ؟!
_ليس شجاراً عادياً هذه المرة ..أشعر أن ما بينهما تصدع وقد آل للسقوط !
يقولها بأسف لتطلق صيحة دهشة مستنكرة فيما يستطرد :
_شيء ما بصديقي قد تغير ..ليس هو فقط ..هي كذلك ..أنا أعرفهما منذ سنوات ليست بالقصيرة ..وتهولني هذه الغربة التي أستشعرها الآن نحوهما ..
_فدوى متسلطة نوعاً ما لكنها طيبة ..صحيحٌ أنني في البداية كنت أشعر ببعض الغيرة منها بحكم تقاربها معك ..
يبتسم لملحوظتها الحمقاء -كما رآها- لتردف هي باستدراك:
_لكنني عندما اقتربت منها أدركت أنها تحمل أعماقاً رائعة ..ربما هي متحفظة ..غامضة أحياناً ..إنما ..
يشير لها مقاطعاً وهو يسمع صوت طرقات عنيفة على باب غرفته فيهتف بدهشة:
_من عساه الطارق؟!
تهز كتفيها بجهل ليتركها مندفعاً نحو الداخل بينما صوت الطرقات يزداد عنفاً ولم يكد يفتح الباب حتى اتسعت عيناه بصدمة وهو يرى الجمع الذي تحلق حول باب غرفته ..
والصوت الصارم الذي يأتيه قاسياً :
_دكتور جهاد الريحاني ! أنت مطلوب للتحقيق!
=======
أمام مائدة البلياردو يقف في مواجهة منافسه الذي ابتسم وهو يعقد حاجبيه محاولاً تدقيق النظر قبل أن يدفع العصا لتحرك الكرة التي أخذت طريقها لتتوقف قبل الثقب المرتقب بخطوة واحدة ..
فيبتسم هو بنظرة شرسة وهو ينحني بدوره لتتركز نظراته على الكرة المنشودة ..
_هذا هو عيبك يا رجل! حركاتك تفتقد حسن التقدير ..انظر لهذه ..
يقولها وهو يغازل الكرة بعصاه للحظات مردفاً:
_الدنيا ليست إلا كرة كهذه تحتاج لعصا خبيرة تغازلها ..تعرف نقاط ضعفها ..تجيد الاقتراب والابتعاد حسبما ترتئيه ..ثم ..
يقطع عبارته وهو يدفع الكرة التي تحركت في طريقها لكنها توقفت قليلاً تتدحرج قبيل مسافة بسيطة من الثقب ليطلق منافسه ضحكة عالية سبقت قوله الشامت:
_لا تتعجل فربما ..
لكن الرجل يقطع عبارته وهو يرى الكرة تتحرك ببطء لتسقط أخيراً مكانها !!
هنا كان دوره هو ليطلق ضحكة ظافرة وهو يرفع عصاه على المنضدة ليستند عليها قائلاً بنفس النظرة الشرسة :
_عيب! من مثلي قادر على اقتناص الدنيا كلها بين أصابعه ؟!!
يمط منافسه شفتيه باستياء وهو يضع عصاه جانباً مع بسط راحتيه باستسلام :
_تركنا لك الكرة ..والبلياردو ..والدنيا !
_والحلوة التي بالداخل!
يغمزه بها غمزة ماكرة بلهجة حاسمة فيضحك منافسه وهو يعاود ارتداء سترته قائلاً:
_هي لك!
يبتسم ابتسامة ظافرة وهو يراقب انصراف منافسه ثم يفتح أزرار قميصه وهو يغادر غرفة اللعب المخصصة في قصره ليتوجه نحو الداخل ..
المرأة الفاتنة تقترب منه بإغواء مثير مستعرضةً مفاتنها لتشتعل النظرة الشرسة في عينيه أكثر ..
تنتظر منه مغازلة لكنه يضع كفيه في جيبي سرواله مكتفياً بجولة عينيه فوق تفاصيلها ..
تقرب وجهها منه بدلال لكنه يبتعد برأسه قائلاً بقسوته الباردة :
_ترين هذا السلم؟!
تنظر جانباً حيث يشير فيردف بنفس البرود القاسي :
_اصعدي ..الغرفة الثالثة على اليسار ..
_لن تأتي معي..
تسأله بغنج لكنه يقاطعها قائلاً :
_انتظريني على الفراش ..جاهزة ..تماماً ..
تتسع عيناها للحظة من اللفظ الفج لكنها تضحك هامسة بنفس الغنج :
_ولماذا لا تصطحبني؟!
يبتسم بهذه القسوة الشرسة وهو يقبض على بعض خصلات شعرها باليسير من العنف ليهمس أمام وجهها :
_هكذا تعودت! لقد سعيت كل هذا العمر كي أصل لهذه المرحلة ..أن تنتظرني ملذاتي لا أن أنتظرها أنا!
تتوهج عيناها بمزيج من إعجاب ورهبة فتلتوي شفتاه بابتسامة رضا وهو يحررها ليراقب صعودها نحو الأعلى بنظرات مشتعلة ..
يخلع عنه قميصه ليتوجه نحو المرآة القريبة ..
نظراته تبرق بقسوة تشبه هذا الوشم على ذراعه ..
“الكوبرا”!!
يصب لنفسه كأساً من الخمر يرتشفه جرعة واحدة قبل أن يشعر بأحد رجاله يطرق الباب الداخلي ..فيزداد برق عينيه وميضاً بترقبه ..
_العملية فشلت ! التفجير لم يتم ..رجلنا شعر بالخطر من تتبع رجال الأمن له فهرب دون أن يكمل عمله .
ينعقد حاجباه وهو يلتفت نحو الرجل ليسأله :
_عرفوه؟!
_لا ..كان متنكراً بدقة ..تحرياتهم لم تصل بهم لشيئ ..لكنهم اشتبهوا في طبيب فلسطيني تصادف وجوده في المول ومن قبل في عدة مناطق قريبة من منشآت عسكرية ..وله اتصال بإحدى الجماعات المناهضة للصهيونية والتي لها نشاط قتالي سري .
يقذف الكأس فجأة لتتناثر شظاياه بدوي رهيب في المكان فيجفل رجله وهو يعود خطوة للخلف ..
لكن ملامحه هو بدت جامدة تماماً مناقضة لكل هذا الغضب الذي يستعر داخله ..
_سيدي؟!
يغمغم بها رجله بترقب بعد دقائق صمت طالت ليلتفت هو نحوه أخيراً قائلاً :
_أين رجلنا الآن؟!
_عاد لوكرنا الآمن .
ابتسامة شرسة تقتات على شفتيه وهو يقترب من الرجل أكثر بسؤاله :
_حياً؟
يومئ الرجل برأسه إيجاباً ليشهق بصدمة وقبضة “الكوبرا” تطبق على عنقه مع قوله بنفس البرود القاسي:
_ألم يعلموك في مدرسة “الكوبرا” أن تلاميذه كلهم ناجحون ؟!..الفاشل يموت!
_لكن..تاريخه معنا ..
يقطع الرجل عبارته قسراً وهو يلمح النار التي اشتعلت في عيني سيده ليسبل جفنيه قائلاً باستسلام :
_اعتبره قد تم !
يحرر عنق الرجل ثم تشتعل عيناه بقوله :
_اتصل برجلنا في جهاز الأمن واعرف منه التفاصيل ..أما ذاك الطبيب الفلسطيني ..
_البريئ؟!
يقاطعه بها مساعده ببعض الدهشة ليردف بخبث:
_لن يبقى كذلك طويلاً ..فليكن الطعم المزيف الذي نلقيه لهم ..افعل ما يمكنك فعله كي يناسبه ثوب التهمة ..
يبتسم رجله وهو يهز رأسه بطاعة ليردف هو بعينين ضاقتا وعيداً :
_تماماً .
يقولها ثم يصرف الرجل قبل أن يعاود النظر نحو مرآته مخاطباً نفسه :
_هذا هو سر “الكوبرا” الذي لا يعرفونه ! أنه يجيد دوماً تحويل هزيمته لنصر!
======
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)