روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل السابع عشر 17 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل السابع عشر 17 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء السابع عشر

رواية ماسة وشيطان البارت السابع عشر

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة السابعة عشر

_لماذا لا ترد على اتصالاتي؟!
همست بها صفا وهي تجلس جواره في المحل بعد أيام من شجارهما الأخير غاب هو فيهما عن المنزل دون أن يكلمها…
فاضطرت أن تجئ إليه هنا رغم علمها أنه سيكره هذا…لكنها لم تستطع الصبر أكثر….
نعم…أتت كي تسترضيه ولو أنها تشعر أن هذا لن يكون سهلاً هذه المرة!!!
وقد صدق حدسها كما يبدو فهو حتى لم يرفع عينيه إلىها وهو يغمغم بفتور:
_هل تحتاجين شيئاً؟!
تلفتت حولها في ارتباك لتعاود همسها الراجي:
_لن نستطيع الكلام هنا …هل يمكن أن تعود معي إلى البيت الآن؟!
حافظت ملامحه على جمودها وهو يرد دون أن ينظر إلىها:
_مشغول!
دمعت عيناها بعجز وهي تقترب بكرسيها منه أكثر لتهمس بعتاب:
_أنت تتعمد إذلالي يا عبد الله؟!هل هذه قيمتي عندك؟!
التفت نحوها بحدة عندما قالتها لترتعش شفتاه بغضب وعيناه تفضحان عاطفته نحوها رغم قسوة عبارته:
_العفو يا سيدتي…من ذا الذي هو قادرٌ على إذلال صفا المعموري بجلالة قدرها؟!!
أطرقت برأسها تمسح دمعتها الفارّة على وجنتها وهي تشعر أنها خالية اليدين معه حقاً هذه المرة…
لقد تمادت -دون قصد-في الضغط على جرحه القديم والآن لا تدري كيف السبيل لمداواته!!
بينما أشاح هو بوجهه وكل خلايا جسده تشتعل غضباً…
منذ تلك الليلة التي قذفته فيها بكلماتها الجارحة وهو يكاد يجنّ…
لا يصدق أن “صفا روحه” التي طالما احتوته بحنانها ودفئها وتفانيها ذبحته هكذا بسكين بارد!!!
لتخرج مارده القديم من مصباحه الذي -بالكاد-أغلقه عليه…
وتعيده للدوران في تلك المتاهة المتشابكة من مشاعره المتناقضة نحوها…
بين امتنانه…وشعوره بالنقص…!!
بين احتياجه إليها ك”امرأة”…ونفوره منها “كرجل”…!!
بين “سكن ” جوارحه إلىها…و”وحشة” كبريائه في حضرتها…!!
لكن ومع كل هذا…
تبقى دموع “صفا المعموري” غاليةً مثلها!!
لهذا عاود النظر إلىها وقد رقت ملامحه -نوعاً- ليغمغم بجفاف يخفي حقيقة شعوره:
_لا تبكي يا صفا…هذا ليس مكاناً مناسباً للحديث..أمري لله..سأعود للمنزل الليلة لنتفاهم.
مدت أناملها خُفيةً تحت مكتبه لتحتضن كفه بقوة هامسة بعاطفتها الكاسحة:
_سامحني يا عبد الله…أقسم لك أنني لم أكن في وعيي وقتها.
كز على أسنانه وهو يرمقها بنظراته التي عاد إليها اشتعالها ليهمس بحدة :
_هذه الأشياء التي نقولها خارج حدود وعينا دوماً هي الأصدق…هذا ما يستقر برأسك لكنكِ تخفينه خلف أسوار ادعائك.
هزت رأسها نفياً وهي تقول بانفعال:
_صدقني هذا ليس…
_عفواً يا شيخ عبد الله…هل تسمح لي بدقيقتين من وقتك؟!
قطعت هذه العبارة جملتها فالتفتت بحدة نحو صاحبتها وهي تترك كفه ببطء متفحصةً هذه المرأة أمامها…
بينما التفت عبد الله نحو المرأة بغضب ليجدها تلك “الفاتنة” التي مرت عليه هنا قريباً تبحث عن عمل…
ومعها صغيرها كالمرة السابقة…
فزفر رغماً عنه ثم استغفر الله بصوت مسموع ليقول ببعض الرفق:
_تفضلي.
ثم اتجه ببصره للصغير الوسيم الذي ورث ملامح والدته على ما يبدو …
فلانت نظراته تماماً وهو يمد يده مصافحاً له بحنان قبل أن يقول بودّ:
_أهلاً يا محمد…كيف حالك؟!
ابتسم الصغير ببراءة وهو يصافحه بخجل …
ورغم أن وجود فتون بجمالها المبهر كان سيزعج أي امرأة مكان صفا …
لكنها ابتسمت وكأنما أنساها وجود “الصغير” أي شئٍ آخر…!!!
نعم…غلبتها مشاعر أمومتها كالعادة فقامت من مكانها لتتناوله من أمه فحملته بين ذراعيها مقبلةً جبينه قبل أن تعاود الجلوس وهو على ساقيها لتقول له بحنانها الطاغي:
_كم عمرك يا محمد؟!
عدّ الصغير على أصابعه ببراءة قبل أن يقول بفخر طفولي:
_أربعة فقط…لكنني رجل!!
ضحكت صفا بانطلاق وقد أعجبها رده فضمته إلى صدرها أكثر قبل أن تهتف :
_بالطبع…وأفضل رجلٍ أيضاً!!!
فابتسمت “الفاتنة” بشحوب وهي تغمغم بحرج:
_أكرمكِ الله يا سيدتي.
رمقتها صفا بنظرات متسائلة عن سبب تواجدها هنا الآن…
لكن “الفاتنة” لم تنتبه لهذا وهي تطرق برأسها قائلةً بخجل:
_أنا أعتذر لو كنتُ ألح عليك في السؤال يا شيخ…لكن..هل وجدتَ لي عملاً؟!
غض عبد الله بصره عنها وهو يتشاغل ببعض الأوراق على مكتبه قبل أن يقول بما يشبه الاعتذار:
_لقد انشغلت كثيراً في الأيام السابقة ولم أتمكن من تدبر الأمر للأسف…لكن…
قاطعت صفا عبارته وهي تنظر ل”الفاتنة” قائلة باهتمام:
_أنا زوجة الشيخ عبد الله…أيّ عملٍ تبحثين عنه بالضبط؟!
التمعت عينا “الفاتنة” بلهفة “الحاجة” لكنها حافظت على “عزة” كلماتها وهي تقول :
_أي عمل يا سيدتي…طالما كان شريفاً فلا أمانع.
تنحنح عبد الله ببعض الحرج وهو يقول لصفا:
_لقد كان زوجها يعمل هنا لكنه تُوفي منذ فترة قريبة…وهي تبحث عن عمل.
تأملتها صفا ببصرها بنظرات متفحصة وهي تشعر نحوها بالارتياح…
فهي على الرغم من بساطة مظهرها الذي فضح فقرها لكنه يبدو نظيفاً مهندماً…
كما أن نظراتها التي حملت أطناناً من الحزن والانكسار لم تكن خالية من عزة نفس لم تفوتها عيناها الخبيرتان…
ومع نظرة أخري منها نحو الصغير المستكين ببراءة على ساقيها كانت قد حسمت أمرها تماماً!!!
فسألتها بحنان مشوب بشفقتها:
_هل لديكِ مكانٌ تقيمين فيه؟!
أطرقت “الفاتنة” برأسها للحظة لكن الصغير هتف بحزن طفولي:
_سيطردوننا من بيتنا لأننا تأخرنا في دفع الإيجار.
رفعت إليه أمه عينيها بنظرة زاجرة فانكمش الصغير أكثر في حضن صفا التي قالت لعبد الله بنبرة استئذان:
_أنا أحتاج لمن تساعدني في شئون المنزل…ما رأيك لو تعمل لدينا وتقيم في غرفة السطح التي كانت للبواب القديم؟!
انعقد حاجبا عبد الله وهو يشعر بعدم ارتياح لا يدري سببه…
أو ربما هو يعرف ويكابر…!!!
هو لا ينكر تأثير هذه “الفاتنة” عليه منذ رآها أول مرة…
فإذا كان مجرد وجودها قربه يربكه هكذا فكيف سيسمح لها أن تدخل بيته بصورة دائمة؟!!
ورغم أنه في عمله طوال النهار ولا يعود إلا بعد صلاة العشاء لكن هناك نسبة مجازفة لا بأس بها في احتكاك هو أغنى ما يكون عنه…
لهذا أشاح بوجهه وهو يقول باعتراض:
_هذا العمل لا يناسبها…سأبحث لها عن عمل أفضل.
لكن “الفاتنة” بدت وكأنها تتعلق بأي قشة فهتفت بسرعة:
_على العكس…السيدة تبدو شديدة الطيبة وسأكون مرتاحة بالعمل لديها.
بينما التفت الصغير نحو صفا ليهتف بفرح :
_هل ستبنين لنا بيتاً جديداً؟!
ضحكت صفا من قلبها وهي تقبل وجنته لتقول بحنانها الفطري:
_أنا لن أبنيه…هو موجود بالفعل…لكنني سأمنحك مفتاحه لأنك ستكون “رجل البيت” …صحيح؟!
ضحك الصغير وهو يصفق بكفيه …بينما ارتسمت على ملامح “الفاتنة” أمارات الارتياح رغم الحزن الذي حفر أخاديده وسطها…
فقلب عبد الله بصره بين الجميع وهو يشعر أن اعتراضه الآن سيبدو غير منطقيّ…
لهذا قال ل”الفاتنة” دون أن ينظر إلىها :
_إذا كان هذا العمل يناسبكِ فتفاهمي مع السيدة على التفاصيل…أنا لا شأن لي بالأمر.
قالها وهو يقوم من مكانه ليغادرهما…
عندما سمع صفا من خلفه تسألها بطيبتها :
_ما اسمك؟!!
ورغماً عنه وجد نفسه يرهف السمع لتصدمه إجابتها:
_فتون!
ارتسمت ابتسامةٌ ساخرة على شفتيه وهو يكمل خطواته مبتعداً عنهما …
لو كان لكل امرئٍ من اسمه نصيب فهذه المرأة أخذت نصيبها كاملاً دون نقصان…!!!!
لو كانت الفتنة حقاً تتجسد في امرأة لكانت هي بلا جدال!!
تنهد بحرارة وخطواته تحمله خارج المحل ليطالع الطريق بشرود وهو يشعر بثقلٍ جاثم على صدره…
مع إحساس مبهم -بالخطر- بدأ يتسلل لنفسه ببطء…
وحدساً ما بداخله يخبره أن أيامه القادمة ستحمل له الكثير من المفاجآت…
الكثير!!!!!!
==========
جلس أمامها على طرف فراشها ليوقظها ككل يوم عندما فوجئ بابتسامتها الواسعة في نومها مع همهماتٍ ناعمة لم يتبينها فأدرك أنها تحلم…
ابتسم بحنان جارف وقد تراجع عن فكرته بإيقاظها مكتفياً بتأمل ملامحها بهذه الابتسامة الخلابة التي قلما يراها في صحوها…
ثم امتدت أنامله ببطء تتحسس ملامح وجهها باشتياقٍ -لا منطقيّ- فهو تقريباً لا يتركها منذ أسبوعين…
ومع هذا يشعر أن قربها كالماء المالح لايروي ظمأه بل يزيده !!
استمرت أنامله في تبتلاتها الطائفة على بشرة وجهها حتى وصلت لشق ذقنها الذي هو أكثر ما يأسر عينيه في ملامحها…
وكل ملامحها له آسرة!!
لتجذبه ابتسامتها من جديد قسراً إلى شفتيها اللتين تزينتا بابتسامتها الحالمة فوجد نفسه دون وعي يقترب منهما ببطء مسحوراً حتى كاد يمسهما بشفتيه…
لكنه تراجع في آخر لحظة وهو يجاهد نفسه في الابتعاد بوجهه…
وإن بقي قلبه على عميق قربه …بل تشبثه!!!
تنهد بحرارة وهو يسحب أنامله بعيداً لكنه عجز عن منع عينيه من ملاحقة ملامحها الملائكية التي بدت له الآن كأروع ما تكون !!!
يقولون أن المرأة الجميلة تفقد الرجل عقله ….وليتها تفعل!!!
ليتها تحرره من قيود عقله وكبريائه حتى يستطيع مسامحتها…
حتى يستطيع التجاوز عن فعلتها التي طعنته غدراً!!!
انعقد حاجباه عند هذه النقطة وهو يرى بعين خياله رجلاً غيره رآها هكذا لينال منها ما حرّمه -هو -على نفسه!!
فشعر بنيران قلبه تستعر من جديد ليشيح عنها بوجهه وهو يستغفر الله بخفوت….
لكنه عاد بعد دقائق يختلس النظر لوجهها وقد غلبته عاطفته نحوها من جديد….
لتتحول نظراته المختلسة إلى تأملٍ عميق وكأنه يرتشف سحر ملامحها…
قطرة… قطرة!!
لكنها قطعت عليه سحر تأمله عندما فتحت عينيها أخيراً لتفاجأ بوجوده …
فقامت من نومتها بارتباك لتقول بصوت لم يغادره النعاس بعد:
_صباح الخير…هل تأخرتُ في الاستيقاظ؟!
ابتسم بحنان وهو يلتقط أشعة عينيها النقية ثم هز رأسه نفياً ليقول بصوته الخشن:
_لا أبداً…خشيتُ فقط أن تفوتي ميعاد دوائك.
أطرقت برأسها مخفيةً ابتسامة امتنانها لكل هذا الحنان الذي يغرقها فيه مؤخراً بعد انتقالهما للعيش هنا…
والذي كانت تحتاجه بحق لتعبر كل ما كانت تعانيه منذ شهور …
وبالتحديد منذ كارثتها الأخيرة مع فهد…
وعند ذكرى فهد تغضنت ملامحها ببغض وهي مندهشة من تغير حالها الجديد…
فالآن عندما تستحضر في مخيلتها ملامحه لم تعد تراها وسيمة كالسابق…
بل صارت تراها-للعجب- شيطانيةً منفرة !!!
وحتى ذكرياتها القصيرة معه والتي كانت تعتبرها حصاد عمرها الثمين…
الآن تطردها من رأسها كلما جالت فيه كأفعى سامة!!!
لقد تكفل الزمن بإزالة الستار كاملاً عن اللوحة القديمة…
لتبدو حقيقتها الكريهة …
مجرد ألوانٍ صارخة متداخلة على قطعة قماش مهترئة بلا إطار…
فبئست اللوحة…وبئست الحقيقة!!!
بينما قاطع هو أفكارها ليسألها برفق حنون ولازالت نظراته المتبتلة على طوافها العاشق:
_يبدو أنني قاطعتُ حلماً سعيداً …كنتِ تبتسمين في نومك!
اتسعت ابتسامتها وهي تومئ برأسها لتهمس بشرود مستعيدة أحداث حلمها :
_لقد رأيت أبي في الحلم يضمني بقوة…ويربت على رأسي بالدعاء كما كان يفعل رحمه الله…لكنه تركني بعدها ليذهب بعيداً وعندما رجوته أن يأخذني معه التفت نحوي مبتسماً ليقول لي بفخر إن طريقي لا يزال طويلاً !
ربت على كفها بحنان وقد أسعده حلمها مثلها ليقول بنبرة مطمئنة:
_إن شاء الله ستحققين كل أمنياتك.
نفضت عنها غطاءها وهي تقوم من الفراش لتقول له ببعض الانطلاق الغريب على تحفظها معه:
_أنا أريد أن أعد أنا الإفطار اليوم …لقد صرتُ بخير!
قام بدوره وقد بدا على وجهه الاعتراض لكنها توجهت نحوه لتقول بوداعتها البريئة:
_حسناً…لا تعترض…نعده سوياً!!
ابتسم رغماً عنه وهو يجذبها من كفها ليقول بحزم رفيق:
_اغسلي وجهكِ أولاً والحقي بي.
أومأت برأسها في طاعة لتلحق به بعد قليل فتعاونه في إعداد الطعام وحمل الأطباق نحو المائدة…
ثم جلست جواره لتقول بهدوء:
_هيام كانت مختلفة جداً عندما زارتنا بالأمس…لقد اعتذرت لي أمام والدتك عندما غادرتنا أنت.
أومأ برأسه وهو يسألها باهتمام:
_وهل قبلتِ أنتِ اعتذارها؟!
نظرت إليه بتردد وهي لا تدري بماذا ترد….ثم همست بخفوت:
_ماذا تريدني أن أفعل؟!
ربت على كتفها برفق ثم قال بحزم وهو ينظر في عمق عينيها:
_افعلى ما تريدينه أنتِ!!
خفضت بصرها عنه للحظات ثم همست بطيبة واضحة:
_أنا لا أحب الخصومة…أريد أن نعود للعيش مع والدتك فقد تحملتَ أنتَ ما يزيد عن طاقتك طوال الأيام السابقة…وأنا سأتدبر أمري هناك.
رفع ذقنها إلىه ليلتقط نظراتها من جديد قائلاً بلهجة آمرة:
_وستخبرينني بكل شئ يحدث في غيابي!
أومأت برأسها وهي تبتسم بارتياح ظهر على ملامحها التي تلونت بسكينتها الآن…
فابتسم بدوره وهو يسألها باهتمام:
_ألم تسأمي من الجلوس هكذا حبيسة المنزل؟! ما رأيك لو نخرج للتنزه اليوم؟!!
التمعت عيناها بفرحة طفولية وهي تهتف بلهفة:
_حقاً؟!
انفرجت ابتسامته عن ضحكة خشنة قصيرة وهو يري سعادتها ليرد بعدها بحنانه المشبع بعاطفته:
_نعم…بعد العصر نخرج لتناول غدائنا بالخارج .
وبعدها بساعات كانا يتجولان معاً في أحد “المولات” الكبيرة حيث شاهدا أحد أفلام السينما بعد تناول الغداء ثم انشغلا بالتسوق في المحلات…
كان هو يشعر بالسعادة وهو يري ملامحها التي عادت إليها ترانيمها الملائكية بتلك الابتسامة التي لا يدري من أين سرقت سحرها هذا…!!!
كان يسير جوارها مغيباً عن الواقع وهو يراها كما تمناها دوماً في أحلامه…
كفها يغفو كرضيعٍ هانئٍ في راحته وعيناها تلتمعان بتلك اللمعة الآسرة…
وكلماتها البريئة العفوية تكاد ترفعها لمصافّ الملائكة…
وبعيداً عن تحذيرات عقله من تماديه -القسري-في شعوره الجارف بها كان قلبه يجري كفرس جموح في ربوع عشقها الواسعة…
حتى التفتت نحوه لتسأله بعفوية:
_هل تعبتَ من المشي؟!
ابتسم وهو يثني لها ذراعه لتتأبطه قبل أن يميل على أذنها هامساً ببعض المرح:
_من بنا المريض؟! أنا أم أنتِ؟!
ضحكت ببساطة -مهلكة-وهي ترد عليه ببراءتها :
_أنا لا يمكن أن أتعب من التسوق أبداً…أنا أعشق مراقبة الواجهات الزجاجية للمحلات حتى لو لم أكن أنتوي الشراء.
ربت على كفها برفق ثم قال وعيناه تحتضنان ملامحها بحنان:
_يمكنكِ شراء ما ترغبين .
توردت وجنتاها بخجل وهي تهمس باعتراض :
_لا شكراً…أنا لا أريد شيئاً!
تنهد بحرارة مكتفياً بابتسامته التي عكست شعور قلبه في هذه اللحظة …
عندما توقف بها أمام أحد المحلات التي كانت تعرض ثياباً للسهرات حيث لاحظ تعلق بصرها بأحد الأثواب الذي كان معروضاً هناك…
ابتسم -للمفارقة-وهو يري الثوب بلون الليمون بتلك الدرجة المميزة بين الأصفر والأخضر…
تماماً كما يراها هي بعين خياله…
امرأة بنكهة الليمون!!
لاذعةٌ لكنها منعشة!!
لينتبه وقتها فقط أنها تنتقي أغلب ملابسها بهذا اللون…
بل إن عطرها المميز كذلك يحمل رائحةً ليمونية واضحة!!
قطعت أفكاره عندما انتبه لذاك الشاب الذي وقف على بعد خطواتٍ بعيدة منهما ….
والذي كان مثبتاً بصره عليها هي باهتمام ممتزجٍ بإعجاب ذكوريٍ لم تخطئه عيناه!!!
انعقد حاجباه بغضب هادر وهو يرمق الشاب بنظرة زاجرة فأشاح الشاب بوجهه…
ليلتفت هو نحو جانب وجهها حيث كان بصرها لا يزال متعلقاً بالثوب غافلةً عن كل هذا….
لكنه ضغط على كفها بقوة آلمتها وهو يسألها بهمس غاضب:
_هل تعرفين ذاك الشاب هناك الذي يرتدي الأبيض؟!
اختلست نظرة جانبية حيث أشار لتجيب بارتباك عاد إليه خوفها:
_لا…أبداً!!
ازداد ضغطه المؤلم على كفها دون وعي حتى دمعت عيناها وهو يهمس بحنق:
_إنه لم يرفع عينيه من عليكِ…وهو لن يجرؤ على هذا ما لم يكن يعرفك حقاً!!
لكنها أغمضت عينيها بألم واضح وهي تهمس مدافعة:
_أقسم لك أنني لا أعرفه.
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يشعر بمخالب الغيرة تمزق صدره…
عندما فوجئ بالشاب نفسه يتقدم نحوهما مبتسماً بلزوجة…
فتحفزت عضلاته وهو يهيئ نفسه للشجار…
لكنه فوجئ به يتجاوزهما نحو فتاة أخري كانت خلفهما تماماً ليلتقط كفها ويغادر معها…!!!
بينما لم ترَ هي كل هذا فقد أطرقت برأسها بخزي بعد سؤاله وهي تشعر بالدونية والانتقاص…
هو أبداً لن يثق فيها…
ستبقي في نظره دوماً مثار شكٍ واتهام…!!!
لكن لماذا تلومه وهي التي فرطت أولاً في حق نفسها قبل أي أحد!!!
بينما رمقها هو بعدها بنظرة طويلة مطعمةٍ بأسفه ولوعته…
قبل أن يسحبها من كفها دون اعتراض منها ليغادرا المكان نحو سيارته…
ظلا على صمتهما طوال الطريق حتى وصلا إلى البيت…
وهي غارقةٌ في شعورها بالذنب…
ولأول مرة لا تخشى ردة فعله بقدر ما تخشي أن تسيئ إلىه…!!
هو لا يستحق أن يصيبه مثقال ذرة من أي أذى بسببها بعد كل ما فعله لأجلها…
لهذا لم يكد يدخل ويغلق الباب خلفه حتى تقدمت نحوه منكسة الرأس لتهمس باستسلام خانع:
_أنا أعرف أنك لا تثق بي…ويحق لك ذلك…وأنا للأسف لا يمكنني أن أثبت لك العكس..لهذا أرجوك ألا نخرج ثانيةً…لا أريد أن أرى أحداً ولا أن يراني أحد…حتى موضوع الجامعة …أنا صرفت النظر عنه.
ازدرد ريقه الجاف بصعوبة وهو لا يدري ماذا يقول ولا ماذا يفعل…!!!!
في حالتها هذه… الحضن والاعتذار فريضة !!!
لكنه للأسف لا يستطيع…
في هذه النقطة بالذات سيبقي كبرياؤه حاجزاً بينهما…
رأسه الصلب المنغلق على أفكاره الثابتة لن يطاوع قلبه وضميره مهما حاول…
لهذا بذل مجهوداً خرافياً ليتجاوزها متجاهلاً الرد على عبارتها قبل أن يدخل غرفته ويغلق بابها خلفه بسرعة وكأنه يخشي أن تراوده نفسه بما لا يطيق!!
بينما نظرت هي للباب المغلق بحسرة ممتزجة بخزيها للحظات…
قبل أن تذهب لغرفتها هي الأخري فتبدل ملابسها وتستلقي على فراشها تطالع السقف بشرود…
ما أقسى أن يكون المرء دوماً في موضع اتهام…!!!
أن يقضي غالب وقته غارقاً في تفسير حسن نيته وخلقه…
والبعض الآخر مختنقاً بخزيه وخذلانه!!
ما أقسى أن تكون المجرم والضحية فلا تدري هل تحتقر نفسك أم تشفق عليها؟!
ورغما عنها انصرفت أفكارها لذاك الرجل الغريب…
الذي عاملها بأشد ما تكون القسوة…وبأرق ما يكون الحنان!!!
الذي أعاد إليها بعضاً من روحها لكنه لازال يعتقل بقيتها بسجونه- الفارهة-!!!
نعم…غموضه سجن…
وشكوكه سجن…
وقسوته سجن…
وحتى حنانه الذي تخشى إدمانه…سجن!!!!
وليتها تستطيع مع كل هذا أن تكرهه أو تلومه…بل على العكس!!!
إنها -وبكل أمانة-تعذره!!!
انقطعت أفكارها مع شهقتها العنيفة عندما انقطع التيار الكهربائي فجأة لتتسارع نبضات قلبها بجنون وخوفها -المَرضي-يعاودها …
دمعت عيناها بعجز وهي تهمّ بالنداء عليه لكنها تذكرت أنه غاضبٌ منها الآن وقد يقسو عليها أكثر…
فقامت من فراشها ببطء وهي تحاول تحسس طريقها نحو حقيبتها لتحضر هاتفها لعلها تستمد منه بعض الضوء فهي لا تدري إن كانت هذه الشقة تحتوي على كشاف للضوء أو حتى بعض الشموع!!!
كانت خطواتها بطيئة متمهلة وهي تكاد تسمع صوت دقات قلبها اللاهثة بجنون فزِع…
عندما سمعت صوته يهتف قريباً منها مع ضوء كشاف هاتفه الصغير :
_رؤى…أين أنتِ؟!
تنحنحت بارتباك وقد بدا وكأنها فقدت القدرة على النطق …
لكنه وصل إليها ليضمها إليه برفق قائلاً باعتذار لا يخلو من خشونة:
_لا بأس…لقد انتقلنا حديثاً هنا لهذه الشقة ولا يوجد ما أضئ به سوى هاتفي.
كان جسدها يرتجف بقوة خوفها -المرضي- فضمها إليه أكثر وهو يهمس بحنانٍ فجرته عاطفته نحوها:
_اهدئي…لا تخافي!
ظل يربت على ظهرها للحظات بعدها حتى هدأت ارتجافتها فجذبها برفق حتى فراشها ليغمغم بعدها بحنان مشوب بحزمه:
_عودي لنومك…أنا سأبقى معك حتى يعود التيار الكهربائي.
تمددت على الفراش وهي تتشبث بكفه بينما جلس هو على طرفه ليربت بكفه الآخر على جبينها الذي كان بارداً كالثلج مندياً بعرق خفيف …
فازداد انعقاد حاجبيه وهو يشعر أن انفعالها هذا زائد عن الطبيعي…
لكنها همست مفسرةً ببعض الارتباك:
_أنا فقط…جبانة جداً!!
عاد يربت على جبينها برفق وهو يتذكر ما أخبرته به عن رُهابها المَرضي…
يبدو أنها لا تخاف الوحدة فحسب…بل والظلام أيضاً!!
بعض الرجال يتذمر من المرأة الضعيفة ويراها عبئاً على كاهله…
لكنه -لحسن حظها-لم يكن كذلك بل على العكس…
طبيعته الخشنة وشخصيته القوية المسئولة كانت تميل دوماً للمرأة الرقيقة الخانعة المستكينة…
وهو مالم يكن ينقصها على أي حال!!!
لهذا تنهد بحرارة وهو يحس أن احتياجها إلىه يزيد من عمق عاطفته نحوها….
فاحتضن كفها بين راحتيه برفق ليغمغم بخفوت:
_لا تؤاخذيني على انفعالي منذ قليل….هذا طبعي للأسف…شديد العصبية وأفقد سيطرتي عند الغضب.
انكمشت على نفسها أكثر وشعور الذنب يعاودها لتعيد له ما قالته من قبل:
_أنا آسفة…لا أستطيع أن أطلب منك أن تثق بي…لهذا أرى من الأفضل أن أبقى في المنزل حتى لا يتكرر موقف كهذا.
عادت تنهيدته الحارة تلهب صدره وهو يرد عليها بحزم بعد دقائق صمت طالت:
_لا يا رؤى…سأنفذ وعدي لكِ …ستعودين للجامعة مع بدء الدراسة كما ترغبين.
أغمضت عينيها بعدها بقوة وهي لا تدري ماذا تقول…
هل تشكره على كل ما فعله ولا زال يفعله من أجلها…؟!!!
أم ترفض عرضه هذا حتى لا تثير المزيد من الشك والمشاكل؟!!!
هل تقبل عرضه السخي بالحرية والانطلاق..؟!!
أم تبقى في سجنها حتى لا تثير حفيظته بأي صورة؟!!
عاد التيار الكهربائي في هذه اللحظة فأغشي النور المفاجئ عينيهما للحظات…
قبل أن يقوم هو من جوارها ليقول برفق حنون:
_تصبحين على خير.
قالها وهو يكاد يترك كفها أخيراً ليهم بمغادرة الغرفة لكنها تشبثت بكفه فعاد يلتفت نحوها لتأسره نظراتها الراجية الطفولية وهي تهمس بوداعتها المعهودة:
_هل يمكن أن يعود التيار الكهربائي للانقطاع ثانية؟!
ظل حبيس حدقتيها المشتعلتين- بفتنة امرأة وبراءة طفلة -للحظات طويلة…
غاب فيها عقله عن الوعي مشدوهاً بترانيم قلبه المغرمة الآن…
حتى انفك السحر رويداً رويداً ليعود له إدراكه …
فابتسم ابتسامةً حملت كل حنان الدنيا وهو يجلس من جديد على طرف الفراش لتعاود أنامله العزف على جبينها الوضاء قبل أن يهمس بصوت متهدج:
_نامي ولا تخافي…أنا سأبقى معك!
==============================
_ما حكاية هذه المحامية ؟!!!
قالها جاسم الصاوي ببرود دون أن يرفع بصره نحو فهد الذي كان يجلس أمامه على مكتبه في شركته…
لكن فهد تمالك انفعاله ببراعة وهو يسأله ببرود مشابه:
_أية محامية؟!!!
قالها وهو يعد نفسه لكل الاحتمالات التي يفرضها سؤال مثل هذا…
خاصةً بعدما تناولت الأمر بعض مواقع التواصل الاجتماعي تزامناً مع طلبه المفاجئ للانفصال عن أبيه في عمله…
لكن جاسم الصاوي منذ تلك الساعة التي تواجها فيها لا يكاد يمرر يوماً دون أن يكلفه بعملٍ ما وكأنه يتحداه…!!!!
ورغم أن فهد كان يدرك هذا تماماً لكنه رضخ برغبته كي لا يثير شكوكه أو غضبه…
وهو أغنى ما يكون عن كليهما!!!
لهذا سقط قلبه بين قدميه وجاسم يجيبه بنفس النبرة الثلجية:
_اسمها جنة الرشيدي…أحد رجالي يقول أنه ساعدك في اختطافها يوماً!!
حافظ فهد على جمود ملامحه بشق الأنفس رغم إعصار الخوف الذي كان يجتاحه الآن بلا رحمة…
ثم لوح بكفه متظاهراً باللامبالاة :
_مجرد امرأة!!
زفر جاسم بضيق وهو ينظر إليه من تحت نظارته الطبية ليقول بغضب مكتوم:
_لا شأن لي بعلاقاتك العابثة…أنا فقدتُ رجائي فيك منذ زمن…لكن عندما يصل الأمر إلىّ أنا فلن أسكت!!
ابتلع فهد إهانته كالعادة وهو يزدرد ريقه بصعوبة متسائلاً بترقب وجِل:
_ماذا فعلَت هي؟!
ابتسم جاسم بسخرية وهو يرد علىه باحتقار :
_يبدو أن “حبيب القلب” غدر بها فتريد أن تنتقم منه في شخص أبيه!!
تشبث فهد بمقبض كرسيه محاولاً كظم غيظه وانفعاله …
بينما أردف جاسم بنفس النبرة المستهجنة :
_أرض المشروع الجديد التي حصلنا علىها منذ فترة…كانت تشتمل على قطعة كبيرة لرجلٍ أحمق فانتزعتها منه بحركة ماهرة من أحد المحامين التابعين لي دون أن أدفع قرشاً واحداً….لكن يبدو أن هذا الأحمق ذهب لتلك المرأة لترفع قضيةً علىّ أنا شخصياً!!!
اتسعت عينا فهد بارتياع وهو لا يصدق أن تصل جرأتها لهذا الحد!!!!
هو الذي يحاول قدر استطاعته إخفاءها عن عيون أبيه…
لتذهب هي بقدميها إليه !!!!
اشتعلت عواصف غضبه وخوفه في هذه اللحظة فما عاد يعرف أيهما يغزوه أكثر….
خاصةً عندما أكمل جاسم بنبرة غارقة بوعيدها:
_لا أريد المزيد من التشويش على سمعتي والانتخابات على الأبواب…لو كنت لا تزال على اتصالٍ بتلك المرأة فأقنعها أن تبتعد عن طريقي وإلا فسأقنعها أنا بطريقتي!!
تجمد فهد مكانه وقد فقد كلماته كلها مع خوفه الرهيب من أن يكتشف جاسم الصاوي طبيعة العلاقة الحقيقية بينه وبين جنة…
الحمقاء جعلته يضعها في رأسه وجاسم لن ينسى اسمها بسهولة بعدها!!!
غادر مكتب أبيه بعدما وعده باقتضاب أن ينهي هو الأمر…
ليتوجه نحو منزلهما بسرعة جنونية وقد بلغ به الغضب مبلغه!!!
وعلى الأريكة كانت هي جالسة في صالة المنزل تقلب في بعض أوراق عملها بتفحص…
كان الوقت لايزال عصراً عندما فوجئت به يدخل المنزل في غير موعده ليصفق الباب خلفه بعنف صارخاً بها:
_هل جُننتِ؟!!! ترفعين قضيةً على أبي؟!!
تشبثت بتماسكها وهي تحاول التشاغل بأوراقها لتقول ببرود:
_أنا لم أرفع قضية على أبيك…أنا رفعتها على جاسم الصاوي المحتال الذي ينهب حق غيره!
اندفع نحوها بخطوات غاضبة ليجذبها من مرفقها نحوه وهو ينتزع منها أوراقها ليرميها أرضاً…
قبل أن يصرخ بحدة :
_أنا لم أصدق عندما أخبرني…أنا أسعى لإخفائك عن عينيه بكل طاقتي وأنتِ تقتحمين عالمه بنفسك؟!!!هل فقدتِ عقلك؟!!
نزعت مرفقها منه بعنف لتهتف بحدة مماثلة:
_أنا لم أفقد عقلي …على العكس…أنا استعدته…لن أخالف ضميري لأجل علاقتنا مهما حدث!!
أمسك كتفيها يهزها بعنف وهو يهتف بسخط:
_لم يطلب منكِ أحدٌ مخالفة ضميرك…لكن أن تسعيْ أنتِ بنفسكِ إليه فهذه حماقة!!
أشاحت بوجهها وهي تقول بمكابرة:
_لم أسعَ إليه كما تظن…موكلي جاءني بالمصادفة ولم أعتد رفض قضية أراها عادلة!!
كانت تعلم أنها كاذبة…
فموكلها لم يقصدها هي شخصياً بل ذهب إلى أحد زملائها الذي رفض القضية خوفاً من نفوذ جاسم الصاوي المعروف…
وعندما علمت هي عن الأمر مصادفةً اتصلت بالرجل بنفسها تعرض عليه تولي القضية التي رفضها الغالبية لنفس السبب!!!
لماذا فعلتها؟!!!
لأنها كانت تريد التمرد!!!
هذا هو كل شئ!!!
كانت تريد استعادة طبيعتها المحاربة القديمة…
كانت تريد كسر دائرة الذنب التي تدور فيها معه ولا تعرف لها نهاية…
كانت تريد أن تثبت لنفسها أن مبادئها ستغلب عاطفتها لو تصارعا يوماً!!!
ربما يراها هو حمقاء…
لكنها حقاً تحاول استعادة هويتها المفقودة…
تحاول التشبث بما بقي من طيف “جنة الرشيدي” التي لن تسكت عن ظلمٍ تراه عيناها…!!!
لهذا تنمرت ملامحها بعصيانٍ متمرد بينما أخذ هو نفساً عميقاً لعله يهدئ به لهيب أعماقه…
قبل أن يلوح بسبابته في وجهها هاتفاً بلهجة مهددة:
_ستعتذرين عن هذه القضية وإلا ….
قطع عبارته عامداً وقد تصدعت ملامحه بقسوتها…
فاشتعل غضبها أكثر وهي تهتف بدورها:
_وإلا ماذا؟!! هل تهددني؟!!
لم تكد تتم عبارتها حتى ارتجف جسدها بصدمته وهو يحيط وجهها بكفيه بقوة آلمتها ليهز رأسها بعدها بعنف هاتفاً بنفاد صبر:
_أخبرتكِ قبلاً أنني لن أخسرك حتى لو حاربتك أنت نفسك!!!
قالها وهو يرمقها بنظراتٍ حارقة للحظات…
قبل أن ينزع كفيه عن وجهها ليتوجه للداخل بخطواتٍ مندفعة وقد لحقت هي به لتجده ينتزع مفاتيح المنزل من حقيبة يدها ويضعها في جيبه…!!!
انعقد حاجباها بغضب مشوب بدهشتها وهي تسأله بحدة:
_ماذا تفعل؟!!
التفت نحوها بعنف هاتفاً بحزم:
_لن تغادري هذا المنزل بعدُ… إلا معي!!!
صرخت ملامحها باستنكار هادر…
لكنه تجاهله وهو يلوح بسبابته في وجهها مردفاً:
_أنا سأغادر الآن لأن لديّ عملاً مع أبي..أتعشم أن تكوني قد عدتِ لصوابكِ عندما أرجع في المساء.
قالها وهو يغادر الغرفة بخطواتٍ سريعة نحو باب الشقة لتهرع هي خلفه وهي تسحب كفه بعنف هاتفةً بانفعال:
_تعال هنا…لا تتركني هكذا كالمساجين…أنا لستُ جاريةً عندك!!!
التفت نحوها بنظرة طويلة صهرت غضبه مع عتابه …
ليتكِ كنتِ جارية يا جنة!!!
مصيبتي معكِ أنك ملكتي الوحيدة…
ملكتي التي أقسمت لنفسي بالولاء لها طوال عمري مهما حدث…
ملكتي التي ذبحتُ على أعتاب قصرها ما مضى من أيامي…وقدمتُ ما بقي قرباناً لرضاها…
ملكتي التي كانت ولا تزال وستبقي …كنز عمري كله!!!
كان هذا أنين قلبه الصامت الذي لم يقوَ على البوح به مكتفياً بنظراته الصارخة…
قبل أن ينزع كفه من يدها بعنف ليخرج ويغلق باب الشقة خلفه من الخارج بالمفتاح!!!!!
بينما ظلت هي واقفةً مكانها للحظات مصدومةً من ردة فعله …
قبل أن تتلفت حولها بعجز وهي لا تدري ماذا تفعل…
لقد حبسها فهد هنا -حرفياً- حتى يعود!!!
زفرت بضيق مصبوغ بحيرتها ثم عادت للجلوس على الأريكة وهي تفكر في وضعهما الغريب…
وقد بدا لها حبهما في هذه اللحظة كمنحنيً تصاعد تدريجياً حتى وصل لذروته ذاك اليوم الذي استرقاه من الزمن في “الشاليه” البعيد…
ليعود بعدها للانحدار من جديد!!!
نعم…منذ ذلك اليوم وعلاقتهما تزداد تباعداً وفتوراً…
وستكون صادقةً مع نفسها لتعترف أنها هي السبب!!!
هي التي تمادت بعدها في تجاهله والإعراض عنه…
وهو كان مستميتاً في البداية لاستعادة صفو علاقتهما حتى دفعه كبرياؤه لتجاهلها كما تتجاهله…
وها هي النتيجة…
لقد عادا غريبين يسكنان في بيتٍ واحد…
لكنّ كلاً منهما يوقن أن قلبه لدى الآخر!!!
ورغم أنه من يومها يحرص على النوم جوارها كل ليلة دون أن يمسها كما وعدها…
لكنها تشعر أن ما بينهما قد تغلف ببرودة ثلجية بعيدةٍ تماماً عن لهيب عشقهما الماضي!!!
مجرد أيام مضت لكنها تشعر بها دهوراً طويلة من عذابٍ وألم…
تنهدت بحرارة وهي تحاول التشاغل عن نحيب قلبها الذي اشتاق لحظاتهما الدافئة…
فتناولت أوراقها من جديد ليلهيها فكرها بعدها لما يقارب الساعتين…
حتى رن هاتفها برقم موكلها الذي لأجله قامت كل هذه المشكلة…
ترددت للحظات ونفسها تراودها ألا ترد عليه حتى يعود فهد فتتناقش معه…
لكنها كانت تعلم أن النقاش معه سيكون عقيماً…هو لن يغير رأيه…وهي كذلك!!!
لهذا حسمت أمرها لترد على الاتصال بتماسك…
لكنها فوجئت بالرجل يخبرها أن ابن جاسم الصاوي التقاه منذ قليل ودفع له ثمن أرضه كاملاً مقابل أن يتنازل عن القضية …
وهو سيفعل!!!
لهذا اتصل يشكرها معتذراً عن القضية واعداً إياها بأتعابها كاملة!!!
اتسعت عيناها بدهشة وهي تغلق الاتصال شاعرةً بمزيج غريب من الخيبة والارتياح…!!!
لقد تدارك فهد الأمر بسرعة ليغلق عليها هذا الباب …
ولا تدري هل من المفترض أن تشعر الآن بالاسترخاء بعدما عاد الحق لصاحبه بسببها…
أم بالهزيمة لأن فهد لم يفعلها سوى لأجل حمايتها هي وليس دفاعاً عن حقٍ هو مقتنعٌ به!!!!!
ألقت الأوراق من يدها بعنف وهي تحاول الاسترخاء على الأريكة دون جدوي…
فقد كان رأسها مشتعلاً بأفكاره …
وقلبها مذبوحاً باشتياقه…
وضميرها مختنقاً بمرارته…
ووسط كل هذا كانت هي تتخبط في متاهات روحها بلا نهاية!!!!
لم تدرِ كم ظلت على هذا الوضع…
لكنها فوجئت بظلام المكان حولها يقطع عليها أفكارها…
فانتبهت لمرور الساعات دون أن تشعر …
مسحت وجهها بكفيها ثم قامت لتفتح أنوار الشقة كلها…
قبل أن تعد لنفسها كوباً من القهوة صار مرتبطاً في ذهنها به هو …
لتعود بعدها لأريكتها فتشغل جهاز التلفاز محاولةً التسرية عن نفسها…
لكنها ما كادت تطالع الشاشة حتى ارتجفت مكانها ليسقط كوب قهوتها منها وهي تقرأ الخبر الذي ظهرعلى الشريط المتحرك أسفل الشاشة بوضوح !!!!!
صرخت صرخة قصيرة وهي تتناول هاتفها لتتصل بفهد لكن هاتفه كان مغلقاً…
فدوت صرختها عاليةً هذه المرة وهي تقلب في القنوات لتجد الخبر يحتلها كلها…
_مجهولون يطلقون النار على سيارة جاسم الصاوي التي كان بداخلها هو وابنه الوحيد!!!!
====================
تهاوت جالسةً على الأرض وقد عجزت قدماها عن حملها وهي تشعر أن الدنيا حولها تدور بها…
تشبثت بهاتفها وهي تحاول من جديد الاتصال به لكنها لم تنل سوى تلك الرسالة اللعينة بأن الهاتف ربما يكون مغلقاً!!!!
ظلت تحاول وهي عاجزة عن منع فيض دموعها المنهمرة والقلق ينهش أعماقها بقسوة …
حتى وجدت بعض قوتها لتقوم وتبدل ملابسها بسرعة حتى تخرج وتتقصى عن الخبر…
لكنها ما كادت تصل لباب الشقة محاولةً فتحه حتى انتبهت أنه قد أغلقه عليها من الخارج قبل مغادرته!!!
عادت تصرخ من جديد بانهيار تام هذه المرة وهي تخبط رأسها في الباب لعدة مرات قبل أن تبتعد عنه وهي تتلفت حولها في عجز…
ما الذي يمكنها فعله الآن؟!!!
وما الذي يمكن أن يكون قد حدث له؟!!!
هل من الممكن أن يكون قد أصيب بأذى…؟!!
أو ربما….؟!!!!
شهقت بعنف وهي تطرد ذاك الخاطر الرهيب…
قبل أن ترفع كفيها للسماء مضمومين وهي تدعو الله بصوت باكٍ وسط دموعها …
حتى وجدت بعض سكينتها فتوجهت نحو التلفاز لتقلب قنواته من جديد لكنها لم تجد ما يطمئنها…
فلازال الخبر يذاع كما هو دون إضافة جديد…
ساعتها فقط انهارت جالسةً على الأرض تبكي بحرقة وهي تستعيد ذكرى فقدها لحسن…
رباه؟!!!
هل يفعلها بها القدر مرتين؟!!
هل تفقد فهد حقاً هذه المرة أيضاً؟!!!
انفطر قلبها حزناً عند فكرتها الأخيرة وهي تشعر بالندم يمزقها على سوء معاملتها له طوال الأيام الماضية…
لتضرب بقبضتها على صدرها عدة مرات وسط صرخاتها الباكية….
وهي تتمنى لو يعود الآن فقط لتسكب غرامها على صدره ضاربةً بكل شئٍ عرض الحائط وليكن بعدها ما يكون!!!
لن تعاند قلبها بعد الآن …
هي تحب فهد الصاوي …بل تعشقه…!!
فلتكن هذه حقيقتها الثابتة قبل أن تتشعب منها أي حقائق أخري …
مركز نواتها الذي تدور حوله كل حياتها ولا شئ سواه!!!
لا…لم تعد نفسها تسول لها بافتراق أو تباعد أو مكابرة أو تجاهل…
فقط …لو يعود!!!!
لم تدرِ كم ظلت بالضبط على انهيارها الصامت هذا…
فقد كان هذا الطنين الغريب بأذنيها مع دموعها المنهمرة يشوش عليها الشعور بكل شيئ…
حتى انتبهت على صوت مفتاحه يدور في الباب …!!!!
خفق قلبها بجنون وهي تراه يدخل من الباب ليتقدم نحوها بملامح متجهمة…
لكنها ظلت تنظر إليه بجمود يناقض بركان انفعالها وسط شهقاتها الباكية دون أن تجد القدرة حتى على الوقوف!!!!
حتى صار قبالتها تماماً فانعقد حاجباه بشدة وهو يري انهيارها الباكي على الأرض ليسألها بخشونة:
_لماذا تبكين هذا؟!ماذا حدث؟!!
ازدادت حدة شهقاتها الباكية وهي عاجزة عن الرد مع ارتجاف جسدها بدموعها …
عندما انتبه هو لشاشة التلفاز أمامها والخبر الذي كان يظهر على الشريط أسفلها فزفر بقوة وهو يستنتج ما حدث….
ثم انحنى ليجذبها من مرفقيها فرفعها نحوه وهو يدرك أنها ستسقط في أي لحظة من فرط انفعالها لو تركها الآن…
ضمها لصدره بقوة وهو يربت على ظهرها محتوياً ارتجافة جسدها للحظات قبل أن يهمس بصوت مختنق:
_اهدئي…لم يحدث شئ…أنا بخير!!
مدت ذراعيها تتشبث بعنقه أكثر وهي تهتف بصعوبة وسط شهقاتها الباكية:
_كنت ….سأموت يا فهد… لو أصابك… مكروه!!!
دق قلبه تأثراً بمشاعرها الصارخة فضمها إليه أكثر وهو يشعر أن هذا أصدق اعتراف بالحب يمكن أن يسمعه منها….
لكنه مع هذا همس بلهجة جافة مشبعة بعتابها:
_لماذا؟!!ربما كان من الأفضل لكِ أن تتخلصي من ذنبك الأسود لتعود الأستاذة لعالمها النظيف!!!
شددت ضغط ذراعيها على عنقه بكل قوتها للحظات…
قبل أن تضربه بقبضتيها على ظهره برفق هامسة بألم:
_اسكت يا فهد ولا تزدْ عذابي…حرامٌ عليك!!
عاد يزفر من جديد وهو يربت على ظهرها برفق للحظات أخرى حتى هدأت انتفاضة جسدها وسكنت أنفاسها اللاهثة…
فرفعت عينيها إليه لتسأله بلهفة:
_ماذا حدث؟!!
هرب بعينيه من عينيها وهو يشعر بالاختناق…
هو يشعر أنه يحارب في كل الجبهات وحده وجنة لا تساعده…
بل تزيد من ثقل الوزر على عاتقه…!
هو يحتاجها الآن أكثر من أي وقتٍ مضى وهي تحرمه حتى مجرد الإحساس بدفء مشاعرها…
بل إنها تجعله دوماً يشعر أن حبها له مجرد خطيئة تندم عليها!!
لهذا قست ملامحه وهو يقول بجفاء:
_لا تهتمي…ما حدث لا يخصك!!
ربتت على وجنته برفق وهي تهمس بعتاب ممتزج برجائها:
_كل ما يخصك يخصني.
ابتسم بسخرية قاسية وهو يحررها من ذراعيه ليعطيها ظهره متوجهاً نحو غرفته دون رد…
فلحقت به لتقف أمامه هاتفةً برجاء خالص هذه المرة:
_ليس الآن يا فهد…عاقبني بجفائك هذا كما تشاء لكن ليس الآن…أرجوك!!
اشتعلت عيناه بمشاعره الساخطة وهو يواجهها بنظرات عتابه للحظات…
قبل أن يستلقي على الفراش بعنف جاذباً غطاءه عليه ليقول لها باقتضاب خشن:
_أيقظيني بعد ساعة لأعود لوالدي…لا أريد تركه هذه الليلة…أنا جئت فقط لأفتح لكِ باب الشقة لكنني أكاد أسقط تعباً.
قالها ثم أعطاها ظهره دون انتظار ردها ..
فاقتربت منه حتى جلست جواره على طرف الفراش لتربت على ظهره برفق دون أن تجد ما تقوله…
حتى انتظمت أنفاسه بعد دقائق طويلة فانطلقت منها تنهيدة حارة وهي تسند رأسها على ظهرالفراش جواره وأناملها تتشبث برقة بكتفه وكأنها تخشي أن تفقد دفء شعورها به بعد رعب الساعات السابقة…
وجوارها لم يكن هو يشعر بشئ وقد أسلمه توتر وإنهاك اليوم كله لغيبوبة نوم طويلة سحبته لكابوسه القديم…
ذاك الكابوس الذي كان يراه كل يوم لشهور طويلة بعدما قتلها…
حتى تباعد تدريجياً ليختفي تماماً بعدها…
ولو أن الذكرى لم تختفِ مثله…!!!
بل بقيت متوهجة بنيران ظلت تحرقه طوال هذه السنوات بصمتٍ صارخٍ وبأصداء لا يسمعها سواه…
نفس المشهد الذي رآها عليه آخر مرة…
بدمائها التي أغرقت ظهرها العاري على فراش والده…
ونظرتها الأخيرة التي رمقته بها والتي امتزج فيها الرعب بالخزي والندم…
تلك النظرة التي لم ينسها يوماً ولا يظنه سيفعل!!!
لكنها في هذا الكابوس الآن تحولت لنظرة أكثر اتهاماً وقسوة…
قبل أن يتحول وجه والدته الذي يعرفه إلى وجوه كثيرة تتبدل كل ثانية…
وجوه لم يتذكرها في البداية حتى تبينها…
إنها وجوه كل الفتيات اللائي غدر بهنّ…!!!
لتنتهي الصورة بوجه رؤى البرئ الذي كان يرمقه بقسوة عاتبة!!!
قبل أن تتداخل صورة والده في كابوسه بنظراته المحتقرة وهو يصرخ فيه بحدة:
_أنتَ قتلتها!!
فيعود بظهره للوراء هارباً من كل تلك الوجوه التي كانت تشتعل عيونها بنيرانٍ ألهبته حرارتها فيصرخ بألم …
قبل أن يسقط على ظهره ليرفع كفيه أمام وجهه بخوف كان يزلزل قلبه…
فيروعه منظر الدم العالق بهما ليجد نفسه يصرخ بجنون وكأن اعترافه سينجيه مما فيه:
_نعم…قتلتها…قتلتها!!!
انتفضت جنة جواره وهي تلاحظ تململ جسده النائم جوارها مع تصبب العرق الغزير على وجهه وسط أنفاسه اللاهثة وتمتماته الهاذية التي تحولت لصرخاتٍ مكتومة قبل أن تميز كلماته:
_قتلتها!
فاتسعت عيناها بارتياع وهي تتبين أنها ليست المرة الأولي التي تسمع منه هذا الاعتراف في نومه…
قبل أن يغلبها خوفها عليه فهزت كتفه برفق هاتفة:
_قم يا فهد…قم!!
ظلت ترددها عدة مرات حتى انتفض من نومه صارخاً بحدة:
_قتلتها!!
شهقت بانفعال وهي تربت على كتفه للحظات قبل أن تقول بجزع:
_اهدأ يا فهد…إنه مجرد كابوس!!
التفت إليها بحدة قبل أن تدور عيناه في الغرفة في دهشة …
ثم ارتخت ملامحه ببطء وهو ينفض عنه غطاءه ليعطيها ظهره ويجلس مبتعداً عنها على طرف الفراش الآخر مخفياً وجهه بين كفيه…
فانتقلت جواره لتحيط كتفيه بذراعها هامسةً بحنان قلِق:
_لا بأس…لاريب أنه كان يوماً عصيباً!
لم يرد عليها وهو لايزال غارقاً في أحداث كابوسه المريعة…
والذي لايعرف لماذا عاد إليه الآن بعد كل هذه السنوات؟!!!
هل هي صحوة ضميره بعدما دخلت جنة الرشيدي إلى عالمه…؟!!!
أم هو خوفه الحقيقي اليوم على والده بعدما تعرضا لإطلاق النار منذ ساعات…؟!!!
نعم…لقد شعر وقتها بخوف حقيقي على جاسم الصاوي…
فهو -وبرغم كل ما بينهما- يشعر ببعض الذنب نحوه…!
ربما لأنه خاف أن يرحل ساخطاً عليه دون أن يدرك الحقيقة كلها…
الحقيقة التي يريده أن يعرفها حتى يعذره…
وفي نفس الوقت كتمها طوال هذه السنوات خوفاً !!!
أجل…خوفاً من ألا يصدقه…
وخوفاً أكبر من أن يصدقه فتفتضح حقيقة تلك المرأة سليلة أرقى العائلات والتي كانت مضرب الأمثال في الأخلاق وطيب الأصل!!!
قاطعت جنة أفكاره الصاخبة وهي تضمه إليها أكثر قبل أن تميل على رأسه تقبله بحنان لتهمس بعاطفتها السخية:
_قم اغسل وجهك…وستكون بخير.
سيكون بخير؟!!!
لا..هو لن يكون أبداً بخير…
سيعيش عمره محملاً بخطايا ماضيه التي لن يطهرها منه شئ…
سيبقى يدور في هذه الحلقة المفرغة من العذاب حتى يلفظ آخر أنفاسه…!!
هذا هو قدره الذي لن يفر منه مهما حاول كما يبدو!!!
وبهذه الفكرة الأخيرة قام من جوارها بجمود فقامت بدورها لتتمسك بذراعه هاتفةً بقلق:
_ما الأمر يا فهد؟!!لماذا…
قطع عبارتها وهو ينفض ذراعه عنها بعنف هاتفاً بحدة مفاجئة:
_لا شأن لكِ بي…هل تهتمين الآن بحالي؟!! عودي لصومعتكِ النقية واتركي شيطاناً مثلي لجحيمه!!
دمعت عيناها بعجز وهي تدرك أنها قست عليه حقاً طوال الأيام الماضية …
لكنها لم تقسُ عليه هو فقط…
بل على نفسها أيضاً…
وليتها ما فعلت!!!
انفرجت شفتاها وهي تهمّ بالاعتذار له…
لكنه لم يمنحها الفرصة وهو يدفعها جانباً من طريقه ليخرج بخطواتٍ ثائرة من الغرفة متوجهاً نحو باب الشقة…
لكنها لحقته بسرعة وهي تدرك نيته عندما رأته يرتدي حذاءه فسبقته لتستند بظهرها على باب الشقة مانعةً إياه من الخروج وهي تهتف بحزم مصبوغ برجائها:
_لن أدعكَ تخرج وأنت في هذه الحالة!!
زفر زفرة مشتعلة قبل أن يصرخ بها في انفعال:
_ابتعدي الآن يا جنة قبل أن أفقد صوابي!!
هزت رأسها نفياً وهي تهتف بقوة تناقض دموعها المنهمرة الآن رغماً عنها:
_لا…لن أتركك حتى تهدأ !!!
كان الغضب المشوب بإرهاقه قد بلغ منه الآن مبلغه فلم يشعر بنفسه وهو يمسكها من ذراعيها بعنف ليبعدها عن الباب..
لكنها تشبثت بمكانها بقوة فهز جسدها دون وعي بشدة ليخبط ظهرها بالباب صارخاً بجنون:
_ابتعدي!!
صرخت صرخة عالية ومقبض الباب ينغرس في ظهرها بقوة …
ثم تحسست ظهرها بيدها وهي تتأوه بألم جعله يفيق من فورة غضبه ليعاوده خوفه -المَرضي-عليها!!
فرمقها بنظرات مصدومة للحظات ثم أدار ظهرها نحوه ليرفع قميصها ويتفحصه بذعر …
قبل أن يديرها نحوه من جديد وهو يضمها إليه بقوة وأنامله تمسد كدمة ظهرها برفق هامساً بصوت يقطر ألماً:
_أنا آسف يا جنة….آسف على كل شئ!!
اختنق صوته أكثر في عبارته الأخيرة فكتمت تأوهات ألمها قسراً حتى لا تؤذيه أكثر…
لتكتفي بدفء إحساسها لدقائق بين ذراعيه والصمت يظللهما برداء ثقيل قاس …وموحش….
حتى تمالكت نفسها لترفع عينيها إليه هامسةً فجأة:
_أنا أحبك يا فهد!!
تجمدت أنامله التي تمسد ظهرها للحظات وعيناه تدوران على ملامحها بعدم تصديق…
ليعاودهما صمتٌ قصير هذه المرة…
حتى أردفت هي بنبرة حارة:
_أحبك وأحب قدري معك…وسأدافع عن حقي فيك بكل ذرة في كياني!!
أغمض عينيه ساعتها بانفعال وأنامله تعاود تدليك ظهرها برفق …
لتكمل هي حديثها الذي كان هو أحوج ما يكون إليه الآن:
_نعم…أحبك…أحب فهد الصاوي الذي تمرد على شيطان نفسه لأجلي…أحب روحك التي طهرها عشقي …وأحب قلبك الذي أوقن أنه لم يخفق إلا لي…أحب الأمس الذي جمعني بك…وأعشق الحاضر الذي جعلني لك…ولا أخاف الغد ما دام معك!!
تأوه بقوة وهو يزرعها الآن بين ضلوعه ليدفن وجهه في شعرها وهو يشعر بالاستنزاف…!!!
نعم…كل ما فيه الآن يئنّ بمشاعر متضاربة لا يجوز أبداً أن تجتمع معاً..
ألمٌ وراحة…!
غربةٌ وسكن…!
مرارة جرحٍ ولذة شفاء…!
دموع انكسارٍ وفرحة جَبرْ…!
وميضٌ يبدد ظلمات روحه بنورٍ ونارْ!!!!
ولما طال صمته المحير أمامها رفعت وجهها إليه لتهمس باسمه في تساؤل قلق…
ففتح عينيه ببطء لتسحرها نجوم ليله الأسود التي عادت لبريقها وهو يهمس بنبرة ذائبة:
_هل تدركين معنى اعترافك هذا؟!!
تزينت شفتاها ب-شبه -ابتسامة وقد فاضت عيناها بعشق بلا حدود…
عندما طافت شفتاه على بشرتها بقوة متملكة لترفعها لأعالي قمم إحساسها به…
قبل أن يميل على شفتيها ليهمس بصوت مختنق بعاطفته التي أدركت الآن أنها لن يوقفها شئ:
_الآن…ما عاد بيننا سدود …الآن أنتِ لي…كاملة!!!
================
كانت تجلس على الأريكة ورأسه مستقرٌ على ساقيها لتداعب شعره بأناملها هامسةً بترقب:
_ما الذي تخفيه عني يا فهد؟!
أغمض عينيه باستسلام لدفئه الذي لا يجده إلا بين ذراعيها للحظات طويلة…قبل أن يهمس باقتضاب:
_الكثير!
ابتسمت رغماً عنها وهي تشعر بأنه مجرد طفلٍ كبير في نومته هذه فانسابت أناملها بنعومة على وجهه وهي تهمس بدلال آسر:
_ألن تخبرني؟!
تنهد بحرارة دون رد…
وحيرته تتملك زمام عقله بقوة متملكة…
فبقدر ما يشعر الآن بالذات برغبة عارمة في البوح بكل شئ…
لها هي فقط!!!
بقدر ما كان يخاف منها هي بالذات..!!!!
كان يخاف احتقارها واستهزاءها أو ربما…شفقتها…!!!
لهذا أطبق شفتيه قانعاً بصمته طويلاً…
لكنها ازدردت ريقها ببطء لتحسم أمرها وتسأله مباشرةً السؤال الذي تخشى إجابته:
_من هي المرأة التي قتلتها؟!!
فتح عينيه فجأة ليرفع رأسه إليها بحدة …
قبل أن ينتفض ليعتدل في جلسته هاتفاً بانفعال:
_من أخبركِ بهذا؟!
أغمضت عينيها بألم وقد تأكدت مخاوفها لكنها عادت تفتحهما لتمسك كفه هامسةً برجاء:
_فهد…أنا أحبك حباً لن يتأثر بأي شئ..لكنني أريد أن أعرف عنك كل شئ…لو كنتَ تحبني حقاً كما تقول فلا تُخفِ عني الحقيقة…أيّاً كان ماضيك صدقني لن يؤثر على مستقبلنا.
احتقن وجهه بانفعاله الصارخ قبل أن يشيح به في رفضٍ واضح…
فرفعت كفه الذي تمسكه لشفتيها في قبلاتٍ ناعمة…
قبل أن تهمس بحنان أدركت بحدسها الأنثويّ أنه طريقها الوحيد إليه رغم خوفها -اللا محدود- من حقيقة ما يخفيه:
_هل تظنني أتركك تحمل هذا الوزر الثقيل وحدك؟!! دعني أشاركك همك كما تشاركنا كل شئ!!
مست عبارتها قلبه بحنانها الذي هو ترياق سموم روحه كلها….
فسحب كفه من يدها برفق ليقوم متوجهاً نحو تلك النافذة هناك فيفتحها …
ثم تطلع للسماء بشرود وهو يشعر أنه حقاً يشاركها هذه الرغبة…
هو أيضاً يريد أن يشاركها حِمله فهو ما عاد قادراً على الصمود وحده…
ألا يكفيه خوفه من غده كي يجمع عليه خوفه من ماضيه كذلك؟!!!
بينما لحقت هي به لتحتضن ظهره بذراعيها هامسةً بحنان:
_هل عدتَ للخوف من الليل بسمائه ونجومه؟!!
ابتسم بشحوب دون رد…
فأراحت رأسها على ظهره لتضمه أكثر وهي تهمس بدفءٍ يجيد احتواءه حقاً كما ينبغي:
_لو أردتَ المزيد من الكتمان فلن ألومك ..لكن لو صارحتَني الآن فسأدرك بحق مكانتي عندك.
تنهد بحرارة وهو يتطلع لنجمة بعيدة هناك كانت تلتمع أكثر من رفيقاتها…
خطفت عينيه ببريقها الفريد وكأنها تومض الآن له وحده…
فظل أسير سحرها لدقائق تَسيّدها الصمت الذي احترمته جنة بعمق إحساسها به…
قبل أن يحتضن هو كفيها المستندين على صدره بكفيه بتملك وكأنه يتشبث بها أكثر…ثم همس بألمٍ كسير:
_هل يسعدكِ أن تعلمي أنكِ تحبين رجلاً …قتل….أمه؟!!
اتسعت عيناها بصدمة وهي تضغط شفتيها كاتمةً شهقة ارتياعها…!!!!
قبل أن تتحكم في نفسها بصعوبة وهي تحمد الله أنه يعطيها الآن ظهره حتى لا يري ردة فعلها التي تمالكتها بكثير من العسر …لتهمس بعد لحظات صمتٍ ثقيلة:
_أكمل يا فهد…لن أقاطعك حتى تنتهي!!
أغمض عينيه بانكسارٍ للحظات قبل أن يفتحهما ليعاود التطلع لتلك النجمة البعيدة هناك هامساً بشرود وقد حسم تردده:
_كنت لا أزال في الخامسة عشر من عمري…ذهبت مع أصدقائي في رحلة كان من المفترض أن تستغرق ثلاثة أيام لكنني عدت بعد يومٍ واحد لظروف لا أذكرها دون أن أبلغ أحداً فقد كنت أعلم أن والديّ مسافران لبعض أقاربنا ذاك اليوم…دخلت البيت فلم أجد الحارس على البوابة على غير عادته…فشعرت ببعض التوجس وأنا أتقدم نحو الداخل بحذر عندما سمعتُ صوت رجلٍ غريبٍ بالطابق العلوي…وبفكري المراهق وقتها لم يدُر بذهني سوى أنه لصٌ …أخذتني حمية الشجاعة وقتها لأتناول مسدس أبي من مكتبه وأتوجه للأعلى بحماسة وكأنني مقبلٌ على “فيلم مغامرات”…لم أكن أعلم أنه حقاً “فيلم” لكن من نوعٍ أرخص!!
اشتعلت أعماقها بالألم المصبوغ بغضبها وهي تتنبأ بحدسها بما صار حتى قبل أن يردف هو بمرارة أقوي:
_لا تحتاجين كثير ذكاءٍ لتدركي ماذا رأيتُ وقتها على فراش أبي الذي كان يحتله الآن رجلٌ لا أعرفه ولم أستطع تبين ملامحه فقد كانت الغرفة شبه مظلمة ك-رأسي- وقتها…لم أشعر بنفسي ويدي على الزناد تفرغ مشاعر غضبي كاملة …لكن الوغد هرب بسرعة لتأخذ هي وحدها نصيبها الكامل من رصاصاتي!!
سالت دموعها على وجنتيها غزيرة وهي تتصور شعوره الرهيب وقتها…
عندما يرى أمه التي هي هالة الطهر المقدسة في حياته بهذا الوضع المشين…!!!!
لاعجبَ أنه فقد سيطرته على انفعاله وقتها مع سنّه الصغير والسلاح الذي لم يحسب حسابه في يده…
لكن…
هل يعرف جاسم الصاوي عن هذه الفضيحة؟!!
وكيف أفلت فهد من هذه الجريمة؟!!
أم أن جاسم الصاوي قد تستر عليهما معاً؟!!
لكن فهد بدا وكأنه قرأ أفكارها فقد عاد يكمل اعترافه -الكارثي-:
_لم أكد أفيق من صدمتي وقتها حتى توجهتُ نحو جسدها الغارق بدمائه لأهزها بعنف عندما أدركت حقيقة أنها ماتت…ظللتُ عاجزاً عن التفكير بعدها لوقت طويل…وكل ما يشغلني هو الفضيحة…ماذا سيقول الناس عن أمي عندما يعلمون …الفضيحة لم تكن لتنالها هي وحدها …بل ستنالني أنا وأبي والعائلة كلها…لهذا هداني تفكيري لفكرةٍ نفذتها ببراعة وخدعت الجميع.
انتبهت حواسها وهي تسمعه يردف بأسى:
_اتصلت بأبي وطلبتُ منه الحضور بسرعة للمنزل ثم وضعت عليها ملابسها الكاملة بنفسي لأستر جسدها العاري قبل أن أتناول زجاجة خمرٍ كان أبي يقدمه أحياناً لضيوفه…لأشرب منها لأول وآخر مرة في حياتي …ورغم أن الخمر أدار رأسي وقتها لكنني كنت واعياً عندما عاد أبي للمنزل ليفاجأ بتلك الكارثة أمامه…وسط هذياني المشتت وقتها عن ظني في وجود لص قد هرب…والنتيجة كانت كما أردتُ أنا تماماً…فجاسم الصاوي إلى الآن يظنني قتلتها بلا وعيٍ تحت تأثير تهيؤاتي الكاذبة بفعل الخمر.
هزت رأسها بألم وهي لا تكاد تصدق ما تسمعه…
لا تستوعب كيف تحمل هذا الوزر وحده في ذاك السن الصغير!!!
كيف كان شعوره وهو يضع عليها ثيابها ليستر عريها وفضيحتها …؟!!!
وكيف كان خزيه أمام والده وهو يراه مجرد مراهق مستهتر تسبب في قتل أمه بفساد أخلاقه؟!!!
فضمت ظهره إليها أكثر وكلاهما عاجز عن مواجهة الآخر بعينيه لوقت قصير…
قبل أن تسأله بتردد:
_وكيف مرّ الأمر هكذا دون تحقيق رسمي؟!!وكيف بررتم سبب وفاتها؟!!
ابتسم بسخرية مريرة وهو يجيبها بفتور:
_حادثة سرقة عادية نتج عنها قتل السيدة صاحبة المنزل…والسلاح تم إخفاؤه…والبلاغ قُيّد ضد مجهول!!
أومأت برأسها في إدراك قبل أن تسأله ببعض الإشفاق:
_وجاسم الصاوي لا يزال لا يعرف الحقيقة إلى الآن؟!!
صمت للحظات ثم استدار نحوها ليواجهها بنظراته أخيراً وهو يحتضن عينيها باحتياج صارخ …
قبل أن يهمس بصوت متهدج:
_لم أستطع أن أخبر أحداً عن هذا …..إلا أنتِ!!
ألقت رأسها على صدره وهي تحتضنه من جديد بكل قوتها بينما أردف هو بشرود نابض بالألم:
_أنتِ لا تعلمين كم كان أبي يحبها حباً رفعها لمصافّ الملائكة في عينيه…ليس هو فقط…كل أقاربنا ومعارفنا كانوا يصفونها بالكمال…لقد كبرت وأنا أراها بعيني أفضل نساء الدنيا…لهذا لم يسامحني أبي ولا أظنه سيفعل بعدما حدث…هل تصدقين أن جاسم الصاوي بكل عيوبه التي تعرفينها لايزال يعيش على ذكراها وقد رفض أن تحمل سواها اسمه حتى بعد رحيلها؟!!
دمعت عيناها بتأثر و أفكارها تنساب كالطوفان في عقلها…
فهد الصاوي قتل والدته دون وعي لأنه رآها تخون والده في فراشه…
لكنه أخفى هذه الحقيقة المشينة عن الجميع ليكتوي وحده بنيرانها طوال هذه السنوات…
وهذا يفسر -ولكنه لا يشفع- لسلوكه الشائن مع الفتيات وآخرهنّ رؤى…!!!!
وحينها فقط تذكرت قوله عن رؤى يوماً أنها خائنةٌ ككل النساء……
فهد كان ينتقم من صورة والدته في كل فتاة ظاهرها الأدب والأخلاق..
وكأنه كان يريد أن يثبت لنفسه أنهنّ جميعاً سواء…
يتظاهرن بالفضيلة ويضمرن الخيانة!!
وهذا يفسر أيضاً لماذا أحبها هي رغم أنها تكبره سناً…
لقد رأي فيها هي الصورة التي كان يتمناها لوالدته وخذلته….
لكنها هي لن تخذله!!!
نعم…لن تخذله أبداً!!!
لهذا رفعت إليه عينيها ليتألق وهج البندق بعينيها من جديد وهي تهمس بالكلمة التي توقن أنه ينتظر سماعها منها الآن بعدما عرفته:
_أحبك!
افتر ثغره عن ابتسامة اتسعت تدريجياً وهو يرفعها من خصرها بكفيه ليكون وجهها في مستوى وجهه….
قبل أن يغرقها بقبلاته التي حطتّ على وجهها عميقة متتابعة مشتاقة كسرب حمامٍ عاد لوطنه بعد طول اغتراب…
ثم أراح رأسها على كتفه وهو لازال يرفعها عن الأرض بذراعه ليتأوه بقوة قبل أن يهمس بارتياح :
_لم أكن أعلم أنني سأشعر بالراحة هكذا عندما أصارحكِ بالحقيقة…
ثم أعاد رأسه للخلف ليلتقط عينيها من جديد مردفاً بنبرة أرق:
_أنتِ حقاً…جنة!!
ابتسمت بحنان وهي تتشبث به لتعود بقدميها إلى الأرض …
ثم سألته باهتمام وقد تذكرت ما حدث قبل قليل:
_ماذا حدث لوالدك الليلة بعد إطلاق النار؟!
هز رأسه وهو يقول ببعض التوتر:
_لم يحدث شئ والحمد لله…لكنه يشعر بالخوف من تكرار المحاولة…صراعاته السياسية اتخذت أبعاداً أكثر خطورة.
تشبثت به أكثر وهي ترد بقلق :
_ليس وحده يا فهد…أنت أيضاً معه في نفس الكفة!
زفر بقوة وهو يشيح بوجهه ليقول بضيق:
_لقد حاولت الانفصال عنه في العمل لكنه رفض رفضاً قاطعاً…جاسم الصاوي وبرغم سوء علاقتنا المريضة لازال يراني استثماره الوحيد …العمل هو الشئ الوحيد الذي لم أخيب رجاءه فيه كما يزعم دوماً.
أومأت برأسها في تفهم وهي تدرك الآن الصورة الكاملة…
ارتباط فهد بأبيه ليس ارتباطاً عادياً لكنه ممتزج بشعوره القديم بالذنب…
لهذا سيكون من الصعب حقاً أن ينفصل عنه !!
لهذا تنهدت بحرارة ثم عادت تقول ببعض التردد وقد تذكرت شيئاً:
_وماذا رأيت في كابوسك الليلة؟!!
أطرق برأسه دون رد فربتت على رأسه لتهمس بحنانها المعهود:
_دعني أفهم ما يؤرق روحك بالضبط حتى أستطيع مساعدتك.
صمت قليلاً وكأنه يعقل حديثها ثم بدأ في سرد ما رآه بكابوسه بتماسك هش محاولاً كتمان خوفه وألمه حتى انتهى من روايته…
بينما كانت هي تستمع إليه وروحها تنبض بألم مع كل ما يحكيه….
هذا رجلٌ يحترق حياً بذنوبه ولا يعرف سبيلاً للنجاة…!!!
آثام ماضيه تطوق عنقه بحبالٍ من لهب!!!
وكم يحتاج لمن ينتشله من كل هذا!!
لهذا احتضنت وجهه بكفيها في احتواء حنون ثم همست بحزم رفيق:
_أنت نادمٌ يا فهد…رغم أنك ترفض الاعتراف بهذا…روحك تطلب التطهر …حتى لا تغتالها جروح الماضي.
تنهد بحرارة وهو يضمها بقوة عشقه ليخفي وجهه بين طيات شعرها هامساً:
_كيف؟!
صمتت قليلاً ثم قالت بحسم :
_يجب أولاً أن تعترف بخطئك فيما سبق …أنت ظلمت الكثيرات بلا ذنب…ورغم أنني لا أعفيهنّ من المسئولية لكن تبقى أنت صاحب وزر الغواية الأكبر…لهذا أرى إن كنت حقاً ترغب في توبة صادقة أن نذهب سوياً غداً لشيخٍ أعرفه كي يفتينا في هذا الأمر….أما عن المستقبل وعلاقتك بعمل أبيك فسنفكر معاً حتى نجد حلاً.
أغمض عينيه باستسلام وهو يغمغم بموافقته…
فرفعت رأسها إليه لتداعب وجنتيه بأناملها في حنان وشفتاها تحملان ابتسامة لم يرَ أنقى منها من قبل…
ثم همست بملء ما تحمله روحها من شعور:
_أحبك…أحبك…أحبك…
ظلت ترددها تباعاً مع ابتسامته التي كانت تتسع تدريجياً في كل مرة تهمس بها…
حتى أردفت قبل أن تقبل وجنته بقوة:
_سأظل أقولها الليلة حتى تفيض بها روحك فلا تعود ترى في أحلامك سوايَ!!
ضحك ضحكة قصيرة وهو يعتصرها بين ذراعيه هامساً بحرارة:
_أنا أشعر أنني وُلدتُ من جديد هذه الليلة…قلبي يكاد يقف من فرط إحساسي معك.
رفعت إليه عينيها بوهج البندق الذي كان الآن مطعماً بنكهة عاطفتها الكاسحة وهي تداعب أنفه بأنفها هامسة بثقة:
_لا تقلق على قلبك فقد صار لي..وأنا مثلك أجيد العناية بممتلكاتي!
ابتسم وعيناه تطوقان ملامحها بمشاعر ما عاد يجد لها وصفاً نحو هذه المرأة الأسطورية…
التي جمعت وحدها شعوره بها ككل نساء الأرض…
هي ابنته وأمه…وصديقته وحبيبته…
هي السماء حين تصفو…والأرض حين تُنبت…
هي النار عندما تدفئ بعد برد…والمطر عندما يغسل بعد دنس…
هي الغفران بعد معصية…وجزل العطيّة بعد طول منع!!!!
والآن وهو يتأملها بين ذراعيه كأشهى ما تكون…
وأنقى ما تكون…
وأعذب ما تكون…
يشعر بحق أنها أول الطريق ومنتهاه مهما تفرعت به الشعاب!!!
لكنه أفاق من فورة شعوره بها على نظرة عابرة للساعة المعلقة على الحائط فحملت نظراته الكثير من الأسف وهو يهمس لها:
_لو كان الأمر بيدي لما تركتك هذه الليلة بالذات لحظة واحدة…لكنني يجب أن أكون جوار أبي الآن!
شعرت ببعض الضيق عندما قالها لكنها غلّبت شعورها بالواجب على ما سواه…
فأومأت برأسها موافقة قبل أن تلتقي شفاههما في وداعٍ قصير…
ثم سارت معه حتى باب الشقة فهمس وعيناه معلقتان بعينيها في استماتة وكأنه يجاهد نفسه حقاً كي يتركها الآن:
_بضع ساعات فقط…وأعدكِ أن أكون هنا قبل أن تستيقظي لأفتح لكِ النافذة ككل يوم.
ابتسمت وهي تهز رأسها موافقةً عندما أعطاها ظهره ليغادر…
لكنها استوقفته بعد لحظة بهمسها باسمه …
فعاود الالتفات نحوها بترقب…
عندما فوجئ بها تتشبث بساعديه وهي تستطيل على أطراف أصابعها كي تقبل وجنتيه كما يفعل هو كل صباح…
لتهمس هي في أذنيه هذه المرة:
_تحتاجني…وأحتاجك أكثر!!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى