روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل السابع والعشرون 27 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل السابع والعشرون 27 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء السابع والعشرون

رواية ماسة وشيطان البارت السابع والعشرون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة السابعة والعشرون

_ماسة!
هتف بها فهد بفرحة غامرة وهو يفتح باب شقته في منزل حسام ليجدها أمامه…
تفحص ملامحها بلهفة وهو يتقدم نحوها باندفاع وقد همّ باحتضانها …
لكنه تذكر تحفظها الشديد في لقائها السابق معه فتوقف مكانه للحظات بارتباك منتظراً ردة فعلها !!
وأمامه لم تكن هي أقل ارتباكاً…
وجهها كان شديد الاحمرار كعادتها عندما تنفعل…
عيناها الفضيتان كانتا تدوران على ملامحه بمزيج من ترقب واستغراب لرجل يفترض أن يكون أقرب أهل الأرض إليها ومع هذا لم تعرفه إلا منذ أيام!
لكن قلبها كان يشعر نحوه بكثير ارتياحٍ وهي التي تعلمت منذ زمن أن تثق بحكم قلبها فيما يراه…
ومع هذا كانت غرابة الموقف تملؤها رهبة لم تستشعرها من قبل حتى في لقائها مع جاسم الصاوي…
ربما لأن عاصي وقتها ساندها…
وربما لأن -نفورها- من والدها غلب -عاطفتها – نحوه…
وربما لأنها الآن تشعر بحاجة حقيقية لفهد…وتخشى أن يخذلها كما الجميع!!!
ويبدو أنه شعر بكل هذا فقد حاول تخفيف الأمر عليها عندما مد يده ببطء كي يصافحها مع ابتسامته التي اتسعت تدريجياً حتى تحولت إلى ضحكة قصيرة مشعة بعاطفته…
بينما تألقت عيناه ببريق فرح حقيقي لمس قلبها بصدقه …
لكنها وقفت جامدة تراقب كفه الممدود نحوها للحظات بتردد…
قبل أن تفاجأ هي -نفسها- قبله بأن ألقت رأسها على صدره وسط سيل دموعها المنهمر!!!
دمعت عيناه بتأثر وهو يضمها إليه بكل قوته مقبلاً رأسها بحنان وقد فقد كلماته فجأة أمام هذا الشعور الذي اكتسحه الآن باقتدار…
فهو لم يكن يراها الآن مجرد “أخت” اكتشفها مصادفة بعد كل هذه الأعوام…
بل كانت بعينيه “هدية القدر” لقلب كاد يموت ذبيحاً بحسرته على “حب” رحل…
فعوضه عنه ب”حب” من نوع آخر يحتاجه الآن بشدة!!!
وهو تعلم احترام “هدايا القدر” منذ زمن!!
بينما كانت هي ترتجف بشدة بين ذراعيه مع بكائها المنفعل فربت على رأسها برفق هامساً بحنان :
_لا بأس يا حبيبتي…اهدئي!
ثم أبعدها برفق لينظر لعينيها مردفاً ببعض المرح رغم اختناق صوته بتأثره:
_هل يعني هذا العناق أنك صدقتِ الحقيقة؟!
مسحت دموعها بأناملها وهي تومئ برأسها لتهمس بصوت متقطع:
_جاسم الصاوي أتاني هنا بنفسه…ربما لا تعلم أنت عن هذا فأنا أعرف عن توتر علاقتكما.
انعقد حاجباه بدهشة للحظات ثم جذبها برفق ليدلف معها إلى داخل الشقة مغلقاً الباب خلفهما..
قبل أن يجلس جوارها ليهتف بتوتر:
_ماذا فعل أبي هنا بالضبط؟!
شبكت أناملها في حجرها وقد عاد إليها انتظام أنفاسها تدريجياً ثم همست بمرارة ساخرة:
_جاء يحمل صورة أمي ليتأكد بنفسه من الحقيقة ثم تركني خلفه من جديد منتظراً نتيجة “الانتخابات”!!
زفر فهد زفرة مشتعلة ثم ضمها إليه بذراعه قائلاً بغضب:
_سيعترف بكِ أمام الجميع …لو كانت ذريعته هي الانتخابات…فالنتيجة ستظهر في خلال بضعة أيام…وبعدها لو لم يفعلها طواعية فسنجبره عليها قهراً.
ورغم أن كلماته منحتها الأمان الذي كانت تنشده لكن بعض الخوف كسا نظراتها وهي تهز رأسها هامسة:
_لا أريد منه أي شئ سوى اسمي الحقيقي…وبعدها سأخرج من حياته للأبد لو شاء…فقط أريد هوية صحيحة أواجه بها قدري الجديد…لقد تشبعت من إهانات الناس للقيطة عديمة النسب…لا…
انقطعت عبارتها بدموعها التي غلبتها الآن…
فعاد يضمها إليه بقوة للحظات..
قبل أن يربت على رأسها هامساً بتأثر:
_كفى يا ماسة…كفى!!
ثم رفع ذقنها إليه مردفاً بحزم حنون :
_من اليوم لن تبكي أبداً…أنتِ ماسة جاسم الصاوي …سأصرخ بها معكِ في وجه الجميع حتى نستعيد حقك.
منحته ابتسامة ودود وهي تشعر بصدق رغبته في مساعدتها…لكن هاجساً ما جعلها تسأله بتردد:
_لقد علمت أنك قررت الابتعاد تماماً عن طريق جاسم الصاوي فكيف ستكمل حياتك؟!
تنهد بحرارة ثم صمت بشرود قصير قبل أن يقول بضيق:
_كل الأبواب في هذا البلد ستبقى مسدودة في وجهي…هو لن يسمح لي بالخروج عن دائرة سيطرته…لقد فكرت جدياً في البدء بعمل جديد بمساعدة حسام…لكنني أفهم أبي جيداً…سيحطم جناحيّ قبل أن أحاول التحليق خارج سرب طموحه.
انعقد حاجباها بقلق وهي ترمقه بنظرة تعاطف مع همسها :
_والحل؟!
_السفر!
قالها بحسم واثق ثم استطرد وقد عاد لشروده:
_يجب أن أخرج بعيداً عن خيوط شبكته العنكبوتية هنا…يجب أن أبدأ في مكان جديد لا يعرفني فيه أحد وليس لسلطان جاسم الصاوي مكانٌ فيه!
هزت رأسها تفكر في ما يقول وقد بدا الجزع على ملامحها…
عندما التفت نحوها ليردف بابتسامة شاحبة:
_لا تخافي…لن أسافر قبل أن أعيد إليك حقك…كما أن يسرا بحاجتي لبعض الوقت.
ازداد انعقاد حاجبيها وهي تغمغم بحيرة:
_يسرا؟!!ما أعرفه أنك لم تكن تريد هذه الزيجة من البداية.
ظهر التردد على ملامحه للحظات ثم حسم أمره ليقول لها بحزم لم يغادره حنانه:
_ما سأخبركِ به سيبقى سراً بيننا…أنا أعرف أنه يمكنني الوثوق بكِ.
اتسعت عيناها بترقب وهو يحكي لها ما استجد بشأن يسرا وحاجتها للعلاج دون علم أبيها…
ورغبته الصادقة في منحها هذا الدعم الذي تحتاجه …
ليستطرد بعدها باهتمام:
_سأغادر معها إلى العاصمة في أقرب وقت حتى نبدأ في العلاج….لقد تواصلت مع الكثير من المتخصصين وعلمت أنه بإمكاننا التداوي في المنزل تحت رعاية خاصة وهو ما سأحرص عليه بمنتهى الكتمان حتى لا يعرف والدها عن الأمر شيئاً…
ثم أنهى حديثه بقوله المقتضب:
_هو حقٌ عليّ سأؤديه لعله يمنحني الغفران على طول سنوات من الخطايا.
فابتسمت ماسة بإعجاب وهي تتأمل ملامحه باشتياق..
اشتياق؟!!!
نعم…اشتياق!!!
اشتياق لذاك الأخ الذي حلمت به طوال عمرها والآن تجده حقيقةً أمامها…
بحنانه وتفهمه ودعمه…
وقبلها…بمثالية خلقه البعيد تماماً عن واقع أبيه!!!
لهذا ربتت على كتفه باعتزاز ثم احتضنت كفه لتقول بفرحة صادقة:
_على قدر خيبتي في أبيك يوم لقيته…على قدر فخري بك يا “أخي”.
ابتسم بدوره وهو يحتضن ملامحها بحنان قبل أن يعاود تقبيل رأسها هاتفاً بعاطفة حقيقية:
_الفخر لي أنا يا ماسةً تستحق اسمها.
اتسعت ابتسامتها -الآمنة-بعد طول خوف… وهي تشد بأناملها على كفه أكثر….
لكنه عاد يرمقها بنظرة قلقة مع قوله :
_زوجك يعلم عن مجيئكِ إلى هنا؟!!
وكأنما سحبتها عبارته من سماء سعادتها إلى أرض خذلانها…
لتتبدل ملامحها بلحظة فقدت فيها تألق نظراتها…
قبل أن تغتصب ابتسامة باردة لتجيبه باقتضاب:
_دعك منه الآن…أنا سأبقى معك هنا حتى نرحل سوياً إلى العاصمة..
ثم شردت ببصرها لتردف:
_ربما يوماً ما…أخبرك عن تفاصيل قصتي معه …
تفحصها ببصره باهتمام وقد أنبأه قلبه أن أخته تخفي الكثير حول هذا الرجل…
خاصةً عندما أنهت عبارتها بصوت متهدج:
_قصتنا التي انتهت!
==============
_صباح الفل يا “بطة”!!
هتف بها حسام بمرح مع قرصة مفاجئة لخصرها من الخلف فانتفضت مكانها مع شهقة خافتة…
ليضحك هو بانطلاق مع استطراده:
_لم تعتاديها رغم أنني أفعلها كل يوم تقريباً.
بسطت كفها على صدرها وهي تستدير نحوه لتتمالك خفقاتها للحظة….
ثم كادت تخبطه بقبضتها في كتفه هاتفة بدورها:
_أولاً…أنت فعلاً خفيف الحركة كاللصوص…من عاشر القوم…
لكنه قاطع عبارتها ليدرك قبضتها قبل أن تصل لكتفه ثم جذبها بعض العنف نحو صدره مع همسه الحار بين شفتيها:
_وثانياً؟!!
توهجت وجنتاها بخجل يوازي اشتعال الشغف بعينيه لكنها حاولت التماسك مع هتافها بغضب مصطنع:
_ثانياً…لا تنادني بلقب “بطة” هذا لأنه مستفز مثلك!!
بادرها بقبلة خفيفة ثم عاد يضحك بمرح للحظات …
قبل أن يفلتها ليحرك كفيه في إشارة معروفة ل”منحنيات جسد أنثى “مع تراقص حاجبيه بمشاكسة:
_وماذا أدعوكِ إذن بكل” مقوماتك” هذه؟!!
ضحكت ببعض الخجل وهي تعطيه ظهرها من جديد لتكمل إعداد الإفطار قبل أن تشاكسه هي الأخرى بقولها ذي الدلال:
_الآن تسخر مني؟!!لم تكن تراني ك”بطة” ليلة أمس !
فابتسم وهو يطوق خصرها بكفيه من الخلف مع همسه الماكر في أذنها:
_وماذا حدث ليلة أمس؟!!ذكريني ربما أكون قد نسيت!!
رمقته بنظرة جانبية واثقة وهي تزيح كفيه من على خصرها لتبتعد عنه بضع خطوات قائلة بنبرة تهديد مرحة:
_حسام!!!ستتأخر عن عملك!!!
فضحك وهو يجلس على كرسي المائدة قائلاً بخبث:
_معك حق….حديث الليل لا يُذكر إلا ليلاً!!
ثم أردف بإعجاب حقيقي:
_ولو أنكِ مغريةٌ بالحديث في أي وقت!!
اتسعت ابتسامتها الواثقة وهي تضع الأطباق أمامه على المائدة…
ثم جلست أمامه لتتأمله وهو يتناول طعامه بتفحص حنون…
علاقتهما تتحسن يوماً بعد يوم…
هذه العلاقة التي -ربما- أرهقتها كثيراً لكنها منحتها “الأكثر”!!
منحتها الثقة التي كانت تحتاجها للتغلب على عقدة “الدمية المعيبة” التي طالما خدشت جدار أنوثتها!!!
نعم…الآن صارت ترى نفسها أنثى جديرة بالعشق في جميع أحوالها…
صحيحٌ أنها كانت تشعر بالخجل أولاً من نوبات شرودها المرضية التي كانت تنتابها أحياناً في أشد لحظاتهما خصوصية …
لكنه ساعدها على تجاوز الأمر بتفهمٍ كبير حتى صار هذا الأمر لا يقلقها كثيراً…
حتى أنها أصابتها ليلة أمس تحديداً وهي بين ذراعيه في ذروة اشتعال عاطفتهما….
لتفيق منها على “نظرة ” بعينيه كانت تساوي لديها الكثير!!!!
لا…لم تكن نظرة إشفاق أو عطف تؤذي كبرياء أنوثتها…
بل كانت نظرة شغف وضيق رجلٍ يريد إذكاء عاطفة امرأته!!!
وكم بين النظرتين من فروق لو تعلمون!!!
هذه النظرة الأخيرة وحدها كانت كفيلة بمحو تاريخ طويل من شعور بالانتقاص والدونية…
لقد نجح حسام في منحها صورة حقيقية لنفسها تفخر بها أمام مرآتها بعد كل هذا العمر…
فكيف تشكره؟!!
ورغماً عنها تخلل تأملها -الممتن- له صورةً باهتة لمعتصم…
ترى لو كان مكانه هل كان سيقبل عيبها رغم ما كان يزعمه من حب؟!!
هل كان حبه لها -وحده- كافياً لرأب صدع جدرانها المتآكلة؟!!
وهل كان حبها له -وحده- ضماناً لنجاح هذه العلاقة؟!!!
أم أن الحب وحده-في حالتهما- لا يكفي!!!
إذن…هل أحبت حسام؟!!
هي لا تدري…
شعورها معه أقرب لمن آوى إلى ركن حصين وهو لا يطمع سوى في الأمان…
الثقة…
والكثير …بل الكثير جداً من العاطفة حتى وإن لم تكن بلا مسمى!!!
وحسام يمنحها كل هذا بسخاء حتى ولو لم يكن مزيناً بزهور الحب التي لم تنبت في قلبها سوى ل”معتصم”!!!
نفضت عن رأسها الخاطر الأخير بعنف زاجرةً نفسها عن التفكير فيه ….
قبل أن تتنحنح بارتباك لتغمغم وهي تشعر بالذنب على خواطرها السابقة:
_شكراً يا حسام.
توقف عن مضغ الطعام للحظة رمقها فيها بنظرة متسائلة فابتسمت لتردف بامتنان:
_أنا سعيدة معك.
غامت عيناه بحزن مفاجئ كسا مقلتيه للحظات قبل أن يغمض عينيه دون رد…
وكأنه يقاوم الرد عليها بكلمات ستفصح عن مكنون صدره الذي لا يريد له أن يطفو على السطح…
سعيدة؟!!
حقاً؟!!
بعدما كل فعله بها؟!!
لكن لماذا العجب؟!!
هذه هي دعاء التي عرفها على حقيقتها جيداً في الأيام السابقة…
قلبٌ من “الماس” يرضى بالقليل بعدما عانى من كثرة خدوشه!!!
لكن…هل يخفف هذا من وزر شعوره بالذنب نحوها؟!!!
لهذا تنهد بحرارة وهو يعاود فتح عينيه مع قوله بابتسامة شاحبة:
_اللهم دوماً!
اتسعت ابتسامتها وهي تربت على كفه بحنان مس قلبه بصدقه…
لكنه أبى الاستسلام لتصديقه فاغتصب ضحكة مختنقة مع قوله:
_لماذا لا تأكلين معي؟!!هل وضعتِ سماً في الطعام؟!!
ابتسمت وهي تهز رأسها هاتفة بمرحها المعهود:
_اخلع عقليتك البوليسية هذه مع حذائك على باب البيت يا “سيادة الرائد”…خنقتني!!
ثم بدأت بتناول طعامها مردفة:
_لم لا تقول أن “البطة” تريد إنقاص وزنها فراراً من سخريتك!!!
ضحك ضحكة صافية هذه المرة وهو يضع لها المزيد من الطعام في طبقها ثم غمزها بشقاوة هاتفاً:
_لا متعة تضاهي النقار معكِ يا “بطة”..كلي كما تشائين وكلما زاد وزنك زادت مشاكساتي!!!
حاولت أن تعبس بوجهها في غضب طفولي لكن مرحها -الصادق هذه المرة – غلبها …
فوجدت نفسها تبتسم وهي تخرج له لسانها مغيظة إياه…!!!!
انتهيا من تناول الطعام بعدها بدقائق فقام من مكانه ليقول برفق:
_أعدي نفسكِ لحفل زفاف اليوم…سيحضره جميع زملائي وأريدكِ أن تكوني ملكة النساء بلا منازع!
فقامت بدورها لتبسط كفها جوار رأسها في تحية عسكرية مع قولها بصرامة مصطنعة:
_تمام يا “أفندم”!!
قرص وجنتها مداعباً قبل أن يميل على وجنتها الأخرى بقبلة مفاجئة صاحبت قوله:
_تمام يا “بطة”.
=============
_ما رأيك؟!
غمغمت بها بلهجتها الواثقة الجديدة بعدما أكملت ارتداء ثيابها…
فانعقد حاجباه بتفحص للحظات وهو يديرها حول نفسها ثم هز رأسه بعدم رضا…
قبل أن يفتح خزانة ملابسها ليلتقط لها ثوباً آخر قائلاً باهتمام:
_ارتدي هذا أفضل…هو أكثر فخامة!
تناولته منه ببعض الخيبة وهي تشعر بضياع مجهودها في الدقائق السابقة…
لكنه لم ينتبه لهذا وهو يتناول علبة مصوغاتها ليتخير لها طاقماً ماسياً باهظ الثمن كان قد أهداه لها منذ فترة مردفاً بنفس الاهتمام:
_وارتدي هذا أيضا .
أومأت برأسها إيجاباً ثم بدأت في تبديل ثوبها بالآخر الذي اختاره حتى انتهت لتواجهه بمظهرها الجديد
الذي تفحصه باهتمام أكبر مع قوله العملي:
_وجهكِ يبدو شاحباً…استعيني ببعض مساحيق الزينة.
فالتوت شفتاها بابتسامة باهتة مع قولها ببعض الضيق:
_زعمت أنك لا تحب وجهي ملطخاً بأصباغ.
لكنه لم ينتبه لرنة الضيق في صوتها وهو يدفعها برفق نحو المرآة قائلاً بنفس النبرة المغالية في الاهتمام:
_لا بأس…هذه الليلة فقط…لا أريد أي انتقاد لمظهرك…إنها أول مرة يرونكِ فيها بعد زفافنا.
مطت شفتيها في استياء وهي تتناول فرشاة زينتها لتضفي بعض الحمرة على وجنتيها تحت نظراته المتفحصة …
ثم عادت تواجهه ببصرها في ترقب فأومأ برأسه في استحسان…
قبل أن يتناول قارورة عطر بعينها ليتشممها بأنفه مقارناً بينها وبين ثلاث أُخَر…
ثم ناولها لها قائلاً:
_هذه مميزة.
كان ضيقها واضحاً هذه المرة وهي تجذب قارورة العطر ببعض العصبية من يده هاتفة بضجر:
_ما الأمر يا حسام؟!هل ستكون مغالياً هكذا في اهتمامك بمظهري كلما خرجنا؟!!
أشاح بوجهه بضيق هو الآخر للحظة قبل أن يحاول تغليف نبرته ببعض الرفق مع قوله:
_تعودت دوماً أن أحتكر نظرات الإعجاب في أي مكان أذهب إليه…ماذا يضيركِ لو حافظتِ لي على هذا المستوى؟!
تنهدت بحرارة وهي تستعيد ذكريات هوسه الواضح بالمظاهر منذ عرفته…
فحاولت إقناع نفسها بأن الأمر يتعلق بطبيعة وظيفته التي تكسب ذويها بعضاً من الفخر والاعتزاز بالنفس…
لهذا رفعت قارورة العطر نحو رقبتها تكاد تغرق نفسها بزخات متتابعة وكأنها تفعلها فقط لترضيه…
قبل أن تضعها جانباً لتهمس باستسلام ساخر:
_ما رأيك؟!جاهزة؟!
تملك كتفيها بقبضتيه وهو يتأملها متفحصاً باهتمام قبل أن يقبل جبينها بعمق هامساً بإعجاب حقيقي:
_مذهلة!
ابتسمت رغماً عنها برضا وكلمته اليتيمة تغازل أنوثتها بحنوّ لتطمس معالم عقدة نقص قديمة…
قبل أن تتأبط ذراعه لتغادر معه الغرفة نحو باب الشقة …
وقبل أن يضع كفه على المقبض استوقفته بهمسها المترقب باسمه…
فالتفت نحوها بدهشة لتتشبث بنظراته في استقراء صامت للحظات قبل أن تسأله ببطء:
_مادمتَ مهتماً بالمظاهر إلى هذا الحد فلماذا اخترتني للزواج رغم مرضي!
اختلجت عضلة فكه كاشفة انفعاله الذي حرص على إخفائه بشدة مكتفياً بصمته المظلم مع إطراق رأسه للحظات مرت بها كساعات…
فعاودت همسها برجاء هذه المرة:
_حسام!أرجوك أجبني.
رفع إليها عينين مشتعلتين عادت إليهما نظراتهما الصقرية للحظات كاد قلبها يتوقف فيها خوفاً…
قبل أن يحتل الحزن الشفاف مقلتيه رويداً رويداً ليغرس بصدرها هي ألف خنجر من قلق وألم!!
ما الذي تخفيه خلفك يا حسام؟!!
وأي سرٍ تداريه خلف قضبان قسوتك؟!!
لماذا أشعر بحاجز لا مرئي بيننا يمنعنا من التلاقي رغم محاولاتنا الجاهدة؟!!
لماذا اخترتني أنا بالذات ؟!!
لماذا ارتضيت السير في هذا الطريق رغم قسوة بداياته؟!!
لماذا؟!!لماذا؟!!
بقيت تساؤلاتها بلا جواب لكنها بدت وكأنها غادرت رأسها لتظللهما معاً بغمامات رمادية …
ولما يأست من أن يمنحها غموضه الكتوم جواباً غيرت سؤالها لآخر أكثر يسراً:
_ألا تخشى مثلاً أن تصيبني إحدى نوباتي أمامهم فيفتضح شأني؟!!
اشتعلت عيناه بقلق مفاجئ للحظات قبل أن يخفي هذا بمهارة مع جوابه المقتضب:
_لن أتركك لحظة …حتى لو حدث هذا سأتدبر الأمر.
ثم حاول صبغ نبرته ببعض المرح الذي لم يخدعها:
_لا تكوني متشائمة هكذا…دواؤكِ يؤتي أثاره بفعالية تامة…ونوبات شرودكِ هذه لا تستغرق سوى بضع دقائق على الأكثر…فلا تدعيها تفسد علينا حياتنا.
اغتصبت ابتسامة باهتة على شفتيها وهي تطرق برأسها مدركة عقم الحوار…
ليسودهما صمت طويل طوال الطريق بسيارته …
لم يكن أحدهما قادراً على النظر لصاحبه وكأن كليهما يخشى انكشاف ستر الخفايا بنفس القدر!!
حتى اختار هو قطع الصمت بقوله ببساطة مصطنعة:
_فيمَ أنتِ شاردة؟!
تنهدت بحرارة وهي تنظر لجانب الطريق هامسة بشرود:
_حلمٌ غريب رأيته البارحة يسيطر على تفكيري.
وكأنما منحته- النجدة- بتغيير موضوع الحديث الذي يؤرقهما معاً…
فالتفت نحوها بابتسامة ماكرة ليهتف مشاكساً:
_ماذا؟!!حلمتِ أنني سأتزوج أخرى؟!!
منحته ابتسامة باهتة وهي تعاود التفاتها نحوه لتجيب بنفس الشرود :
_حلمت أنني أسير في حديقة واسعة رائعة الجمال…وكأنها الجنة …كنت سعيدة حقاً…وأقول لنفسي هل الجنة بهذا الجمال؟!!حتى برز أمامي فجأة جبل كبير تعلوه عينٌ ضخمة بشكل غريب أثارت فزعي لكنني وجدتها قد كُتب عليها “الله أكبر”!
ورغم أن حلمها أثار انقباضه كذلك لكنه ربت على كفها برفق قائلاً بهدوء:
_الحلم تفسيره بسيط…جنة وعينٌ و لفظة “الله أكبر”!!!
هزت رأسها بتساؤل فأوقف السيارة التي كانت الآن أمام قاعة الحفل بالضبط ليستدير نحوها بجسده مع غمزة مشاكسة ناسبت غرور قوله:
_يحسدونكِ عليّ يا “بطة”!!!
فابتسمت ابتسامة باهتة وهي تطرق برأسها دون رد…
عندما رفع ذقنها إليه مردفاً بنبرة أكثر جدية:
_لا “أريد ” ابتسامتكِ هذه…بل “أريد” ضحكتك الساحرة التي تنير وجهك…نحن على وشك الدخول للحفل …”أريدكِ”أن تكوني نجمته…”أريدكِ” أن تخطفي قلوب الجميع قبل أبصارهم…”أريد”أن تكون زوجة حسام القاضي حديثهم للأيام القادمة.
رفعت إليه عينيها ببعض القلق وانقباض قلبها يزداد دونما سبب…
هل انتبهت كم مرةً تكررت كلمة “أريد” في عبارته؟!!
هل لمحت تلك الجذوة المشتعلة في عينيه؟!!
هل اشتمت تلك الرائحة النفاذة لغرورٍ يخفي خلفه نفايات شعوره بالنقص؟!!
نعم…فعلت…
ولم يزدها هذا إلا ارتباكاً!!!
لكنها تجاوزت عن كل هذا وهي تأخذ نفساً عميقاً تستدعي به قوتها….
قبل أن تترجل من السيارة لتتأبط ذراعه بفخر حقيقي هذه المرة!
ستعيش الحلم لآخره هذه المرة…
سترتشف كأس عطاياها لآخر قطرة!!!
تجاوزا باب القاعة نحو ذاك الجمع الذي التف هناك حول العروسين لتبتلعها عاصفة باردة من التهاني الحارة في ظاهرها…
لكنها كانت تشعر أنها تخفي خلفها نظراتٍ متفحصة تقييمية تليق كثيراً بمغالاة حسام الشديدة في الاهتمام بمظهرهما!!!
ولم تمضِ بضع دقائق حتى انسابت موسيقا هادئة في المكان تدعو الجميع لمشاركة العروسين الرقص …
فأحاط خصرها بكفيه وهو يجذبها نحوه مقرباً إياها إليه مع همسه الناعم في أذنها:
_تجيدين هذه الرقصة أم ننسحب؟!
رفعت إليه عينيها بتردد لتلمح نظرة حنان حقيقية في عينيه شجعتها لتهمس ببعض الرجاء:
_لا أجيدها…لكنني أريدها…
ثم ابتسمت بخجل مردفة:
_أظن الأمر بسيطاً…احتضنني فحسب وأنا سأساير خطواتك.
نظر إليها بتردد للحظة قبل أن تدور عيناه حول النظرات المتربصة بهما من كل صوب…
ثم همس بحذر:
_لا بأس…لكن انتبهي لخطواتك.
اتسعت ابتسامتها الحالمة وهي تتأمل ملامحه المنشغلة بترقب الحاضرين لتهمس بدلال:
_حسام…كن معي أنا…أنا فحسب!
استقرت عيناه أخيراً على عينيها اللتين منحتاه أخيراً صورة مشبعة بالرضا …
فابتسم ابتسامة- حقيقية -وهو يقترب بوجهه منها أكثر هامساً :
_تبدين سعيدة…هل أعجبكِ الحفل؟!
تناست كل هواجسها -عمداً -وهي تتشبث بخيوط إحساسها الجديد معه لتهمس بصدق:
_أعجبتني صورتي في عينيك.
ثم تأوهت بخفوت وهي تسند جبينها على ذقنه مردفة :
_تبدو فخوراً بي حقاً…وكم يعني لي هذا الكثير.
ارتعشت ابتسامته الواثقة للحظات اختلجت فيها عضلة فكه انفعالاً كعادته….
وعبارتها تعكس له شعورها صادقاً…
لكن ماذا عن شعوره هو؟!!
شفقة؟!!
إعجاب؟!!
خوف؟!!
نعم…خوفٌ منها وعليها!!!
خوفٌ أن تعرف ما يجعلها تتركه …
وخوفٌ أن يضيف لرصيد ذنوبه المزيد من الخطايا!!!
لكنه تجاهل كل هذا ليعاود همسه بعد تنهيدة حارة:
_بالطبع فخورٌ بكِ…أنتِ رائعة.
ارتجف جسدها انفعالاً بين ذراعيه وهي تسمعها منه بهذا الصدق …
وبهذه الحرارة!
هل اندثرت أسطورة “الدمية المعيبة” أخيراً؟!!!
الآن ترى نفسها أنثى حقيقية يحق لها الحب..
بل تحق لها الحياة!!!
أنثى يراقصها زوجها بفخر أمام الجميع دون أن يشعر أحدهما بأي نقصان في شخصها…
لكن…هل كان هذا صحيحاً؟!!
ورغماً عنها انسحبت عيناها تراقبان نظرات الحضور بظمإ آن الأوان لريّه بنَهَم…
وأناملها تتشبث به تشبثها بحلمها الوردي الذي طالما داعب مخيلتها!!!
وفي نفس اللحظة تقريباً انسحبت عيناه هو الآخر لنظرات الناس بنفس التعطش!!!
وكأن كليهما كان لا يريد رؤية -صاحبه- بقدر ما يريد رؤية -انعكاس صورتهما- في عيون الآخرين!!!
فيالها من علاقة غريبة…لكنها عادلة!!!
كلاهما أخذ من هذه الزيجة ما كان يحتاجه…
إلى الآن على الأقل!!
انتهت الرقصة أخيراً -بسلام- دون أن تخذله ، فابتعد عنها برفق….
قبل أن يقبل جبينها قبلة عميقة لا يدري إن كانت برغبة حقيقية…
أم أنها فقط كانت مجرد إضافة -أنيقة -للّوحة المرسومة بإتقان أمام الجميع؟!!
لكنها تقبلتها بشعور مفعم بالرضا وهي تسبل جفنيها بدلال أنثوي تحرر -مارده -أخيراً من -مصباح- طال حبسه فيه!!!
لم تدرِ كيف مرت بهما الدقائق بعدها في مجاملات وحوارات كثيرة مع معارفه وزملائه لم تخذله فيها أيضاً بمرحها العفوي وجاذبيتها التي صقلها شعورها الجديد بالثقة…
تسلطت عليها الأنظار بانبهار زاد خيلاءها أكثر لكنه زاد ارتباكها كذلك…
فاستأذنته خفية للذهاب نحو الحمام القريب برغبة لم تقاومها في الاطمئنان على مظهرها…
لتبتسم ساخرة مع قولها لنفسها في طريقها:
_يبدو أن هوسك بالمظاهر سينتقل إليّ يا سيادة الرائد!
اتسعت ابتسامتها وهي تصل أخيراً للردهة القصيرة المؤدية للحمام المرفق بالقاعة…
عندما استوقفتها ضحكات امرأتين تعطيانها ظهريهما مع هتاف إحداهما:
_هل رأيتِ زوجة حسام القاضي؟!الماكر لا يقع إلا واقفاً!!
فضحكت الأخرى لترد بنبرة حسد واضحة:
_هل رأيتِ كيف يعاملها وكأنها نجمة هبطت عليه من السماء؟!!
هزت الأخرى كتفيها وهي تقول ببساطة:
_طبيعي…مادامت قبلته على عيبه!!!
خفق قلب دعاء بعنف عند سماعها لعبارتها الأخيرة….
فاتخذت من الجدار المجاور لها ساتراً تختبئ خلفه وهي ترهف سمعها أكثر لتصلها عبارة المرأة الأخرى :
_عيبه؟!!وهل لحسام هذا عيوب؟!!إنه يبدو كبطل سينما وعيون النساء تلاحقه أينما ذهب!!!
فضحكت رفيقتها ساخرة لتجيبها:
_أنا الوحيدة التي أعلم عن هذا لأنه كان يتردد على عيادة زوجي بالعاصمة قبل طلاقه من يسرا الصباحي.
عقدت الأخرى حاجبيها بشك للحظات …
قبل أن تردف بإدراك ممتزج بذهولها:
_عيادة زوجك؟!!!تعنين أنه….؟!!!!!
فأومأت رفيقتها برأسها لتقول بحسرة مصطنعة:
_نعم…لكن ليبقَ هذا سراً بيننا فقط… حسام لديه مشكلةٌ ما تمنعه تماماً من الإنجاب.
================
_تريدين الطلاق يا يسرا؟!
هتف بها باستنكار ونظراته تحمل انكساراً لم يعرف مثله من قبل…
لكنها لم تكترث له وهي تهتف بانفعال:
_نعم…وبلا جدال…
ثم أشارت بكفها للملف الورقي أمامها لتردف بحدة:
_التقرير يقول إنك لن يمكنك الإنجاب يوماً فلماذا أربط نفسي بحياة كهذه؟!!
أغلق عينيه بألم ضاعف انكسار قسماته فيما استطردت هي وكأنها لا ترى كل هذا:
_امرأةٌ في وضعي..باهرة الجمال صغيرة السن…لماذا ترضى بنصف رجل؟!!
نصف رجل!!!
نصف رجل!!!
أفاق من شروده على هذه العبارة التي مزقت خيوط كبريائه من وقتها…
ولازالت تفعل كلما ذكرها…
لقد ردت له الأقدار العادلة ضربته الغادرة ل”طيفه” الراحل…!!!!
وكما لفظها هو من حياته استكباراً وعلواً ليرضي طموحه ب-من ظنها- الأفضل…
لفظته الأخرى بنفس التكبر لتبحث بدورها عمن هو أفضل!!!
جرحٌ بجرح…والبادئ أظلم!!!
لقد غادر يسرا ليلتها بعدما ألقى عليها يمين الطلاق دون مجادلة…
وكأنه يبادر بتسديد دينه القديم…
و عندما اختلى بنفسه في غرفته القديمة بعدها…
قادته خطواته ل”عقد الفل” الذي اندس مكانه منذ وقت بعيد لتتناوله أنامله بحذر مشوب بالندم…
لقد باع نبض قلبه بحب ملك روحه فداءً لواجهته الاجتماعية…
لصورته “الفخمة” أمام الجميع…
وإن كان سيعيش بقية عمره بندمه وإحساسه بالذنب فإنه لن يسمح لهذا أن يطفو على سطح مشاعره…
سيبحث عن امرأة لا يعنيها “عيبه” هذا…
امرأة ترضي غروره بجمالها وتألقها لكنها تحمل هي الأخرى “عيباًّ ” يجعلها دوماً كسيرة العين أمامه!!!
امرأة لا يؤرقها كونه “نصف رجل” مادامت هي الأخرى “نصف امرأة”!!!
وبهذه “السياسة العوراء” اختار دعاء بقرار واثقٍ…
كلاهما يناسب صاحبه لكنه لن يخبرها عن “عيبه ” أبداً…
سيجعل الأمر يبدو وكأن العيب منها هي…!!!
سيشعرها دوماً أن مرضها هو الذي يمنعه من حقه في الإنجاب!!!
نعم….لن تذبح امرأة رجولته بعد!!!
وعند الخاطر الأخير عادت نظراته الصقرية تحتل عينيه وهو يدور بهما في أنحاء القاعة يتلقى النظرات المعجبة به -وخاصةً من النساء- برضا غامر…
وكأنه يرمم بها شروخ جدار كبريائه الذي لن يسمح له يوماً أن ينقض!!!
انقطعت أفكاره عندما لمحها تعود من بعيد فتحولت نظراته لحنان -حقيقي -وهو يقوم من مكانه ليتناول كفها متفحصاً ملامحها باهتمام مع تساؤله الهامس:
_لماذا تأخرتِ هكذا؟!
أخذت نفساً عميقاً وهي تشيح بوجهها دون رد…
فانعقد حاجباه وهو يتبين حمرة أنفها ووجنتيها ليهمس بقلق:
_ماذا حدث؟!هل كنتِ تبكين؟!
انفرجت شفتاها عن ابتسامة باهتة وهي تهز رأسها نفياً مع قولها بنبرة ثابتة:
_أشعر ببعض التعب…هل يمكننا الانصراف الآن؟!
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يتلفت حوله ثم عاود النظر إليها قائلاً بضيق:
_ألا يمكنكِ الصبر قليلاً؟!!الكثير من القيادات الهامة على وشك الوصول مع زوجاتهن وكنت أريدكِ أن تلتقي بهن.
فاتسعت ابتسامتها مع بعض السخرية وهي تهمس بنفس النبرة الثابتة:
_أخشى فقط أن يؤدي إرهاقي لنوبة جديدة خاصةً أنني نسيت تناول دوائي….ستكون فضيحة!!
تهدج صوتها في عبارتها الأخيرة وقد بدت على وشك البكاء …
فظهر القلق الحقيقي في ملامحه عقب حديثها…
لكنه عاود ارتداء قناعه -الأنيق- وهو يرسم على شفتيه ابتسامته الجذابة مع قوله وهو يتابع نظرات الحضور لهما دون أن ينظر إليها:
_حسناً…هيا بنا!
استجابت من جديد لعاصفة التهاني والمجاملات التي اجتاحتهما بصخب مع رحيلهما قبل أن تستسلم لصمت طويل لفّهما طوال الطريق…
حتى صارت معه أخيراً في غرفتهما فالتفت نحوها ليسألها برفق:
_كيف حالكِ الآن؟!
التمعت عيناها ببريق غامض لم يفهمه مع قولها الواثق:
_سأكون أفضل.
فابتسم وهو يطوق كتفيها بكفيه هامساً باعتزاز:
_لقد سرقتِ قلوب الحضور قبل عيونهم…كنتِ أكثر من مذهلة.
ضغطت شفتيها بقوة وهي تغمض عينيها لتهمس أيضاً بنفس النبرة الواثقة:
_سأكون أفضل!
عقد حاجبيه بشك ليهمس باسمها في تساؤل متفحص…
ففتحت عينيها ببطء وقد غامتا بسحابة داكنة ….
قبل أن تترنح مكانها فتشبث بها أكثر مع هتافه القلق:
_هل أنتِ متعبةٌ إلى هذا الحد؟!!هل أستدعي طبيباً؟!
والإجابة -المكررة – جاءته منها وكأنها علقت بشفتيها:
_سأكون أفضل!
هز رأسه بانفعال وهو يتفحص ملامحها التي بدت له أكثر شحوباً وقد هم بسؤال لم يغادر شفتيه…
عندما بادرته هي بقولها الذي صاحب ابتسامتها الباهتة:
_ألم تفهم بعد؟!!
ضاقت عيناه بحذر وهو يحاول قراءة ما برأسها عندما أردفت هي بنبرتها الثلجية:
_الشحوب والدوار وشعوري الدائم بالإعياء…كل هذا يعني أننا…
ثم صمتت لحظة لتضغط على حروفها :
_ننتظر طفلاً!!
اتسعت عيناه بصدمة للحظات وقد انعقد لسانه…
قبل أن تتحول نظراته لبركان من غضب مع صرخته:
_مستحيل!!
ثم صمت لحظات محاولاً تمالك انفعاله قبل أن يعتصر كتفيها بقبضتيه مردفاً :
_هل تأكدتِ من الأمر؟!!أم أنه مجرد استنتاج؟!
أزاحت كفيه من على كتفيها وهي تبتعد عنه بضع خطوات لتعطيه ظهرها مع قولها المتهكم:
_لماذا تتعجب الأمر هكذا؟!
زادت برودة لهجتها من غضبه الذي لم يستطع التحكم فيه أكثر وهو يجذبها من كتفها ليديرها نحوه من جديد مع هتافه الصارم:
_لا تجيبي عن سؤالي بسؤال…أخبريني حالاً عن مدى ثقتكِ بما تزعمين!
_أخبرني أولاً….لماذا طلقت يسرا؟!!
ساد الصمت لحظات بعد عبارتها الأخيرة التي انفجرت كقنبلة في المكان ….
هل عرفت شيئاً؟!!
بالتأكيد!!
وإلا لماذا ربطت سؤالها بسؤاله!!!!
من أخبرها؟!!
والدته لن تفعلها …
وهو ترك العاصمة كي لا تنفلت الأحاديث لتنال شخصه…وفضل العودة إلى هنا لهذا السبب…
لكن الأهم الآن…ماذا ستفعل بعدما عرفت؟!!
لكنها قاطعت أفكاره عندما اقتربت منه خطوة لتنزع قناعها الثلجي سامحةً لمشاعرها الحقيقية بالانفجار في وجهه مع هتافها:
_لماذا أخفيت الأمر عني؟!!لماذا خدعتني؟!!
تسمر مكانه وقد أصيبت دقات قلبه بالجنون مع انفعاله الذي ازدادت وتيرته مع صراخها الثائر:
_أنا لم أخدعك…لم أدارِ عليك مرضي…لم أجذبك قهراً من عالمك لأسجنك داخل فقاعة كاذبة!
كز على أسنانه بغضب مكتوم وأنامله تنغرس في لحم كتفها بقسوة لكنها لم تتوقف عن سيل بوحها الذي لن توقفه سدود هذه المرة:
_لقد سامحتك على كل ما فعلته…تجاوزت عن تاريخك الأسود معي منذ البداية…عفوت عما لا يمكن لامرأة أن تتسامح فيه…
ثم دفعته بعنف مع صرختها التي بدت وكأن روحها تحتضر خلفها مع كلماتها :
_بالأمس انتهكتَ جسدي وروحي وكنت تريد انتهاك غدي كذلك؟!!
_اسكتي!!
صرخ بها هو الآخر بأقصى ما احتملته روحه التي كانت تنزف هي الأخرى بدماء عجزه وشعوره بالذنب…
لكنها لم ترَ هذا وسط عاصفة غضبها التي طوحت بها من أقصى يمين إرضائه لأنوثتها لأقصى يسار سخطها …لتكمل صراخها دون وعي:
_لا…لن أسكت..لن أسكت بعد…لن أرضى أن أكون مجرد صورة مكملةً لزينتك أمام الناس…أنت غشاش..أنانيّ….مخادع…
_وأنتِ كاملة؟!!
صرخ بها بهياج مخرساً بقية عبارتها لتتجمد ملامحها بألم عميت عنه عيناه وهو يردف بنفس الثورة:
_كلانا كان مناسباً للآخر…فلا أظنك تريدين أطفالاً يرثون عيبكِ ومعاناتك!
ازدادت ارتجافة جسدها فطوقته بساعديها لتحاول التماسك مع نبرتها المرتعشة:
_على الأقل…كنت منحتني حق الاختيار.
_اختيار؟!!
بسخرية أليمة نطقها لتقع في صدرها كخنجر مسموم….مع استطراده الهادر:
_أي اختيار لمن هي مثلك؟!!أنا كنت فرصتك كما كنتِ أنتِ فرصتي …فاعرفي قدر نفسكِ ولا تتعاليْ.
أغمضت عينيها بقوة وهي تشعر بقرب انهيارها إزاء كل هذا الانفعال…
لكنه لم يكن يرى سوى صورة عجزه في مرآة كبريائه المكسورة…
تلك الصورة التي كانت وحدها كفيلةً بتهييج جروحه كوحش ثائر…
ليجد نفسه يجذبها من ياقة ثوبها الثمين فتسمع هي صوت تمزق القماش يصاحب قسوة عبارته:
_ارجعي بذاكرتكِ لحفل الليلة وتبيني كم امرأةً تمنت مكانكِ جواري…أنا حسام القاضي…لن ينتقص قدري شئٌ…هل تفهمين؟!!
ثم دفعها بعنف ليغادر الشقة كلها باندفاع…
تاركاً إياها خلفه وقد انتابت جسدها تشنجاته القوية لتعاودها أعراض نوباتها بأشد صورها ضراوة في نهاية مأساوية لهذه الليلة العصيبة…
نعم…هذه المرة لم يقتصر الأمر على مجرد إغماءة وعضة لسان دامية …
فالسقوط هذه المرة كان ثمنه غالياً…
أغلى بكثير مما كانت تتوقع يوماً!!!!!
========
_حمداً لله على سلامتك يا سِتّ البنات!!
قالها عبد الله في المشفى بنبرة مرتعشة غريبة على أسلوبه الجاف معها وهو يضمها إلى صدره برفق متحاشياً مكان إصابتها فابتسمت بسعادة حقيقية وهي ترفع عينيها إليه مرددة بتأثر :
_ستّ البنات؟!لازلت تذكر يا عبد الله؟!
دمعت عيناه بتأثر هو الآخر وهو يقبل رأسها هامساً:
_طالما كان أبي يدعوكِ هكذا…وأنا لن أناديكِ إلا بهذا اللقب منذ اليوم.
اتسعت ابتسامتها النقية وهي تدفن وجهها في كتفه لتجرب هذا الشعور الذي افتقدته معه منذ عهد بعيد…
شعورها بالراحة والأمان في كنف الأخ الذي ليس لها سواه…
هذا الشعور الذي كان يغمرها عبد الله به بلا حدود بعد وفاة والديهما قبل أن تسحبه الحياة في دوامتها ليتلاشى هذا الشعور ببطء ويتحول إلى مجرد شعور بأسيرة وسجانها!!!
بينما كان هو يضمها إليه بحنان يوازي قوة خوفه من فقدها عندما سمع عن الخبر الصاعق…
لم يدرِ حتى كيف حملته قدماه إلى هنا …كل ما يذكره هو تشبثه بمصحفه ودعائه ودموعه التي بللت لحيته وهو يدعو الله بخشوع أن يعيدها إليه كي يعوضها عن طول غفلته عنها…
لقد شعر وقتها أن القدر الرحيم الذي طالما أغدق عليه النعم واحدة تلو الأخرى يوشك على عقابه بفقدانها طالما لم يؤدِ حق شكرها…
في البداية خسر “صفا روحه” …
ثم خسر مالاً كان يتصرف فيه كما يشاء…
فهل يخسر شقيقته أيضاً؟!!
لهذا لم يكن مبالغاً عندما سجد لله شكراً بمجرد أن سمع عن إفاقتها ونجاتها من هذا الحادث الغادر…
لقد اعتبرها وقتها إشارة السماء بفرصة ثانية للتوبة بعد طول غفلة…
والآن وبعد مرور أيام على هذه الحادثة وقرب تماثلها للشفاء يجد نفسه يضمها إليه كما فعل تلك الليلة التي توفي فيها والداهما…
فسبحان من جعل التضرع وقت البأس عبادة الغافلين كي يعودوا ، ولم يذرهم في طغيانهم يعمهون!!
لهذا عاود تقبيل رأسها بحنان قبل أن يقول لها باعتزاز:
_أنا فخورٌ بكِ حقاً…بنتٌ بمائة رجل!!
رفعت وجهها إليه بخجل ممتزج بفرحتها عندما قال راغب الواقف أمامهما بجدية تامة لكنها لم تُخفِ عاطفته نحوها:
_كلنا فخورون بها يا شيخ عبد الله…ونِعم التربية!
تمتم عبد الله بالحمد في خشوع قبل أن يبعدها برفق وهو يربت على كتفها وقد فاضت عيناه بندم حقيقي استشعرته هي بروحها الشفافة فربتت على كتفه بدورها وهي تقول بوداعتها :
_سلمك الله يا أخي وأبقاك لي!
هز عبد الله رأسه وهو يقوم من جلسته جوارها على الفراش ليصافح راغب بود لم يخلُ من تحفظ …
فلايزال بصدره عليه عُتبٌ لا يملك تخطيه …
وكيف لا؟!!
وهو يحمّله -وإن لم يقلها صراحةً- مسئولية ما حدث لشقيقته!!!
لهذا قال بنبرة عاد إليها حزمه المعهود:
_لقد علمت أنهم سمحوا لها بالخروج من المشفى اليوم…أستأذنك أن تعود معي لبيتي فالوضع في بيتك ليس ملائماً لها الآن.
فنظر إليها راغب بقلق يطلب مؤازرتها لكنها اكتفت بإطراق رأسها الصامت وكأنها توافق عبد الله على قوله…
لينعقد حاجباه بغضب حاول كظمه قدر المستطاع لكنه سيطر على نبراته:
_أنا لم أقصر في حقها يا شيخ…لم أتركها لحظة واحدة منذ الحادث…والحادث نفسه كان قدرياً ولم يكن لي ذنبٌ فيه.
ثم أردف بنبرة أقوى:
_زوجتي ستخرج إلى بيتي …لا جدال في هذا يا شيخ!
قالها وهو يشعر لأول مرة بضعف موقفه معها…
لو أصرت رؤى على الطلاق كما كانت تنتوي فهذا الحادث الأخير سيجعل عبد الله أكثر إصراراً على إتمام الأمر ….
وساعتها سيكون اعتراضه هو غير مقبول فهي كادت تموت بسبب زوجته الثانية فمن يلومها لو اختارت الفراق الآن؟!!!
بينما تجمدت ملامح عبد الله للحظات وقد همّ بالاعتراض لكنه تذكر ما عاهد الله عليه بشأنها بعد الحادث…
فالتفت إليها ليسألها بنبرة رفيقة:
_رؤى…أنتِ صاحبة القرار وأنا سأوافقكِ عليه أياً ما كان.
صاحبة القرار!!!!
يالله!!!حقٌ مسلوبٌ طالما انتظرته!!!
فأي ثمنٍ كان عليها دفعه لتناله؟!!
لكن…رب ضارة نافعة!!
الحادث الأخير رغم قسوته كان بمثابة شهادة ميلاد جديدة لها…
جعلها تدرك مشاعر الجميع الحقيقية نحوها والتي أغدقوها عليها بمنتهى الكرم…
عبد الله وراغب ووالدته التي حرصت على زيارتها رغم مرضها…
وحتى هيام التي طوق رقبتها صنيع رؤى مع شقيقتها!!!
لقد صارت فجأة محل اهتمام الجميع وتدليلهم لتعوض بهذا طول فاقتها لكل هذا!!!
والآن…ماذا بعد؟!!
هل توافق عبد الله على ما يريده؟!!
أم تستجيب لرجاء راغب النابض بعينيه ؟!!
هل تكتفي بهذا القدر الذي نالته من عاطفة رجل لم تعشق غيره وتستمع لنداء عقلها وكبريائها؟!!
أم تبقى قليلاً تتنعم بالتحليق فوق غمام سماء الحب بعدما شفيت جناحاتها المكسورة؟!!
لا تدري!!!
القرار أصعب كثيراً مما تحتمله مقاومتها !!!
لهذا ظلت مطرقة برأسها للحظات كاد فيها قلب راغب يتوقف ترقباً…
قبل أن ترفع رأسها لتقول مخاطبةً عبد الله بنبرة واثقة جديدة على طبيعتها الخانعة:
_سأناقش الأمر مع راغب وأخبرك بما اتفقنا عليه…لكنني سأعود اليوم لبيته على أي حال.
فابتسم راغب بفرح بينما تفحصها عبد الله بقلق حقيقي قبل أن يعاود سؤالها بإشفاق:
_واثقة يا رؤى؟!
دمعت عيناها رغماً عنها وهي تشعر بعظم مسئولية القرار لكنها كانت سعيدة رغم هذا لأنها من ستدير دفة مركبها هذه المرة…
وليس هذا فحسب بل تحظى بدعم أخيها كذلك …لهذا عضت على شفتها بانفعال قبل أن تومئ برأسها هامسة بنبرة مؤكدة:
_واثقة يا أخي.
تنهد عبد الله في استسلام ثم ربت على كتفها موافقاً مع همسه الحاني في أذنها بخفوت وكأنه يعتذر عما سبق من طول غفلته عنها:
_لن أفوّت يوماً دون زيارتك كي أطمئن عليكِ.
دمعت عيناها بتأثر وهي تمنحه نظرة متسامحة قابلها بفيض نظراته الحنون قبل أن يلتفت لراغب قائلاً برفق:
_اعتنِ بها.
_في عينيّ يا شيخ!
قالها راغب بصدق فغادرهما عبد الله بعدما رمقها بنظرة عطوف أخيرة…
ولم يكد راغب يغلق الباب خلفه حتى اندفع نحوها ليجلس جوارها مطوقاً إياها بذراعيه قبل أن يهمس باشتياق:
_أخيراً انفردتُ بكِ.
ابتسمت ابتسامة شاحبة وهي ترفع عينيها إليه عندما أردف هو بانطلاق يناقض تماماً تحفظه السابق معها:
_كنت على وشك أن أطرد الجميع وأكتب على الغرفة “ممنوع الزيارة”…لكن لا بأس…اليوم تعودين لبيتي ولن أسمح أن يراكِ أحدٌ غيري .
اتسعت ابتسامتها الشاحبة وهي تحاول تجاهل تلميحه العاطفي لتهمس بنبرة غريبة:
_أمي أتعبت نفسها كثيراً عندما أصرت على زيارتي صباح اليوم.
لكنه رفع ذقنها إليه محتضناً ملامحها بعينين عاشقتين حد الثمالة…
ثم همس بمواربة:
_تحبك!
ازدردت ريقها بتوتر وهي تسبل جفنيها مدركةً مقصده الحقيقي بعبارته…
قبل أن يردف هو بحرارة :
_تحبكِ جداً…جداً يا رؤى!
قالها وهو يميل بشفتيه على وجهها فتوقعت أن يقصد شفتيها لكن غايته كانت هناك…
على شق ذقنها الساحر الذي استقرت عليه شفتاه بشغف حار مع همسه المدلل:
_ومن لا يحب “ست الحسن” صاحبة “طابع الحسن”؟!!
احمرت وجنتاها بانفعال خجول وهي تسمعه يغازلها صراحةً لأول مرة…
بينما ابتعد هو بوجهه أخيراً مكتفياً بملامسة ذقنها بإبهامه لينفجر سيل كلماته العاطفي الذي طالما حجزه خلف سدود كتمانه :
_وكأنما خُلقتِ هكذا ليعشقكِ كل البشر…أنتِ امرأةٌ خُلقت من حب…بل خُلقت للحب!
ارتجف جسدها تأثراً وهي تشعر بكلماته تسحبها بعيداً عن التيار الذي تريد أن تسبح فيه…
نعم…بعد طول تفكيرها في الأيام السابقة كانت قد وصلت لقرار أخير…
قرار يحاربه هو الآن بفيض عاطفته التي يشهد الله كم تحتاجها حقاً لكنها…لن تقبلها!!!
لهذا استجمعت كل قوتها لتعاود تجاهل عبارته وهي تقول مغيرة الموضوع:
_هل سمعت عبد الله وهو يقول أنه فخورٌ بي؟!لقد تغير كثيراً.
وكأنما أدرك محاولتها البائسة للفرار من حصار عاطفته وهو ما لن يسمح به على أي حال…
لهذا عاد يطوف بشفتيه على وجهها كله وهو يضمها إليه أكثر هامساً بين قبلاته:
_كلنا محظوظون بكِ يا “ست الحسن”!!
لكنها دفعته برفق متشبثةً بما انتوته لتهمس بمرح مصطنع يداري مشاعرها:
_أنت تدعوني “ست الحسن” وعبد الله يدعوني “ست البنات”؟!!ستصيبونني بالغرور!!
فضحك ضحكة قصيرة وهو يسند ذقنه على رأسها المزروع بين ضلوعه هامساً بنبرة رخيمة غادرتها خشونته المعتادة أخيراً:
_يحقّ لكِ الغرور كله…
ثم احتضن وجهها براحته ليرفعه نحوه من جديد مردفاً:
_والدلال كله…
فخفق قلبها بعنف تأثره وهو يقترب منها أكثر لينهي عبارته بين شفتيها:
_والعشق كله!!
أغمضت عينيها باستسلام مستجيبة لطوفان إحساسه للحظات بدت لها وكأنها خارج حدود الزمن…
هي التي عاشت عمرها كله تقريباً تفتقد للعاطفة حتى زلت قدماها في بئر الخطيئة…
والآن تسطع شمسها في سمائها لتمنحها دفئاًّ ليس كمثله دفء…
فهل من العقل أن تعاود دفن رأسها في رمال مظلمة ؟!!
نعم…للأسف…
هذا هو الحل الوحيد الآن !!!
فالحب يستمد شرعيته في قانون العاشقين طالما كان طرفاه اثنين فحسب…
لكن دخول طرف ثالث فيه يجعله ثالوثاً مدمراً للجميع…
لهذا وجب عليها الانسحاب ليس لأنها الطرف الأضعف…
بل على العكس…لأنها الآن الطرف الأقوى!!!
وبهذا الخاطر الأخير انتزعت نفسها انتزاعاً من جنة عناقه لتبتعد عنه تماماً هذه المرة قبل أن تتنحنح بارتباك هامسة:
_أريد التحدث معك بشأن مهم!
فابتسم بحنان وهو يحتضن كفها براحتيه هامساً:
_ولماذا تتعجلين الحديث هنا؟!!انتظري حتى نعود لبيتنا…أمامنا العمر كله!!
لكنها ابتسمت بسخرية مرددة كلمته:
_العمر كله؟!
انعقد حاجباه بقلق وهو يتفحص ملامحها متسائلاً :
_ما الأمر يا رؤى؟!
تأوهت بخفوت ثم رفعت إليه عينين ثابتتين مع سؤالها مباشرة:
_هل رأيت عزة بعد الحادث؟!
_عزة!!!
همس بها بتشتت وكأنه لم يدرك إلا الآن مأزقهم الحالي…!!!
لكنها أساءت فهم لهجته مع ما تعرفه عن طبيعته المتشككة فهتفت مدافعة:
_لا تقل إنك أسأتَ إليها…هي لم يكن لها ذنب في ما فعله ذاك الوغد…أنا شاهدة أنها…
قطع عبارتها هاتفاً بضيق:
_لا داعي لكل هذا…أنا لم أرَها أصلاً منذ يوم الحادث…ألم تلاحظي أنني لم أترككِ طوال هذه الأيام؟!!
اتسعت عيناها بدهشة للحظة قبل أن تستوعب الوضع كاملاً لتهمس بذهول :
_لم تذهب إليها منذ ذاك اليوم؟!!
زفر بقوة وهو يشيح بوجهه لوقت قصير قبل أن يعاود التفاته نحوها هامساً :
_ولو كانت الشمس طلعت من مغربها ما كنت لأترككِ وحدكِ ثانية واحدة !!
هل ظن أنه بهذا أسعدها؟!!
على العكس…لقد صعّب الأمر عليها أكثر!!!
لهذا أغمضت عينيها بألم ثم همست بيأس:
_هذا ما كنت أريد التحدث معك بشأنه…وضعنا هكذا سيظلمنا جميعاً.
انعقد حاجباه بضيق وهو يقترب منها ضاغطاً كفها بقوة أكثر مع كلماته المنفعلة:
_ماذا تعنين؟!!ألم تخبري أخاكِ لتوكِ أنكِ ستبقين معي؟!!
ففتحت عينيها ببطء وهي تحاول سحب كفها منه لكنه تشبث به أكثر …ما جعلها تهتف بانفعال مماثل:
_قلت له أننا سنتفق على قرار أولاً .
أججت كلماتها حرائق خوفه فهز رأسه بعنف وهو يهتف بثورة عارمة:
_لو تصورتِ للحظة أنني سأسمح بفقدكِ بعد كل هذا الرعب الذي عشته طوال الأيام السابقة فأنتِ واهمة!!
تساقطت دموعها رغماً عنها وهي تهمس بعجز:
_لن أحتمل أن تشاركني فيك أخرى!!لن أحتمل!!
قالتها ثم انخرطت بعدها في بكاء عنيف فزفر زفرة مشتعلة…
ثم ضمها إليه بقوة وقد لانت نبرته نوعاً مع همسه الذائب بوجده:
_هل تعلمين كم ليلة عشتها قبل زواجنا أحلم بكِ؟!!كم ليلة عشتها بعد زواجنا أشتهيكِ؟!!كنت أموت في اليوم ألف مرة وأنتِ أمامي…حليلتي… ولا أستطيع أن أمَسَّكِ…بل لا أستطيع حتى أن أعترف لكِ بمشاعري…حتى عندما قررت أن طلاقنا هو الحل الأسلم كنت أشعر أنني سأنتزع من روحي من جسدي لو فعلتها…ومع هذا فعلتها لأجلك أنتِ…بل إن زواجي منها نفسه كان أيضاً لأجلك!!
رفعت عينيها إليه بدهشة هامسة:
_لأجلي؟!
فضغطها بين ذراعيه أكثر وقد عاد الغضب يكتسح نبراته:
_نعم لأجلك…أقسم بربي لأجلك…كنت أريدكِ أن تبتعدي عن جحيم شكي مادمت عاجزاً عن إدخالك جنة غرام لم أعرفه لسواكِ…كنت أريدكِ أن تتحري من قيدي..أن ت?
_زهرة!!
هتفت بها مريم بدهشة وهي تميز كيان الفتاة الضئيل أمام باب شقتها الصغيرة فابتسمت زهرة بخجل مع غمغمتها المرتبكة:
_آسفة لتطفلي عليكِ…لكن هاتفكِ مغلق ولم تعودي تظهرين في المطعم.
ابتسمت مريم بحنان وهي تجذبها من ذراعها لتدخلها الشقة هاتفة بترحاب:
_أهلاً بكِ حبيبتي…من الجيد أنكِ تذكرتِ العنوان .
ثم أردفت ببعض الأسى:
_صحتي لم تكن على ما يرام طيلة الأيام السابقة.
رمقتها زهرة بنظرة مشفقة مع تساؤلها الجزع:
_ماذا كان بكِ؟!
لكن مريم أجلستها على الأريكة لتجلس جوارها وقد عاد لصوتها مرحه مع إجابتها:
_لا تقلقي …مجرد دوار مع انخفاض لضغط الدم.
ثم ربتت على كفها لتردف باهتمام :
_دعكِ مني وأخبريني كيف حالكِ أنتِ…افتقدتكِ جداً!!
ابتسمت زهرة بمودة وهي تنطلق معها في الحديث كعادتها لوقت طويل ساردة لها بعض مشاكل العمل حتى انتهى حديثها ب”جهاد ” كما صارت عادتها مؤخراً فضحكت مريم بانطلاق مع كلماتها:
_يا إلهي!!!!جهاد ثانيةً؟!!!هذا الرجل سيذهب عقلك يا فتاة!
اتسعت ابتسامة زهرة الخجول مع همسها:
_عقلي وقلبي معاً لو أردتِ الحق.
ثم رفعت إليها عينيها بسؤالها المتردد:
_هل تظنينني مهووسةً به حقاً كما يزعمون أم أنني طبيعية؟!!هل جربتِ الحب يوماً يا مريم؟!
تلاشت الابتسامة تدريجياً من على شفتي مريم التي تجمدت ملامحها بشرود قصير قبل أن تتنهد بحرارة مع إجابتها:
_لا أظن أحداً ذاق حلاوة الحب كما ذقتها.
تألق الفضول بعيني زهرة المتفحصتين بينما استطردت مريم بأسى:
_ولا تجرع مرارته كما فعلت.
تأملتها زهرة بنظرة مشفقة أخرى ثم سألتها بتردد:
_كان زوجك؟!
دمعت عينا مريم مع إجابتها بابتسامة شاحبة:
_كلاهما كان زوجي!!
_كلاهما؟!!
هتفت بها زهرة مصدومة فأومأت مريم برأسها إيجاباً مع قولها الشارد:
_يزعمون أن القلب لا يعرف الحب إلا مرة واحدة…لكنني عرفته مرتين…بأشد ما يكون…وألذ ما يكون…وأمرّ ما يكون!
ربتت زهرة على كفها بمؤازرة مع تساؤلها الفضولي:
_هل كانا يشبهان بعضهما إلى هذه الدرجة؟!!
فضحكت مريم ضحكة مختنقة مع إجابتها التي عاد إليها شرودها:
_على العكس…الفارق بين شخصيتهما كالفارق بين المشرق والمغرب…أحدهما كان محارباً لم يترك سيفه حتى كُسر في يده وهو يدافع عني…والآخر كان عاشقاً حد الخوف عليّ من خدش النسيم لهذا فضّل الاختفاء بي خلف ستار.
ثم التفتت نحوها لتسألها بابتسامة حملت بعض مرارتها:
_برأيك من منهما أحبني أكثر؟!!
صمتت زهرة للحظات بحيرة تفكر قبل أن تغمغم بتردد:
_لا أستطيع المقارنة…كلٌ منهما أحبكِ بطريقته!
هنا زفرت مريم بحرارة ثم هزت رأسها لتقول موافقة:
_معكِ حق…كلٌ يعشق بطريقته…
ثم أردفت بلهجة حاولت صبغها ببعض المرح:
_حتى لا تظني بي سوءاً وتتهمينني بتعدد الأزواج…الأول سبقنا إلى دار الخلد…رحمه الله من بلاء هذه الدنيا.
شهقت زهرة بارتياع وهي تضع كفها على شفتيها فأشاحت مريم بوجهها مخفيةً دموع تأثرها…
لكن زهرة عادت تسألها بجزع:
_والثاني؟!!
تنهدت مريم من جديد لتتمتم بخفوت:
_الثاني يظنني أنا الميتة!!
_ماذا؟!!
هتفت بها زهرة التي لم تتبين عبارتها جيداً فالتفتت نحوها مريم لتقول بابتسامة مزيفة:
_الثاني بخير…عسى الله أن يحفظه أينما كان.
تفحصت زهرة ملامحها باهتمام لتعاود سؤالها بفضول:
_ولماذا إذن تركتِه؟!
فتنهدت مريم بحرارة قبل أن تهمس بشرود:
_تركته…ولم أتركه!!
ثم تحسست بطنها لتردف بعاطفة حارة:
_ليس أحبّ على قلب امرأة عاشقة من طفل تنتظره من رجلها…هو قطعة منه تكبر بداخلها يوماً بعد يوم!!!
رمقتها زهرة بنظرة حائرة وهي تحاول تبين بروز بطنها الذي لا يزال بسيطاً واشياً بشهور حملٍ أولى…
ثم ضحكت ضحكة بريئة مع قولها بعينين لامعتين:
_هل هذا ما كنتِ تعنينه بقولك أنك تقيمين مع طفلك؟!!يا إلهي!!!سنحظى بطفل قريباً؟!!
قالتها وهي تصفق بكفيها بمرح طفولي فضحكت مريم بدورها …
عندما انطلق فجأة صوت زقزقة قريبة…
فقامت زهرة فجأة من مكانها لتهتف وهي تمد رأسها نحو الشرفة :
_مريم…هل تملكين عصافير هنا؟!
أومأت مريم برأسها ثم تأوهت بخفوت وهي تقوم واضعةً يدها على بطنها لتقول بمرح خالطه بعض الشجن:
_تعاليْ أعرفك إلى صديقيّ!!
ثم جذبتها من كفها نحو الشرفة التي احتوت قفصاً صغيراً في منتصفها وبداخله كان عصفوران رائعا الجمال أحدهما أصفر اللون والآخر أزرق…
تأملتهما زهرة بانبهار طفولي للحظات قبل أن تمد إصبعها لهما مداعبةً مع قولها بسعادة:
_أهلاً…أهلاً بالقمريْن!
فابتسمت مريم بحنان وهي تتقدم نحو العصفورين لتقول وكأنها تعقد تعارفاً حقيقياً بينهما ملوحةً بكفها نحوهما:
_زهرة…فهد و جنة!
_فهد و جنة؟!!غريب!!!
غمغمت بها زهرة ببعض الدهشة قبل أن تسأل مريم :
_أنتِ اخترتِ لهما هذين الاسمين؟!
أشعت العاطفة من عيني مريم وهي تراقب عصفوريها بشجن هامسة:
_نعم…وأقسمتُ لنفسي ألا أفرقهما …ولا أفترق عنهما أبداً.
تفحصتها زهرة بفضول مشوب بإشفاقها وقد شعرت بحدسها أنها تخفي الكثير الذي لن تحب البوح به الآن…لهذا احترمت رغبتها هذه…
ومع هذا لم تقاوم سؤالها بتردد:
_مريم…هل يمكن أن تفكري يوماً في العودة لزوجك؟!
فتبدلت نظرات مريم ليحل الحزم محل العاطفة في قولها:
_سأعود…حتماً سأعود…لكن ليس وحدي…
ثم أردفت وهي تتلمس بطنها برفق:
_لن أعود إلا وابني معي.
========
_أنا سأعهد إليكِ بإدارة المشغل في غيابي.
قالتها ماسة لإحدى العاملات التي توسمت فيها الأمانة والقدرة فهتفت المرأة بدهشة:
_هل ستتركيننا يا سيدتي؟!
دارت ماسة بعينيها في المكان بتأثر انحفرت سيماه على ملامحها قبل أن تجيب بخفوت:
_نعم.
شهقت المرأة بجزع وقد ظهر الفضول في ملامحها لكن ماسة أردفت باقتضاب:
_رحيلي لا يعني أن ينقطع سيل الخير الذي كان هنا…سيستمر العمل كما لو كنت موجودة تماماً…وقائمة المستحقين للمساعدات لديكِ في مكتبي…
ثم تهدج صوتها رغماً عنها وهي تكمل:
_لو احتجتِ شيئاً فاطلبيه مباشرةً من السيد عاصي…هو سيحرص أن يستمر العمل هنا بأفضل صورة.
قالتها وهي حقاً تعنيها…
نعم…برغم قوة شعورها بخذلانه لها لكنها توقن أنه سيرعى بذرة الخير التي تركتها هنا بعد رحيلها…
رحيلها؟!!
تراه سيسمح برحيلها عن المدينة بهذه البساطة؟!!
فليسمح …أو لا يسمح!!!
هي ستفعلها على أي حال …
هي ما عادت “ماسة اللقيطة” التي تتقاذفها أيدي الظروف …
هي الآن “ماسة جاسم الصاوي” التي ستنتزع حقها من براثن الطغيان مهما كان صاحبه!!!
لهذا أخذت نفساً عميقاً ثم صرفت المرأة بعد وداع قصير…
قبل أن تتوجه نحو غرفتها الصغيرة هناك حيث وقفت تجمع بعض مشغولاتها المميزة التي كانت تعتز بها…
لتتوقف عيناها على قطعتين بالذات…
إحداهما كانت قفازاً يدوياً صنعته يوماً له لكنها عجزت أن تمنحه إياه…
تماماً كما عجزت طوال هذه الفترة عن أن تنطق له بكلمة حب واحدة رغم أن قلبها يكاد يصرخ بها في كل وقت…
ورغم أن هذا كان يثير دهشتها أحياناً بل وربما…استياءها!
لكنها اليوم تحمد لنفسها هذا الفعل…
ما جدوى الاعتراف بحبٍ خاسر؟!!
نعم…ليس أسوأ من حب “ضعيف” سوى حب بلا حصاد…
أصفاره كلها في خانة اليسار تنعي هزيمتها!
لهذا تنهدت بحرارة وهي تدس القفاز أخيراً في حقيبة يدها تخفيه بين محتوياتها وكأنها تدفن عزيزاً رحل دونما وداع!!
قبل أن تعاود أناملها التقاط القطعة الأخرى والتي كانت ثوباً قصيراً لرضيع بلونٍ رمادي ،وله غطاء رأس من نفس اللون لكنه مزينٌ بزهور وردية صغيرة مع حبيبات من اللؤلؤ الأبيض…
ضمته لصدرها بقوة مقاومةً دموعها بصعوبة وهي ترفع عينيها لأعلى وكأنما تستجدي السماء فرجاً قريباً…
قبل أن تهمس لنفسها بثقة:
_يوماً ما ستتحقق كل الأحلام.
لم تكد تنتهي من عبارتها حتى شعرت به يدخل إلى الغرفة صافقاً بابها خلفه بعنف!
اضطربت خفقات قلبها رغماً عنها لهذا تحاشت النظر إليه تماماً وهي تعاود انشغالها بجمع حاجياتها …
لكنها قالت ببرود أجاد وأد انفعالاتها :
_من الجيد أنك أتيتَ الآن.
استمر في تقدمه البطئ نحوها لكنها تجنبت لقاء عينيه باستماتة وهي تردف بنفس النبرة المحايدة:
_أتمنى أن يبقى هذا المكان بعد رحيلي لخدمة من يحتاجه…أنا أوكلت إدارته ل(……)هي أفضل من سيقوم بهذا.
لم يصلها منه رد وكأنه يتعمد استفزازها بصمته لترفع عينيها إليه…
لكنها كانت حريصة على ألا تفعل!!!
فقط أكملت حديثها الذي اكتسب بعض الحزم هذه المرة:
_أنا راحلةٌ إلى العاصمة مع فهد …ليتك تعيد النظر بشأن الطلاق لأنني لا أريد أي مشاكل.
كان قد اقترب منها تماماً في هذه اللحظة حتى كاد يلاصقها…
فارتجف جسدها تأثراً بهذه الهالة التي تخصه وحده…
هذا الإحساس الدافئ الذي يحتل خلاياها ب”شفرة سرية” لا يجيد قراءتها غيره…
هذا الشوق الذي يبدو وكأنه لا ينتهي حتى وهي بين ذراعيه…
وكأنما حاجتها إليه أبدية سرمدية …لن تنفد يوماً مهما ظنت العكس!!!
يالعذابي بك يا سيد “الأضداد”!!
ما حيلتي فيك و”بعضك” يناقض “بعضك” ؟!!
و”بعضك” يحارب “بعضك”
و”بعضك”يقتل “بعضك”
فكيف أعشقك “كلّك”؟!!
حبي غريبٌ على أرض يسميها قلبي “الوطن” ويحسها عقلي “منفى”…
نبضي حائرٌ بين “اشتعال” جوارحي بك و”اختناق” حلمي فيك…
أمانٌ “كاذبٌ “كان يلون أيامي معك …لكنه “رحيم”..
فهل أفضله على” قسوة يقيني “بوجوب الفراق؟!!
يا سيد “الأضداد” لا تقف بي في منتصف الطريق…
فليس أقسى من “سواد”الجرح إلا “رمادية”الأوهام!!!
يمناك تحمل رايةً بيضاء تجذب حمائم قلبي لتحط رحالها لديك…
لكن يسراك لازالت تفخر بسيف قسوتها …
فكم أخاف من سيفك على حماماتي!!
يا سيد “الأضداد”كن “لي”أو “لاتكن”…
لكن- بربك- لا تكن كالطيف يلون حياتي ولا يسعني لمسه…
لا تكن كالنار بين يدي ضرير…لن يفيده نورها مهما اقترب….
ولن يسعه دفؤها لو ابتعد!!!
أرني موضعي في قلبك لعلّي أستريح…
أرني مدينتي على خرائط قلبك …حتى ولو لم أسكنها…
أشرْ لي على نجم في سمائك قد حمل يوماً اسمي… حتى ولو احترق!!!
لكن لا تذرني هكذا في حيرتي أتساءل…
هل كنتُ لديك يوماً أكثر من عابرة سبيل؟!!
ليلةٌ واحدة مضت على فراقنا الذي أتنبأ له بطول عمر…
ليلة واحدة!!!
كانت وحدها تكفي لتجف كل ينابيع فرحي…
فياويلتي من شبيهات الليالي!!!
ماسةٌ تبرق بروحك يكاد بريقها يغشي عيني…
لكن مخالب شيطانك لازالت تخدش جدران روحي تمنعني الاقتراب…
فما حيلتي بين ماسة و شيطان؟!!
كانت هذه زفرات روحها الحارة التي كادت تذيبها ألماً…
لكنها أبت أن يبدو منها شئٌ على ملامحها التي تجمدت على ياقة قميصه…
حيث تعلقت عيناها هناك رافضةً أن تتجاوزها لعينيه…
فما أغناها الآن عن التيه في غابات زيتون لن تحفظ طرقاتها يوماً مهما حاولت!!!
لهذا ازدردت ريقها الجاف بصعوبة وصمته المظلم يحرقها ترقباً ولهفة…
وربما…اشتياقاً!!!
ثم أغمضت عينيها معاودة حديثها “أحاديّ الطرف حتى الآن” :
_لماذا أتيت؟!
_سترحلين…لكن ستعودين!
وأخيراً نطق!!!
وبأي لهجة نطق؟!!
لا…لم تكن مسيطرةً متعجرفة كما اعتاد…
ولا راجية نادمة كما يُفترَض…
بل بدت وكأنها نبوءة!!!
نعم…نبوءة روح تصطلي بنيران جحيمها وتحلم بالخلاص!!!
الخلاص الذي لن يكون إلا بها…ولها!!!
لهذا اختنقت أنفاسها في صدرها الذي كان يعلو ويهبط في انفعال ما عادت قادرة على كتمانه أكثر فهتفت ولازالت تسجن مشاعرها خلف عينيها المغمضتين:
_لن أعود…لقد انتهى ما بيننا…انت…
انقطعت عبارتها بين شفتيه عندما وجدت نفسها فجأة أسيرة ذراعيه …
بل أسيرة عاطفته التي طوقتها بجنون لم تعرفه قبل هذه المرة!!
جنونٍ قاومته هي أولاً بكل قوتها قبل أن تستسلم له بجنونٍ مشابه!!!
دقائق عاصفة مرت بكليهما ساخنة حد الاشتعال قبل أن تلتقي عيناهما أخيراً ليهمس هو بنبرة ساخرة وسط أنفاسه اللاهثة:
_انتهى؟!!
استفزتها لهجته الواثقة وهي تشعر بها تهدم كل حصون مقاومتها فانفرجت شفتاها تهمان برد غاضب…
لكنه بادرها بلقاء شفتيه -القصير- هذه المرة قبل أن يبتعد بوجهه ليعتقل نظراتها باقتدار مردفاً:
_لا تتعبي نفسك في حديث كاذب…أنا أجيد انتزاع ما يروقني من أفكارك.
هنا اشتعلت عيناها بالغضب وهي تبتعد عنه بجسدها هاتفةً وهي تشير بقبضتها على صدرها:
_أنا دهستُ حب سنوات تحت قدميّ لأجل إكرام امرأة ذات فضل عليّ…أفلا أفعلها الآن بعلاقة لم تتجاوز بضعة شهور ولأجل نفسي هذه المرة؟!!
فانعقد حاجباه بغضب مماثل وهو يلوح بسبابته في وجهها هاتفاً بشراسة:
_لا مجال للمقارنة…وأنتِ تعلمين!!
لكنها ابتسمت بسخرية مريرة مع هتافها:
_ومن الذي سيقف ليقارن؟!!أنا امرأةٌ طالما اختارت السير للأمام فلن تنظر للخلف بعد!!
قبض أنامله جواره بقوة للحظات أغمض فيها عينيه محاولاً كتم انفعاله الذي خرج في تنهيدة حارة…
قبل أن يعاود فتحهما وهو يحتضن كتفيها بأنامله هامساً بصوت مشبع بتعب حقيقي:
_لولا خوفي عليكِ من الخطر هنا لما تركتكِ ترحلين.
امتلأت عيناها بدموع أبت أن تسقط أمامه وهي تستشعر الضعف الكامن في روحه بهذا الوضوح لأول مرة…
عاصي متعبٌ حقاً…
ملامحه ذائبة في أنين صامت يسمعه قلبها بوضوح…
هل تصف نفسها بالغرور لو ظنت أن عذابه بفقدها عقابٌ له على ما كان من زلاته؟!!!
أم أنها لم ترتقِ بعد لمنزلة أكبر من مجرد “حالة تقمص” عاشها قبل أن يغلب طبعه تطبّعه؟!!!
هل تصدق قلبها في شعوره بأنها امرأته الأولى والأخيرة…
بأنها “شمسه” الاستثنائية وسط ظلام طغيانه؟!!
أم تصدق كل القرائن على أنها عنده ك-سواها- وأنه لن يتأثر بفقدها مثقال ذرة!!!
لا!!!
لن يمكنها غض الطرف عن كل هذا الألم المستعر بحدقتيه وكأنه سيضيع روحه لو ضيعها!!!
يالله!!!
هل أقسى على القلب من أن يعذب بحاله وحال معشوقه معا؟!!
بينما فاضت عيناه بعاطفة هادرة وهو يتشبث بنظراتها النقية مردفاً بنبرة مرتعشة:
_عديني لو أصابني مكروه أن تعتني بابني!
انقبض قلبها لهذا الخاطر لكنها ابتلعت غصة حلقها لتهمس بابتسامة ساخرة:
_وما شأني أنا؟!!فلتعتنِ به أمه.
فاقترب منها خطوة أخرى ليهمس بحزم:
_عديني يا ماسة!
_لا!
هتفت بها قاطعة كالسيف في وجهه قبل أن تردف بنبرتها القوية:
_من اليوم لن أحيا إلا لأجل ماسة فحسب…ماسة ستعيش…ستفرح…ستصعد سلم أمنياتها درجة درجة…..ستجني حصاد صبرها الطويل…ماسة لن تسدد حسابات غيرها ولن تغوص بقدميها في وحل ماضٍ لا ذنب لها فيه.
أغمض عينيه بألم كاتماً آهة كادت تخونه…
وكأنما كانت تغرس مع كل كلمة نطقتها خنجراً في صدره لن يخرج إلا بخروج روحه…
بينما أكملت هي سيلها الثائر باندفاع:
_عن أي ابن تتحدث؟!!لازلت مغروراً متجبراً تظن الكون يمشي وفق حسابات عاصي الرفاعي؟!!لازلت غافلاً عن رسائل القدر لك ؟!!استيقظ من أوهامك هذه التي ستفقدك كل شئ…حتى لو تزوجت تلك المرأة كما خططت فهل تضمن أن تنجب لك الولد الذي تريد؟!!
قالتها ثم اندفعت لتغادر المكان قبل أن تغلبها دموعها من جديد…
لكنها ما كادت تتحرك بضع خطوات حتى شعرت به يسحبها من ذراعها نحو صدره ليطوقها بذراعيه من جديد…
لا…لم يكن عناقاً عادياً هذه المرة…
لقد شعرت وكأنه يحتجزها بين ضلوعه نفسها…
وكأنه جعل لها من روحه بُسطا وسقفاً !!
بل إنها لا تبالغ لو قالت أنها شعرت في هذه اللحظة أن خلاياهما قد انصهرت تماماً معاً لتشكل كياناً واحداً لا يتجزأ…
نعم…مع كل ما مر بهما معاً من أيام…
كانت هذه أصدق لحظة عاشتها معه …
وكأنه ادخر عناقاً كهذا ليليق بوداعهما الآن!!
لهذا لم تتعجب حرارة أنفاسه التي لفحتها وهو يهمس جوار أذنها:
_لا تملئي قلبك حقداً عليّ…دعيه لإحساسه.
رفعت إليه عينيها ببطء تتشبث بخيوطه الزيتونية التي اكتست الآن بألم خالص لانت معه لهجتها رغماً عنها وهي تهمس أخيراً:
_لو كنت طلبت حياتي نفسها لما ترددت في افتدائك بها…لكن كرامتي لن تكون يوماً قرباناً لشيطانك!
لكنه زفر زفرة حارة وهو يبعدها عنه بإرادته هذه المرة مردفاً بنبرة مختنقة :
_عندما تقترب النهاية فلا جدوى من الندم على سوء اختيار البدايات.
غص حلقها بمرارة قوية وقد غلب خوفها عليه أي شعور آخر الآن…
لم تعد تدري ماذا يمكنها فعله مع هذا الرجل…
كيف تجذبه قهراً من بحر رماله المتحركة الذي يوشك على ابتلاع كيانه كاملاً…؟!!!
لهذا رفعت كفيها باستسلام تنظر إليهما بعجز قبل أن تتأوه بصوت عال…
ثم أطرقت برأسها وهي تعاود طريقها إلى الباب الذي فتحته بقوة وهي تأخذ نفساً عميقاً وكأنها تستقبل منذ هذه اللحظة حياة جديدة ستختلف حتماً عن حياتها السابقة…
قبل أن تلتفت برأسها إليه قائلةً بصوت منهَك:
_اعتنِ بنفسك كما سأعتني أنا بنفسي.
لكنه أعطاها ظهره مقاوماً رغبته العنيفة الآن في احتجازها قسراً لتصله عبارتها الأخيرة:
_وداعاً…”سيد” عاصي!
===========
_للأسف…وضعها سيئٌ تماماً.
غمغم بها الطبيب بارتباك وهو يرمق حسام بنظرة مشفقة…
قبل أن يتنحنح بحرج مع استطراده:
_نوبة الصرع تسببت في سقوطها مباشرةً لتصطدم عينها بالمقبض المعدني للدرج…لقد نجحنا بصعوبة في إيقاف نزيف العين….لا أريد أن أدخلك في تفاصيل طبية دقيقة لكنها للأسف…فقدت عينها اليمنى تماماً.
انقبض قلبه بمرارته وهو يغمض عينيه محاولاً تجاوز ذكرى ذاك الموقف عندما عاد للمنزل بعدها ليجد عينها تنزف بغزارة وهي تتخبط في مشيتها تصرخ بجنون ولا تعي ما حدث بالضبط…
لكن الطبيب جذبه عنوة من قسوة أفكاره وهو يقول بإشفاق:
_أظن أنه بإمكانها استخدام نوع من العدسات اللاصقة بعد فترة علاج مناسبة لأجل المظهر فحسب…لكن العين نفسها…
قطع عبارته مشفقاً من إكمالها …ففتح حسام عينيه ببطء وهو يومئ برأسه موافقاً قبل أن يقوم من مكانه ليغادر غرفة الطبيب متوجها نحو غرفتها في المشفى بخطوات متثاقلة …
ليتوقف أمام الغرفة بعجز وقد أبت قدماه التقدم أكثر كعهده كل يوم منذ ذاك الحادث…
نعم…لم يستطع مواجهتها بعدما كان…
لم يستطع رؤية شبح ذنبه -الجديد- على وجهها…
لقد ظن أنه ذاق أسوأ عذاباته عندما حمل وزر “طيف” على ظهره…
لكن وزر “دعاء” هذه المرة قصم ظهره بحق!!!
ربما لأن طيف قد حمل لها الموت راحةً من كل عناء هذه الحياة بأسرها…
لكن دعاء ستعيش ب”عاهتها” ما تبقى لها من عمرها!!!!
فكيف يمكنه تحملّ هذا الذنب؟!!
لهذا قبض أنامل كفيه جواره وهو يسند جبينه على الباب المغلق بيأس لم يعرفه في نفسه من قبل…
حتى عاد يبتعد عن الباب المغلق مكتفياً بالجلوس على المقعد أمامه وهو يطرق برأسه في خزي مذنبٍ يعلم أنه سيحترق بذنبه طوال حياته…
لكن الباب المغلق فتح أخيراً لتخرج منه والدته التي رمقته بنظرة عتاب طويلة أفلت منها بعينيه وهو يشيح بوجهه…
بينما تقدمت هي نحوه لتجلس جواره هامسةً ببعض الإشفاق:
_عاجزٌ عن الدخول إليها ككل يوم؟!
ظل مشيحاً بوجهه دون رد…
فتنهدت والدته بحرارة ثم ربتت على كفه لتهمس بأسى:
_هي التي طلبت رؤيتك هذه المرة.
التفت نحوها بحدة لتلمح هذا الدمع المتجمد في عينيه مع همسه المنفعل:
_هي طلبت ذلك؟!
دمعت عيناها بحزن لألم وحيدها الذي تدرك عِظمه وشدته مهما واراه خلف جموده…
لهذا عاودت تربيتها على كفه وهي تهمس بصوت متحشرج:
_نعم…وأقسمت عليّ أن أجعلك تدخل.
حاول ازدراد ريقه الجاف بصعوبة وهو يدرك اقتراب المواجهة التي جبن عنها منذ الحادث…
لكنه لم يجد بداً من النهوض ليتوجه نحو الغرفة بخطوات مترددة…
هل هناك أقسى من أن يواجه المرء ذنباً كهذا وجهاً لوجه؟!!
أن يرى صنيعة يده بامرأة كان وجهها يوماً قطعةً من القمر والآن صار مشوهاً؟!!
طالما أخبرها أن عينيها بفضائهما الواسع العريض – أجمل- ما في ملامحها…
بحلمهما المنطلق دون قيود في مقلتين متألقتين -كالماس- بالمرح رغم الألم…
وطالما أخبرته هي أن قسوته وغروره- أسوأ- ما في طباعه…
بقدرتهما على طمس ملامح انسانيته وقتما يتحكم بهما شيطانه…
فهل هذه نتيجة الصراع بين ماستها وشيطانه؟!!
رفعت وجهها إليه بعينها السليمة والأخرى التي أحاطتها ضمادةٌ كبيرة التفت حول رأسها كله…
لتقول بثبات لم يتوقعه:
_تعال يا حسام وأغلق الباب خلفك.
أغلق باب الغرفة برفق وهو يتقدم ليجلس جوارها على طرف الفراش محاولاً البحث عن طرف خيط يبدأ به حديثه…
نفسه تراوده باعتذار…
بل بألف اعتذار…
لكنه لن يفعلها…
ليس أنفةً ولا كبراً…بل استهانة!!!
ما الذي سيجديه اعتذاره الآن لها ؟!!
لو عاش عمره كله يقولها بعدد خفقاته لما عوضها عن مصابها شيئاً!!!!
_أنا آسفة!
كانت منها هي للعجب!!!
لهذا رفع إليها وجهه بحدة دون أن يجد القدرة على النطق ولو بطلب تفسير…
لكنها أردفت بنفس الثبات:
_آسفة لو كانت كلماتي جرحتك تلك الليلة…وآسفة على شعور الذنب الذي ستعيش به طوال عمرك بعد اليوم.
اختلجت عضلة فكه كعادته وقد بدا على وجهه انفعالٌ عاصف لم تسعفه كلماته…
بينما استطردت هي بنبرة أكثر خفوتاً:
_وآسفة لنفسي قبلك…لأنني كنت بكل هذا الضعف.
انفرجت شفتاه أخيراً ليهمس بتردد:
_دعاء…أنا…
لكنها قاطعته بقولها الشارد وكأنها لا تراه :
_هل تذكر حلمي الذي رويته لك تلك الليلة؟!!هل تذكر قولي لك بأنني سأكون أفضل؟!!
غص حلقه بمرارته التي أعادته لصمته…
فيما عادت هي تلتفت نحوه لتهمس بحزم مشوب بالرجاء:
_تريد عفوي يا سيادة الرائد؟!
فاضت عيناه بمزيج من ندم وألم وهو يتجاهل سؤالها ليقول بنبرة أرادها حازمة فخرجت رغماً عنه مرتعشة بانفعاله:
_لا تفكري بشئٍ الآن سوى صحتك.
لكنها تجاهلت عبارته لتكرر سؤالها بنبرة أقوى:
_تريد عفوي؟!!
رفع رأسه لأعلى مع آهة انفعال أفلتت من فمه وهو يمرر أنامله بين خصلات شعره …
فأردفت بلهجة ثابتة رغم ما حملته من أسى:
_دميةٌ مزينة للعرض…هكذا كنت أنا بعينيك…ودميةٌ معيبة…هكذا كنت أنا بعيني نفسي…وما بين دمية مزينة ودمية معيبة ضاعت هويتي!
ثم أشارت بكفها على صدرها لتستطرد بقوة تحسد عليها في موقفها هذا:
_ربما كنت أحتاج أن أحب نفسي أكثر…أن أثق بها أكثر…أن أمنحها القوة التي لن يمنحها لي غيري…هل تذكر يوم قلت لك أنك محطتي الأخيرة…اليوم فقط أشعر كم كنت مخطئة…لستَ محطتي الأخيرة يا حسام بل…محطة انطلاق نحو غد تصنعه يدي ولا يختاره لي غيري!!!
خفض بصره نحوها بنظرة حملت مشاعره العاصفة كلها…
فأشارت نحوه بسبابتها لتهمس بتهكم مرير:
_من المؤكد أن الخبر قد انتشر في المدينة كلها…عالمك الذي كنت تزعم أنني خطفت قلوب ساكنيه قبل أبصارهم سيعرف الحقيقة…لن يمكنك التفاخر بي بعد…لم أعد صالحةً لترقيع ثوب شعورك بالنقص..
ثم زفرت زفرة حارقة مع همسها المختنق:
_لم أعد دميتك المزينة!!!
_كفى!
هتف بها بألم بالغ وعبارتها توخز صدره بعذاب لم يذق قبله…
ليردف بانفعال:
_الطبيب يقول أن عدسة لاصقة مع علاج كافٍ ستجعل الأمر غير ملحوظ…ولو تطلب الأمر السفر فلنسافر لآخر العالم بحثاً عن علاج!
فابتسمت بمرارة لتسأله:
_ومرضي الذي لابد قد علم الجميع عنه الآن؟!
أشاح بوجهه دون رد للحظات قبل أن يغمغم بضيق:
_سأطلب نقلي من هنا لمحافظة أخرى لا يعرفنا فيها أحد!
ضحكت ضحكة مختنقة فالتفت نحوها ببعض الدهشة لتهمس بألم:
_كما هربت من العاصمة إلى هنا؟!!إلى متى ستظل تهرب يا حسام؟!!
ولأن عبارتها كانت صادقة لأبعد حد …ومست جرحه لأبعد مدى …فقد انتفض من جوارها ليهتف ملوحاً بكفه:
_ماذا تريدينني أن أفعل؟!هذه طبيعتي التي فطرت عليها ولن أغيرها….أنا اعتدت مكانةً معينة لن أحتمل أن ينتقص منها أحد.
_هذا بالضبط ما أريده …لك ولي.
قالتها باقتضاب واثق فانعقد حاجباه بتساؤل وهو يرمقها بنظرات حذرة…
لتردف هي بنبرة عادت إليها قوتها:
_لثالث مرة أسألك…هل تريد عفوي؟!!
زفر بقوة وهو يعاود الجلوس جوارها صامتاً للحظات…قبل أن يومئ برأسه إيجاباً بحذر دون كلمات منتظراً شروطها الجديدة…
فأخذت نفساً عميقاً ثم هتفت بحزم بدا وكأنه لن يثنيه شئ بعد:
_امنحني حريتي…طلقني يا حسام.
==================
_هل ستفعلها حقاً يا حسام؟!
هتفت بها والدته في استنكار وهي تجذبه من كفه عقب خروجه من غرفتها وقد سمعت حوارهما كله…
فأغلق باب الغرفة خلفه ببعض العنف مع قوله الحاسم:
_نعم.
شهقت بعنف وهي تهز رأسها لتهمس بصوت خافت كي لا يصل لمسامع تلك البائسة بالداخل:
_هل ستتخلى عنها بعد ما حدث؟!
رمقها بنظرة طويلة وقد تجمدت ملامحه تماماً دون رد…
فاستطردت والدته باستنكار أكبر:
_ألن تكف عن أنانيتك؟!!ألن ترى عيناك يوماً أبعد من صورة نفسك؟!!لا أصدق أنك ستنفذ لها طلبها!!
ورغم أن كلماتها كانت من القسوة بمكان…
لكن…هل لجرحٍ بميتٍ وجع؟!!
لهذا لم تتغير ملامحه الجامدة وهو يقول ببرود:
_أنتِ قلتِها بنفسك…طلبها هي!!
اشتعلت ملامحها بغضب هادر ولم تكن كلماتها أقل منها غضباً:
_هل تتغافل أم تتغابى ؟!!أين قلبك؟!!أين ضميرك؟!!!أنت ابني الذي ضاع عمري في تربيته؟!!هل هذا هو حصاد صبري؟!!تظنني فخورة ب”سيادة الرائد” الذي يتجبر على رؤوس الخلائق بسلطان “بدلته الرسمية”؟!!لا وألف لا…أنا أريد حسام ابني الذي سقط مني في جحيم شيطانه.
أغمض عينيه بقوة على نظراته التي غابت عنها الحياة…
فيما استطردت هي :
_لقد صبرت كثيراً على حالك…كنت أقول لنفسي أن صدمتك في ابتلائك كانت كبيرة وتحتاج لوقت كي يمكنك استيعابها…كنت أستبشر بدعاء خيراً وأشعر أنها ستكون ملاكك المنقذ…من ستزيل غشاوة عينيك ليعود لك نور بصيرتك… لكن لو نفذت ما برأسك وطلقتها فسأفقد الأمل فيك للأبد!!!
ظل مغمضاً عينيه للحظات فلانت ملامحها تدريجياً حتى غلبتها عاطفتها الأمومية نحوه…
لتتنهد بحرارة وهي ترفع أناملها لتربت على كتفه…
لكنه انتفض مبتعداً عنها خطوة ليفتح عينيه فجأة مع قوله الأخير بجمود وكأن كل ما قالته لم يحرك فيه شعرة:
_ستبقى معك حتى تتعافى تماماً…وأنا سأبحث عن مكان آخر أقيم فيه.
انعقد حاجباها في عدم فهم وهي ترمقه بنظرة تساؤل خشيت البوح به…
فسار مبتعداً عنها بخطواتٍ ثابتة قبل أن يلتفت نحوها برأسه مردفاً:
_أخبريها أنني سأرسل لها ورقة الطلاق في أقرب وقت.
ثم مضى في طريقه دون انتظار لردها ليغادر المشفى كله…
استقل سيارته بنفس البرود ليتخذ طريقه إلى محل عمله…
ولم يكد يدخل إلى غرفة مكتبه حتى أغلق بابها خلفه بإحكام مصدراً أوامره بألا يدخل عليه أحد…
جلس على أحد الكرسيين أمام مكتبه ليفرد ساقيه على الآخر في مظهر -خادع – بالاسترخاء…
قبل أن يتناول لفافة تبغٍ من علبته التي لم يقربها منذ شهور مرت…
لكنه يشعر بحاجته إليها الآن…
أشعلها ببطء ليأخذ منها نفساً عميقاً ثم عاد ينفثه ببطء مراقباً خيوط الدخان التي تجمعت أمام عينيه لتشكل -بعين خياله- صورةً لكتاب!!!
نعم…كتاب طيف الذي اختطفه منها لأول مرة!!!
لتتوالى بعدها ذكرياته العامرة معها بوهجها ذي الشجن…
ثم ضاقت عيناه بألم عندما تحولت خيوط الدخان نفسها أمام نظراته المشوشة لتمنحه صورة لطفل صغير…
طفل …لن يكون له يوماً!!!
ليختلط هذا كله بصوت يسرا في عبارتها القاتلة:
_لماذا أرضى بنصف رجل!!
قبل أن يدخل صوت دعاء في هذه المعمعة مع عباراتها التي تواترت كالسيل في مخيلته:
_بالأمس انتهكتَ جسدي وروحي وكنت تريد انتهاك غدي كذلك؟!!
_أنت كذاب أناني مخادع!!!
_على الأقل كنت منحتني حق الاختيار!!
_لم أعد دميتك “المزينة”!!!
وعند العبارة الأخيرة تحولت خيوط الدخان بمخيلته لأنشوطة تقترب لتحكم الوثاق حول رقبته….
مذنب!!
مذنب!!
الحكم واضح ولا يحتاج للمزيد من الأدلة …
ولم يبقَ له سوى انتظار العقوبة…
بل أشد عقوبة!!!
اختنق حلقه بغصته وهو يرفع كفه الحر أمام عينيه …
فيُهيّأ إليه أنه ملطخٌ بالدم…
لكن…أي دم؟!!
دم “طيف” التي لايزال يحمل ذنب موتها؟!!!
أم دم “دعاء” التي سيظل يحمل ذنب تدمير حياتها؟!!
ورغماً عنه تخللت كلمات والدته الأخيرة الصورة لتضعه بحق في قلب الصراع…
هل يحتفظ بدعاء في حياته مواجهاً الجميع ب”عيبها”…
بل ب”عيبيهما ” معاً؟!!
أم يلقي كل ما حدث خلف ظهره ليحظى ببداية جديدة تليق ب”صنمه” الذي لن يسمح أن يكسره أحد؟!!
هل يستجيب لنداء انسانيته الذي يدفعه للتشبث بزوجته ومعاونتها لتجاوز أزمتها؟!!
أم يحافظ على حصاد “ميدالياته الذهبية” في سباق نحو لقب “الأفضل”؟!!
ماذا يختار؟!!
ترنيمة سلام يلقي -مع ألحانها الخافتة- رأسه مرتاحاً على وسادته وبحضنه امرأةٌ قلبها كالماس؟!!
أم لحنٌ صاخبٌ ملهبٌ للأسماع يوازي ارتفاعه على منصة طموحه؟!!
ماذا يختار؟!!
وأي كفةٍ يرجح؟!!
ولمن ستكون غلبة الصراع؟!!
_أفق يا حسام من كل هذا العبث!!
قالها لنفسه أخيراً مصدراً الحكم الأخير…
_عالمك ليس مكاناً لهذه المثاليات…أنت تريد امرأة ترتفع معها لسطح تطلعاتك لا مجرد قيدٍ ثقيل مربوط في قدميك يجذبهما للقاع…
ثم التوت شفتاه ب-شبه-ابتسامة مع همسه بصوت مسموع:
_لا يليق بك دور “التضحية” و”البطولة”…أنت احتكرت دور “الشيطان” باقتدار…
ثم أغمض عينيه مردفاً :
_فات أوان الإصلاح يا سيادة الرائد…لقد أحرقت سفنك كاملة…لا رجوع…لا رجوع!!!
وعند خاطرته الأخيرة سال خطان رفيعان من الدموع على وجنتين تشقق من عليهما جدار الكبرياء…
ليفاجأ بنفسه وقد امتدت أنامله بلفافة تبغه المشتعلة لتغرسها بقوة في معصم كفه هذا!!!
كز على أسنانه بقوة كاتماً صرخاته التي اختزلت في أنين ألم…
ألمٌ حارقٌ…
مشبعٌ بخزي…
بعجز…
بلذة!!!
نعم…كان يستشعر -لذة -تطهرٍ خفية جعلته يعاود فعلته عدة مراتٍ بعدها في مواضع متفرقة من جسده…
مرة ….
تلو مرة…
تلو مرة….
لينتهي هذا المشهد المهيب بسقوط رأسه الذي غرق في عرق غزير على سطح مكتبه وسط أنفاس لاهثة..
انتصارٌ آخر للشيطان في هذه الجولة…
فهل ل”الماسة” رأيٌ آخر؟!!
==========================

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى