روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء الرابع والعشرون

رواية ماسة وشيطان البارت الرابع والعشرون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الرابعة والعشرون

_أخبري هيام أنني أريد الزواج من شقيقتها!!
اخترقت العبارة قلبها قبل أذنيها لكنها حاولت الحفاظ على ثبات ملامحها قدر ما استطاعت…
هي كانت تتوقع هذا على أي حال…بل إنها هي التي طلبته منه صباحاً…
وكما يقولون …”وقوع البلاء أفضل من انتظاره”…
لهذا اكتفت بصمتها المستسلم بينما رمقتها عفاف بنظرة مشفقة قبل أن تقول لراغب ببعض التردد:
_أنت واثقٌ من قرارك هذا يا ابني؟!!
أشاح راغب بوجهه محاولاً ألا تلتقي نظراته برؤى التي أطرقت برأسها الآن…
فتنهدت والدته بحرارة قبل أن تغمغم بخفوت:
_لله الأمر من قبل ومن بعد.
ثم التفتت نحو رؤى لتقول بإشفاق:
_أنتِ كنتِ تعلمين عن هذا؟!!
اغتصبت رؤى ابتسامة شاحبة وهي تشعر بتعلق نظراتهما معاً بها …لتقول بتماسك زائف:
_بالطبع يا أمي!!أنا لا أمانع!!
أومأت المرأة برأسها في استسلام وهي تتمتم لهما بالدعاء…
قبل أن يغادرها كلاهما ليصعدا نحو شقتهما كالمعتاد ولم يكد يغلق بابها خلفه حتى التفتت نحوه لتبادره بقولها:
_مباركٌ مقدماً.
ابتلع غصة مرارته وهو يسير بضع خطوات مبتعداً عنها ثم قال دون أن ينظر إليها:
_أنتِ واثقةٌ أنكِ ستحتملين هذا الوضع؟!
سارت نحوه بخطوات متمهلة حتى وقفت قبالته لتقول بصلابتها المدّعاة:
_نعم سأفعل!
التفت نحوها أخيراً لتلتقي عيناهما لأول مرة منذ علمت هي عن الخبر…
فروعته تلك النظرة الذبيحة في عينيها رغم استطرادها الواثق في الكلام بعدها:
_هذا حقك…وأنا لن أخسر شيئاً على كل حال…أنت لم تكن لي يوماً زوجاً …بل كنت وستبقى صديقي الذي أثق به…
ثم تهدج صوتها وهي تردف :
_والذي أتمنى أن يأتي يوم ويثق بي هو الآخر!
انفرجت شفتاه وكأنه سيهمّ بقول شئ ما مع امتداد أنامله وكأنه سيربت على كتفها لكنه تراجع ليعيدها مكانها جواره قبل أن يطرق برأسه دون رد…
لقد فعل الصواب…!!!
لا أحد يمكنه لومه على ما فعله…
هو أولاً وأخيراً حقه في أن يعيش حياته بصورة طبيعية…
أن تكون له زوجةٌ هو أول من يقتطف زهور أنوثتها…
زوجةٌ ترضي كبرياءه ورجولته…
زوجةٌ يأمن عليها داخل داره وخارجها لا أن يقضي يومه يصارع شكوكه بشأنها!!!
العقل والمنطق يقولان هذا!!!
حتى ولو خالفتهما تضرعات قلب يوقن أنه لن يتنفس إلا هواءها هي…
هي “رؤى” فحسب!!!
حسناً…لكن لماذا عزة بالذات؟!!
ربما لأنه يشعر بمسئوليته تجاهها بعد ظروفها الأخيرة والظلم الذي تعرضت له…
وربما لأنها فقط “متاحة” وهو يريد إتمام الأمر بسرعة…
بسرعة؟!!!
نعم…يريد أن يقطع على عقله طريق تردده في هذا الأمر…
ويريد أن يثبت لرؤى قبل أن يثبت لنفسه أنه جاد بهذا الشأن لعلها تعدل عن رغبتها بالبقاء على ذمته…
لعلها توافقه في صحة قراره بوجوب فراقهما…
فراقهما الذي سيذبحه قبلها لكنه للأسف لا يملك خياراً آخر…!!!
لهذا بادلها الصمت الطويل للحظات قبل أن يتنحنح ليقول بصوته الأجش:
_كما تريدين!!لن يتغير وضعكِ كثيراً…ستقيمين هنا في هذه الشقة وسأنهي تشطيب الشقة العلوية لتكون …لها!!
انقبض قلبها بشعور حارق بالغيرة لم تعرفه من قبل عندما سمعت منه فقط عبارته الأخيرة…
لتدرك وقتها -بحق- أن الأمر لن يكون بالسهولة التي تظنها …
لكنها لا تملك الآن رفاهية الاعتراض…
قلبها وعقلها وكيانها كله يقسمون لها أن مكانها الوحيد هنا…
هنا …بجانبه…
بأي مسمى…وبأي صفة…
المهم أن تكون جواره!!!
فأغمضت عينيها بألم وصله صادقاً رغم ما تحاول التظاهر به من ثبات ….
ليتنهد بحرارة قبل أن يردف بنبرة أكثر رفقاً:
_أنا أخبرت أمي أنكِ تعانين مشكلةً ما تمنعكِ من الإنجاب…اضطررتُ لهذا لأمنحها مبرراً منطقياً ..لكن لا تقلقي.. هي أقسمت لي أنها لن تخبر أحداً…حتى هيام لن تعلم سوى أنني سأتزوج شقيقتها فقط لحمايتها من ذاك الوغد خطيبها السابق…أنا تعمدت هذا كي لا تؤذيكِ لو شعرت بضعف موقفك.
هزت رأسها للحظات قبل أن تشيح بوجهها لتهمس بخفوت:
_لا تقلق…لن يؤذيني شئٌ هنا بعد الآن!!
رمقها بنظرة أخيرة طويلة حملت لها بعضاً من صراع نفسه الآن …
قبل أن يغادرها بتثاقل نحو غرفتهما لتكون كلماتها هذه آخر ما يدوي في أذنيه هذه الليلة:
_كن سعيداً يا راغب…لأجلك ولأجلي…صدقني من الآن ستكون سعادتك أنت هي سعادتي أنا…فلا تحرم كلينا منها!!
======================
_ما هذا الكلام الذي سمعته؟!!
هتف بها عبد الله وهو يجلس في غرفة “الصالون” الخاصة ببيت راغب الذي حافظ على صمته بينما كان هو يهدر بعنف:
_تتزوج امرأة أخرى على شقيقتي أنا؟!!لماذا؟!!
عقد راغب حاجبيه وقد أسقط في يديه فلم يعد يدري ماذا يقول…
لن يستطيع إقناع عبد الله الثائر الآن بما أقنع به أمه أو ما حاول أن يوصله لهيام…
لن يستطيع أن يدعي “عيباً” لرؤى ولا أن يتذرع ب”مروءة” حملته على زواج ثانٍ…!!!
لهذا اكتفى بصمته المطرق الذي استفز عبد الله ليصرخ فيه بعنف أقوى:
_لماذا لا تجيبني؟!!لماذا تريد الزواج بأخرى؟!!
_لأنني عاجزةٌ عن الإنجاب!!
قالتها رؤى بنبرات مرتعشة وهي تدخل الغرفة بملامحها التي عاد إليها ذعرها وإن حاولت صبغه بقوتها الهشة هذه المرة…
فالتفت كلاهما إليها ليهب عبد الله واقفاً مكانه وهو يهتف بذهول:
_ماذا؟!!ماذا تقولين؟!!
ضم راغب قبضتيه جواره وهو يرمقها بنظراتٍ مشفقة رغم صدمته بتصرفها…
لكنها أخذت نفساً عميقاً لتكمل كذبتها بصلابة:
_نعم يا عبد الله…هذه هي الحقيقة التي اكتشفناها…حقه أن يتزوج من أخرى لأجل هذا…ألم تكن على وشك فعلها مع صفا؟!!
اتسعت عيناه بذهول للحظات قبل أن تفيضا ببحور من ألم…
إنه -بالكاد- يحاول تجاوز خسارته الفادحة ل”صفا روحه” التي فقدها بلا رجعة هذه المرة…
والآن تأتيه صفعة القدر هذه لترد له “دَيْنَه” في شقيقته!!!
هل هو عقاب السماء له على تفريطه في امرأة كانت له “رزق العمر”؟!!
لا…لم تزرْ وازرةٌ يوماً وزر أخرى…
لكن هذا لا يعني أن رؤى على حق…!!!
هو الآن لا يمكنه الاعتراض على زواج راغب الثاني وقد أوشك هو نفسه على فعلها…
لكنه يمكنه -ببساطة- أن يعيد شقيقته لحضنه وأن يكفيها ذل العيش كزوجة مهمَلة منبوذة من زوجها…
لهذا صمت قليلاً يستوعب صدمته…ثم التفت نحو راغب ليسأله بحدة:
_هل هذا صحيح؟!!
أشاح راغب بوجهه دون رد وقد ألجمه تصرف رؤى المندفع وعجز في نفس الوقت عن تكذيبها…
فانهار عبد الله جالساً مكانه ليتمتم بأسى:
_لا حول ولا قوة إلا بالله!
ساد الصمت ثلاثتهم بعدها وقد غرق كل منهم في أفكاره الخاصة…
حتى كان عبد الله أول من قطعه وهو يواجه راغب ليقول بحزم:
_حتى ولو كان الأمر هكذا…لن أرضى لشقيقتي أن تذوق هذا الذل…طلاقها عندي أهون من أن تكون زوجة مهجورة!!!
رفع إليه راغب عينيه بحدة وهو يهمّ بردٍ عنيف…
لكن رؤى قاطعته بقولها الحاسم:
_لا يا عبد الله…أنا لا أريد الطلاق!!
اشتعل وجه عبد الله بانفعاله وهو يقف ليلوح بذراعه في وجهها هاتفاً:
_منذ متى تتجرأين على معارضتي؟!!أنتِ لا تعرفين مصلحتك!!
فدمعت عيناها وهي تقترب منه أكثر لتقول بعتابها الهادئ:
_وهل تعرفها أنت؟!!
احمرت عيناه غضباً وهو يرمقها بنظراته النارية فيما أردفت هي بنفس الوداعة اللائمة:
_ماذا تعرف أنت عن حياتي كي تقرر مصلحتي؟!!أنت حتى لم تزرني هنا في بيتي إلا مراتٍ معدودة….وكأنني مجرد حملٍ ثقيل سعدتَ بإزاحته عن كاهلك!!!
كانت كلماتها صفعة أخرى على وجه ضميره الذي كان يؤيدها فيما تقول…
ليدرك الآن فقط أنه لم يحفظ أمانته كما ينبغي…
هو الذي طالما تشدق برعايته لشقيقته بعد وفاة والديهما ليعيَ الآن أنه حقاً كان يتصرف معها على هذا الأساس…
مجرد وزرٍ على كاهله!!!
لكن…لا…
هو حقاً يحبها…
هي قطعةٌ من روحه…
هي كل من بقي له من عائلته…
ربما أهملها كثيراً في خضم طموحه وسعيه خلف نجاحه في عمله لكنه كان دوماً مطمئناً لكونها في أمان…
وحتى عندما قرر تزويجها اختار لها الرجل الصالح الذي اطمأن لحسن خلقه رغم أنه لم يكن أكثر خاطبيها جاهاً أو ثروة!!!
ربما كان عنها “غافلاً” لكنه أبداً لم يكن “جاحداً”!!!
لهذا عقد حاجبيه بضيق خالطه بعض الحرج من حديثها هذا أمام راغب لتأخذه العزة بالإثم وهو يهتف بانفعال:
_لا تكوني حمقاء!!!أنتِ لا تدركين كم ستكون معاناتك لو تزوج من غيرك!!!
لكن رؤى مسحت دموعها بظاهر كفها لتهتف بقوتها -المستحدثة-:
_لست حمقاء يا شيخ عبد الله…لكنني أعرف حقوق زوجي…أليس هذا ما علمتني إياه؟!!
فازداد انعقاد حاجبيه وهو يرمقها بنظرة ساخطة قبل أن يلوح بسبابته في وجهها هاتفاً:
_كما تشائين!!!لكن تذكري أنني حذرتك!!
قالها ثم غادر المكان بخطوات سريعة تحت هتاف راغب الذي اندفع خلفه:
_انتظر يا شيخ عبد الله…دعني فقط…
لكنه أغلق الباب خلفه بعنف دون أن يتوقف لسماع المزيد…
فالتفت راغب نحو رؤى التي وقفت مكانها كتمثال صخري ليسألها بضيق لم يخلُ من إشفاق:
_لماذا قلتِ له هذا؟!!لم أتصور يوماً أن تواجهيه هكذا!!!
لكنها أخذت نفساً عميقاً ثم ابتسمت وهي تقترب منه لتهمس ببراءتها التي اكتسبت الآن بعضاً من الصلابة:
_وأنا أيضاً لم أتصور أني سأفعلها…إنها أول مرة أقول له فيها “لا”!!
تفحص ملامحها باستكشاف امتزج ببعض الإعجاب وهو يسمعها تردف بسعادة طفلة عبرت الطريق وحدها لأول مرة:
_هذا أول قرار آخذه أنا في حياتي…هل تتصور شعوري؟!!أنا سعيدة…حقاً سعيدة!!!
أمسك كتفيها بقوة وعيناه حائرتان في توصيف مشاعره الآن…
إعجابه بقوتها التي بدأت تعرف طريقها لعقلها قبل قلبها…؟!!!
أم حزنه لأجل هذه الحسرة التي يراها كالشمس في عينيها…؟!!!
أم دهشته من هذه -الحمقاء- التي تعلن سعادتها في هذا التوقيت بالذات أمام زوجها الذي سيتزوج أخرى؟!!!
لكن…ماذا عساه يقول؟!!!
إنها رؤى!!!
معضلته الأبدية!!!
طفلته التي فتحت عينيها على قسوة الحياة مؤخراً لتبدأ في تحسس طريقها الوعر بصعوبة …
فتمتزج براءتها بصدمة شعورها الجديد بالاستكشاف!!!
لهذا ازدرد ريقه بتوتر وكفاه يضغطان على كتفيها أكثر ليهمس بضيق اصطبغ بحزنه هذه المرة:
_أنتِ حقاً سعيدة؟!!
وكأنما حملتها عبارته من سماء شعورها الجديد بالاستقلال والقوة…إلى أرض واقعها الملغمة بعجزها وقلة حيلتها !!!
لتختفي ابتسامتها تدريجياً وهي تغمض عينيها بقوة قبل أن تربت بأناملها على كفه المستند على كتفها هامسة بحسم :
_نعم يا راغب..سعيدة…من وجد أول الطريق يوشك أن يصل!!!
================
_فكر في الأمر يا جهاد…إنها عروسٌ ممتازة!!
هتف بها صديقه وهو يجلس أمامه على مكتبه في غرفته بالمشفى بما يشبه الرجاء…
فهز جهاد رأسه ليقول بحسم:
_لا…لا أرغب في الزواج!!!
زفر صديقه بضجر قبل أن يهتف باستنكار:
_ماذا تنتظر يا فتى؟!!لقد أوشكت على بلوغ الثلاثين.
ثم تفحصه ببصره ليردف ببعض الخبث:
_أم تراك تنتظر الوقوع في الحب؟!!
ضحك جهاد ضحكة عالية كانت هي جوابه الوحيد…
فعقد صديقه حاجبيه بتشكك ليسأله:
_ماذا؟!!لا تقل لي أنك لا تؤمن بالحب؟!!
تنهد جهاد بحرارة ثم شرد ببصره للحظات قبل أن يقول بأسى:
_على العكس…أنا أؤمن به حد أنني لا أصدق أنني أستحقه…
أمال صديقه رأسه بتساؤل فأردف جهاد بابتسامة شاحبة:
_الحب يمنحك الوطن…الانتماء…الهوية…وأنا عشت عمري محروماً من هذا…فكيف أصدق أنني قد أصادف امرأة تمنحني كل هذا؟!!
رمقه صديقه بنظرة طويلة قبل أن يقول بأسف:
_وكيف تصادفها وأنت تغلق كل الأبواب في سبيل هذا؟!!أنا أعرف العديد من الفتيات قلنَ لي صراحةً إنهن معجباتٌ بك لكنك لم ترغب حتى في التعرف إليهن!!
اتسعت ابتسامة جهاد التي حملت شيئاً من الخبث هذه المرة وهو يقول بنبرة تهديد:
_لو علمت زوجتك عن حديثك المتمادي هذا مع الفتيات فسأكون سعيداً برؤية رد الفعل!!!لازلتُ أذكر المزهرية التي كادت تحطم رأسينا معاً تلك الليلة!!!
قهقه صديقه للحظات وهو يتذكر آخر مشاجراته مع زوجته لأجل شئ شبيه….قبل أن يهز رأسه قائلاً:
_معك حق!!!هي أكثر من مجنونة في هذا الشأن!!
ثم قام من مكانه ليربت على كتف جهاد قائلاً بمرح:
_أقنعتَني…ابق عازباً هذا أفضل!!!
ضحك جهاد ضحكة قصيرة وهو يغمزه بعينه غافلاً عن تلك التي كانت تستمع إليهما خلسةً من خلف باب غرفته المفتوح…
أسطورة!!!
هذا الرجل أسطورة!!!
أسطورة حياتها التي لم تعرف رجلاً قبله ولن يجوز أن تسع رجلاً بعده!!!
ورغم أن ما سمعته لم يكن ليمنحها أملاً ما…لكن مجرد معرفتها أن قلبه لايزال خالياً كان سبباً لهذه الخطوات الطائرة بل -شبه الراقصة- التي عادت بها إلى غرفة الممرضات حيث تفحصتها زميلتها بترقب…
قبل أن تقرص وجنتها هامسة في أذنيها بخبث:
_أنا أعرف هذه الابتسامة مع حمرة الوجنتين…دعيني أخمن…طبيبك الوسيم…صحيح؟!!
اتسعت ابتسامة زهرة وهي تطرق برأسها للحظة قبل أن ترفعه نحوها لتهمس بشرود:
_تراه يشعر بي يوماً؟!!!يقولون أن الحب كالشمس لا يمكن إخفاؤه…فهل يأتي يومٌ تسكن فيه شمسي سماءه؟!!
وكزتها زميلتها بسبابتها في كتفها لتهمس باستنكار:
_وكيف يفعل ما دمتِ لا تهتمين بلفت انتباهه؟!!!الرجال كالسمك…ينتظرون الطعم المناسب كي يقعوا في الأسر !!
هزت زهرة رأسها بتردد وهي تسألها بحذر:
_وكيف أفعل؟!!
تألقت عينا زميلتها بمكر مع تراقص حاجبيها:
_سأخبرك!!!
=========
كانت مستلقية على فراشهما تحاول فقط استيعاب ما عرفته منذ ساعات….
هذه الحقيقة التي وصفها هو بأنها “طعنة غادرة” لكنها شعرت بها وكأنها “رصاصة رحمة” لهذه العلاقة الغريبة التي جمعتها به!!!
حقاً…كل ما كان بينهما عجيب…
علاقة تجمع كل المتناقضات وتجعل القلب والعقل دوماً معاً في حالة تحفز!!
ورغم أن المنطق كان يستدعي أن يكون خبر “عقمها” الصادم هو المسيطر على مشاعرها الآن…
لكنه على العكس كان في آخر قائمة توجساتها بعد ما علمته عن ماضي عاصي مع حورية..
هذا الماضي الذي أكد ظنون عقلها السوداء بشأنه وألقى قلبها في جحيم حسرته ملوماً مدحوراً!!!
وجه “الشيطان” الذي انكشفت “بعض” ملامحه وما خفي كان أعظم!!!!
انقطعت أفكارها عندما شعرت به يدخل إلى الغرفة بخطواته البطيئة ليتمدد جوارها على الفراش…
فأغمضت عينيها بقوة وهي تقاوم رغبتها في الاندساس في حضنه ككل ليلة…
رغم أنها الآن في قمة احتياجها إليه لكنها لا تستطيع فعلها…
شئٌ ما بداخلها يخبرها أنها لم تعد له…ولم يعد لها!!!
وأن هذا الحب الذي كبل قلبها بأغلاله يوشك على فقد سطوته عليها…
فلا سلطان للحب على أرضٍ فقدت سماء أمانها …
نعم…لا سلطان!!!
وجوارها كان هو يتطلع للسقف بترقب ظاهره الشرود…
والوقت يمضي به ثقيلاً متباطئاً…
ذبذبات جسدها المتوترة جواره تلهب كيانه كله …
ينتظرها أن تدفن وجهها في صدره ككل ليلة…تستجدي أماناً تعرف -كما يعرف هو- أنها لن تجده إلا بين ذراعيه…
تسكب دموعها على صدره فيحتوي حزنها بلمساته التي هي لغته الوحيدة في التعبير عن حب لن يستسلم له عناد لسانه…
لكنها لم تفعلها!!!
ظلت ساكنة مكانها كتمثال صخري لامرأة كانت يوماً تنبض بالحياة…
فتملكه الغضب وقتها وهو يشعر بتباعدها…
ليسول له شيطانه الآن أن يتركها وحدها ويغادر حتى تأتيه هي بقدميها…
لكنه ما كاد يتم فكرته حتى شعر بحركتها جوارها فتأهبت خلاياه كلها لاستقبال إحساسه -الفريد-بها بين ذراعيه…
لكنها للأسف أعطته ظهرها لتفرغ دموعها الصامتة على وسادتها هذه المرة!!!
قبض كفيه بغضب ممتزج بعجزه وهو يشعر بمرارة الخسارة في حلقه…
ذاك الطعم الذي لم يعرفه في حياته سوى مرات قليلة…
لكنه لم يكن يوماً أشد قسوةً عليه من الآن!!!
نعم…هو يشعر أنه يخسرها…
ماسته الثمينة التي أخذت مكانها بين ضلوعه توشك أن تختطفها منه يد القدر…
ورغم أنه يثق بقدرته على استبقائها قهراً لكنه لن يفعلها!!!
هو يريدها ملكةً على عرش حب لم تمنحه له سواها…
وليست جارية مكبلة بقيود جبروته!!!
بينما كانت هي تضع كفها على شفتيها وكأنها تريد كتم أنينها عنه…
قلبها كان ينتفض بين ضلوعها اشتياقاً لوطنه على صدره لكن عقلها كان يحذرها من غربة يعقبها اعتقالٌ في سجون سطوته!!!
فكيف الخلاص من رجلٍ هو الآن وطنٌ وغربة؟!!
وما حيلة النفس في حبٍ بنكهة السجن والحرية؟!!
وما السبيل لأنفاس بعمق الحياة إذا كانت أنامله نفسها هي ما تعتصر عنق عاطفتها؟!!!
_ماسة!
همس باسمها جوار أذنها عندما استدار أخيراً نحوها ليشرف عليها برأسه فارتجف قلبها بثورته متمرداً يطالب بحقه فيه…
بينما أردف هو بصوتٍ لم تخنه فيه قوته كعهده:
_هل ستغيرين عادتك هذه الليلة؟!!
عضت على شفتها بألم وهي تدفن وجهها أكثر في وسادتها قاهرةً كل نداءات عاطفتها…
هي قالتها له يوماً…قوتها لن تستمدها من غيرها…
لو لم تمنحها لنفسها فلن يهبها إياها أحد!!!
والآن هي تشعر بحدسها أن طريقها الذي تشاركته معه توشك الآن أن تكمله وحدها…
ابتلاءٌ شديد لمن كانت مثلها…لكنها لن تضعف!!
لهذا اكتفت بصمتها الطويل الذي أذكي نيرانه هو أكثر…
ليجد نفسه يقترب منها فيطوقها بساعده بقوة ملصقاً ظهرها إلى صدره وهو يردف بنبرة أقوى:
_حتى لو غيرتِها أنتِ…أنا لن أغيرها!!!
ساعتها ارتجف جسدها بقوة بكائها الذي علا صوته للحظات…
قبل أن تستدير بجسدها فجأة لتدفن وجهها في صدره وهي تتعلق بذراعيها في عنقه بقوة تعلقها بالحياة نفسها!!!
فضمها إليه أكثر وهو يتنهد بحرارة قبل أن يهمس جوار أذنها بحنانه الذي لم تنتزعه منه سواها:
_لا تبكي!!لم يتغير شئ!!
رفعت إليه عينيها الدامعتين ببطء…فأردف بنفس النبرة الحانية رغم حزنه المحفور على ملامحه:
_هو اختبارٌ ستجتازه ماسة بمهارة كما تفعل دوماً!!
أومأت برأسها للحظات دون أن تحيد بعينيها عن شموسه الزيتونية التي توهجت بدفء حنانه الآن…
قبل أن تهمس بثقة لم تخلُ من مرارة:
_أعرف أنني سأجتازه…لكن السؤال الآن هل ستكون أنت معي وقتها؟!!
ضمها إليه أكثر وقد فضحت عيناه خوفاً سجنته شفتاه باقتدار …
خوفاً وازى خوفها هي الذي أطلقته همساتها القوية رغم ما تحمله من رجاء:
_قل إنك تحبني…قل إنك لن تكمل طريقك مع غيري…قل إن هذه الغرفة لن تدخلها امرأة بعدي كما لم تدخلها واحدة قبلي!!
ازدرد ريقه ببطء ونظراته تطوق ملامحها بعاطفة متشحة بعجز لم يستطع إخفاءه…
كم يود الآن لو يقولها…
لو يقسم عليها…
لو ينقشها بقبلاته على بشرتها كوشم لا يبلى…
لكنه…لن يفعلها!!!
حتى وهو يدرك الآن أنه لم ولن يعشق امرأة كما عشقها لكنه لن يعترف بها…
لن تغادر صدره إلى لسانه أبداً…
ليس فقط لأنه لايزال يرى الحب ضعفاً وهو لن يكشف ضعفه لأحد…
لكن لأنه لن يستطيع أن يعدها بما تريد…
هو يريد الولد…
ولو لم يحصل عليه منها فلن يتردد في الحصول عليه من غيرها…
العمر لم يعد يسمح برفاهية البحث عن بدائل…
وحصاد أيامه السابقة كلها رهين هذا الطفل الذي يرجوه!!!
لهذا زفر زفرة حارقة وهو يشيح بوجهه عن نزيف فضتها الكسير…
فقرأت إجابته على ملامحه لتبتسم بمرارة مع همسها الواثق:
_لن تستطيع منحي وعد “عاصي الرفاعي” هذه المرة!
لكنه التفت إليها لتشتعل غابات زيتونه من جديد مع همسه الغارق بانفعاله:
_الأمر لا علاقة له بالمشاعر..ليس لديّ بديل…ينبغي أن أحصل على هذا الطفل بأي مقابل!!
ارتخى ذراعاها على عنقه وهي تسبل جفنيها في استسلام من أدرك قرب النهاية…
بينما أردف هو بنبرة أكثر اشتعالاً:
_كل هذا الذي بنيته طوال هذه السنوات يوشك أن يضيع في غمضة عين…أنا لا أخاف الموت لكنني أخاف أن أرحل بكف خاوية…دون أثر خلفي يمتد بعد رحيلي.
أطرقت برأسها دون رد ليدرك أن كلماته جرحتها أكثر…
فزفر بقوة قبل أن يرفع ذقنها نحوه هامساً ببعض الرفق:
_لكن حتى لو تزوجت بأخرى س…
_ستطلقني!
قاطعت بها عبارته بقوتها الحاسمة فانعقد حاجباه بغضب لكنها أكملت هتافها بنفس القوة:
_نعم …ستطلقني في نفس اللحظة التي تفكر فيها أن تشاركني فيك غيري…أنا لن أكون مجرد قطعة أثاث في قصر الرفاعي تملكها لغرض الاقتناءفحسب…لن أكون كذلك أبداً!!
ثم أزاحت أنامله عن ذقنها لتستطرد بتهكم اختنق بمرارته:
_عن أي بنيان تتحدث؟!!وأي أثرٍ ترغب في تركه؟!!عن طغيان عاصي الرفاعي الذي ورثه عن أبيه ويريد توريثه لابنه؟!!
ازداد انعقاد حاجبيه وقد احتقن وجهه بانفعاله الصامت مع كلماتها التي كانت تكشف عورات ضعفه كلها:
_هذا البنيان الذي تتحدث عنه والذي رسم قناع شيطانك هو نفسه ما يقف بيني وبينك…قلاع الظلم والسطوة والجبروت التي تحصنت أنت خلف أسوارها لن أرضى أنا بالبقاء بها…
ثم اختلج صوتها بارتجافة بكاء لم تؤثر على قوة نبراتها:
_ربما كان الأمر صعباً قبل اليوم لأن كلاً منا كان يرتجي حاجةً لدى الآخر…أنا كنت أرغب في الأمان جوارك…وأنت كنت تريد طفلاً مني…لكن الآن…
قطعت عبارتها لتصمت للحظات تحاول لمّ شتات روحها ….
فتوهجت عيناه بلهب ثائر وهو يضغط على حروفه هامساً ببطء:
_الآن ماذا؟!
دفعته بكفيها في رفق لتبتعد عنه أكثر وهي تقول باقتضاب دون أن تنظر إليه:
_كلانا صار غنياً عن صاحبه!!
_كاذبة!!
هتف بها بقسوة عاودت احتلال نبراته مع الريح التي عصفت بزيتونيتيه وهو يردف بنبرته المسيطرة:
_لم يعد لكِ إلا قصر الرفاعي يا صغيرة…أمانكِ لن تجديه إلا هنا …بين جدران هذه الغرفة…وإلا إلى أين تظنين نفسكِ ذاهبة؟!!
زأرت أمواجها الفضية بغضبها هي الأخرى وقد ألجمتها عبارته بينما استطرد هو بغضب ممتزج بقسوته:
_هل ستعودين لبيت رحمة الذي ازدحم بابنها وزوجته؟!!أم ستعيشين وحدكِ لتنتهككِ ألسنة الناس قبل نظراتهم كما كنتِ في الماضي؟!
كان يعلم مدى قسوة عباراته لكنه لم يستطع تلجيم لسانه هذه المرة…
كل ما فيه صار يخرج عن سيطرته هذه الأيام وكأنه ما عاد يعرف نفسه…
لعله صراعه الذي يكاد يشق رأسه بضراوته بين ماضٍ رسم حياته…ومستقبلٍ يخاف أن يخذله !!!
أو لعله خوفه الحقيقي من فقدانها هي بعدما لونت حياته الباهتة ببريقها الماسي…
لهذا أشاح بوجهه وهو يخبط بقبضته على الفراش جواره…
أما هي فقد بدا الجرح في عينيها جلياً وكلماته تكشف اللثام عن وحدتها الحقيقية في هذا العالم….
ورغم يقينها من صحة ما يقول لكنها تمالكت قوتها لتقول بثبات:
_أنا دخلت بيتك لعمل معين…وفشلت فيه…لهذا سأخرج منه كما دخلته…مجرد ممرضة!!
فالتفت نحوها ليقرب وجهها منه ببعض القسوة هاتفاً بحسم:
_لن تقويْ على الخروج من هنا…كلانا لن يكون له بديلٌ !!
لكنها عادت برأسها إلى الخلف لتهتف بصلابة هي جديرةٌ بها:
_تذرع أنت بهذه الحجة كما تشاء…لكنني أنا…
ثم أشارت بكفها على صدرها لتردف بحسم:
_أنا تعلمت أنه حتى لو لم أجد البديل ..فسأخلقه!!!
=============
_اجلس يا سرحان!
هتف بها عاصي بلهجته الآمرة وهو يجلس على كرسيه بغرفة مكتبه …
فابتسم الرجل ابتسامة صفراء وهو يجلس أمامه قائلاً:
_كيف حالك يا سيد عاصي؟!مرت أيام طويلة منذ التقينا آخر مرة!لقد فرحت كثيراً عندما جاءني رسولك يطلب مني الحضور إليك.
رمقه عاصي بنظرة طويلة متفحصة قبل أن يعود بظهره للوراء ليقول ببطء قاسٍ:
_لماذا عدتَ إلى هنا؟!!ألم نتفق أن تغادر المدينة للأبد؟!!
اتسعت ابتسامة الرجل الصفراء وهو يطرق برأسه قائلاً بمسكنة مصطنعة:
_ضيق الحال يا سيد عاصي…والعمر لم يعد يحتمل مشقة الترحال!
فاشتعلت عينا عاصي بغضب أسود ناقض برودة كلماته الثلجية:
_ذاك الرائد حسام …ماذا كان يريد منك؟!!
شحبت ملامح الرجل فجأة وكأنه فوجئ بمعرفة عاصي بهذا الأمر…
فتنحنح بارتباك قبل أن يغمغم بتلعثم:
_مجرد …اشتباه…في…
قطع عبارته عندما سحب عاصي مسدسه من جيب سترته فجأة ليصوبه نحوه هاتفاً بصرامة:
_أمامك دقيقة واحدة لتخبرني بالحقيقة كلها…أنت تعرف أني قليل الصبر!
فزاد شحوب الرجل وهو يرفع كفيه أمام وجهه هاتفاً بخوف:
_اهدأ يا سيد عاصي…أنا واحدٌ من رجالك…وأبداً لن أخون سرك.
انعقد حاجبا عاصي وهو يقول ببرود :
_مرت نصف دقيقة!!
فهتف الرجل بسرعة:
_كان يسألني عن شيئين…أحدهما يتعلق بحريق بيت تلك الفتاة…والثاني يتعلق بابنة رجل شهير كنتُ قد ساعدته في التخلص منها.
تفحصه عاصي ببصره بنظرات خبيرة قبل أن يقول باقتضاب:
_التفاصيل !
فازدرد الرجل ريقه بتوتر قبل أن يقول باستطراد:
_هو طلبني للحضور لديه في قسم الشرطة عقب عودتي للمدينة وكأنه كان يترصدني…هو يكاد يوقن أنني وراء حريق البيت بتحريض منك لكنه لا يملك الدليل…لهذا ضغط عليّ كثيراً بأساليب مختلفة لكنني لم أفضح السر…أقسم لك يا سيد عاصي أنني لم أفعلها!
رمقه عاصي بنظرة متفحصة أخيرة قبل أن يعيد مسدسه لجيب سترته ..
ثم مال بجذعه إلى الأمام قائلاً بنبرة تهديد:
_أصدقك يا سرحان…أنت لن تخون عاصي الرفاعي أبداً…لأنك تعلم جيداً ما الذي يمكنني فعله…ليس بك وحدك بل بعائلتك كلها!
ارتجف الرجل مكانه للحظات قبل أن يقول بتوتر:
_سرك في أمان يا سيد عاصي!
فقام عاصي من مكانه ليتوجه نحو نافذة الغرفة ثم شرد ببصره للحظات…
قبل أن يسأله باهتمام:
_لماذا تظنه يهتم بهذا الأمر إلى هذا الحد؟!!لقد حُفظ التحقيق في هذه القضية منذ وقت بعيد فما الذي يدعوه للنبش خلفه بهذه الدقة؟!!
هز الرجل رأسه بحيرة وهو يقول بارتباك:
_لا أدري…لكن الأمر بدا لي شخصياً…وكأنه يترصدك أنت بالذات…أو وكأنه اهتمامٌ بالفتاة نفسها!!
هنا تألقت عينا عاصي ببريق خاطف وهو يتذكر شيئاً ما جعله يلتفت نحوه ليقول بإدراك:
_تذكرت!!حسام القاضي هذا هو صاحب البيت الذي كانت تعمل فيه الفتاة لفترة قبل أن تغادره للمدينة المجاورة!!
فضاقت عينا الرجل محاولاً التذكر ليجيبه بعض لحظات صمت:
_نعم…بالضبط!!أنا أيضاً شعرت أن اسمه مألوفٌ لديّ!!
ثم هز رأسه ليقول بحيرة:
_لكن…ماذا يعنيه هو من خادمة كانت تعمل لديه؟!!
فاشتعلت عينا عاصي بلهيب ثائر للحظات…قبل أن يقول باقتضاب:
_لا بأس!!هو لن يصل لشئ…دعه يتتبع خطواتٍ خادعة لن توصله لنهاية!!
ابتسم الرجل ابتسامة جانبية بغيضة وهو يقول بخبث:
_بالتأكيد لن يصل لشئ!!نحن أجدنا خطتنا بإحكام.
فهز عاصي رأسه قبل أن يخرج من جيبه حزمة من النقود ألقاها على مكتبه بعنف قائلاً :
_من اليوم ستعود للعمل معي…لا أريدك أن تغيب عن عيني لحظة…كما أنني أحتاج رجالك في مهمة عاجلة!
توهجت عينا الرجل بطمعه وهو يتلقف المال بين يديه بنَهَم ثم هتف بتملّق بغيض:
_أنا ورجالي تحت أمرك !!
رمقه عاصي بنظرة صارمة قبل أن يقول بلهجته المسيطرة:
_أريد أن أعلم من الذي يلاحقني هذه الأيام…لابد أنك سمعت عن حادث إطلاق النار الذي تعرضت له منذ قريب!
فوقف الرجل ليقول بابتسامة ماكرة:
_لا تقلق يا سيد عاصي…سآتيك بالخبر اليقين كما عهدتَني!
أومأ عاصي برأسه إيجاباً ثم صرفه بإشارة من كفه…
فاندفع الرجل ليغادر بخطوات سريعة لكن عاصي استوقفه فجأة ليسأله باهتمام:
_ما حكاية تلك الفتاة الأخرى التي كان ذاك الضابط يريدك بشأنها؟!!
التفت نحوه سرحان ليقول بعدم اكتراث:
_جاسم الصاوي…لابد أنك تعرفه…كنت أعمل معه منذ سنوات وساعدته في التخلص من ابنته الرضيعة التي أنجبها بزواج سريّ…وضعتها أمام باب مسجد في إحدى المناطق الشعبية …وهو كان يريد مني معرفة المكان بالضبط ليتحرى عنها.
انعقد حاجبا عاصي باهتمام وهو يسأله :
_وما علاقته هو بجاسم الصاوي وابنته هذه؟!!
هز الرجل كتفيه في إشارة لكونه لا يعلم…
فأردف عاصي بنفس الاهتمام:
_وما هو هذا المكان ؟!!
ثم اتسعت عيناه بصدمة حقيقية والرجل يذكر له اسم الحي الذي تربت فيه ماسة مع رحمة…
ليسأله بلهفة حقيقية غلبت بروده المعهود هذه المرة:
_متى كان هذا بالضبط؟!!
فأجابه الرجل بهدوء:
_منذ ما يزيد عن عشرين عاماً!!
هنا قام عاصي من مكتبه ليتوجه نحوه أمام نظراته المتعجبة لاهتمامه بهذا الشأن…
قبل أن يقول ببطء ضاغطاً على حروف كلماته:
_تعني أن تلك الرضيعة التي ألقيتها أمام باب المسجد في حي (…….) هي ابنة جاسم الصاوي نفسه؟!!
فأومأ الرجل برأسه إيجاباً قبل أن يغمغم بارتباك:
_ما الأمر يا سيد عاصي؟!لماذا تهتمون جميعاً فجأة بهذا الأمر؟!!
لكن عاصي تجاهل سؤاله ليقترب منه أكثر ولايزال وجهه غارقاً بصدمته…
ثم سأله بترقب:
_وماذا تعرف أنت عن هذه الفتاة أيضاً؟!!
فبسط الرجل كفيه ليجيبه باستغراب:
_لا شئ…أنا فقط ظللت أحوم حول المكان بعدها لأيام بدافع الفضول…فعلمت أن امرأة من أهل الحي قررت تربيتها بعدما منحها أحدهم اسمه…ولأن الحادثة كانت غريبة في حيّ صغير كهذا فقد تناقل الناس أخبارها بكثير من الاهتمام…وأظنني سمعتهم وقتها يقولون أنهم أسموها اسماً غريباً لم أكن سمعته من قبل.
فتشنج جسد عاصي بانفعاله وهو يسأله بعصبية:
_ماذا أسموها؟!
ليجيبه الرجل بالإجابة التي كان يخشاها:
_ماسة!!
هنا جذبه عاصي من تلابيبه ليهتف بحنق:
_وما علاقة حسام هذا بها ليسأل عنها؟!!لا تقل أنك أخبرته بما أخبرتني به الآن!!!
فظهر الرعب جلياً على وجه الرجل وهو لا يدري فيما أخطأ هو بالضبط…
فدفعه عاصي بعنف ليصرخ به :
_غبي!!!غبي!!!
عدّل الرجل ثيابه وهو يغمغم بتوتر:
_ماذا هناك يا سيد عاصي؟!!ما حكاية هذه الفتاة؟!!أخبرني كي لا أكرر خطئي!!
لكن عاصي طرده بصرخة هادرة قبل أن يعاود جلوسه بانهيار على كرسي مكتبه…
ماسة؟!!
معقول؟!!
ماسة هي ابنة جاسم الصاوي نفسه؟!!
طوال هذه الأعوام وهي تعيش كلقيطة في الظلام ولا تدري أن أباها بهذا الثراء والنفوذ؟!!
مفاجأة لم يحسب حسابها أبداً…
ربما لو لم يكن رجله هو الذي أخبره بنفسه لما صدقه…
ترى ماذا ستفعل هي لو علمت عن هذا؟!!!
وفي هذا التوقيت بالذات!!!
سيشجعها هذا على قرارها الأخير بالانفصال عنه…
لا…لن تعلم!!!
لن يخبرها…
لن يسمح أن تضيع من يده…
جاسم الصاوي الذي رماها طوال هذه السنوات لا يستحق ابنة مثلها الآن!!!
لكنه لو أخفى عنها الحقيقة فسيحرمها حقها في اسم أبيها وثروته…
لا يهم…
هو سيعوضها عن كل هذا…
هو سيعوضها دعم أبيه وماله ولن يجعلها تحتاج لأحد!!!
نعم…لن يطلعها على الحقيقة أبداً …
ماسته ستبقى هنا معه ولن ينتزعها منه أحد….
لكن….ذاك الضابط يعلم!!!
يعلم الحقيقة كاملة وبتفاصيلها…
كما أن زوجته صديقتها المقربة هنا…
لهذا لن يكون من الصعب عليه أن يصل إليها…
لكن ما مصلحته من كل هذا؟!!!ولماذا يسعى خلف ماسة؟!!!
كما كان يسعى خلف طيف؟!!!
تراه ذاك الرجل الذي علم أنه تخلّى عنها ليتزوج من أخرى؟!!!
ماذا كانت حدود علاقته بها؟!!
وهل هو من دفعها للمصير الذي اختارته؟!!
نعم…نعم…المنطق يقول هذا…
هي كانت تعمل لديهم قبل رحيلها للمدينة المجاورة ويبدو أن القصة بدأت وانتهت في ذاك البيت!!!!
حسام القاضي صار لغزاً كبيراً يجب عليه حله…
خاصةً وهو يتعلق الآن بأهم امرأتين في حياته….
طيف….وماسة!!!!
=================
_أين دعاء يا أمي؟!!
هتف بها حسام وهو يدخل إلى شقة والدته باندفاع فمطت شفتيها باستياء قبل أن تغمغم بنبرة عاتبة:
_الآن تهتم؟!
عقد حاجبيه بضيق دون رد فاستغفرت الله بصوت مسموع ثم قالت باقتضاب:
_ذهبت للمقابر!
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يهتف بسخط:
_وحدها؟!!
رمقته والدته بنظرة متفحصة ثم قالت بأسف:
_أنت تعلم أن صحتي لم تعد كالسابق!!الفتاة رغبت في زيارة قبر والديها ولم أستطع أن أطلب منها انتظارك…فأنت لا تهتم بها من الأساس!!!
أشاح بوجهه في غضب للحظات قبل أن يهتف بانفعال:
_ماذا سيقول الناس عني لو رأوها تذهب هناك وحدها ؟!!
لوحت بكفها في وجهه وهي تهتف باستنكار:
_الناس!!!الناس!!!الناس!!!!دوماً لا تهتم سوى بهذا؟!!
زفر زفرة حارة وهو يعطيها ظهره دون رد….
فأردفت هي بنبرة مشتعلة:
_ما تفعله بهذه الفتاة حرام…لا يرضي رباً ولا عبداً..هل تزوجتها لترميها هنا كخرقة بالية ؟!!أنت تكاد لاتتحدث إليها منذ زواجكما …ولولا إقامتها معي هنا لأصيبت بالجنون!!!
زم شفتيه بغضب مكتوم وهو يدرك صحة حديثها لكنه قال مكابراً:
_هل اشتكتني إليكِ؟!!
أدارت كتفه نحوها لتقول بنبرة أكثر رفقاً:
_الفتاة لا تشكو يا ابني…لكن حالها يوجع ضميري…حرامٌ عليك هذا !!!
انكسرت عيناه بألم غشيهما للحظات فشعرت هي به بقلب “الأم” الذي لا يخطئ قراءة وحيدها…لتهمس له برجاء:
_أرح نفسك وامنحها فرصة جديدة للحياة…أنت تعذب روحين بذنب واحد.. أفقْ من وهمك يا ابني قبل أن تظلم نفسك وتظلمها أكثر!!!
قالتها وهي تربت على صدره برفق لتفاجأ به يرتمي بين ذراعيها ليلقي رأسه على كتفها…!!!!
دمعت عيناها وهي تضمه إليها بقوة لتنطلق منها آهة حارة قبل أن تهمس بصوت متهدج:
_هل تعلم كم مرّ على آخر مرة لجأتَ فيها لحضن أمك هكذا؟!!
كانت تعلم أنه لن يجيبها…
لن يتكلم…!!!
حسام اعتاد دفن حديث نفسه منذ زمن بعيد وليس من السهل عليه الآن أن يبوح…
لكنها تشعر به…
كل دقة ألم ينبض بها قلبه تدوي في صدرها هي قبل صدره…
عذابه عظيم…وذنبه أعظم…لكنه يسير بظهره في عكس الاتجاه…!!!!
يظن أنه يداوي جرحه وهو يضغط عليه أكثر!!!
قطع أفكارها عندما رفع رأسه أخيراً ليقبل جبينها صامتاً قبل أن يغادرها بخطوات متثاقلة نحو شقته بالأعلى…
وهناك أمام خزانة ملابسه وقف ساكناً للحظات…
قبل أن يستخرجه من مكانه ليقلبه بين أنامله برفق…
نعم…إنه “عقد الفل” الذي اصفرت اوراقه وجفت تماماً كأيام عمره بعدها…
عقد الفل الذي كانت “طيفه” تحلم أن تزين به رأسها ليلة زفافهما بعيداً عن الشكل التقليدي ل”تاج العروس”…
طالما كانت أقرب “للطبيعية” في كل تفاصيلها…
لا يذكر أنه يوماً رأى وجهها ملطخاً بأي أصباغ…
ولا حتى عرفت عيناها طعم “التكحل”!!!
كانت ترى أن زينة المرأة نوعٌ من أنواع الخداع…
وأن المرأة التي تتفنن في تزيين وجهها بأحد كفيها فهي توقع وثيقة “شعورها بالنقص” بكفها الآخر!!!!
غريبةٌ كانت هي في كل ما تفعل وما تعتقد….
لكنها كانت مميزة!!!
وأكثر ما كان يميزها بعينيه قوتها وثقتها بنفسها رغم كل ظروفها الخانقة…
وبعد كل هذا يريدون إقناعه أنها انتحرت؟!!!
لا…لا يصدق…
إلا لو كان الجرح الذي خلّفه هو بقلبها كان أكبر من كل هذه القوة التي امتلكتها…
فهو لم يكتفِ فقط بجرح جديد…بل أدمي ب”فعلته ” جرحها القديم كذلك!!!
انقطعت أفكاره عندما شعر بها تدخل من باب الغرفة لتتقدم نحوه بجمود ما عاد يفارق ملامحها…
فارتبك لثانية واحدة قبل أن يستعيد تماسكه ليعيد “عقد الفل” مكانه قبل أن يغلق باب الخزانة بعنف…
لكنها لاحظت ما كان يفعله لتدوي في رأسها جملته يوم رآها بفستان الزفاف ذاك اليوم:
_منتهى الروعة!!كما حلمنا به تماماً….لا ينقصه سوى عقد الفل على رأسكِ كما كنتِ ترغبين!!
هنا ارتسمت على شفتيها ابتسامة مريرة والأمور تتضح لديها أكثر…
“سيادة الرائد” كما يبدو لازال قلبه ينبض تحت ركام آثام ماضيه…
يختنق بدخانه الأسود الذي يمنعه الرؤية الصحيحة…
ويخنقها معه!!!
التفت نحوها أخيراً ليهتف باقتضاب دون أن ينظر إليها:
_لا خروج دون إذني فيما بعد!!
فاتسعت ابتسامتها المريرة وهي تميل رأسها لتقول بتهكم:
_لا نريد أن نشغل “سيادة الرائد” بمسائل تافهة كهذه!!
رمقها بنظرة مشتعلة ثم لوح بسبابته في وجهها هاتفاً:
_لا أحب أن أكرر كلامي مرتين…هل تفهمين؟!!
أطرقت برأسها دون رد ثم تجاوزته لتفتح خزانة ملابسها هي…
فاستفزه برودها أكثر لكنه كان يحتاج إجابة لهذا السؤال:
_هل تعرفين مكان صديقتك زوجة عاصي الرفاعي الآن بالتحديد؟!!
