رواية ماسة وشيطان الفصل السابع والثلاثون 37 بقلم نرمين نحمد الله
رواية ماسة وشيطان البارت السابع والثلاثون
رواية ماسة وشيطان الجزء السابع والثلاثون
رواية ماسة وشيطان الحلقة السابعة والثلاثون
يقولون إن “من في القاع لا يخشى السقوط”…
فما الذي قد تخشاه مثلي ؟!
ناريّة عاصفة متفجرة…
فلا تلمني سيدي…
أنا لست إلا تائهة…
وجدت على جسر كسير طريقها …
فامدد إليّ يدك أو دعني أقع…
فليس أسوأ من الموت إلا انتظار الحياة !
(أحمر…يسرا)
======
أحكمي التصويب فاتنتي …
فالسهم إن لم ينفذ لقلبي رددته إليكِ عشراً!
بيني وبينك ما بين المشرق والمغرب لكن …
منذ متى تعترف جياد الحب بمسافات؟!
(إبراهيم)
=======
لما لقيتك كنت أعلم أن الحب ضعف…
والغدر سيفٌ لا يضل طريقه…
فكيف تحت مقصلة عشقك تركت عنقي يتكسر؟!
وكيف يعتنق الحب من عاش عمراً به يكفر؟!
(برتقالي…طيف)
=======
فليشهد العمر أني ما اخترت الطريق …
وليشهد البحر أني ما اخترت الغرق…
ولتشهدي يا -توأم الروح- أني …
قد عشت -مثلك- بلهيب ماضٍ أحترق…
بالوزر موصوم…فلتغفري ..
لو عصفت الريح فما ذنب الورق؟!
(يحيى)
======
وأقسم أنك بعد العمر عمر …
وبعد الحياة حياة…
لم يزل ما بيننا أسطورة…
معجزة…كفّارة…ونجاة…
نجم بعيدٌ لم ينتظر أمنيتي..
بل سقط في حجري …
ما كان أبعده …والآن…ما أدناه!
(أصفر…رؤى)
======
طالما عشقتها امرأة بنكهة الليمون…
لاذعة…قابضة…لكنها منعشة!
تضرب القلب كإعصار …
ثم تهدهده ..كنسيم …
تجتاحني كالصيف …
تغويني كالربيع…
تخترقني كشتاء…
وكالخريف تملؤني بالشجن!
فكيف من عشق كهذا براء؟!
(راغب)
======
على حافة “المنتصف” السخيفة دوماً أقف…
لا يمين يجذبني ولا يسار يغريني…
الأصفر المجنون يدفعني…
والأزرق الخواف يبقيني..
وبينهما “خضراء” أنا أتأرجح…
فأي عشقٍ يداويني؟!
(أخضر…عزة)
=====
كالقارب الورقي في يد طفل ..
فُقِدت لديك إرادتي..
ما عدت أعرف فاصلاً في هواكِ…
ما بين عقلي وحماقتي..
لكن قلبي لازال يدرك أنني ..
ادركت معك سعادتي..
وبأن عرائس الأحلام بعدك…
لن تفارق جنتي..
(إيهاب)
======
بيني وبينك في الحب أغرب قضية..
تحتاجني ..كغيمة…
وأحتاجك…كمطر…
تحتاجني ..كشمس..
وأحتاجك…كقمر…
تحتاجني وطناً…
وأحتاجك هوية…
وفي محكمة الحب…
العاشق مدانٌ حتى يثبت -بالجنون- براءته !
(أزرق…جنة)
=====
آه من وهج بندقها لما تعانقه الجفون …
من سحر أزرقها لما تصافحه العيون…
تتساءلين بمكر إلى متى؟!
وتعلمين الجواب..
فهواكِ قدرٌ لو أتى …ما غاب!
وهواكِ عندي هويةٌ …دونه لا أكون…
حتى تزهق آخر أنفاسي…
لا أفارق ولا أخون …
(فهد)
=======
لو تأذن لي أن أبكي الآن على كتفيك…
لو تأذن لي ..
فأمزق أشرطة حياتي…
وأسابق عمري في عينيك…
لو تأذن فأقلد خطك ..
وأعيد كتابة تاريخي
بكلام الحب على شفتيك..
(نيلي…زهرة)
=======
القلب يعزف ألف لحن للوجع…
الفارس المشهود فوق جواده…وقع!
وأنا المذبوح بين أمسي وغدي …
أترنح… فارداً يدي…
أدور خلف الطائفين حول صنم الوهم مدعياً خشوعي..
لكن قبس النور لازال يبزغ من ضلوعي…
عودي إليّ حقيقتي …
فلكم مللت خداع المرايا…
(جهاد)
=====
دم…بحر…دم…بحر…
أحمر…أزرق…
بنفسجي!
هذه الأرجوانية أنا !
فاحذرني يا “قذاف الحطب”!
عيناك تلقي أحطابها في نار قلبي فتزيدها…
ما بين لهب انتقامي…ونار عشقي…
أحترق!
كن لي -بربك- عاشقاً …
أو لا تكن…
فمصيرنا -سوياً- واحدٌ قد كُتب!
(بنفسجي…ديمة)
=======
ناعمةٌ أنت…كثمرة جنة..
قاسيةٌ …كجحيم!
دافئة كعناق العشق…
باردةٌ كثلوج الموت…
حارقةٌ كسياط الندم …
حاقدةٌ كدموع الثكلى…
أي حب قد يوحد دربنا؟!
أي صفحٍ قد يداري ذنبنا؟!
خنجري المسموم خلف ظهري ..
وخلف ظهرك خنجرك…
متى تعانقنا …حتماً نموت!
(حسام)
========
دعيني أقرأ على جبينك تراتيل البراءة…
دعيني أزرع فوق ثغرك عمراً جديداً…
هاتي إليّ يداً لم تلوثها الدموع…
وتقبلي مني بريد الحب طازجاً بأشواق عتية…
هاجري بطيورك أين شئتِ…
لكن عودي أخيراً إليّ!
أمطري -ديمتي- فوق صحراء عمري ..
أينعي…
دوماً هناك للحلم…بقية…
(أديم)
======
يا حبنا أقسم لنا أن الربيع مهما تأخر …
يوماً يعود…
يا حبنا اغفر لنا …
جدد -على الصفح- الوعود …
يا حبنا ما كان كان…
والأمل فيك وفي غدي..
يا حبنا شد الوثاق …
ولا تسربّ من يدي!
(أبيض…ماسة)
=======
شمسٌ أنتِ…
عاندت أفلاكها لتسكن سمائي ولا تغيب !
(عاصي)
======
تعرفونه ذاك المراوغ المشاكس الحلو الشهي….الخدّاع؟!
ذاك الذي يختفي حيناً بين الغيمات…
يتراقص منتشياً بعد حفلة مطر…
يغمزك بخفية لعوب …يسرق نظراتك ليلونها بألوانه؟!
أحمر…برتقالي…أصفر…أخضر…أزرق…نيلي…بنفسج ي..
يالروعتك قوس قزح!
خذنا إليك فقد مللنا زئير الرياح وسواد الوحل وعبثية الحلم !
اصنع لنا قارباً من طيفك نعبر به بحر آثام تلاطمت أمواجه…
مزق دفاتر حزننا…
أوقد مشاعل شغفنا…
ابتسم لنا…دغدغنا…
أو حتى شدّ آذاننا عتاباً لكن عد لنا…
عد لنا يا “نورس” الفرح المهاجر…
عد لنا قوس قزح!
نرمين نحمدالله
=====
**أحمر
*******
انتهت من مصافحة تلك السيدة بكلمتها التقليديةالبقاء لله) ….
لتصطحبها بحركاتها الرشيقة حتى غادرت باب الفيللا…
أغلقت الباب خلفها ببعض العنف قبل أن ترتسم على شفتيها المكتنزتين ابتسامة ساخرة لم تلبث أن تحولت لضحكة مختنقة وهي تعود لصورته التي علقت على الحائط…
والتي زينها الآن شريط أسود مائل…
_رحلت يا سيادة اللواء؟! رحلت للأبد ؟! عساني أبكيك كذباً أم أبوح بالحقيقة التي لن تعود قادراً على سماعها ؟!
غمغمت بها بنفس السخرية المريرة لتتلفت حولها للفيللا التي خلت الآن إلا منها ومن والدتها النائمة بالأعلى …
عبث!!
كل هذا عبث!!
رفعت الصباحي…
الرجل “العظيم” الذي يواسونها الآن لفقده مات بقلبها وعينيها منذ زمن بعيد …
وما يحدث الآن أنهم فقط قد واروه التراب!
تنهدت عند الخاطر الأخير ثم عادت ترمق الصورة بنظرة حملت نزيف مشاعرها …
قبل أن تتحرك لتصعد الدرج نحو غرفتها بالأعلى …
ثلاث سنوات تقريباً قد مرت عليها وهي غائبة عن هذه الغرفة …
وهذا البيت …بل هذا البلد !
كانت بمنفى صنعوه لها وزينوه بالزهور …
والزهور قصيرة العمر لو تعلمون!!
ثلاث سنوات بدت لها كحياة أخرى كاملة …
حياة انتهت بنزيف وجع لايزال يجد مكانه بين ضلوعها !
قدماها تحملانها نحو خزانة ملابسها التي فتحتها لتنحني نحو صندوق صغير هناك …
شريط الأقراص “الساحرة” يناديها بإغواء كما كل مرة …
فتمتد أناملها نحوه بتردد يزداد يقينه رويداً رويداً حتى اختطفته أخيراً بحركة عنيفة لترفعه أمام عينيها …
_”ماما”…
صوت “الصغير” يأتي لها من بعيد …
من بعيد جداً …فتشتعل معه بالذكرى…
تذكره بمنامته البيضاء التي تلطخت بدمه…
شعره الأشقر الناعم الذي ورثه عنها …والذي توارى خلف ضمادة بيضاء كبيرة…
شفتيه المكتنزتين اللتين شحبتا وقتها كثيراً …
وعينيه الخضراوين اللتين غاب عنهما بعدها بريق الحياة للأبد !
_قتلتِ ابنك يا “مجرمة”!
الصفعة التي تلقتها على وجهها منه بعد عبارته كانت أقل وجعاً بكثير من جلد ضميرها …
الصفعة التي تلتها أخرى وأخرى حتى سقطت تحت قدميه …
كما سقط معها كل شيئ!
دموعها تنهمر أخيراً على وجنتيها تعانق أنينها المتصل…
والذي تحول الآن لآهات متوجعة لينزلق ذراعاها جوارها فيسقط شريط الأقراص لتدهسه قدماها بقوة …
مرة تلو مرة…تلو مرة…
حتى انهارت أخيراً وهي تجلس مكانها على الأرض …
وشريط ذكرياتها الأسود يعاود احتلال ذهنها بضراوة…
تدفن وجهها بين راحتيها وهي لا تدري ما الذي تبكيه…
ومن الذي تبكيه …
كل ما في حياتها خسارة تتمخض عن خسارة…
وألم لا يلد سوى ألم!
لكن القدر رحمها من التلظي بنيران جحيمها أكثر عندما رن هاتفها …
ربما كانت لتتجاهله في وقت آخر لكن المكالمة المهمة التي تنتظرها جعلتها تتحرك لتفتح الاتصال بصوت لم تفارقه رنة بكائه:
_جاهزة؟!
ويبدو أن الإجابة من الطرف الآخر كانت بالإيجاب فقد ارتخت ملامحها لتنظر للساعة في هاتفها قبل أن تعيده لأذنها مع قولها المقتضب :
_سأقابلك في (….).
قالتها وهي تذكر لمحدثتها العنوان قبل أن تغلق الاتصال لتمسح بقايا دموعها …
نفسٌ عميق تسمح له أخيراً بالدخول لصدرها وعيناها تزيغان لبقايا الشريط الذي انسحق على الأرض…
_فلنحظَ بقليل من العبث!
همست بها لنفسها بسخرية مريرة وهي تتوجه نحو مرآتها …
وكأنما تلبستها روح امرأة أخرى غير هذه التي كانت تبكي بانهيار منذ قليل …
تخلع عنها ثوبها الأسود الذي ترتديه لاستقبال التعازي في الفقيد “الغالي”…
لتتناول ثوباً آخر أحمر اللون وترتديه ببطء متلذذ وهي تتابع صورة نفسها في المرآة بعينين لامعتين …
تمشط شعرها بعناية ثم تحاول مداراة أثر بكائها برتوش زينتها المتكلفة…
طلاء شفاه أحمر لامع يكمل جرأة إطلالتها …
لينتهي المشهد بقبلة لصورتها في الهواء مع قولها بنفس النبرة العابثة:
_مضى زمن السجن …لن تضيعي من عمرك ساعة واحدة بعد الآن !
قالتها ثم تناولت حقيبتها لتغادر الغرفة نحو غرفة والدتها التي فتحت بابها بحرص تتيقن من نومها قبل أن تعاود إغلاقه…
لتغادر الفيللا بعدها مصطدمة بنظرات الحراس الفضولية الجائعة والتي قابلتها هي بنظرة رادعة…
استقلت سيارتها لتشغل موسيقا أجنبية صاخبة تمايلت معها برأسها قليلاً وهي تجوب الشوارع بلا هدف …
حتى حان موعدها فانتظرت “غنيمتها” في ذاك الشارع المظلم …
التمعت عيناها بلهفة وهي تراها تقترب منها من بعيد …
ممتاز!
لم تكن تحلم بأكثر من هذا!
لهذا ارتسمت على شفتيها ابتسامة ظافرة وهي تراقب المرأة التي اقتربت أكثر لتستقل السيارة جوارها …
والتي غمغمت بتحية مقتضبة بصوت مهتز لم تكلف نفسها عناء الرد عليها وهي تقول لها بينما عيناها متشبثتان بوجهها:
_مادمتِ قد وافقتِ فلن أسمح بالتراجع …مفهوم؟!
رمقتها المرأة بنظرة خائفة وهي تتعجب من هيئتها الفجة مقارنة بوضع امرأة مات والدها لتوه…
لكن يبدو أن هؤلاء “الأكابر” يعتبرون المشاعر هذه نوعاً من الترف الذي لا يمارسونه طواعية !
لهذا ازدردت ريقها بتوتر وهي تمنحها إيماءة طاعة فأشارت لها يسرا برأسها قائلة :
_اخلعي حجابك هذا…أريد رؤية شعرك.
تلفتت المرأة حولها ثم نزعت عنها حجاب رأسها لتفرد شعرها على كتفيها فابتسمت يسرا برضا وهي تخبط على المقود بأناملها لتعاود أمرها:
_وقميصك أيضاً!
ترددت المرأة بحرج وهي تعاود التلفت حولها ثم فكت أزرار قميصها بأنامل مرتجفة لتخلعه عنها تحت نظرات يسرا المتفحصة…
والتي قالت أخيراً:
_ستحتاجين ل”حمية” خاصة سريعاً…أريدك أن تفقدي بضعة كيلوجرامات .
عادت المرأة تومئ برأسها وهي تعاود ارتداء قميصها بسرعة بينما قالت يسرا بتعابير صارمة:
_ما بيننا لن يعرفه أحد…أي أحد …أظنكِ تعرفين من أكون وما الذي يمكنني فعله.
قالتها وهي تشير بسبابتها نحو عنقها إشارة ذات مغزى فارتجف جسد المرأة لا إرادياً لتمنحها نظرة خانعة أرضتها …
فعادت ببصرها للأمام وهي تهمس لنفسها بمرارة ساخرة:
_هذه ميزة من ميزات المال والسلطة يا ابنة أبيكِ…هاهنا يمكنكِ شراء أي شيء…أي شيء.
=========
**برتقالي….
========
(ستدرك انك كبرت …
عندما تتوقف عن الانبهار باي شخص وباي شئ…
عندما تتحول حياتك كلها لنكتة سخيفة سمعتها من قبل الاف المرات…
لكنك فقط كنت طفلا احمق يضحك عليها كل مرة وكأنها المرة الاولي!!)
كتبتها على حسابها الشخصي لتحصد المزيد من الإعجابات التي راقبتها عيناها بسرعة قبل أن تغلق حاسوبها المحمول ببعض العنف…
تنهيدة حارقة انفلتت من شفتيها وهي تتناول هاتفها لتتفحصه…
بضع مكالمات فائتة من “عاصي الرفاعي”!
سمعتها لكنها لم تستطع الرد عليها …
لماذا؟!
لأنها تكره شعورها السخيف بالضعف عندما يحدثها بهذه القوة الحنون التي تبغضها…و…
تحتاجها!
أجل…هي ليست غنية عن بضاعته الرائجة التي يشتاقها سوق مشاعرها الكاسد …
لكنها تكره الاعتراف بفقرها إليه …
تكره وهَن احتياجها الذي ينخر كالسوس في عصا قوتها التي طالما أسندتها …
إن كان هو “عاصي الرفاعي” فهي “طيف الصالح” التي رفضت و -لاتزال- ترفض نسب أبيه!
لكن شعورها هذا لم يمنعها من تفحص صور الاستوديو بهاتفها لتملأ عينيها من صور صغيريه…
نور و ضياء!
ملَكان يشبهان أمهما كثيراً ولن تعترف بأن لهما من أبيهما نصيباً !
كم تعشقهما رغم أنها لم ترهما إلا في الصور!
لكنها تعشق كلمة “عمتو” التي يخصانها بها عندما يجعلهما أبوهما يحدثانها على الهاتف !
تعشقها وهي تشعرها أنها -وإن أبت- لها عائلة!
عائلة؟!!
يالله!!!
هذا الشعور الذي لم تعرفه في حياتها قط !
منذ وعت على هذه الدنيا لتجد نفسها تعمل مع أمها خادمة في البيوت …
ينادونها “بنت حرام” …
يعاملونها ك”بنت حرام”…
ينتظرون منها فحشاً يليق ب”بنت حرام”…
ويلفظونها خارجاً ك”بنت حرام”!
وعند الخاطر الأخير دمعت عيناها وهي تتذكر آخر لقاء لها ب”حسام القاضي”…
_أنا…أحببتك…حقاً!
_أنتِ الشيء الوحيد في حياتي الذي بقي يذكّرني بأن لي قلباً…والآن…
وكأنما تسمعها الآن منه بصوته الكسير في آخر لقاء بينهما …
ولو صدقت نفسها لقالت أنها مثله …
هو الشيء الوحيد في حياتها الذي بقي يذكرها بأن لها قلباً…
ربما لهذا سحقته بكل قسوة …
مالها هي وحديث القلوب؟!
هي كفرت به من زمن!!
لهذا أخذت نفساً عميقاً تتمالك به نفسها ثم تناولت لفافة تبغ من جوارها لتشعلها وتنفث دخانها ببطء …
قبل أن تتلاعب أناملها على شاشة هاتفها لتتبين حسابه الشخصي على “الفيسبوك” …
المغرور لايزال يضع صورة لنفسه وهو يمسك مسدسه !
عيناه الصقريتان لاتزالان تلتمعان بوهجهما القديم …
لكنها وحدها من تدرك أي جرح سكنهما …
جرح صنعته هي …وليست نادمة !
لم تنتبه أن رماد السيجارة قد سقط على ذراعها لتشعر بلسعة خفيفة جعلتها تنفضه عنها بقوة …
قبل أن تعاود سحب نفس عميق منها لتنفثه من جديد أمام صورته على هاتفها ….
اكتفت بهذا القدر من ماضيها لتلقي الهاتف جانباً كي تنهض من فراشها وتتوجه نحو نافذة غرفتها التي فتحتها لتتطلع نحو الشارع القريب المظلم …
“ليلة عيد”أخرى باردة تنتظرها هنا …
لكن…مهلاً !
منذ متى عرفت هي طعماً لليالي الدافئة؟!
ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة وهي تعاود نفث دخان سيجارتها قبل أن تتعلق عيناها بنافذة الشقة المجاورة التي تعامدت على نافذتها …
لتتحول ابتسامتها الساخرة لأخرى حنون وهي تراقب الطفلة التي جلست على كرسيها تراقب الطريق مثلها بشجن غريب على طفلة بعمرها …
منذ متى سكنت هذه “الحلوة”هنا؟!
كانت تبدو في العاشرة من عمرها تقريباً بشعر أسود كشعرها لكنها كانت تفوقها جمالاً بكثير بعينيها الواسعتين وفمها المكتنز الصغير وخديها الممتلئين بحمرة محببة…
لا تدري لماذا خطفت هذه الطفلة بالذات قلبها …
كم تود لو تزعم أنها تشبهها في طفولتها …
لكن التشبيه مجحف -للصغيرة-قطعاً …
فالأولى تبدو كقطعة من القمر بينما هي تعلم أن حظها في الجمال فقير !
ولم تمضِ بضع دقائق حتى علمت لماذا يسكن الحزن عيني الصغيرة هكذا …
فقد تقدمت منها امرأة ما لتسحب كرسيها -الذي تبينت ماهيته – نحو الداخل!
انعقد حاجباها بقوة وهي تشعر نحوها بالإشفاق …
لطالما كان الأطفال نقطة ضعفها الكبرى …
ربما لأنهم يذكرونها بضعفها الذي تحاول دوماً تناسيه…
وربما لأنها توقن أن عمرها الذي ينفرط من بين يديها بسرعة البرق لن يتوقف بها قطاره أمام محطة أمومة !
هنا عادت تتنهد بحرارة وهي تنتبه لنفاد سيجارتها …
التي ألقت بقاياها بإهمال جانباً دونما اكتراث بنظافة المكان …
علامَ تتقاضى الخادمة راتبها الباهظ ذاك إذن؟!
رحم الله تلك الأيام التي كان ظهرها يكاد ينحني فيها وجعاً مقابل وجبة عشاء من رغيف وقطعة جبن!
وكأنما عادت ذكرياتها البائسة ترسم قسوة قناعها من جديد …
فعادت نحو فراشها لتستلقي عليه وهي تداعب شعرها بأناملها ثم تناولت حاسوبها لتعاود كتاباتها المتطرفة:
(تظنين الحزن يقتلنا يا حمقاء؟!
ليته يفعل!!
إنه فقط وحش سادي يكتفي بتعذيبنا مع “توأمه اللطيف”الذي يسمونه الأمل…كلاهما يجعلك تقفين في طابور انتظار طويل يلتهم عمرك بتلذذ صامت …
والحل؟!
لا حل يا بائسة سوى التغافل …هو بضاعة الخاسرين!)
كتبتها ثم زفرت بسخط لتتناول مفكرتها تحاول استكمال روايتها الحالية…
الكتابة هي متنفسها الوحيد وسط هذا العالم الخانق…
تمنحها هي عمرها وطاقتها لتعطيها في المقابل حياة أخرى تعيشها في الخيال…
أبطال ترسم هي حيواتهم ومصائرهم بالعدل الذي تراه عيناها …
تمنحهم العيش الرغيد الذي لم تنله هي…
تعيش أحزانهم الخاصة لعلها تتناسى أحزانها هي…
الكتابة هي عمرها…حياتها…عائلتها الكبيرة التي تزداد فرداً يوماً بعد يوم…
الكتابة هي “ابنها البار” الذي لن تناله يوماً على أرض الواقع لكنها تتنعم بقبلاته وعناقه بين السطور…
هي “زوجها المحب” الذي لن تنعم بلمساته يوماً لكنها تتنفس حبه على الورق…
الكتابة هي عالمها الموازي الذي لن يعيرها بنسب ولن يلفظها ك”بنت حرام”…
بل يرفعها ملكة كما كانت تحلم دوماً!
لهذا ظلت تكتب وتكتب غافلة عن الوقت الذي سرقها لتجد الليل قد انتصف…
شعرت بالعطش فقامت لتتوجه نحو المطبخ القريب ولم تكد ترفع الزجاجة لشفتيها حتى اصطدمت عيناها بذاك المشهد من النافذة المطلة على نافذة جارها …
فهناك كانت تلك الطفلة على كرسيها المتحرك تنظر بفزع نحوها …
لا لم تكن تنظر نحوها هي …
بل نحو ذاك الرجل الذي تعلق بالنافذة نفسها من الخارج ليقتحمها نحو الداخل !
لص!!!
شهقت بفزع وهي تختفي بجسدها قليلاً خشية أن يراها …
قبل أن تعود ببصرها نحو نافذة الجيران التي اقتحمها هذا “اللص” ليدخل تحت نظرات الطفلة المرتعبة…
ولم يكد يفعل حتى اقترب من الصغيرة مهدئاً بكفيه قبل أن يبدأ في خلع قميصه!!
كتمت صرختها بكفها وهي ترى جذعه العاري ينحني نحو الصغيرة ليحملها ويختفي بها بعيداً عن مجال رؤيتها …
الغريب أن الفتاة لم تكن تصرخ ..
تراها خرساء أيضاً؟!!
يالله…ماذا تراه يفعل بها الآن ؟!!
هل يختطفها…
أم…
لا لا لا ….
يغتصبها!
****أخضر
=========
_وهذا هو شكله النهائي بعد خروجه من الفرن!
قالتها عزة بابتسامتها الرقيقة أمام الكاميرا وهي تعدل وضع وشاحها الأخضر على عنقها والذي اشتهرت به شهرة واسعة…
“حورية المطبخ الخضراء” كما يسمونها صارت من أمهر الطهاة على الشاشة …
مجهود أكثر من ثلاث سنوات لم يضع سدى وها هي ذي تحقق ذاتها في المجال الذي أحبته …
_كل عام وأنتم بخير …مستعدة لتلقي اتصالاتكم الآن .
قالتها بنفس الابتسامة لتأتيها بعدها العديد من الاتصالات التي أجابتها بلباقتها الحذرة …
والتي انتهت بهذا الاتصال:
_كنت أريد منكِ وصفة لكعك العيد بالمانجو.
اتسعت ابتسامتها وهي تميز صوته الحنون المشاكس الذي تعرفه رغم أنه قد غير اسمه كما وصلها من “الكنترول”…
لكنها ردت بتحفظ:
_كعك العيد بالمانجو؟! ألا ترى هذا غريباً؟!
_ألم يصنعوا كنافة بالمانجو ؟! هل الغرابة الآن في الكعك؟!
كتمت ضحكتها وهي تدرك الفخ الذي يدفعها نحوه لتجيبه بلباقة وهي تنظر للكاميرا عالمةً أنه ينظر الآن إليها:
_لا أحب “التمييع”…مأكولاتنا الشرقية لها مذاقها ومكوناتها التي تجعل لها سحرها الخاص …ولا أحب أن تختلط عليها مكونات أخرى .
هيئ إليها أنها ترى عينيه الطيبتين تلتمعان بمرحهما المعهود مع رده :
_”ألف شكر” يا نجمتنا…رغم أنكِ تهربتِ من الوصفة .
ضحكت ضحكة حقيقية وهي تغلق معه الاتصال لتستقبل غيره …
حتى انتهت من إذاعة الحلقة فغادرت موقعها في الاستوديو لتتوجه نحو غرفتها …
تناولت حقيبتها التي التقطت منها الهاتف لتتصل به:
_ألن تكف عن “مقالبك” هذه ؟!
هتفت بها بعتاب مرح ليصلها صوته الودود:
_إجازتي بدأت اليوم ولم أجد ما أشغل به وقتي سوى مشاكستك.
ابتسمت بعاطفة لا تنكرها نحوه …
وإن كانت لا تعلم لها مسمى !
لا …ليس حباً…ولا رغبة في زواج!
ولعل هذا ما يوجع ضميرها لأنها توقن من مشاعره هو العميقة نحوها رغم أنه لم يبح لها بشيء مباشر…
منذ عرفته منذ ثلاث سنوات وبالتحديد منذ لقائهما في ذاك المطعم وهو يحاول دوماً التواجد في محيطها …
وبينما كانت هي تقترب بحذر كان هو يندفع بجنون …
جنون تعشقه …وتخافه …
لأنها لا تعلم حتى الآن ما الذي تريده منه بالضبط !
_نلتقي في نفس المطعم بعد ساعة ؟!
قاطع بها أفكارها فابتسمت وهي تجيبه ببساطة تشبه مشاعرها نحوه:
_الليلة ليلة العيد…هل تظن أننا سنجد مكاناً بسهولة؟!
_ليس معي يا “ماما”…أنا زبون مثالي وأي مطعم يتمناني!
ضحكت بانطلاق وهي تتخيل رجلاً بحجمه يقول لها “ماما” هذه …
بينما صمت هو لبضع ثوانٍ ليردف :
_أمي جواري تقول “وأي عروس تتمناني أيضاً”!…”منورة يا حاجة”!
كتمت ضحكتها وهي تشعر بالحرج لوجود أمه جواره …
رغم البيئة- المنفتحة- التي صارت الآن تنتمي إليها لكن نشأتها -المتحفظة- تدرك أن حديثها معه في بعض الأوساط لا يزال غير مستساغ …
لهذا تنحنحت بحرج لتغلق الاتصال بقولها:
_حسناً يا إيهاب…أراك بعد ساعة !
قالتها ثم أعادت الهاتف لحقيبتها قبل أن تحين منها نظرة عابرة لمرآتها …
ملامحها البسيطة بجمال مصري هادئ …
بشرة قمحية ناعمة …حاجبين غليظين سمراوين يظللان عينين وديعتين واسعتين بلمعة عابثة…
وجنتين ممتلئتين تناقضان نحول جسدها الشديد الذي يستدعي سخرية متوقعة مع مهنتها المعروفة …
وشفتين رفيعتين تكملان بساطة طلتها الهادئة …
هاتين اللتين زينتهما الآن بطلاء نحاسي مميز منحهما مظهراً أشهى.
عدلت وضع حجابها بلونه الكريمي المشابه للون قميصها والذي صنع مع خضرة وشاحها مزيجاً تحبه …
منحت نفسها نظرة راضية وهي تشعر بسعادة لا تدري سببها …
لكنها كالعادة “مغلفة” بخوف ما عاد يفارق حناياها…
غادرت الاستوديو لتستقل سيارتها الفارهة بطرازها الجديد …
رفعت إسورة قميصها قليلاً كي تبدو منه ساعتها المميزة بماركة شهيرة…
كادت تنطلق بها لولا أن استرعى انتباهها الصراخ القادم من السيارة المجاورة…
التفتت ببصرها في فضول لتجد زوجين يتشاجران وخلفهما ابنهما يراقبهما بمزيج من خوف وأسى…
خاصةً عندما فقد الرجل أعصابه ناسياً الزمان والمكان ليصفع زوجته !
انتفضت مكانها وهي تشعر وكأنما الصفعة قد نالتها هي !
قبل أن تعود ببصرها للصغير الذي غطى وجهه بكفيه فزفرت بسخط وهي تشغل السيارة لتنطلق بها بسرعة مغادرة المكان …
_أغبياء!! لماذا يتزوجون طالما سينجبون للعالم بؤساء مثلهم ؟!
تمتمت بها باستنكار ساخط وهي تحاول التركيز في القيادة …
تسترجع حياتها البائسة منذ بضع سنوات فقط …
عندما كانت مجرد كرة تتقاذفها الأيدي دونما اكتراث بإرادتها …
والآن …الآن ماذا صارت ؟!
هنا أخذت نفساً عميقاً وهي تشعر بالانتشاء الذي يقارب الغرور …
كل ما وصلت إليه …وصلت إليه وحدها …
لو كانت الآن نجمة تهفو إليها العيون فهي التي رسمت لنفسها السماء !
ولن تسمح لنفسها أن تتراجع عن هذه القمة مهما كان الثمن !
ظلت تجوب السيارة في الشوارع مستمتعة بزحام العيد المتوقع …
هذا الزحام الذي تعشقه عندما ترى العيون المحدقة نحوها بانبهار …
الأكف التي تلوح لها عندما تتعرف عليها …
حركات شفاههم باسمها “عزة الأنصاري” والتي تقرأها عيناها بفخر من بدأ من الصفر ليدرك هذه المكانة بفضل موهبته فحسب….
لهذا كانت تلوح لهم بدورها بكفها بحركة مدروسة تعلمتها من سنوات عملها في برنامجها الشهير على التلفاز …
وفي عينيها العابثتين بلمحة حزن غامضة كانت ترتسم تلك النظرة الجذابة التي طالما وصفوها بها …
نظرت في ساعتها لتجد موعدهما قد اقترب …
ورغم أنها كانت تشتاق ثرثرتها معه لكنها تعمدت التأخر عليه قليلاً…
أجل…ربما كان هذا أحد عيوبها التي اكتسبتها مؤخراً …
لمحة الغرور التي صارت تصبغ الكثير من أفعالها …
رأته هناك جالساً على المائدة فانقبض قلبها كعادتها كلما تراه …
يقولون إن هناك أناساً نعشق سماعهم دون رؤيتهم …
وهذا ما تشعره معه حرفياً!
عندما تستمع إليه تدرك أن بداخله أعماقاً رائعة…
ثقافته…حنانه…مرحه…خفة ظله…حكمته الشديدة التي تعتبرها أثمن في صداقتهما …
لكنها عندما تراه لا تصطدم إلا بمظهره البعيد تماماً عن الفكرة التقليدية لفارس الأحلام رشيق الجسد ممشوق القوام …
خاصةً أنها تشعر أنه لا يبالي كثيراً بقصة وزنه هذه…
وكأنه لا ينظر أبداً في مرآة !
لهذا تنهدت بضيق وهي ترمقه مكانه بنظرة آسفة قبل أن تقترب منه بخطواتها الرشيقة المدروسة لتصافحه بنعومة قائلة :
_تأخرت عليك !
_كعادتك!
قالها بعتاب من يتفهم هذا الجزء في شخصيتها لتجلس أمامه ملاحظة كأس “المثلجات” الكبير الذي طلبه لتبتسم وهي تهز رأسها بقولها:
_لم تضيع وقتك في انتظاري …صحيح؟!
ضحك ضحكته الرائقة وهو يبدأ في تناوله قائلاً:
_علاقتي بالطعام أقوى من علاقتي بالبشر …وفاؤنا لبعضنا غير قابل للجدل …أنا أعطيه مالي وهو يعطيني السعادة …هكذا ببساطة دون وجع رأس…هل سمعتِ مثلاً عن بيتزا غضبت من أحدهم لأنه فضل “المسقعة” عليها؟! عن دجاجة مشوية طلبها أحدهم فتمنعت عليه ؟!
ضحكت بمرح خالطه بعض الضيق وهي تتطلع لملامحه الوسيمة بأسف…
فقط لو يتخلى عن نهمه هذا بالطعام ويفقد الكثير من وزنه…
ربما ساعتها يمكنها …
يمكنها ماذا؟!!
لا …لا …هي تدرك أن هذا العيب الشكلي البسيط ليس فقط ما يقف بينهما …
لكنه خوفها هي من الارتباط…
من الوقوع في قبضة رجل من جديد بعدما وصلت لكل هذا الذي وصلت إليه …
_ماذا ستأكلين؟!
قالها وهو يمسح فمه فأشاحت بوجهها لتنظر نحو نافذة المطعم المطلة على الطريق المزدحم بالمارة قائلة بشرود:
_لا شهية لدي.
رمقها بنظرة متفحصة ثم قال مشبكاً كفيه ببعضهما:
_مممم…بؤس ليلة العيد ككل عام!
عادت إليه ببصرها للحظات قبل أن تطرق برأسها مغمغمة:
_أجمل ما في صداقتنا أنك تفهمني.
تنهد بعمق ثم عاد بظهره للوراء قائلاً :
_يبدو أن لديكِ أخباراً جديدة .
_هيام شقيقتي هاتفتني بالأمس لتحدثني في نفس الموضوع…
_الزواج؟!
سألها بحذر لتلوح بذراعيها هاتفة :
_بالطبع…تخيل بعد قطيعتها لي لعامين تعاود التقرب إليّ لأجل هذا الأمر فقط …هي لا تريد تزويجي لأجلي ..هي فقط لا تريد أن نكون أنا وهي الفريق الخاسر أمام أخ زوجها الذي طلقني…تريد التباهي بأنه خسرني وأنها ستزوجني “سيد سيده” كما تزعم دوماً .
_ولماذا لا تقولين إنها خائفة عليك من وحدتك ؟! من طمع الناس بامرأة في وضعك ؟!
_هراء!! هي فقط تريد فرض سلطتها عليّ…وهو الذي لن أسمح لأي مخلوق بعد الآن بفعله …حتى ولو عادت لقطيعتي من جديد وحتى لو عشت بقية عمري وحدي.
هتفت بها بحدة احمر لها وجهها فابتسم وهو يشير لها مهدئاً قبل أن يقول لها بنبرته الودود:
_تعرفين “بروكرست”؟!
_من هذا ال…برو…برو ماذا؟!
سألته معقودة الحاجبين وهي عاجزة عن تكرار الاسم…
لتتسع ابتسامته وهو يقول لها وكأنما يحدث طفلاً:
_هذا يا سيدتي كان حداداً في الثقافة اليونانية….كان يملك سريرأ حديدياً خاصاً وكان يقوم بدعوة اي مسافر مار ليحسن ضيافته ويدعوه إلى النوم في هذا السرير، وكان بروكرست مهووسا باهمية ان يناسب طول الضيف السرير، فاذا كان الضيف أطول من السرير قام بركرست بقطع ارجله ليتناسب مع السرير، واذا كان أقصر من السرير مط جسم الضحية حتى تتكسر مفاصله حتى يساوي جسمه السرير بالضبط…وأستمر بروكرست بجرائمه المروعة حتى القى القبض عليه ثيسيوس واخضعه لنفس ماأُخضع له ضحاياه، حيث انامه على سريره وقطع راسه ليتلائم مع السرير.
ابتسمت لطرافة القصة وقد نجحت في تهدئة انفعالاتها لتعاود سؤاله بدهشة:
_وما دخل هذا في ما كنت أقوله؟!
_مِن أخينا “بروكرست” هذا ظهر مفهوم “البروكرستية” وهو مفهوم لَيّ الحقائق وتشويه المعطيات لكي تناسب معتقداتنا المسبقة.
اتسعت ابتسامتها وهي تشعر معه بذاك الشعور الذي كان ينتابها نحو معلميها …
شعور بالاحترام الممتزج بالفخر …
ربما في موقف آخر كانت لتتهم أي شخص دونه بالتحذلق لكنها معه هو بالذات توقن أنه لا يستعرض معلوماته …
هو -ببساطة – رجل مثقف يعرف كيف يغلف معلوماته برداء واقعي ليجعلك تتلقاها بنهم يشبه نهمه بطعامه …
تماماً كما الآن وهو يستطرد ملوحاً بكفيه :
_هكذا تتعاملين أنتِ مع الناس …القالب الوحيد المتاح لديكِ أنهم جميعاً يريدون إعادتك لسجن رغباتهم بعدما نلتِ تحررك…شقيقتك ..أصدقاؤك…زملاؤك في العمل …لهذا تتحفزين ضد الجميع ولا تمنحي الفرصة لأحدهم كي يقترب .
تنهدت بحرارة وابتسامتها تتلاشى تدريجياً لتعاود إطراقتها قائلة بصوت مرتجف:
_قد يكون ما تقوله صحيحاً …لكنني لا أستطيع العكس …أنت تعلم ما الذي واجهته …عندما تعيش لسنوات من عمرك وأنت مجرد عبد لأفكار غيرك ثم تصبح فجأة سيد نفسك فمن الطبيعي أن تقاتل لآخر نفس كي لا تعود لتلك العبودية .
_التطرف عزيزتي هو آفة كل المشاعر…بينما التوازن هو سنة الكون …أنت لا تزالين تترنحين بدوار من انخفض ضغطه فجأة عندما قام من جلسته وغيّر وضعه…هكذا أنتِ…وأنا أنتظر بفارغ الصبر هذه اللحظة التي أدرك فيها أنك توازنتِ وصرتِ مستعدة لإكمال الطريق.
قالها بنبرته المميزة بين تعقلها وحنانها فعادت ترفع عينيها إليه بقولها:
_لا تعرف إلى أي درجة يريحني حديثي معك هذا.
_ولا تعرفين لأي درجة يجوعني حديثي معك هذا!
قالها بمرحه المعهود وهو ينادي النادل ليطلب منه الطعام لهما معاً…
هذه المهمة التي تتركها هي دوماً له موقنة من كفاءته فيها …
فاستندت بوجنتها على راحتها تنظر نحوه بينما التفت هو إليها فجأة لتلتمع عيناه بعاطفته التي لا تتجاوزهما أبداً لكلماته…
ربما لأنه يخشى النبذ من جديد …
أجل …مع ماضٍ ك-ماضيه- الذي حكاه لها يوماً هي تستوعب كثيراً كتمانه لمشاعره نحوها والتي يخفيها دوماً خلف قناع الصداقة…
هذا القناع الذي ترتضيه هي كثيراً ولمَ لا؟!
وهي الأخرى تحتاجه لتخفي ترددها بشأنه …
لكنها لا تنكر أنها -بنوع من الأنانية- تستغل مشاعره هذه…
تستغلها لتشعرها بأنوثتها التي طالما اضطهدت …
الآن توقن أن في هذه الحياة من يحبها ويصبر عليها …
ويكفيها هذا منه الآن !
لهذا تعمدت سؤالها الماكر التالي:
_هل أفهم من حديثك السابق أنك تشجعني على الارتباط بالعريس الذي ترشحه هيام ؟!
فالتوت شفتاه بابتسامة واهنة وكأنما فهم لعبتها ليجيبها بمكر مشابه:
_شقيقتك تريد مصلحتك…المهم…ماذا تريدين أنتِ؟!
قالها وعيناه الطيبتان تشعان بهذا الطيف الذي تشعر وكأنما يلون حياتها بسحره…
طيف هو مزيج من تفهمه وعتابه وحزم حنانه…
وكأنما بلا كلمات يخبرها
(أنا أفهمكِ فلا تتذاكي عليّ)!
فضحكت ضحكة تشبه ضحكته هو في صفائها لتتجاهل سؤاله بقولها :
_أين ستقضي العيد؟!
_تعلمين طقوسي ككل عام…لكنني أفكر في السفر هذه المرة مع أصدقائي.
_إلى أين؟!
_أحدهم استأجر لنا مكاناً في “مارينا”…هم الذين تولوا الأمر كاملاً …لا أدري سر شغفهم بصديق متواكل مثلي…ملول ولا يعجبه العجب كما يقولون.
قالها ساخراً من نفسه كعادته فابتسمت لتقول له صادقة:
_كلنا محظوظون بصداقتك يا إيهاب…أنت أفضل رجل عرفته.
عادت عيناه تشعان بذاك الطيف الذي يأسرها لكنها تشاغلت عنه بالطريق عمداً من جديد كي تهرب من أن يأخذ الحديث منحنى آخر …
فارتسمت على شفتيه ابتسامة راضية مكتفياً بمراقبتها …
حتى عاد النادل بالطعام ليتناولاه سوياً…
وما كادا يغادران المطعم حتى قال لها بنبرة غامضة:
_هل من الممكن أن تصطحبيني لسيارتي؟!
ابتسمت وهي تسير معه نحو سيارته التي فتح حقيبتها الخلفية فجأة …
لتشهق بسعادة وهي تجد دباً قطنياً بشكل “الباندا” المميز بلونيه الأبيض والأسود وبحجم كبير يقارب نصف حجمها …
ضحكت وهي تتناوله منه لتقول له بدلال :
_هذه عيديتي من صديقي؟!
لكنه سحبه منها ليضعه جوار وجهه قائلاً بمزاحه المعهود:
_لا هذه مسابقة…استخرجي خمسة فروق بين الصورتين!
قالها بسخريته المعهودة فانفجرت بالضحك وهي تتبين الآن فقط أنه يرتدي قميصاً أبيض مع سروال أسود …
ومع تشبيهه لنفسه ب”الباندا” تجد نفسها عاجزة عن التوقف عن الضحك!!
_أعجبتك؟!هه؟!
قالها بغضب مصطنع وهو يخبطها بالدب في وجهها بحركة مازحة فاستمرت بالضحك للحظات قبل أن تنتبه لنظرات الناس حولهما…
هذا الذي جعلها تتجمد فجأة في مكانها لتقول له بحرج:
_إيهاب…لا يصح هذا…نحن في الشارع.
فتلفت حوله بدوره ثم عاد إليها بعينيه ليقول بنبرة فقدت مزاحها مع كل هذا العمق الذي احتضن حروفه:
_كل عام وأنتِ بخير …يا صديقتي!
كانت تعلم أنه يضغط حروف كلمته الأخيرة عامداً لكنها ردت له بضاعته بمثلها:
_وأنتَ بخير يا صديقي.
قالتها وهي تتناول البطاقة التي كان الدب يحتضنها بذراعيه والتي كتب عليها
(تعلمين لماذا تحبين الأخضر…
لأنه مزيج من جنون الأصفر وسكينة الأزرق
وهكذا أنتِ جنيةٌ تمنحني السكينة)
اتسعت ابتسامتها وهي تعيد قراءتها لبضع مرات قبل أن تتجاهل كل المشاعر الحائرة التي تنتابها الآن لتقول له بعتاب مصطنع:
_أنا جنية؟!
كانت تتوقع منه مشاكسة ساخرة كالعادة لكنه صمت لحظة ليقول بنبرة دافئة:
_تمنحني السكينة.
احمرت وجنتاها خجلاً لكنها تمالكت نفسها لتبتعد عنه خطوة بحركة موحية…
ثم احتضنت الدب بأحد ذراعيها لتلوح له بالآخر بينما تعطيه ظهرها:
_أراك على خير …اعتنِ بحالك…وأرسل لي صور المصيف.
راقبها بحنان بينما تبتعد لتستقل سيارتها لتغيم عيناه بنظرة متوجعة من ماضٍ بعيد…
قبل أن يتنهد بحرارة ليستقل سيارته التي انحشر فيها جسده الضخم مبتعداً بها …
وهناك …خلف أحد الجدران كان هناك زوجٌ من العيون يرقبهما بحقد مشتعل…
الدم يلون حدقتيهما بذكرى تأبى أن تفارقهما إلا بعدما تنالان حقهما…
قريباً…قريباً جداً…
يذوق كل امرئ ما جنته يداه!
=========
***أزرق…..
==========
_هل عدتما؟!
هتف بها فهد بلهفة وهو معلق على سلم خشبي في غرفة الصغيرة التي اندفعت نحوه لتهتف بشقاوتها المعهودة وبحروفها المتلعثمة:
_أو…ستان…إيد…فجأة!
ضحك فهد وهو يشير لجنة بأصابعه هاتفاً بمرح:
_الترجمة من فضلك !!
فاستسلمت جنة لضحكاتها للحظات قبل أن تقول مفسرة:
_ فستان العيد …مفاجأة!!
قهقه ضاحكاً وهو يعود لما يفعله مع قوله:
_تأخرتما كثيراً!
فزفرت جنة لتقول بإرهاق:
_صغيرتك متعبة مثلك…لا يعجبها شيء…أكاد أجزم أننا ذهبنا لجميع المحلات في المنطقة…كلما اخترت لها ثوباً تهز رأسها نفياً باعتراض حتى أعجبها هذا!
قالتها وهي ترفع الثوب الذي اختارته الصغيرة أمام عينيه …
ثوب فيروزي يميل للزرقة بعدة طبقات من قماش الشيفون المنفوش …
ضيق الصدر مع حمالتين رفيعتين…وقد زين خصره بحزام عريض من نفس اللون مع نقط صغيرة باللون الفضي…رمقه هو بنظرة إعجاب متفحصة قبل أن يقول بمرح:
_لقد أفسدتِ ذوق الفتاة…صارت مهووسة بالأزرق مثلك!
فابتسمت جنة وهي تجلس بإرهاق على طرف فراش الصغيرة التي صفقت بكفيها وهي ترى ما يفعله أبوها…
كان قد علق لها البالونات في سقف غرفتها بشكل رائع مزج اللونين الفضي والأزرق…
والآن كان يثبت لها الكثير من النجوم في سقف الغرفة …
قبل أن يقول لها بحنان:
_حبيبة أبيها تطفئ النور لترى المفاجأة!!!
جرت ملك بمرح لتطفئ الأنوار ثم شهقت بسعادة وهي ترى النجوم التي تضيء في الظلام وقد ملأت سقف الغرفة وصنعت مع البالونات عالماً مثالياً لطفلة في عمرها …
بينما هتف فهد بمرح:
_كي لا تخافي من النوم في الظلام بعد الآن…ونتجنب الشجار مع “الأستاذة” التي ترى من المفيد للطفل ألا ينام والأنوار مفتوحة!
ضحكت جنة بمرح وهي تراقب جو الغرفة الساحر حولها بفرح…
لكن الصغيرة عادت تفتح النور وهي تشير بأصابعها نحو فهد بكلمات متلعثمة فهمها هو هذه المرة…
فنزل من على السلم الخشبي ثم توجه نحوها ليخرج من درج قريب زجاجة طلاء أظافر نبيذية اللون…
رفعها في وجه الصغيرة ليقول بمرح:
_هيا لنلون أظافر أميرتنا!
ملأت ضحكات ملك المكان وهي تجلس على طرف الفراش فاردة له ظاهر كفيها بترقب طفولي…
فجلس على ركبتيه أمامها وهو يفتح الزجاجة ليبدأ في طلاء أظافرها بحرص مع قوله:
_أريدكِ أن تكوني أجمل فتاة عندما نذهب لصلاة العيد .
فضحكت جنة وهي تراقبهما بحنان قائلة :
_لا تحمل همّ صلاة العيد…بل زيارة أختك وطفليها…ضياء الرفاعي يعيّر ابنتك بأنها أقل جمالاً من شقيقته فضية العينين!!
أطلق فهد صيحة استنكار وهو يراقب ملامح الصغيرة التي بدت وكأنها تفهم هذا وإن عجزت عن التعبير…
ليقول بحمية أب غيور:
_من هذا الذي يقلل من شأن ملك الصاوي؟! أنا سأؤدب ابن الرفاعي بشعره المشعث هذا عندما أراه !!!
ضحكت ملك بسعادة وهي تكرر بكلماتها المتلعثمة ما يوازي (ضياء شعره مشعث) وكأنما أسعدتها الجملة !!!!
بينما انتهى فهد مما يفعله ثم تناول أناملها الصغيرة لينفخ أمامها بقوة مجففاً الطلاء قبل أن يقبل وجنتي ملك هامساً بنبرة حازمة:
_والآن تنامين مبكراً حتى ندرك صلاة العيد!
أومأت الصغيرة برأسها وهي تتوجه نحو جنة التي حملتها لتبدل لها ملابسها وتعدها للنوم…
فيما تثاءب فهد ليقول بنبرة متعبة:
_وأنا أيضاً سأذهب للنوم…تصبحين على خير!
قالها وهو يحمل السلم الخشبي ليغادر الغرفة…
ولم تكد الصغيرة تستسلم للنوم حتى لحقت به جنة إلى غرفتهما…
حيث فوجئت به قد أخذ وضع النوم وبدأ في ضبط منبه هاتفه ثم وضعه جواره ليستلقي على جانبه…
مطت شفتيها باستياء ثم خلعت حجابها لتمشط شعرها الذي تركته حراً على ظهرها…
ثم تخيرت أحد قمصانها الحريرية بلون سماوي جذاب زاد من فتنتها الطبيعية خاصةً مع عطرها المفضل بمزيج من رائحة الصندل والفانيللا…
قبل أن تستلقي جواره لتوكزه بسبابتها في كتفه هامسة بدلال :
_فهد ؟! هل ستنام حقاً؟!
رمقها بعين نصف مغمضة وهو يهمهم بإجابة مفادها الإيجاب..
لكنه وكزته بعنف أكثر وهي تقول باعتراض:
_لا تمزح…لا أحد ينام ليلة العيد!!
لكنه تثاءب من جديد ثم جذب الوسادة ليضعها على رأسه قائلاً:
_نحن نفعل…من تقاليد عائلتنا أن ينام الرجل ليلة العيد!!
_فهد!!
هتفت بها بنبرة زاجرة وهي ترفع الوسادة عنه لتردف بصرامة مصطنعة:
_لن تنام وهذا آخر كلام!
زفر بضيق مصطنع وهو يقوم من مكانه ليسألها السؤال المفخخ:
_وكيف سنقضي ليلتنا؟!
ردت له بضاعة “خبثه” بمثلها عندما قامت لتقف وهي تعقد ساعديها أمام صدرها قائلةً بمكر:
_نشاهد مسلسلي الأجنبي المفضل…جرائم معقدة وكيف تصل الشرطة للحل!
ظهرت الخيبة على وجهه لكنه واراها بسرعة وهو يهب واقفاً ليقول باستحسان مبالغ فيه:
_فتحتِ شهيتي للسهر حقاً…إلا مسلسلات الجرائم هذه …أعشقها!!!!
قالها وهو يلاعب حاجبيه مشاكساً بينما يقترب منها وعيناه تلتمعان بشقاوتهما المعهودة…
فلكزته في كتفه وهي تقول بعتاب ممتزج بالمرح:
_تريد شيئاً؟!
دارت عيناه عليها بتفحص حار للحظات …ثم اقترب منها ببطء وعيناه تعانقان شفتيها بحب…
قبل أن يميل عليها ليهمس في أذنها فجأة:
_قهوة!
_ماذا؟!
هتفت بها باستنكار فجلجلت ضحكته في أذنيها للحظات قبل أن يخبطها بسبابته على أنفها قائلاً بمرح:
_سأنتظركِ حتى تعدينها أمام التلفاز بالخارج…كي نشاهد مسلسلك المفضل!!
قالها وهو يغمزها بخفة ثم غادر الغرفة تاركاً إياها خلفه وقد غلبتها ابتسامتها…
لتعود إليه بعد قليل وقد وجدته قد فتح التلفاز حقاً على مسلسلها المفضل…
وضعت صينية القهوة جانباً وهي تهم بالجلوس جواره لكنه سحبها ليجلسها على ساقيه ثم همس وهو يزيح خصلات شعرها عن وجهها:
_لا تريدين طلاء أظافر مثل لوكا؟!
فأسبلت جفنيها وهي تزم شفتيها بدلال لتهمس:
_ظننتك نسيت!
_أبداً يا أستاذة!
همس بها بعاطفة أذابتها وهو يقربها منه أكثر ليمدد ساقيها أمامه…
ثم تناول زجاجة الطلاء من جواره ليقول بمرح:
_سنبدأ بقدميكِ لأجل خاطر دلالهما المميز هذه الليلة!
قالها وهو يشير لتلك الاكسسوارات من “العُقل” المعدنية التي تلونت بالذهبي والفضي والنحاسي والتي زينت بها أصابع قدميها في غفلة منه …
أو هكذا كانت تظن!!!!
فتنهدت بحرارة وهي تسند رأسها على كتفه فيما تهمس له وهو يباشر ما يعمله بسعادة:
_كم أحبك!
عاد ببصره إليها للحظات لتلتقي عيونهما في نظرة طويلة…
ثم رفع قدمها ليقبل ظاهرها بعمق قبل أن تستمر قبلاته في خطها الطويل حتى وصلت لجبينها …
قبل أن يهمس أمام عينيها:
_لم أقل لكِ يوماً “أحبك” ولن أفعل أبداً!
فابتسمت وهي تلامس شفتيه بشفتيها لتهمس بدلال :
_لازلت تراني امرأة لا يليق بها كلام مكرر؟!
_بل لا يليق بها كل الكلام…مهما عظم!
همس بها بيقين ثم ترك ما بيده ليضمها إليه بقوة وأنامله تتوه بين خصلات شعرها الثرية مع استطراده وهو يذوب أكثر في وهج البندق خاصتها:
_عمري قبلك كان قبضة تعتصر رقبتي…ظاهره حياة وباطنه موت…حتى أهداني القدر معكِ بعثاً وحياة…فليقولوا ما يشاءون عن الحب…لكنني وحدي أدرك أنه من لم يعشقكِ أنتِ فلم يحب!!
تعلقت بذراعيها في عنقه وشفتاها تدللان ملامحه بما يليق…
حتى توقفتا أمام ندبة ذقنه فرفعت إليه عينيها وهي تتذكر تلك الليلة التي جمعتهما لأول مرة…لتهمس بشرود:
_من كان يقول أن تكون أشد لحظاتي يأساً هي التي ستفتح لي باب حب عظيم كهذا!
بادلها نظراتها العاشقة بمثلها وهو يضمها إليه أكثر قبل أن تشعر بقبضتيه تخبطانها ببعض القوة مع همسه العاتب في أذنها وهو الآخر يسترجع أقسى ذكرياته معها أيام أوهمته بموتها :
_قلت لكِ سأظل أضربك طوال عمري كلما تذكرت ما فعلتِه بي…صدقيني ندبتك هذه على وجهي لا تساوي شيئاً أمام ندبة قلبي من حينها…لازلت أستيقظ بعض الليالي خائفاً من أن تكوني وملك مجرد حلم !!
التمعت عيناها بشعور ذنب قديم وهي تخفي وجهها في عنقه وقد آثرت الصمت عن أي تبرير …
عندما ضمها إليه أكثر وأكثر حتى كاد يعتصرها بين ضلوعه…
قبل أن تشتعل عاطفتهما أكثر ليستجيبا لها بجنون…
جنون انقطع مع رنين هاتفه الذي أصر على تجاهله لولا إصرار الطرف الآخر بدوره…
فزفر بقوة وهو يبعدها مع هتافه :
_هي ليلة منحوسة وأنا كنت أنوي النوم…أنتِ التي أيقظتني!
فضحكت بشماتة وهي تخرج له لسانها بينما تناول هو هاتفه ليطالع اسم المتصل قبل أن يفتحه بسرعة مع هتافه بمزيج من قلق ولهفة:
_حسام!
=======
*** أصفر
========
الله أكبر…الله أكبر …الله أكبر…
لا إله إلا الله…
الله أكبر …الله أكبر…ولله الحمد…
انطلقت تكبيرات العيد من المذياع في صالة منزلهما ترددها الصغيرة ربى بصوتها الطفولي وهي تهز رأسها معها بتناغم عذب…
فابتسم راغب وهو يضمها إليه بقوة ثم تملك خصرها بكفيه ليقول بحنان رغم خشونة صوته المميزة:
_كل عام وأنتِ بخير.
فقبلته الصغيرة على وجنته لتسأله بمرح :
_هل سنذهب للملاهي في العيد؟!
داعب أنفها الصغير بأنفه بخفة ثم رفعها فجأة للأعلى محرراً جسدها من ذراعيه قبل أن يعاود التقاطها هاتفاً بحماس:
_فلنبدأ بهذه!
ضحكت الصغيرة بانطلاق وهو يعاود فعلته مرة بعد مرة لتملأ ضحكاتها الشبيهة بالصرخات المكان …
حتى ضمها لصدره أخيراً وهو يلهث لتهتف هي باعتراض:
_هل تعبت؟! وأنا الذي ظننتك بطلاً ك”سوبر مان”!
فضحك وهو يقرص وجنتها ليقول وهو يغلظ صوته أكثر مشيراً لشخصية كارتونية شهيرة:
_سأتحول الآن ل”سلوفان” المرعب لو لم تتوقفي عن طلباتك المزعجة.
لكنها عادت تضحك وهي تحيط وجنتيه بكفيها لتقول بشقاوتها الطفولية:
_ساعتها سأتحول ل”بو” …يا “قطتي”!!
فضحك من قلبه ضحكة عالية وهو يتعجب من ذكائها الفطري الذي يفوق سنها الصغير بمراحل …
ليقبل وجنتها بعمق ثم تنهد ليهمس بشرود:
_كم تشبهين والدتك في هذا…هي أيضاً تجيد ترويض غضبي متى شاءت.
فرفعت ربى رأسها نحوه وهي تقول بحماس:
_أيقظ أمي كي لا نتأخر عن صلاة العيد…وأنا سأنيم عرائسي كي لا تفتقدني عندما نغادر.
عاد يضحك باستمتاع وهو يتبين خيالها الخصب الذي جعلها تهرول نحو دماها القماشية لت
_ملعقة أخرى يا أمي…!
همس بها ضياء الصغير بنبرة آمرة وهما يقفان معاً في مطبخ شقة رحمة التي جاءوا إليها ليحتفلوا معها بالعيد…
كان الصغير يشير إلى علبة السكر الذي يعشق تناوله هكذا بالملعقة…
لكن ماسة تلفتت حولها لتهمس له مؤنبة:
_والدك حذرنا من زيادة تناولك للسكر.
فأحاطها ضياء ساقيها بذراعيه الصغيرين ليوسعهما تقبيلاً قبل أن تتحول نبرته الآمرة إلى أخرى راجية :
_واحدة فقط يا ماستي!
ابتسمت بحنان وهي تجده يناديها كأبيه…
هذا الصغير مشكلة!!
يجيد استغلال ثغراتها كما ينبغي…
لقد ورث قوة شكيمة “أبيه” ودهاء “خاله”…ويعرف مع سنه الصغير هذا كيف يوازن بينهما…كما الآن!!!
لهذا لم تستطع مقاومة منحه ملعقةً أخرى فامتدت أناملها للعلبة تستخرج منها ملعقة مليئة بالسكر لكنها ما كادت توجهها لفمه حتى انتفضت مكانها مع صيحة عاصي الغاضبة:
_ماسة!!
شهقت بعنف والملعقة ترتجف بيدها ليسقط ما بها على عنقها وملابسها …
فيما التفت الصغير نحوه ثم تقدم إليه ليقول برجولة مبكرة على سنه الصغير:
_لا تحاسبها هي…أنا المسئول!
فتوهجت شموسه الزيتونية بعاطفة إعجاب لم تخطئها عينا ماسة الخبيرتين لكن قوله كان صارماً :
_اذهب والعب مع شقيقتك …كفاك ما تناولته من حلوى اليوم!
أومأ الصغير له برأسه في طاعة قبل أن يختلس نظرة أسف نحو ماسة ليغادر بعدها المطبخ الذي أغلق عاصي بابه خلفه برفق…
قبل أن يقترب منها بنظرات عاتبة فرفعت كفيها باستسلام قائلة :
_ضعفت أمامه ككل مرة …
ثم تعلقت بذراعيها في عنقه وهي تغازل غاباته الزيتونية بهمسها:
_ما كان له أن يرث عينيك…أمامهما تذوب مقاومتي.
التوت شفتاه بابتسامة حانية وهو يحتضن خصرها بكفيه ليهمس :
_هو يشكو من تسوس أسنانه في هذا السن الصغير…لا ينبغي أن نجاريه في ما يطلبه .
أومأت برأسها موافقةً وهي تعذره في شدة خوفه على صغيريه…
رغم أنهما تجاوزا معاً صعوبات ماضيهما المعقدة …لكنه هو بالذات لا يزال يحمل رواسب من ذنب تعكر عليه صفو فرحته…
ربما يحاول مداراة هذا عنها لكنها تشعر به جلياً في شدة حرصه على ابنيهما وكأنما عُلّقت روحه بهما….
بينما اتسعت ابتسامته وهو يلحظ حبيبات السكر التي علقت ببشرتها …
فاقترب بوجهه منها لتعانق شفتاه جانب عنقها وجيدها بمذاق “السكر” للحظات …
قبل أن يعيد مغازلته للجانب الآخر “النظيف”…
ثم توهجت شموسه الزيتونية لتسطع على بحار فضتها مع همسه بصوته المميز الذي امتزجت قوته بحنانه:
_ظننته سيصنع فارقاً!!! لم يُضف السكر الجديد لمذاقك.
فضحكت ضحكة رائقة وهي ترفع عينيها إليه بهمسها :
_عندما يقولها صاحب غابات الزيتون فهذا وحده مبرر لغروري!
ثم أخفت وجهها في صدره لتردف:
_من يراك وصرختك تكاد توقف قلبي من قليل لا يصدق دفء عناقك هذا!
هنا ضمها إليه أكثر دون رد وأنامله تعرف طريقها لمنابت شعرها تحت حجابها المتهاوي الذي كان قد أزاحه برفق…
في حركة أثيرة بدت وكأنها شفرتهما الخاصة …
لترفع هي إليه سهامها الفضية هامسة بنبرة عاشقة:
_سيد الأضداد أنت بلا منازع!
ابتسم ابتسامته الرصينة وهو يتناول محرمة ورقية بللها بالماء ثم مسح عنقها وجيدها لينظفهما جيداً أمام نظراتها الحانية…
قبل أن يبتعد عنها ليقول بحزمه الرفيق:
_هيا لنخرج…لا يليق أن نتركهم وحدهم بالخارج ونغلق الباب علينا هنا .
قالها ثم أعطاها ظهره لينصرف لكنها جذبت مرفقه لتهمس له بامتنان :
_شكراً لأنك جعلتنا نقضي اليوم مع أمي…فهد هو الآخر سيمر علينا هنا .
عقد حاجبيه بدهشة ناسبت سؤاله:
_هنا؟!
أومأت برأسها إيجاباً ثم همست بحنان:
_هو لم ينسَ لرحمة صنيعها معي طوال هذه السنوات..لهذا يحاول دوماً شكرها بكل الطرق…
هز رأسه بتفهم عندما ضحكت هي لتردف بمرح:
_لا أطيق صبراً على اجتماع ملك مع ضياء ونور …وميادة ..سيكونون نموذجاً مصغراً لحديقة حيوانات هنا.
ابتسم بسعادة لسعادتها ثم ربت على وجنتها ليقول برفق:
_رحمة تستحق فرحة كهذه بعد كل ما عانته في حياتها …البيت الصغير امتلأ عليها بأحبابها .
رمقته بنظرة حانية وهي تعود بذهنها للوراء …
هذا هو البيت الذي شهد طفولتها ومراهقتها التي تخضبت بحب “هش” داسته أقدام الحياة وظلم البشر فظنتها هي النهاية…
والآن تعود إليه رافعةً رأسها مع زوج يحسدها الجميع عليه وطفلين هما قطعة من القمر…
نفس عيون أهل الحي التي كانت ترمقها بنظرات زاهدة ما بين شفقة واحتقار …هي التي كانت تنظر إليها بإجلال وهي تغادر سيارتها مع عاصي ومع الصغيرين منذ قليل…
فسبحان من يرزق من لا حيلة له حتى يتعجب أصحاب الحيل!!!
أجل …فرحتها اليوم لا توصف وهي تعيش أجواء العيد من جديد مع رحمة …
حتى خوفها الطفيف الذي كان يؤرقها من غيرة عاصي أو ميادة بسبب وجودها هنا مع عزيز عاونها عليها القدر فصار رماداً تذروه الرياح …
وكأنما أرادت لها السماء أخيراً أن تنهل من بئر حب لا تشوبه شائبة!!!
انقطعت أفكارها عندما سمعت صوت رنين الجرس بالخارج معلناً عن وصول فهد وجنة…
فتحرك عاصي ليغادر المطبخ لكنها عادت تجذبه من جديد لتهمس له بعتاب:
_لقد قاربنا وقت الظهيرة….وأنت لم تقل لي بعد كل عام وأنتِ بخير!
فارتفع حاجباه للحظة ثم ابتسم ليهمس لها بمكر:
_أحقاً لم أفعل؟!مممممم…خطأ عظيم!
مطت شفتيها باستياء مصطنع فاتسعت ابتسامته وهو يحتل نظراتها بغزوه الزيتوني من جديد ليهمس لها ببطء :
_كل …عام…وأنتِ…ماسة…
ثم صمت لحظة ليردف:
_ماستي!
فغلبتها ابتسامتها وهي تشيح بوجهها عنه لكنه احتضن وجنتها ليدير وجهها نحوه هامساً بنفس النبرة الماكرة:
_قلتها لكِ على الأرض!
عقدت حاجبيها بدهشة متسائلة عما يعنيه …
عندما اتسعت ابتسامته الماكرة وهو يستخرج تذكرتي سفر من جيبه بينما تلتمع عيناها أكثر بإدراك مع استطراده:
_أربع ساعات وأقولها لكِ في الجو…ومثلهن بعدها لأقولها لكِ في البحر.
ثم اقترب منها خطوة ليردف :
_لن تغرب شمس العيد إلا وقد قلتها لك في الأرض والجو والبحر.
شهقت بفرحة عارمة وهي تهتف بانبهار:
_سنسافر؟! لماذا لم تخبرني كي أعد الأطفال!
لكنه هز رأسه ليقول لها بنبرته المتسلطة بمذاق حنانه:
_وحدنا!
اتسعت عيناها وهي تنظر إليه غير مصدقة …
عاصي لم يترك صغيريه منذ ولدا …وكأنما أبت عيناه اللتان استردتا بصرهما بقدومهما إلا أن تبقيا متعلقتين بهما …
لكنه أجهض دهشتها بتفسيره:
_اتفقت مع رحمة أن يبقى الصغيران معها…هي تريد أن تشبع من صحبتهما….كما أنكِ تحتاجين لهذه الإجازة القصيرة…لا تظنينني غافلاً عن مجهودك الشاق معهما طوال اليوم.
أطلقت صيحة فرحة وهي تعاود تعلقها بعنقه لتشبع وجهه تقبيلاً لكنه ابتسم وهو يقرص وجنتها مداعباً مع قوله :
_هيا لنستقبل شقيقك…أمامك ساعة واحدة تقضينها معه قبل ذهابنا إلى المطار.
فأومأت برأسها لتغادر معه المطبخ نحو غرفة الجلوس القديمة في بيت رحمة حيث كان الجميع يتحدثون بصخب…
بينما صوت لعب الأطفال معاً يحدث جلبةً هائلة…لكنها ممتعة…
خاصةً لقلب “تلك المرأة” التي دمعت عيناها وهي جالسةٌ على أريكتها الأثيرة تراقبهم بفرح…
أجل…رحمة التي كانت ولاتزال “كل الرحمة”…!
ما أجمل حصاد عمر عندما تتقن زرع بذورك في أوله…
وهي فعلتها …فنعم الحصاد!
قلبها الذي ضج يوماً بآلامه يرقص الآن بين ضلوعها منتشياً وهي تراهم كلهم هنا حولها…
هي التي ظنت نفسها ستعيش وتموت وحيدة بعد هروب زوجها بابنها الوحيد …الآن تجد لها عائلة تزداد فرداً يوماً بعد يوم…
فما أجود الكريم في عطائه!!!
هنا توقفت عيناها أمام عيني عزيز الذي شعر بما تعانيه أمه فقام ليجلس جوارها ثم قبل كفها بحنان ليهمس في أذنها :
_لا دموع اليوم يا رحمة.!
فابتسمت وهي تقبل جبينه قبل أن يقطع جلبة الأطفال هذه صوت فهد المرح عندما رأى ماسة:
_حبيبة أخيكِ…أين كنتِ هاربةً من طفليكِ؟!
فانسلت ماسة من كنف عاصي نحوه لتضمه بقوة ثم قالت بمرح:
_بضع دقائق فقط …كنت ألتقط فيها أنفاسي.
فضحك فهد ضحكة عالية ثم مال على أذنها ليهمس بخبث:
_أعرف أنا التقاط الأنفاس الذي يكون في المطبخ المغلق مع السيد عاصي…فعّالٌ حقاً!!!
فعضت على شفتها بخجل وهي تلكزه في كتفه لترد له همسه بمثله:
_قليل الأدب!
هنا اقترب منهما عاصي ليصافح فهد …
ثم سأله بلهجته الرصينة والتي حملت الكثير من الود:
_ماذا قلت لها لتخجلها هكذا؟!
فعاد فهد يضحك للحظات وهو يراقب وجه ماسة الذي كان محمراً بشدة …
ثم قال بمواربة:
_كنت أوصيها بالمطبخ…خاصةً يوم العيد!
كتمت ماسة ضحكتها بكفها لينقل عاصي بصره بينهما بشك…
لكن فهد تجاوز عن هذا عندما تحرك ليجذب ضياء الصغير فيرفعه من ملابسه ليكون في مستواهم …ثم قال له بحزم مصنع:
_أنت يا عقلة الإصبع …يا ذا الشعر المشعث….تعيّر ابنتي لأن شقيقتك فضية العينين؟!
ضحك الجميع بمرح بينما يحرك ضياء الصغير ساقيه في الهواء محاولاً التملص من قبضتي خاله الذي أردف بنفس الحزم مازحاً:
_سأعلقك على مسمار على هذا الحائط حتى تعترف بخطئك.
لكن ضياء الصغير ورغم فشل محاولاته في تخليص نفسه هتف بنفس نبرة أبيه المتسلطة:
_ضياء الرفاعي يقول ما يريد لمن يريد !
عادت ضحكات الجميع تدوي في المكان من جديد إعجاباً بالصغير الذي أردف مكابراً:
_ابنتك جميلة لكن شقيقتي أجمل…إنها حتى لا تجيد الكلام مثلنا.
هتفت ماسة بكلمات مؤنبة له وهي تلاحظ ضيق ملك بما يقول …
لكن فهد أصدر همهمة تهديد طويلة ثم قال له وهو يقرب عينيه من عيني الصغير الزيتونيتين:
_هل تذكر البندقية التي وعدتك بها؟!
التمعت عينا الصغير بنَهم طفولي عندما أشار فهد بعينيه لتلك اللفائف المغلفة بورق لامع والتي أحضرها معه …قبل أن يقول له بنفس الحزم:
_انسَها إذن!
هنا صمت الصغير للحظات وكأنه يفكر ثم تعلق بعنق فهد فجأة ليقبل وجنته هاتفاً :
_خالي الحبيب…وهل هناك أجمل من “لوكا” ؟!
انفجرت ماسة بالضحك وهي تنقل بصرها بين فهد الذي بدا الانتصار على وجهه وعاصي الذي التمعت عيناه بحنان …
لتقول مخاطبة فهد :
_إنه نصاب مثلك…كنت أفكر منذ قليل أنه ربما ورث قوة أبيه لكنك أستاذه في الشقاوة والاحتيال!
هنا تدخلت ميادة في الحديث لتقول لضياء بنبرة مرحة:
_وماذا عن ميادة يا ضياء؟!
فالتفت ضياء نحو الصغيرة وكأنه يقارن …ثم قال لأمها:
_هو أحضر بندقية …ماذا ستحضرين أنتِ؟!
عاد الجميع يضحكون بمرح على ذكاء الصغير السابق لسنه …
بينما ضمه فهد برفق ليسير به نحو اللفائف التي فض إحداها ليستخرج له منها بندقية فخمة الشكل ناولها له وهو يعلمه طريقة إمساكها قائلاً:
_تضع يدك هنا …نعم …هكذا…وإصبعك…
_لا!
والهتاف هذه المرة شق المكان بدويّه ليسود الصمت بعدها ….!!!!
أجل…كان عاصي الذي توترت ملامحه وهو يقبض كفيه جواره وقد بدت على وجهه أمارات صراع قديم…
صراع لم تشعر به سوى ماسة التي تحركت لتقترب منه أكثر حتى كادت تلاصقه قبل أن تنقذ الموقف بقولها الذي تكلفت مرحه:
_عاصي لا يحب الألعاب العنيفة للصغيرين …خصوصاً في هذا السن.
فالتمعت عينا فهد بإدراك وهو يلتقط الموقف بذكاء …
ثم تنحنح ليخاطب الصغير محاولاً امتصاص تذمره بقوله :
_معها حق…دعك من هذه اللعبة المملة…وانظر ماذا جلبت لك أيضاً!!
هنا اشتعل وجه الصغير بحماس ليلقي بندقيته جانباً وهو يفض مع فهد محتويات بقية اللفائف التي حوت المزيد من الألعاب التي شغلته بحق…
قبل أن ينضم إليهما بقية فريق الأطفال ليقلبوا اللعب بفضول وسط ضحكاتهم الحماسية…
تنهدت ماسة بارتياح وهي تلتفت نحو جانب وجه عاصي الذي غاب في شروده وهي تكاد تقسم على ما جرته إليه أفكاره الآن…
عندما تقاتل أربعين عاماً من عمرك فأنت لا تواجه خصماً سهلاً…
وهو الآن لا يجاهد ماضيه فحسب…بل خوفه من غده كذلك …
كل لحظة يقضيها مع طفليه تذكره بما مضى وتخوفه مما هو قادم…
ولولا شعوره بعفو السماء عندما ردت له بصره مع طفليه…لاستسلم لخوفه هذا للأبد!!
لهذا انسحب من رفقتهم نحو الشرفة الخارجية لتلحق به ماسته التي احترمت صمته لدقائق شاركته فيها بقلبها دون حديثها وهما يستندان على سور الشرفة متجاورين…
قبل أن تلتفت نحوه لتقول بابتسامة مشرقة:
_تعرف ما أجمل ما في هذا البيت؟!
التفت نحوها ليعانق حنان عينيها بنظراته منتظراً تتمة عبارتها …
فاتسعت ابتسامتها وهي تجيب سؤالها بنفسها :
_أنه الآن شاهد على أن رحمة السماء سبقت عدلها…..رحمة…عزيز…ميادة…فهد…جنة…أنت… وحتى أنا….كلنا غلبتنا شياطيننا يوماً وإن اختلفت الدرجات …لكننا يوم عدنا لطريق الحق وجدنا الفرحة تفتح ذراعيها لنا .
هز رأسها يفكر في كلامها الذي كان يربت على جروح روحه القديمة كعهدها…
بينما أردفت هي بيقين :
_ابن عاصي الرفاعي سيتعلم حمل البندقية كما سيتعلم الرسم بالفرشاة…لكنك أنت …أنت ستجعله يفهم متى يستخدم كلاً منهما…أنت الوحيد القادر على غرس هذا فيه ليدرك متى يحتاج لقوته…ومتى يحتاج لإحساسه…
ثم صمتت لحظة لتردف بنبرة أكثر حرارة ملؤها الإيمان:
_لا تخف على ابننا…أنت ستكون سنده كما هو سندك…ستكون ملء قلبه كما هو ملء قلبك…سيرث حنانك كما ورث قوتك…وسيعرف كيف يوازن بينهما!
هنا انشقت شفتاه عن ابتسامة واهنة وهو يلتفت نحوها بجسده كله ليهمس أمام ماسيّتيها:
_كعهدك صغيرتي…تدركين تماماً ما أحتاج سماعه …ومتى أحتاج سماعه !
فابتسمت بدورها وهي تهمس له بحب احتل كيانها كله:
_لقد أحسن الأستاذ تعليم تلميذته…فما بالك لو كانت عاشقته؟!
هنا تحولت ابتسامته الواهنة لأخرى مشرقة ثم تطلع لساعته ليقول بهدوء:
_هيا ندرك ما بقي من وقتنا قبل موعد الطائرة.
وفي صبيحة اليوم التالي كانت تقف معه على متن أحد “القوارب الزجاجية” كما يسمونها …
“Glass boats”
تلك المميزة بتصميمها الذي يجعل طابقها السفلي شديد الشفافية بما يسمح بمراقبة قاع البحر…
بينما يمكنك الطابق العلوي بمتابعة سطح البحر المعتاد…
حيث بدأت رحلتهما من شاطئ تلك المدينة الساحلية على البحر الأحمر لتأخذهم في عرض البحر قليلاً قبل أن يتعمق أكثر ليمكنهم من رؤية أعماقه…
كانت واقفةً جواره تستند بكفيها إلى سياج القارب وتتأمل ألوان البحر حولها بانبهار ناسب همسها:
_سبحان الله…يختلف تماماً عن شكل البحر أمام بيتنا …وكأن لكل منهما سحره وهويته !
فابتسم وهو يقول لها بنبرته الرصينة:
_هذا هو سر البحر يا عاشقة البحر…أنه مرآة ما بداخلك…هو الغريب القريب …والضاحك الباكي.
ضحكت باستمتاع وهي تدور بعينيها فيما حولها لتعود إليه ببصرها مع تساؤلها:
_أناملك تشتاق الرسم أمام منظر كهذا؟!
لكنه هز رأسه نفياً وهو يضم كتفيها إليه بذراعه قائلاً:
_تعمدت ألا يشغلني عنك شيء في هذه الرحلة…
ثم تنهد بحرارة ليقول بشرود:
_منذ التقينا ولم تتح لنا فرصة عزلة كهذه…دوماً كان هناك ما يقف بيننا ..لهذا أردت أن أعوضك بشيء بسيط كهذا.
ابتسمت وهي تقول بحرج:
_هل تصدقني لو قلت لك إنني كنت على وشك أن أطلبها منك لولا خوفي من ترك الطفلين وحدهما….كنت أحتاجها حقاً…
ولم تكد تتم عبارتها حتى رن هاتفها في حقيبتها القريبة …
فتناولته لتقول بلهفة:
_إنها أمي!
كسا وجهه قلق مفاجيء وهو يراقب انفعالات وجهها وهي تستمع لرحمة حتى لانت أخيراً مع ضحكاتها المرتفعة فابتسم وهو يسمعها تقول لها بلهجة اعتذار:
_حسناً…لا بأس…سنعيد طلاءه عندما نعود!
قالتها ثم ودعتها بكلمات تقليدية قبل أن تغلق الاتصال لتنفجر في الضحك مع قولها له مفسرة:
_فهد أحضر لهما فرشاة وألوان…نور حبيبة أمها زينت لأمي زجاج النافذة بألوان رقيقة…لكن …ضياء…شبيه أبيه …ماذا فعل؟!
ضحك ضحكة متحمسة وهو يرقبها بلهفة لم يفضحها لسانه…
عندما استطردت هي وسط ضحكاتها:
_استيقظوا من النوم ليجدوا الجدران كلها ملطخة بالألوان…وعندما عاتبته رحمة…قال إنه فنان حر لا يحب تقييد إبداعه…ألا يذكرك هذا بأحد؟!
ابتسم بحنان مطرقاً برأسه وهو يجد الصغير يستخدم نفس عباراته مقلداً إياه…
رباه!!!
ما أجمل هذا الشعور!!!
قطعة منك تحمل بعض ملامحك…تكبر أمامك يوماً بيوم…تحاكيك في أقوالك وأفعالك…وتنتظر بفارغ الصبر أن يأتي اليوم الذي تكون لها فيه شخصيتها المستقلة…لتتحول من مجرد تابع مقلد إلى صديق وندّ…
يسمونها “أبوة”…ويسميها هو “حياة”!!!!
حياة لا يدرك قيمتها إلا من حُرم منها طويلاً مثله!!
لهذا اعتصرت قبضة باردة قلبه بمذاق اشتياقه إليهما …
عندما صادف سؤالها شعوره :
_افتقدتهما؟!
_جداً!!
همس بها بحرارة متلهفة بعيدة عن طبعه الرصين فابتسمت وهي تقرأ خبيئته بغابات زيتونه لتقول بنبرة مرح ماكرة:
_مممم…عاصي الرفاعي صار لديه نقطة ضعف…بل اثنتان!
فجذبها من ساعدها نحوه لتلتمع عيناه بعاطفة مشتعلة ناقضت همسه المقتضب:
_ثلاث!
ارتجف جسدها تأثراً كعادتها كلما تلمست وهج عاطفته في عينين كهاتين…ومن قلب كهذا…عينين لم تريا سواها في عالم الحب…وقلب لم يعشق إلا هي من بين نساء العالمين!!!
لهذا بادلته ماسيّتاها نظرة بنظرة…وأناملها لمسة بلمسة…وشفتاها ابتساماً بابتسام…
لكن رنين هاتفه هو الأخر قطع عليهما سحر اللحظة …
فتناوله لينظر لاسم المتصل الذي اكتفى برنة قصيرة …ثم غمغم بأسف:
_إنها طيف!
أومأت برأسها في تفهم وهي تدرك طبيعتهما معاً…
عاصي لم يكف عن الاتصال بها منذ الأمس ليعايدها …لكنها لم تكن ترد على اتصاله…طبيعتها العنيدة المتمردة غلبتها كعادتها …
والآن يبدو أن بعضاً من مشاعرها يحاول الطفو للسطح بهذه “الرنة القصيرة” التي تفضح ترددها …
طيف الصالح معضلة كأخيها!!!
وإن كانت قشرة عاصي الصلبة قد تصدعت يوم عشقها هي…
فهل تأذن الأيام لطيف العنيدة بتصدع “لذيذ” كهذا؟!
انقطعت أفكار ماسة عندما وجدته يعيد الاتصال بها …لينتظر طويلاً قبل أن يأتيه ردها البارد:
_ماذا كنت تريد؟!
كان صوت طيف المتغطرس يصل ماسة بوضوح وهي تقف جواره …تماماً كما كان يصلها شعورها الذي تحاول مداراته خلف نبرتها الثلجية هذه…
كانت تثق أن طيف تنتظر هذا الاتصال لكنها تكابر كعهدها بزعمها أنها لا تحتاج لعاطفة أحد…
لهذا لم تتعجب صبر عاصي وهو يقول لها بصوته الرزين الذي تغلف بدفء حنون :
_كل عام وأنت بخير!
ظل الصمت جوابها للحظات قبل أن يصله صوتها المختنق بغصته مع تجاهلها لرد معايدته لتقول بنفس البرود:
_كيف حال الصغيرين؟!
_بخير…ألا تودين رؤيتهما؟!
قالها عاصي بحذر وهو يعرف يقيناً أنها سترفض عرضه عليها بالحضور ككل مرة لهذا لم يتعجب ردها المتعجرف:
_أرسل لي صورهما عبر البريد الاليكتروني…سلامي لماسة!
قالتها ثم أغلقت الاتصال بسرعة قد يراها البعض سخافة لكنه يدرك جيداً ما خلفها …
إنه هروب!!!
هروب من ماضٍ قد يجر قدميها معه للقاع وهي التي ذاقت الويل كي تطفو على السطح…
لهذا زفر بقوة ثم ألقى هاتفه جانباً ليقول بضيق:
_لا فائدة!
فابتسمت ماسة وهي تعانق كفه بكفيها لتقول بحنان:
_من قال هذا؟! أنا أعرف طيف جيداً بحكم سابق علاقتنا…صدقني لو لم تكن تشتاق حديثك لما نلت هذا الاتصال…
ثم ضحكت وهي تتذكر نوادرها معهما في “أبو ظبي” لتردف بمرح:
_طيف الصالح لا تبالي بذوقيات تعامل ولا تعرف شيئاً عن المجاملات…وردّها على اتصالك ذو قيمة كبيرة من امرأة مثلها…لو لم تكن راغبة في الحديث معك لما فعلتها!
رفع رأسه للسماء للحظات ثم قال بشرود:
_فقط لو يمكنني تعويضها عما كان!
فرفعت كفه نحو صدرها لتقول بثقة:
_أنت تفعل…هي الآن تثق أن لها أخاً يمكنها اللجوء إليه متى شاءت…دعها تبتعد كما يحلو لها…لكنها عندما تحتاجك ستأتيك بعمق يقينها أنك لن تخذلها.
لكنه عاد إليها بغابات زيتونه التي تمايلت أغصانها بين أسف وندم ليهمس :
_لا أريدها أن تأتي لأنها تحتاج…بل لأنها ترغب!
_ستفعل يوماً ما …صدقني!
همست بها بنبرة مطمئنة نثرت عبير سكينة في روحه القلقة حتى هدأتها…
قبل أن يشعرا معاً بتوقف القارب في المنطقة المتفق عليها لكي يتمكنا من رؤية ما في الأعماق…
فتلفتت حولها بترقب عندما جذبها من معصمها نحو الغرفة السفلية للقارب…والتي حوت نوافذ زجاجية عديدة تسمح برؤية الشعاب المرجانية وحركة الأسماك في القاع …
كان قد استأجر القارب بأكمله لهما وحدهما بالطبع ليضمن خصوصية أكبر خاصةً عندما أغلق الباب خلفه …
إضاءة المكان كانت شديدة الخفوت إلا من ضوء الشمس المنعكس على الزجاج من قاع البحر لكي تمكن الجالس من مشاهدة ما بداخل الأعماق بوضوح…
ولما جلس جوارها على أحد الكراسي المخصصة لمشاهدة العالم الرائع خلف زجاج القارب وجدها تهمس بانبهار:
_ياللروعة! هل رأيت الشعاب المرجانية بألوانها هذه؟! وهذه الأسماك…أوه…!!
انقطعت أنفاسها المبهورة وهي تراقب الأسماك الملونة التي سارت كل منها في جماعاتها …
والشعاب المرجانية التي تباينت أشكالها وكثافتها…
بينما بدا قاع البحر وكأنه رملٌ أبيض…
لتتلاحق أنفاسها باستمتاع فتشعر وكأنها حقاً قد صارت جزءاً من هذا العالم…
بينما كان هو يراقب انفعالاتها برضا قبل أن يجذبها نحوه ليحتويها بين ذراعيه هامساً بصوته الآسر:
_كنت أعلم أنكِ ستنبهرين هكذا…
ثم رفع ذقنهانحوه ليردف بنبرة أكثر دفئاً:
_هل تذكرين أول أغنية خصصتني بكلماتها؟!
خفق قلبها بجنون والذكرى تلفها بدوامة شهية من حنين عذب…
لتهمس بانفعال حار:
_كنت بين ذراعيك…على سطح القصر…ساعة الشروق…يومها غنيتها لك…لم أشأ الاعتراف وقتها أنني أعنيك أنت بكلماتها.
فمال على شفتيها بقبلة ناعمة قبل أن يهمس :
_طالماكنت قادراً على انتزاع اعترافاتك حتى دون كلمات.
ابتسمت وهي تتذكر الغنوة لتهمس بشرود :
_”أنا بعشق البحر”!
أومأ برأسه إيجاباً لينتزعها من شرودها بغزوه المحتل لشفتيها …
غزو يليق برجل مثله في مزيج حنانه وقوته…دفئه وجبروته…احتوائه وهيمنته…
ذاك المزيج الذي تكاد تقسم ألا رجل في هذا العالم قادرٌ على التوشح به إلا هو…
حتى ولو لم ينطق بكلمة واحدة!!!!
لهذا لم يكن عجيباً أن ذابت خلاياها بين ذراعيه تجزيه عن اشتعاله اشتعالاً…
عن انصهاره انصهاراً…
عن مطر عاطفته طوفاناً!!!!
حتى ابتعد عنها أخيراً ليحتضن وجنتيها براحتيه مع همسه:
_لهذا تعمدت أن أحضرك هنا…كي تسبري أغواره بعينيكِ…كما فعلتِ بي !!
فتمالكت أنفاسها اللاهثة لتهمس بصوت متهدج:
_أنا أعشق البحر…وأعشقك أنت أكثر!
توهجت شموسه الزيتونية بعاطفتها وهو يعيد غرس رأسها على صدره مع همسه الأجش:
_افتقدت غناءكِ على صدري.
أخذت نفساً عميقاً ثم طوقت خاصرته بذراعيها لتسند رأسها على صدره..
ثم هامت ببصرها تراقب أعماق البحر أمامها بانبهار حالم….
كم كانت صادقة يوم شبهته بالبحر…
سطحه الظاهر مهما هاج بأمواجه أو أبهج بألوانه …كل هذا لا يساوي شيئاً أمام جمال باطنه هذا الذي تراه…
تماماً…كعاصي الرفاعي…
ذاك الذي تداري واجهته الصلبة فضاءً شاسعاً من حنان وحب!!!
لهذا تنحنحت بخفوت ثم رفعت أحد كفيها لتبسطه على صدره في حركة تدرك كم يعشقها …وكأنها تستقريء بها دقات قلبه لتفضح مكنونه…
قبل أن تلامس شفتاها صدره في موضع قلبه تماماً لتهمس له بخفوت:
_شكراً لقلبٍ لم يخذلني كما فعل بي الآخرون يوماً !
أغمض عينيه وهو يحتويها بضمة رفيقة عندما بدأت هي تدندن بلحنها الأثير …
قبل أن تهمس بتلك الكلمات التي طوقت بعذوبتها قلبيهما معاً…
أنا بعشق البحر…
زيك يا حبيبي حنون…
وساعات زيك مجنون…
ومهاجر…ومسافر…
وعشان زيك زعلان…
وساعات زيك فرحان…
وساعات مليان بالصبر…
أنا بعشق البحر….
========
**نيلي…..
طلّ وسألني إذا نيسان دقّ الباب
خبّيت وجّي وطار البيت فيّي وغاب
حبّيت إفتحلو وعالحب إشرحلو
طلّيت ما لقيت غير الورد عند الباب
بعدك على بالي
يا قمر الحلوين
يا سهر بتشرين
يا دهب الغالي
بعدك على بالي
يا حلو يا مغرور
يا حبق ومنتور
على سطح العالي
بعدك على بالي
يا قمر الحلوين!
_فاشلة!!
هتفت بها حسناء بغيظ وهي تدخل عليها غرفتها لتجدها شاردة مع فيروز في غنوتها فالتفتت نحوها زهرة لتقول بشرود:
_ماذا قلتِ؟!
أغلقت حسناء شاشة الحاسوب المحمول من حيث انبعثت الأنغام التي أخرستها هي تماماً وهي تعاود هتافها المغتاظ:
_أقول إنك فاشلة !!! قرابة الثلاثة أعوام مرت عليكِ منذ اتخذت علاقتكما شكلها الجديد وأنتِ عاجزة عن الحصول على دبلته في إصبعك …لو كنت مكانك لكنت أحمل منه طفلاً على ذراعي الآن!
احمر وجه زهرة خجلاً وهي تخبطها في كتفها لتقول بارتباك:
_ماذا تنتظرين مني أن أفعل؟!
فمصمصت زهرة شفتيها وهي تشد أذنها لتقول باستنكار:
_أي شيء أفضل من الاستماع لفيروز كبلهاء بابتسامة حمقاء…بينما الرجل يلف ويدور على راحته في أوروبا!
تأوهت زهرة بضعف وهي تحاول تخليص أذنها منها لتقول مدافعة:
_هو لا يتسكع هناك….هو مسافر لأجل عمله!
فتأففت حسناء وهي تقول لها بضيق مشوب بالإشفاق:
_عمرك يضيع يا زهرة …أخاف أن تكوني تلهثين خلف سراب…لماذا لا تحاولين الضغط عليه بأساليب أكثر…ممممم…أنثوية؟!
أرفقت كلمتها الأخيرة بغمزة ماكرة لكن زهرة هزت رأسها بحركة رافضة وهي تشبك أصابعها لتقول بحسم:
_لم أعد تلك المخبولة التي تلاحقه طمعاً في حبه…أنا أنتظره لأنني الآن أفهمه…أفهم خوفه الطبيعي من الفقد والذي يدفعه للخوف من الارتباط…أشعر بخطواته المترددة نحوي والتي تسعدني رغم بطئها…
ثم ابتسمت لتردف بشرود حالم:
_أستمتع بمحاولاته الجادة لاستكشافي والتي تثأر لي من طول عهدي معه بهذا…أعشق نظرة عينيه التي يودعني بها كل مرة قبل سفره تكاد تتوسلني أن أمنحه وعداً لكنني أبخل به عليه …نعم…أنا أنتظره لأنني أحب انتظاره…وأعلم أن ما أرجوه منه يستحق الانتظار!
تنهدت حسناء بحرارة ثم ربتت على كتفها وهي تسألها :
_كثرة أسفاره هذه تقلقني…ماذا لو ذهب مرة ولم يعد؟!!…ماذا لو عاد مرة مع امرأة أخرى؟! هو حتى لم يعترف لك بمشاعره …ولم يمنحك أية وعود!!
لكن زهرة عادت برأسها للخلف لتستند على ظهر فراشها قائلة بنبرة عاشقة:
_صدقيني ليس لي خيار…لن أمنع قلبي من حبه مادامت كرامتي مصونة لا تمس…هو يقترب لكن ببطء وأنا واقفة مكاني…أنتظره!
عادت حسناء تتنهد بيأس من مجادلة هذه المتيّمة التي رن هاتفها الآن باسمه…
فضحكت بلهفة وهي ترفعه في وجهها لتردف بهيام:
_ها هو ذا يتصل!!
زفرت حسناء بقوة وهي تدفعها بعنف لتقول بسخرية:
_يالفرحتي بخيبتك!! أضيعي عمرك في السماع لفيروز وتناول الشاي الأخضر حتى تخطفه منكِ امرأة حقيقية تعرف كيف تدير رأسه …
ثم أردفت بنبرة آمرة:
_أنهي مكالمتك سريعاً حتى نخرج للتسوق!
لوحت لها زهرة بكفها في استخفاف قبل أن تتنحنح بخفة لتفتح الاتصال بقولها:
_أهلاً دكتور جهاد …كيف حالك؟!
صمت للحظات قبل أن يصلها همسه الدافيء:
_افتقدتكِ يا “نيليّة”!!
احمرت وجنتاها بخجل وهي تسمعه يهمس بها لأول مرة …
فعادت تتنحنح لتهمس بارتباك:
_نيلية؟!!
ضحك ضحكة آسرة وهو يجيبها بنفس النبرة الدافئة:
_بالأمس خطرتِ على بالي… وجدتني رغماً عني أراكِ تشبهين نيل بلادك…هادئاً رقيقاً يسري بلا صخب …لكنه خلاب ينبض بالحياة…
ثم صمت لحظة ليردف بنبرة أكثر دفئاً:
_ويقولون إن من يشرب منه مرة فلابد أن يعود إليه!!
كانت وجنتاها الآن قد وصلتا حد الاحتراق بينما قلبها يخفق بجنون …
ورغم أن هذه لم تكن أقوى كلمات غزل سمعتها لكن قلبها يكاد يقسم الآن أنها كذلك ..
كفاها أنها منه هو !!
ماذا يطلب كي يعيدها على مسامعها من جديد ؟!!
ولماذا لم تشغل خاصية تسجيل المكالمة قبل الرد عليه ؟!!
لكن لا بأس!!
ستبقى كلماته محفورة في عقلها كأنها تسمعها بنفس الدفء ونفس العذوبة!!
لكن بقايا من تعقلها -المستحدث- جعلها تتجاهل الرد على إطرائه لتقول له بجدية تصنعتها:
_متى ستعود من سفرك؟! هل كان موفقاً؟!
تجاهل الشق الأول من سؤالها ليجيب الثاني بقوله الضائق:
_مشاكل معتادة لكن لا بأس…
ثم صمت لحظة ليردف بحزن مسها:
_عندما ينتزعون منا أوطاننا فكل البلاد لنا منفى!
غامت عيناها بنظرة حزينة وهي تتبين سر حزنه مع الأخبار الأخيرة عن القدس المحتلة …
بينما كانت حسناء تشير لها نحو إصبعها وكأنها تذكرها بخطة اقترحتها عليها بالأمس …
أن تكذب عليه بزعمها أن أحدهم قد تقدم لخطبتها كي ترى ردة فعله!!
لكنها هزت رأسها نفياً برفض قبل أن تقول له بنفس الجدية وإن امتزجت بحنانها الفطري هذه المرة:
_تقبل قدرك يا دكتور وسِرْ طريقك بنجاح كما تعودت !
هنا مصمصت حسناء شفتيها باستياء فاضطرت زهرة لإنهاء المكالمة بقولها:
_نراك بخير يا دكتور…عذراً ورائي عملٌ مهم!
كتمت حسناء ضحكتها وهي تميل رأسها متفادية الوسادة الطائرة التي قذفتها بها زهرة والتي كانت قد أغلقت الاتصال لتقف الآن على الفراش هاتفة بغيظ طفولي:
_هل استرحتِ الآن؟! أفسدتِ المكالمة الهاتفية التي أنتظرها بفارغ الصبر …
ثم رفعت رأسها للسقف رافعةً ذراعيها بوضع الدعاء مع هتافها الطفولي :
_كشفت رأسي ودعوت عليكِ يا حسناء…حسناء؟!! أنتِ حسناء؟!! أنتِ حمقاء!!
بينما ضحكت حسناء بانطلاق وهي تقول لها بتخابث:
_هكذا أفضل…العبي دور “صعبة المنال” قليلاً لعل صنمك هذا ينطق!!
هنا قفزت زهرة من على الفراش لتتوجه نحوها بخطوات مندفعة ثم أحاطت كتفيها بذراعها لتقول لها بهدوء مصطنع:
_حسناء حبيبتي…نصائح كتاب “كيف تصطادين عريساً” هذه لا تعجبني…
ثم التفتت نحوها فجأة بوجهها لتخبط جبينها بجبهتها بقوة مردفة بصوت أعلى:
_وفريها لنفسك!!
تأوهت حسناء بخفوت وهي تبتعد عنها لتشتمها بمرح قبل أن تحرك حاجبيها مغيظة إياها بقولها:
_كما تشائين أيتها “العانس البليدة”…بدلي ملابسك وهيا لنخرج… لقد تأخرنا!!
وبعدها بقليل كانا يتوجهان معاً نحو أحد المولات للتسوق …
عندما ابتعدت حسناء عنها لتقيس أحد الأثواب فانشغلت بتفحص بقيتها حتى توقفت عيناها أمام ثوب نيليّ فاتح…
فابتسمت رغماً عنها وهي تتذكر ما وصفها به …
وقلبها يخبرها بحدسه أن عودته هذه المرة قد تحمل لها بشارة العشق التي تنتظرها منذ سنوات اصطبغت بحبها الصامت له…
انقطعت أفكارها عندما عادت إليها حسناء أخيراً بوجه مبتهج وهي تقول لها ببشاشة:
_المقاس ممتاز…سآخذه!
ثم جذبتها من كفها نحو ركن آخر من المحل اصطفت فيه أثواب زفاف لتهتف بها بمرح:
_تعالي يا “منحوسة”…تعالي وشاهدي هذه لعلكِ تسمعين نصائحي!
فابتسمت زهرة بحرج وهي تشعر بأنظار رواد المحل تتوجه نحوهما لتهمس لها معنفة:
_ستفضحيننا يا “مجنونة”…أخفضي صوتك!
لكن حسناء بدت متحمسة حقاً وهي تقلب الثياب واحداً تلو الآخر حتى استقرت على أحدها لترفعه أمام وجهها هاتفة بانبهار:
_انظري لهذا…يستحق كل ماادخرناه هذا العام…تحفة!
لكن زهرة هزت رأسها وهي تقول بعناد:
_هو رائع حقاً…لكنك لن تقنعيني بهذا لاتباع أساليبك الملتوية!
فضحكت حسناء وهي تدفعها نحو غرفة القياس عنوة ولازالت تحمل الثوب لتهتف بها برجاء:
_جربيه فقط…أريد رؤيته عليكِ…
ثم مدت أناملها تمسح دمعة وهمية لتستطرد بآداء تمثيلي:
_أريد أن أراكِ عروساً قبل أن أموت!
ضحكت زهرة بدورها وهي تتناوله منها مدعية الخنوع بقولها:
_أشفقت عليك…حسناً…انتظري هنا حتى أجربه!
ولم تكد تسدل الستار خلفها حتى خفق قلبها بشعور غريب وعيناها تطاردان تفاصيل الثوب الساحرة بنظرات هائمة…
طوال هذه السنوات التي قضتها عاشقة لصاحب العينين الزرقاوين لم تجرؤ على الحلم به كزوج ترتدي له الأبيض…
كل أحلامها كانت تقف عند أن يشعر بها فقط!!!
أن يراها كما تراه!!!
لكنها الآن وهي تمسك هذا الثوب الرائع بين يديها تجد نفسها تتمنى هذا بحق …
تتمناه بكل جوارحها!
لهذا نزعت عنها ملابسها بحماس لترتدي الثوب البسيط الذي انسدل على جسدها بنعومة لا مبالغة فيها …
لم يكن واسعاً منتفشاً كما اتفق بل كان انسيابي التصميم …
يلتصق بنصفها العلوي حتى أسفل خصرها ثم يتسع بعدها قليلاً لتتخلل بياضه أشعة من خيوط فضية لامعة…
وهناك على صدره كانت حبيبات منمنمة من أحجار الفيروز الصغيرة التي زينت جانباً من ياقته وامتدت متناثرة برقة على أحد ذراعيه…
وقفت تتأمل نفسها في المرآة بعينين دامعتين ولسانها يلهج بدعوة واحدة…
أن يأتي اليوم الذي ترتديه له !!
سمعت صوت حسناء بالخارج تستعجلها فتنحنحت وهي تزيح الستار …
لكن الوجه الذي طالعها لم يكن وجه حسناء …
بل وجهه هو!!!
أجل جهاد!!!
جهاد الذي كان يرتدي قميصاً بلون ثوبها على بنطال من الجينز بينما يضع “شاله ” المميز بلونيه الأبيض والأسود على كتفيه كعادته…
شهقت بعنف وهي تداري جسدها بذراعيها …
رغم أن الثوب لم يكن عارياً لكنها شعرت به وكأنه يفضح عشقها له!!
يقولون إن “الصبّ تفضحه عيونه”…
وكل ذرة في جسدها الآن كانت فضيحة وحدها!!!!
بينما ضحك هو ضحكته الساحرة وهو يتقدم منها خطوتين ليكون معها في غرفة القياس …
عيناه تدوران على جسدها بنظرات إعجاب لم يخطئ قلبها تأويلها …
قبل أن يهمس لها بلكنته المميزة:
_ساحرة أنتِ يا “نيليّة”!
ارتجف جسدها بقوة وقد احمرت وجنتاها مع همسها المصدوم:
_جهاد…أقصد…دكتور جهاد…متى عدت؟! كيف….
لكنه عاد يضحك بعذوبة ولازالت عيناه تعانقان عينيها بمشاعر دافئة مع قوله:
_كانت خطتي السرية مع حسناء…أنا دبرتها وهي وافقتني…
ثم اكتسبت ضحكته نوعاً من الشقاوة الغريبة على طبعه الوقور مع استطراده العابث:
_وأرى النتيجة تستحق!
حسناء؟!!
نظرت للخارج لعلها تراها لكن -الماكرة- كانت قد اختفت تماماً !!
ستمزقها إرباً عندما تراها!!!
كيف تضعها في هذا الموقف؟!!
كيف…؟!!
انقطعت أفكارها عندما شعرت به يقترب منها أكثر فتراجعت للخلف بصورة تلقائية وهي تحاول استعادة تماسكها بقولها:
_ولماذا فعلت هذا؟! لا أفهم.
هنا التمعت بحوره الزرقاء بنظرة غريبة لم تعهدها فيهما قبلاً…
نظرة “ثرية” عوضت “فقر” أحلامها به…
نظرة بألف وعد !!
فارتجفت شفتاها أكثر وهي تشعر أنها على وشك فقدان وعيها انفعالاً…
بينما نزع هو عنه “شاله” ببطء لتفاجأ به يضعه فوق كتفيها وهو يهمس لها بأعذب نبرة سمعتها منه يوماً:
_طلّي بالأبيض طلّي…يا زهرة نيسان!
انفلتت من شفتيها صيحة خافتة وهي تتلفت برأسها يميناً ويساراً بينما تهمس بارتباك أثار إشفاقه:
_ماذا تقول؟! ماذا تعني؟! آآآ…ماذا ت…
لكنه قطع عبارتها عندما رفع ذقنها نحوه ليهمس أمام عينيها بمزيج من حب وتخابث:
_لا تعلمين ما يعنيه رجلٌ مثلي عندما يضع شاله الذي يقدسه على كتفي امرأة؟!!
ثم صمت لحظة ليردف وعيناه تدوران على ثوبها بافتتان:
_امرأة ترتدي الأبيض له…له وحده؟!
عضت على شفتها وهي تكاد تبكي من فرط انفعالها لتسول لها نفسها الكذب بهمسها:
_لم أكن أرتديه لك ..ولا لأي أحد…كنت فقط أجربه!
لكنه عاد يضحك ضحكة خافتة رافقت همسه:
_لا تجيدين الكذب يا “نيلية”!
هنا غلبتها دمعة حارة سقطت من طرف عينيها وهي تبتعد عنه بوجهها لتهمس بانفعال:
_توقف…أرجوك…
ازداد إشفاقه على ارتباكها المتزايد فابتعد عنها خطوة وهو يتنحنح ليقول بحنان:
_حسناً…أعيدي لي شالي وسأخرج لنكمل كلامنا بعيدً عن هنا.
ازدردت ريقها بتوتر وهي تنزع شاله عن كتفيها بأنامل مرتجفة لتعطيه له…
لكنه عقد ساعديه أمام صدره وهو يصدر همهمة اعتراض من شفتيه متجاهلاً أناملها الممدودة مع قوله:
_أعيديه لي بنفس الطريقة التي أعطيتك إياه بها!
رفعت عينيها الدامعتين إليه بتردد مشوب بفرحة شعت وسط نظراتها العاشقة…
ثم تمالكت نفسها لتهز رأسها باعتراض …
قبل أن تهمس له بعزم يناقض خجلها المشتعل هذا:
_ليس الآن…ليس قبل أن أفهم!
_حقك يا “نيلية”!
همس بها بغمزة ماكرة قبل أن يتناول منها شاله ليضعه بنفسه على كتفيه ثم خرج ليقول لها بحزم مرح:
_ترفقي بالثوب بينما تخلعينه هذه المرة…وأنا سأتولى القادمة!
شهقت بخجل وهي تسدل الستار بحركة سريعة بينما قلبها يكاد يتوقف من فرط خفقانه لتعود ببصرها نحو المرآة حيث وجهها المحترق بخجله لتهمس لنفسها بعدم تصديق:
_جهاد…كان هنا…
ثم لطمت وجهها المحتقن بخفة لتردف بصدمة:
_هل قال هذا حقاً ؟!!!…هل قال إنه سيخلع عني الثوب المرة القادمة؟!الوقح…الوقح…ال…آآه…ال…
انتهت عبارتها بتنهيدة حارة بينما أناملها تمتد لتجذب سحاب ثوبها مع همسها العاشق:
_الحلو المغرور!
لم تدرِ كيف مرت بها الدقائق بعدها حتى وجدت نفسها معه في نفس المتنزه الذي يلتقيان فيه كل مرة…
لكن الفارق في هذه اللحظة أن “الثوب العزيز” كان معها…
عيناها تختلسان النظر إليه بينما هي عاجزة تماماً عن مواجهة عينيه حتى مع سؤاله العابث:
_ألن تقولي شيئاً؟!
صمتت قليلاً تحاول الموازنة بين ارتباكها الخجول واعتدادها المستحدث بنفسها …
لترفع إليه عينيها أخيراً بينما تشبك أناملها لتحكم ارتجافتهما مع قولها:
_أنا لم أنتظر طوال هذه السنوات لأقول أنا…لو كان لديك ما تقوله فافعل!
ابتسم بإعجاب واضح ثم مد أنامله يحتضن كفيها المتشابكين ليقول لها بنبرته الدافئة:
_أنا لن أسألك لماذا انتظرتِ كل هذه السنوات…فالجواب في عينيكِ أقوى من أن أتجاهله…لكنني سأسألك إلى متى كنتِ ستنتظرين؟!
أسبلت جفنيها دون رد للحظات قبل أن تهمس بصوت متهدج:
_بقدر ما تنتظر أنت الرجوع لوطنك حراً!
ارتفع حاجباه بتأثر للحظات قبل أن يقول لها بشرود:
_ثلاث سنوات وأنا أحاول الاقتراب منكِ لكن شيئاً ما كان يصدني…من الصعب على رجلٍ مثلي شاهد بعينيه مصرع أحبابه أن يقدم على خطوة كهذه…أنا لا أخجل من الاعتراف أنني أرهب التعلق بأحدهم…لأنني…
_تخاف الفقد!
أكملت له عبارته بهمسها المتفهم لتخرجه من شرود أفكاره …
فابتسم وهو يمنحها أكثر نظراته امتناناً مع همسه:
_بالضبط…لهذا كنت أطيل أسفاري…كنت أتعمد أن أغرق قلبي في متاهات من أحاسيس وأمكنة مختلفة حتى أبتعد به عن الانتماء لمكان أو شخص واحد!
_وما الذي تغير؟!
همست بها بتساؤل وهي تنزع كفيها منه …
لكنه تشبث بهما أكثر وهو يقول لها باقتضاب:
_تعبت!
رمقته بنظرة متفهمة وعيناها تعانقان أمواجه الزرقاء بينما يردف هو بنبرة أكثر حرارة:
_تعلمين شعور من يصعد ضد الجاذبية؟! هكذا كان إحساسي معك…كنت أبتعد وأدور في مدارات مختلفة لكنكِ بقيتِ مركزها…في كل مرة كنتِ تمنحينني عشقاً غير مشروط…في كل مرة كنت تعطينني وعداً غير منطوق…في كل مرة كنتِ تمطرينني حنان أم وعشق امرأة ودعم صديق.
أطرقت برأسها وهي تشعر برغبة عارمة في البكاء …لا تدري فرحاً أم تأثراً…
لا تكاد تصدق أن كل هذا حقيقي!!
عندما همس هو أخيراً:
_لن أقول لكِ إني أحبك …لكنني سأقول إنك تسكنينني كما أسكنك…هل تعلمين معنى السكن لرجل مثلي عاش عمراً يعاني غربته؟!
ابتسمت وسط دموعها ثم ضحكت ضحكة خجول وهي تسحب كفها لتغطي به ارتجافة شفتيها مع همسها بسعادة:
_يا ربي!! كم مرة حلمت باعترافك هذا…لكنني لم أتخيله بهذه الروعة.
ضحك بدوره وهو يمد أنامله في جيبه ليستخرج منها علبة صغيرة فتحها ليستخرج منها دبلة أنيقة رفعها أمام عينيها ليهمس لها :
_كم أود لو ألبسها لك الآن…لكنني سأنتظر حتى نسافر معاً لوالديكِ …
ثم غمزها مردفاً بمرح:
_سأخطب “النيلية” من وطنها …هذه هي الأصول!
لكنها تنهدت بحرارة وهي ترمق الدبلة في إصبعه بنظرة غريبة…
نظرة من عاش عمره يعدو …والآن فقط يعلنون فوزه…
فيتوقف ليستريح!!
قبل أن تفاجئه بأن تناولت حقيبتها لتستخرج منها حافظتها الصغيرة والتي فتحت سحابها لتتناول منها ما جعله يرفع حاجبيه بدهشة…
لقد كانت دبلة فضية عريضة عادية لكنها كانت بألوان علم بلاده!!!
ابتسم وهو ينقل بصره بينها وبين الدبلة بين أناملها بنظرة متسائلة…
فابتسمت بدورها وهي تتأمل الدبلة الملونة لتقول له بيقين امرأة عاشقة:
_منذ سنوات وهي ترقد في حافظتي تنتظر اعترافك هذا…هلا قرأت ما هو محفور عليها ؟!
تناولها منها بحذر لتلتمع عيناه بمزيج من حب وفخر وهو يقرأ ما نقش بداخلها …
(أنت -بدربك- في جهاد…وأنا -بحُبّك- في جهاد)
فاتسعت ابتسامته وهو يرفع الدبلة لشفتيه يقبلها بتقديس….
قبل أن تموج بحاره الزرقاء بمشاعر دافئة أغرقتها أكثر وأكثر…
بينما يهمس لها أخيراً باعتزاز:
_أجل…وأخيراً التقى “دربي” ب”حبك” يا “نيلية”!!
=======
**بنفسجي….
======
(ان شاء ان شاء الله نعوضك تعب السنين ياوطننا راجعين)
راجعين ياوطننا راجعين نعوضك تعب السنين راجعين
يلي مانلقى حظن يشبه حنانك
ومنو بالدنيا ترى يعوض مكانك
ياعراق الصابرين راجعين
يا ابو الناس الطيبين راجعين
وقفت تدندن بها مع ألحانها التي انبعثت من هاتفها الموضوع جوارها على طاولة المطبخ …
وقد استبدلت كلمة (العراق) ب(سوريا) وخط الدموع يرسم على وجنتها مذبحة من ذكريات …
أناملها تتسابق لإعداد الطعام في المطبخ قبل استيقاظه لعلها تفلت من بطشه…
انتهت من تقطيع الخضروات لتهرع نحو المقلاة التي وضعتها على الموقد …
ربع ملعقة صغيرة فقط من السمن كي لا ينفد سريعاً فيعاقبها كما المرة السابقة …
قطعة السمن تنصهر على النار ببطء فتنتظرها قليلاً …
تضرب البيضتين ببعضهما لينزلق محتواهما هاهنا …
تقلبهما بشرود وهي تضيف الملح مع “الزعتر”…
رائحته تعيدها ل”مذبحة الذكريات” من جديد …
راجعلكم يا اصحابي يا أعز واغلى احبابي
ارد اغني احلى نشيد .. للي عايش بالوريد..
زجاج غطاء الموقد العاكس أمامها يمنحها صورة واضحة لوجهها في ذاك الوقت من الصباح …
شعرها الناري الناعم الذي انسدل على كتفيها بلونه المميز الذي يتراقص بين الأحمر والبرتقالي…
عيناها الواسعتان غزيرتا الرموش بزرقتهما القاتمة …
بشرتها البيضاء التي رسم عليها النمش خريطته …
وعنقها الطويل المستقر على جسد صارخ بالأنوثة…وبالوجع!
وجع لم تعد تدري عمره…
هل يماثل عمرها الذي تجاوز العشرين بعام أو اثنين؟!
أم يماثل عمر “قلبها” الكهل الذي تغضنت ملامحه ؟!
أذنها اليمنى التي تحلت بقرط بينما بقيت شقيقتها اليسرى خالية !
قرط رخيص بحجر زجاجي بلون البنفسج ارتدت هي إحدى فردتيه …
والأخرى …
الأخرى…..!!!
_حرقتِ الأكل يا بنت ال(….)!!
شهقت برعب والرائحة تصل أنفها فجأة مع صراخه الغاضب وهو يطفئ الموقد بسرعة مع سيل شتائمه الذي انهمر على أذنيها :
_فيمَا كنتِ شاردة يا (…..)؟! في تلك الغنوة السخيفة ؟! أم في تأمل جمالك ؟!
الذعر يجمدها مكانها وهي ترمقه بعينين متسعتين تراقب حركته…
ماذا سيفعل؟!
تسارعت خفقاتها وهي تراه يتناول الهاتف بغلظة ليضعه في جيبه بحركة عصبية مع صياحه الذي يكاد يصم أذنيها:
_هذا خطئي أنا لأني أهدر نقودي على مثلك …لا هواتف بعد اليوم .
دموعها تسيل على وجنتيها برهبة وهي تراه يقترب منها لتطلق صرخة عالية وهي تراه يجذب شعرها الطويل ليعتصره بين قبضتيه :
_فرحانةٌ بجمالك؟! شاردة فيه؟! سأجعلكِ تكرهين شكل وجهكِ إذن !
ظلت تردد رجاءات حارة متوسلة وهو يسحبها خلفه ليخرج بها من المطبخ نحو غرفتهما …
الألم في رأسها يكاد يفقدها وعيها وهو يشد شعرها وراءه بكل قوته …
حتى اتسعت عيناها بذعر وهي تراه يسحب مقصاً كبيراً ليرفعه أمام وجهها هاتفاً بتلذذ سادي وسط نبرته العاصفة:
_خمني…ماذا سنفعل الآن!
انحنت على كفه بسرعة محاولة تقبيله برجاء أن يسامحها لكن حركتها جعلته يشد شعرها بقوة أكبر ليرفع وجهها نحوه مع استطراده:
_كنت أعلم أن جمالك هذا لن يكون إلا وبالاً عليّ …لم أنفق يوماً نقودي في صفقة خاسرة إلا معك أنتِ!
صرخت برعب وهي تشعر بالمقص يقترب من وجهها فأغمضت عينيها بقوة…
صوته يدوي بالقرب من أذنيها وهو يجتث خصلات شعرها …
يدوي بعنف…
بقسوة…كدوي تلك القنابل ليلتها …
_أسرعي يا ديمة…هاتي يدك يا ابنتي…لو وقعتُ أكملي دوني…القارب هناك !
بصوت أمها تسمعها لتكون -آخر- عهدها بها …
لون الدم يلون مقلتيها …يليه لون البحر …
أحمر…أزرق …أحمر …أزرق …
يمتزجان معاً في لون بنفسجي قاتم غلف حياتها كلها بعدها …
_ما رأيك ؟! هكذا أفضل؟!
فتحت عينيها أخيراً وه?
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)