رواية ماسة وشيطان الفصل السابع والأربعون 47 بقلم نرمين نحمد الله
رواية ماسة وشيطان البارت السابع والأربعون
رواية ماسة وشيطان الجزء السابع والأربعون
رواية ماسة وشيطان الحلقة السابعة والأربعون
*بنفسجي*
======
_رأيته يا هالة ..جلست معه ..
تقولها ديمة في بيتها الجديد أمام مرآتها وهي تتحسس فردة القرط ..
أشباحها كالعادة لا تفارقها ..
مدينة الموتى التي صارت أحد ساكنيها !
تستعيد لقاءها بحسام ويكرره ذهنها كشريط عرض متواصل ..
_أول مرة أراه بعيداً عن تحفظ مظهره في مكتبه ..وسيمٌ حقاً كما كنتِ تقولين لكنه جمال الأفعى بنعومة مظهرها وخطورة سمها ..لا أزال عاجزة عن إطالة النظر نحوه ..وكيف وأنا أرى بعينيه كل أشباحي ؟! أنتِ وغازي وأنا؟!! تراني لو أطفأت بريق هاتين العينين أنجو بنفسي من هذا كله ؟!!
الشبح الأبيض يختفي ليظهر الأسود ..
يسخر من سقوطها ..بقعة الطين التي لوثت ثوبها يومها ..
هروبها المرتبك ..
_جبانة كما عهدتك ! عن أي انتقام تتحدثين؟! أنتِ أضعف من أن تؤذي بعوضة !!
صفعةٌ لا تراها إنما تشعر بها على وجنتها فتحيط وجهها بكفيها ..
نعم ..هي هربت ..
ربما جبناً ..
ربما ضعفاً ..
وربما هذه “النظرة الآدمية” التي رأتها في عينيه نحوها ..
نظرة طالما افتقدتها في عيون الناس!!
نظرة منحها إياها أديم يوماً قبل أن يغلفها شعورها بتسلطه وتقييده لها ..
ومنحها إياها عاصي وماسة إنما كذلك مغلفة بما تراه منفعة ..
ومنحها إياها سند ..إنما مرشوشة بالوجع ..بالفقد ..بوهن يشبه وهنها ..
إنما نظرته “المربكة” جعلتها تشعر أنها ..
أنها -ربما- لا تنتمي لمدينة الأشباح كما تظن ..
وأنها تصلح للرؤية !!
هل كان يشفق عليها حقاً؟!
وهل لوحش كهذا أن يعرف الشفقة ؟!
أم أنه مجرد انجذاب رجولي لجمالها المشئوم الذي هو لعنتها؟!
لا تعرف ..لا تفهم ..
كأنما هي هي ..نفس الفتاة الهاربة فوق القارب الذي يشق عرض البحر تستقبل الموج بلا حول ولا قوة ..
لكنها وإن عجزت عن إدراك كل شيئ ..
فهي عن تلك “النظرة” ليست بجاهلة ..
ربما لأنها أكثر ما افتقدته منذ رحلت عن الوطن ..ورحلت هالة عنها !
صوت رنين الجرس يقاطع أفكارها فتنتفض مكانها ..
أشباحها تختفي فتشعر بمزيج غريب من وحدة وراحة ..
تتحرك لتفتح الباب ..
_سند!
تفتح ذراعيها للصغير الذي يرتمي في حضنها بكلمته اليتيمة :
_ماما .
يلوح لها ب”البطة الصفراء” بين أنامله فترتجف ابتسامتها وهي تواجه ماسة التي تقدمت منها لتتفحص ملامحها قائلة :
_ينقصك شيء هنا؟! عاصي أوصاني أن أسألك .
تسبل جفنيها بحقد لا تملك ردعه رغم لطف العرض ..
_شكراً ..
تقولها ولا تعنيها ..
لكن ماسة تشعر بكدر العلاقة بينهما ولا تلومها ..فلا يزال في صدرها منها شيء لا يريحها ..
دمية جميلة لكنها مخيفة !!
مخيفة بهذا الشحوب الذي يظلل ملامحها كأنها جثة !!
بهذا الحقد الكاره الذي يبدو غريباً وسط فضاء وجع وضعف!
مجروحة !
تعلم أنها كذلك ..لكنها كانت مثلها يوماً فلماذا لا تشعر أنهما متشابهتان !!
لقد بدأت تشارك عاصي شعوره بعدم الارتياح نحوها إنما كل هذا يتلاشى عندما تراها تلاعب الصغير الذي يندمج معها كما لا يفعل بمن سواها ..
ليس هو فحسب ..
ديمة كذلك يتقشر وجهها البلاستيكي الشاحب هذا عندما تراه ..
فتبدو تحته ملامح طفلة تفتقد اللعب ..
تماماً كما الآن وهي تتجاوزها مع الصغير ليلعبا معاً في الحديقة المربعة التي تفصل بيتها عن بيت عاصي ..
تركض خلف سند الذي ينطلق بحيوية غريبة وملامحه تعود لرونق لا يعرفه إلا معها ..
وهي كذلك لا تعرفه إلا معه !!
تراقبهما لدقائق ثم تعود لتتقدم نحوهما وقد جلسا متعانقين على عشب الحديقة ..
فتجلس جوارهما وقد لمحت ضياء ونور يقبلان عليهما من البيت المقابل ..
الصغيران يحاولان اجتذاب سند للعب معهما لكنه يبدو وكأنه يفضل صحبة ديمة ..
_ما سرك معه ؟!
تقولها ماسة بلطف محاولة انتزاع ديمة من هذا الغموض الصامت الذي يحيطها لترد الأخيرة بشرود :
_سري ..أنه يشبهني ..أمه كانت ..كانت كأمي .
_لم يكن فارق السن كبيراً لهذا الحد .
تقولها بحذر محاولة دفعها للحديث عن المزيد لكن ديمة ترد باقتضاب:
_أشياء كهذه لا تحسب بالسنين !
تقولها وهي تربت على رأس الصغير الذي استكان في حضنها ..
لتضم ماسة صغيريها إليها بدورها ولا تزال تجتذبها للحديث :
_كلميني عنها ..عن هالة .
هنا تشتعل عينا ديمة للحظة قبل أن يعود لهما خبوهما ..
_وددت لو كان يمكنني أن أقول الجواب الطبيعي هاهنا : (اسألي السيد عاصي) لكنني أثق أنه لم يعرفها ..بل ..ربما لم يكن يراها ..كأنه فقط تزوجها لتكون كبش فدائه ..
تزدرد ماسة ريقها بحرج وهي تشعر أنها تحمل وزر عاصي هذه المرة على كتفيها لتقول مدافعة :
_لماذا ألمح اتهاماٌ في حديثك ؟!مقتلها كان حادثاً ..عاصي نفسه كاد يموت في ..
_ماسة!
صوت عاصي يفاجئها فترفع رأسها نحوه لتصطدم بالغضب المضطرم في غاباته الزيتونية ..
_أكملي ..أي حادث ؟!
_أبي كان سيموت ؟!
الأولى من ضياء والثانية من نور تشعرانها بمدى انجرافها في الحديث فتنهض واقفة بارتباك وهي تحاول احتواء الموقف بكذبة مطمئنة الصغيرين ..
_خذيهما للبيت .
يقولها عاصي بصرامة فترمقه بنظرة معتذرة وهي تتحرك بالصغيرين تاركةً سند متشبثاً بديمة ..
ديمة التي وقفت بدورها وهي تشعر بهيبة حضور عاصي كالعادة ترجفها ..
_لم أحبه يا ديمة ولا أظنني سأفعل ..يبدو أن قلبه لايزال معلقاً بزوجته الأولى وأخشى أن قلبي كذلك معلق بحبه الأول ..
تسمعها بصوت ديمة كما قالتها منذ سنوات فتكاد تبتسم بمرارة ..
لم تحبه هالة ..ولم يحبها ..
كأنها دخلت حياته لتكون قرباناً فحسب!!
_لا أحب أن أكرر حديثي مرتين ..شرطي الوحيد الذي كان بيننا مقابل بقائك هنا مع سند ألا تذكري الماضي أبداً ..أبداً ..
يقولها بخفوت وبنبرته القوية التي جبلت على هيمنتها فترفع عينيها إليه بنظرة وجلة وهي تعتصر سند بين ذراعيها أكثر وقد وصلتها كلماته كتهديد ..فتهتف مدافعة بارتباك هش:
_ماسة هي التي ..
لكنه يقاطعها وهو يلوح بسبابته في وجهها:
_لا تعلمين الثمن الذي دفعته كي أدفن الماضي كله وأمضي في طريقي ..ولن أسمح أن يضيع كل هذا الآن سُدى !
صوته كان شديد الخفوت كي لا يرهب الصغير لكن وقعه عليها كان شديداً ..
جسدها الضئيل يرتجف بشدة بينما عيناها تتوعدان بقسوة ..
المزيج العجيب بين حمرة غضب وزرقة خوف لايزال شفرتها الخاصة !!
صوتان يصطرخان داخلها..
أحدهما أن تهتف به أنه هو من يحتاجها ..أن كفاه تجبراً ..أن الصغير يحتاجها كما تحتاجه ..
والآخر يهمس بها راجياً أن اصبري ..أنت -بالكاد- وجدت لحياتك معنى بعيداً عن مدينة أشباحك !
وبينهما وقفت هي صامتة ..شاردة ..أرجوانية كعهدها!!
يرمقها عاصي بنظرة متفحصة أخيرة ثم يربت على رأس سند الذي كان كعهده نافراً من لمساته ..
قبل أن يعود لبيته ليراقبها من خلف زجاج النافذة العريضة وقد عادت لتلاعب الصغير ..
عيناه تضيقان بتفحص وهو يدرس كل حركاتها معه يسترجع كل ما عرفه عنها من معلومات ..
ليهمس أخيراً بغموض قلق:
_لو كان ما يدور ببالي صحيحاً ..فكيف أتصرف معكِ ..ترى أيهما أكثر خطورة ..قربك أم بعدك ؟!
======
_كيف حال العمل في الاستوديو ؟!
يسألها بعينين صقريتين ضاقتا توعدا لم تره عبر الهاتف لترد دينا بعفوية :
_جيد جدا ..ألا تريد زيارتي فيه ؟
تلتوي شفتاه بابتسامة ماكرة ونبرته تتثاقل عن عمد متصنعا التعب:
_أنتوي لكن ليس اليوم ..أنا أشعر أنني لست على ما يرام .
_ماذا بك؟
قلقها المغالى فيه يثير المزيد من غضبه لكنه يكظم غيظه وهو يتصنع المزيد من التعب :
_لا بأس ..تعب بسيط ..ربما أحتاج فقط للنوم .
_لن تنام قبل الفجر كعهدك .
_تحفظين عاداتي!
يغمغم بها بعينين تزيدان ضيقا وتوعدا لكنها لا تنتبه مع لهفة كلماتها :
_سآتيك كي أطمئن عليك .
_لا داعي ..
يقولها معترضا كعادته كي لا يثير شكوكها لكنها تهتف برجاء :
_أرجوك يا حسام ..أرجوك ..تعلم أنني لا يمكنني أن أتركك وأنا أعرف أنك لست بخير .
_أعلم .
ببرود هو وحده يوقن من سخريته يقولها لتعاود هتافها الراجي:
_اذن ..اسمح لي ..أرجوك ..
يغلق الاتصال دون رد وابتسامته المتوعدة تمتزج باشتعال عينيه في مزيج مخيف ..
ينظر في ساعته ليقول بثقة:
_عشر دقائق بالضبط وتكون هنا!
يتجه نحو شرفته ليراقب سماءه المظلمة كما يراها دوما فيجدها قد صارت أكثر ظلمة مما عهدها ..
لا بأس ..هكذا تليق به ..كما يليق بها ..
أحمق كان عندما ظن أن فرشاة سحرية قد ترسم وسط هذا الليل نجما أو قمر !
صوت نباح سلطانة يأتيه من الخارج يدعوه للعب لكنه لا يستجيب ..
هو يحتاج الآن أبشع وجوهه المظلمة ..أبشعها على الاطلاق!
يغيب بعدها في شرود قصير يقطعه سماع صوت خطواتها من الخارج تدخل عبر الباب المفتوح ليعاود النظر في ساعته ..
_ثمان دقائق فقط ..متعجلة للغاية يا صغيرتي!
يهمس بها بسخرية متوعدة وهو يتعمد الوقوف مكانه قبل أن يواجهها بملامح تصنع تعبها ..
_ماذا بك ؟!
تهتف بها دينا بلوعة وهي تدخل عبر باب الشرفة متوقعة اعتراضه ككل مرة ..
تراه يترنح مكانه فتهرع إليه لتسنده بذراعيها هاتفة :
_ماذا حدث؟ هل تشعر بالدوار؟!
_قليلا..
_هل تناولت عشاءك؟
تراه يهز رأسه نفيا ليهتف بنفس النبرة المتهالكة:
_لماذا جئت ؟ كنت سأتدبر الأمر ..
_اجلس هنا واسترح ..سأطلب طبيبا ..لكن تناول طعامك أولا ربما كان مجرد هبوط ..
تقولها وهي تتحرك به نحو الكرسي الجانبي لكنه يهز رأسه قائلا:
_ربما كنت محقة ..سأتي معك للمطبخ .
_استرح هنا فقط ..أنا سأتدبر الأمر ..ليست المرة الأولى .
_بالضبط ..ليست المرة الأولى ..
يتمتم بها بصوت لم تسمعه وهي تغادر نحو المطبخ المقابل بعدما رأته يستلقي بأنهاك فوق كرسيه ..
تهرع نحو المطبخ لتحضر له عشاء مناسبا خلال دقائق لم تطل ..
تراقب المكان بحذر ثم تنحني تحت الطاولة تتأكد من وجود الجهاز الذي زرعته لتجده مكانه فتزفر بارتياح لو كان لمثلها أن تعرف هذا الشعور ..
تعاود الاستقامة وهي تشعر بقيد الذنب يكاد يخنقها لكن ..هل كان لديها خيار آخر؟
تتنهد بأسى وهي تضع الأطباق فوق صينية خشبية كبيرة ..
_هل قطعت السلطة؟
تسمعها بصوته عند الباب لتلتفت نحوه هاتفة :
_لماذا أتيت؟ أنا أنهيت كل شيء!
_قطعت السلطة؟
يكررها وهو يقترب منها بنظرات أخافتها خاصة وهي تراه بحالة جيدة مغايرة لما كان عليه منذ قليل ..
فترد باستغراب:
_نعم ..
ثم تضحك بعفوية لتردف:
_لم أجد سوى هذا السكين غريب الشكل هنا ..أين ذهبت بالباقي؟
ابتسامة قاسية تحتل شفتيه وتبذر الخوف في ملامحها ..
لكن هذا لم يكن شيئا أمام الرعب الذي اكتسحها وهي تراه ينتزع مسدسه من جيبه فجأة ليصوبه نحوها ..
_حسام ! لا تمزح بهذا معي! تعلم أنني أرتعب منه ..
_مممم ..أعلم ..ربما كان هذا واحدا من الأشياء التي أعلمها عنك مقابل الكثير الذي لا أعلمه ..والذي ستخبرينني به حالا ..
يقولها بقسوة مخيفة ترعدها فتهتف بانهيار:
_ماذا تقصد ؟
_أتخيل قضية الغد التي ستشغل الرأي العام ..عاهرة حقيرة تستغل محاميا معروفا قدم لها خدمة ذات يوم ..تقتحم بيته في غيابه ..لكنه يفاجئها بحضوره فتهاجمه محاولة طعنه بسكين لكنه يضطر للدفاع عن نفسه ف…
يقطع عبارته عامدا وهو يهز مسدسه المصوب نحوها بحركة ذات مغزى فتنهار بدموعها أكثر هاتفة :
_ماذا تفعل؟!
لكنه يكمل بنفس النبرة الباردة؛
_السكين عليه بصماتك ..بالطبع لم تلاحظي ان كل من الباب الخارجي والداخلي للبيت عليهما آثار اقتحام صنعتها قبل حضورك ..
تتسع عيناها بالمزيد من الرعب وهي تتراجع لتلتصق بالحائط خلفها فيقترب أكثر منها مردفا:
_سأقتلك ولن أنال فيك ساعة سجن واحدة !
_هل جننت؟!
تصرخ بها بخوف وهي تشعر أنها تكاد تفقد وعيها رعبا خاصة وهو يقترب أكثر بمسدسه:
_المجنون هو من لا يدرك حجم من أمامه ..وأنت لم تعرفي حجمي ولا حتى حجمك ..يكفي أن يظهر ملفك القديم للنور وساعتها ..
_ملفي القديم ! ملفي القديم !! ملفي القديم!! كلكم تهددونني بملفي القديم!!
تصرخ بها بقهر وهي تخفي وجهها بين كفيها ليهتف هو بنفس البرود القاسي:
_كلكم؟ “كلكم ” هذه هي ما أريد معرفتها بالضبط ! من “كلنا”؟؟
تزيح كفيها عن وجهها وعيناها تحيدان رغما عنها للطاولة حيث يختفي الجهاز ..
ليضحك ضحكة متهكمة وهو يلكز ذقنها بكعب مسدسه قائلا:
_لا ترتجي الحماية من صديقك الصغير ..أنا أفسدته ..تركته هنا فقط كي أتأكد من أنك صاحبته .
_حسام..اسمعني ..أنا …
تهتف بها بانهيار ليقاطعها بصراخه الهادر الذي كان أقسى عليها من سلاحه:
_أنت خائنة! أحقر خائنة رأيتها في حياتي!
تهز رأسها نفيا مدافعة لتعود لصوته برودتها القاسية :
_خائنة ستموت بعد دقيقة واحدة ..قولي فيها سرك ربما عفوت..أو احتفظي به ليموت معك ..
يقولها ثم يبتعد خطوات ليصوب مسدسه نحو رأسها مشيرا لساعة الحائط:
_تعلمين أن صبري قليل ..وظني أن الدقيقة لن تكفيك ..
_اقتلني يا حسام ! أنا التي كنت مخطئة عندما ظننت أن لواحدة مثلي أملاٌ !!
تنهار بها وظهرها يسقط على الحائط خلفها ببطء حتى تتكوم في الزاوية لتخفي وجهها بنحيبها المرتفع بين كفيها ..
ورغم أن جزءاً منه كان يريد أن يجد لها مبرراً ..
أي مبرر كي لا يفقد “وجهه الأبيض” النادر معها ..
لكنه حافظ على قسوة نبرته :
_بقيت نصف دقيقة !
ترفع عينيها إليه وهي تهز رأسها لتقول بين دموعها:
_لم أكن لأفعلها مخيرة ..هم أجبروني ..ضغطوا عليّ مستغلين ماضيّ الذي تعرفه بعدما علموا عن علاقتي بك .
_من هم؟!
_الشرطة ! يبحثون خلفك !
تتسع عيناه بصدمة مع جوابها ليخفض مسدسه ببطء ..
_بماذا تهذين؟! من أقنعك بهذه الحماقات؟!
_لم يخبروني بأي تفاصيل..كل ما طلبوه مني أن أحافظ دوماً على اتصالي بك وأخبرهم بما أعرفه ..هذا بالإضافة للجهاز الذي وجدته .
دموعها المستسلمة تروي له فلا يحتاج -بخبرته- لسؤالها عن صدقها ..
الشرطة تسعى خلفه هو!!
لماذا؟!
ملفه السابق ك”ضابط” كله ناصع البياض ولا يحوي ثغرة واحدة ..
عدا حادث عاصي الرفاعي الذي نال عقابه عليه ..
لكن ..مهلاً ..!
هناك ذاك الأمر الذي كاد ينساه ..
“الكوبرا”!!!
معقول؟!!
بعد كل هذه السنوات !!
_قومي!
يهتف بها بصرامته القاسية فتتحامل على نفسها لتقف مترنحة هاتفة بين دموعها :
_صدقني مشاعري نحوك كلها كانت حقيقية ..أنا آسفة يا حسام ..كل ..
لكنه يقاطعها وهو يجذبها من مرفقها ليجرها للخارج هاتفاً بنفس الصرامة القاسية :
_لا تنطقي اسمي هذا ثانية على لسانك ..هذه المرة ستخرجين من بيتي حية لكنني لن أضمن المرة القادمة .
_اسمعني ..فقط ..اسمعني ..
تصرخ بها برجاء وهي تقاومه بكل قوتها لكنه يجرها عبر الحديقة ليدفعها عبر الباب الخارجي أخيراً هاتفاً بازدراء:
_كان أمامك ألف حل لو كنتِ حقاً تثقين برجل وقف جوارك وائتمنك على بيته ..لكن هاهي ذي العدالة القدرية ..التقطتك أول مرة من الشارع وهأنذا أرميكِ فيه من جديد!
تسقط أرضاً لكنها تشعر أن ليس جسدها فقط هو ما سقط ..
روحها ..قلبها ..بقايا كرامتها التي ظنتها ستبعث بعد عدم ..
ترى بابه يغلق في وجهها عبر تشوش وجهها بدموعها لكنها لا تلومه ..
منذ قبلت مرغمة هذا الأمر وهي تعلم أنها ستفقده يوماً ما ..
هل يمكنها الآن أن تصرخ ..
تصرخ أن خسارته هي أكبر خسارة نالتها يوماً ..
ربما أكبر من خسارتها شرفها ذاك اليوم لتهوي بعدها في ذاك البئر السحيق !
تنهض متثاقلة وهي تتوجه نحو الباب المغلق تتلمسه بأناملها كأنما تطارد طيفه عبرها ..
تودعه لآخر مرة !
_لست خائنة ..ليس بيدي ..كل السواد الذي في حياتي لم يكن بيدي ..صدقني ..صدقني كما فعلتَ من قبل ..إيمانك بي هو ما غيرني ..هو ما جعلني أؤمن بنفسي كي أتغير ..لا تجعلني أكره نفسي لو كرهتني ..على الأقل سامحني ..سامحني ..
تتراجع بظهرها وهي تجلد نفسها بنفس السوط الذي طالما ألهبوا ظهرها به ..
ماضيها ..
ماضيها ..
ماضيها ..
لاتزال تتراجع بظهرها بذهن مشوش وهي تشعر أنها تفقد الخيط الوحيد الذي كان يربطها بعالم الطهر ..
صوت نفير سيارة يخدش أذنها لكنه يتوه وسط كل هذا الضياع الذي يجتذبها في دوامته ..
تشعر بألم الارتطام ثم السقوط فتغمض عينيها باستسلام مرحبةً بشبح الموت ..
ربما هاهنا فقط ..تجد السلام ..
========
*أزرق*
======
بخطوات راكضة يدور فهد في ساحة الملعب الكبير الخاص بالنادي مرتدياً زيه الرياضي الذي أبرز تناسق جسده …
عيناه الغاضبتان تعميانه عن رؤية نظرات بعض النساء التي تعلقت به خاصة -تلك- التي كانت تداعب خصلات شعرها بشرود وابتسامة عابثة تتراقص على شفتيها بينما تجلس على أحد المقاعد الجانبية تراقبه بمزيج من فضول وتحدٍّ…
ورغم برودة الجو النسبية لكنه كان يشعر بتدفق الأدرينالين في عروقه يمنحه شعوراً بالدفء بل …بالغليان !!
الحمقاء العنيدة لاتزال تودي بنفسها في التهلكة !!
القضية الجديدة التي أقحمت نفسها فيها بمنتهى الرعونة كالعادة لن تنتهي على خير …
منذ قبلتها وهو يحاول جاهداً إثناءها عنها لكن رأسها الصلب لا يستجيب إلا لصوتها هي فحسب …
تظن نفسها أمسكت طرف خيط سيوقع بأحد الحيتان الكبار ولا تدري أن أنها فقط تخبط رأسها في حائط صلب لن يهتز!
اليوم موعد جلسة النطق في القضية وكم كان يتمنى لو يمنحها دعمه لكنه يعلم إلى أين سيؤول الأمر …
والأسوأ أنه منحها بدلاً من الدعم شجاراً صباحياً :
_تحتاجينني وأحتاجك أكثر.
قالها معطرة بقبلتين دافئتين على وجنتيها بعدما فتح النافذة في عادة لم تفارقه منذ عهد بعيد …
قبل أن يمد ذراعيه ليجذب جسدها إلى صدره وهو يردف بنبرة عاتبة بينما يخفي وجهها في صدره :
_أعلم أنك لم تنامي إلا فجراً وبعد قرصين من المسكنات !
فرفعت إليه عينين محمرتين تعباً وهي تغمغم بصوت متهالك:
_تعلم أن اليوم حاسم…لو نال هذا الرجل عقاباً فربما يشي بمن خلفه .
لكنه ابتسم ساخراً ليرد وهو :
_تظنين الأمر حقاً بهذه البساطة ؟! هم أكثر نفوذاً من أن يدعوه يسقط وهو أكثر ذكاء من أن يعترف بشيئ حتى لو سقط !
_لماذا تتحدث بهذا الطريقة دوماً؟! لماذا لا تثق في قدراتي؟!
هتفت بها بنبرة عصبية وهي تبعد نفسها عن مرمى ذراعيه ليهتف هو الآخر بدوره :
_الأمر لا علاقة له بقدراتك …هو واقع وعليكِ تقبله شئتِ أم أبيتِ …أنت مجرد شوكة صغيرة لن تؤذي جلدهم السميك !
_لقد جمعت كل أدلة براءة موكلي وحشدت عدداً كبيراً من الناس عبر وسائل الاتصال كي أجعلها قضية رأي عام …هذه المرة مختلفة !
ورغم الحماس الذي كانت تتحدث به لكن نبرة القنوط التي تخللت حروفها قهراً جعلته يشعر بالشفقة عليها …
الشفقة التي زادت غضبه وهو يهتف بها بانفعال بينما يكزها بسبابته في صدغها :
_إلى متى ستظلين هكذا تحاربين طواحين الهواء؟! إلى متى ستظلين تظنين نفسك البطلة المنقذة التي ستحرر العالم ؟!
_إلى أن أموت !
صرخت بها بعصبية نجمت عن طول إرهاق الأيام السابقة لتتحرك مغادرة الفراش …
لكنه لحق بها ليجذبها من ذراعها نحوه هاتفاً بحدة :
_تظنين حياتك بهذه الطريقة بطولة ؟! دعيني إذن أخبركِ بما قد يسوءك ! متى كانت آخر مرة لعبتِ فيها مع ملك ؟! شاهدتِ معها أحد الأفلام الكرتونية ؟! صففتِ لها شعرها أو قصصتِ لها حكاية ؟!
أشاحت بوجهها في اعتراف منها بالذنب ليقربها منه أكثر بينما يردف بصوت أكثر خفوتاً:
_متى كانت آخر مرة اهتممتِ فيها بي بصورة خاصة أكثر من مجرد روتين عادي لزوجين ؟!
_تتهمني بالتقصير؟!
هتفت بها متشنجة لتردف وهي تنفض ذراعها منه :
_أنا بالكاد أحصل على ساعتين من النوم …ربما لا أكون أماً تقليدية ممن يهتممن بهذه الأشياء التي ذكرتها لكنني أسعى لأن أصنع لابنتي ولغيرها الوطن النظيف …لن يسعدني أن تكبر هي بذكرى لأمس بضفيرة وحكاية ليغتال غدها وحوش بلا ضمير …أنا أجاهد كي أنظف لها العالم الذي أريد أن تكبر فيه .
_لن يتركوكِ وشأنكِ!!
صرخ بها بغضب لتجد نفسها تصرخ دون وعي وكأنما خرجت الكلمات من تلقاء ذاتها:
_إذن أموت بطلة مثل حسن لا منبوذة مثل جاسم الصاوي!
لم تكد تتفوه بها وترى أثرها الذي جعل عروق وجهه تنفر غضباً حتى تأوهت بخفوت وهي تضع كفها على شفتيها منتظرة رد فعله …
لكنه لم يزد عن نظرة مشتعلة شعرت بها تخترقها قبل أن يغادر الغرفة والبيت كله …
ينقطع شروده في ذكرى الصباح هذه عندما يتعثر في رباط حذائه الرياضي الذي انحل …
لكنه يستعيد توازنه سريعاً ليقف لاهث الأنفاس وهو ينظر في ساعته …
_عشرون لفة !
هتفت بها المرأة التي كانت تراقبه والتي تقدمت لتقف قبالته تماماً مردفة بانطلاق وكأن بينهما معرفة قديمة :
_تبدو غاضباً حقاً وتفرغ انفعالاتك في ممارسة الجري بهذه الطريقة !
عقد فهد حاجبيه وهو يهم بإقصائها بعبارة لاذعة …
لا تنقصه امرأة فضولية كهذه خاصةً أن جنة ستصل الآن مع ملك في أي وقت ولا يدري بأي مزاج تكون ولا كيف انتهت جلسة قضيتها …
لكن شعوره بألفة هذه المرأة جعله يسألها بفظاظة لم يملكها :
_هل تعرفينني؟!
_ومن لا يعرف فهد الصاوي ؟!
قالتها بميوعة تناسبت كثيراً مع مظهرها …زيها الرياضي المكون من قطعة علوية بلا ذراعين تكشف جزءاً لا بأس به من صدرها وبطنها …وقطعة سفلية تنتهي عند حدود ركبتيها …
وقد رفعت شعرها المموج المصبوغ بالذهبي والذي تعرجت خصلاته عمداً خلف رباط مطاطي عريض.
فابتسم متهكماً وهو يتذكر أن لقاء يشبه هذا كان أول معرفته ب”الأستاذة”…بل وربما استخدمت يومها عبارة كهذه !!
لكنه تجاهل كل هذا ليعود لعدوه حول ساحة الملعب فيفاجأ بعدوها هي الأخرى جواره وكأنها تشاركه التمرين …
كان يمكنه التوقف وزجرها ببساطة لكن طاقة الغضب التي كانت تملأه الآن كانت موجهة للعدو فقط …
ترى ماذا حدث في جلسة القضية ؟!
هل كسبت جنة المرافعة ؟!
لو فعلتها وخرج موكلها بريئاً فسيعني هذا سقوط الرجل الآخر …و”هم” لن يمرروا لها هذا !
ولو خسرت المرافعة فسيعني هذا نجاتها من براثنهم لكنها ستسقط في نوبة اكتئاب شديدة هو خير من يدرك توابعها …
“الأستاذة” لا تكتفي بالدور الذي منحته لها الحياة …
بل تريد “بطولة” كحبيبها الراحل!!
انتبه من أفكاره عندما شعر بمرافقته تتجاوزه لتقف قبالته وتمنعه من التقدم لتهتف بين أنفاسها اللاهثة :
_يمكنني مسايرتك في العدو متى شئت لكنني أظنك الآن تريد التوقف.
يرمقها بنظرة متسائلة لم تخلُ من ضيق لكنها تشير بكفها نحو بوابة الملعب حيث كانت جنة التي قدمت لتوها مع ملك تناظرهما بنظرة سوداء …
أطرق برأسه للحظة يحاول استرداد أنفاسه قبل أن يوجه حديثه للمرأة أمامه من جديد :
_ماذا تريدين بالضبط؟! ولماذا تفرضين عليّ وجودكِ بهذه الفجاجة ؟!
ضحكتها الرنانة خدشت أذنيه بدويها قبل أن تميل رأسها وهي تعقد ساعديها أمام صدرها بما جعل مفاتنها تبدو أكثر إغواء:
_عبارة قاسية فظة لا تليق أبداً بتاريخك القديم !
زفر بنفاد صبر وهو يكاد يعطيها ظهره لتردف بنبرتها التي تمزج الميوعة بالغرور:
_هل تزعم حقاً أنك لم ترني من قبل ولا حتى على شاشة التلفاز؟!
هنا أطلق همهمة إدراك وهو يفطن لسبب ألفته شكلها …
بينما التمعت عيناها هي لتقول بنبرة مغرية :
_بالضبط …أنا …
_بتول الراعي!
والإجابة جاءت من جنة التي كانت الآن خلفهما تماماً لتردف بنبرة خاوية تماماً من أي شعور:
_مقدمة البرنامج الأكثر شعبية الآن على قناة (….).
تبتسم بتول وهي تمد لها يدها في مصافحة تلقتها جنة ببرود …
قبل أن تنحني لتحمل ملك الصغيرة في حركة أظهرت مفاتنها بصورة فجة …
لكن جنة التي بدت باردة كجثة لم تحرك ساكناً وهي تراها تداعب الصغيرة بميوعة …
قبل أن تضعها أرضاً من جديد بنفس الحركة المستفزة…
لترفع رأسها نحو فهد بقولها:
_ما رأيك في أن تشاركني فقرة في برنامجي؟! المصلحة مشتركة…من ناحية ستكون دعاية لشركتك الجديدة …ومن ناحية أخرى ستكشف لنا بعض الخبايا عن جاسم الصاوي …تعلم أن الناس يحبون هذا النوع من الأخبار …خاصة أن وفاة والدك رحمه الله كانت مأساوية وفي عز تألقه السياسي …
ثم ازدادت الحماسة في صوتها وهي تردف :
_هل كانت وفاته طبيعية أم تعمدتها بعض الجهات المجهولة ؟! ماذا عن صندوقه الأسود الذي لم يعرف أسراره إلا ابنه الوحيد ؟ حكاية ابنته التي ظهرت سيرتها فجأة في بعض الشائعات ؟! ولماذا اختار الابن الخروج عن عباءة أبيه السياسية ليخوض معركة نجاحه وحده ؟!
ثم صمتت لحظة لتلتقط أنفاسها قبل أن تهتف بحماس:
_ستكون حلقة الموسم…أراهن أن الإعلانات …
_لا!
قالها فهد قاطعة وهو يعطيها ظهره ليحمل ملك على كتفه بينما يختلس نظرة قلقة نحو جنة التي لا تنبئ ملامحها بخير …
لكن المرأة اللزجة تحركت لتخاطب جنة بقولها:
_أقنعيه أنها ستكون أفضل دعاية لشركته الجديدة .
_تظنين فهد الصاوي يفتقر لدعاية مثل هذه ؟!
قالتها جنة بنفس النبرة الميتة والتي حوت الآن قبساً من سخرية …مرارة…وربما احتقار شعر هو به وهو يلتفت نحوها بنظرة متفحصة فضحت قلقه قبل أن يزفر ببطء وهو يرى المرأة تحاول إعادة إقناعه…
_هذا هو رقمي لو غيرت رأيك .
قالتها وهي تخرج بطاقة ما من جيبها لتعطيها له لكن جنة هي التي تناولتها منها لتضعها في حقيبتها هي …
فارتفع حاجبا المرأة وهي ترمق جنة بنظرة متفحصة قبل أن تقول بمواربة :
_مظهركِ يبدو غريباً تماماً عما توقعته لزوجة فهد الصاوي .
المعنى المهين الذي يختفي خلف عبارتها كاد يدفع فهد للرد لولا أنه وجدها فرصة كي تتخلص جنة من لوح الثلج الذي يكسوها هذا …
لهذا ترك لها الرد الذي لم تخذله فيه :
_أنتِ أيضاً مظهركِ يبدو غريباً تماماً عما توقعته لمذيعة محترمة !
طارت الجبهة !!
هكذا حدث نفسه بتهكم لاذع وهو يرى المرأة اللزجة ترمقهما بنظرة حانقة وقد احمر وجهها حرجاً قبل أن تغادرهما بخطوات راكضة…
_من هذه القمر؟! اسمها بتول؟!
تسأل ملك ببراءة ولايزال فهد يحملها سائراً بها نحو بوابة الخروج فيحاول نفض شعوره السلبي بآخر إيجابي وهو يرى التطور السريع لابنته في الكلام مؤخراً ..
ينحني ليلتقط حقيبته التي علقها على أحد كتفيه ..
فتكرر الصغيرة سؤالها ليختلس نظرة لجنّة السائرة بوجوم :
_نعم .
_صاحبتك؟!
بنفس البراءة تسأله ليتنحنح فهد متجاهلاً سؤالها قبل أن يقبل وجنتها قائلاً بحنان :
_ما أخبار “التمرين” اليوم؟!
_الكابتن علمني حركة جديدة…سأريك إياها عندما نصل للبيت وسنلتقط بها صورة اليوم !
تقولها بحماسة طفولية فيبتسم وهو يعاود اختلاس النظر نحو ملامح جنة التي تفضح بوضوح خسارتها للقضية كما كان يتوقع …
جنة التي ظلت صامتة مطرقة طوال رحلتهما بالسيارة بينما تولى هو مهمة الرد على ثرثرة صغيرته …
حتى وصلوا جميعاً للشقة التي ما كاد يغلق بابها خلفه حتى هتفت ملك بمرح:
_موعد الصورة .
ابتسم فهد بحنان وهو يرمق جنة المتجهمة بنظرة جانبية متذكراً ذاك اليوم الذي وعدها فيه أن يلتقط لابنتهما كل يوم صورة حتى يمنحها ذاك “الألبوم” بعدد أيام عمرها …
هذا العهد الذي حافظ عليه ولايزال …
تحركت الصغيرة لتستند بجسدها كله على كفيها بينما ترفع قدميها للأعلى في حركة بهلوانية فابتسم وهو يتحرك بسرعة ليلتقط الكاميرا من مكانها قبل أن يضبط إعدادتها ويضعها في مكان مناسب …
ثم تحرك ليقف جوارهما هي وجنة التي تكلفت ابتسامة شاحبة…
_موعد الاستحمام !
قالتها جنة مخاطبة ملك ومتجاهلة فهد تماماً لبقية الليلة مكتفية بالاعتناء بالصغيرة حتى آوت لفراشها …
ولم تكد تطمئن على استسلامها للنوم حتى عادت لغرفتهما لتجده واقفاً في نافذة الغرفة يعطيها ظهره …
توقفت مكانها بتردد وهي تشعر أن جسدها كله ينهار …
الغرفة بأكملها تكاد تختفي من ناظريها فلا تكاد ترى سوى صورة قاعة المحكمة…
_سامحيني يا أستاذة!
تسمعها بصوت موكلها البريئ الذي اعترف على نفسه كذباً ليضعها في موقف لا تحسد عليه وهي ترى كل تعبها طوال الأيام السابقة يضيع هدراً .
لم تشعر بنفسها وهي تهرع نحو قفص الاتهام لتعتصر القضبان بأصابعها صارخة بغضب:
_لماذا تكذب؟! بماذا هددوك؟! اعترف،ولا تخشَ شيئاً !!
لكن دموع القهر التي ارتسمت في عيني الرجل لم تمنحها أكثر من نظرة استسلام سبقت عبارته التي تدعوها للسماح!
وفي مكانه أمام النافذة كان يستشعر ذبذبة جسدها المتوترة خلفه …
هل علم عما حدث؟!
بالطبع!
هل كان ليصبر كل هذا على الإحاطة بتفاصيل ما حدث ؟!!
“الحوت الكبير ” أحكم سيطرته على الوضع كالعادة وأخرس الصوت المعارض للأبد !
لكن الرسالة وصلت فهد واضحة عبر أحد معارف أبيه السابقين والذي يحتل مركزاً سياسياً مرموقاً…
لا تدع الأستاذة تسبح ضد التيار كي لا تغرق …!
_أنا….آسفة!
حروفها المختنقة تغادر حلقها بصعوبة فيسمعها بقلبه قبل أذنيه !
عمّ تعتذر بالضبط ؟!
عن إهانتها لأبيه ؟!
عن ذكرها لحسن؟!
أم عن اتهامها المبطن له بخذلانها وعدم نصرتها ؟!!
الحمقاء!!
تظن أنه سيحتمل أن يصيبها خدش واحد في حياته وهو الذي عاش تجربة موتها التي لا تزال ندبتها تشوه روحه بقسوتها !!!
لو كان الأمر بيده لأبقاها هنا حبيسة هذا البيت …
بل هذه الغرفة لما بقي لها من عمر !
لكنه يعلم أن روحها الحقيقية لن تحلق خلف قضبان!
جنته التي أسره نعيمها لم تزهر إلا بنهر يجري بلا قيود …
لهذا تنهد بحرارة دون أن يغير وضعه إلا من رفعه لرأسه دون أن ينظر إليها …
فابتلعت غصة حلقها لتتمتم بخفوت :
_تصبح على خير!
خطواتها المتثاقلة تنتهي بها في الفراش حيث غطت جسدها كاملاً حتى رأسها …
قبل أن تسمح لدموعها المخذولة بالهطول وهي تشعر بالفشل !!
هذه القضية كانت تعني لها الكثير حقاً !
هذه القضية كانت ببساطة …حق حسن!
حق حسن الذي داسته الأقدام وتعامت عنه العيون التي انشغلت بأطماعها !!
والآن …كل هذا مجرد رماد تذروه الرياح!!!
شعرت بحركته جوارها على الفراش فتأهبت حواسها وهي تترقب عناقه ككل ليلة …
لكن الصمت المطبق أنبأها أنه لايزال غاضباً…
وهي…
هي لا تحمل مقدار ذرة من قوة كي تفعل الآن شيئاً …
أي شيئ!!
ساعة تمضي خلف ساعة والنوم العنيد يأبى عليها راحة…
ثم يؤرقها أخيراً خاطر بدا في بدايته سخيفاً قبل أن يتحول لهاجس …
بتول الراعي!!
لقد دخلت ساحة الملعب لتجدها تعدو جوار فهد الذي لم يبدُ متضايقاً من وجودها …
معقول؟!!
لا …لا …
لكن…لماذا لا؟!
ألم يشكو فتورها؟!
تقصيرها؟!
هي تعترف أنها مؤخراً تغافلت عن احتياجاته كرجل …
تراه وجدها ذريعة للعودة لضلاله القديم!!
آه !
هذا ما كان ينقصها !!
أن يسلمها إحساسها بالفشل لشكّ كهذا!
استغفرت الله سراً قبل أن ترفع عنها الغطاء لتنظر إلى ظهره المواجه لها نظرة طويلة…
قبل أن تغادر الفراش لتتوجه نحو خزانة ملابسها التي تناولت منها شيئاً ما قبل أن تغادر الغرفة كلها نحو الخارج…
وساوس ظنونها تتراكم في ذهنها وهي تشعر بالفشل يسلمها لنوبة متوقعة من اكتئاب…
ستقاوم !
لكن…هل ستقدر؟!!
وفي الفراش كان هو الآخر عاجزاً عن النوم يراقب وسادتها التي بللتها دموعها بضيق …
الدقائق تمر وهي لم تعد للغرفة ….
هل يبدو مبالغاً لو قال أنه افتقدها ؟!
بداخله يتصارع الحب والكبرياء …
لكن منذ متى يقهر عشقَها شيئ؟! أي شيئ؟!!
لهذا نفض عنه الغطاء ليعد لها -ما ظنها تحتاجه-
قبل أن يغادر الغرفة ليفاجأ بها هناك في زاوية الصالة…
تمارس بعض الرياضة!!!
رياضة؟!!
الآن ؟!!
وبهذا الزي الذي يشبه زي …
آه !
بتول!!!
الأستاذة تشعر بالغيرة إذن!!
تقدم نحوها بخطوات بطيئة وعيناه المتفحصتان تميزان في حركاتها -القوية النشيطة ظاهراً- ضعف عينيها …
“وهج البندق” الذي طالما أثار جنونه الآن يبدو باهتاً شاحباً خلف غمامة من يأس …
توقفت عما تفعله عندما رأته لكنه أشار لها بسبابته أن تستمر قبل أن يتقدم أكثر ليقف قبالتها مقلداً معها كل تمرين تفعله …
العيون الصاخبة بالحديث لم تكن أقل نشاطاً من جسديهما اللذين تناغما في الحركات …
حتى توقفت أخيراً لتلهث بعنف وهي تستقيم واقفة على قدميها …
فوقف بدوره ليتلقى نظراتها المرتجفة كجسدها …
قبل أن ترتعش شفتاها وهي تبحث عن كلمات لكنه وضع سبابته على شفتيه في إشارة لها بالصمت قبل أن يسحبها من كفه نحو حمام غرفتهما لتشهق للمفاجأة وهي ترى كيف أعده لها !
فهناك كان حوض الاستحمام مليئاً بالماء الدافئ الذي طفت عليه “بتلات” زهور اصطناعية زرقاء تواءمت مع الإضاءة الجانبية التي تمزج اللونين الأبيض والأزرق في مزيج خلاب دفع بعض السكينة لنفسها لتلتفت نحوه بابتسامة مكسورة هامسة:
_شكراً.
لكنه نقر بسبابته على شفتيها مرتين في إشارة لها أن تصمت قبل أن يهمس لها :
_لا أريدكِ أن تتحدثي الآن…استرخي فحسب .
قالها وهو يدفعها برفق نحو الحوض الذي استلقت فيه لتتأوه بخفوت وهي تشعر بالماء الدافئ يهدهد تعب جسدها …
توقعت أن ينضم إليها فقد صارحها مسبقاً أنه تعمد تغييره خصيصاً ليكون ضخماً هكذا كي يشاركها فيه …
لكنه لم يفعل بل دار حوله فقط من الخارج ليستند على ركبتيه أمام رأسها الذي ظهر وسط البتلات الزرقاء وظروف الإضاءة كقمر حزين !
التفتت نحوه بعينيها وهي لا تفهم ماذا يريد لكنه جذب رأسها للخلف كي يسنده على جدار حوض الاستحمام المواجه له ليدفعها للاسترخاء أكثر قبل أن يبدأ في تدليك رقبتها وما ظهر من كتفيها …
أناتها الخفيضة تنبعث عبر عينيها المغمضتين وهي تشعر برغبة عارمة عارمة في البكاء …
هذا الذي كان يشعر هو به وهو يشرف على رأسها الطافي فوق الماء من علوّ ليهمس لها :
_طالما كنتِ تقولين أنكِ تفتقدين صداقتنا …أنا أتخلى عن دور العاشق لهذه الليلة كي أسمعك…
ثم التوت شفتاه بابتسامة عابثة ناسبت استطراده :
_ولتعلمي أنها تضحية عظيمة في هذا الموقف بالذات بالمناسبة !
لكنها لم تبتسم بل شددت من إغماض عينيها في حركة فضحت مدى هشاشتها قبل أن تهمس بنبرة روعه ضعفها:
_إياك أن تتخلى عن دور العاشق هذا ولو مزاحاً …حبنا هو النصر الوحيد الذي أشعر أنني حققته في حياتي .
ظلت أنامله تدلك رقبتها وكتفيها مستشعراً إرهاق جسدها الحقيقي ولما طال صمتها دفعها للحديث بسؤاله :
_لماذا ترتدين هذا الزي بالذات ؟!
_لأنني أشعر بالغيرة…ظننتُ هذا واضحاً!
تمتمت بها بسخرية عبر عينيها المغمضتين لتردف بضحكة مريرة :
_تصور! أنا التي لم أشعر يوماً بالغيرة من امرأة كانت زوجتك بل ووقفت بكل ثقة يومها أؤكد أن قلب فهد الصاوي لن يكون إلا لي …اليوم شعرت بالغيرة .
_ولماذا اليوم بالذات ؟!
يسألها بحذر وأنامله تنتقل لمنابت شعرها كي يدلكها بلطف لتصمت للحظات قبل أن تنساب الدموع غزيرة من عينيها:
_ربما لأنني ما عدت أشعر أنني أنا جنة …أشعر بالفشل في كل أدواري …كمحامية…كأم…كزوجة…أنا فعلاً أحارب طواحين الهواء كما زعمت …أستحق الخسارة كأي أحمق ظن نفسه سيغير العالم .
مسح دموعها بأنامله وهو يشعر بالسخرية تجتاحه !!
هذه التي تزعم ضعفها بعثت بدموعها هذه القوة بين عروقه !!
هذه هي المحاربة العنيدة التي عشقها …كيف ظن نفسه سيهنأ لو تركهم يستلون منها سيفها ولو لأجل صالحها ؟!!
لهذا ربت على وجنتها ولايزال يشرف عليها من علوّ ليهمس لها بنبرته الدافئة :
_تعلمين فيما كنت أفكر منذ قليل؟!
_في أن تحبسني هنا كي لا أعرض نفسي للخطر!
تمتمت بها بنفس السخرية المريرة دون أن تفتح عينيها فارتفع حاجباه بدهشة مع سؤاله :
_كيف عرفتِ؟!
هنا فتحت عينيها لتهتف بنفس السخرية التي خالطها الانفعال:
_أنت لا تفكر سوى بهذا منذ عرفتني !
فابتسم وهو يلتقط وهج البندق في عينيها والذي عاد لبعض بريقه مع انفعالها ليقول أخيراً وأنامله تغازل ملامحها بدورانها الرشيق حولها:
_كنت مخطئاً!
فغرت فاها بدهشة لتسيئ فهم عبارته :
_لأنك تخاف عليّ؟!!
فاستقام بجسده ليجلس على طرف حوض الاستحمام ولازال يستمتع بملاحقة بريق عينيها:
_بل لأنني ظننت أنني يمكنني حبس الشمس …جنة الرشيدي التي احتلت كل ذرة في كياني ستختفي لو أطفأوا لها شعلتها …لن يتبقى منها سوى شبح كسير كهذا الذي رأيته اليوم …
ثم انحنى أكثر ليقترب بوجهه منها مردفاً بنبرة مزجت مرحه بعاطفته :
_لهذا قررت أنا فهد الصاوي وأنا بكامل قوايَ العقلية أن أساندها في جنونها هذا حتى الموت .
ابتسمت ابتسامة حقيقية لأول مرة منذ زمن وهي تشعر بأن هذا بالضبط ما كانت تحتاجه…
دعمه اللامشروط ومؤازرته القوية لها …
فمال بشفتيه على شفتيها ليهمس بينهما:
_هاقد عادت جنة بابتسامتها القادرة على قلب العالم وإشعال ثوراته .
رفعت ذراعيها تهم بعناقه لكنه ابتعد بظهره ليقف مكانه قبل أن يتراقص حاجباه بمشاكسة :
_قلت أنني تخليت مؤقتاً عن دور العاشق لهذه الليلة .
فأمالت رأسها لتبتسم بإغواء هامسة :
_حقاً؟!
لكنه هز كتفيه ليعطيها ظهره وهو يتحرك ليغادر الحمام …
وقبل أن يختفي عن ناظريها التفت نحوها ليقول من خلف كتفيه :
_ستحتاجين لمجهود كبير كي تقنعيني بالعكس …تمنياتي بالتوفيق.
ضحكت بارتياح وهي تعاود الاسترخاء في حوض الاستحمام …
أناملها تداعب البتلات الزرقاء الطافية فوق السطح بأمل عاد يسكن حناياها …
أمل أعاد تجديد روحها لتنطلق منها تنهيدة قوية قبل أن تقف على قدميها لتخلع ملابسها وتسمح للماء المنهمر من أعلى أن يمنحها المزيد من النشاط وكأنها تنفض معه كل المشاعر السلبية التي تملكتها من قبل..
وقد كان !
لهذا عندما خرجت إليه لم يستطع تمالك دهشته وهو يشعر أنه أمام امرأة أخرى …
مبذلها السماويّ يعكس رونقاً محبباً على الوجنتين المتوردتين…
خصلات شعرها الكثيفة المبتلة تلتصق بوجهها فتمنحها مظهراً برياً يحبه …
وابتسامتها العابثة تتوج شفتين تتوعدان بانتقام لذيذ !
لهذا حك رأسه بأنامله وهو يسألها ببراءة مصطنعة :
_ما رأيك لو تساعدينني في نقل مرتبة الفراش للأرض؟!
_لماذا؟!
قالتها بنفس النبرة المغوية وهي لاتزال تواصل تقدمها البطيئ نحوه …
ليجيبها وهو يتحرك بالفعل لينفذ اقتراحه :
_يقولون إن القفز يبدد الشحنات السلبية …سأدعكِ تقفزين فوقها كابنتك وهذا أبسط واجباتي كصديق لما تبقى من هذه الليلة البائسة !
ضحكت وهي تساعده في نقل مرتبة الفراش إلى الأرض قبل أن تهتف بين أنفاسها اللاهثة :
_تعلم ؟! ربما لن تكون فكرة سيئة على أي حال…
ولم تكد تنتهي منها حتى شرعت تقفز قفزات متتابعة على المرتبة وسط ضحكاتها التي علا صوتها …
فالتمعت عيناه باشتهاء والجنون تنتقل ذبذباته منها إليه ليشاركها القفز للحظات …
قبل يقترب منها ليعتقل خصرها بكفيه مقرباً إياها منه بهمسه المشتعل:
_أنا كاذب!
ارتفع حاجباها بدهشة وسط أنفاسها اللاهثة ليردف وشفتاه ترددان تراتيل عشقه على بشرتها :
_قلت إنك تحتاجين لمجهود كبير كي تقنعيني بالعودة لدور العاشق الليلة…والحقيقة أنكِ كي تثيري جنوني لا تحتاجين سوى لأن تكوني…أنتِ!
همساته التي امتزجت بعناق شفتيه كان لها مفعول السحر على روحها التي عادت تتفتح براعمها تحت شمس عاطفته …
خاصة عندما رفعها ذراعاه لتستند بكامل جسدها عليه بينما تؤرجح قدميها بحركة تحب الشعور بها معه …
لتهمس هي الأخرى وأناملها تحتضن وجنتيه :
_شكراً لأنك في كل مرة أتوه فيها عن نفسي …تردني إليها …
ثم دفنت وجهها في عنقه لتردف :
_أعلم أن بداخلك رجلاً غاضباً يريد تحطيم رأسي …أعلم أنه ربما قد يكون محقاً…وأعلم أيضاً أنني كثيراً أخاف ثورته وخذلانه…لكنني كذلك أعلم أنه لايزال أفضل مكان أحتمي فيه منك هو بين ذراعيك …
قبل أن ترفع عينيها بوهج البندق الذي تألق بريقه بكامل رونقه أخيراً مع استطرادها:
_طالما كنت أزعم أن قوتي شمس بين ضلوعي …الآن أجد الجرأة لأعترف أن نوري قبسٌ من نورك …إن يُظلِمْ أُعتِم !
تنهد بحرارة وهو يعتصرها بين ذراعيه أكثر لتلتمع نجوم الليل الساحر في عينيه مع همسه العاتب:
_أعرف حمقاء كانت تغار! لا تدري أن النساء قبلها عبث وبعدها عدم !
_حمقاء تحتاج لتأديب؟!
بهمسها شديد الإغواء تهمس بها ليجيبها وهو يعيدها أرضاً لتلامس قدماها المرتبة من جديد :
_يزعمون أنني أجيد التأديب!
ضحكت وهي تمرغ وجهها في صدره ليتأوه بخفوت وهو يثبت رأسها مقابل قلبه مردفاً :
_هكذا هو مكانكِ بالضبط جنتي…جارة قلبي بل لصيقته…رموشك تكاد تعانق دقاته …تظنين قلباً كهذا قد يفارق أو يخون ؟!
_حتى تزهق آخر أنفاسي لا أفارق ولا أخون !
من قالها؟!
كلاهما همسا بها في نفس التوقيت بتناغم لم يعد مستغرباً منهما فالروح تسري واحدة بين جسدين متعانقين …
والآن آن الأوان أن يلهبهما الغرام لكن…
_ماذا تفعلان؟!
والهتاف كانت من ملك الصغيرة التي وقفت تمسح عينيها عند الباب لتبتعد عنه جنة بسرعة قبل أن تهمس له من بين أسنانها:
_كل هذا والباب مفتوح ؟! وأنا الذي ظننتك أغلقته !!
_ابنتك لديها نفس “دَخلة المخبرين” الخاصة بك…ما شاء الله …واحدة منكما ستصيبني بنوبة قلبية يوماً ما!
همس بها جوار أذنها بسرعة قبل أن يفتح ذراعيه للصغيرة هاتفاً وهو يكز على أسنانه :
_حبيبة أبيها !!! لا تتخيلي سعادتي باستيقاظك الآن !!
توجهت نحوه الصغيرة لتهتف باستغراب:
_لماذا تضعان المرتبة على الأرض؟!
تنحنحت جنة بحرج وهي تضم المبذل على جسدها ليجيب فهد بسرعة :
_فكرت أنها بديل مناسب ل”الترامبولينا”…ما رأيك ؟!
_حقاً؟!
هتفت بها ملك وقد طار النوم من عينيها تماماً لتصعد وتتقافز بمرح فوق المرتبة قبل أن ينضم إليها فهد وجنة يشاركانها القفز والضحكات …
_دقيقة واحدة ..سأحضر الكاميرا!
هتف بها فهد وهو يهرول للخارج قبل أن يعود بها ليلتقط لهم بعض الصور بينما يتقافزون …
ثم مال على جنة وهو يريها صور الأيام السابقة :
_تلاحظين الفارق؟! لم تضحكي هكذا منذ وقت طويل…ضحكتك تجعل صورتنا كلنا أفضل!
ابتسمت وهي تضمه بأحد ذراعيها بينما تضم الصغيرة بالآخر ليناموا جميعاً على المرتبة التي شهدت ليلة حافلة …
ولم يكادا يطمئنان لاستسلام الصغيرة للنوم من جديد حتى همس هو بجنة بينما يشبك أنامله بأناملها مسنداً رأسه هو الآخر على صدرها:
_أنا دوماً معك …لن أمنعكِ تنفس قضيةٍ تعيشين لأجلها …فقط لا تفعلي شيئاً دون علمي …بالله عليكِ لا تفجعي قلبي بكِ كفاني ما كان !
فابتسمت وهي تقبل جبينه لتمنحه عيناها الوعد المرجو قبل أن تنظر للصغيرة النائمة على صدرها فتهمس بشقاوة :
_ابنتك أفسدت الليلة!
لكنه رفع رأسه ليداعب أنفها بأنفه مع همسه الساخر:
_لا يا أستاذة…طالما أفسدت الليلة فهي ابنتك أنتِ…تعلمين أن “جيناتي” لا تسمح بحدوث هذا!
_جيناتك وقحة مثلك!
_وجيناتك متنمرة مثلك !
_ششششششش…أنا متنمرة ووقحة لأنني ابنتكما معاً…اصمتا إذن فأنا أريد النوم!
تمتمت بها الصغيرة فجأة ليضع كل منهما كفه على شفتيه بسرعة قبل أن يكتما ضحكاتهما …
حقاً…إنها ابنتهما معاً!!
_هل هذه التي كنا نشتكي تلعثم كلامها؟! صار لسانها أطول من لسانك !
يهمس بها فهد بخفوت بعد دقائق طويلة وهو ينهض ليراقب وجه صغيرته النائمة بحنان ..
لتنهض جنة بدورها هامسة باستنكار امتزج بدلالها :
_أنا؟! لساني طويل؟!
فيغمزها هامساً بنبرته العابثة :
_سؤالك هذا ليس له إلا إجابة نموذجية واحدة ..أجيد الرد بها كل مرة !
تحمر وجنتاها بخجل وهي تكتم ضحكتها كي لا توقظ الصغيرة فتكتفي بلكزه في كتفه ليكتم ضحكته بدوره وهو يضم رأسها لصدره متنهداً بعمق ..
أنامله تغوص بين خصلات شعرها البندقية الثرية التي تحيط برأسها العنيد فلا يدري أيهما تشابكاً ..
لكن كل ما يعرفه أنه سيكون دوماً معها ..
بل حولها !!
فلا يصيبها مكروه إلا ويصيبه هو قبلها !!
هو ارتضاها جنته وجحيمه ..وستبقى العمر كله كذلك !!
======
*أحمر*
======
يقولون إن “من في القاع لا يخشى السقوط”…
فما الذي قد تخشاه مثلي ؟!
ناريّة عاصفة متفجرة…
فلا تلمني سيدي…
أنا لست إلا تائهة…
وجدت على جسر كسير طريقها …
فامدد إليّ يدك أو دعني أقع…
فليس أسوأ من الموت إلا انتظار الحياة !
(أحمر…يسرا)
=======
_لا تزالين نائمة ؟! أدركي صلاة الفجر قبل الشروق ..هيا!!
تهتف بها هبة بصرامتها الحنون وهي توقظها من نومها فتهتف يسرا بصوت ناعس:
_لا أستطيع ..متعَبة !
_قومي كي تصلي ..ركعتا الفجر بالدنيا وما فيها ..لو كان هذا ثواب السنة فماذا عن الفرض؟
تعاود هزها ببعض العنف فتنتفض يسرا مكانها لتطلق صيحة غاضبة ناسبت هتافها :
_قلت لك إني متعبة ..عمل الفرن هذا يجعلني لا أستطيع الوقوف على قدمي بقية اليوم ..ظهري يكاد يتمزق .
غضبها يمتزج بألم حقيقي يجعل عينيها تدمعان فتبتسم هبة دون أن تتخلى عن صرامتها الحنون :
_ومن بيده الصحة والمرض ؟! المنح والمنع؟! قومي وقفي بين يديه واسألي الله العون والعافية .
_سأصلي عندما أستيقظ ..إنها ساعة واحدة فقط بقيت على موعدي!
تهتف بها يسرا بمزيج من إرهاق وعناد وهي تعود لتستلقي فوق الفراش لكن هبة تسحبها من ذراعها هاتفة :
_وقت صلاة الفجر ينتهي بطلوع الشمس وليس للظهر كما يظن بعض الناس ..قومي وأدركي بركتها في موعدها .
تتأفف يسرا بضجر وهي تفكر في ادعاء أنها في أيام عادتها الشهرية كي تتهرب منها ..لكنها تدرك أنها لن تستطيع النوم مادامت قد أقلقتها بهذا الشكل ..
تغادر الفراش بحركة عصبية ليجعلها ألم ظهرها تنحني على نفسها للحظات ربتت هبة فيها على كتفها قائلة بحنانها الصارم :
_لا تفكري في مشقة العمل ..بل في عظم الأجر ..
ترمقها يسرا بنظرة ساخطة وهي تفكر فيما يدفعها للاستمرار في كل هذا العبث ..
لماذا تستكمل هذه “اللعبة” التي عادت فيها لنقطة البداية فلم تعد تدري لها أية قواعد ..
فلتعد كما كانت..” سمرا ” في محل الأطفال مكتفيةً بمطاردة سرابها في عيونهم !!
_تعلمين ؟! عندما تتذوقين لذة المشقة في العبادة ..تستشعرين تعب جسدك وراحة قلبك ..تريْن بالدنيا كلها صغيرة ..بل متناهية الصغر جوار إحساسك بالخالق العظيم الذي وسع ملكوته السماء والأرض ..ساعتها فقط تفهمين الآية “وعجلت إليك ربي لترضى” ..لترضى !..لترضى!! كأن غاية حياتك فقط هو أن يرضى ..وكفى!!
قشعريرة غريبة تسري في جسدها مع كلمات هبة التي تذكرها بحديث إبراهيم ..
لغة غريبة بمصطلحات لم تسمعها تقريباً في عمرها كله ..
لكنها تشعر أنها تصيب روحها بسهام غير مرئية ..
لا تعرف ما هذا الذي تحكي عنه ..
إنما ..تود تجربته !!
لهذا يتحول مزيج الغضب والألم لما يشبه الاستسلام وهي تتوجه نحو الحمام القريب الذي مكثت فيه لدقائق ..
قبل أن تخرج لتتوضأ في الحوض الذي كان خارجه ..
_أنا أصررت أن يكون الحوض خارج الحمام ..درسنا في الأزهر إن بعض الفقهاء يقولون بعدم جواز الوضوء في الحمام ..صحيحٌ أن البعض الآخر يجيز هذا لكنني دوماً آخذ بالأحوط ..ما هذا ؟! ما هذا ؟!
تقطع هبة حديثها وهي ترى طريقة وضوء يسرا العجول فتهتف بها باستنكار:
_انتظري ! سأعلمك كيف تتوضئين ! ابدئي بالتسمية ..بسم الله ..
تكتم يسرا زفرة غضبها وهي تراها تعلمها طريقة الوضوء الصحيح فتجاريها في حركاتها بملل ..
لتنهي هبة وضوءها بدعائها :
_أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ..
ثم تلتفت نحوها مردفة :
_سهلة ..احفظيها .
ترمقها يسرا بنظرة غريبة وهي تشعر بصداع رأسها مع تعب جسدها يجعلانها تهم بالصراخ فيها ..
لكنها لا تدري لماذا استسلمت للمزيد من هذا الشعور الغريب بين رهبة وسكينة وهي تطيعها لترتدي إسدالها ثم تهم بالصلاة ..
_انتظري! سأصلي بكِ جماعة .
تهتف بها هبة وهي تجاورها لتلصق قدمها بقدمها فتهتف يسرا باستغراب:
_كيف تكون هذه الصلاة ؟!
_لم تصلي في جماعة من قبل؟!
تسألها هبة ببعض الدهشة فتزدرد يسرا ريقها بتوتر وهي تخشى أن تخبرها أنها لم تقف هكذا للصلاة منذ سنوات طويلة ..
مرتان فقط شعرت فيهما بحاجتها للصلاة ..
الأولى ..عندما مات ابنها وعادت من مقبرته في لبنان ..
والثانية ..عندما علمت عن مرض أمها الذي سرقها منها ..
في المرتين كانت تشعر أنها تتخبط ..تريد تجربة أي شيء مما يحكون عنه قد يخفف عنها ما هي فيه ..
لكنها ..وفي المرتين ..لم تفعلها!!
كانت تشعر أنها مدنسة !!
أنها بعيدة عن هذه الرحمة التي ترجوها ولا تستحقها !!
بل إنها -وليسامحها الله على ظنها- كانت تشعر أن الله لا يحبها فأراد عقابها وقد زادها هذا الظن عناداً ونفوراً ..
ولولا اضطرارها للاستمرار في “لعبتها” لما هاودت هبة على ما تريد ..
تشرح لها هبة كيفية الصلاة فتنتبه حواسها نوعاً ما وهي تردد لنفسها ألا بأس بتجربة شيء جديد ..
_الله أكبر ..
تجهر بها هبة بصوت غير مرتفع يملؤه الخشوع فترتعد يسرا مكانها وهي تشعر بمزيج من الرهبة والنفور ..
لا تريد ..لا تريد ..
هي تشعر أن أبواب السماء غلّقت في وجهها منذ زمن ..
فهل هذا سيفتحها ؟!
بضع حركات تقوم فيها وتقف؟!!
تسمع هبة تقرأ الفاتحة بصوتها الذي يمزج حلاوته بخشيته فتدمع عيناها دون وعي ..
تزداد الرهبة ..ويقل النفور ..
تسمعها تنهي الفاتحة ثم تبدأ في قراءة سورة قصيرة لم تتبين يسرا حروفها وهي غارقة في شعورها المتأرجح بين الرهبة والنفور ..
شيطانها يجذبها لشرود قصير فيسرق منها بركة ركوعها ..
لكنها عندما سلمت رأسها للسجود شعرت وكأنها ..أكثر رهبة ..
أشد خوفاً ..
وكأنها تشعر أن الدنيا كلها ستسقط فوق رأسها !!
قلبها يخفق بجنون ولولا اضطرارها للاستمرار لما فعلتها ..
دموعها تتحول لنشيج خافت وهي تشعر أن لحظات السجود تخنقها في قبر ذنوبها المظلم ..
لم تجرؤ على الدعاء..
ولا حتى على رفع رأسها كأنها لو فعلتها فستصيبها صاعقة من السماء!
المزيد والمزيد من الرهبة ..
والنفور يتحول لرعب ..
جسدها ينتفض ببكائها الذي ارتفع صوته لكن هبة تستمر في صلاتها لتقوم للركعة الثانية ..
فتنهض هي خلفها بسرعة وهي تفتح عينيها هاربة من هواجس ظلمتها وخوفها ..
شيطانها يسحبها لشرودها من جديد ..
لكنها تفيق على تلاوة هبة العذبة ..
_إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداٌ.
كانت المرة الأولى في حياتها التي تسمع فيها هذه الآية ..
تندهش في البداية من بساطة الكلمات وقد كانت تتصور القرآن كله صعب المعاني عزيز الفهم ..
لكنها تشعر وكأن معاني الآية الكريمة تخترقها !!
لماذا اختارتها هبة فلم تزد على سواها ؟!
أم عساها هبة لم تخترها بل أجراها الله على لسانها كي تسمعها هي؟!
هل هي رسالة لها بالاقتراب؟!
أم وعيدٌ لها بأنها لا تستحق هذا “الود” لأنها ليست من المؤمنين؟!!
شيطانها يعزز لها الخاطر الأخير فيسرق منها بركة ركوعها من جديد ..
لكنها عندما سجدت هذه المرة لم ترى في السجدة ظلمة قبر ..
بل شعرت أنها تطارد عبر فيض دموعها سراباً من نور!!
بقع نورانية تومض وسط الدمع كمصابيح متلألئة تزيد رجفة جسدها بهذه الانتفاضة التي تكاد توقف قلبها ..
المزيد من الرهبة ..ويختفي النفور!!
يختفي تماماً وهي تود لو تطيل هذه السجدة ..
لا ..لن تسقط السماء فوقها !
لن تصيبها صاعقة !!
لن تسجنها ذنوبها في ظلمة قبو!!
هي تريد المزيد من مطاردة هذه المصابيح المتلألئة ..
_سبحان ربي الأعلى.
يرددها قلبها هذه المرة وقد عقدت الرهبة لسانها ..
الأعلى! الأعلى!!
هذه المرة لم تستشعرها متوعدة ..بل واعدة !!
ربما لهذا بقيت تتردد داخلها حتى بعدما سلمت من الصلاة !
جسدها لا يزال ينتفض بهذا البكاء الغريب لتشعر بهبة تضمها بين ذراعيها لتربت على ظهرها برفق ..
لم تسألها!
ربما كان هذا من ميزاتها العديدة رغم صرامة مظهرها ..
أنها تحترم خصوصية ما تخفيه !!
لم تدرِ كم استمر هذا العناق الدافئ والذي قرّب بينهما لأول مرة بهذه الحميمية منذ التقتا ..
لكنها حقاً كانت تحتاجه !!
_دعوت لك كثيراً في سجودي ..عسى الله أن يتقبل !
تهمس بها هبة بحنانها الوقور فترفع يسرا إليها عينيها المحمرتين من فرط البكاء ..
لم تسمع هذه العبارة يوماً من أحدهم بعد مرض أمها ..
وحتى مع الأخيرة لم تكن تستشعرها بهذه القوة المكتسحة !
كل هذا الجو الروحاني غريب عليها ..
ربما لهذا لم تهدأ انتفاضة جسدها وهي تسأل هبة بحروف مرتجفة :
_الآية! الآية التي كنتِ تقرئينها ..لماذا ؟ أقصد ..ماذا ..؟!
حروفها تنقطع من جديد ببكائها الخافت لكن هبة تفهم فتتسع ابتسامتها وهي تربت على ظهرها قائلة :
_أحبها جداً ..معناها كبير في قلبي ..الآية تعني أن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً زرع حبه في قلوب عباده ..لا أخفيكِ قولاً أنني أكررها كثيراً في صلاتي ودعائي خاصة بعد وفاة والديّ ..ربما لأنني أشعر أن أعظم ما أحتاجه هو الحب ..والحمد لله ..بركتها تلحقني في كل حياتي ..الله سبحانه وتعالى سخر لي حب خالي ربيع ليعاملني كابنته ..وإبراهيم ..
_ماله إبراهيم؟!
تهتف بها يسرا فجأة بترقب لتطرق هبة برأسها مجيبة :
_إبراهيم وأولاد عمه ..كل أهل الحي هنا ..و زملائي في الكلية ..حبهم يحاوطني في كل وقت ..يعوضني فقدان أهلي ..وكفى بها نعمة !
تشعر يسرا ببعض الغيرة وشيطانها يدفعها للمقارنة بينها -في وضعها الحالي- وبين هبة ..
خاصة بعيني ابراهيم ..
هبة التي تبدو بصورتها العكسية ..
التزامها الديني ..وظيفتها المرموقة في الكلية ..
ولو انكشف المستور ..
ستبقى هي ابنة رجل السياسة الذي يكرهه والتي تزوجت ثلاث مرات ..
فيما تبقى هبة الصورة النموذجية المناسبة له !
لكن ما يعنيها من إبراهيم؟!!
ألم تفقد لعبتها معه هدفها ؟!!
هل هي مجرد غيرة بلا معنى؟!!
الغريب أن غيرتها لم تسلمها هذه المرة -كما كانت مع جنة الرشيدي-لحقد ..
بل ليأس!
يأس حاوطه الحزن وحاوط هو قلبها بجدار من نار !
لهذا أطرقت هي الأخرى برأسها وهي تبتعد كأنما انفك الترابط بينهما -لحظياً – لتمسح دموعها قائلة :
_شكراً ..على ..تفسير الآية .
_لو تريدين المزيد من فهم القرآن يمكنكِ حضور دروس إبراهيم في المسجد يوم الجمعة ..الفتيات يسمعنه من خلف ستار ..إبراهيم أسلوبه أفضل مني ..- ..أنا أسلوبي جاف ولا أجيد الشرح ..لكنه- بارك الله له- كلماته سلسة تدخل القلب دون تعقيد .
تقولها هبة بعفوية لتزم يسرا شفتيها هاربة من عينيها بقولها :
_سندس أخبرتني!
_عظيم! إذن احضريها مع الفتيات!
_سأرى!
تقولها وهي تكفكف ما بقي من دمعها لتنهض فتخلع إسدال صلاتها لتطويه جانباً ..
_ستعودين للنوم ؟!
تسألها هبة لترد باقتضاب:
_لا ..سأشرب الشاي بالخارج ..وأنتظر حتى موعد فتح الفرن .
لكن هبة تتثاءب لتتجه نحو غرفتهما المشتركة قائلة :
_أما أنا فسأعود للنوم ..اليوم إجازة من الكلية ..تريدين شيئاً؟!
تهز لها رأسها بامتنان لا تدعيه ثم تتخذ خطواتها نحو المطبخ الصغير ..
تبتسم ساخرة وهي تراه لا يستحق لقب “مطبخ” هذا!!
غرفة الحارس في قصر أبيها تماثله حجماً مرتين على الأقل!
مجرد زاوية ضيقة جوار موقد متوسط الحال وثلاجة قديمة الطراز ..
صوت المذياع جوارها والذي تضبطه هبة دوماً على إذاعة القرآن الكريم ..
_ابتهالات الصباح بصوت الشيخ نصر الدين طوبار ..
حين يهدى الصبح اشراق سناه
يسكب الطل رحيقاً من نداه
موقظاً بالنور أجفان الحياة
الضحى من نور من؟
الله
والندى من فيض من؟
الله
سبحت لله فى العش الطيور
ترسل الأنغام عطراً فى الزهور
تصنع العش وتسعى فى البكور
عيشها في رزق من؟
الله
وهى ايضاً صنع من؟
الله
الرازق الله والصانع الله
الله الله الله
هو الله
لم تكن تعلم أن المذياع هكذا مسلٍّ !
طالما اعتبرته “موضة قديمة” لا تتواءم مع هذا العصر بسحر سماعات الأذن والصوت الذي يصلها نقياً واضحاً ..
لكن هذا “التشويش” في الإذاعة صار محبباً لها خاصةً مع الفقرات التي لا تتغير يومياً ..
وابتهالات الصباح بهذه الحناجر القوية التي تزلزل القلب بهذا الشعور المهيب ..
متعة خاصة كغيرها من المتع التي تجربها هنا ولم تتصور أن تعيشها يوماً في حياتها الفارهة ..
تفتح الصنبور لتفاجأ بانقطاع المياه فلا تتذمر بل تنحني نحو القارورة الكبيرة التي ملأتها هبة بالماء تحسباً للظروف ..
تصب منها القليل في البراد الذي تضعه على النار..
تراقب الماء وهو يغلي بشرود منتشية بصوت زقزقة العصافير الذي يأتيها من الخارج كأنه يناديها فتلبي النداء ..
تخرج من الشقة بكوب الشاي نحو السطح وقد بدأت الشمس تأخذ رحلة شروقها ..
تلتفت نحو الكرسي الخشبي المكسور والذي وضعته هبة جوار فتحة السلم لتجد حزمة النعناع الأخضر ..
ككل يوم في مكانها منذ أخبرها إبراهيم أول مرة عن الأمر!
تراه هو من يضعها ؟!
أم ربيع؟!
تراه يضعها لها هي؟! أم لهبة ؟!
تراه يعني بها شيئاً أكثر من مجرد إشفاقه عليها ؟!!
وهل يستحق هذا -أصلاً – أي أهمية؟!
تتنهد بحرارة وهي لا تدري جواب أي مما سبق ..
لكنها تتقدم نحوها لتأخذ منها ورقتين تغسلهما بالقليل من الماء الذي تبرده هبة في “قُلّة فخارية” قريبة ..
ثم تضعهما في كوبها ..
_هكذا تجدين المذاق أفضل ..لا تبكي !
تبتسم ابتسامة واهنة وهي تستعيد كلماته السابقة ..
لا تدري كم مرة في حياتها سمعت “لا تبكي” هذه ..
لكنها -منه هو- كانت مختلفة تماماً ..
دافئة ..بسيطة ..حنون ..صادقة ..
ككل شيء حولها هنا!
ترفع رأسها فجأة للسماء تتذكر صلاتها منذ قليل ..
رهبة شعورها ..
“المصابيح المتلألئة” التي كانت تطاردها في سجودها ..
الآية الكريمة ..وشرح هبة لها ..
فتجد شفتيها تتمتمان دون وعي بالسؤال :
_هل تحبني؟!
القشعريرة ذاتها تعاودها وهي تجرب مناجاتها هذه لأول مرة !!
لأول مرة في هذا العمر الطويل تسأل هذا السؤال ..
وتتمنى لو تعرف الجواب !!
لكن ألم تعرفه حقاً؟!
ألم تجد صداه بين ضلوعها في هذه السكينة التي تغشاها كزائر عزيز لأول مرة بعد وفاة ابنها ؟!!
تمسح عينيها بقوة وهي تخفض بصرها لترتشف رشفة مستمتعة من كوبها ثم تعانقه بأناملها كأنما تعانق كل هذا الجمال الذي تعيشه هنا ..
ترى الشمس تتبختر بالمزيد من ضياءها فتأخذ نفساً عميقاً وهي تقترب من السور حيث الزهور التي زرعتها هبة بألوانها المذهلة ..
نحلة تقف فوق إحداها !!
ربما لو كانت في موقف آخر لصرخت هاربة تخشى قرصتها ..
لكن هذا الشعور الغريب الذي يملأها الآن بالسكينة يجعلها تكتفي بالمشاهدة ..
تطير النحلة بعيداً أخيراً فتطاردها عيناها كأنما تحسدها على هذا التحليق الحر دون قيود ..
ترتشف المزيد من الكوب ثم تستند على السور تراقب الطريق ..
تكتم ضحكتها وهي تراقب “ثلاثي الرومانسية” وقد ظهروا أول الشارع ..
“قيس وعنتر وروميو” !
ضحكاتهم الصاخبة تبدو واضحة في هذا الوقت مع الخلو النسبي للشارع ..
كبيرهم قيس ينتبه إليها فيلكز شقيقيه لكنها تشيح بوجهها متعمدة تجاهلهم حتى تشعر بهم قد اختفوا داخل بيت ربيع ..
تنظر للجانب الآخر من الشارع حيث المسجد القريب فيرتجف قلبها بترقب كعهدها كلما تراهما يسيران متجاورين ..
ربيع وإبراهيم!!
أناملها تزيد قوة عناقها للكوب وعيناه المتعطشتان لهذا المنظر تكادان تلتصقان بهما ..
العجوز الذي تثاقلت خطواته وقد تأبط ذراع إبراهيم فلا تدري أيهما أكثر احتياجاً لصاحبه ..
هبة أخبرتها أنهما يجلسان في المسجد بعد صلاة الفجر فيما يسمونه ..
“جلسة الشروق”!
آه !
كم من أشياء تتعلمها هنا عن هذا الدين الذي تحمله في بطاقة هوية والآن تدرك أنها لم تكن تعلم حتى قشوره !!
يقتربان أكثر فتزداد خفقاتها جنوناً وهي تود لو ..
لو “تنزرع” بينهما!!
لو ينالها قبسٌ من هذا الحنان الذي يميز علاقتهما ..
تنقطع أفكارها وهي ترى إبراهيم يرفع عينيه نحوها للحظة ..
لحظة واحدة ثم يغض بصره قبل أن ينتبه لها ربيع كذلك فتلوح له بكفها بحرارة يبتسم هو لها ببعض الحذر ..
خاصةً وهو يرى إبراهيم جواره قد عاود النظر إليها نظرة غضب خاطفة مشيراٌ لرأسه في حركة ذات مغزى ..ليدرك ببساطة أن ابنه ..يغار!
بينما تشهق هي مع انتباهها أنها لا ترتدي حجابها فتتراجع مبتعدة عن السور بسرعة ..
قبل أن تغلبها ابتسامة !
ابتسامة لم تفكر في معناها كثيراً وهي تتلذذ بشرب ما بقي من كوبها باستمتاع ..
بينما هذا الشعور الغريب يعدّل التقويم في عمرها فينزع سنوات ..
ليعيد إليها لهفة مراهقة تجرب أن ترى نفسها لأول مرة في عيني رجل!
=======
_نتكلم اليوم عن حب الله للعبد !
تتسع عيناها بصدمة وهي تسمع ابراهيم خلف الستار يحدث الصبية في درسه الأسبوعي بالمسجد وقد نام سامي في حجرها بينما جلست سندس جوارها مع بقية الفتيات ..
كانت أكبرهن سناً وأكثرهن هماً!!
خاصة ً وهي تراه يتحدث عن هذا الأمر بالذات والذي كان يشغلها منذ حديثها مع هبة ..
_علامات حب الله للعبد كثيرة منها أن يقذف في قلبه هذا السؤال بالذات ..هل يحبني الله ؟! لو وقع في صدرك السؤال فهو الجواب ..مادام قد شغلك بهذا الأمر فلن يتركك حتى يرشدك ..
تبتسم دامعة العينين وهي ترفع رأسها للأعلى كأنها لا تصدق أنها رسالتها ..
ثم تعود لتنظر لسامي المستكين في حجرها فتداعب شعره بأناملها وهي تتذكر نومةً لطفلها في حجرها كهذه ..
فيزداد تكدس الدموع في عينيها ..
ولا تزال كلمات إبراهيم تأتيها بسيطة دافئة غير متكلفة ..
_ومن علامات حب الله للعبد كذلك أن يبتليه ..لعل الابتلاء يرده إليه متضرعاً ..فليس كل ابتلاء عقوبة ..إنما تطهير وقربى ..فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ..
كلماته تقع في قلبها هذا الموقع الذي لم تصله كلمات من قبل ..
تدور عيناها في المكان ببعض الدهشة ..
أين كانت هي من كل هذا العالم ؟!
أين كانت من هذا الدين ؟!
لماذا لم يحرص والداها وهما يوفران لها من رغد العيش ما وفراه أن يغرسا داخلها هذه المعاني التي تتعرف إليها لأول مرة ؟!!
_ثق دوماً أنه يحبك ..واجعل حبه غايتك ..أقبل عليه بكل روحك يقبل عليك بكامل رحمته ..هو الودود ..
لا تزال كلمات إبراهيم تصيب سهامها النورانية وسط ظلمتها ..
تطارد عبرها مصابيحها المتلألئة التي وجدتها ذاك اليوم في سجودها ..
“اللعبة” ما عادت لعبة ..
بل صارت جبلاً!!
جبلاً تريد تسلقه يوماً بيوم لعلها تجد على قمته “قوس قزح” المفقود !!
ينتهي الدرس ..لكنها تشعر أن حكاية بقلبها بدأت ..
حكاية تساوي العمر كله !!
تخرج مع سندس حاملةً سامي الذي استيقظ لتوه فتتركه لها بعد أن تقبله ..
قبل أن تصعد لبيتها وهي تتلفت للخلف لعلها تلمح إبراهيم ..
لكنها تعود بخيبتها التي لم تستمر طويلاً وهبة تستقبلها هاتفة :
_كيف كان الدرس؟!
_رائع ..ككل شيء هنا!
تقولها بحرارة حقيقية فتبتسم هبة وهي تربت على كتفها قائلة :
_لا تخلعي حجابك ..خالي ربيع قادم ..يقول إنه جاءته “زيارة” من قريتنا ..ويريد تقاسمها معي .
_ماذا تعني “زيارة”؟!
_كل ما تتميز به القرى عن هنا ..دواجن بيتية ..خبز الأفران هناك ..منتجات ألبان ..خضروات طازجة من الحقول ..مثل هذه الأشياء!
تهز رأسها بعدم اهتمام فقد كان كل اهتمامها الحقيقي بحضور هذا الرجل الذي صار فجأة بطل حياتها ..
ربيع!!
لو كان هناك ما بقي من لعبتها القديمة فهو أن تنال نصيباً في قلبه !!
_إبراهيم سيأتي معه؟!
تسألها بفضول لتتفحص هبة ملامحها قائلة ببعض الضيق:
_ولماذا يأتي؟!
تهز يسرا كتفيها بارتباك لتردف هبة بنفس النبرة الضائقة:
_تعرفين ماذا صرنا نسمي إبراهيم بعد وفاة شقيقه؟! “الدرويش” ! لأنه لم يعد يهتم بأي شيء من متع هذه الحياة..حتى الخلطة مع الناس صار زاهداً فيها إلا من عمله أو دروس المسجد ..هو يحب قضاء عطلته وحده في البيت .
_هل كان يحب شقيقه إلى هذا الحد؟!
_لم يكن شقيقه فحسب ..كان توأم جسده وروحه ..أحياناً يهيأ إليّ أن حسن -رحمه الله- أخذ معه قلب إبراهيم بوفاته ..وترك لنا مجرد هيكل فارغ .
تقولها هبة بأسى فتهمّ يسرا بسؤال آخر لولا أن سمعت صوت ربيع من الخارج بمرحه الوقور :
_يا أهل الدار ..طائرة “مستر ربيع” تنتظر الإذن بالهبوط ..
تضحك يسرا بفرحة حقيقية وهي تندفع بلهفة نحو الخارج لتتسع عيناها للمفاجأة وهي ترى إبراهيم معه !!
كعهده يغض بصره عنها بمجرد رؤيتها فلا تدري هل يثير هذا ضيقها أم ..احترامها !!
_إبراهيم!
تهتف بها هبة بدهشة وهي الأخرى مندهشة من حضوره ليهتف ربيع بنفس المرح وهو يشير لما خلف ظهره :
_إبراهيم فقط؟! “الحرافيش” أيضاً على السلم في طريقهم إلى هنا .
_تريدنا أن نفوت حفلة “ذرة مشوية” طازجة على الفحم ؟!
يهتف بها قيس وقد ظهر لتوه فتهتف هبة باستنكار:
_ومن الذي سيقيم هذه الحفلة ؟!
_نحن!
يشير بها قيس لثلاثتهم فتهتف هبة :
_وتجعلون السطح “مقلب قمامة” ؟!
_سننظف بعدما ننتهي! أرجوكِ يا ” دكتورة هبة” !
يهتف بها ثلاثتهم وهم يتقافزون حولها كالبهلوانات فتنظر لخالها نظرة مستغيثة لكنه يضحك قائلاً:
_وافقي وسأجعلهم ينظفون لك السطح والبيت كله لو أردتِ !
تبتسم وهي تقول باستسلام :
_حسناً! ولو أن قلبي ليس مطمئناً للأدب الزائد و”دكتورة” هبة هذه !
_أجمل دكتورة!
يهتفون بها بشقاوتهم المعهودة فتعدل وضع نظارتها على أنفها هاتفة :
_تحشموا وكفوا عن آداء القرود هذا !
_الليل الليل ..الليل يا ميمون ..وكمان الليل وأنا أكون ممنون!
يهتف بها روميو مقلدا المونولوج القديم لاسماعيل ياسين وشكوكو فيجاريه أخواه في تقافزه حولها وهو يصفق بكفيه بينما سحب قيس الكرسي الخشبي ليقلبه ويطبل فوقه ليقوم عنتر بالرقص بكتفيه جوارهما ..!!
فتهتف هي بنفس الحزم المستنكر:
_خالي! لقد قلبوا السطح “كباريه”!
_إنه لهوٌ مباح! أنتِ “الحنبلية”!
يهتف بها قيس مقلداً لهجتها في الحديث فتضحك يسرا ضحكة رائقة وهي تراقبهم باستمتاع ..
ضحكة تجد مكانها في قلب إبراهيم الذي غافلته عيناه بنظرة لعينيها ..
“العندليب الأخرس” لايزال يصدح فيهما بصراخه الصامت رغم ما تدعيه ضحكة شفتيها ..
لعله إذ يجد غصناً أكثر أماناً يطلق فيه شدوه حينها دون خوف!
ما بالها ضحكتها؟!
هل كل ضحكات النساء كذلك ترقص على إيقاعها الدنيا ؟!
أم أنها هي الفريدة وسطهن ؟!
ولماذا هي؟!
لماذا ألقت على قلبه تعويذة فتنتها لتسحبه من مشوار زهده الطويل فتلقيه أمام أبواب مدينتها تائهاً دون دليل ؟!!
تنتبه لنظرته التي طالت هكذا لأول مرة فتبادله النظر وهي تشعر أن هذا “البئر العميق” في عينيه يشدها ..
كانت تظن أنه لا يكفيها سوى زلة قدم كي تسقط فيه للأبد ..
لكنها هاهنا تشعر أنها لا تسقط ..بل ترتقي!!
_جميل!
يقطع بها ربيع تواصلهما لينتبه إبراهيم لحاله وهو يلتفت لأبيه قائلاً بارتباك :
_ما الجميل؟!
_اقتراح “الذرة المشوية” هذا! منذ وقت طويل لم نتجمع هكذا مع هبة كعائلة !
يقولها ربيع بغموض ماكر لتبتسم هبة وهي تناظر خالها باحترام قائلة :
_ممتنة لك يا خالي! أنتم كل أهلي ..أبقاكم الله لي!
يقترب منها ربيع فيعانقها بحنان ثم يقبل رأسها لتشعر يسرا بغيرة حقيقية وهي تتمنى عناقاً كهذا ..
خاصة والعجوز يفرد ذراعه فوق كتفي إبراهيم بعدها ليتوجه به نحو الوسائد العريضة التي فرشها الحرافيش على الأرض تمهيداً لحفل الشواء البسيط الذي تولوه هم بعدها ..
تتجه هبة نحوهم لتتخذ مجلسها وسطهم بجلسة محتشمة فيما تبقى يسرا واقفة مكانها بتردد ..
يلاحظها إبراهيم فيود لو يناديها كي تشاركهم لكنه يفضل أن يطرق برأسه محتوياً انفعالاته بطبيعته الكتومة ..
_تعالي يا ابنتي ..لماذا تقفين هكذا؟!
يهتف بها ربيع وهو يشير لها بكفه فتتقدم منهم بابتسامة واسعة لتهتف بعفوية بأول ما جال في صدرها:
_أريد الجلوس جوارك !
تتسع عينا هبة للحظة من جرأتها فيما يحمر وجه إبراهيم بانفعاله المكتوم وهو يتخلى عن مكانه لتتخذه هي ..
بينما بدت هي غافلة عن كل هذا وهي تشعر بقربها من العجوز يمنحها سعادة خاصة ..وعوضاً خاصاً!!
_سعيدة معنا؟!
يسألها ربيع بحنانه المعهود الذي يخالطه وقاره لترد دون تفكير:
_جداً ! ليتني أبقى هنا للأبد !!
_ليتكِ تفعلين!!
يهتف بها قيس بلهفة وهو يحرك قطعة من الكرتون المقوى حول الفحم المشتعل فوق الصفيحة الساخنة حيث يشوي الذرة ..
ليرمقه إبراهيم بنظرة زاجرة تجعله يبتلع بقية كلماته ..
_أنا أحضرت التلفاز كي تكتمل التسلية !
يقولها عنتر وهو يأتي حاملاً جهاز التلفاز القديم الذي وضعه فوق مائدة صغيرة في مواجهتهم ليقوم بضبطه على إحدى القنوات ..
فتهتف هبة محذرة بصرامتها المعهودة :
_لا أغاني ولا مسلسلات ولا أفلام !
_هاتي صبارة وادفنينا!
يهتف بها قيس ساخراً ولايزال يمارس عملية الشواء ليمنح “كوز الذرة” الأول لربيع الذي ناوله ليسرا الضاحكة قائلاً بحنان:
_بسم الله !
تتناوله يسرا لتفاجأ بسخونته الشديدة فتهتف عفوياً بالانجليزية:
_يا إلهي! ساخن للغاية!
ترمقها هبة بنظرة مندهشة للكنتها الأرستقراطية وانجليزيتها المتقنة التي نطقت بها ..
فيما يكتفي ربيع بنظرة غامضة ليهتف قيس مغازلاً بنبرته العابثة :
_قطعة بسكويت والله!
يهب إبراهيم من مكانه ليتوجه نحوه بنظرة غاضبة وهو ينتزع منه قطعة الكرتون التي يستخدمها في التلويح للشواء هاتفاً بصرامة :
_سأقوم أنا بالشواء! يبدو أن حرارة النار أثرت على دماغك!
_جداً! الحرارة مرتفعة جداً!
يقولها قيس مشاكساً وحاجباه يتراقصان بعبث يناسب ضحكاته وهو يبتعد ليتخذ مجلسه جوار شقيقيه ..
_انفجار في لبنان ..يارب سلم !
تهتف بها هبة بانزعاج لتلتفت يسرا بوجه ممتقع نحو التلفاز ..
القناة الإخبارية تذيع مشاهد الدمار فتتزامن في ذهنها مع ذكرياتها هناك ..
قلبها ينتفض بلوعة مع كل مشهد فيهيأ إليها أن ابنها يقتل من جديد على نفس الأرض!
يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ…
مَنْ باعَ أسواركِ المشغولةَ بالياقوتْ؟
من صادَر خاتمكِ السّحريَّ،
وقصَّ ضفائركِ الذهبيّهْ؟
من ذبحَ الفرحَ النائمَ في عينيكِ الخضرواينْ؟
من شطبَ وجهكِ بالسّكّين،
وألقى ماءَ النارِ على شفتيكِ الرائعتينْ؟
من سمّمَ ماءَ البحرِ، ورشَّ الحقدَ على الشطآنِ الورديّهْ؟
ها نحنُ أتينا.. معتذرينَ.. ومعترفينْ
أنّا أطلقنا النارَ عليكِ بروحٍ قبليّهْ..
فقتلنا امرأة.. كانت تُدعى (الحريّهْ)…
قصيدة نزار قباني بكلماتها الحية تتردد على التلفاز تزامناً مع المشاهد الموجعة فتشعر بروحها تنسحب منها من جديد ..
إلى هناك ..
_ماما !
_قتلتِ ابنك يا مجرمة !
ألم الصفعة لايزال نابضاً فوق وجنتها الباردة يلهيها عن تعليقاتهم جميعاً وقد سادهم الأسى والوجوم ..
تنتفض مكانها فجأة لتهتف بصوت مرتجف وبعينين زائغتين:
_سأنزل!
_إلى أين؟!
يسألها ربيع بدهشة قلقة لترد بابتسامة مصطنعة :
_سامي كان يقول إنه يحب الذرة ..سأعطيه واحداً !
تقولها لتغادر راكضة فيتبادل الجميع نظرات دهشة وهم يشعرون بغرابة تصرفها ومظهرها ..
ينهض ربيع من مكانه ليتحرك نحو السور القريب فيراقبها من أعلى ..
لهفة خطواتها الراكضة نحو كشك سندس ..
عناقها الحميمي للصغير سامي وهي تدفن وجهها في شعره ..
ثم مسحها لدموع عينيها بسرعة بعدها ..
لم يكن عناقاً عادياً ..بل عناق أم مكلومة !
ينعقد حاجباه بشدة والخاطر الأخير يزيده نحوها حذراً ..
خاصة وهو يرى ابنه يترك ما بيده ليجاوره مراقباٌ إياها بدوره ..
والقلق يعتصر حروفه:
_ماذا حدث ؟! لا تبدو بخير!
يربت أبوه على كتفه برفق وهو يراها في طريق عودتها إليهم لكنه لم يكد يتفوه بكلمة حتى سمع صرختها من الأسفل ليلتفت نحوها ..
عربة يجرها حصان أخطأ سائقها لينال سوطه من كتفها بدلاً من حصانه !!
الناس يتجمعون حولها فيمنعونهما المشاهدة ..
_خيراً بإذن الله ..
يهتف بها ربيع ملتفتاً نحو إبراهيم الذي لم ينتظر ليتم عبارته وهو ينطلق كالصاروخ نحو الأسفل فيتبادل ربيع مع هبة نظرة ذات مغزى !!
وفي مكانها كانت يسرا تقف تمسك كتفها الذي ناله سوط السائق والأخير يردد اعتذاراته وسط الجمع ..
_أعمى؟! أنت أعمى ؟!
صراخ إبراهيم يذهل أهل الحي الذين لم يروا منه هذا الجانب “الغاضب” الغريب على طبعه الحليم من قبل ..
بل هذا الجانب “الحي” الغريب على طبيعة الدرويش منذ وفاة شقيقه ..
خاصة وهو يجذب السائق من تلابيبه ليلوح في وجهها بقبضته صارخاً بنفس الغضب :
_كنت تعاكسها!
يحول الناس بينهما وهم يسحبون إبراهيم بصعوبة بعيداً عن الرجل لتهتف يسرا بانفعال:
_أنا بخير ..بسيطة ! اهدأ ..الأمر لا يستحق!
يلتفت نحوها بوجهها الغاضب للحظات قبل أن ينتبه لانفعاله الذي تحرر هكذا ثائراً جامحاً كما لم يعرف نفسه منذ زمن بعيد ..
يداه ترتعشان وهو يشعر بخفقاته الجنونية مستعرة ألهبها شعوره أنها في خطر !!
_نذهب للمشفى؟! نطلب طبيباً؟!
لايزال صوته الهادر مرتجفاً بانفعاله ورغم صعوبة الموقف لكنها كانت تكتم ابتسامتها بصعوبة ..
“ابتسامة أمان”تكاد تقسم أنها تولد على شفتيها لأول مرة في عمرها كله !
ولولا تحرجها من الجمع حولهما لأطلقتها حرة فما فارقت وجهها أبداً !!
_إبراهيم!
يناديه بها أبوه من الأعلى وهو يشير له بحزم أن يفض الأمر ..فيفعل!
يتحرك جوارها عائدين للبيت والصمت يلجم لسانيهما ..إنما الصدور تعوي بخفقاتها ..
هو الذي لا يدري ماذا أصابه ..
ولا كيف تعلق بها هكذا لتصير لديه بهذه الأهمية ..
يعلم أنه لا خبرات له مع النساء ..لكن لماذا هي بالذات ؟!
هل ..هذا هو الحب الذي يحكون عنه ؟!!
وهي التي كانت تمسك كتفها بألم تحاول تجاهله ..
تفكر أن تعيد كفها جوارها كي لا تشعره بوجعها لكنها لا تفعل!
ببساطة هي كانت تتلذذ بخوفه هذا عليها ..
أن يشعر بها أحدهم ..
بها هي !!
لقد غابت “يسرا الصباحي” عن مجتمعها المخملي فلم يحس برحيلها أحد ..
لكنها هاهنا وجدت من يشعر بها حقاً ..
من يراها دون غلالة جاه أو نسب ..
هي هي ..فحسب!
_شكراً.
تقولها وهي تصعد الدرج معه ..
تقولها بكل ما أوتيت من صدق وسط كل هذا الزيف الذي تصدره لهم ..
فيطرق برأسه وقد تقدمها في صعوده في عادة وجدتها فظة بمعطيات مجتمعها القديم ..
لكنها الآن تفهم ما خلفها من رجولة ..
لو كانوا يظنون أن حياء المرأة جذاب ..
فحياء الرجل آسر!
لهذا استمرت كلماتها حارة صادقة رغم عدم رده :
_شكراً على كل شيء ..بداية من لقائنا الأول ..وحتى اليوم ..درس المسجد ..جلسة السطح ..وأخيراً وقوفك جواري منذ قليل عندما ..
_درس المسجد؟! هل كنتِ حاضرة؟!
يتوقف ليلتفت نحوها فتلحق به لتومئ برأسها إيجاباً مع قولها :
_كان رائعاً ..دافئاً ..صادقاً ..ككل شيء هنا!
“العندليب” الأخرس في عينيها يبدو له من جديد وكأنه يتأرجح على غصنه متردداً في التحليق ..
لم يفهم يوماً لغة العيون ولم يهتم!
لكنه هاهنا يود أن يفهم إلى ماذا تجذبه هذه “الرامية القرمزية” بكل ما يحيط بها من دوامات غامضة !!
ابتسامتها “العذراء” بشعورها تقابل ابتسامته “المنقوصة” التي تبدو وكأنها -لأجلها- تريد أن تكتمل!
_سمرا!
نداء ربيع الذي لم يصبر على صعودهما إليه فهبط هو إليهما يقطع سحر اللحظة بينهما ..
نداؤه باسمها المزيف الذي تتمنى الآن لو كان حقيقياً ولو دفعت في مقابل هذا كل ما تملكه !!
_أنتِ بخير؟!
قلق العجوز كان حقيقياً ليس فقط على صحتها إنما على أثرها المشهود على ابنه ..
لا يدري هل يحمد لها أن أخرجت الدرويش من عباءة زهده ..
أم يبعدها مخافة أن تجرح صدفة لؤلؤته !
هو اعتاد الثقة بحدسه ..وحدسه يخبره أن يصبر!
_أنا بخير ! لا تقلق !
تجيبه بامتنان ليصلهم صوت قيس من الأعلى :
_أسرعي يا سمرا ..كتفك سيؤلمك على أي حال لكن الذرة سينفذ لو لم تدركي نصيبك !
تضحك وهي تسرع الخطا نحو الأعلى بينما يتقدم إبراهيم من أبيه الذي رمقه بنظرة ذات مغزى هرب منها وهو يسرع الخطا بدوره لاحقاً بها ..
ولو كان بيده لهتف بها بكل ما يعتمل في صدره من فوضى:
_أنا أضيع ..يا “مستر ربيع”!
جلسة السطح تجمعهم من جديد إنما حاولوا جعلها أكثر مرحاً!
هذا الذي تعمده “ثلاثي الحرافيش” وهم يشعرون أنها -سمرا- تحتاج لهذا فلم يخفَ عليهم حالها منذ قليل ..
مزاحهم اللطيف لا ينجح في في انتزاع ضحكات يسرا فحسب ..
بل وضيق هبة من هذا الاختلاط الذي لا يروقها بطبيعة التزامها الديني ..
وغيرة إبراهيم التي لم يعد قادراً على إخفائها ..
لهذا رأى ربيع أن يكتفي بهذا القدر بعدما وجد سمرا قد انتهت من تناول أكلها واسترد وجهها الشاحب بعض تورده ليقول لها بحنان لم يخلُ من حذر:
_لو كنتِ متعبة فلا تأتي غداً للفرن!
_أنا ..
تقطع عبارتها بدهشة وهي تلتفت نحو مدخل السطح حيث ظهر هؤلاء الرجال شديدو الهيئة فجأة ليلتفت الجميع نحوهم فيهتف أحدهم بنبرة صارمة :
_ من منكم إبراهيم ربيع ؟!
_أنا!
يهتف بها إبراهيم وهو يتقدم نحوهم ..
_تعال معنا !
_إلى أين؟!
يهتف بها ربيع بحمية أبوية وهو يتقدم بدوره نحوهم ليهتف الرجل بنبرة رسمية :
_مطلوب للتحقيق!
_أي تحقيق؟!
_ليس مصرحاً لي بقول هذا الآن ..تفضل معنا!
_لن يرحل من هنا حتى أفهم!
يهتف بها ربيع بغضب وهو يقف بين الرجل وإبراهيم الذي هتف به مهدئاً رغم دهشته الوجلة :
_لا تخف يا أبي ..لعله سوء تفاهم ..
_لن تتحرك خطوة واحدة من هنا قبل أن أعرف سبب استدعائك !
يهتف بها ربيع بنفس الغضب الموشوم بخوفه وذكرى حسن الراحل تقبض صدره مهددة أن تتكرر ..
_خذوه !
يهتف بها الرجل لمساعديه فيتقدموا من إبراهيم ليشتعل الوضع في لحظات !!
ربيع الذي لم يكن يرى في هذه اللحظة سوى صورة حسن يسقط صريعاً بهراوة غليظة تهوي فوق رأسه في موقف مشابه فيفقد القدرة على التفرقة بين صواب وخطأ !!
_لن تأخذوه ولو على جثتي!!
تشهق يسرا بفزع وهي ترى ربيع يدفع أقربهم إليه في تصرف عدائي غير مبرر الشدة في موقف كهذا ليحاول إبراهيم تهدئته لكن العجوز يبدو وكأنه فقد أعصابه وهو يرفع الكرسي المجاور له كأنه سيقوى على استخدامه بل والدفاع به !!
الحرافيش ينضمون إليه بحمية وهم يحاولون تخليصه من يد رجال الشرطة..
ليشتعل الموقف أكثر ..!
========
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)