التفتت إليه بدهشة لتهتف بقلق:
_ماسة؟!!لماذا تسأل عنها؟!!
فارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة وهو يزيح حجابها عن رأسها برفق قبل أن تعرف أنامله طريقها لأزرار ثوبها الأسود مع كلماته الأكثر سواداً:
_وظيفتكِ هنا أن تريحيني فحسب.
ارتجف جسدها بخوف منطقي وهي تبتعد عنه لتعطيه ظهرها قائلة ببرود مصطنع:
_هي تكون عادة في المشغل في هذا الوقت من اليوم…هل أراحتك الإجابة؟!!
قالتها وهي تلتقط أحد مناماتها داكنة اللون والتي لم تعد ترتدي سواها بعد وفاة والديها…
عندما سمعت هتافه الحازم خلفها:
_أبيض!
أدارت رأسها نحوه بتساؤل متوجس لتصطدم بنظراته الحارقة قبل أن يحيط خصرها بأحد ساعديه بينما امتد كفه الحر يلتقط أحد ثياب نومها القصيرة الذي رفعه أمام وجهها هامساً بنبرة قاسية:
_ثوب نوم أبيض قصير يليق بالعروس التي تأخرت فرحتي بها!!
دمعت عيناها بعجز وقد انتابتها ارتعاشة نفور …فآخر ما كان يمكنها تقبله الآن أن يمسها هذا الرجل…
حتى ولو كان حقه!!!
لهذا ازدردت ريقها ببطء وهي تواجهه بقوة نظراتها لتهتف ببرودها الذي يستفزه أكثر:
_حسناً…حقك أن تفرح ب”العروس” لكن أخبرني أولاً…
ثم حررت نفسها من ساعده لتردف بنبرة أقوى:
_من التي ستراها بين ذراعيك الآن؟!!صورتي الخائنة التي تشبهك…أم صورة حبيبتك القديمة بعقد الفل على رأسها؟!!
اتسعت عيناه بصدمة للحظة وهو يراها تقرأ كل ما يدور برأسه واضحاً دون مواربة…
كيف علمت عن كل هذا؟!!
كيف استطاعت قراءته بهذا اليسر وكأنها سكنت قلبه وعقله؟!!
كيف استطاعت بمجرد كلمات أن تفجر كل هذه الزوابع والأعاصير في كيانه الذي كان يغلي الآن على مراجل الغضب؟!!!
كيف؟!!
لكن هذا -للأسف- لم يزده إلا حنقاً عليها لينطلق مارد قسوته بكل قوته خارج “مصباح” سيطرته !!!!
البائسة أشعلت النار بين أحطاب ماضيه ولم تدرك أنها ستحترق بها معه…
العاصفة التي تلت عبارتها لم تكن في حسبانها وهو يجذبها نحوه ليفرغ غضبه كله في لمساته التي انتهكتها بقسوة قبل أن تفيق من صدمتها على ثقل جسده فوقها على الفراش…
لتزداد أنفاسها اختناقاً وهي تشعر أن روحها تكاد تزهق بين يديه…
فتدوي جملة ماسة في رأسها عندما قالت لها:
_قصتنا متشابهة يا صديقتي …هو ذات الصراع بين شيطان ماضٍ ينشب مخالبه في قلب العمر وماسة الخير التي تجاهد للحفاظ على بريقها رغم الخدوش…والآن دورنا أن ننتظر نتيجة هذا الصراع!!
للأسف…انتصر الشيطان في هذه الجولة…
وزادت خدوش الماسة واحداً!!!
=============
_وجدتها يا جنة!!
همس بها فهد أمام وسادتها التي جلس أمامها على فراشه وكأنه يستحضر صورتها ليردف بصوت متهدج:
_وجدت شقيقتي!!هل تذكرين كم كنت أقول لكِ دوماً أنك ماستي؟!!هل تذكرين يوم قلتِ لي أن ماستي الحقيقية هنا في صدري؟!!!.هي ضميري الذي استيقظ تحت شعاع نورك؟!!واليوم وجدت شقيقتي لأجد اسمها ماذا يكون؟!!!
ثم صمت لحظة وكأنه يسمعها تبادره بالسؤال …
بوهج البندق المتألق بحماسته…وتلك الشقاوة الممتزجة بالإصرار على ملامحها…وتلك الابتسامة العذبة على شفتيها والتي كان يحلو له تذوقها ليجد فيها جنة حقيقية على هذه الأرض….
ليبتسم أخيراً مع الدمع الذي ترقرق في عينيه وهو يردف بخفوت:
_اسمها …ماسة!!
قالها ثم انحنى برأسه ليدفنه في الوسادة مردفاً بألم:
_وجدت ماسة أخرى يا جنة لكن خسرتكِ أنتِ !!!لم أرَها بعد…لكنني علمت عنها كل شئ…هل تصدقين أنها قد تعرضت لحادث اغتصاب ؟!!!نعم…أختي أنا اغتصبوها…هو حق كل فتاة آذيتها أنا …الآن أشعر وكأنما اقتص لهنّ القدر جميعاً ليوجعني في أختي ….هل تدركين شعوري الآن يا جنتي ؟!!
انتهت كلماته بآهة قوية كتمها في وسادتها قبل أن يهمس بنبرات مرتعشة:
_نعم…أنتِ تشعرين بي!!أليس كذلك؟!!أنا أشعر بحضنك يضمني…قلبي يخبرني أنك حولي…معي…رائحتك في أنفاسي…لهذا أدعهم يزعمون موتكِ كما يشاءون لكنني وحدي أعلم أنك حية…بل …أنتِ الحياة نفسها!!!
قالها والحزن يكاد يعتصر قلبه الذي كان ممزقاً بين شعورين…
فقده ل”جنته”..وعثوره “الكارثي” على شقيقته !!!
نعم…كارثي!!!
لقد علم عن كل ما أصابها طوال هذه السنوات لينتهي بها المقام هنا في نفس المدينة -للمفارقة-كزوجة لرجل أقل ما يوصف به أنه طاغية!!!
لكنه لن يتركها تحت سطوته لحظة واحدة بعد الآن…
ماسة هي قضية عمره الجديدة التي سيعيش من أجلها…
ولن يخسرها أبداً!!!
انقطعت أفكاره عندما شعر بدخول حسام للغرفة …
كان مشتتاً للغاية بعد ما حدث بينه وبين دعاء….
ولازالت خلايا جسده تئن بانفعال مكتوم…
نظراته كانت زائغة نوعاً على عكس حدتها الصقرية المعهودة لكنه استرجع طبيعته الصلبة وهو يلاحظ ما يفعله فهد الآن…
فألقى انفعالاته كلها جانباً ليستعيد قناعه القوي….
عندما تنهد بحرارة وهو يقترب منه لينتزع منه الوسادة برفق ويضعها بعيداً….
قبل أن يجلس جواره قائلاً بحزم ممتزج بإشفاقه:
_فهد…أنا أقدر شعورك تماماً…لكن أختك الآن تحتاجك…يجب أن تنفض عنك حزنك هذا لننقذها مما هي فيه!
أومأ فهد برأسه وهو يلتفت نحوه بشرود للحظات قبل أن يقوم من مكانه هاتفاً بحسم:
_هذا بالضبط ما أنتويه….سنذهب إليها الآن وننتزعها من قصر ذاك الرجل!!!
لكن حسام وقف بدوره ليقول بأسف:
_الأمر ليس بهذه البساطة…عاصي الرفاعي ليس سهلاً…كما أننا لازلنا لا نضمن رد فعل أختك نفسها!!!
انعقد حاجبا فهد بغضب وهو يهتف بنفاد صبر:
_إذن ما الخطة كما ترى؟!!
فتوهجت عيناحسام الصقريتان وهو يقول بقسوة ظاهرة:
_هذا رجلٌ لا تصلح معه خطط…كما أن أختك رسمياً زوجته….معركتنا معه لن تكون سهلة!!
هنا احتقن وجه فهد بغضبه وهو يهتف بانفعال:
_وأختي هي الأخرى ليست هينة القدر…هي ابنة جاسم الصاوي!!
رمقه حسام بنظرة طويلة قبل أن يغمغم بتردد:
_هذا ما كنت أود الحديث معك بشأنه؟!!هل …هل سيعترف والدك بنسبها؟!!
فخبط فهد بقبضته على صدره ليهتف بحدة:
_أنا سأجبره على فعلها!!حتى ولو اضطررتُ لفضحه على الملأ…
ثم أردف بمرارة صاحبت ألمه:
_حق ماسة وجنة سيبقى في رقبتي ما حييت….لن أضيعه !!
صمت حسام للحظات مفكراً….ثم قال وقد حسم أمره:
_إذن هيا بنا…دعاء أخبرتني أنها في المشغل الآن…هي فرصة مناسبة لنتحدث إليها بعيداً عن قصر الرفاعي حتى نعلم موقفها أولاً!!

وقفت في المشغل تباشر عمل الفتيات بذهن مشوش متظاهرةً بالانهماك…
حتى عملها هنا لم يعد مجدياً لتتناسى آلامها…
كل ما حولها صار غابات متشابكة من أشواك تدمي روحها…
أنفاس الهواء ذاتها تدخل صدرها مشبعة برائحة المرارة…والخسارة!!!
لقد ظنت أن “للشيطان” توبة بعد طول عصيان…لكنه أثبت لها أن شهوة السلطة والجبروت تفوق أحياناً قوة الحب …
وأن رهانها عليه -بعكس رهانه هو عليها كما يزعم دوماً- خاسرٌ …
خاسر!!!
نعم…هي التي كانت تتعلق بغيمة حب ناعمة في سماء لا تعرف حدوداً …
وهو الذي ظل راسخاً بقدميه على أرضٍ زرع فيها بذور طغيانه ووقف يراقبها حتى أنبتت حقولاً واسعة لن يحرقها الآن بلهب مشاعر لا يريد الاعتراف بها…
حبها له بعينيها كوليدٍ برئ تمنته أمه بكل جوارحها…
لكن حبه لها بعينيه مجرد “طفل خطيئة” لن يعترف به!
هي “الماسة” التي رغم خدوشها لازالت تجاهد للحفاظ على بريق الخير بفطرتها…
وهو “الشيطان” الذي أعرض بجانبه عن كل نداءات القدر الداعية للغفران غارساً مخالبه في جدران طغيانه القديم…
فكم بينهما؟!!
كم بينهما!!!
تنهدت بحرارة وهي تكتف ساعديها وقد شعرت بأنها على وشك البكاء…
فعادت لغرفتها الصغيرة في المشغل لعلها تستعيد تماسكها لكنها ما كادت تجلس على كرسيها هناك حتى لمحتهما واقفين على الباب يرمقانها بنظرات طويلة مترددة….
فاتسعت عيناها بدهشة للحظة وهي تتعرف على هوية حسام -دون مرافقه-.
لتهب واقفة مكانها مع ذاك الهاجس المفزع الذي جعلها تندفع نحو حسام هاتفة بقلق:
_ماذا هناك يا سيادة الرائد؟!!!دعاء بخير؟!!
أومأ حسام برأسه دون كلمات وقد عاودت كلماتها الجزعة تذكيره بما يحاول تناسيه…..
بينما كان فهد جواره يتفحص ملامحها بعاطفة هادرة لم تُخفِ دهشته…
هذه الفتاة لم تحمل شيئاً من ملامح جاسم الصاوي…
أي شئ!!!
وكأنه عقابٌ آخر غير مرئي من القدر ألا يرى جاسم فيها شيئاً من نفسه…
أو وكأنها إشارةٌ إلى أن هذه -الماسة- أمامه لا تعرف أي شبهٍ ب-شيطان- أبيه!!!!
ورغم أنه ظن أنه سيتلقفها بين ذراعيه فور ما يراها لكنه الآن يقف أمامها مصدوماً وكأنما تكبلت قدماه في الأرض !!!!
هل من الممكن أن تكون هذه “الغريبة” أخته؟!!!
غريبة؟!!
لا…إنه لا يشعر بها كذلك…
شئٌ ما بملامحها يشعره بالألفة…بالسكينة…
هل “يحنُّ الدم” كما يقولون؟!!!
أم أن وجهها الملائكي هو الذي منحه هذا الإحساس؟!!!
نعم…هو يعرفها…يحسها…
عيناها الفضيتان تومضان له بإشارات خاصة تجد مكانها في قلبه…
هي أخته…
نعم…الآن هو متأكدٌ من هذا تماماً …
روحه تكاد تقسم على هذا بكل يمين!!!
وأمامه كانت هي ترمقه ببعض التوجس وقد أربكتها نظراته المتفحصة الطويلة…
فتنمرت ملامحها رغم احمرار وجنتيها لتعود ببصرها نحو حسام هاتفةً بنبرة عصبية:
_هل يمكنني معرفة سبب هذه الزيارة؟!!
ابتسم فهد بحنان فاض في ملامحه رغم حزنها لكنه عجز عن قول كلمة واحدة مع هذا الطوفان الذي جاش بصدره الآن…
مهما حكى لن يستطيع وصف شعوره بها …
ظهورها الآن بالتحديد في حياته بعد رحيل جنة هو نعمة قدرية…
بل إنه يعتبرها إشارة من السماء لقبول توبته ودعوةً له للثبات عليها…
وكأن الحياة التي سلبته “جنته” بأحد كفيها…عادت تمنحه “ماسته” بالكف الآخر…
فيالرحمة القدر بالقلوب الكسيرة !!!
لكن حسام هو الذي تولى زمام الموقف وهو يقول بنبرته المسيطرة:
_لقد جئنا إليكِ في أمر هام…وقصدنا أن يكون هنا بعيداً عن عاصي الرفاعي.
ازداد التوجس في عيني ماسة وهي تقلب بصرها بينهما بتفحص…
فزفر حسام زفرة قصيرة حسم بها أمره ليشير بكفه نحو فهد أخيراً مع كلماته المقتضبة:
_فهد جاسم الصاوي…أخوكِ!!
================
_أخي!!!
أخي!!!
ظلت هذه الكلمة تدوي في أذنها بصدى غريب يوازي غرابة تلك التفاصيل التي سمعتها من حسام لتوها…بعدما أخبرها هو بما عرفه عن الحقيقة الكاملة….
هذا الرجل حقاً أخوها؟!!
هي صار لديها أخٌ…
وأبٌ…
وعائلة بأسرها كما يزعمون!!!!
هي الآن ليست ماسة اللقيطة التي طالما نهشتها ألسنة الناس وتجرعت مرارة انتقاصهم لقدرها…
بل هي ماسة جاسم الصاوي…
جاسم الصاوي!!!
ذاك الرجل المهيب الذي رأته كثيراً على شاشات التلفاز وصفحات الأخبار…
ذاك الرجل الذي يتناقل الناس اسمه الشهير في أحاديثهم اليومية عن السياسة والاقتصاد باعتباره أحد أعمدة هذا المجال…
ذاك الرجل الذي لم تحلم يوماً ولم تتوقع أن تقابله ولو بالمصادفة…
هو…والدها؟!!!
لا.. لا …لن تصدق….
إنها مزحة…
مقلبٌ سخيف…
أو لعلها مجرد مكيدة!!!!
لهذا هتفت بانفعال وهي تلوح بذراعيها:
_مهلاً يا سيادة الرائد!!!كيف أصدق هذا الذي تدعيه؟!!امنحني دليلاً واحداً!!
ثم التفتت نحو فهد لتردف بعصبية أكثر:
_وأنت لو كنت أخي حقاً كما تزعم…لماذا تذكرتني الآن؟!!وما مصلحتك في ظهوري؟!!وأين والدك الذي تزعم أنه والدي أنا الأخرى؟!!
تنهد فهد بحرارة وهو يدرك منطقية أسئلتها…
لكنه قال بود حقيقي لم تخطئه عيناها:
_أبي لا يزال لا يعلم أنني وجدتك…لم أخبره بعد…
ثم اقترب منها خطوة ليردف بعاطفة حقيقية:
_وأما عن مصلحتي في ظهورك فهي أكبر كثيراً مما تتخيلين…أنا أحتاجكِ حقاً الآن…
ثم تقدم خطوة أخرى ليردف بصوت متهدج:
_أحتاج أختي!!!
ورغم أن عينيها كانتا تتفحصان ملامحه بجوع احتياجها العاطفي هي الأخرى لكنها كانت لا تزال مشوشة غارقةً في ارتباكها…
آلاف التساؤلات تجوب رأسها بازدحام يمنعها التركيز…
ومع أن ما يقولانه الآن لم يخالف توقعاتها التي طالما رسمها خيالها منذ صغرها عن حقيقة نسبها لأناسٍ رموها خشية الفضيحة…
لكن الواقع أنها إلى الآن …لا تصدِّق!!!
لهذا ابتعدت عنه قليلاً لتهتف بحدة :
_ابتعد…لا تقترب مني هكذا…أنا…
_ماذا تفعلان هنا؟!!
كانت هذه صيحته الهادرة التي قطعت عبارتها وهو يدخل إلى الغرفة ليغلق بابها خلفه بعنف….
فاندفعت نحوه لتتشبث بذراعه دون وعي هاتفة :
_عاصي!!!
بكل لهفتها نطقتها…
بكل احتياجها وعاطفتها ورغبتها الآن في الشعور بالأمان…
بكل إحساسها أنه هو …هو فقط من منحها هذا الشعور بصدق…
هو فقط من تحتاجه الآن!!!
وبرغم كل مشاعرها السلبية الأخيرة نحوه…
لكنها الآن كانت تتعلق به بكل قوتها وجسدها كله يرتعش بانفعاله مع كلماتها المبعثرة:
_هما …يزعمان أنني…أنهما…يعرفان…
_الحقيقة!!!
هتف بها حسام مقاطعاً كلماتها وعيناه الصقريتان تناطحان “غابات الزيتون” بعداء واضح …
لقد آن الأوان لكشف الأوراق كلها….
بل وربما للحساب أيضاً!!!
ورغم اشتعال ملامحه بغضبه لكن صوت عاصي خرج بارداً كالثلج:
_أي حقيقة يا “حضرة الضابط”؟!!
تقدم منه حسام خطوة وقد فاضت عيناه بقسوة مشتعلة مع كلماته البطيئة الإيقاع:
_الحقيقة التي ستقلب موازينك يا سيد عاصي…حقيقة نسب زوجتك لجاسم الصاوي…وحقيقة مقتل طيف وليس انتحارها!!!
كز عاصي على أسنانه فازدادت ماسة تشبثاً بذراعه وهي تغمغم بشحوب:
_طيف!!!وما علاقة عاصي بطيف؟!!
لم ينظر إليها حسام…ولم يتعجب من معرفتها عن أمر طيف فهو يعلم عن صداقتها المتينة بدعاء…
بل حافظ على ثبات نظراته القاسية نحو عاصي وهو يجيبها بحسم:
_أخته التي قتلها!!!!
ضم عاصي قبضته متحفزاً مع شهقة ماسة الملتاعة وهي تحاول جمع كل الخيوط في رأسها الآن…
طيف حبيبة حسام الراحلة هي شقيقة عاصي التي حكى لها عنها…
دينه القديم!!!
لا…هو لم يقتلها!!!
حسام هذا إما مفترٍ أو واهم!!!!
لهذا تشبثت بذراع عاصي أكثر وهي تواجه حسام لتهتف مدافعة:
_عاصي لم يقتل أخته….هي انتحرت!!!
فالتوت شفتا حسام بشبه ابتسامة قاسية وهو يقول بازدراء:
_هذا ما حاول إقناع الجميع به كي يخفي جريمته…بداية من رسالتها التي أرسلتها لهاتفي وانتهاءً بالبيت الذي احترق عن آخره بيد رجاله.
وأمامهما وقفت ماسة غارقة بحيرتها وقد بدا لها كلاهما صادقاً واثقاً…
فأين الحقيقة ؟!!
هل انتحرت طيف بعد تخلّي حسام عنها كما كانت تظن؟!!
أم أن عاصي حقاً هو من قتلها؟!!!
لا…لا مستحيل …عاصي لن يفعلها أبداً!!!!
بينما اشتعلت عينا عاصي ببريق عاصف وهو يسأله بحدة:
_أي رسالة؟!!
فتناول حسام هاتفه من جيبه ليقلب فيه بأنامله قليلاً قبل أن يرفعه أمام عيني عاصي اللتين ازداد توهجهما وهو يقرأ الكلمات…
قبل أن يهتف بغضب:
_إذن كنت أنت…أنت من وعدها بالزواج ثم تخلى عنها ؟!!
فاتسعت ابتسامة حسام الساخرة وهو يعيد الهاتف لجيبه قائلاً بتهكم:
_عذراً لو لم أكن ب”شهامة” والدها الذي رماها طفلة أو أخيها الذي قتلها عندما كبرت!!!
هنا انتزع عاصي مسدسه بسرعة من جيب سترته لكن حسام لم يكن أقل منه تحفزاً وهو يفعل المثل…
لينتهي المشهد بهما وكلاهما يصوب مسدسه إلى صدر الآخر!!!!!
العيون الآن اشتعلت جميعها برغبة حقيقية في الثأر لما ظن كل منهما أنه حقه…
لتأتي شهقة ماسة الخائفة وتقطع هذا الجو المشحون بالعداء عندما هزت ذراع عاصي الذي تشبثت به لتهتف بجزع:
_بالله عليكما توقفا!!!
لكن كليهما كان لايزال يترقب الآخر بتحفز وكأنه ينتظر مجرد بادرة ليطلق الزناد…
لتأتي عبارة فهد حاسمة للموقف أخيراً وقد وجد الوقت المناسب لتدخله في هذه العاصفة….
عندما جذب حسام نحوه بقوة:
_حسام!!هو سينال عقابه حتماً…لكن ليس بهذه الطريقة…
ثم التفت نحو عاصي ليهتف بصرامة :
_أظنك الآن تعرف من أنا !!!
ثم لوح بسبابته في وجهه مردفاً بنبرة عدائية واضحة:
_أختي لن تبقى على ذمة رجل مثلك بعد الآن…سأخلصها من جحيمك هذا ولو كان الثمن عمري كله!!
لكن عاصي رمقه عاصي بنظرة طويلة عجز فهد عن قراءة معانيها التي تناقضت بين تهديد وخوف…
وقوة وضعف…
وتسلط ورجاء…
ورغم العجز الذي ملأ روحه الآن لكنه هتف أخيراً بحزم واثق:
_أختك نفسها لن ترضى بأن تفارقني!!
تجمدت ماسة مكانها وهي تشعر بالعيون كلها تتسلط عليها…
لكن كلمة واحدة كانت تدوي في رأسها الآن…
أختك!!!
عاصي قالها…أختك!!!
عاصي لم يبدُ مندهشاً بهذا الخبر الذي زلزلها هي وكأنه …كان يعلم!!!
كان يعلم؟!!!
لهذا رفعت عينيها المصدومتين إليه وهي تغمغم بذهول:
_أخته؟!!إذن هو صادق؟!!
رفع عاصي رأسه لأعلى دون رد سوى زفرة مشتعلة…
فتراخى ذراعها المتشبث به لتردف بألم غلب دهشتها:
_وأنت…كنت تعلم؟!!
التفت نحوها بحدة ليهتف بانفعال:
_لم أعرف إلا منذ ساعات!!
فابتسم حسام بسخرية ليهتف بازدراء وكأنه فقط يخبره أنه يراقبه:
_صدقيه يا سيدتي!!!كلبه الوفي سرحان لم يخبره بالحقيقة إلا صباحاً!!
هنا جذبه عاصي من ياقة قميصه ليهتف بغضب غلب حذره المعهود:
_الزم حدودك يا هذا….بدلتك الرسمية هذه لن تحميك من بطش عاصي الرفاعي وأظنك تعلم هذا…فلا تتمادَ!!
لكن حسام دفعه بقوة ليهتف بحدة هو الآخر:
_بطش عاصي الرفاعي هذا مضى عهده!!!نهايتك اقتربت كثيراً ويسعدني أن تكون على يدي!!!
وأمامهما كانت ماسة تراقبهما بذهول…
ما الذي يحدث؟!!
لقد ظنت أنها رأت أسوأ وجوه عاصي الرفاعي لكن الواضح أن الأسوأ لم يأتِ بعد!!!
ما كل هذا السواد الذي أحاط بلوحتها فجأة…
حرق وقتل وإخفاء نسب؟!!!
هل هذا هو “أمان” عاصي الرفاعي الذي كانت تنشده؟!!!
ووسط كل هذا وجدت نفسها رغماً عنها قد تعلقت عيناها بعيني فهد الذي كان يراقبها هو الآخر بتفحص مفعمٍ بعاطفته….
لتمنحها عيناه الحنونتان وعداً بالمؤازرة خاصة مع هتافه القوي بعدها:
_تعاليْ معنا يا ماسة!!بالله عليكِ لا تبقيْ لحظة بعد الآن مع هذا الرجل!!
لكن عاصي جذبها من ذراعها بقوة ليلصقها به هاتفاً بلهجته المسيطرة:
_هل تتصور أنك ستخرج بزوجة عاصي الرفاعي من هنا دون إذنه؟!!
فاقترب منهما فهد ليجذب ذراعها الآخر هاتفاً بدوره:
_لا تنسَ أنها ابنة جاسم الصاوي أيضاً يا هذا!!!
هنا نقلت ماسة بصرها بينهما للحظات بذهول لاتزال عالقة به…
كلاهما الآن يتشاجر لإبقائها جواره!!!!
“فهد” الذي ظهر من العدم فجأة ليمنحها “حقيقة” الأخ والأب والعائلة والسند…
و”عاصي”…
عاصي الذي هو بعين “قلبها” كل ما سبق…
وبعين “عقلها” لا شئ مما سبق!!!
لهذا أغمضت عينيها بقوة تخفي عاصفة شعورها المضطرب الآن…..
قبل أن تحسم أمرها لتقول أخيراً بحزم:
_أنا سأبقى هنا!
ارتخت ملامح عاصي المتشنجة أخيراً مع تنهيدة ارتياح كادت تغادر شفتيه رغماً عنه….
بينما عقد حسام حاجبيه بضيق وهو يشيح بوجهه…
أما فهد فقد وقف يرقبها بنظرات متفحصة حنون لم تخلُ من أسف وكأنه يحاول قراءة سبب تصرفها هذا بعد ما عرفته…
فنظرت إليه بتشتت ناقض عبارتها القوية:
_قل لأبيك الذي رمى ابنته طوال هذا السنوات…إن كان يريدني فليأتيني هنا!!!
===============
جلست في غرفة الحديقة المستترة على الأريكة تحتضن ركبتيها المرفوعتين لتشخص ببصرها في الفراغ…
وأفكارها العاصفة تزيد تصدع بنيان روحها الكسير…
تحاول فقط استيعاب بعض الحقائق التي عرفتها…
هي ليست لقيطة…
هي ابنة رجل مرموق ألقاها على قارعة الطريق باعتبارها خطأ سهو لا يستحق عناء النظر خلفه…
والآن يريد -مثلاً- إصلاح هذا الخطإ في أواخر عمره؟!!!!
وكأنّ العفو يُشتَرى بضغطة زر!!!

انقطعت أفكارها عندما شعرت به يجلس جوارها صامتاً للحظات…
قبل أن يقول بنبرته التي امتزج فيها حنانه بتسلطه:
_كنت أعلم أنك ستختارين البقاء معي بإرادتك.
لم تلتفت نحوه وهي تقوم من جواره لتسير بضع خطوات معطيةً إياه ظهرها قبل أن تقول ببرود لم يخفِ انكسارها:
_أنا لم أختر البقاء معك…أنا اخترت البقاء هنا…هل تدرك الفارق؟!!
انعقد حاجباه بضيق وهو يقوم بدوره ليتوجه نحوها قبل أن يدير كتفيها نحوه ليلتقط هدير أمواجها التي كانت تزأر بقوة الآن مع استطرادها:
_لا أظننا سنكون “معاً” بعد الآن…حتى لو بقيت أنا هنا!!
تنهد بحرارة وهو يشيح بوجهه للحظات قبل أن يعاود اعتقال نظراتها بنظراته التي فاضت بمرارتها مع همسه الأجش:
_هل تصدقين أنني قتلتها؟!!
أغمضت عينيها للحظات دون رد كاد فيها يذوب ترقباً لردها على هذا السؤال بالذات….
قبل أن يفاجأ بها تضع كفها على صدره في موضع القلب تماماً…
لتهمس بيقين دون أن تفتح عينيها:
_لا…عاصي الرفاعي لن يقتل أخته التي جُلد على ظهره لأجل الدفاع عنها!
التوت شفتاه ب-شبه- ابتسامة وهو يحتضن كفها على صدره بينما فتحت هي عينيها وهي تردف بشرود:
_لكنك كذبتَ عليّ ليلة أخبرتني أنها انتحرت!!
عقد حاجبيه بتفحص وهو يتأمل ملامحها بعمق عندما التفتت إليه من شرودها لتردف بثقة:
_لازالت على قيد الحياة…رجلك ذاك دبر الأمر ليوهم الجميع بانتحارها بجثة متفحمة ليست لها…بينما اخفيتها أنت في مكانٍ ما كي لا تواجه الناس بخطيئة أبيك القديمة…خشيتَ علي اسمك وسط الناس أن تُلصق به “ابنة حرام” كما يقولون…
ثم ارتسمت ابتسامة مريرة على شفتيها وهي تهمس بتهكم غارق بالأسف:
_عاصي الرفاعي الذي أنكر على أبيه فعلته وجد نفسه يتصرف بنفس الطريقة عندما صار مكانه…ياللمفارقة!!!
ضمها إليه بقوة وهو يخفي وجهه في خصلات شعرها دون رد…
لم يعد يتعجب قدرة ماسته على اختراق أسراره…
وإن كان لايزال ينبهر بهذا كل مرة!!!!
بينما دمعت عيناها وهي تهمس بنفس التهكم المرير:
_أرأيتَ كم صرتُ أجيد قراءة صمتك؟!!ماهرةٌ أنا …صحيح؟!!
لم يجبها سوى بأن زاد من قوة ضمه لها وكأنه عجز عن مواجهتها بعينيه في هذه اللحظة…
لو تعلم كم هي محقةٌ في قولها…
نعم…عاصي الذي طالما كره أفعال أبيه وجد نفسه صورةً منه عندما وضعته الظروف في نفس الموضع…
لينتهي به الأمر كأبيه تماماً…
مسخٌ مشوه لا يكاد يبصر سوى حدود سلطانه الذي يبسطه بالقوة والبطش…
ليدهس في طريقه كل ما يعوقه!!!
لقد أحسنت ماسته استنتاج ما حدث بالضبط…
هو لم يكن ليقتل أخته أبداً…
لكنه كذلك عجز عن الاعتراف بها…
منعته أنفته أن يمنحها اسم أبيه رغم يقينه من نسبها…ليكتفي فقط بمنحها نصيبها الشرعي من ماله سراً!!!
نعم…هذه كانت الصفقة التي رضي كلاهما بها بعدما عثر عليها أخيراً…
لكنه لم يكن يعلم عن تلك الرسالة التي أرسلتها لحسام…
هي لم تخبره عن هوية ذاك الرجل الذي تخلى عنها بل اكتفت بمنحه معلومات مقتضبة لتبرر له -هي الأخرى-رغبتها في الاختفاء تماماً لتبدأ من جديد في مكان آخر…
ثم انقطعت عنه أخبارها تماماً بعدها…!!!
نعم..”الصغيرة”ردت له صفعته برفضه الاعتراف بنسبها لتستغني هي الأخرى عن مجرد معرفته!!
ورغم أنه حاول كثيراً بعدها أن يعثر عليها ثانيةً أو يعرف عنها أي خبر لكنه فشل…
“الصغيرة” أجادت الاختباء من جديد دونما أي أثر هذه المرة!!!
ورغم أن هذا كان من المفترض أن يشعره ب-ببعض- الارتياح لغيابها ب-ماضيها- عن حدود سلطانه…
لكنه -على العكس- كان يشعر بوخز ضميره كلما تذكر أنه لم يساندها كما كان ينبغي أن يفعل…
اكتفى بحفنة من المال ألقاها في وجهها ك”متسولة” وهي التي كانت تستحق أن تعيش مرفوعة الرأس باسمها الحقيقي في بلدها وسط أهلها!!!
لهذا لم يكن عجيباً أن يساعد ماسة بكل قوته عندما ظهرت فجأة في حياته…
لعله يكفر بهذا عن ذنبه القديم مع من كانت يوماً في مثل ظروفها!!!
وبينما كان هو غارقاً في سواد ماضيه الذي يوشك أن يلطخ حاضره…
كانت ماسة أمامه -تكاد- تسمع صوت أفكاره…
نعم…لقد تعلمت أن تسمع “صمت” رجلٍ توقن أن كلام الشفاه ليس معترفاً به كلغة عنده!!
وأن الطريق إلى قلبه مستترٌ خلف غابات متشابكة من أسرار يكتمها ويرفض البوح بها لأحد…
لهذا رفعت عينيها إليه أخيراً لتدفعه برفق هامسة بأسى:
_والآن…ماذا بعد؟!!
توهجت شموسه الزيتونية بدفء عاطفته ليغمغم بعد صمت قصير:
_ابقيْ معي يا ماسة…هذا الرجل لا يستحق أن تكون له ابنة مثلك…
أطرقت برأسها للحظات فرفع ذقنها إليه ليردف بنبرة أكثر حزماً:
_يمكنكِ تجاهل كل ما سمعتِه اليوم!!
ابتسمت بسخرية مريرة لتهمس بعدها:
_بهذه البساطة؟!!
فقربها إليه أكثر ليحتكر نظراتها بين غابات زيتونه التي عادت الآن لاشتعالها وهو يقول بانفعال غريب على ثباته المعهود:
_ماذا تريدين منه؟!!أي شئٍ سيمنحه لكِ أكثر مما فعلت أنا؟!!
لكنها أسندت جبينها على صدره بتعب حقيقي وهي تجيبه بنبرة خائبة:
_لا شئ!!!كلاكما تخلى عني في أشد أوقاتي احتياجاً إليه!!!
ابتلع غصة حلقه وهو يشعر بصدق حديثها…
لكنه كان عاجزاً عن الرد…
كبرياء عناده منعه الاعتراف لنفسه- قبل أن يعترف لها- أنه حقاً خذلها!!!
بينما رفعت هي إليه رأسها بعد دقيقة صمت تمالكت فيها قوتها من جديد لتقول بصلابة لا تدعيها:
_أنا تعلمت درسي جيداً…من اليوم لن أفرط في حقٍ هو لي…لو لم يعترف بي فسأجبره على فعلها…سأنتزع اسماً هو حقي ولن أتنازل عنه أبداً!!!
اختلط الإعجاب بالتردد في نظراته التي اكتسبت الآن شيئاً من الغضب عندما أردفت هي بصوت متهدج هذه المرة:
_كنت تتحدث عن “البديل”؟!!أنا الآن وجدته!!!
خفض بصره عنها لراحتيها اللتين استقرتا على صدره …
حيث كانت أناملها تتشبث بقميصه- دون وعي منها -لتناقض همسها الشارد بعدها :
_الآن يمكنني أخذ قراري دون ضغوط!!
لكنه شدد ضغط ساعديه على خصرها ليهمس بقسوة عاودت احتلال نبراته:
_تظنين أن أحداً سينتزع من عاصي الرفاعي امرأته دون رغبته؟!!
أفاقت من شرودها لتنتبه لأناملها المتشبثة به فسحبتها ببطء لتبتعد عنه بجسدها قبل أن تهمس بخفوت:
_لن تجبرني على البقاء يا عاصي…لن تكرر خطأك القديم…ستخسرني طواعية هذه المرة…
ثم دمعت عيناها وهي تشعر بمرارة الخسارة في حلقها لتردف :
_سأكون أحد قرابينك لذاك الشيطان الذي سمحت له بتملكك.
هنا اشتعلت عيناه ببريق غضب لم يثبت صحة نبوءتها…
ولم يُنفِها كذلك…!!!
ليغزوه طوفانٌ من حيرة تضافرت مع عجزه…
ترى سيتغلب على شيطان نفسه هذه المرة؟!!
أم تكون ماسته كما قالت -لتوها- قرباناً لشيطان؟!!
============
عاد من الخارج بعد شروق الشمس وقد تعمد ألا يعود إليها هذه الليلة فهو لم يكن قادراً على مواجهتها…
لا يريد الاعتراف بأن ضميره يوخزه على ما فعله بها…
لكنها الحقيقة!!!
رغم نفوره الدائم منها أو بالأدق من -صورتها المشوهة- التي رسمها بعين خياله …
لازال صوت نشيجها الباكي يطنّ في أذنيه بدويّ رهيب بعدما نالها بأسوأ طريقة قد ينال بها رجلٌ زوجته!!!
هي استفزت شيطان غضبه وهو استجاب دونما رادع من شفقة أو تعاطف مع امرأة فقدت والديها وسندها ولم يعد لها سواه…
تصرف معها كنذل حقير أبعد ما يكون عن الرجولة!!!
لكن عزاءه أنه لم يكن في وعيه عندما فعلها…
ذاك الغضب الهائج الذي تملكه وقتها لم يجعله يبصر بها سوى متنفساً لبركان صدره…!!!
زفر بقوة وهو يشعر بالسخط على نفسه وعلى كل شئ…
موقفه الأخير مع دعاء والذي تلاه مواجهته الحامية مع عاصي الرفاعي استنزفت رصيد تماسكه كله…
ليجد نفسه الآن في أضعف حالاته…
ولولا كبرياؤه لفضّل الآن أن يأوي لحضن أمه -كطفلٍ ضال -لعله يستعيد شعوراً بالسكينة فارقه لوقتٍ طويل…
ويبدو أنه سيفتقده لوقت أطول!!!
قادته خطواته المتثاقلة لغرفة نومهما وهو يتمنى سراً أن يجدها نائمةً في هذا التوقيت…
ليتنفس الصعداء بكثير من الارتياح وهو يجد الغرفة خالية منها…
لاريب أنها فضلت قضاء ليلتها عند والدته بعد ما حدث بينهما…
لكن هل عساها تخبرها بما كان؟!!
لا…لا يظنها قد تفعلها…
أو من يدري …ربما!!!!
انعقد حاجبيه بدهشة وهذا الخاطر الأخير بالذات يهيج عقله أكثر…
ما الذي يعرفه عن دعاء من الأساس كي يمكنه التكهن بتصرفاتها؟!!!
هو -إلى الآن- لم يستطع…بل ولم يهتم بها “هي”!!!
لازالت صورتها بعينيه مجرد انعكاس في مرايا ماضيه…
ويبدو أنها لن تتجاوز هذا أبداً!!!
وبهذا الإدراك الأخير أوقف نزيف أفكاره ليبدل ملابسه بإرهاق قبل أن يتوجه نحو فراشه ليزيح أغطيته…
لكنه ما كاد يفعلها حتى فوجئ بورقتها على وسادته :
_أنتظرك على سطح المنزل كي تتم انتقامك كما ينبغي!!!
انعقد حاجباه بدهشة للحظة قبل أن يندفع عدواً للخارج وقلبه يخفق بصدره بجنون …
ما الذي تعنيه بكلماتها؟!!!
يالله!!!
هل هذا ما تنتويه حقاً؟!!
الانتحار؟!!
لا…ليس ثانيةً!!!
هو لم يبرأ بعد من ذنبه القديم حتى تباغته بجرح آخر…!!!!
كان يقطع الدرجات وثباً ولأول مرة منذ عهد بعيد يلهج لسانه بالدعاء…
حتى وصل أخيراً ليجدها واقفةً على بعد خطوات من سور السطح القصير عاقدةً ساعديها أمام صدرها وكأنها تنتظره…
اندفع نحوها بغضب فضحته ملامحه قبل هتافه الساخط بين أنفاسه اللاهثة الآن:
_ماذا تفعلين هنا؟!! ألن تكفي عن حماقاتك؟!!
لكنها عادت بظهرها إلى الوراء لتجلس على حافة السور القصير قبل أن ترفع كفيها أمامها هاتفة بجمود أخافه أكثر:
_لا تقترب…خطوة واحدة أخرى وسأسلم نفسي لسقوط النهاية!!!
وقف مكانه عاجزاً وهو يتلفت حوله بارتباك…
فابتسمت بسخرية سوداء وهي تقول بنبرة ميتة الإحساس:
_هل تذكر حديثنا عن امرأة أنت محطتها الأخيرة؟!!
ازدرد ريقه الجاف بصعوبة وهو يقبض أنامله المتشنجة انفعالاً…
هي لا تبدو بحالتها الطبيعية وهو يخاف أن يثيرها بأي كلمة أو حركة فتنفذ تهديدها…
البيت مكون من خمس طوابق وسقوطها من هذا الارتفاع سيكون كارثياً!!!
لهذا تمالك ثباته الانفعالي باقتدار وهو يرفع كفيه أمامه مهدئاً ليهتف ببعض الرفق:
_حسناً…سأنفذ لكِ ما تريدين!!!
هزت رأسها قليلاً لتتسع ابتسامتها الذبيحة مع سخريتها السوداء:
_أنا لم أعد أريد شيئاً…أنت الذي تريد!!!
اكتست ملامحه بخوف حقيقي وهو لا يدري كيف يتصرف…
بينما أردفت هي بشرود كسير:
_يوماً ما أنا كنت أريد…كنت أريد فقط أن أعيش كأي فتاة عادية…كنت أريد أن أقابل “الأمير الوسيم” الذي يراقصني في حفل كبير لا تلعنني فيه نظرات الناس بسبب مرضي…كنت أريد فقط ألا أُجلَد بسياطهم لأجل قدرٍ لم أختره ولم تكن لي يدٌ فيه…كنت أريد أن أكمل الحلم لآخره…بيتٌ وزوجٌ وأطفالٌ لا يرثون مرضي …كنت أريد كل هذا لأكتشف الآن أنني كنتُ شديدة الطمع…لهذا لم أعد أريد شيئاً…صدقاً…لم أعد أريد!!
أغمض عينيه بتأثرٍ حقيقي وقد عجز عن الرد…
فصمتت هي للحظات قبل أن تفيق من شرودها لتسأله بلهجتها التي عادت إليها سخريتها المريرة:
_والآن دورك لتخبرني…ماذا تريد أنت؟!!
فتح عينيه ليرمقها بنظرة طويلة عاجزة…
سؤالها يبدو يسيراً…
لكنه بعينيه شديد العسر…
هو لا يعلم ماذا يريد منها الآن بالضبط؟!!
ربما في البداية كان يعلم…مجرد زوجة مناسبة لظروفه!!
لكن الأمور الآن تشابكت…
كل الصور تداخلت بعينيه فما عاد يملك رؤية صحيحة…
هي “دعاء”…
بصورتها الانتهازية التي تشبهه عندما باعت حب زميلها الفقير لأجل الفرصة الأفضل…؟!!!
أم “دعاء”….
بصورتها القوية المكافحة التي تشبه صورة طيفه الراحل…؟!!!
أم “دعاء”…
تلك الفتاة البسيطة التي ابتليت بمرضها وشاء القدر أن تشاركه طريقه؟!!!
هو لا يعرف…وربما لو عرف لأدرك -بالضبط-ماذا يريد منها!!!!!
لكنها قطعت أفكاره لتجيبه بنفس النبرة الذبيحة:
_دعني أنا أخبرك…أنت تراني صورةً من نفسك الخائنة التي دفعت حبيبتك للانتحار…تنتقم مني الانتقام الذي عجزت عن أن تفعله بنفسك…وكأنك تريد دفعي أنا لنفس مصيرها…
ورغم يقينه من بعض الصحة في ما تقول لكنه هتف بانفعال:
_كل هذه أوهامٌ برأسكِ …عودي لعقلكِ فلا مزاح في هذا الأمر!
فردت ذراعيها جوارها مغمضةً عينيها وهي تشعر أن الوجود كله اختفى فما عاد هناك سواهما في هذا الفضاء الفسيح وهي تقول بنبرة غريبة وكأنها حقاً ليست في وعيها:
_الأوهام برأسك أنت …لكنني سأريحك كما زعمتَ أنتَ أنها وظيفتي الوحيدة هنا…
ثم فتحت عينيها لتردف بخفوت:
_لن تنتهي لعبتنا إلا هكذا…سأريحك …وأريح نفسي!!
اقترب منها بحذر وهو يقول مهدئاً:
_دعاء…قد أكون أخطأتُ بالتصرف معكِ فيما مضى…لكن يمكننا فتح صفحة جديدة.
لكنها ابتسمت بمرارة حقيقية وصوت الريح الآن يعوي في أذنيها ليذكرها بكل خسائر ماضيها …
صوت الريح الذي اختلط الآن بضحكات رفيقاتها الساخرة على مرضها عندما كُنّ صغاراً…
أحاديث والديها التي كانت تخدش أذنها عن “الحمل الثقيل” الذي يريدان التخلص منه…
كلام الجيران المتهكم عن “الدمية المعيبة” التي لا يحق لها الحلم بالسعادة…
وداعها القصير ل”معتصم” بعد اعتراف “عقيم” بحب وقف عاجزاً أمام كلمة القدر…
فاحتضنت جسدها بذراعيها لتعود برأسها للخلف مع كلماتها:
_هل هذا ما تريده حقاً؟!!صدقني لا…أنت تريد قرباناً رخيصاً لذنب قديم…وأنا سأمنحك إياه…
قبل أن يتغير صوتها لنبرة عالية وهي تهتف بانفعال هائج زاد يقينه أنها ليست بحالة طبيعية:
_انظر إليّ جيداً…أنا الآن أنت…بطمعي وأنانيتي قتلتُ “طيف”… بتخاذلي وضعفي ضيعتُّها…صورة بشعة للخيانة لا تستحق الحياة…
ثم أغمضت عينيها بقوة وهي تعود للخلف أكثر مستسلمة للثقل الذي يجذبها لأسفل لتردف بنبرة جديدة فقدت الحياة تماماً هذه المرة:
_تقدم يا حسام…خطوة خطوة …وعند آخر خطوة ستحقق انتقامك الكامل…ونرتاح معاً!!!
كانت كلماتها تطعنه بنصال الحقيقة وهو ينظر إليها مصدوماً…
جزءٌ بداخله يريد العدو لإنقاذها بسرعة …
لضمها بين ذراعيه وتقبيل رأسها باعتذار تستحقه بعد كل ما فعله بها…
لكن جزءاً آخر كان يستريح لرؤيتها هكذا…
يترقب سقوطها بلهفة منتشية …
يريد أن يحقق بها انتقاماً عجز أن يمضيه في نفسه…!!!!
أما هي فكانت تشعر بخطواته البطيئة المتقدمة نحوها تحرقها…
وكأنه يدفعها للسقوط للخلف أكثر…
كانت ترى الصراع على وجهه رغم عينيها المغمضتين بين وجه متشفٍ يرتاح لهذه النهاية…
ووجه آخر لازال يحمل بقايا من ضمير…
لكنها كانت تعود للخلف أكثر وهي تشعر بصوت الريح حولها يزداد صخباً مع هدير ذكرياتها العاصف….
وكأنه يعلن عن النهاية…
بطيئة …
قاسية…
وغير عادلة…
لكن من قال أن الأرض بيت العدل؟!!
العدل هناك في السماء عندما ينصب الميزان أمام الخلائق فتنظر نفسٌ ما قدمت وما أخرت!!!
لتنتهي فكرتها بشعورها المفاجئ بانقباض قلبها مع ذراعيه اللذين جذباها بقوة ….
قبل أن تسقط بثقل جسدها لكن ليس للخلف بل للأمام !!!!
فينتهي بها المقام على صدره مع سقوطهما معاً على أرضية السطح!!!
ظلت مغمضةً عينيها للحظات طويلة وهي تلهث بسرعة مع ارتجاف جسدها بانفعاله…
لكن تمتمته شديدة الخفوت وسط لهاثه السريع اخترقت أذنها:
_الحمد لله!
فرفعت رأسها أخيراً نحوه بترقب وقد امتزجت الآن أنفاسهما اللاهثة مع نظراتهما المفعمة بمشاعرها…
لكن عينيه الآن كانتا تبرقان ببريق مختلف…
اختفت نظرتهما الصقرية لتعود لهما لمعتهما القديمة وإن شابها حزنٌ خالص هذه المرة…
حزنٌ مسّ قلبها بصدقه ربما لأنها صادفت في صدرها مثله..!!!
مع دقات قلبه تحت كفيها المستندين على صدره والتي كانت تزأر بجنون دفعها للابتعاد…
لكنها ما كادت ترفع جسدها عنه حتى عاود جذب رأسها لصدره بقوة متشبثاً بها بين ذراعيه دون أن يهمس بكلمة واحدة….
ومع شدة انفعالها الذي كاد يشق رأسها بهديره استسلمت-مرغمةً- لدفء شعورها -المستحدث- بين ذراعيه هذه المرة…
ليختفي صوت الريح تدريجياً من قلبها قبل أذنيها…
فيسمح لزقزقة العصافير حولها في هذا الوقت من الصباح أن يداعب خلاياها بدلاً منه…
وكأنها تعلن لها منذ هذه الساعة بداية جديدة مع هذا الرجل…
أو ربما…مجرد نهاية لهذه الجولة!!!
=================

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى