رواية ماسة وشيطان الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم نرمين نحمد الله
رواية ماسة وشيطان الجزء الخامس والعشرون
رواية ماسة وشيطان البارت الخامس والعشرون
رواية ماسة وشيطان الحلقة الخامسة والعشرون
_هل جننتِ يا دعاء؟!!لا أصدق أنك أقدمتِ على فعلٍ كهذا؟!!
هتفت بها ماسة في استنكار لم يخفِ شفقتها على صديقتها التي روت لها تفاصيل ما حدث مع حسام كاملة وهي تجلس معها في المشغل…
فغمغمت دعاء بثقة رغم شرودها وهي تستعيد بدورها ذكرى ما حدث:
_كنت أعلم أنه لن يتركني أسقط…رغم كل مساوئه كنت أراهن على بقايا قلب لازال ينبض بصدره!!
اتسعت عينا ماسة بدهشة للحظة قبل أن تبتسم لتهتف في عدم تصديق:
_إذن…كنتِ تخدعينه؟!!
تنهدت دعاء بحرارة لتفيق أخيراً من شرودها وهي تلتفت نحو ماسة قائلة بأسى:
_ليس خداعاً!!!هو كان يحتاج صدمة كهذه ليفيق من أوهامه التي تغذي قسوته عليّ وعلى نفسه قبلي…أنا فقط أردت أن أريه الصورة البشعة في مرآة الانتقام كيف تبدو…
ثم أطرقت برأسها لتردف بخفوت:
_وهو لم يخيب ظني فيه…على الأقل في هذه النقطة .
ربتت ماسة على كتفها في مؤازرة …فرفعت دعاء إليها رأسها بابتسامة شاحبة لتقول بنبرة قوية:
_لقد تذكرت عبارتك يوم قلتِ لي أن قوتي أنا هي ما ستنقذنا معاً…لهذا انتشلت نفسي من شعوري بالضعف والإهانة بعد ما فعله بي لأنفذ هذه الخطة.
هزت ماسة رأسها وهي تسألها باهتمام:
_والنتيجة؟!!
اتسعت ابتسامة دعاء الشاحبة وهي تجيبها بانطلاق:
_كنت على حق في شعوري به…هو ليس بهذه القسوة التي يتعمدها …كان فقط يحتاج للتغلب على شيطان انتقامه مني ومن نفسه قبلي بسبب شعوره بالذنب.
تفرست ماسة في ملامحها وهي تفكر بحيرة….
هل من الصواب أن تخبر دعاء الآن بأن طيف لاتزال على قيد الحياة؟!!
أم أن الأفضل أن يبقى الأمر سراً؟!!!
ليس فقط لأنها وعدت عاصي بهذا …
لكن للحفاظ على علاقة صديقتها بزوجها والتي تشعر أنها بدأت تتخذ منحنيً جديداً مشرقاً ….
وتخشى أن يؤثر هذا الأمر عليهما…!
لهذا آثرت كتمان هذه الحقيقة عن صديقتها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً….
بينما أردفت دعاء وقد عادت لشرودها:
_تعلمين؟!!بعدما أنقذني ووجدت نفسي بين ذراعيه سمعته يتمتم بحمد الله بخفوت شديد…لكن وقعها على أذني أنا كان عظيماً…لقد كان يخشى أن يخسرني…هل تدركين معنى هذا لامرأة عاشت طوال عمرها تشعر أنها بلا قيمة؟!!
دمعت عينا ماسة في إشفاق وهي تضمها لصدرها بقوة …فيما أردفت دعاء بتأثر:
_لم يتركني لحظة واحدة بعدها حتى نمت على صدره…حضنه كان عامراً بدفء انتظرته طويلاً…بالتأكيد هو ليس شعور العشق الذي أسمع عنه…لكنه شعورٌ بالاحتواء…بالسكينة…هو لم يهمس بكلمة واحدة لكنني كنت أشعر بحرارة انفعالاته…ورغم أنه حتى لم يعتذر لكنني قرأت بعينيه ندماً بلا حدود…
ربتت ماسة على رأسها وهي تسألها بحذر:
_هل سامحتِه بهذه البساطة؟!!
تنهدت دعاء بحرارة وهي تهمس بصوت كسير:
_لا أدري…حقاً…لا أدري…أنا متعَبة…مستنزفة…لا طاقة لي الآن بأن أعاتب أو أكره أو حتى أقسو…منذ وفاة والديّ وأنا أحتاج لدعم كهذا الذي منحه هو لي بالأمس…قد تظنينني حمقاء تهاونت بشأن كبريائها أمام أول بادرة عطف… ونسيت طول ساعات قسوته أمام أول حضن…لكنني حقاً …كنت أحتاجه!!
تنهيدةٌ حارة سبقت عبارتها الأخيرة التي عقبتها نوبة بكاء خفيضة جعلت ماسة تضمها إليها أكثر وهي تدرك بحق شعورها الآن…
دعاء التي عاشت كل هذا العمر بعقدة “الدمية المعيبة” تحتاج الآن حقاً لعاطفة رجل مثل حسام…
ليس فقط لمميزاته التي تجعله فتى الأحلام الوردي لأي فتاة…
لكن لأنه ارتضاها كما هي…بعيوبها- التي علمها- قبل مميزاتها -التي ربما لم يستكشفها كلها بعد-…
هو يرضي عقدة -شعورها بالنقص- التي تخنق أنوثتها خنقاً!!!
وإن كان شعوره هذا لم يرتقِ بعد لمرحلة الحب لكنها واثقةٌ أن الأيام كفيلةٌ بأن تؤلف بين قلبيهما…
فقط لو يعطي هو نفسه فرصة ليعرف دعاء الحقيقية بعيداً عن أطياف وهواجس ماضيه!!!
لهذا صبرت قليلاً حتى انتهت دعاء من بكائها ثم نظرت لعينيها هامسة بقوة:
_أنتِ بدأت خطوة صحيحة على أول الطريق…وظني أن الخطوة التالية ستكون له هو…لو أردتِ مسامحته فلن يلومكِ أحد…ولو أردت معاقبته فافعلي…فقط تخلصي من شعورك بالنقص كما تخلص هو من شعوره برغبة الانتقام…ربما ساعتها فقط تلتقي خطواتكما في نفس الطريق.
أومأت دعاء برأسها في تفكر…
بينما قالت ماسة بعد تردد:
_أعتقد أيضاً أنه لن يسمح لكِ بزيارتي فيما بعد….هل يعلم عن مجيئك هنا اليوم؟!!!
هزت دعاء رأسها نفياً قبل أن تغمغم بقلق:
_لا…أنا جئت بعد ذهابه لعمله…لكن لماذا تقولين ذلك؟!!
زفرت ماسة بقوة ثم مضت تروي لها تفاصيل اللقاء -الكارثي- بينها وعاصي وفهد وحسام….
كانت دعاء تستمع إليها مذهولة حتى انتهت من روايتها فهتفت مصعوقة:
_يا إلهي!!!كل هذه الحقائق دفعة واحدة!!!
ثم هزت رأسها لتبتسم قائلة بعينين ملتمعتين:
_فهد الصاوي الذي يقيم عندنا….أخوك؟!!
“أخوك”!!!
داعبت الكلمة أذني ماسة لتدغدغ قلبها بشعور غريب جعلها تبتسم بدورها وهي تقول بحنان:
_احكي له عنه يا دعاء…ما هو رأيك فيه؟!!
رفعت دعاء أحد حاجبيها بمكر وقد عاد إليها مرحها -نوعاً-لتهتف بانطلاق:
_وهل يحتاج فهد الصاوي لرأي؟!!لو لم أكن قد تورطت بحسام هذا لطلبته منكِ للزواج!!!
ضحكت ماسة أخيراً ضحكة قصيرة وهي تخبطها في كتفها قبل أن تغمزها هامسة:
_سأبلغ سيادة الرائد أنك تغازلين أخي!!!
فابتسمت دعاء ابتسامة حقيقية أزالت بعض شوائب حزنها لترد بجدية هذه المرة:
_فهد صديق حسام منذ فترة طويلة…لقد عرفت عنه كل شئ من والدة حسام بعد إقامته معنا…قصته غريبة جداً…
ثم تنهدت بحرارة وهي تقول بأسف:
_جاسم الصاوي هذا جبار…لقد ظلمه كما ظلمك!!!
عقدت ماسة حاجبيها بتساؤل بينما اندفعت دعاء تروي لها ما تعرفه عن قصة فهد وانتهائها بمقتل جنة بعد زواجه من طليقة حسام …
وهو ما دفعه لترك كل شئ خلفه والمجئ إلى هنا…
فشهقت ماسة بحدة وهي تضع كفها على شفتيها قبل أن تتمتم بذهول:
_جاسم الصاوي قتلها؟!!قتل زوجة ابنه؟!!
ابتسمت دعاء بإشفاق وهي تهز رأسها قائلة:
_لماذا تتعجبين؟!!رجلٌ رمى ابنته رضيعة طوال هذه السنوات …ماذا تريدين منه؟!!
فتوهجت عينا ماسة بقسوة ممتزجة بالإصرار وهي تجيبها:
_أريد حقي!!
رمقتها دعاء بنظرة متعاطفة فيما أردفت هي بقوة أكبر:
_لو لم يأتيني هو فسأذهب إليه أنا….لن أتنازل عن حقي في اسمه…ليس فخراً ولا طمعاً…لكن لأنني لن أفرط في حقي بعد الآن…ولو دفعت عمري بالمقابل.
ربتت دعاء على كتفها وهي تتمتم لها بالدعاء…قبل أن تقول برفق:
_لا تقلقي…فهد سيساعدك…لن تكوني وحدك في مواجهته.
فأومأت ماسة برأسها ثم قالت لها بعزم:
_أريد أن أراه ثانية يا دعاء…أحتاج حقاً أن أتكلم معه وحدنا.
===================
_أين زوجك يا يسرا؟!!لم تظهرا سوياً منذ زواجكما!!!
هتفت بها إحدى صديقاتها في تساؤل غارق بشماتته لكنها تمالكت نفسها بأنفتها المعتادة لتضع إحدى ساقيها فوق الأخرى مع قولها بكبرياء ممتزج بدلالها:
_لا تذكريني بمعاناته !!!والده دفعه للسفر لأجل عمل هام وهو يكاد يموت هناك اشتياقاً إليّ!!!
رفعت الفتاة أحد حاجبيها في شك…
فيما هتفت أخرى بخبث وقح:
_لم تحكي لنا تفاصيل ليلتكما الأولى يا “ياسّو” !!!مع “فهد الصاوي” بالتأكيد كانت ليلة مميزة!!!
كُنّ يجلسن في النادي بركنٍ خاص لهن اعتدن التجمع فيه لسرد أخبار “غزواتهن” العاطفية…
لا فارق بين متزوجة وعازبة…
فلا خطوط حمراء في الحديث ها هنا!!!
ورغم أنها كانت أحدثهن انضماماً لهذه “الرفقة الفاسدة” لكنها تكيفت معهن بسرعة…
أو -للحق- هنّ اللائي سعَينَ لاجتذابها نحوهن بعد منصب والدها الجديد!!!
في البداية كانت تنفر من تلك الأحاديث -الجريئة- التي كُنّ يتناقلن تفاصيلها ببساطة…
لكنها بعد فترة وجدت نفسها تنغمس معهن فيها دون خجل بل بدت بعدها مجرد نكات-خفيفة الظل- تهوّن عليها سخافة يومها الطويل…
كانت قد تناولت -قرصها السحري- منذ ساعة واحدة ولهذا كانت تشعر بأنها تطير فوق السحاب…
فقالت بنبرات ممطوطة تناسب قولها الوقح:
_ولا في الأحلااااام!!!لقد عرف كيف ينسيني أنني كنت متزوجة قبله…
ثم لوحت بسبابتها لهنّ تدعوهنّ للاقتراب ….
فانحنين جميعاً بأجسادهنّ يقتربن من المائدة…
فيما شرعت هي تروي لهنّ تفاصيل -خيالية- غاية في الجرأة حتى احتقنت وجوههن جميعاً في انفعال مع صيحاتهنّ المتباينة وضحكاتهن الرقيعة…
فتوهجت عيناها ببريق انتصار -زائف-وهي تراقب نظرات الحسد في عيونهنّ بظفر…
قبل أن تقوم من مكانها لتقول بغرور:
_يكفيكنّ هذا اليوم …لن تحتملنَ جرعةً أكبر!!!
عادت ضحكاتهن الرقيعة تجلجل في المكان بصخب فيما تناولت هي حقيبتها لتسألها إحداهنّ بفضول:
_والدتك عادت من لبنان؟!!
غامت عيناها بسحابة حزن قاتمة قبل أن تستعيد ابتسامتها المتعجرفة وهي تقول بتعالٍ:
_نزهتها لم تنتهِ بعد…لقد أجرت جراحة تجميل ناجحة فتحت شهيتها للسفر أكثر.
فهتفت إحداهنّ بمرح :
_سيادة اللواء محظوظ بزوجته الفاتنة…
ثم غمزتها لتردف بخبث:
_وابنته أكثر حظاً بفهد الصاوي!!!
رمقتهن بنظرة متعالية أخيرة ثم غادرتهن بخطواتٍ مدروسة وهي تتمايل بخيلاء لتعود إلى سيارتها خارج النادي…
ولم تكد تستقلها حتى أسندت رأسها إلى مقودها سامحةً لدموعها بالانهمار…
حديث هولاء السخيفات عن والدتها أفقدها تأثير “قرصها السحري”!!!!
محظوظٌ سيادة اللواء بزوجته!!!
نعم…صحيح!!!
محظوظٌ بامرأة خنقها خنقاً بجبروته وتسلطه ليمتص رحيق شبابها بنَهم امتزج بقسوته…
ومع هذا لم تستطع يوماً الإفلات من براثنه…!!!
لقد عاشت عمرها كله شاهدةً على تفاصيل حياتهما البائسة…
رأت -سيادة اللواء العظيم- كيف يتفنن في إهانة والدتها بشتى الطرق دون أن تجرؤ على الاعتراض…
رأت بعينيها كيف امتدت إهانته لها حد الضرب وهي صابرة…
لهذا أقسمت لنفسها ألا تكون يوماً صورةً من والدتها مهما حدث…
لن يتحكم فيها رجلٌ ولن تذلها عاطفة!!!
لكن -سيادة اللواء-فاجأها بأمر مباشر بالزواج من رجلٍ -مثله -اختاره لها وهو يعده ليكون خليفته…
نعم…حسام القاضي!!!
لم تستطع وقتها الرفض خوفاً من أبيها ف”العريس” كان “كاملاً” بلا عيوب!!!
وسامته…ثراؤه….مركزه…مستقبله…
والأهم…دعم أبيها الذي كان سيضمن له المزيد!!!
لهذا وافقت صاغرةً على هذه الزيجة لكنها ما كادت تعلم عن -عيب- حسام حتى وجدتها فرصتها الذهبية للتخلص منه!!!
صبر؟!!
تضحية؟!!
شفقة؟!!
لا لا لا!!!!
هذه المسميات لم يكن ليعرفها قاموسها مع رجلٍ تزوجته قهراً!!!
بل إنها تكاد تقسم أنها لم تشعر يوماً بالسعادة كما شعرت يوم طلقها!!!
يومها هي لم تتخلص من زوجٍ -لم يعد لائقاً بها-فحسب…
بل تخلصت من -قيد أبيها الثقيل- الذي أحاط بعنقها وكانت تخشى أن يجعلها صورةً ممسوخة كوالدتها!!!
لكن فهد الصاوي يختلف!!!
هي التي اختارته بإرادتها وزجّت باسمه لأبيها بمناورة ماكرة لتلفت نظره إلى هذا النسب!!!
وعندما تمت هذه الخطبة كانت تشعر وكأنها أمسكت أحد نجوم السماء…
والآن تكاد تجنّ من اختفائه غير المبرر…
ونفوره -الغريب- منها قبلها!!!!
أين ذهب هكذا دونما خبر ولا حتى اتصال؟!!!
أتراه هرب من البلد كلها ليتسكع مع إحدى رفيقاته كما كانت تسمع عن مغامراته؟!!!
أم ربما…أصابه مكروه؟!!
انقبض قلبها بخوف حقيقي عند خاطرها الأخير جعلها تزفر بقوة وهي ترفع رأسها أخيراً من على مقود السيارة لتطلق صيحة غاضبة وهي تتناول أحد سجائرها من حقيبتها لتشعلها بنفاد صبر…
قبل أن تنفث دخانها في الهواء بسخط وهي تدير مفتاح السيارة لتنطلق بها نحو وجهتها…..
=========
_أريدك في أمر هام!!!
هتف بها فهد بجمود وهو يدخل غرفة مكتب أبيه الذي كان الآن في اجتماع هام مع بعض مرؤوسيه…
فابتسم جاسم الصاوي ابتسامة دبلوماسية مع التماع نظراته بانتصار وهو يقول له بهدوء مصطنع:
_حمداً لله على سلامتك…كنت أنتظر عودتك!!!
حافظ فهد على جمود ملامحه وهو يتقدم نحوه بخطوات ثابتة…
فتفحصه جاسم بنظرات خبيرة وقد رأى أن يلين قليلاً معه مادام عاد إليه بقدميه…
خبرته في الحياة علمته أن يتدارك الخسارة بأقرب وقت…
وهو لا يريد فقد ابنه على أي حال…!
لهذا بسط راحته بهدوء أمامه وهو يقول بلهجة عملية:
_انضم للاجتماع كي تدرك ما فاتك من أخبار!
فابتسم فهد بسخرية وهو يقول بنبرة جافة:
_أرى أن تنهي هذا الاجتماع كي تسمعني وتدرك ما فاتك- أنت- من أخبار!!!
تبادل الحضور نظراتٍ متسائلة بفضول حقيقي فعقد جاسم حاجبيه ليقول بلهجة آمرة:
_حسناً…نؤجل الاجتماع للغد!!!
وبعد انصراف الجميع وقف أخيراً ليواجهه هاتفاً بسخط:
_ألم تكتفِ من حماقاتك بعد؟!!لقد ظننتك عدتَ لعقلك !!!
اقترب منه فهد وهو يقول بحزم:
_عودتي إليك هي الجنون ذاته يا سيد جاسم…بيني الآن وبينك دم…دمٌ لن تمحوه الأيام مهما طالت!!!
فازداد انعقاد حاجبي جاسم وهو يهتف بشراسة:
_إذن لماذا جئت اليوم؟!!
عقد فهد ساعديه أمام صدره وهو يقول ببطء :
_لولاها هي لما نظرت في وجهك نظرة واحدة بعد فعلتك!!!
رمقه جاسم بنظرة طويلة قبل أن يسأله بشك:
_هي؟!!!من هي؟!!
_أختي…ماسة جاسم الصاوي!!!
قالها فهد بثقة وهو يضغط على حروف كلماته فشحب وجه جاسم للحظات…
قبل أن يتمتم مصدوماً:
_ماذا تقول؟!!
اتسعت ابتسامة فهد القاسية وهو يقول له بحزم:
_سرحان …رجلك القديم…يبلغك السلام…لقد وجدته أخيراً واعترف لي بالحقيقة التي ساعدتني حتى وجدتها.
اتسعت عينا جاسم بذهول وهو يزيح مقعده ليقترب من فهد هاتفاً :
_وجدتها؟!!
اختفت ابتسامة فهد مع هذا الألم المكسوّ بغضبه وهو يهتف بانفعال:
_نعم يا سيد جاسم!!!وجدتها…هل تعلم ماذا اكتشفت عن ابنتك التي رميتها أنت طوال هذه السنوات؟!!
تشنج جسد جاسم بمزيج من المفاجأة والترقب…
فيما أردف فهد بنبرة أرادها قاسية:
_ابنتك تربت فقيرة في حي شعبي مع امرأة كانت أحنّ عليها منك…وعندما كبرت الصغيرة بلا سند طمع فيها الكلاب واغتصبوها .
شهق جاسم بفزع وهو يرفع كفه بانفعال …
فأردف فهد صارخاً بغضب:
_نعم…اغتصبوا ابنتك يا سيد جاسم وأنت مشغولٌ بمنصبك وصفقاتك…فافرح بحصاد عمرك يا صاحب المجد!!!
تفصد جبين جاسم بعرق غزير وقلبه ينتفض بين ضلوعه بجنون…
لكنه جذب فهد من ياقة قميصه ليهتف بثورة عارمة:
_كاذب!!!كاذب!!!أنت تقول هذا لتنتقم مني لأجل تلك المرأة !!!
فحرر فهد نفسه منه ليقول بقسوة:
_لا يا سيد جاسم…حق جنة أغلى من أن آخذه بطريقة خسيسة كهذه…لو أردت التأكد من الحقيقة فاذهب لابنتك…هي الآن تقيم في مدينة(……) تزوجها رجلٌ حقيرٌ هناك قسراً دون رغبتها…
هز جاسم رأسه في عدم تصديق …
فانسحب فهد مغادراً بخطوات ثابتة قبل أن يستدير نحوه ليهتف بحزم قاسٍ:
_ستعترف بها وتمنحها جميع حقوقها…أنا الذي سأقف لك هذه المرة…لكنني سأمنحك فرصة للتفكير!!!
ثم خرج صافقاً الباب خلفه بعنف تاركاً خلفه رجلاً صار يدرك يوماً بعد يوم كم هو خاسر…
وكم هي عادلةٌ مقادير السماء!!!
ظل جاسم بعدها واقفاً مكانه للحظات مصعوقاً لا يكاد يصدق ما سمعه…
حتى انهار جالساً على كرسيه أخيراً محدقاً للفراغ بشرود…
هل تراه تفاجأ بما حدث لابنته؟!!
ماذا كان ينتظر لها إذن بعدما رماها بلا حول ولا قوة وسط عالم قاسٍ كهذا؟!!
هل يوجعه قلبه الآن على ذنبه معها؟!!!
وبما يفيده -أو يفيدها- الندم على ما كان؟!!
هل سيعيد لها أيام عمرها التي ارتشفتها مغموسة في الذل؟!!
هل سيعوضها شرفها الذي انتهك وكرامتها التي سُحقت؟!!
هل سيمنحها -ولو مثقال ذرة – من عِوض!!!
لو كان الأمر حقاً كما يقول فهد فقد أجادت الأقدار الانتقام من خطاياه وغرست رماحها السامة في صدره كما يستحق!!!
بينما غادر فهد الشركة ليتوجه نحو سيارته التي استقلها لينطلق بها بسرعة جنونية وكأنه يهرب من هذا المكان الذي ما عاد يطيق التواجد فيه…
أحس بأنفاسه تختنق في صدره بفعل كل هذه الضغوط…
هو -يكاد – يقسم أن جاسم الصاوي لن يعترف بابنته أبداً…
وبالذات في هذا التوقيت الموازي للانتخابات..
لكنه لن يترك حقها !!!
ستكون هي قضيته القادمة التي لن يخسرها هذه المرة!!!
ورغماً عنه دمعت عيناه بتأثر وهو يهمس لنفسه:
_كم أحتاجك الآن يا جنتي!!!
ثم تسربت خلايا عقله لذكرى منها غزت الآن كيانه بعنف:
_هل قلتُ لكِ أنني…أحبك؟!!
_لن أقولها لكِ…تدرين لماذا؟!!!
_لأن لساني قالها كاذباً لغيرك…وأنتِ امرأةٌ لا يليق بها كلامٌ مكرّر…فاقرئيها أنتِ علي لساني حتي ولو لم أقلها…كما أقرأها أنا بلون البندق في عينيكِ كل يوم.
_عيناكِ حبيبتايَ تفضحان شعوركِ يا جنتي…لهذا أحبهما…
_لكن شفتيكِ عنيدتان مثلكِ تتمنعان عن الاعتراف…لهذا…
قطع عبارته وعيناه معلقتان بشفتيها…
فابتسمت رغماً عنها ابتسامة باهتة وهي تهمس بخفوت:
_لهذا ماذا؟!!! تكرههما؟!!
_بل أدللهما حتي ترضيان…فتبوحان…
قالها وهو يطبع علي شفتيها قبلاتٍ خفيفة متتالية…
فشعرت بروحها تكاد تنسحب منها وخافت ضعفها معه من جديد…
لهذا دفعته برفق وهي تهمس باعتراض :
_فهد…هل نسيتَ وعدك؟!!
_إلي متي تكابرين؟!!!
_ليست مكابرة…بل حيرة وعجز…أنا لا أتصور مستقبلاً لعلاقتنا…ابن جاسم الصاوي هو النقيض لكل مبادئي وعقائدي…وزواجي منه لعنةٌ علي رأسي…
رفع كفها إلي شفتيه يقبل باطنه وهو يهمس بترقب:
_وفهد؟!!
_فهد…هو…
قطعت عبارتها عاجزة عن إكمالها ….
فرفع ذقنها إليه هامساً بحزم :
_فهد ماذا؟!!! قولي….
دمعت عيناها وهي تهمس بعجز مصبوغ بمرارة قوية:
_هو رهاني الأخير في هذه الحياة…فإما كسبته وكسبت معه حياتي…وإما خسرتهما معاً كما خسرتُ من قبل…
لم تكد تتم عبارتها حتي جذبها إليه بقوة ليعتصرها بين ذراعيه مخفياً رأسها في صدره للحظات…
وهو يحاول احتواء ارتجافة جسدها بدموعها….
آه لو تعلم ما الذي فعلته بها كلماتها هذه؟!!!!
لقد أجادت “الأستاذة” اختيار كلماتها بمهارة…
منحته السم والترياق بنفس اليد!!!!
ماذا تظنه يفعل بعدما سمعه منها الآن…؟!!!!
سوي أن يعدها بهذا الوعد:
_أقسم لكِ بحق من جعلكِ نوراً في طريقي…ألا أعود لظلمتي بعدكِ أبداً!!!
ظلت العبارة الأخيرة تدوي في رأسه طوال طريق عودته بصخب هادر…
كل نفسٍ خرج من صدره كان يقسم يمين الولاء لوعده لها…
ورغم طول الرحلة بالسيارة لكنه لم يشعر بمرور الوقت وهو يسترجع ذكرياته الدافئة معها…
يكاد يستشعر دفأها بين ذراعيه…
حتى وصل أخيراً لمنزل حسام فركن سيارته قريباً ثم ترجل منها ليتوجه نحو الباب …
لكنه ما كاد يفتحه حتى اصطدم بصره بها واقفةً جواره على بعد خطوات ترمقه بغضب …
فتجمدت نظراته وهو يهمس بضيق:
_يسرا!
==========
خرجت من المشغل لتجده يغادر سيارته متجهاً نحوها باندفاع وهو يتلفت حوله بحذر….
توجهت نحوه بدورها فجذب مرفقها نحوه بلهفة قبل أن يهتف بحنق:
_ألم أخبركِ ألا تذهبي إلى أي مكان دون علمي؟!
أطرقت برأسها وهي تشعر بارتباك لذيذ أجادت إخفاءه…
ورغم خشونة نبراته لكنها لم تغضبها كعادتها معه…
ربما لأنها شعرت أنها تخفي قلقاً حقيقياً هذه المرة وليس مجرد رغبة في التسلط!!!
نعم.. بعد ما سمعته من ماسة عن مواجهته الأخيرة مع عاصي الرفاعي لاريب أنه الآن يتوقع منه أي أذى له وربما…لها!!!
لهذا رفعت إليه عينيها بنظرة متفهمة قبل أن تهمس بهدوء:
_لا تقلق…لم يحدث شئ!!
زفر بقوة وهو يعاود السير بها نحو سيارته ثم فتح لها الباب -كعادته- فجلست مكانها …
قبل أن يستدير هو ليجلس مكانه هو الآخر ثم قال بحزم دون أن ينظر إليها:
_لن تجيئي إلى هنا ثانية…ولن تزوري قصر الرفاعي بعد…بالتأكيد ماسة أخبرتكِ عما حدث بيننا.
فقالت وهي تختلس نظرة إلى وجهه المتجهم:
_معك حق في قصر الرفاعي…لكنني سأبقى أزور ماسة هنا…لن أستطيع قطع علاقتي بها.
التفت نحوها بحدة وهو يهتف بانفعال:
_ألن تكفي عن عنادك هذا؟!!
تطلعت إليه بنظرات قوية تعمدتها لكنها ناقضت حزن عبارتها بعدها:
_ليس عناداً!!!لكنني أحتاج صداقتها …بعد وفاة والديّ لم يعد لي سواها.
وخزت عبارتها قلبه لتشعره بالمزيد من الذنب نحوها…لكنه تجاهل معناها -مؤقتاً -ليقول مكابراً :
_أي صداقة هذه؟!!هي لم تمكث هنا أكثر من بضعة أشهر!!!
فأطرقت برأسها لتغمغم باقتضاب:
_المشاعر لا تعترف بزمن!!
زفر زفرة حارقة وهو يشعر بصراع نفسه معها يعود ليؤرقه…
منذ أنقذها من حادثة السقوط وهو لا يدري ماذا يقول ولا ماذا يفعل…
هي تستحق أن يعتذر لكنه رجلٌ لا يجيد فن الاعتذار….
طوال الساعات السابقة ونفسه تعذبه بندمٍ شديد لكنه كان عاجزاً عن مواجهتها….
ربما لو لم يكن رجاله أخبروه أنها جاءت إلى هنا لفضّل الهرب من لقائها حتى تصفو أفكاره بعد هذا الطوفان الهادر من المشاعر الذي اكتسحه بعد محاولتها الفاشلة للانتحار…
لا يدري ماذا به…
حالةٌ من عدم الاتزان تغلف عقله بغشاوة عكرة فلا تسمح له بصفاء فكر…
لكنه قرر أن يتبع شعوره -دون تفكير -هذه المرة حتى يستعيد سطوة عقله الذي انغمس تماماً في متاهات أحداثه الأخيرة…
لهذا لم يقاوم نفسه عندما أراد احتضان كفها براحته ليقول ببعض الرفق:
_سنستعيد ماسة قريباً من براثن هذا الرجل…ستعود إليكِ وإلى أهلها وإلى نفسها قبل كل هذا…لكن حتى تأتي هذه اللحظة عديني ألا تأتي إلى هنا!!
أطرقت برأسها تخفي عنه انفعالات وجهها وقلبها ينبض بصدرها بقوة…
رغم أنها لم تكن أول مرة يمسك فيها يدها هكذا لكنها كانت تشعر بها …مختلفة!!!
هذه المرة هو لا يتكلفها أمام أحد ليتظاهر…
ولا يحاول أن يثبت بها ملكية أو هيمنة…
بل فعلها…لأنه أراد احتواءها في هذه اللحظة…
أراد أن يشعرها ب-اهتمامه -…وقد أفلح!!!
ومن مثلها قادرٌ على تمييز هذا الشعور وقد افتقدته طوال عمرها الذي عاشته تبحث عنه؟!!!
لكن هل هذا وحده يكفيها؟!!
نعم…الآن هي قانعةٌ بهذا فحسب….
هو لن يعطي أكثر…!
وهي لن تطلب أكثر…!!
كلاهما مرهقٌ محملٌ بأوزار مشاعره التي أنقضت ظهره ….
فلا بأس من محطة راحة قبل معاودة السير في هذا الطريق….
كانت تلاحظ تحاشيه النظر إليها وكأنه يقاوم شعوره بالذنب نحوها ….
لكنها أرادت لكليهما أن يتجاوز هذه النقطة فرفعت عينيها إليه أخيراً وهي تومئ برأسها هامسة باستسلام:
_حسناً…أعدك!
تلقفت عيناه نظراتها وكأنه يحاول التشبث بها هو الآخر ليقرأها ….
وقد اختفت حدة عينيه الصقريتين لتسكنهما نظرة حزن جديدة شابه بعض الندم…
قبل أن يغمغم أخيراً بتردد:
_نحتاج أن نتحدث طويلاً…صحيح؟!
تيبست أناملها في يده وهي تشعر أنها تعود لدوامة حيرتها معه….
فضغط كفها أكثر في راحته ليردف بتساؤل حقيقي:
_هل تظنيننا يمكننا البدء من جديد؟!!
غاصت بعينيها في سواد عينيه وهي تسأله:
_تريدها حقاً؟!
فازداد تشبثاً بنظراتها وهو يرد لها سؤالها بسؤال:
_تريدينها؟!!
عضت على شفتها وهي تفطن لتردده مثلها فغمغمت وكأنها تملي شروطاً:
_هل ستسمعني؟!!
اقترب منها بجسده أكثر وقد امتزج غموضه برجائه:
_هل ستحكين؟!!
فتمسكت أناملها به تفضح احتياجها أكثر رغم أنها بدت وكأنها تكمل شروطها:
_هل ستثق بي؟!!
فتزينت شفتاه ب-شبه ابتسامة- وهو يقترب أكثر مع همسه:
_هل ستصارحينني؟!!
وكأن كليهما كان يجيب الآخر عن السؤال بسؤال!!!!
غريب!!!
لا…ليس غريباً…
فكلاهما في هذه اللحظة كان عاجزاً عن منح الآخر إجابة تريحه…
كلاهما كان يبدو -في بحر حزنه وحيرته-غريقاً …
فكيف يتشبث غريق بغريق؟!!
كلاهما كان مكبلاً بقيود عقده وماضيه…
فكيف يحرر أسيرٌ أسيراً؟!!!
لهذا حافظت الشفاه على صمتها طويلاً قبل أن تستجمع هي قوتها لتهمس :
_هل ستفهمني؟!!
فدارت عيناه على ملامحها بتفحص حقيقي مع همسه الصادق:
_أنا حقاً أحتاج أن أفهمك!!
غامت عيناها بدموع أبت أن تسكبها في هذه اللحظة …
فشبك أنامله في أناملها وهو يهمس مغالباً كبرياءه:
_هل ستسامحين في ما مضى؟!!
أغمضت عينيها بقوة للحظات ثم عادت تفتحهما لتهمس بقوة:
_لو أردت عفوي فستحصل عليه…لن تعدم الوسيلة فقط لو أردت!
فابتسم ابتسامة حقيقية هذه المرة وهو يميل عليها أكثر ليضمها إليه بقوة مقبلاً رأسها في -شبه-اعتذار!!!
فتشبثت به بدورها وهي تشعر أنها حقاً تحتاج هذا الآن…
حتى ولو كانت مجرد محاولة للخروج من هذه -الحلقة المفرغة- التي يدوران فيها معاً…
قلبها يخبرها أنه صادق في رغبته ببداية جديدة…
لكن العقل لازال يتردد بحكمه في هذه العلاقة…..
هل هي حقاً -علاجٌ شافٍ- ل-مرض- روحها القديم؟!!!
أم هي فقط مجرد -مُسكّن- سيفقد أثره بعد حين؟!!
=============
شهقت بعنف وهي تلقي أقراص “الطعمية” في الزيت لتصدر صوتاً عالياً جعلها تتراجع بحدة عندما سمعت ضحكاته العالية خلفها !!!!
التفتت نحوه بحركة سريعة لكنه اقترب منها ليحتضنها بقوة هاتفاً بين ضحكاته:
_متعة مشاهدتك في المطبخ لا تُقاوم!!!
ابتسمت في خجل وصوت ضحكاته يدغدغ قلبها رغماً عنها…
لقد تغير عزيز كثيراً…
لم تعد أشباح الذنب تجوس على ملامحه البائسة بل استرد مرحه وعفويته…
وصار يغدق عليها حناناً بلا حدود ترتشف قطراته المسكرة بنشوة عاشقة حقيقية رغم عناد عقلها!!
عقلها الذي لايزال يريد “الكعكة” كاملة …
لا تنقصها قطعة”ماله” و”مركزه الاجتماعي”!!!!
لهذا أشاحت بوجهها في دلال وهي تهمس باعتراض:
_عزيز!!اخرج حتى أعد الإفطار!
لكنه تجاهل اعتراضها وهو يتناول منها الملعقة الخشبية ليقلب “الأقراص” في المقلاة هاتفاً بمرح:
_رائحتها شهية…لا أصدق أنكِ أنتِ من أعددتِها!!!
تألقت عيناها بفخر طفولي طفا على سطح كبريائها المعهود وهي تهتف باندفاع:
_لقد أحببت الطبخ حقاً!!!كانت تجربة مسلية!!!
عادت ضحكته تجلجل ثم مال عليها ليغمزها قائلاً بمكر:
_”الطعمية” ليست طبخاً يا صغيرتي!!!انتظري حتى تتعلمي من أمي إعداد “المحشي” و “الرقاق”و “الباشاميل” و….
لكنها قاطعته بشهقتها قبل أن تهتف باستنكار:
_تظنني سأعجز عن تعلمها؟!!أمهلني فقط بضعة أيام ولن تأكل بعدها إلا من يدي!!!
تراقص حاجباه بمشاكسة ثم قال مداعباً:
_تقصدين بضعة أسابيع!!!!
مطت شفتيها باستياء مصطنع وهي تحاول انتزاع الملعقة منه لكنه أبعدها عنها ليهتف بمرح:
_لا يا صغيرتي!!!كي لا تنكسر أظافرك التي تعبتِ في طلائها!!!
_عزييييز!!!!!
هتفت بها في عتاب طفولي قبل أن تقرصه في كتفه مردفة:
_هل تسخر مني؟!!
أطلق آهة عالية مصطنعة تبعتها ضحكة رنانة قبل أن يميل عليها وكأنه سيهمس بسر خطير:
_لست وحدي هنا!!!لو علمت أمي أنكِ تضربينني فستعلمين حقاً قدرات “الحماة المصرية”!!!
ضحكت بدورها في مرح ثم عاودت قرصه بعناد هامسة بنفس النبرة:
_والدتك ستؤيدني أنا كما تفعل دوماً…أنت الوحيد هنا وليس أنا!!!
هز رأسه برضا وهو يتناول أحد الأطباق ليلتقط الأقراص التي اكتسبت لوناً ذهبياً ثم قال بتلذذ:
_هكذا يكون إفطار يوم الجمعة المميز…”الفول والطعمية” و”العسل الأسود”!!!
ابتسمت بسعادة خالصة وهي تضع الأطباق على مائدة المطبخ لتجلس جواره…
لكنه جذبها برفق ليجلسها على ساقيه هامساً بحنان:
_اجلسي هنا كي أطعمك بيدي!!
احمرت وجنتاها بخجل وهي تمد رأسها بحذر نحو الباب هامسة باعتراض:
_عزيز!!لسنا وحدنا!!!لو جاءت والدتك ف…
قاطع عبارتها بقبلة خفيفة على شفتيها قبل أن يهمس برفق:
_أمي لن تغادر غرفتها…هي تحرص على خصوصيتنا يوم الجمعة بالذات…تعرف أنه اليوم الوحيد الذي أستطيع قضاءه معكِ كاملاً!!!
أطرقت برأسها وهي تتفهم حكمة رحمة وحساسيتها الشديدة معهما…
تحاول دوماً ألا تتدخل في شئونهما لتمنح ميادة شعورها ب”الاستقلالية” وهو ما يؤرق -بالتأكيد-أي زوجة مكانها تقيم مع حماتها في نفس المنزل…
لقد أحبتها ميادة حقاً…
فقد أجادت رحمة بحنانها وذكائها سد جميع ثغرات تحفظها و استيائها من هذا الوضع…
قطع عزيز أفكارها وهو يمسد بطنها بحنان هامساً:
_كيف حال صغيري اليوم؟!!
أمالت رأسها في دلال وهي ترمقه بنظرة جانبية لتهمس بعناد:
_ومن أخبرك أنه” صغيرك”؟!!ألا يحتمل أن تكون “صغيرتك”؟!!
ثم اقتربت منه بوجهها لتهتف بتحفز:
_أم أنك من هؤلاء الذين يكرهون إنجاب “البنات”؟!!
تأملتها عيناه بتفحص حار أربكها…
ثم مال عليها ليداعب أنفها بأنفه هامساً:
_لو تضمنين لي أنثى نارية مثلك تفيض عذوبة وسحراً فاهلاً بألف منها!!!
أغمضت عينيها بتأثر وهمساته الحانية تطوق روحها برفق خبير…
هذه هي العاطفة التي عاشت محرومةً منها حتى جحدت بها …
والآن تأتيها مزينةً بحنانه على طبق من فضة فكيف ترفضها؟!!
عزيز الآن هو أهم ما في حياتها ولن تسمح أن يضيع منها بأي ثمن!!!
لكنه عاد يقطع أفكارها وهو يتناول كفها لينتزع منه دبلته الماسية برفق …
فانقبض قلبها بجزع وهي تهتف بتوتر:
_ماذا تفعل؟!!
لكنه ابتسم بحنان وهو يتناول دبلةً ذهبية عادية من جيبه ليضعها في إصبعها مكان الأخرى …
ثم ناولها الدبلة الماسية هامساً ببعض الحزم:
_ربما تكون الدبلة الجديدة أقل قيمة لكنها من مالي أنا…وهذا يعني لي الكثير!!!
ارتبكت ملامحها رغم سعادتها بما تعنيه كلماته خاصةً عندما أردف بصدق أيده قلبها:
_كنت أنتظر قبض راتبي بفارغ الصبر كي تكون أول هداياي لكِ أنتِ!!
دمعت عيناها بتأثر وهي تخفض بصرها عنه لتتأمل دبلته الجديدة بشرود…
ما فعله عزيز الآن يعني أنه لم يعد يراها قيداً من قيود والده …
بل خياراً حقيقياً يرتاح إليه ويرضيه….
وكأنه قرأ بحدسه ما يدور برأسها فضم رأسها لصدره هامساً بأسف:
_أنا أعرف أنني ظلمتكِ كثيراً…ليتني حقاً أستطيع تعويض كل هذا!!!
ازدردت ريقها بتوتر وهي تشعر بنيران الصراع الذي اندلع -لتوه- في أعماقها…
نعم…بقدر سعادتها بحديثه الآن بقدر خوفها من أن تفشل خطتها التي أعدتها مع شاكر …
لو افتضح أمرها لعزيز فستنقلب كل موازينها…
لكن للأسف…
لقد بدأ شاكر في تنفيذها بالفعل ولم يبقَ لها إلا الانتظار…
لهذا عضت على شفتها بتوتر ثم نظرت إليه لتسأله فجأة :
_ألن تعود للكتابة في مدونتك؟!!
اتسعت عيناه بصدمة للحظة ثم غمغم بذهول:
_أنتِ كنتِ تقرئين أشعاري؟!!
أومأت برأسها إيجاباً فزفر بقوة وهو يحاول إدراك صعوبة أثر هذا على نفسها…
ثم ضمها إليه أكثر ليهمس بعتاب ممتزج بالأسف:
_عقلك الذي يريد دوماً الإلمام بكل التفاصيل آذاكِ كثيراً!!
خدشت عبارته كبرياءها فرفعت أنفها وهي تهم بالرد عندما وضع سبابته على شفتيها ليهتف مقاطعاً:
_وإياكِ أن تزعمي أنكِ لا تبالين!!!
تأرجحت نظراتها بين عناد وخوف وألم…
فاحتضن وجنتيها براحتيه ليردف بعمق:
_لقد تخطينا مرحلة الثقة منذ زمن …أنا رضيت بحكم عقلك في علاقتنا…وظني أنه يؤيدني كثيراً!!
أغمضت عينيها بموافقة فتنهد بحرارة ثم همس برجاء:
_لا تفتحي دفاتر الماضي يا ميادة…أنا تجاوزته بحق…أنتِ وطفلنا الآن أهم ما في حياتي!!!
فتحت عينيها ببطء لتتلقى عطايا حنانه الفاخرة التي غشيتها كعادتها …
لتبتسم بعدها ابتسامة حقيقية أجهضت مخاوفها حقاً …
فبادلها ابتساماً بابتسام ثم بدأ بإطعامها وقد عاد إليهما المرح رويداً رويداً…
حتى انتهيا من طعامهما فقامت واقفة لتقول بإرهاق:
_سأذهب لأريح ظهري قليلاً!!
ربت على ظهرها برفق وهو يقوم بدوره ليراقب خطواتها المنصرفة برضا…
ثم ذهب إلى غرفة رحمة ليطرق بابها برفق حتى سمع إذنها بالدخول…
دلف إلى الداخل بخفة ليقبل يدها ثم جلس جوارها ليسألها بتفحص:
_ماذا بكِ يا أمي؟!!أحوالكِ لا تعجبني منذ أيام!!!
تنهدت رحمة بحرارة وقد ترددت للحظات في إخباره…
لكنها حسمت أمرها أخيراً لتقول بأسى:
_ماسة!
انعقد حاجباه في قلق مع تشنج جسده وهو يهتف بجزع:
_ماذا عنها؟!!هل آذاها ذاك الوغد ثانية؟!!
هزت رحمة رأسها نفياً ثم انطلقت تحكي له تفاصيل ما عرفته من ماسة عن حقيقة نسبها التي ظهرت….
بالإضافة لاكتشافها مشكلة تمنعها من الإنجاب…
وتزامن هذا مع التهديدات التي يتعرض إليها عاصي وتدفعه للرغبة في الزواج السريع للحصول على الولد في أقرب وقت….
كان عزيز يستمع إليها بذهول أولاً من معرفة نسبها لجاسم الصاوي…
قبل أن يغلبه حزنه عليها وقلبه يكاد ينفطر علىها بعد ذاك الخبر عن عقمها…
كل هذا كثيرٌ على أن تتحمله وحدها…
ورغم أنه يثق في قوتها لكن هذا لم يمنع تلك الغصة التي شعر بها في حلقه وهو يدرك معاناتها…
لن يستطيع أن يعفي نفسه من شعوره بالذنب نحوها مهما حدث…
إن لم يكن بتخاذله معها فلأن والده كان السبب الرئيسي في دفعها إلى عرين الرفاعي…
لهذا لن يمكنه التنصل من مسئوليته عنها يوماً حتى ولو غربت شمس حبهما فلم يعد بعدها لهما إلا الظلام…!!!
أطرق برأسه قليلاً يفكر ثم رفع رأسه إلى رحمة ليقول بثقة:
_ماسة لن تقبل أن تكون زوجة ثانية مهما كان!!!ربما كان ابتلاؤها هذا رحمة بها لتتخلص من ذاك الرجل!!!
هزت رحمة رأسها بحيرة وهي تغمغم:
_رغم خبرتي الطويلة في الحياة لم أسمع يوماً عن رجلٍ مثل عاصي هذا…للأسف لا أستطيع الحكم عليه ولا التكهن بأفعاله…لكن ما يؤرقني حقاً هو ماسة نفسها…ماسة ستنكسر حقاً لو تركها!!
عقد عزيز حاجبيه بشك ليهمس:
_تحبه؟!
ثم ابتسم ليردف باستهانة:
_لا أظن…هو فقط شعور بالامتنان نحوه لكن رجلاً كهذا لن يؤتمن عليها أبداً…وها هو ذا يبيعها في أول اختبار!!
تنهدت رحمة بحرارة وهي تقول باعتراض:
_لا يا ابني…أنا لا ألومه…أنت لا تفهم أهمية الولد لرجل مثله خاصةً مع شعوره بالخطر الذي يهدد حياته في أي لحظة…برغم كل شئ أنا أتفهم موقفه!!
أشاح عزيز بوجهه في عدم اقتناع ليقول بحسم:
_أظن القدر يمنحها الآن فرصة لحياة جديدة باسم جديد…ماسة تستحق هذه البداية لتنعم بالسعادة التي تستحقها.
ثم أردف بشرود مفكراً :
_لو كنت مكانها لفكرت في السفر…ليس فقط للعلاج لكن للبحث عن نقطة انطلاق جديدة!
====================
_تتزوجني يا أنس؟!!
قالتها صفا دون أن تنظر إليه….
قالتها بصيغة غريبة أقرب للأمر وهي تستقل معه سيارته حيث أصر على توصيلها لمنزلها بعد انتهاء عملها في المدرسة…
والذي تأخرت فيه كثيراً كعادتها خاصة بعد طلاقها من عبد الله…
فرمق جانب وجهها الشارد بنظرة طويلة آسفة قبل أن يعود ببصره للطريق قائلاً بتهكم مرير:
_تعرضين نفسكِ عليّ يا ابنة عمي؟!!
التفتت نحوه بحدة وقد أثارتها عبارته لتشتعل أعصابها بثورة كعادتها مؤخراً فتهتف بانفعال:
_ماذا قلت؟!!هل تدرك معنى كلامك؟!!
فأوقف السيارة مكانها برفق ثم التفت نحوها بدوره ليطفئ نظراتها المشتعلة بحنان عينيه الفائض مع هدوء عبارته:
_وهل تدركين أنتِ معنى كلامك؟!!
دمعت عيناها مع ارتجاف جسدها بعواطفها الثائرة في هذه اللحظة…
ما الذي يحدث لها؟!!!
هي لم تعد تفهم نفسها…
تشعر بحالة من عدم الاتزان وكأن قدميها فجأة افتقدتا أرضهما الثابتة…
نعم…عبد الله كان هو أرضها التي استقرت عليها خطواتها والتي تزلزلت تحتها فجأة قبل أن تتصدع قشرتها لتسقط هي فوقها بلا حول ولا قوة…
لكنها لن تستسلم لهذا السقوط…
ستقف من جديد ولو على أرض جديدة هذه المرة…
لن تحاول حتى أن تنظر للخلف كي تتبين أخطاءها ….
لا يهم…
من كان فيهما المذنب؟!!
لا يهم…
من أعطى ومن جحد؟!!!
لا يهم…!!!
من ضحى ومن خذل؟!!
لا يهم…!!!
لم يعد يهم!!!
لقد انتهى الأمر بينهما فما عاد هو “ابن قلبها” ولا عادت هي “صفا روحه”!!!
وعند خاطرتها الأخيرة انهمرت دموعها غزيرة رغماً عنها فارتج جسدها ببكائها وهي تدفن وجهها بين كفيها …
فتنهد أنس بحرارة ثم غمغم بأسف احتل نبرته الحانية:
_هذا ما أعنيه تماماً يا صافي…أنتِ لم تتعافيْ من جروحك كلها بعد…لن أستطيع أن آخذ كلماتك الآن على محمل الجد.
استسلمت لبكائها للحظات قبل أن تمسح دموعها أخيراً لتهمس بتشتت:
_أنت لا تريد الزواج مني؟!!
قالتها وكأنها فقط تريد “ترقيع” ثوب أنوثتها الممزق ولو بمجرد شعور بأنها لازالت “مرغوبة”!!!
فتأوه بخفوت مخفياً عنها فيض مشاعره وهي تسأله السؤال الوحيد الذي لا ينبغي أن تسأله هي بالذات!!!!
والذي يتمنى لو يجيبها عليه الآن بقلبه لا بلسانه…
لكنه سينتظر …
هي التي تعلّم هو في محراب عشقها ابتهالات الصبر حتى استلذها…
فصارت حلاوتها من حلاوة هواها…
صبراً يا حاكمة القلب صبراً…
لو كان الصبر لغيركِ جميلاً فهو لأجلك أجمل!!!
لهذا رفع عينيه نحوها بنظرة دافئة ثم قال بتعقلٍ يخفي جنونه بها:
_أخبريني بصراحة لماذا تريدين الزواج مني ؟!
هزت رأسها بلا معنى قبل أن تسنده على ظهر مقعدها لتجيبه دون أن تنظر إليه:
_لأنني …أريد…
قطعت عبارتها عاجزة عن إيجاد سبب لهذا الجنون الذي تلبسها…!!!!!
ماذا تفعلين يا صفا؟!!!
تطلبين بنفسك الزواج من رجل ؟!!
ثم ابتسمت بداخلها في سخرية مع عتاب روحها المرير…
وماذا في هذا ؟!!
ألم تفعليها من قبل؟!!
على الأقل أنتِ الآن تختارين الرجل الصحيح لا الرجل الخطأ!!!
الرجل الخطأ؟!!!
هل صار عبد الله الآن “الرجل الخطأ”؟!!
انقبض قلبها بقسوة شعورها الآن لتعاودها رغبتها في البكاء لولا أن سمعت عبارته :
_تريدين الانتقام منه؟!!أم تريدينني مجرد “محلل” لتعودي إليه بعدي؟!!
شهقت بعنف وهي تلتفت نحوه بملامح مذعورة…
وكأنها مجرد طفلة عاصية ضبطت بخطأ عظيم!!!
فابتسم بحنان وهو يطوق ملامحها بعينيه مردفاً بنفس النبرة المتعقلة :
_تنسين دوماً أنني أحفظك كخطوط كفي يا ابنة عمي!!!
عضت على شفتها بألم وهي تشيح بوجهها للحظات قبل أن تهمس بنبرة مشتتة:
_اعذرني يا أنس…أنا لم أعد أعرف ماذا أريد…أنا ممزقة…أشعر وكأن…وكأن…
صمتت للحظة تحاول وصف شعورها له عندما أكمل هو لها عبارتها بشجن:
_وكأن جزءاً منكِ قد بُتِر فلن تعودي بعده أبداً كاملة!!!!
عادت تلتفت نحوه بدهشة من قدرته على تجسيد ألمها بهذه الدقة….
فابتسم من جديد بشحوب وهو يهمس بحنان :
_صدقيني لن يشعر بك أحدٌ مثلي…ولو كنت أملك أن أفتدي حزنك هذا بعمري كله لما ترددت!!!
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تتبين عاطفته بوضوح الشمس في عينيه هذه اللحظة…
لكن طيفاً ما عاد يحول بينها وبينه…
نعم…طيف عبد الله!!!!
هل من السهل عليها بعد كل هذه السنوات أن ترى رجلاً غيره؟!!
هي التي لم تتفتح براعم أنوثتها إلا تحت شمسه وسمائه …
بل لم تروِها إلا قطرات مطره…
فكيف تراها تجد له بديلاً؟!!!
لكنه فعل!!!
هو وجد لها بديلة…
وليست أي بديلة…
بل خادمتها!!!!
خادمتها!!!!
عادت رياح الغضب تعصف بكيانها من جديد عند خاطرتها الأخيرة لتستعر نيران شعورها بالغدر في أوصالها…
لكنه قرأ كل هذا بعينيها فزفر بقوة وهو يعاود تشغيل سيارته قائلاً بضيق لم يستطع كتمانه:
_عامةً حديثنا عن أمر الزواج هذا سابقٌ لأوانه…عدتكِ لم تنتهِ بعد!!
رمقته بنظرة مشتتة طويلة …
عِدّتها ؟!!
تلك الكلمة التي عاشت خلف أسوارها مرتين قبل هذه…
كانت تتعذب بأيامها التي كانت تعدها يوماً يوماً…
لكنه في كل مرة كان يرحمها من هذا العذاب فيعود إليها طالباً غفرانها…
وهي كانت تمنحه له دون تردد…
لكن هذه المرة مختلفة…
هو لن يعود وقد صار محرماً عليها للأبد…
وهي ما عادت قادرة على منحه الغفران…!!!
ربااااه!!!
كيف تنساه…
كيف يمكن أن تنسى رجلاً احتل خلاياها عشقه واصطبغ بدمها شوقها إليه؟!!!
كيف تنساه وهي لازالت تتلمس حرارة وجوده؟!!!.
نعم…لازالت تقيم في شقتها التي اشترتها أمام شقته وكأنه ينقصها عذابها بحرمانها منه وهو بكل هذا القرب؟!!
لكن عزاءها أنه يشاطرها هذا العذاب…
نعم…لو كانت تتعذب لفراقه مرة فهو يتعذب ألف مرة…
هي أدرى بقيمتها عنده مهما أغوت عينيه نساء…
صفا المعموري ستبقى غصة قلبه التي لن يتجاوزها أبداً…
ثمرته المحرمة التي سيبكيها دماً لا دموعاً!!!
انقطعت أفكارها عندما أوقف أنس سيارته أمام باب منزلها فترجلت منها لتصطدم عيناها بعيني عبد الله الذي كان عائداً هو الآخر لتلتقي عيناهما بحديث طويل…
باطنه فيه الشوق…
وظاهره من قِبَله غضبٌ مشوبٌ برغبة انتقام!!!
وأمامها كان هو يقبض كفيه بقوة مخفياً تشنج جسده بغضب هادر وهو يراها تغادر سيارة أنس بكل أريحية وهو ما لم تكن تجرؤ على فعله سابقاً…
لكنها صفقت باب السيارة بعنف لترمقه بنظرة متحدية طويلة اختفى منها حنانها القديم…
قبل أن تلقي بسلام عابر على أنس الذي كان يراقبهما بتحفز…
ثم مضت في طريقها بخطوات ثابتة لتتجاوزه في كبرياء أجاد وأد اشتياقها بمهارة!!!
كز عبد الله على أسنانه وهو يعود ببصره إلى أنس بنظرات نارية لكن الأخير أطرق برأسه قبل أن يمضي في طريقه بسرعة …
ظل واقفاً مكانه للحظات وهو يشعر بثورة قلبه بين ضلوعه تكاد تفقده صوابه…
رغبة عارمة في تدمير كل ما تطاله يداه…
منذ طلقها وهو يشعر أنه اقترف الخطأ الذي لا يغتفر…
كيف فعلها؟!!
كيف طاوعه لسانه؟!!
أين كان عقله وهو يوقع وثيقة إعدام قلبه؟!!
يشهد الله أنه لم يكن في وعيه عندما فعلها…
شعوره الرهيب وقتها بإهانتها المتكررة له بمالها ذبح كل ذرة تعقل حاول التشبث بها…
طول تجاهلها لمشاعره كرجل بذل كل جهده كي لا يخونها ولو بخياله…
انغماسها في عالمها الجديد الذي لفظته خارجه كطفل معاقب…
وهي التي طالما احتوته كطفل مدلل!!!
كل هذا نصر “شيطان” غضبه على “ماسة” حبهما التي بهت بريقها مع الوقت…
وإن لم تفقد قيمتها في قلبه أبداً!!!!
لكن يبدو أنها لا تعاني مثله…
مجيئها هكذا مع أنس بمنتهى الجرأة وتحديها السافر له يعني أنها لم تعد تهتم…
صفا؟!!!
معقول؟!!
أثار هاجسه الأخير جنونه والعجز يزيد حفيظته أكثر…
لقد خسرها تماماً هذه المرة…
وما عاد له سلطانٌ على تلك التي كانت له يوماً سكن روحه وصفاءها…
والتي يبدو أنها وجدت عنه…بديلاً!!!!
أدارت كلمته هذه رأسه فوجد نفسه يستجيب ل”شيطان “انتقامه هو الآخر متوجهاً نحو غرفة فتون السفلية فيطرق بابها بتصميم…
وما إن فتحت الباب حتى فاجأها بقوله الحازم:
_مرّي عليّ غداً في المحل…أريدك في أمر هام!!!
==============
_لماذا جعلتها تحضر العرس يا ابني؟!!
همست بها عفاف في أذنه بعتاب حنون وهي تختلس نظرة مشفقة نحو رؤى التي جلست على أحد الكراسي هناك مطرقةً برأسها…
كان حفل الزفاف بسيطاً بل إنه يكاد يشابه جلسة عائلية متحفظة في منزل راغب ولم يحضره إلا القليل من معارفهم الذين تعجبوا كثيراً من هذه الزيجة الثانية في هذا الوقت القصير !!!
خاصةً والعروس “الأولى” تحضر الزفاف بنفسها ولا يبدو عليها أي ضيق ظاهر!!!
لكن الجميع كانوا يعلمون أن راغب درويش لا يناقشه أحد في قراراته وطالما اختار هذا فهو حقه خاصةً وهم يعتبرونه كبير هذه العائلة مقاماً وإن لم يكن سناً!!
زفر راغب بقوة ثم مال على أذن والدته بدوره هامساً بسخط:
_هي التي أصرت وأنتِ نفسكِ شهدتِ على مدى تصميمها!
قالها وهو يختلس النظر إليها بدوره وهدوؤها -المصطنع-يذبحه بسكين ثلم خاصة وهو يدرك ما وراؤه…
ثم ازدرد ريقه الجاف بصعوبة وهو يتأملها في ثوبها الرمادي القاتم والذي يعلم أنه بعيدٌ تماماً عن ذوقها -المشرق-في ألوان ثيابها…
ورغماً عنه انتابته ذكرى قريبة لها بثوبها “الليموني” الذي اشتراه هو لها…
كم بدت يومها نضرةً متألقة بعيدةً تماماً عن هذه الشاحبة بثوبها الرمادي!!!
ليحاول بعدها التقاط نظرة واحدة منها حتى ولو نظرة عتاب…
لكنه لم يفلح…
نظراتها كانت مسلطةً على الأرض طوال الوقت وقد التصقت ابتسامتها -الباردة-بشفتيها اللتين استشعر برودتهما في مكانه…
فعاد يزفر مرة أخرى وهو يلتفت نحو عروسه التي انشغلت عنه بابتسامة -حقيقية-وهي تتابع الحضور بترقب ممتزج بالخجل…
طيبة القلب عزة!!
لا تحمل طباع هيام المتحفزة القاسية بل على العكس تبدو دوماً كطفلة منبهرة خجول…
جميلة؟!!!
لا يدري!
هو فقد قدرته على تذوق النساء من زمن…
بالتحديد منذ سلم قلبه رغماً عنه ل-ملاكه الآثم- دونما رجعة!!!
وعند خاطره الأخير عاد بصره يطارد نظراتها برجاء خالص هذه المرة…
وقلبه ينافس ضميره في جلده بسياط الندم!!!
وحده عقله كان مقتنعاً بما فعل…
هذه المهزلة لابد أن تنتهي به…وبها!!!
لكن عينيه دمعتا بقهر وهو يلاحظ ارتجافة جسدها التي خانتها قبل أن تكتف ساعديها بقوة وهي مستمرة في تظاهرها -الفاشل-باللامبالاة!!!
لينقبض قلبه برجاء حار يتوسله أن يأخذها ويرحلا معاً بعيداً عن كل هذا…
لكنه تشبث بمسندي مقعده بقبضتيه قبل أن يغمض عينيه على صورتها التي احتلت الآن رأسه كله!!!
وفي مكانها كانت هي تتوارى خلف قناعها -المستحدث- من قوة لازالت تجاهد للتحلي بها…
دموعها تتقافز في عينيها اللتين تشوشت رؤيتهما لكنها لم تستجب لضعفها هذه المرة…
تماسكي يا رؤى…تماسكي…
العيون كلها مسلطة عليكِ…
تجاهلي كل هذه الغمزات واللمزات عن تلك ال-حمقاء- التي تحضر زفاف زوجها على أخرى بهذه البساطة!!
تحاشيْ النظر لعيني هيام الشامتتين بدهاء وعيني عفاف المشفقتين برحمة…
وعينيه هو الغارقتين بفيض من أسف وغضب!!!
كان هذا حديث نفسها الذي تحاول ترميم صدوع روحها به…
لكن صوتاً -أنانياً- بداخلها كان يصرخ بغضب طفولي…
ليته لا يسعد هذه الليلة…
ليته يكتشف أن زوجته الجديدة -ملطخة-مثلها…
ليته يصطدم بسوء طباعها وينفر منها…
ليته يندم على هذه الزيجة ويعود إليها صاغراً!!!!!
وحينها انتابتها قشعريرة باردة فاحتضنت جسدها بذراعيها لتضغط شفتيها بقوة وهي تعنفُ نفسها على هذا الفكر الجاحد…
لتعاود تفكيرها الصامت ب-ما يشبه الدعاء-
لا…ليته يسعد هذه الليلة…
بل…كل ليلة!!!
ليته يجد في عروسه الجديدة ما افتقده معها…
ليتها تسقيه الحب الذي عجزت هي عن منحه إياه…
ليته يستريح -أخيراً- في نهاية هذا الطريق الذي جرحت قدميه أشواكه دونما أي ذنب منه!!!
نعم…ليته فقط يفرح!!!
وعند خاطرتها الأخيرة أفلتت منها دمعة مسحتها بظاهر كفها خلسة وهي تأخذ نفساً عميقاً …
فكري في أي شئ آخر…
أي ذكرى حلوة…
أي أحد!!!
وهل بقي أحد؟!!
جنة توأم روحها لم تعد تعرف عنها شيئاً بعد ما ودعتها منذ وقت طويل…
وصفا التي انقطعت أخبارها بطلاقها من عبد الله…
عبد الله الذي أخذته العزة بالإثم منذ حوارهما معاً آخر مرة فتمادى في خشونة حديثه معها وإن كان لايزال يطمئن عليها هاتفياً من آن لآخر…
فمن بقي إذن؟!!
ولمن تهرب في أحلام يقظتها إلا له هو …
هو راغب…و فقط!!!
وكأنما جاءت فكرتها الأخيرة برداً وسلاماً على نيران قلبها المستعرة…
ليختفي من أمام ناظريها كل هذا الحضور ولا تعود ترى سوى حلمها الدافئ بنفسها بين ذراعيه…
لتختفي خشونة نبراته المعتادة فتتبدل لهمسات حارة ذائبة بغرام تفضحه عيناه قبل لمساته…
وساعتها فقط تحولت ابتسامتها الباردة لأخرى حقيقية وإن كانت لمجرد خيال!!!
لكن للأسف!!!
هذه الزغاريد العالية قطعت عليها شرودها الهائم به وكأنما استكثروا عليها مجرد الحلم!!!
لترفع عينيها بحسرة نحوه أخيراً وقد وقف جوار عروسه متأهبيْن للصعود نحو شقتهما …
هنا تدافع الحضور نحو العروسين يهنئهما لتشعر أنها صارت فجأة وحدها وكأنها على جزيرة منعزلة وسط بحر هائج يوشك أن تبتلعها أمواجه…
فقامت لتقف بدورها وهي ترفع رأسها للأعلى بدعاء خافت بالصبر…
بينما كان راغب مكانه يراقبها بتفحص وعيناه لا تحيدان عنها…
كان يصافح مهنئيه بحركات آلية افتقدت حتى ابتسامة مجاملة بينما تشنج جسده كله متأهباً وهو يخشى أن تفقد تماسكها -المزعوم- هذا في أي لحظة…
حتى رآها تقف ثم ترفع رأسها لأعلى فانعقد حاجباه بقلق ثم مال على أمه هامساً بحزم:
_اذهبي أنتِ إلى رؤى…لا تتركيها أبداً…دعيها تبتْ ليلتها هنا معكِ وليس في شقتنا.
تنهت عفاف بحرارة ثم ربتت على كتفه لتهمس بحنان:
_لا تحمل هماً يا ابني…افرح أنت بعروسك الليلة…ولا تقلق عليها!
قالتها ثم اتجهت نحو رؤى التي وقفت في أحد الأركان هناك وقد تشنجت ابتسامتها البائسة مع محاولاتها الواهية للتماسك…
فجذبتها إلى صدرها بحنان لتهمس في أذنها بحزم رفيق:
_يكفيكِ هذا يا ابنتي!!!ادخلي غرفتي وأغلقيها عليكِ …لا داعي لرؤيتهما الآن!
لكن رؤى رفعت رأسها إليها لتهمس بصوت متحشرج:
_أنا بخير يا أمي…لن تكون..
انقطعت عبارتها مع تعلق بصرها بالعروسين اللذين اقتربا منهما الآن بسيرهما الحثيث مع صوت الألحان القوية…
تعقبهما هيام التي تنثر بتلات الزهور الصغيرة فوقهما بسعادة ممتزجة بالظفر…
وأصوات الزغاريد حولها تكاد تصمّ أذنيها بدويّ هائل…
لتشعر بنفسها تكاد تفقد تماسكها هذا كله في لحظة…
كم تود الصراخ الآن…
الصراخ بكل قوتها حتى يُبح صوتها…
لم تكن تظن الأمر سيكون شاقاً هكذا…
لكنها -بحق- تحترق!!!
كل ذرة في كيانها تئن بالألم وكأنما يسلخونها حية!!!
ربااااه!!!
لو كان هذا بقية حسابها على ذنبها فقد وفته كاملاً دون نقصان!!!!
لكن نظرةً واحدة إلى عينيه في هذه اللحظة قلبت حالها تماماً…
نظرةً اخترقت روحها لتغلف قلبها بوشاح من نور…
نظرةً كانت تستجدي قوتها وتمنحها لها في نفس الوقت!!!
وكأنما كان يرجوها أن تتماسك لأجليهما معاً!!!!
وهي لم تخذله…
نعم…منحته إيماءة خافتة من رأسها مع بقايا ابتسامتها الهزيلة قبل أن يغيب مع عروسه عن ناظريها تدريجياً …
فتخفت الأصوات شيئاً فشيئاً حتى تشعر بالصمت المفاجئ يكاد يربت على روحها بعد طول صخب…
وهنا فقط…سمحت لدموعها بالانهمار كطوفان جارف بين ذراعي عفاف التي ضمتها بقوة وقلبها يكاد ينفطر على حالها…
أما هو فقد صعد مع عروسه إلى شقتهما لتتلكأ خطواته قليلاً أمام شقته مع رؤى لكنه عاد يجر خطواته جراً للأعلى وقد تحول حزنه لطاقة رهيبة من إصرار أن يتم هذا الزواج لآخره…
لن يتوقف في منتصف الطريق لأي سبب…
هو تزوج عزة بكامل إرادته ولن يظلمها…
لهذا ما كاد يغلق باب الشقة خلفهما حتى أخذ نفساً عميقاً ثم التفت نحو عزة التي كان وجهها متخضباً بحمرة خجل زادته فتنة لم تؤثر فيه شعرة لكنه اكتنف كتفيها بكفيه ليهمس برفق:
_مبارك يا عزة…أنتِ تبدين …في غاية الجمال هذه الليلة!!
كان صوته مهزوزاً وكأنما ينتزعه انتزاعاً من حنجرته التي غصت بمرارته…
لكن -الغافلة- أمامه لم تنتبه لهذا بل ازداد خجلها أكثر وهي تطرق برأسها…
فدار بعينيه على ملامحها قبل أن تمتد أنامله لتلامس وجهها باستكشاف شغوف…
عيناها …
أنفها…
شفتاها…
ذقنها…
أين شق ذقنها؟!!!
أغمض عينيه بألم وقد أوشكت أنّةٌ خافتة أن تفلت من شفتيه…
أفقْ يا راغب…
أفقْ…
إنها ليست رؤى صاحبة طابع الحسن…بل صاحبة الحسن كله!!!!!
إنها عزة…زوجتك التي اخترتها لتكمل معها طريقك بصورة طبيعية هذه المرة فلا تجعل قلبك يفسد عليك حياتك كعادته…
لهذا عاود فتح عينيه ببطء لينزع عنها طرحة زفافها برفق…
ثم قبل جبينها بخفة وأنامله المرتجفة تعرف طريقها لسحاب ثوبها الأبيض فتأتي شهقتها الخجول مخلصةً لكليهما في هذه اللحظة…!!
حيث تذرع هو بها ليقول برفق لم يخلُ من ضيق:
_بدلي ملابسك على راحتكِ في غرفتنا…وأنا سأنتظرك.
لم يكد ينتهي من عبارته حتى انسحبت من أمامه بخطوات سريعة فضحت خجلها المرتبك قبل أن تدخل غرفتهما لتغلق بابها خلفها بسرعة…
ظل ينظر للباب المغلق للحظات ثم تنهد بحرارة وهو يمسح وجهه بكفيه…
خلع سترته ورابطة عنقه بعنف ليلقيهما بعيداً ثم وضع كفه مبسوطاً على صدره وهو يشعر بالاختناق…
رؤى…معذبته الأبدية!!!
نظرتها النابضة بألمها لا تكاد تفارق عينيه…
ابتسامتها التي تدعي قوة- يوقن أنها لا تملكها -سحقت فؤاده…
وملامحها التي حملت ألف رجاء له أن يبتعد…وأن يقترب!!!
آه يا رؤى…
وكأنك أنشودة عذاب يصر قلبي أن تعزفها دقاته بلا توقف…
دقة دقة!!!
هز رأسه بعجز وهو يتوجه نحو الشرفة الخارجية ليستند بكفيه على السور وهو يراقب السماء بشجن…
ثم حانت منه التفاتة نحو شرفة شقته السفلية مع رؤاه والتي كانت الآن مظلمة تماماً …
الشقة كلها بدت نوافذها مظلمة ليتأكد وقتها أنها باتت مع والدته كما كان يتوقع…
حل أزرار قميصه بإهمال وهو يشعر بانقباض صدره الذي لم يكن بيده…
ماذا بك يا راغب؟!!
هل كُتب عليك ألا تفرح أبداً؟!!!
انزع عنك هذا الوهم!!!
زوجتك الجميلة تتهيأ لك…
امرأة صالحة لم تمسها يدٌ قبلك…
جسدٌ عفيف ينتظرك لتكون أول من يغزوه …
وروحٌ طاهرة تكاد الآن تفتح لك أبوابها لتهيم في سماء عاطفتك معها…
فلماذا تعلق قلبك بجسد مدنس وروح آثمة؟!!
خبط بقبضته على السور بقوة حتى آلمه كفه….
لكنه لم يشعر بالألم مع رفرفة قلبه الذي سقط بين قدميه وصرخاتها الضعيفة رغم خفوتها تخترق أذنه…!!!!
انعقد حاجباه بشك وهو يرهف سمعه أكثر…
هل هي صرخات رؤى حقاً أم أنه يتوهم؟!!!
لكن تلك الأنوار التي أضيئت تباعاً واحداً تلو الآخر في الشقة السفلية أكدت له شكوكه…
ظل واقفاً مكانه لدقائق حائراً فيما يفعله…
ثم لم يشعر بنفسه وهو يغادر الشقة مندفعاً نحو الدور السفلي حيث شقتهما ليفتح الباب بهدوء مستكشفاً…
وقد زاد قلقه أكثر وهو يرى أنوار الشقة كلها مغلقة من جديد…!!!!!
فانعقد حاجباه بشك!!!
ما الذي يحدث هنا؟!!
لينتبه وقتها لصرخة خافتة أخرى وكأن صاحبتها تكتمها ولا تريد أن يسمعها أحد!!!
قبل أن يغشي عينيه نور غرفة نومهما الذي أُضيئ لتوه فتوجه نحوها بخطوات سريعة ليهوله ما رآه…!!!!
كانت رؤى وحدها هناك جالسةً على الأرض في زاوية ضيقة بين خزانة الملابس والحائط…تحتضن جسدها بذراعيها وتدفن وجهها بين ركبتيها المرفوعتين…
لكن هذا لم يكن فقط ما أثار ارتياعه…
لقد كانت شبه عارية بقميصها الداخلي القصير الذي كشف عن جسدها وقد كان كله مخدوشاً بجروح حديثة وكأنها آثار أظافرها…!!!
وشعرها؟!!!
ربااااه!!!
خصلات شعرها المقصوصة كانت متناثرة حولها على الأرض جوار مقص ضخم !!!!
اندفع نحوها بلهفة منادياً ثم جلس على ركبتيه أمامها ممسكاً كتفيها يهزها هاتفاً بجزع:
_يا إلهي!!!رؤى!!!ماذا فعلتِ بنفسك؟!!
كان صوته يأتيها من بعيد وكأنه يتحدث من بئر سحيق….
هي لم تشعر بنفسها بعدما عادت إلى هنا وحدها متوسلةً إلى والدته أن تتركها لحالها…
الظلام والوحدة…!!!
هاجساها اللذين طالما أرقاها طوال عمرها…
الليلة فقط شعرت بحاجتها أن تتخطاهما…
ربما…تستمد لنفسها بعض القوة في طريقها الجديد….
لهذا حاولت في البداية أن تتغلب على هذا الخوف لكنها لم تستطع…
قلبها كاد يتوقف وهي تجد نفسها هنا وحيدة وسط الظلام…
لتمتد أناملها رغماً عنها فتفتح الأنوار كلها مستسلمةً لضعفها المخزي…
لكنها ما كادت تقف أمام مرآتها حتى شعرت أنها تكره نفسها…
تكرهها كما لم تفعل من قبل…
تكره جسدها الذي لم تحفظه فلم يحفظها!!!
أذلته…فأذلها…
لتنتابها وقتها رغبة عارمة في فعل شئ لم تقاومه…
لم تشعر بنفسها وهي تخلع ملابسها مكتفيةً بقميصها الداخلي القصير قبل أن تبدأ في خمش جسدها كله بأظافرها وكأن الألم سيطهرها من شعورها الآن بالذنب والدونية…
ثم التقطت عيناها هذا المقص هناك فتلقفته أناملها بعصبية لتقص خصلات شعرها بطريقة عشوائية وكأنها فقط …تشوه أنوثتها!!!
تعيث فساداً في كل ما ظنته سبب تعاستها…
لو لم تكن أنثى ضعيفة لما تجبر عليها عبد الله…
ولما استغلها فهد …
ولما زهدها راغب …
لكن ضعف أنوثتها هو ما استجلب لها كل هذا!!!
ضعيفة!!!
رخيصة!!!
مذنبة!!!
لكنني لن أرضى بهذا بعد!!!!!
وبهذا الشعور الجارف الذي عصف بها عادت تطفئ الأنوار بحزم وكأنها تختبر نفسها من جديد…
نفسها التي خذلتها أيضاً هذه المرة فلم تستطع هزيمة خوفها -المرضي-كالعادة…
وعادت تفتح الأنوار بذعر سبقته صرختها!!!
خاسرة يا رؤى!!!
خاسرة وضعيفة!!!
كانت هذه الكلمات آخر ما دوى في أذنيها وهي تنهار جالسةً في هذه الزاوية قبل أن يصلها صوت راغب من جديد وهو يجذبها لصدره بقوة هاتفاً بنبرة أعلى:
_ردي عليّ يا رؤى!!!ماذا حدث؟!!لماذا تركتكِ أمي وحدك؟!!
ثم رفع ذقنها إليه ليردف بجزع:
_لماذا بقيتِ وحدكِ هنا في الظلام وأنتِ تعلمين عن حالك؟!!
كانت تنظر إليه بتشوش …عيناها زائغتان لكن بلا دموع…أنفاسها متلاحقة مع همسها المتقطع:
_هذه الليلة بالذات…كنت..أريد أن أشعر …بأني قوية…
ثم ارتعشت شفتاها مع صوتها الذي تهدج فجأة :
_الليلة بالذات…كنت أحتاج أن أفعل شيئاً يجعلني….أحترم نفسي!!!
وعند عبارتها الأخيرة انتفض جسدها فجأة ببكاء عنيف مع تأوهات مكتومة وكأنما عاد إليها للتو إدراكها لما حدث لتستعيد الآن فقط شعورها بالألم من كل هذه الجروح التي ملأت جسدها…
بينما ضم هو رأسها إلى صدره بقوة وهو يكاد يخفيها بين ذراعيه هامساً بألم وقد شاركتها عيناه دموعها:
_توقفي!!!بالله عليكِ توقفي!!أنتِ تذبحيننا معاً!!!
وكأنها لم تسمعه!!!!
فقط رفعت إليه عينيها وهي تتحسس قميصه الأبيض الذي لطخته دماء جروحها وكحل عينيها لتهمس بصوت متقطع بين دموعها:
_أنا لوثت قميصك…كما لوثت حياتك …بل لوثت كل شئ.
ساعتها خفض بصره إلى قميصه لينتبه لجروحها هي الدامية فمسح عينيه بسرعة ثم دفعها برفق ليقوم واقفاً مع هتافه القلق:
_سأعود حالاً!
لم يصله منها رد سوى ارتعاش نظراتها المشوشة عندما عاد إليها بعد قليل ليطهر جروحها برفق …
ثم رفعها من كتفيها ليوقفها ويحاول لمّ شعرها الذي تشعثت خصلاته بشكل بشع !!!
كانت أنامله ترتجف وهو يتناول وشاحاً صغيراً غطى به شعرها ثم جذبها برفق نحو الفراش تحت نظراتها الزائغة ليتمدد جوارها هامساً بقلق وهو يشعر أنها ليست في وعيها تماماً:
_رؤى!!انظري إليّ!!
كان ذراعاه يطوقانها برفق وأنامله تربت على ظهرها لكن ارتجافة جسدها لم تهدأ …
بل زادت عليها أنات ألمها الذي لم تعد تدري هل ينبع من أماكن جروحها فحسب أم من داخل روحها نفسها…
بينما لم يكن هو أفضل منها حالاً بل على العكس …
مطارق الذنب كانت تهوي على روحه لتسحق قلبه أكثر…
موجوعٌ هو بها…
موجوعٌ هو لها…
وجعاً يبدو وكأنه بلا شفاء!!!
أما هي فلم تستطع تنفيذ أمره بالنظر إليه…
كانت مشوشة بين أفكارها وهواجسها لا تكاد تميز واقعاً من خيال…
فاعتصرها بين ذراعيه أكثر وهو يقبل رأسها بعمق هامساً بنبرات مضطربة بين خوف ورجاء:
_حسناً..فقط اسمعيني…لا تعذبي نفسكِ أكثر…ربما العيب فيّ أنا…أنا الذي أعجز عن العفو.
ثم رفع ذقنها إليه مردفاً بعجز متشح بالألم:
_رغماً عني…صدقيني.
أغمضت عينيها بضعف استسلمت له أخيراً بعد طول محاولات للتظاهر بالقوة…
فعاد يخفي وجهها في صدره هامساً بصوت متهدج:
_أنتِ ضغطتِ على نفسكِ كثيراً هذه الليلة…لم أكن أتخيل أنكِ ستكونين بهذه القوة!!
رفعت إليه عينيها بابتسامة ساخرة ضعيفة وقد عجزت عن النطق…
لكنه قرأها في نظراتها التي غشيتها الخيبة فأردف بنبرة أكثر حزماً رغم حنانها:
_نعم قوية…لا تصدقي غير هذا…امرأةٌ أخرى مكانكِ لم تكن لتحتمل كل هذا…لكنكِ فعلتِها وحدك …تقبلتِ عقاب السماء بصبر لتتطهري من ذنبك…أنتِ حقاً قوية بل أنتِ أقوى امرأة عرفتها في حياتي.
تحولت ابتسامتها الساخرة لأخرى حقيقية رغم الدموع التي كانت تسيل الآن على وجهها…
والتي مسحها هو بأنامله مقاوماً رغبته الآن في حقه فيها بكل قوته…
عندما همست هي أخيراً بشرود:
_أنت كنت على حق…وعبد الله أيضاً…أنا لن أحتمل هذا الوضع…حياتنا معاً مستحيلة.
جف حلقه فجأة مع هذه الغصة التي استحكمته رغماً عنه…
قد يبدو الحديث عن الفراق سهلاً في أي لحظة…إلا هذه!!!
كيف وهي تنتفض الآن بين ذراعيه كعصفور بلله المطر فالتجأ إلى صدره؟!!
كيف وجسدها النابض -رغم برودته الظاهرة- يكاد يشع بحرارة تحرقه؟!
كيف وهي بكل هذه البراءة وبكل هذا الإغواء؟!!
بكل هذه القوة وبكل هذا الضعف؟!!
كيف وهي…هي؟!!!
هي الأولى والأخيرة …والسابقة واللاحقة مهما تعاقبت بعينيه نساء!!!
لهذا انسابت شفتاه على وجنتيها تمسحان دموعها بعاطفة هادرة لتغزل بينهما نسيجاً آخر من شعور جديد أقوى وأمتن…
لكنها قطعت كل هذا عندما ابتعدت عنه برفق وقد استعادت المزيد من وعيها- وإن بدت أنها لم تسترجعه كاملاً- لتهتف بجزع:
_يا ربي!!!راغب…ماذا تفعل هنا؟!!لماذا تركت زوجتك؟!!
وكأنما أعادت له عبارتها وعيه هو الآخر …
أي عقلٍ بقي له ليترك امرأة تتهيأ له في ليلة زفافها بوعدٍ كامل لريّ اشتهائه…
فيهرع إلى أخرى مكتفياً منها بمجرد ضمة بين ذراعيه؟!!
أي عقلٍ بقي له وهو يتناسى ابتسامات عزة الخجول بملمس بشرتها الطازج بين أنامله…
ليذوب بكامله في مذاق دموعها -هي- الفريد بين شفتيه؟!!
أي عقل؟!!
وهل تركت له- هي- عقلاً؟!!
تنهد بحرارة وهو يعاود جذبها إلى صدره من جديد هامساً بحزم:
_لن أتركك …على الأقل الآن!
فشهقت باعتراض مع هتافها المستنكر:
_لا يا راغب…لا تحملني ذنبك أرجوك…
ثم أردفت بصوت لازال متهدجاً بانفعاله:
_اصعد أنت لعروسك…أنا صرت بخير…سأذهب لأمي ولن أعود لحماقاتي…بل سأذهب من هنا تماماً…سأعود لعبد الله…لن..
_لن أغادر حتى تنامي…
قطعت عبارته الحازمة سيل هذيانها المتقطع مع أنامله التي انسابت على طول ذراعها صعوداً وهبوطاً وهو يهدهدها كطفلة مخفياً وجهها في صدره بين ذقنه وذراعيه…
فأغمضت عينيها باستسلام وقد بدأ الخدر يسري في أوصالها ليستجيب جسدها أخيراً لإرهاقه…
ويغرق عقلها في غيبوبة اختيارية حملت -عرضاً- مسمى النوم…
بينما ظل هو على ما يفعله لدقائق طالت بعدها رغم يقينه من نومها وانتظام أنفاسها…
وكأنه يخشى أن يتوقف فتعود لها ارتجافتها ودموعها…
حتى ابتعد برأسه أخيراً ليتأمل ملامحها بوجد…
وقد انحسر الوشاح عن خصلات شعرها المشعثة متفاوتة الطول بعدما فعلته هي بها…
واحمر وجهها وجسدها في مواطن كثيرة بفعل أظافرها…
وتورم جفناها كثيراً بعد كل هذه الدموع…
ومع كل هذا بدت له في هذه اللحظة أجمل نساء الأرض..!!
فأعاد ضمها لصدره بقوة مستسلماً لنعاسه هو الآخر وآخر ما تناهى لسمعه همستها في نومها وكأنها تحلم:
_سأرحل!!
==============
أنهت مكالمتها مع رحمة لتوها بعدما أخبرتها عما استجد من أمورها عندما فتح هو باب الغرفة ليدخل …
فقامت لتتوجه نحوه متفرسة في ملامحه التي كانت الآن تحمل شيئاً غريباً عليها جعلها تسأله بتوجس:
_ما الأمر يا عاصي؟!!هل جدّ هناك شئ؟!
ارتفع كفاه يحتضنان كتفيها بتملك للحظات قبل أن تضطرم نيران خاصة بغابات زيتونه …
نيرانٌ برائحة الخوف…وربما…الخسارة!!!
فازدردت ريقها بتوتر وهي تقترب منه أكثر لتتشبث أناملها بكتفيه هامسةً بتساؤل:
_عاصي؟!!
رمقها بنظرة أخرى طويلة قبل أن يهمس ببطء:
_جاسم الصاوي هنا!!
اتسعت عيناها بصدمة وأناملها تزداد تشبثاً به حتى كادت أظافرها تنغرس في قميصه وهي تهمس مكررة بذهول:
_جاسم الصاوي هنا؟!!
ربت على كتفيها برفق وهو يدرك صعوبة الموقف عليها فهمس بحزمه الحنون:
_لماذا تتعجبين هكذا؟!!كنت أتوقع هذه الزيارة…هو أولاً وأخيراً أب وجد ابنته بعد كل هذه السنوات!!!
_أب؟!!
صرخت بها بثورة وهي تبتعد عنه بظهرها بضع خطوات قبل أن تردف بصوت هادر:
_أي أب؟!!إذا كان هو تنكر لي طوال هذه السنوات ولم يعترف بي فأنا أيضاً لا أعترف به…سأنتزع منه اسمي فحسب…لا أريد منه شيئاً آخر…
فاقترب منها ليقول برفق مقدراً ثورتها:
_اهدئي..لن يجبركِ أحدٌ على فعل شئ….قولي فقط أنكِ لا تريدين مقابلته…وأنا سأتصرف.
ارتجف جسدها انفعالاً وهي لا تدري كيف تصف شعورها في هذه اللحظة…
طفلةٌ بداخلها تبكي بعنف !!!
تتوسلها أن تهرع إلى ذاك الرجل الذي يزعم أبوتها لترتمي بين ذراعيه…!
تشكو إليه ما فعلته بها الأيام في غيابه…!
تلقي على كتفيه همومها التي حملتها وحدها طوال هذه السنوات وهي مطمئنةٌ أنه سيرعاها…
لكن صوتاً آخر يعارضها…
أفيقي يا غافلة!!!
ذاك الرجل نفسه هو من فعل بكِ هذا…
كل ذرة ألم تجرعتِها في حياتك كانت بسببه….
كل انتقاص وكل إهانة وكل انتهاك!!!
فكيف -بربكِ- تظنين أن الملاذ عنده إذا كان هو من أسلمكِ طواعيةً لأنياب مصيرك؟!!
لهذا احتضنت جسدها بساعديها بقوة وقد غلبتها دموعها التي انهمرت كالسيل فجأة على وجنتيها لتهتف بعجز:
_ماذا أفعل يا عاصي؟!!
جذبها إلى صدره برفق ليطوقها بذراعيه صامتاً للحظات…
قبل أن يهمس بنبرته القوية التي تخللها حنانٌ تشربته روحها العطشى إليه الآن بالذات:
_افعلي ما تشائين…وأنا معكِ في أي قرارٍ ستتخذينه!!
مرغت وجهها في صدره للحظات تستمد منه قوة تحتاجها في هذه اللحظة….
قبل أن ترفع رأسها لتبتعد عنه أخيراً …
مسحت دموعها بصلابة ثم قالت بنبرتها القوية:
_سأذهب إليه.
قالتها وهي تندفع مغادرة فجذبها من مرفقها ليقول بحزم:
_سآتي معك…لن أتركك وحدك.
لكنها خلصت مرفقها منه لتهتف بانفعال:
_بل وحدي!!!أنا لا أحتاج لأحد.
رمقها بنظرة طويلة عاتبة لكنها تجاهلتها لتتخذ خطوات واسعة نحو باب الغرفة…
ثم توقفت فجأة عند الباب ليرتجف جسدها رغماً عنها…
فأسندت جبينها على القائم الخشبي للباب وهي تشعر أنها ستنهار انفعالاً …!!
بينما جاهد هو نفسه ليحافظ على ثباته هو الآخر منتظراً ردة فعلها….
حتى رفعت هي إليه عينيها أخيراً بنظرة احتياج راجية مع همسها الخافت باسمه فحسب….
دون أي كلمة أخرى!!!!
فتوجه نحوها ليحتضن كتفيها بذراعه هامساً بنبرة أكثر حناناً:
_لم أكن لأترككِ وحدكِ في هذا الموقف حتى لو طلبتِها أنت…هيا بنا!!
التصقت به أكثر وهي تهبط معه الدرج نحو بهو القصر لتتقدم بخطواتٍ ثابتة لم تخذلها رغم كل شئ…
حتى لمحته هناك وقد قام واقفاً عندما انتبه إليهما….
كانت تعرف شكله من قبل فطالما تصدرت صوره الأخبار ووسائل الإعلام المختلفة….
لكنها هذه المرة كانت تراه بصورة أخرى…
كانت تبحث في ملامحه عن أي شئ يثبت نسبها إليه…
أو ينفيه!!!
نعم…هي التي عاشت طوال عمرها تتمنى أن تلتقي بوالديها الحقيقيين…
لكن هذا الرجل لا يشرفها أبداً أن يكون هو أباها…
رجلٌ استحل دماء زوجة ابنه وما خفي كان أعظم!!!
لهذا كان رد فعلها بارداً وهي تتقدم منه بثبات ولازالت تلتصق رغماً عنها بعاصي الذي كانت تشعر الآن بحق أنها تحتاجه أكثر من أي لحظة في حياتها….
وأمامها كان جاسم الصاوي -على العكس- يرمقها بنظراتٍ مذهولة للحظات…
وقد انفرجت شفتاه بانفعال جارف قبل أن ترتجفا بقوة مع همسه الخفيض:
_يا إلهي!!!وكأنها هي!!
ثم اقترب منها أكثر ليتفرس في ملامحها بقوة قبل أن تشتعل عيناه بعاطفة حقيقية وهو يهمس بحرارة :
_أنتِ ابنتي!!
دمعت عينا ماسة مع هذا الإعصار الذي اجتاح كيانها كله بمشاعر متناقضة نحو هذا الرجل الذي يُفترض أن يكون أقرب أهل الأرض إليها…
ومع هذا تشعر نحوه بغربة شديدة فكيف يزعم أنها من دمه؟!!!
أي دم؟!!وأي نسب؟!!!
لهذا علا صوتها رغماً عنها وهي تشيح بعينيها عنه هاتفة بخشونة:
_لماذا جئت اليوم يا سيد جاسم؟!!
لم ينتبه جاسم لجفاف نبراتها وهو غارقٌ لأذنيه في مشاعره الدافئة بها …
فقط غمغم بارتباك ولازالت نظراته مشوشة بحيرته:
_جئت أتأكد من الحقيقة!!
فابتسمت بسخرية وهي تكتف ساعديها هاتفة بصلابة:
_وهل تأكدت؟!
لم يرد عليها للحظات بل بدا كتمثال صخري وهو يراقب ملامحها بعاطفة صادقة…
قبل أن تمتد أنامله المرتجفة ليلتقط من جيبه صورة فوتوغرافية قديمة مع بعض الأوراق الرسمية التي ناولها لها دون مزيد كلام….
فتعلقت نظراتها بالصورة للحظة ثم انطلقت منها صيحة قصيرة وهي تكاد تعتصرها بين أناملها…
فالصورة القديمة كانت لامرأة تشبه ماسة تماماً في كل شئ…
شعرها …
عينيها…
شفتيها…
ربما لولا اختلاف طراز ثيابها القديم لظنتها صورتها هي!!!
لهذا لم تتمالك انفعالها في هذه اللحظة وهي تلتفت نحو عاصي هاتفة بين دموعها:
_هل تراها مثلي ؟!!هل هي حقيقية أم أنني أتوهم؟!
ضمها عاصي إليه بذراعه أكثر وهو يشعر بالقلق عليها أن تعاودها حالتها الهستيرية التي -بالكاد-تخلصت منها بعد الحادث…
فنقل بصره بينها وبين جاسم المذهول بدوره للحظات بتردد قبل أن يقول بحزم:
_حقيقية …وتشبهكِ تماماً!!
رمقته بنظرة مشتتة طويلة وهي تتحاشى النظر نحو جاسم فأومأ لها برأسه مطمئناً…
بينما غمغم جاسم بنبرات متهدجة بانفعاله هو الآخر:
_هذه الأوراق تخص والدتك رحمها الله…
هنا التفتت نحوه بحدة لتسأله السؤال الذي كان يشغلها الآن بقوة :
_كان زواجاً صحيحاً؟!!
أومأ جاسم برأسه وهو يشير بإصبعه المرتجف نحو وثيقة الزواج الرسمية بيدها قائلاً:
_نعم…كان زواجاً سرياً…لكنه رسميّ وموثق!!!
ضمت الصورة لصدرها بقوة ولازال جسدها ينتفض بانفعاله مع تمتمتها الخافتة:
_الحمد لله!!!الحمد لله!!!
اغرورقت عينا جاسم بدموع تأثره وهو يراها أمامه في هذا الحال….
لكن الكلمات جفت على شفتيه تماماً فما عاد يدري ماذا يقول ولا كيف يبرر فعلته…
بينما مسحت ماسة دموعها بعد لحظات لتقول دون أن تنظر إليه:
_وماذا بعد ما تأكدت من الحقيقة؟!!هل ستعترف بي أم أنها مجرد صحوة ضمير مؤقتة؟!!
شحب وجه جاسم وقتها بشدة وقد بدا له سؤالها -رغم منطقيته الآن -شديد الصعوبة….
لهذا صمت طويلاً قبل أن يغمغم بارتباك:
_بالتأكيد يا ابنتي سأمنحكِ حقوقك كلها…لكن…
قطع عبارته بعجز فتشبث عاصي بماسة أكثر وكأنه يمنحها دعمه الذي كانت تحتاجه في هذه اللحظة لتهتف بتنمر:
_لا يوجد لكن…أنا لا أحتاج مالك ولا سلطتك…لكنني لن أتنازل عن حقي في اسمك…عن حق أولادي في ألا يعايرهم أحد بنسب والدتهم.
وكأنما قالت عبارتها الأخيرة دون وعي…!!
ولم تكد تنتبه إليها حتى التفتت نحو عاصي بنظرة عاجزة ضجت بألمها…
نظرة شطرت قلبه بحق وهو يدرك مرارة إحساسها الآن…
عن أي أولاد تتحدث؟!!
فاعتصرت أنامله كتفها وهو يشاطرها عجزها في هذه اللحظة …
ليس فقط عن الكلام بل عن فعل أي شئ!!!
عندما عاود جاسم حديثه المرتبك بصعوبة:
_حقك يا ابنتي…لكن…ليس الآن!!!
التفتت نحوه بحدة فأردف مهدئاً:
_لم يتبقَ على نتيجة الانتخابات سوى وقت قصير…أعدكِ بعد نجاحي فيها أن أنفذ لكِ ما ترغبين به!!!
هنا…ضحكت هي ضحكة قصيرة ساخرة ابتلعت معها ما تبقى من دموعها لتهتف بعدها بتهكم:
_انتخابات؟!!
عقد عاصي حاجبيه بغضب هو الآخر…
ورغم أن الأمور إلى الآن تصب في صالحه لكنه كان يتألم بحق لأجلها…
بعد كل سنوات الحرمان هذه هي لا تستحق أن يكون لها أبٌ كهذا…
يؤجل فرحته بها لأجل أمر تافه كهذا!!!
بينما اكتست ملامح جاسم بخزي لم يستطع مداراته عندما أردفت ماسة بنفس التهكم المرير:
_وبعد نجاحك في الانتخابات؟!!ألا تخاف أن تؤثر فضيحةٌ كهذه على منصبك؟!!تفاصيل أمرٍ كهذا لن تخفى على الصحف والإعلام…ساعتها ستكون “اللقيطة والسياسي” قضية الموسم!!!
ورغم يقينه من صحة ما تقول لكنه قال مكابراً:
_لا تقلقي….وقتها سأعرف كيف أتدبر الأمر.
أشاحت بوجهها في عدم اقتناع فزفر جاسم بقوة عندما رن هاتفه باتصال هام من جهة سيادية عليا جعل وجهه يشحب أكثر وهو يفتح الاتصال بتوتر ليتلقى الكلمات المقتضبة…
ثم أغلقه ليقول لها بسرعة:
_أنا مضطرٌ للانصراف الآن…عذراً!!
فالتفتت نحوه ماسة لتهتف بنفس النبرة الساخرة:
_كان الله في العون يا سيدي!!!
نظر إليها جاسم نظرة آسفة طويلة ثم اقترب منها أكثر وهو يتمنى لو يضمها الآن بين ذراعيه …
لكنه كان يشعر بقوة هذا الحاجز الذي لايزال يقف بينه وبين ابنته…
لهذا اكتفى بأن يمد لها يده مصافحاً فخفضت بصرها إلى أنامله المرتجفة بحسرة خائبة…
دون أن تمد إليه كفها…
وخزت نظرتها قلبه بحق فغمغم بصوت متهدج:
_ألن تصافحيني حتى يا ابنتي؟!!
رفعت إليه عينيها اللتين غامتا بمرارتها وهي تقول بصلابة:
_لا ابنة لديك هنا يا سيد جاسم حتى تنتهي انتخاباتك…
ثم أشاحت بوجهها مردفة:
_وأنا لا أصافح الغرباء!!!
عقد حاجبيه بغضب مشوب بخزيه وهو يشعر بالضيق…
ورغم تحرجه مما قالته أمام عاصي لكن جزءاً -أبوياً- بداخله كان يشعر بالارتياح وهو يراها ملتصقة به هكذا تستمد منه دعمها…
نعم.. يبدو أن ما قاله فهد عن عاصي الرفاعي لم يكن صحيحاً تماماً…
نظرته الثاقبة أخبرته بوضوح أن هذا الرجل يجيد حقاً الاعتناء بابنته…
أو -ربما- هذا هو ما حاولت -بقايا ضميره- أن تغرسه في يقينه حتى يتركها ويرحل…!!!
فرمقها بنظرة طويلة ثم انسحب مغادراً بخطواتٍ سريعة ليلحقه حارساه بالخارج ….
ظلت ماسة تراقب ظهره المنصرف بحسرة غارقة في ألمها وهي تحاول التماسك قدر ما استطاعت…
حتى اختفى تماماً عن ناظريها فانهارت أخيراً في بكاء هستيري وقلبها يئنّ بين ضلوعها بيأس…
يأس جثم على صدرها كجبلٍ و جعل أنفاسها تتلاحق بسرعة وكأنها تختنق…
طوقها عاصي بذراعيه بقوة وهو يربت على ظهرها بقلق مع همسه المذبوح لأجلها:
_اهدئي يا ماسة!!!اهدئي!!!
لكنها رفعت إليه وجهها المحتقن لتهمس بصعوبة بين أنفاسها المتلاحقة:
_لا …أستطيع …التنفس!!!أنا …أختنق!!!
اتسعت عيناه بذعر للحظة ثم صرخ منادياً أحد الخدم ليحضر لها “بخاخ الأنف” الخاص بها بسرعة…
ورغم أنها تحسنت كثيراً بعده بوقت قصير…
لكنها عادت تهمس بصوت متقطع:
_أريد الخروج من هذا القصر..أشعر أن هذا المكان يخنقني!!!
ربت على وجنتها برفق ولازال خوفه عليها يعتصر قلبه ثم أحاط كتفها بذراعه ليخرج بها إلى المركب القريب…
وهناك استندت هي على سياجه لتأخذ أنفاساً عميقة متتالية…
كل شهيقٍ كان يجذبها قسراً لإحدى خسارات حياتها الطويلة…
لكن كل زفير كان يخرج من صدرها كانت تطرد معه أي شعور باليأس…
لن تنكسر…
لن تنهزم…
رأسها سيبقى مرفوعاً مهما علت أمواج الخطوب…!
وجوارها كان هو يحتضن خصرها بذراعه ليضمها إليه بقوة وقد احترم صمتها للحظات شعر فيها بحاجتها لأن تركن لنفسها فقط…
ثم همس أخيراً بحنان اصطبغ بعاطفته:
_أنتِ بخير الآن؟!!
أومأت برأسها في شرود وهي ترقب السماء التي خلت الآن من نجومها تماماً….
فقط كان القمر وحده هناك تحيطه غيومٌ لم تخفِه تماماً …
فبدا خلفها كسجينٍ يرغب في الفرار…!!!
لتجد نفسها تهمس دون وعي:
_القمر وحيد هذه الليلة!
رفع عينيه إلى السماء ليدرك ما تخفيه خلف عبارتها ….
فاختنق قلبه بغصة قلقه عليها أكثر…
شدد ضغط ساعده على خصرها وهو يهمس بحنانه – الخاص بها-:
_تكلمي يا ماسة…أنا أسمعك.
التوت شفتاها بابتسامة مريرة ولازالت تحدق في القمر لتغمغم بشرود:
_وهل هناك كلامٌ يقال؟!!
مال على رأسها يقبله بعمق فاستدارت نحوه لتدفن وجهها في كتفه للحظات طالت…
قبل أن تهمس بألم:
_هل تدري كم مرة حلمت بهذا اللقاء؟!!كم مرة تخيلت شكل والدي؟!!ربما عوضتني رحمة عن حنان الأم لكن رغبتي في والد حنون لم تغادر قلبي يوماً…كل مرة كان يغضبني فيها أحدهم كنت أهرع إلى غرفتي فأغلق بابها خلفي وأقف أمام مرآتي أحدثه…أشكو إليه ممن ظلمني…أتخيل رده الحنون…حضنه الدافئ…ردوده العاقلة…
ثم رفعت عينيها الدامعتين إليه لتردف:
_هل تدرك قسوة كلمة “ابنة حرام” على قلبي؟!!
ربت على ظهرها برفق وشفتاه تنسابان على جبينها بعاطفة لا يجيد التعبير عنها إلا هكذا…
فأكملت نزيف روحها الكسيرة:
_لم يعيرني بها أحد من أهل الحي…لكنني كنت أقرأها في عيونهم…في حرص رحمة المبالغ فيه على التزامي بالتحشم وعدم الخلطة…كم مرة كنت أنظر إلى اسمي الرسمي المزيف الذي حوته أوراقي لأتلمسه بأصابعي …وأتخيل لو تشكل بشراً من لحم ودم…لو أستعيد حقي الطبيعي في الشعور بهويتي.
مسح دموعها بأنامله وشموسه الزيتونية تفيضان عليها بأشعة عاطفتها الهادرة…
فأغمضت عينيها لتتأوه بقوة ثم همست بألم:
_واليوم تأكدت أنني “ابنة حلال”…اليوم عرفت هوية أبي…وليتني ما عرفت…لم أكن أريد جاسم الصاوي بكل ماله ونفوذه …كنت أريد رجلاً بسيطاً يضمني لحضنه وينسى العالم أول ما يراني…لا رجلاً يتركني بمجرد مصافحة ليهرع خلف مكالمة هاتفية!!!
اعتصر الألم قلبه وهو يراها أمامه كسيرة هكذا…
كم يود في هذه اللحظة لو يعاقب جاسم هذا على ما فعله بها…
لكن لماذا يلومه؟!!!
وهو فعل مثله يوماً وربما أكثر…
صحيحٌ أنه ندم على فعلته…لكن من قال أن الندم وحده يكفي؟!!!
بعض الخطايا كالنقش على الحجر لا يفنيها الدهر مهما مرّ!!!
لهذا تنهد بحرارة وهو يلامس وجنتيها بأنامله هامساً بنبرة غريبة:
_لا تتحاملي عليه كثيراً…ربما هو يتألم أكثر منكِ…ندمه يحرقه بذنب لن تطفئ نيرانه توبة!!!
فتحت عينيها ببطء وهي تفهم ما يعنيه – كاملاً-فتلتمع أمواجها الفضية بحسرتها على نفسها…
وعليه قبلها!!!
فيما أردف وهو يميل بوجهه على وجهها أكثر :
_أعرف أنكِ تحملتِ كثيراً…لكنني أثق بقدرتك على النهوض من عثرتك ككل مرة!!
أومأت برأسها دون رد فضم رأسها يخفيه في صدره وأنامله تتخلل شعرها بحركته التي صارت إدمانها هي الخاص…
لتتوه بعدها في دوامات من ذكريات تشابكت بعقلها كخيوط عنكبوت….
بعضها بعيدة …وبعضها قريبة…
لكنها كانت ترتشف منها قوةً تحتاج التحلي بها في هذا الوقت بالذات….
حتى غمغمت أخيراً بشرود ولازالت تسند جبينها على صدره:
__غنّي دوماً يا ماسة…لا تكفّي يوماً عن الغناء…غنّي وأنتِ تطيرين فرحاً…غنّي وأنتِ تذوبين حزناً…غنّي وأنتِ تشعين قوة…غنّي وأنتِ تئنين ضعفاً..غنّي ولو خذلك صوتكِ وضاعت منكِ الألحان…لو هجرتِ الغناء ستموتين …نعم…ستموتين حتي لو خدعتِ الجميع بأنفاس صدرك الرتيبة التي تدّعي الحياة…لكنكِ وقتها ستكونين الشاهد الوحيد علي أشلاء روحك الممزقة بداخلك…فإياكِ أن تفعلي هذا بنفسك!!
قالتها وكأنها تسترجع نصاً تحفظه عن ظهر قلب…!!!!
فابتسم بحنان جارف وهو يهمس بتأثر:
_أنتِ تحفظينها كما قلتها…لم أكن أعلم أن كلماتي وقتها أثرت فيكِ هكذا!!
صمتت طويلاً دون رد…
لكنها كانت تعلم في قرارة نفسها أن نصيحته هذه ستبقى محفورةً على جدران قلبها طوال حياتها…
حتى ولو لم يكن معها!!!
بينما ربت هو على رأسها ليهمس متسائلاً :
_تريدين الغناء؟!!
لم ينله منها سوى صمتٍ آخر طويل تقبله متفهماً…
قبل أن تبدأ هي في همهمة خافتة بلحنٍ شجي…
وبصوت خفيضٍ جداً…يكاد لا يُسمَع …كانت تغني…
زمان…
زمان وأنا صغير…
كنت بحلم أبقى كبير…
تعب القلب واتحير…
م الدنيا و م المشاوير….
الحلم.. كان برئ ..مليان بالورود…
والقلب ..كان جرئ ..مليان بالوعود…
ولما كبرت قلت ياريت…
ما كنت حلمت ولا اتمنيت…
قلت ياريتني فضلت صغير..
زي زمان…
وحلمت زمان ببيت…
وبقلب يكون معايا…
و م الأحلام صحيت…
على جرح مالوش نهاية…
وداريت…
داريت…
الجرح في قلبي داريت…
ولقيت الكون كله بيتغير…
قلت ياريتني فضلت صغير…
أنا من صغر سني…
حاسس بشئ جوايا…
وحلمت زمان أغني…
والكون يسمع غنايا…
غنيت..
غنيت…
وفي وسط الغنوة بكيت…
ولقيت العمر يا دنيا قصير…
قلت ياريتني فضلت صغير!!!
كانت الكلمات موجعة بحق لكليهما معاً…
صوتها الشجي المختنق بغصته كان يشاطره الإحساس بمعاني كلماتها التي ذاب فيها بكليته هو الآخر…
فاعتصرها بين ذراعيه وكأنه يتجرع معها نفس الكأس…
نفس الجرح…
نفس الخيبة…
نفس العجز…
وإن كان تحت قناع متقن ل”شيطان”….
=====================
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)