روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل السادس عشر 16 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل السادس عشر 16 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء السادس عشر

رواية ماسة وشيطان البارت السادس عشر

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة السادسة عشر

رن الجرس في منزل رحمة ففتحت الباب لتضحك بارتياح لم تعرفه منذ زمن بعيد قبل أن تهتف بحنان:
_عزيز!! افتقدتك يا ابني!!
فتحت له ذراعيها كعادتها لتفاجأ به يلقي رأسه على كتفها بإنهاك وهو يضمها بقوة احتىاج استشعرته أمومتها بصدق…
فربتت على ظهره برفق وهي تسأله بقلق:
_ما الأمر يا عزيز ؟!!أنت لا تبدو بخير!!
ظل صامتاً للحظات قبل أن يرفع وجهه نحوها ليبتسم قائلاً بمرارة:
_على العكس…أنا في طريقي لأكون بخير!
انعقد حاجباها بقلق وهي تغلق الباب خلفه لتجذبه من كفه نحو الأريكة حيث ضمته لحضنها وهي تجلس جواره لتهتف بجزع:
_ماذا حدث؟!هل تشاجرتَ مع زوجتك؟!
أطرق برأسه دون رد للحظات…
قبل أن يتجاهل سؤالها ليسألها باهتمام:
_لقد مررتُ عليكِ هنا بالأمس ولم أجدكِ…وهاتفكِ كان مغلقاً…أين كنتِ؟!!
تلون وجهها بمشاعر شتى وهي تجيبه بصوت متهدج:
_كنت عند …ماسة!!
اتسعت عيناه بصدمة قبل أن يبتعد عنها بجسده ليسألها بتشتت وسط انفعاله:
_وكيف عرفتِ مكانها؟!!هل اتفقتِ أنتِ الأخرى مع أبي؟!!
تنهدت بحرارة وهي تربت على كتفه قائلة بهدوء :
_ماسة أخبرتني عما فعله والدك …هو من سعى لإبعادها عن هنا إلي قصر عاصي الرفاعي…لكنني بالطبع لم أكن أعلم شيئاً عن هذا.
ثم أردفت بإشفاقٍ أمام الألم الذي غزا ملامحه:
_وكم أود الآن لو أشكر أباك على فعلته…عاصي الرفاعي هو الرجل الذي كنت أتمناه بحقٍ كزوج لها.
اشتعلت ملامحه بغضبه وهو يهتف بانفعال :
_بالطبع…عاصي الرفاعي القوي الجبار المتسلط هو الذي يليق بماسة…لكن عزيز الضعيف المتخاذل لا يستحق سوى أن يعيش عمره نادماً عليها!!!
انعقد حاجباها بقلق ممتزج بالدهشة من لهجته العاصفة التي لم تعتدها…
بينما أشاح هو بوجهه صامتاً للحظات…
قبل أن يقول باقتضاب:
_أنا طلقت ميادة!
شهقت بجزع وهي تضع كفها على صدرها هاتفةً باستنكار:
_طلاق؟!!! لماذا يا ابني؟!
كز على أسنانه وهو يلتفت إليها ليهتف بحزم:
_لقد ذهبت إلى أبي وواجهته بما علمته…وتخليتُ له عن كل ما منحه لي…الشركة والسيارة ورصيد البنك..
ثم صمت لحظة ليردف ببعض التهكم المرير:
_والعروس الفاخرة التي انتقاها لي!
هزت رحمة رأسها باستنكار ممتلئ بحسرتها وهي تهتف بحدة:
_وزوجتك ما ذنبها؟!! هل سحبتك مغمض العينين للمأذون دون إرادتك؟!!لماذا تحمّلها هي ذنب ضعفك؟!!
قام من مكانه ليقف هاتفاً بسخط:
_أنا لم أحملها ذنب شئ…هي تزوجت عزيز شاكر ابن المليونير…صفقتها الرابحة كما كانت دوماً تزعم…والآن لم أعد أنا كذلك…لقد تركتُ له كل شئٍ بإرادتي…وسأبدأ من جديد هنا معكِ أنتِ…وهي لن تحتمل شيئاً كهذا!!
استغفرت الله بصوت مسموع وهي تقوم بدورها لتربت على كتفه محاولةً كظم غيظها ….
ثم قالت له محاولةً احتواء انفعاله العاصف:
_اجلس هنا وأخبرني بالتفصيل عما حدث…حتى أعطيك رأيي.
زفر بضيق وهو يطرق برأسه قبل أن يستجيب لدعوتها فيجلس جوارها مخبراً إياها بتفاصيله …
صدمته برؤية ماسة بعد كل هذا الفراق ليجدها قد تزوجت…
وليتها تزوجت رجلاً طيباً يطمئن عليها معه لكنها تزوجت رجلاً هو مضرب الأمثال في القسوة والتسلط…
ومواجهة ماسة العاتبة له على ضعفه وتخاذله…
وبعدها مواجهة ميادة له بنفس الحقيقة مع استهزائها وقسوة كلماتها…
والتي تبعتها بمفاجأتها عن أن والده هو الذي كان خلف كل هذا…
ساعتها لم يشعر بنفسه وهو يرغب في التمرد على كل شئ…
حتى على نفسه هو!!!!
لهذا ما كاد يلقي عليها يمين الطلاق حتى اندفع نحو منزل والده ليواجهه بما عرفه…
والده الذي انفعل علىه بحديثه ليخبره أنه لازال غراً ساذجاً يحتاج لمن يوجهه وأنه لم يفعل هذا إلا لمصلحته…
لكن عزيز الذي كان قد فاض به الكيل واجهه وقتها بكل ما في صدره من سخط وألم…
ليس بسبب ماسة فحسب بل بسبب الماضي كله….!!!!
ليتركه بعدها وقد عزم على قراره الأخير…
سيختار لنفسه بدايةً جديدة بيده هو هذه المرة…
لا كما يريدها له أي أحد!!!
بينما كانت رحمة تستمع إليه بمزيج مختلف من مشاعرها المتخبطة…
بقدر ما هي سعيدة لأنه تحرر من قيود أبيه التي طمست شخصيته طوال عمره…
بقدر ما هي حزينة لأجله ولأجل تلك التي ظلمها دون سبب…
لهذا ربتت على كتفه برفق لتقول بعد تفكير :
_طالما الأمر كما تقول…فلماذا حرمتَها حق الاختيار؟!!لماذا حكمت وحدك على علاقتكما دون أن تسمع رأيها؟!!
ابتسم ساخراً ليرد بتهكم:
_وهل تظنينها تقبل أن تأتي لتعيش هنا وتبدأ معي من تحت خط الصفر بعيداً عن أموال السيد شاكر؟!!
ابتسمت رحمة وهي تومئ برأسها لتقول بحكمة:
_لا تحكم على أحد قبل أن تمنحه لحظة اختيار حر…وقليلةٌ هذه اللحظات في حياتنا…قليلةٌ حقاً لكنها فارقة!!
أشاح عزيز بوجهه وهو يحاول التفكير في كلماتها…
عندما اصطدمت عيناه بصورة ماسة مع عاصي ليلة زفافهما معلقةً على الجدار…!!!!
ليجد نفسه دون وعي يتقدم نحوها بخطواتٍ بطيئة وروحه تكاد تكذّب عينيه فيما تراه…!
هذا هو المكان الذي اختاره مع ماسة يوماً ليعلقا عليه صورة زفافهما يوماً ما كما كانا يحلمان…
فتشاء الظروف أن يتحقق الحلم …
بنفس العروس ونفس الثوب ونفس الصورة على نفس الجدار…
لكن….دونه هو!!!
فيالخسارته…عندما يتحول الحلم إلى كابوس!!
لكن رحمة تقدمت منه وهي تلاحظ تعلق بصره بالصورة لتربت على ظهره قائلةً بحنان ممتزج بشفقتها:
_لا تنتظر قطاراً فاتك موعده…لقد مضت في طريقها …وانتهى الأمر.
أومأ برأسه صامتاً للحظات…قبل أن يكرر عبارتها بحسرة مختنقة بألمها:
_وانتهى الأمر!
تنهدت رحمة بحرارة وهي تشعر بقلبها يكاد ينفطر حزناً عليه…
لكن عزاءها أن انتفاضته التي خلفت كل هذا التمرد ستصنع منه رجلاً جديداً…
رجلاً تفخر بأنه ابنها حقاً…
وليس مجرد كيان مهمش يتوارى خلف أستار أبيه…!!
لهذا ابتسمت ابتسامة حقيقية مفعمةً بالارتياح عندما التفت هو نحوها ليهمس بصوت متعَبٍ رغم حزم عبارته:
_أنا أحتاج للنوم الآن…وأعدكِ أن أفكر في كلامك.
===============
بدلت ميادة ملابسها وهي تستعد للخروج ….
الألم لا يحتمل هذه المرة وتلك الحقنة “اللعينة” التي طلبتها من الصيدلية جوارها لم تعد تحدث مفعولها القديم…
ويبدو أنها تحتاج للذهاب للمشفي لكنها لا تريد أن تشعر والدتها بشئ…
كتمت آهة ألمها وهي تنحني على نفسها ممسكةً بطنها بقوة…
قبل أن تنهار جالسةً على فراشها وهي تحاول الانتظار قليلاً لعل مفعول الحقنة يظهر مع الوقت…
ثم انهمرت دموعها رغماً عنها لا تدري ألماً أم خيبة…
بل…ربما اشتياق!!!
نعم…اشتياقٌ لرجلٍ لفظها من حياته كخرقة بالية دونما تردد…
بعدما منحها -بسخاء- كل ما حُرمت منه طوال عمرها…
ذاك الحنان الفائض الذي احتواها بدفئه بعد سنوات الصقيع هذه…
وأقام جدار روحها الذي كاد أن ينقض دون أن يتخذ عليه أجراً!!!
لقد منحها شربة الماء بعدما أنهكها الظمأ ثم عاد يسحب الكأس منها بعدما أدمنت عذوبته!!!
للأسف…لقد دخل قلبها في حساباتها رغماً عنها…
وكسرها بدقاته الخائنة…!
لكنها لن تستسلم لكل هذا…
عقلها سيبقى سيد قراراتها دون شريك….
والصفقة مع عزيز الآن خاسرةٌ بلا جدال…
وهي امرأةٌ لا تحب المجازفة !!!!
وعلى باب شقة والدتها كان هو واقفاً يطرق الباب بتردد وهو يخشي عواقب هذه الزيارة…
هو لا يريدها أن تعود إليه…
فقد صارت بالنسبة إليه مجرد رمزٍ من رموز تسلط أبيه على حياته…
وهو طمس تلك الرموز كلها بتخلّيه عن كل شئ…
فلماذا يُبقي عليها هي؟!!
لكنّ رحمة كانت محقة في حديثها…
طالما اختارا البداية معاً فلابد أن يختارا النهاية معاً كذلك…
لهذا قرر أن يأتيها اليوم ليشرح لها ظروفه الجديدة…
فإما قبلت العيش معه على حاله البسيط …وإما رفضت…
وليتها تفعل فتريح نفسها وتريحه!!!
قُطعت أفكاره عندما فتحت والدتها الباب لتطالعه بدهشة ممتزجة باستيائها قبل أن تغمغم بفتور:
_تفضل يا ابني.
دخل بخطواتٍ متثاقلة وهو يتحاشى النظر لعينيها العاتبتين ليسألها بتحفظ:
_ميادة هنا؟!كنت أريد التحدث إليها.
هزت المرأة رأسها وهي تغمغم بحسرة:
_لقد أصابتكم “العين” يا ابني…لا أصدق أنك طلقتها بهذه السرعة!!
ثم رفعت إليه عينيها لتهمس بعتاب مشوب بالخزي:
_ألم تفكر في سمعتها وماذا سيحكي الناس عن سبب طلاقها السريع هذا؟!!
اتسعت عيناه بصدمة وهو ينتبه الآن فقط لما تحكي عنه…
كيف لم يفكر في هذه النقطة من قبل؟!!
بل كيف لم يكترث أنه طلقها هكذا مباشرةً بعدما كان بينهما تلك الليلة؟!!
لقد تصرف كوغدٍ حقير نالها ثم تخلص منها!!!
شعر بوخزٍ في ضميره عندما راودته هذه الفكرة فازدرد ريقه بتوتر ليقول ببعض الأسف:
_أين هي الآن؟!
التفتت المرأة نحو غرفة ابنتها المغلقة لتقول بأسي:
_لا أدري ماذا بها..لقد اتصلت تطلب حقنةً ما من الصيدلية ودخلت بعدما استلمتها إلي غرفتها دون كلمة واحدة…وأنا آلمتني يداي من كثرة الطرق على الباب لكنها لا تريد أن تفتح لي…ميادة عنيدة في العادة وعندما تتألم يزداد عنادها أكثر…هذا طبعها للأسف!
انعقد حاجباه بقلق وهو يشك أن آلام معدتها قد عاودتها لكنها لا تريد أن تخبر والدتها عن الأمر كالعادة…
لهذا تنهد بضيق قبل أن يقول للمرأة بنبرة استئذان:
_أنا سأجرب …ربما سمحت لي بالدخول!
أشرق وجه والدتها بالأمل وهي تدعو الله سراً أن يصلح بينهما…
بينما تقدم هو نحو غرفتها ليطرق الباب برفق قائلاً ببعض الحزم:
_ميادة…افتحي..أنا عزيز!
شهقت بعنف ضاعف ألمها وهي تسمع صوته خلف الباب …
لماذا أتى الآن؟!!ولأي غرض؟!!
كان قلبها يتوسلها أن تفتح لتراه فربما جاء معتذراً نادماً…
لكنها أحرقت توسلاته بنيران غضبها وهي تتمالك صوتها بصعوبة لتهتف :
_لا أريد أن أرى أحداً…اذهب!
ربما في ظروفٍ أخرى كان سيقنع بهذا القول بل ويتخذه ذريعةً للذهاب حقاً بلا عودة…
لكنه يعتقد الآن أن تلك الحمقاء مريضة وتكابر وهو لن يتركها هكذا خاصةً وهو يعلم عقدتها مع والدتها والتي ستجعلها تخفي ألمها عنها…
لهذا عاود طرق الباب بقوة أكبر وهو يهتف ببعض الحدة:
_دعيني فقط أدخل لنتحدث!!
انطلقت منها آهة غادرة كتمتها بكفها وهي تفكر في تجاهله حتى يملّ ويرحل…
لكن كبرياءها سول لها أن تفتح له الآن لتكيل له سيلاً من إهاناتها تشفي به غليلها منه…
أو ربما هذا ما حاولت أن تقنع به نفسها استجابةً لنداءات قلبها الضعيفة…
لهذا تحاملت على نفسها لتتوجه نحو باب الغرفة فتفتحه لتهتف بغضب:
_ماذا تريد؟!!ليس لديّ وقتٌ لك..أنا في طريقي للخروج.
انعقد حاجباه بغضب من لهجتها المنفرة لكن عينيه وقعتا على تلك الحقنة الفارغة الملقية هناك على طاولة زينتها لتتأكد ظنونه…
فدفع الباب بقوة ليدخل ويغلقه خلفه مستغلاً مفاجأتها بحركته قبل أن يسألها بقلق لا يدعيه:
_أنتِ مريضة؟!
كزت على أسنانها بقوة تكتم صرخة ألمها لكن دموعها خانتها فأغلقت عينيها بقوة لتهمس وسط دموعها بصوت خفيض متقطع :
_لم يعد لك شأنٌ بهذا…أنا…بخير…ولا تخبر..أمي!!
انفلتت منها آهة قصيرة بعدها رغماً عنها وهي تنثني على نفسها ممسكةً بطنها بألمٍ غزا ملامحها…
فأمسك كتفيها هامساً بحزم:
_لابد أن نذهب للمشفى…هذه هي نفس الحالة التي أتتكِ من قبل…طالما الحقنة لم تحدث مفعولاً.
رفعت عينيها إليه بدهشة متسائلة عن كيفية علمه بهذا…
لكنه جذبها من مرفقها برفق هاتفاً :
_هيا بنا!!
نزعت مرفقها منه بعنف وهي تهمس بحدة رغم خفوت صوتها المختنق بألمه:
_أنا كنت في طريقي للمشفي فعلاً…سأذهب وحدي…لكنني لا أريد أن تشعر أمي بشئ…لهذا اذهب الآن من فضلك…وشكراً لشعورك النبيل!!
قالتها وهي تتناول حقيبتها لتضعها على كتفها ثم فتحت باب غرفتها متوجهة نحو الباب الخارجي للمنزل وسط نظرات والدتها المترقبة …
لكنه لحق بها على السلم ليمسك كفها قائلاً بصرامة:
_سآتي معك!!
حاولت تخليص كفها من كفه لكنه كان متشبثاً به في استماتة…
فهتفت بانفعالٍ زاده ألمها:
_سأكون بخير وحدي …كما كنتُ دوماً.. لن…
لم تستطع إكمال عبارتها مع تلك الصرخة الطويلة التي أطلقتها ….
والتي أوجعت قلبه حقاً فضم كتفيها إليه بذراعه دون أن يرد وهو يهبط بها الدرج …
حتى وصل بها إلي سيارتها فهتف بحزم:
_هاتي مفاتيح سيارتك فلم تعد لديّ واحدة.
نظرت إليه بتردد للحظة وهي عاجزة عن التفكير….
لكنه جذب منها حقيبتها بسرعة ليستخرج منها المفاتيح قبل أن يفتح السيارة ليجلسها برفق..
ويجلس هو على كرسي القيادة متوجهاً للمشفى القريب…
وهناك قاموا لها بفحوصات كاملة قبل أن يعتنوا بها علاجياً حتى هدأت تلك النوبة المعتادة…
وبعدها جلس هو جوارها أخيراً على طرف الفراش ليهمس بحنان لا يخلو من بعض التحفظ:
_حمداً لله على سلامتك.
أشاحت بوجهها لتهمس بفتور:
_شكراً…لم يكن هناك داعٍ لتعبك…أنا كنت سأتدبر أمري.
أطرق برأسه وشعوره بالذنب نحوها يتملكه أكثر…
بينما قاومت هي شعور قلبها الجارف -المستحدث-نحوه باستماتة…
لتعاود الالتفات نحوه قائلة بصلابة:
_لماذا جئت اليوم؟!
رفع عينيه إليها طويلاً بأشعته الزمردية التي تطوق روحها بحنانٍ لم تعرفه إلا معه…
ليسألها فجأة دون مقدمات:
_هل تريدين أن أعيدك لعصمتي؟!
رفرف قلبها بسعادة غامرة عندما داعبها الأمل في أن يعود بدفئه لحياتها…
لكنها لم تشعر بها مع تلك الصفعة التي شعرت بها من وقع كلماته التي لم تحمل اشتياقاً ولا ندماً…بل مجرد أطياف ذنب!!!
لهذا اغتصبت ابتسامة قاسية على شفتيها وهي تميل رأسها قائلةً بحزم:
_شكراً لكرمك الحاتمي سيد عزيز!!
انعقد حاجباه وهو يتفحص ملامحها التي بدت متنمرةً رغم إنهاكها…
ليهمس بتردد:
_هل ترفضين؟!
ارتجف جسدها بقوة انفعالها وهي تهتف به بحدة:
_نعم ..أرفض…وللأبد!!
فزفر بحرارة مطرقاً برأسه قليلاً وهو يشعر أنه لم يعد يفهم نفسه…
لقد كان ذاهباً اليوم إليها وهو ينتظر جملةً كهذه كي يغلق معها هذه الصفحة للأبد…
لكنه الآن-بعدما سمعها منها- لا يريد أن يتركها ويرحل…!!
هل هو مجرد شعور بالذنب وتأنيب الضمير…؟!!
أم أنه حقاً بدأ يجد لها مكاناً وسط زحام مشاعره ؟!!!
هو لا يعرف!!!
حقاً لا يعرف!!!
لهذا احتضن كفها برفق في راحته ليهمس أمام عينيها بصدق :
_أنتِ حقاً رائعة…لكنني لا أستطيع البقاء معكِ!
أغمضت عينيها بألم خدش جدران روحه وهي تعود برأسها للوراء وجملته الأخيرة تعيدها لذكريات طفولتها الخانقة لتجد نفسها تهمس دون وعي :
_والداي أيضاً كانا يقولان هذا قبل أن يتركاني كل مرة !
اعتصرت عبارتها قلبه ليتشبث بكفها أكثر…بينما بدت هي وكأنها لا تراه بل ترى شريط ماضيها…
حيث كان والداها يكتفيان بزيارات متباعدة لها عند جدتها…
زياراتٍ محملة بالكثير من الهدايا الباهظة لكنها كانت بعينيها زهيدة بخسة…
وهي تناشد كلاً منهما البقاء كل مرة معها …
أو حتى أخذها هي معهما لكنها لم تكن تعود إلا بخيبتها…
وعندما كانت تتوسلهما بأنها طفلةٌ مطيعة ولن تسبب لهما أي مشاكل كانت إجابتهما -للمفارقة-نفس عبارة عزيز السابقة…!!!!
لهذا سالت دموعها دونما إرادة منها وهي لازالت مغمضةً عينيها لتردف بشرود:
_دوماً أنا الرائعة التي لا يبقى معها أحد…القوية بنفسها دون أي أحد!
وخزت كلماتها قلبه بكل ما حملته من كبريائها المشبع بلوعتها …
فاقترب بجذعه منها ليربت على وجنتها بكفه الآخر هامساً :
_إنه ذنبي أنا…أنّي التقيتك في التوقيت الخطأ!
فتحت عينيها ببطء لتغتاله نظراتها التي بدت له في هذه اللحظة كنحيب طفلة تائهة…
بعيدةٍ تماماً عن تلك- المرأة الحديدية -التي يعرفها والتي أسره سحر ذكائها وقوتها…
تلك القوة التي بدأت تعود لنظراتها رويداً رويداً حتى تملكتها كاملة وهي تقول بكبرياء :
_مادام هو ذنبك أنت…فاحمله وحدك!!
سحب كفه برفق من على وجنتها وهو يسألها بتفحص:
_ماذا تقصدين؟!
استعادت طبيعتها العملية بسرعة لترد ببرود يناقض سعير أعماقها الآن:
_أنت صرت مجرد صفقة خسرتها وسأتقبل خسارتي بروح رياضية…متى ستوثق طلاقنا؟!
تنهد بحرارة وهو يستعيد حديثه مع والدتها منذ قليل قبل أن يقول بحسم:
_لن أوثق الطلاق قبل شهرين على الأقل من الآن …لا أريد أن يمس سمعتكِ أحد.
ابتسمت بسخرية قاسية وهي ترد ب-الانجليزية- إمعاناً في استفزازه:
_ياللبطولة!!
اشتعلت ملامحه بغضب وقد نجح استفزازها لأبعد حد…
فأردفت هي بنفس النبرة :
_لا تعنيني عاداتكم السخيفة المتخلفة هنا…أنا سأغادر إلي “أميريكا” بعد الطلاق مباشرةً بلا رجعة!!
اتسعت عيناه بصدمة من قرارها المفاجئ هذا ليهتف بدهشة:
_ووالداك هنا؟!!
اتسعت ابتسامتها الساخرة وهي ترد بقسوة:
_طالما تركاني هما بإرادتهما…والآن دوري لأتركهما أنا!!
كز على أسنانه بغضب وهو يهتف بها بانفعال:
_هذه النيران السوداء بداخلكِ ستحرقكِ أنتِ قبلهما!!
وبرغم أن عبارته مست شيئاً ما بروحها الذبيحة لكنها تشبثت بواجهتها الباردة وهي تسحب كفها من راحته بعنف لتقول بصلابة:
_لم يعد لك شأنٌ بي…لقد انتهينا!!
ارتعش صوتها في كلمتها الأخيرة لكنه لم ينتبه لهذا وهو يقوم من مكانه ليهتف بغضبٍ ممتزج بأسفه:
_لن أطلقك قبل شهرين على الأقل كما قلت…إن لم يكن لأجلكِ فلأجل والديكِ اللذين لا يستحقان أن يخوض أحد في عرضهما!
تنمرت ملامحها باستنكار واضح…
قبل أن تتجاهل عبارته وهي تشيح بوجهها لتهتف بعناد:
_لقد صرتُ بخير…يمكنك الرحيل الآن.
فزادت لهجتها العنيدة من اشتعال غضبه ليدير وجهها نحوه فيرد بعنادٍ أقوى لم تعهده هي فيه :
_لا…لن أتركك وحدك…سأغادر معك كما جئتُ معك!!!
=========
_أعتذر منك سيد عاصي…لقد فقدنا الجنين!!
غمغم بها الطبيب في المشفى الذي انتقل إليه عاصي مع حورية وماسة التي أصرت على القدوم معه…
فشهقت ماسة بارتياع وهي تتطلع لملامح عاصي التي تجمدت تماماً…
لكن عينيه كانتا غارقتين بمرارتهما وهو يقول بنبرته المسيطرة التي لا تخونه في مثل هذه الظروف:
_والسيدة؟!!هل ستكون بخير؟!!
انتقلت ماسة ببصرها إلي جسد حورية المسجى على الفراش جوارها بلا حراك…
وقد شحب وجهها تماماً لتصلها كلمات الطبيب المتحفظة :
_لن أخفيك قولاً سيدي!!!حالتها متأخرة جداً…أنا آسفٌ حقاً لقول هذا لكنني مضطر…حتى لا تتهمني بعد هذا بالتقصير.
ارتج جسد ماسة ببكائها في هذه اللحظة وهي تجلس على طرف فراش حورية تحتضن كفها برفق للحظات …
قبل أن تجد قوتها لتهتف بحدة في وجه الطبيب وسط دموعها التي أغرقت وجهها:
_لا تقل هذا…ستكون بخير…ابذلوا قصارى جهدكم .
رمقها عاصي بنظرة رادعة وقد ساءه أن تتحدث في وجوده…
فأطرقت برأسها مكتفيةً بنحيبها الصامت…
بينما هتف الطبيب مدافعاً:
_لقد تناولت علبة كاملة من تلك الأقراص الدوائية وكأنها كانت تتعمد الانتحار…للأسف لقد تأخرتم في اكتشاف الأمر.
ضم عاصي قبضته بغضب لم يظهر على ملامحه التي بدت جامدة كالصخر…
وهو يقول من بين أسنانه:
_لم نتأخر…وهي ستكون بخير…لا أريد أن أسمع إلا هذا…هل تفهم؟!!
تنهد الطبيب بضيق وهو يلعن حظه الذي ورطه في حالةٍ تخص رجلاً كهذا…
ثم غمغم بفتور وهو يغادر الغرفة:
_إن شاء الله…والآن تفضل معي لتوقيع بعض الأوراق.
نقل عاصي بصره بين جسد حورية المستكين وماسة جوارها…
قبل أن يتوجه نحو ماسة لتلمح في عينيه نفس الخوف -الغريب- الذي لم ترَه سوى يوم لقائها هي بعزيز…
خوفٌ ممتزج بمرارة شاحبة لوّن عينيه بظلٍ أسود قاتم…
وكأنه سمح لبعض مشاعره بالظهور عندما مال على أذنها ليهمس بصوتٍ متحشرجٍ رغم قوته:
_ابقي أنتِ معها حتى أعود…أنا لا أثق بأحدٍ مثلكِ هنا!!
رفعت إليه عينيها الدامعتين لكنه لم يكن ينظر إليها هي…
فعيناه كانتا عالقتين بحورية بنظرة أدهشتها !!
نظرة حملت مزيجاً غريباً من الاتهام والذنب والحسرة والأسف…
لكنها اتشحت بطيف شاحب من عاطفة تراها لأول مرة بعينيه…
عاطفة رآها قلبها النقي صادقةً لا تقبل الجدل رغم تكذيب باقي جوارحها…
عاطفة لا يمكن أن تكون إلا ….حباً!!!!!
حب؟!!!!
اتسعت عيناها أكثر عند فكرتها الأخيرة وهي تتمعن في ملامحه أكثر لعلها تتأكد من فكرتها…
فلم يزدْها تمعنها إلا يقيناً…!!!
عيناه اللتان كانتا معلقتين بوجه حورية بتشبثٍ شديد وكأنه لا يريد أن يرفع بصره عنها للحظة فلا يجدها!!!
شفتاه اللتان ارتجفتا للحظة خاطفة لم تخطئها عيناها قبل أن يطبقهما بقوة ليحكم سيطرته على انفعاله…
وأنامله التي ضغطت على كف ماسة بقوة قاسية آلمتها لكنها تحملتها وهي تشعر أنه يفرغ فيها مكنون صدره..!!!!
رباه!!!
عاصي يحب زوجته حقاً!!!
إذن لماذا كان يعاملها بهذه الطريقة حتى دفعها لهذه النهاية؟!!!
شعرت أن رأسها على وشك الانفجار من فرط انفعالها وتشوشها…
لكنها رفعت أناملها ببطء حذر لتربت على كفه هامسة بصوت متهدج:
_لا تقلق…ستكون بخير!
التفت إليها بحدة من شروده الذي غيّبه للحظات…
قبل أن يترك كفها بعنف دون رد وهو يعطيها ظهره ليخرج من الغرفة لاحقاً بالطبيب…
مسحت ماسة دموعها وهي تميل على جسد حورية هامسةً بإشفاق:
_لماذا فعلتِ هذا؟!!لماذا قتلتِ حلمكِ وحلمه طوال هذه السنوات؟!!لماذا حرمتِه وحرمتِ نفسكِ هذه الفرحة؟!!
تحشرج صوتها ببكائها في جملتها الأخيرة…
فاستجابت لسيل دموعها للحظات قبل أن تمسح وجهها لتتناول بعدها كف حورية الذي كان بارداً كالثلج…
فتدلكه بين كفيها برفق لعلها تكسبه بعض الدفء…
ثم همست بقوة وكأنما تظن أنها تسمعها:
_لا تستسلمي للموت فتخسرين كل شئ…هل تصدقينني لو قلت لكِ أنني اليوم شعرت أن السيد عاصي يحبك حقاً..؟!!.لا أدري هل شعرتِ أنتِ بهذا مثلي أم لا…لكنني واثقة مما رأيته في عينيه…كوني بخير وعودي إلينا…لعل ما حدث يجعله يغير طريقته معكِ ومع الجميع…لعل الخوف الذي رأيته اليوم بعينيه عليكِ أنتِ يصلح الأمور بينكما!
ثم تنهدت بحرارة وهي تدعو الله لها سراً في خشوع لدقائق….
قبل أن تنتبه لاهتزاز جفني حورية ببطء وكأنها على وشك الإفاقة…
فربتت على وجنتها برفق وهي تهتف بانفعال:
_حبيبتي…أفيقي…!!!
ظلت تكررها بصوت لاهث من فرط لهفتها وأناملها تربت على رأسها ووجنتها برفق…
حتى فتحت حورية عينيها بضعف وهي تتأمل المكان حولها باستسلام…
قبل أن تزدرد ريقها الجاف بصعوبة لتهمس بضعف:
_ماذا حدث؟!
انحنت ماسة على جبينها تقبله وهي تقول بنفس الانفعال:
_لا تخافي…كل شئٍ سيكون على ما يرام..
أغلقت حورية عينيها من جديد وهي تهز رأسها هامسة :
_أبداً…لقد فقدتُ كل شئ.
ضغطت ماسة كفها في راحتها وهي تقول لها مطمئنة:
_لا تقولي هذا…أنتِ بخير.
تأوهت حورية بضعف فاشتعلت ملامح ماسة بقلقها وهي تهتف رغماً عنها بعتاب ممتزج بشفقتها:
_لماذا فعلتِ هذا؟!!هل أردتِ الانتقام منه بحرمانه من طفله؟!!
فتحت حورية عينيها ببطء وهي تنظر لماسة نظرة طويلة لم تفهمها…
قبل أن تهمس بحسم رغم نبرات صوتها المتهالكة:
_ليس طفله!!
تجمدت ماسة مكانها للحظات والجملة تخترق رأسها بعنف…
قبل أن تردف حورية وسط لهاثها السريع وكأنها تلفظ آخر أنفاسها:
_ابني …لحق…بأبيه!!!
صرخت ماسة صرخة قصيرة كتمتها بكفها وهي لا تكاد تصدق ما سمعته…!!!!
الطفل لم يكن ابن عاصي…!
عاصي كان محقاً في شكوكه…!!
حورية ….؟!!!!!!
انتقلت أفكارها لهمساتها الغارقة بانفعالها وهي تهز رأسها في عدم استيعاب:
_الطفل كان لعدنان حقاً كما كان زوجكِ يشك؟!!!
أومأت حورية برأسها وهي تهمس بصعوبة وقد شعرت بدنوّ أجلها:
_أجل…أنا خنت عاصي الرفاعي…عرفت كيف أنتقم منه على ما ضاع من عمري معه…والآن خسرت كل شئ…حبيبي وابني و….حياتي!!!
لم تكترث ماسة لحالتها وقد تراجعت صدمتها ليحل محلها غضب هادر وهي تهمس بصوت خفيض خشية أن يسمعهما أحد:
_لا أصدق أنكِ فعلتِ هذا!!! كيف جرؤتِ؟!! كيف استحللتِ الخيانة كانتقام؟!!! كيف؟!!!
سالت دموع حورية على وجنتيها وهي تهمس بألم:
_أنا لم أعترف بعاصي الرفاعي زوجاً ولو لساعة واحدة…هو لم ينلني مرةً منذ زواجنا إلا غصباً…طوال هذه السنوات وأنا أتناول أدوية لمنع الحمل دون علمه…لكنه اكتشف الأمر في النهاية…ليكون عقابه المزيد من العنف معي .
هزت ماسة رأسها وهي تهتف بانفعال:
_كاذبة!!! أنا لن أصدقك في حرف واحد بعد هذه اللحظة…السيد عاصي لا يمكن أن يفعل هذا!!!!
قالتها وهي تسند رأسها بكفيها وقد انقلبت كل موازينها فجأة…
ماسة الآن هي التي تدافع عن عاصي الرفاعي أمام زوجته؟!!!!
وتقسو عليها لأجله؟!!!
لكن….لماذا لا تفعل؟!!!
وهي تراها تتهمه -هذا الاتهام بالذات- في الوقت الذي كان هو فيه معها هي في غاية التفهم؟!
لا لا لا!!!!!
هي لن تصدقها…
إنها امرأة استحلت خيانة عرض زوجها فكيف تأمن لحديثها؟!!!!
لكن حورية قاطعت أفكارها وهي تهمس بصوت ضعيف متهالك:
_لم يعد في العمر ما يسمح بالجدال…كنت أعرف أن هذه ستكون نهاية قصتي معه…أنا فقط عجلتها….ادعي الله لي يا ماسة أن يسامحني…لم أعد أرجو إلا رحمته!!!
كان صوتها يخفت تدريجياً مع نظراتها التي شخصت للفراغ أمامها للحظات….
قبل أن يرتخي رأسها مائلاً على جانبه …!!
صرخت ماسة صرخة قصيرة وهي تتفحصها بخبرتها الطبية لتدرك بعدها الحقيقة …
لقد رحلت حورية للأبد…!!
رحلت محملةً بخطيئتها وعارها وجريمتها في حق نفسها قبل أي أحد!!!!!
رحلت ظالمة وربما…مظلومة!!!
هي لم تعد تفهم شيئاً…..
كل الأمور تشوشت وتداخلت فما عادت تتبين صواباً من خطأ!!!
دخل عاصي في هذه اللحظة على صوت صرختها ليندفع نحوها هاتفاً بانفعال:
_لماذا تصرخين؟!!!
رفعت إليه عينيها بفيض دموعها وشهقاتها الباكية لتهز رأسها وهي عاجزة عن النطق!!!!
فاتسعت عيناه بصدمة لتزداد قتامة نظراته وهو يهمس بذهولٍ ذبيح:
_ماتت؟!!!
ازدادت حدة بكائها بينما اندفع هو ليجلس على الفراش جاذباً جسد حورية الساكن بين ذراعيه وهو يصرخ بانفعال:
_قومي!!!لا تموتي الآن!!!بيننا حسابٌ لم ينتهِ وكلامٌ لابد أن يُقال!!!
خفق قلب ماسة بجنون وهي تشعر لأول مرة بالشفقة نحوه….
خاصةً وقد استمر في صراخه بل اوعي وهو يحتضن جسد حورية أكثر :
_ليس الآن…ليس الآن!!!!
ظل يصرخ بها تباعاً وجسده كله يرتجف بانفعاله …
حتى هدأ صوته فجأة مع ترقرق الدموع في عينيه اللتين أغمضهما بقوة للحظات…
كاد فيها قلب ماسة يتوقف حزناً وجزعاً…
حتى فتح عينيه فجأة لينظر إليها وكأنه حقاً لا يراها …
فتختفي غابات زيتونه كاملةً ويظهر مكانها فضاءٌ شاسعٌ من ألم بلا حدود لم تتصور أن تراه يوماً في عينيه هو بالذات!!!
ألم بدا وكأنه قديمٌ….قديم….
قِدم السموات والأرض!!!
ألمٍ غيّر ملامحه القوية المسيطرة التي تعرفها لأخري تائهة مشتتة!!!!
وكأنه حفر أخاديده العميقة على وجهه فلن يصفو بعده أبداً!!!
ليهمس أخيراً بصوتٍ لم يفقد ثباته رغم كل هذا:
_اخرجي الآن ودعيني وحدي…ولا تدعي أحداً يدخل !!
ترددت قليلاً ونفسها لا تطاوعها أن تتركه الآن وحده مع كل ما تشعر به من جرحٍ في أعماقه…
لكنها امتثلت لأمره أخيراً وهي تعلم أن عاصي الرفاعي لن يسمح لأحد أن يشاركه هذه اللحظة …
ورغم أنها لم تعد تفهم شيئاً عن طبيعة العلاقة بين عاصي وحورية…
لكن ما هي واثقةٌ منه الآن أنه كان…يحبها!!!!
لهذا لملمت بقايا روحها الكسيرة بكل هذا الألم الذي عايشته في ساعات قصيرة…
لتغادر الغرفة بخطواتٍ متعثرة قبل أن تلقي نظرةً أخيرة على ظهره وهو لازال يحتضن جسد حورية الساكن بكل قوته…
مخفياً وجهها الذي غابت عنه الحياة في صدره الذي كان يئنّ بخفقاته…
فانسابت دموعها الحائرة أكثر وهي تخرج أخيراً مغلقةً الباب خلفها لتسند ظهرها علىه محاولةً استيعاب كل هذا الذي حدث!!!
وفي مكانه كان هو يهمس في أذنها بما عجز عن قوله منذ رآها…
والآن يبوح به وهو يثق أنها أبداً لن تسمعه:
_الآن ترحلين دون أن تعلمي …دون أن تفهمي…دون أن تشعري ولو بمثقال ذرة من حبي لكِ…لا…لم يكن حباً…بل كان وهماً تملكني فلم يُكتَب لي منه شفاء…أنا الذي استطعت ترويض كل ما ومن أردتُ إلا قلبي و…أنتِ!!!!
قالها وهو يضم جسدها إليه أكثر ليردف بمنتهي الألم:
_أنتِ التي عجزتُ أن أجعل قلبي يزهدها…أو أن أجعلها ترغبني…كلانا قتل الآخر…ولم أكن أنتظر لنا نهايةً أفضل…فمنذ عرفتكِ وأنا موقنٌ أن بداية الجرح عندك ونهايته أيضاً عندك!!
آهة قصيرة تبعت قوله رغماً عنه وهو يتذكر افتتانه بها منذ وقع بصره عليها في إحدى المناسبات التي جمعت عائلتيهما…
وبرغم جمالها الهادئ الذي لم يكن يميزها عن الكثيرات وقتها…
لكنه شعر بجاذبية غريبة في بريق عينيها اللتين كانتا تلمعان بسعادة حقيقية بدت وكأنها تنبع من روحها…
سعادة كان يغبطها عليها وهو يراها جالسةً وسط رفيقاتها بتلك الهالة الغريبة من السحر حولها…
سحرٍ تدفق في عينيها ممتزجاً بطيفٍ من كبرياء أنثويٍ واثق وهما تدوران في الحضور بتفحص برئ…
حتى وقعتا عليه هو!!!
ساعتها اختفت ابتسامتها لتمط شفتيها ببعض النفور -عفوياً -وهي تشيح بوجهها بعيداً!!!
وحينها فقط…قرر أنه يريدها…!!!!
جمع عنها كل ما استطاعه من معلومات ليفاجأ أنها فتاة كاملة…!!!
وبرغم صغر سنها وقتها لكنه كان يراها مثالية…خاصةً مع نسبها الذي يحتاجه لتوطيد سلطته هنا!!
فعزم على المضيّ في الأمر…
رغم أنه كان عازفاً عن الزواج منذ سنوات قبلها وقد أورثته تربية حماد الرفاعي الجافة عدم الرغبة في الزواج والإنجاب…
حتى بعد وفاته!!!
طالما كان يرى نفسه في صورة والده ذات القسوة والجبروت…
ويرى أولاده صورةً من نفسه هو…
صورة نابضة بالكراهية والنفور!!!
والده الذي انتزعه انتزاعاً من العالم الذي كان يرجوه…
ليغرسه غرساً في دنياه التي لا تعترف إلا بلغة القوة…
ولو كان الأمر بيده هو لأكمل دراسته الجامعية واحترف هوايته في الرسم كما كان يحلم!!!
لكن حماد الرفاعي كان يريد خليفةً له على كل هذا السلطان من المال والأرض…
خليفة لايقل عنه في القوة والسيطرة!!!
في البداية كان يشعر ببعض النفور والرغبة في التمرد على أوامر والده…
لكنه عندما تذوق طعم السلطة والسيطرة أدرك أن لهما سحراً لا يردّ…
سحراً تملّكه ببطء حتى أدمنه بتلك النشوة التي تسري في عروقه وهو يري نفسه في موضع السيادة…
فلا كلمة له تردّ…ولا أمراً يعصَى!!
يكذب لو قال أنه قد كره هذا القدر…
على العكس…لقد أعجبته سطوته وإن كان في بعض الأوقات يحنّ لحلمه القديم…
بعيداً عن غيابات هذا العالم الأسود الذي انجرف في تياره…
لتتبدل فرشاة الرسم بسلاح لا يكاد يغادر جيبه…
ويندثر حلمه الخاص باستكمال تعليمه خلف تهميش والده لهذه الرغبة…
فما قيمة التعليم إذا كان هو أولاً وأخيراً سيكون سيد هذه المدينة بماله وعائلته مع القليل من الجهد…؟!!!
أو فلنقل…”العنف”!!!
ورغم أنه -غالباً- لا يخالف القانون…
لكنه صنع لنفسه قانونه الخاص…
كل ما أراده فهو ملكه…وما هو ملكه لن يحصل عليه أحد!!!!
وبهذا القانون الصارم التقاها…فأرادها…وما بعد هذا مجرد هامش على جانب الصفحة!!
فالمصالح المشتركة بين العائلتين جعلت الأمر أكثر سهولة!!!
وفي كل مرة كان يلتقيها بعدها كانت نظراتها النافرة منه تزيده رغبةً فيها…
هو الذي احترف اقتناص صيده مهما كان عسيراً…
وكلما ازدادت صعوبة الحصول عليه كلما كانت نشوة النصر أكبر…!!!
كان هذا تفكيره وقتها…
والآن يسأل نفسه بعد كل هذه السنوات…
هل كان الأمر حقاً يستحق؟!!!
يستحق هذا العذاب الذي أقحم نفسه وأقحمها فيه؟!!!
لماذا لم يسمع لها عندما أتته تخبره -بكل صراحة- قبل الزواج أنها تحب ابن عمها منذ صغرها وأنها غير راضية عن هذه الزيجة؟!!!
لماذا استجاب لصوت غروره وغريزة تملكه وقتها فلم يزده هذا إلا تشبثاً بها؟!!!
لماذا استحل أن يهدر دماء كرامته وقلبها في نفس الوقت؟!!!
لكنه وقتها -للأسف- لم يكن يري سوى بريق التحدي…
شيطانه الذي أعماه ساعتها عن كل شئ سوى أن يحظى بها كما حظي بكل شئٍ أراده…
وعنادها الممتزج بكبريائها كان يثيره نحوها أكثر…
فتزداد رغبته فيها وهو يراها بعين خياله قد رضخت له طوعاً كما كل شئٍ في حياته!!!!
خاصةً وقد غادر ابن عمها ذاك المدينة بعدها قانعاً بخسارته…
فظن أن هذا سيقهرها أكثر في حربها الباردة معه…
لكنه لم يكن مصيباً!!!
فالحورية -الذبيحة بألمها والتي أقسمت له منذ أول ليلة في زواجهما ألا تكون له إلا غصباً -قد برّت بقسمها كاملاً!!!
طوال هذه السنوات وهو يحاول قهر عنادها وقلبها معاً!!
وقد أفلح في الأول لكنه فشل في الثاني!!!
قسوته المفرطة معها روضت وحش عنادها لتتحول مع الأيام لصورة شاحبة لامرأةٍ كانت يوماً ذات عزة وكبرياء…
فتصير بعدها مجرد شبح هزيل يرتجف خوفاً كلما رآه!!!
لكن قلبها لم يرضخ يوماً..!!!
نظراتها التي امتلأت ذلاً وقهراً كانت تذكره كل مرة بخسارته أمام قلبها العنيد الذي ظل على عهده القديم!!!
تماماً كما ظل قلبه هو على عهده معها رغم قسوته الظاهرة معها…
قلبه الذي كان يجلده بسياط الذنب نحوها لكنه كان عاجزاً عن التعبير عما فيه…
طالما حدثته نفسه أن يحاول الاقتراب منها بحنان يليق بعاطفته نحوها…
لكن كبرياءه كان يقف حاجزاً بينهما وهو يرى عشقها القديم يكاد يصرخ في عينيها مع نظرات احتقارها لها هو…!!!
ربما كان سوء حظها هو الذي أوقعها في طريقه هو بالذات…
هو الذي كان وقتها في فورة شعوره بالسيادة بعد وفاة أبيه ليتملك هو زمام السيطرة على الأمور بعده…
وربما هو سوء حظه -هو- الذي أوقعه في فخاخ هذه العلاقة التي دمرتهما معاً!!!!
تجمعت الدموع في عينيه عندما راودته هذه الفكرة وهو يجاهد نفسه كي لا تسقط…
حتى أطلق تنهيدة حارة مشبعةً بندمه وهو يهمس لها وكأنها ستسمعه:
_طوال هذه السنوات وأنا أرفض الزواج من أخرى بغرض الإنجاب لأجلكِ أنتِ…هل تتصورين صدمتي وقتها عندما اكتشفت أنكِ أنتِ من تحرمينني طفلاً منكِ؟!!
ثم أغمض عينيه بألم وهو يتذكر كيف اكتشف تلك الأقراص عندما فتش في أغراضها بعدما صرح له أحد الأطباء بشكه في هذا الاحتمال!!!
يومها لم يشعر بنفسه وهو ينهال عليها ضرباً بحزامه لينالها بعدها بقسوة لم يعرفها من قبل…
وبالرغم من أنه لم يمسها يوماً منذ زواجهما إلا قهراً…
كانت تلك المرة هي الأعنف والأقسى والأشد أثراً على كليهما معاً!!!
كان يظن أن كل لمسة باطشة له على جسدها تثبت ملكيته لها أكثر…
لكنه بعدما انتهى منها أدرك من نظرة عينيها المتوهجة بالوعيد وقتها أن شيئاً ما بينهما سيتغير!!!!
لم يكن يدري وقتها أنها على مشارف السقوط في بئر الانتقام…
وأن انتقامها سيشطره نصفين بسيف لا مردّ لنصله…
سيف الخيانة!!!!
هنا اشتعلت نظراته بلهيب من غضبه وهو يعتصر جسدها بين ذراعيه هامساّ بانفعال:
_كيف جرؤتِ على فعلها لترحلي هكذا دون أن تذوقي عقابي؟!!! أنا قتلت ذاك الوغد لكنني كنت أعد لكِ مصيراً أسوأ من الموت…كنت فقط أنتظر أن تضعي الطفل حتى أتأكد من نسبه…والآن…
قطع عبارته وهو يدفع جسدها بعنف ليبعده عنه وهو يلهث من فرط انفعاله….
ثم نظر بعدها لوجهها الذي جمدت ملامحه للأبد نظراتٍ ما عاد يعرف معناها…
عندما تشوشت الرؤية في عينيه فجأة وهو ينتبه لدموعه التي تحررت أخيراً من سجون عينيه…
وكأنها تنعي حكايتهما البائسة…
ليتذكر ساعتها قولها له ذات يوم:
_اتقِ الله يا عاصي…أنت تعرف من فينا الظالم ومن المظلوم!!!
فأغمض عينيه بألم ودقات قلبه تكاد تصرخ من فرط قوتها وهو يهمس بنبرات روحه المتصدعة بكسورها:
_ما عاد هناك ظالم ولا مظلوم…أنتِ أجدتِ الانتقام من جلادك…وانتهت الحكاية!!
================
وقف أمام مرآته عاري الجذع مكتفياً بسرواله يتأمل تلك الندوب القديمة على ظهره وكتفه بنظراتٍ تحتضر ألماً…
موت حورية فتح كل دفاتر الماضي التي طواها النسيان…
وكأنها أبت إلا أن تهيج براكين روحه كلها برحيلها الصادم!!!
اشتعلت عيناه بوميض الذكرى وهو يسترجع ذاك اليوم الذي ربطه فيه حماد الرفاعي على جذع النخلة في الحديقة ليجلده بنفسه عقاباً له على تجرئه للدفاع عن تلك” الطفلة”…
لكنه لم يستطع ألا يفعلها…!!
نظرات تلك “الطفلة” الكسيرة وهي تتشبث بجلباب والدتها لاتزال محفورةً في مخيلته…
وكم تمنى وقتها لو يستمع إليه والده !!!!
لكن حماد الرفاعي وقتها لم يكن يري فيه سوى فتيً مراهق على وشك التمرد…
ولابد من قمع عصيانه في مهده حتى لا يفلت منه الزمام…
ليفاجأ به عاصي ينزع عنه قميصه بعنف ليقيده أمامه على ذاك الجذع في الحديقة ثم ينهال عليه جلداً بسوطه دون رحمة…
ذاك الجذع الذي أمر رجاله باقتلاعه بعد وفاة والده وكأنه بهذا سيمحو الذكرى!!!!
ذكري تلك الجلدات القاسية التي لم تكن فقط تهوي على ظهره وكتفه بل على كرامته وروحه…
روحه التي اكتست بعدها بالسواد وهو يدرك أنه لا مكان للعدل والإنصاف في هذا العالم…
وأن القوة والقسوة هما سلاحه الوحيد فيه…!!!
وكلما كان قلبه يراوده ببعض الرحمة كان يستعيد هذه الذكري ليخلع عنه ملابسه فيتطلع لتلك الندوب بتمعن وكأنه يجلد نفسه من جديد…
وهو يرى في المرآة صورة أبيه وليس صورته هو…
نعم للأسف…!!!
لقد تحول لنسخة شيطانية من والده الذي طالما كرهه…
وللعجب…صار بعدها مثله!!!
أحياناً يقف ليسأل نفسه…هل كان مخيراً فيما صار إليه من صورة صارخة بالبطش والقسوة؟!!
أم أنه سار في الطريق الذي رُسِم له؟!!!
لكنه لم يكن يجد أبداً إجابة…
هو وُلد ليكون شيطاناً….فكان!!!!!!
طرقاتها على الباب قاطعت أفكاره فزفر بضيق وهو يبتعد عن المرآة ليجلس على الأريكة مستنداً بمرفقيه على ركبتيه دون أن يرد لعلها تسأم وتمضي كما تفعل كل مرة منذ أيام…
وبالتحديد منذ عادا إلى هنا بعد وفاة حورية!
لكن طرقاتها حافظت على إصرارها لدقائق طويلة بعدها وكأنها حقاً لا تنتوي المغادرة هذه المرة حتى تدخل…
لهذا وجد نفسه أخيراً يرفع صوته بالسماح لها بالدخول وهو يدّعي لنفسه كونه مضطراً لهذا…
ولو شاء الإنصاف لاعترف الآن أنه بحاجةٍ إليها…
لا….هو ليس بحاجة للحديث…!!!
عاصي الرفاعي اعتاد دفن خواطره في بئر روحه السحيق ولن يبوح لأحدٍ بمكنون صدره…
لكنه يشعر أنه بحق يحتاج فقط لوجودها أمامه…!!!
مجرد رؤية ماسةٍ نقية مثلها تثير في نفسه ارتياحاً بلا حدود…
وكأنها بطهرها وصفائها مع قوتها تعاكس روح الشيطان بداخله!!!
نعم…
هي الوحيدة التي تفجرت لها آبار حنانه كلها دونما سبب…
بل ربما…لألف سبب…
لكنه لا يكاد يميز منها الآن شيئاً!!!!!
بينما فتحت هي الباب بقوة تناقض تردد خطواتها الخجولة نحوه…
وقد تسمرت مكانها للحظات لتحمرّ وجنتاها بخجل وهي تراه عاري الجذع هكذا…!!!
لكنه رفع وجهه إليها ولازال مسنداً مرفقيه على ركبتيه ليصطدم بحمرة خجلها فيقول بسخرية سوداء:
_يمكنكِ الانصراف لو شئتِ…أنتِ التي تلحّين في الطرق منذ دقائق!!
أطرقت برأسها للحظات تستجمع بعض قوتها ثم أكملت خطواتها نحوه لتجلس جواره صامتةً لفترة…
ثم همست بنبرة مهتزة ودون أن تنظر إليه:
_أنا …أريد…أن ..أكون …جوارك!!
قالتها وهي لا تصدق أنها أخيراً تمكنت من قولها…!!
منذ ليلة وفاة حورية وهي غارقة في مشاعرها الصاخبة نحوه…
لا تصدق أن إحساسها به انقلب هكذا في لحظات…
الشيطان الذي كان يثير رعبها ونفورها صار فجأة مجرد عاشق مغدور…!
والحورية الملائكية التي كانت روحها تفيض بالشفقة عليها هي التي تحولت لشيطانة خائنة…!
وبين الفكرتين لازالت هي تتعثر في ارتباكها وتخبطها في طريقها الشائك نحوه…
لكنها قررت ألا تهرب بعد…!
قلب ماسة النقي سيكون دليلها في هذا الطريق…!
فقط لو تغمض عينيها عما يراه الآخرون وتستمع فقط لإشارات روحها الصادقة بشأنه!!
كانت هذه أفكارها الصاخبة التي غلفت صمتها بعد عبارتها الأخيرة…
بينما التفت هو إليها متفحصاً ملامحها للحظات قبل أن يسألها ببرود صارت توقن الآن أنه مصطنع:
_لماذا؟!!
شبكت أناملها في حجرها وهي تختلس نظرة جانبية إليه لتقول بقوة لم تخذلها هذه المرة:
_أنت تحتاجني الآن!!
لم يصلها منه رد للحظات…
فاضطرت لرفع عينيها إليه لتلمح ابتسامته الساخرة وكأنه يستهزئ من عبارتها…!!
ابتسامته التي ناقضت سيول المرارة والحزن في عينيه الصارختين بألمهما…
فمدت أناملها ببطء متردد لتربت بها على ساعده هامسةً بمزيج مدهش من قوتها وحنانها:
_أنا أعرف أن عاصي الرفاعي لا يشكو حزنه لأحد…ولا يبوح أبداً بخفايا صدره…لكنني لا أريد سوى أن أبقى جوارك حتى ولو بقيتَ صامتاً.
ثم تهدج صوتها رغماً عنها وهي تردف ببعض الألم:
_صدقني لن تجد أقدر مني على سماع صمتك…لقد صرتُ أجيد هذا!!
اختفت ابتسامته الساخرة رويداً رويداً …
مع انكسار نظراته الباهتة التي غاب عنها تألقها وهو يتعلق بأمواجها الفضية التي كانت الآن في غاية سخائها بحنان يحتاجه الآن حقاً ولو لم يعترف به…!
ليخفض بصره بعدها إلي كفها المستقر على ساعده …..
قبل أن يميل بجسده عليها لتفاجأ به وقد ألقى رأسه على صدرها وهو يحتضن خصرها بذراعيه !!!!
ألجمتها المفاجأة لوقتٍ لم تستطع تبينه وسط فورة مشاعرها التي كانت تجتاحها الآن …
وهي تشعر بنفس إحساسها الضبابي به…
مزيجٌ صار خاصاً به وحده من الإعجاب والنفور…والأنس والوحشة…
وإن كان الآن صار مغلفاً ببعض الإشفاق!!
عضت على شفتها بتوتر زاده خجلها المشوب بارتباكها -المَرضيّ-بعد حادثها…
ليتيبس جسدها بين ذراعيه لدقائق طالت كدهور…
قبل أن يمتد ذراعاها ببطء شديد لتضمه هي الأخري ببعض التردد…
ولم يكد هو يشعر بضمة ذراعيها حول عنقه حتى اشتدت ضمته هو الآخر…
ليتحول ترددها إلي تشبثٍ حنون به حتى ما عادت تدري من منهما الذي يحتضن الآخر!!!!
ظلا على هذا الوضع لدقائق لم يكن كلاهما بحاجة لحسابها…
هو الذي كان يحتاج حقاً للتدثر بهذا الدفء البكر الذي يشع من روحها النقية…!
يحتاج لخلع قناع تماسكه وقوته المصطنعة الآن ليتخفي بحزنه وألمه خلف أستار حنانها السخي اللا مشروط !!!!
يحتاج لقربها هذا منه بإرادتها وما يعنيه له من مشاعر صادقة صارت تحملها له!!
بينما كانت هي غارقة في بحر ذكرياتها القصيرة معه…
تستعيد كل لحظة وقف فيها جوارها ليمنحها الدعم الذي تحتاجه دون مقابل…
وتتذكر كلمات رحمة عنه في لقائها الأخير معها…
لتدرك الآن بعدما سمعته بأذنيها من حورية أنها حقاً ظلمته!!
وعند خاطرها الأخير اصطدمت عيناها بتلك الندوب تحت ذراعيها على كتفيه وظهره…
فانفرجت شفتاها وهي تهمّ بسؤاله عمن تجرأ على فعل هذا به!!!!
لكنها أطبقتهما في آخر لحظة وهي تدرك أنه الآن أغنى ما يكون عن الحديث…
رغم أنها تسمع في صمته حَكايا ألمٍ طويلة تشبه حكايا روحها هي الأخري!!!
لتكتفي بعدها بإغماض عينيها في سكينة وهي تطرد عن رأسها كل هواجسه…
وقد صارت واثقةً من أن هذا الرجل لم يولد هكذا…
شئٌ ما ..وربما شخصٌ ما هو الذي شوه ملامح روحه ليجعله بهذه القسوة…
وربما…كان هذا الشخص هو والده كما كانت حورية تزعم…!!
وعند تذكرها لحورية عادت مطارق الذنب تقرع قلبها من جديد….
لتجد نفسها تهمس بخفوت شديد وكأنها تخشى أن يجرحه صوتها أكثر:
_أنا أسأتُ الظنّ بك…فهلّا سامحتني؟!!
لم يرد عليها للحظات حتى شكت أنه لم يسمعها لولا أنه شدد حصار ذراعيه حول خصرها أكثر وكأنه يمنحها إجابة غير منطوقة…
فأردفت بتردد:
_هي اعترفت لي بالحقيقة قبل موتها…الآن أعلم لماذا قتلتَ ذاك الرجل!!
لم تكد تتم عبارتها حتى رفع رأسه إليها بحدة وقد عادت غابات الزيتون في عينيه لاشتعالها القديم وهو يسألها بقسوة أخافتها:
_ماذا قالت؟!!
ارتجف جسدها بين ذراعيه وهي تشعر بخوف حقيقي منه هذه المرة…
وقد عجزت عن تلقي المزيد من سهام عينيه المشتعلة فخفضت بصرها عنه لتهمس بخفوت:
_الطفل لم يكن…!!!
بترت عبارتها وقد عجزت عن إكمالها !!!
تماماً كما عجزت حتى عن رفع عينيها إليه لبعض الوقت….
لكنها عندما فعلت اصطدمت بتلك الدموع المتحجرة في عينيه للحظة واحدة خاطفة…
قبل أن يغلقهما هو بقوة وكأنه استنكف أن تقرأ هي حديثهما…
رفرف قلبها بين ضلوعها كطير ذبيح وهي تشعر أنها تكاد تختنق بهذا الألم الذي رأت وميضه في عينيه …
والذي لم تتصور يوماً أن تلمح مثله في عيني عاصي الرفاعي بالذات!!!
لكنها كانت تعذره فما تعرض إليه ليس بهيّنٍ على أي رجل …
فكيف عليه هو؟!!!
وأمامها كان هو يحتضر بنزيف روحه الصامت…
الآن ما عاد هناك شك في خيانتها..
وبقدر ما كان يشعر برياح الغضب تعصف بروحه…
بقدر ما تخللها شعورٌ مقيتٌ بالذنب وهو يدرك أنه هو من دفعها لهذا المصير!!
وساعتها فقط راوده سؤالٌ محير..
لماذا لم يعاملها كماسة؟!
لماذا لم يحاول اجتذابها لدواخل عالمه الشائك لتشعر بحبه؟!!
ربما لأنها بادلته التحدي منذ أول يوم برفضها له؟!
وربما لأن تشبثها بذكرى حبها القديم قد وقف بينها وبين كبريائه!!
وربما لأن عاصي الرفاعي نفسه تغير!!!
أجل…لقد عرف حورية في ذروة انتشائه بجنون التسلط والسيطرة…
ليكون تملكها هوساً أكثر من كونه عاطفةً !!!
لكن ماسة أتت بعدما صار زاهداً في كل هذا!!!!
وربما لأن ماسة نفسها حالةٌ خاصة في حياته…
فشعوره الغريب نحوها لم يعرفه أبداً مع سواها…
حتى مع حورية!!!
نعم…شعوره مع حورية كان يذكي نيران قسوته وتملكه وعنفه…
لكن شعوره بماسة على العكس يضئ قناديل روحه القديمة…
ويحرق شيطان نفسه بطهر نقائه!!!
عاطفته نحو حورية كانت غريزية بحتة …
لكن عاطفته نحو ماسة مزدانة بمشاعر أبوة حانية !!!
كان هذا نزيف أفكاره الصارخة بصمته والتي قاطعتها ماسة بهمسها الحاني:
_لم أكن لأفضح سرها لولا أنني كنت أعرف أنك تشك في الأمر…كما أنني لا أريدك أن تعيش في عقدة ذنب بسبب امرأة…
صمتت لحظة قبل أن تستغفر الله بصوت مسموع لتردف بعدها ببعض الأسف:
_لقد أفضت إلي ما قدمت وانتهى الأمر…هي الآن بين يدي حكيمٍ عليم…وعند الله تجتمع الخصوم.
فتح عينيه أخيراً ليعتقل نظراتها بجحيم زيتونيٍ خالص استعر في عينيه وهو يكز على أسنانه هامساً بحدة وذراعاه يكادان يحطمان جسدها الضئيل بين ذراعيه:
_إياكِ أن تعيدي هذا الحديث ولو حتى مع نفسك…كلمة واحدة عن هذا الأمر ثانيةً تساوي عمرك كله…هل تفهمين؟!!
كان صوته يعلو تدريجياً وهو يواصل حديثه حتى وصل حد الصراخ في عبارته الأخيرة…!!!
فانتفضت بخوفٍ وهي تغمض عينيها هاربة من سعير نظراته الحارقة…
وقد سرت قشعريرة كالثلج في جسدها ولولا ذراعاه المحيطان بها ككلابتين من الفولاذ لولّت بالفرار إلي غرفتها دون تردد…
فاكتفت بصمتها العاجز وهي لا تدري ماذا تقول ولا ماذا تفعل في موقفٍ كهذا لم تختره هي بل أجبرتها عليه الظروف…
لتفيق بعد لحظات من أفكارها المحتلة بالخوف والعجز على اصطدام وجهها بصدره القوي وهو يكاد يخفيها بين ذراعيه من جديد مسنداً ذقنه على رأسها …
وكأنما امتلك عصا ساحر حولت أشباح خوفها لفراشات رقيقة من الأمان في لحظات!!!
انهمرت دموعها في هذه اللحظة غزيرة وهي تتشبث به أكثر …
ولا تدري لماذا شعرت في هذه اللحظة بالذات أن كليهما يحتاج الآخر بأقوى مما يتصور…
ربما بدا الأمر وكأنها تحتاجه أكثر…
تحتاج قوته وحنانه واحتواءه…فهذا الرجل صار يمتلك مفاتيح خوفها وأمانها كاملة وحصرية…!!!!
لكنها تشعر الآن أنه هو الآخر يحتاجها…!!!
يحتاج من يرى خيوط النور التي تتسرب ببطء بين شقوق جدران روحه المظلمة…
يحتاج من يسمع شكواه دون حديث…
من يقرأ حكايا عينيه دون كلام…
من يحترم أسوار كبريائه وقوته فلا يخترقها لكنه يعبر فوقها إليه ليبصر ما خلفها من خفايا فؤاده…!!!
نعم…هو يحتاجها حتى ولو كابر…
وهي تحتاجه لكنها لن تكابر بعد!!!
كانت هذه أفكارها المنسابة كفيض سخي بالعاطفة بين جنبات روحها…
وهي تشعر أن حضنه هذه المرة يختلف…
هذه المرة هو لا يمنحها الأمان فقط كما اعتادت…
بل يجده أيضاً معها…!!!!
أنفاسه اللاهثة التي تتخلل خصلات شعرها الآن بمشاعره الثائرة التي تحرقه ببطء وتحرقها معها…أخبرتها!!
دقات قلبه التي طالما حسدته على برودها والتي تدوي الآن صاخبةً تحت أذنيها …أخبرتها!!!
ارتجافة جسده التي عجز عن التحكم فيها وسط براكين انفعاله ….أخبرتها!!!
أخبرتها وهي صدقتها!!!
ولو كانت فقط رفعت رأسها السجين الآن بين ذراعيه وذقنه وصدره…
لرأت دمعته الكسيرة التي خانته بالسقوط …
كما سقط قبلها قلبه في دوامة جرحه القديم التي اتسعت ببطء حتى ابتلعته كاملاً…
الحورية التي ظن أنه أسرها طوال هذه السنوات مفرغاً فيها شحنات قسوة ماضيه عاقبته أبشع عقاب…
وإن كانت بخلت عليه بقلبها العصيّ فقد زادت بخلها عليه بولدٍ منه…
وكأنها أبت أن تمنح ولدها إلا لمن منحته قلبها…
لتغرس خنجر خيانتها المسموم بقلبه -هو- بقسوة لم ينتظرها…
قسوة بقسوة والبادي أظلم…
وهو الذي كان البادي بكل شئ…
فمن كان أظلم منه؟!!!
ومن صار أشقى منه؟!!!
قطعت أفكاره عند هذه النقطة عندما رفعت هي رأسها إليه لتمنحه عيناها نظرة حملت مشاعرها صادقةً دون زيف…
التقطتها عيناه فذابتا فيها ليهمس بعد لحظات صمت طالت:
_هل تعلمين ؟!!!عندما أستعرض الآن شريط حياتي كاملاً…أراكِ أنتِ أنقى ما فيه!!!
ارتعشت حدقتاها تأثراً وقد عجزت عن الرد فربت على وجنتها برفق هامساً بابتسامة مظلمةً كعينيه الآن:
_ليتكِ تبقين كذلك!!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى