روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان البارت الخامس والثلاثون

رواية ماسة وشيطان الجزء الخامس والثلاثون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الخامسة والثلاثون

_اعتنيْ بنفسك…ولو احتجتِ شيئاً هاتفيني.
قالها فهد وهو يستعد لمغادرتهما عقب إتمام عقد الزواج قبل أن يرمق عاصي الذي بدت على وجهه أمارات معاناته الصامتة…
ليميل على أذنها هامساً بحزم حنون:
_مهمتك صعبة…كوني صبورة!
أومأت ماسة برأسها مطمئنة فمنحها عناقاً مؤازراً أخيراً قبل أن يعود بخطوات ثابتة نحو عاصي ليصافحه بود مع قوله:
_مبارك يا سيد عاصي.
صافحه عاصي بحاجبين منعقدين مكتفياً بإيماءة صامتة ليغادرهما فهد بعدها ومعه الخادم…
وما إن شعرت ماسة بخلوّ المكان حتى اندفعت نحو عاصي لتتعلق بذراعيها في عنقه مع قولها بمرح لم تعرفه يوماً:
_سجل يا تاريخ! ماسة أحرزت أول هدف انتصار في هذه العلاقة!
ضمها بأحد ذراعيه بينما حافظ على الآخر جواره…
ليبتسم ابتسامة شاحبة ولازال حاجباه على انعقادهما فابتسمت بحنان وهي تمد أناملها لتفك انعقادهما بنفسها هامسةً بعاطفتها السخية:
_ابتسامة وتقطيبة…ذراعٌ يعانق وآخر يتمنّع…ملامح صاخبةٌ بالحديث مع شفاه مطبقة بالصمت..
ثم صمتت لحظة لتطبع على شفتيه “هدية” ناعمة تليق بهمسها:
_ستبقى “سيد الأضداد” الذي أعشقه بكل تناقضاته!!
أفلتت أنّة خافتةٌ من بين شفتيه تزامنت مع ضغط ذراعه المحتضن لها أكثر فأتبعت “هديتها” اليتيمة بالمزيد والمزيد على شفتيه مع استطرادها الهائم:
_حبنا المنقوص اكتمل…أخيراً.
ثم تأوهت بخفوت وهي تخفي وجهها في صدره هامسة :
_أخبرك سراً؟!
انفرجت شفتاه للحظة قبل أن يعاود إطباقهما من جديد مكتفياً بضغط ذراعه الذي اشتد عليها رغم حركة أنامله “الرفيقة” التي صاحبته على طول ظهرها مع استطرادها:
_تلك الأيام التي تلت فراقنا كنت أعاتب نفسي فيك…لماذا لم أعشقك يوماً كما تعشق المرأة زوجها؟!لماذا بقيت علاقتنا محصورة في إطار الصداقة تارة والأبوة تارة أخرى؟!حتى في أشد لحظاتنا العاطفية حميميّةً كنت أكتفي بالأخذ دون العطاء!
ثم رفعت عينيها إليه تعانق غابات زيتونه التي تفتقد اشتعالها القديم لتهمس بحرارة:
_قمصاني الطويلة…عقدة شعري المعقوص…صقيع كلماتي المتحجرة…كل هذا يجب أن يتغير!
وكأنما داعبت كلماتها وتراً منسياً في قلبه!!
هو لم يكن “غافلاً” عن “تحفظها” هذا الذي تحكي عنه لكنه كان يدرك ب”حدسه” منبعه !!
ماسة امرأة لا تجيد الرقص على حبال “المتاح” بدعوى “الرضا”…
“رقصتها” ينبغي أن تكون على أرض ثابتة ملساء تناسب “رشاقة” خطواتها العاشقة…
وإلا فكيف تأمن “حافية القدمين” من “أشواك” المصير؟!!
“رقصتها” ينبغي أن تكون في مكان هادئ…وبلا ألحان!!
رنين “خلخال” أنوثتها لا يحتاج لصخب نغمٍ يشوش عليه!!
يكفيها إغواء “نظرة” تنفلت كجواد طليق من بين رموشها الحارسة …
لتحمل لهب الشمس و حِدّة السيف ولذة العسل!!!
“رقصتها” لا كرقص “الغواني”في ظلام الحيرة والشكوك…
بل كرقص “الملكات” على بلاط القصور تحت الأضواء…
أو كرقص “حوريات البحر” عندما يصعدن برؤوسهن فوق الماء ليعانقن الشمس ويسحرن أعين البشر!!!
“رقصة” ماسة العاشقة كشعاع الشمس…
سحره “يكتمل” في حريته واختراقه لكل ما يشرق عليه…
و”ينقص” عندما تحجبه الجدران!!!
لهذا لم يتعجب عندما شعر بأناملها تتحسس وجهه برقة مثيرة مع همسها:
_أشتاق الآن أن أفرد شعري على كتفيك…أن أرتدي لأجلك أرق أثوابي…أن أُسمعك أَحرّ عبارات الغزل …همساتٍ لم يعرفها قلبي إلا لك…لك وحدك!
ثم مدت أناملها تنتزع عنها حجابها لتحرر شعرها من رباطه قبل أن تهز رأسها برفق مع استطرادها:
_أريدك أن تراني الليلة كأجمل مرة رأيتني فيها!
التوت شفتاه بابتسامة ساخرة متشحة بالمرارة لكن شفتيها المغرمتين كانتا لها بالمرصاد…
مرة…تلو مرة…تلو مرة…
حتى تحولت ابتسامته الساخرة لأخرى راغبة ناسبت همسها هي الدافئ بعدها:
_لن تراني يوماً أفضل مما ستراني الآن…منذ متى يبصر العاشقون بعيونهم؟!
ثم سحبت أنامله الحرة قسراً لتدور بها على ملامحها مردفة:
_أرأيت؟!معي حق؟!صحيح؟!
تأوه بخفوت وصورتها في مخيلته تسطع وسط كل هذا الظلام كشمس متوهجة…
هو يراها!!!
حقاً يراها!!!
عيناها تلتمعان ببحور فضتهما وتنبضان بعشق لم يشعر بهدير موجه- كما الآن -من قبل!!
رموشها ترفرف فوقهما كحمائم حرة بلا قيود…
شفتاها تشتعلان بعاطفة هو وحده يعرف كيف يطفئها …
وخصلات شعرها تهيم بفوضوية حول وجهها لتعمق الإحساس ب”حرية اللوحة” !!!
لوحة؟!!!!!
نعم…وهل أجمل من هذه لوحة؟!!
لكنه وبرغم الصخب المشتعل في أعماقه ظل صامتاً دون رد…
هو “رجلٌ” لا يعشق بلسانه!!
كلمات الحب لديه “عملة زائفة” لا يُتعامَل بها في “سوق” المغرمين!!
و هي “امرأة” لا تسمع في الحب ب”أذنيها”…
بل ب”قلبها”!!
قلبها الذي كان يسمع الآن دويّ دقات قلبه يكاد يقسم بسخاء على ما بخلت به كلماته!!
لهذا خفضت رأسها لتميل على صدره أخيراً بقبلة عميقة مع همسها:
_قلبك يفهمني عندما أخصه بقبلاتي…يدرك معناها تماماً كما أريده .
ثم بسطت كفها على صدره مكان قلبه تماماً لتردف:
_قلتَ لي يوماً إن الحب تمثال من شمع ينصهر بلهب الخطايا…لكن حبنا كان من حجر…صمد في وجه اللهب حتى انطفأ وبقي هو راسخاً مكانه!
أطلق آهة خافتة وهو يشيح بوجهه وكأنه يهرب من فيض عشقها هذا الذي يرى نفسه لا يستحقه…
لكن “الصرخات” عادت تدوي في أذنيه كما كانت ليلة الحادث…!!!!!!!
وكما تبعتها في كل ليلة بعدها!!!
تلك “الصرخات” التي أيقظت ضميره لتجلده بسياط الذنب…
وكأنها في كل مرة تذكره بذنوبه…
بماضيه…
بما يجب أن ينتظره من عقاب…!!
تلك “الصرخات” التي تحمل له كل مرة نفس النبوءة…
“لن تفرح”…
“لن تهنأ يوماً بمعاش”
“لن تنال من النار دفئاً…بل احتراقاً”
“حتى التوبة حرّمت على شيطان مثلك”
“ستعيش عاصياً وتموت وحيداً”
“لن تفرح”
“لن تفرح”!!!
فارتجف جسده ارتجافة خفيفة وعرقٌ خفيف قد بدأ يظهر على جبينه …
لتقرأ هي خبيئته بما يحمله قلبها العاشق من دراية به…
فاحتضنت وجنتيه براحتيها تداعبهما بحنان مع همسها الذي حمل الآن بعض الرجاء:
_أريد أن أطلب منك شيئاً…وأرجو ألا تخيب رجائي!
تنهد بحرارة حارقة وكأنه يخرج معها بعضاً من لهيب روحه…
قبل أن يومئ برأسه منتظراً كلماتها عندما استجمعت هي شجاعتها لتهمس مناقضةً كل ما يملؤها من خجل:
_أريد أن نفرح هذه الليلة…أن ننسى كل ما كان بل وما سيكون…
ازداد انعقاد حاجبيه لتدرك صعوبة ما تطلبه لكنها لم تستسلم…
بل التصقت به أكثر لتردف بنبرة أكثر حرارة:
_إذا كنت أنت زاهداً في فرحتك بي…فأنا أذوب اشتياقاً لفرحتي بك…لن أدّعي صبراً لا أملكه…اخرج من سجنك وانطلق معي بلا قيود…
كانت تعلم أنها تطلب ما يقارب المستحيل…
وأن الرجل الذي عاد “من قلب الموت ” محملاً بأوزاره لن يتقبل ببساطة بتلات الحب التي تلقيها تحت قدميه…
لكنها معه تسير بحدسها…
عاصي سيخرج من سجنه!!!
سيتحرر من كل هذه الأغلال التي كبلت روحه وأولها قيوده هو لنفسه!!!
يجب أن يتحرر من عقدة ذنبه ليرى نفسه الآن كما تراه هي…
بطلاً حقيقياً !!
وهل من بطولة أعظم من أن ينتشل المرء نفسه من بئر معصيته العميق ليتعلق بحافته نحو الخروج لطريق التوبة؟!!
خاصةً لرجلٍ في سنه وسابق مكانته ونفوذه!!!
هي لا تريد مجرد علاقة جسد بجسد…
بل تشبث روح بروح ليحلقا معاً خارج أسوار هذا الجحيم من ماضٍ وذنب!
لكن صمته المشتعل أمامها -والذي طال كثيراً -جعلها تشك أنها تسرعت في هذا الأمر…
وأنه ليس مؤهلاً بعد لشئ كهذا مع ما تموج به روحه من يأس مثقل بالذنب!
لهذا ارتخت أناملها على وجنتيه برفق لتبتعد عنه خطوة…
لا…ليس كبرياؤها ما أبعدها هذه المرة…
بل احترامها لحزنه!!!
لهذا أخذت نفساً عميقاً ثم همست بحنان لا تدعيه:
_لا بأس…كما تريد…لكن اعلم أنني لن أيأس منك أبداً…لن أهدأ حتى أعيد لك ضحكتك ..كما أعدت لي ضحكتي.
ظل وجهه على جموده وإن اختلجت عضلة فكه واشية بانفعاله…
لتردف هي أخيراً بملء روحها العاشقة:
_لن أنام هذه الليلة …سأبقى أملأ عيني من ملامحك التي افتقدتها…طوال هذه الليالي وأنا ……آآآه!
انقطعت عبارتها بآهة ألم لذيذة عندما تمرد ذراعه الحر أخيراً على جموده ليضمها إليه مع ذراعه الآخر بكل قوته قبل أن تذوب بقية حروفها بين شفتيه…
واختفي العالم كله في لحظات…!!!!
عندما غابت أنامله في رحلتها -التي افتقدتها – لمنابت شعرها بحركته الأثيرة…
وامتزجت خفقات قلبيهما فيما بدأ صاخباً مدوياً كقرع الطبول…
قبل أن يخفت رويداً رويداً حتى قارب هسيس النسيم…
دفءٌ بدفء…والبادي أكرم…
شوقٌ بشوق…والبادي أسعد…
وعدٌ بوعد…والبادي أصدق…
بل…
عشقٌ بعشق…وليس منهما بادئٌ ولا لاحق…
فكلاهما الآن في عز رحلته …منطلق!!!
========
_صباحية مباركة يا عروسي!
همس بها معتصم بحرارة في أذنها وذراعاه يطوقانها بدفء مع توهج عينيه بعاطفته وهو يردف:
_أم أقول يا حلمي؟!
فانطلقت منها أنّة خافتة وهي تعانق نظراته العاشقة بلهفة ناسبت همسها ذا الدلال:
_كنت تحلم بي؟!
فازداد ضغطه الحاني لها وهو يهمس بحرارة:
_كنتِ أغلى حلم!!
ثم ضحك ببعض الخجل وقد احمرت أذناه قليلاً ليناقض هذا خشونة صوته المرتبك بعدها:
_يوماً ما قد …أقصد…لديّ شئٌ ربما…تحبين رؤيته!!
قالها وهو يحل ذراعيه من حولها لتعبث أنامله بخصلات شعره وهو ينهض من نومته في ارتباك جعلها تنطلق ضاحكةً للحظات…
قبل أن تقوم بدورها لتحتضن وجنته براحتها هامسةً بمرح لم يخفِ عاطفتها:
_ماذا حدث في هذه الدنيا؟!معتصم العابث تحمر أذناه خجلاً!!!
فخبطها على كتفها بخفة وهو يغلظ صوته هاتفاً بمزيج من خشونة وعبث:
_خجل؟!!دعينا نختبر هذا الخجل إذن!!
قالها وهو يجذبها نحوه ببعض العنف لكنها عادت تضحك بانطلاق وهي تبسط راحتها أمام وجهه قائلةً بما يشبه الاعتذار:
_سحبتها!!
فضحك بدوره وهو يضمها برفق ليقبل رأسها بينما رفعت هي عينيها إليه لتقول برجاء جاد هذه المرة:
_ما هذا الذي كنت تريدني أن أراه؟!
تنهد بخفة ثم عاود تقبيل رأسها …
قبل أن ينهض من جوارها ليفتح الكومود جواره حيث استخرج منه بعض الأوراق التي ناولها لها مع قوله الذي امتزج بعاطفته:
_تبيّني التواريخ تحت تواقيعي!
ابتسمت بفرحة غامرة وهي ترى خطوطه البسيطة بقلم “الرصاص” والتي رسمت وجهاً يشبه وجهها …
وتحته كانت حروف اسمها مكتوبةً بطريقة خاصة …
والعجيب أن هذا كان مكرراً في جميع الأوراق التي تشابهت خطوطها إلا من تواريخها التي وشت لها
بقِدَم عاطفته !!!
فرفعت عينيها إليه بابتسامة حب واسعة ليعاود استلقاءه جوارها هاتفاً بمرح لا يخلو من حرج:
_يوماً ما وقعت إحداها في يد أمي…فعلمت عن شعوري نحوك…يومها أحسست بنفس إحساسي عندما كنت أتسلق سور المدرسة هرباً فيضبطني الحارس متلبساً!!!
علت ضحكاتها الرنانة بعاطفتها المشبعة بسعادتها للحظات قبل أن تعود ملامحها لسابق هدوئها مع سؤالها ببعض الحرج:
_بخصوص والدتك…هل قبلت زواجنا هكذا ببساطة رغم ظروفي؟!
لكنه ضحك ضحكة رائقة وهو يشعث شعرها بأنامله مشاكساً مع همسه :
_أنتِ لا تعرفين “زوزو”…غداً عندما تعاشرينها جيداً ستعلمين إنها لا تبالي بشئ في هذه الدنيا سوى سعادتي أنا وأخي.
ثم قبل جبينها بعمق عاطفته ليردف بصدق اخترق قلبها:
_وهي أدركت أن سعادتي لن تكون إلا معكِ.
ورغم أن عبارته أرضت غرور أنوثتها لكنها مطت شفتيها لتقول بمزيج من عتب ودلال :
_وهؤلاء الفتيات اللاتي…
_شظايا زجاج!!
هتف بها بحسم مقاطعاً عبارتها فأطلقت همهمة متسائلة قبل أن يقترب منها لينظر لعمق عينيها مفسراً:
_كل النساء بعيني شظايا زجاج وتبقين أنتِ ماستي ..
ثم صمت لحظة ليردف بين شفتيها :
_ماستي الوحيدة.
أغمضت عينيها بهيام تتلقى فيوض عاطفته بفخر عاشقة راضية…
ورغم أنه لم يكن أول عهدها بفورة المشاعر هذه لكنها كانت معه تختلف…
عندما يتصالح القلب والجسد ليمنحا تاج الملك لعاشق واحد…
فهذه هي “شرعية” السلطة لمُلكٍ ثابت لن يتزعزع!!
لتمضي بهما الدقائق لاهثة في عدوها حتى همس هو أخيراً وهو يضمها لصدره مستعيداً ذكرياته العامرة معها:
_قبل اعترافي لكِ ذاك اليوم…هل كنتِ تعلمين إني أحبك؟!
فابتسمت وهي ترفع عينيها إليه هامسةً بشقاوة:
_كنت أشك!
لكنه ضحك وهو يربت على وجنتها قبل أن يتنهد وهو يهمس بجدية تامة:
_أما أنا فكنت واثقاً من حبك لي…ولعل هذا ما كان يعذبني أكثر!
امتزجت عبارته الأخيرة بالكثير من الألم والعجز …
لكنها قرأت ما يريد قوله في عينيه فوضعت أناملها على شفتيه مع همسها الراجي:
_معتصم…أنا صرت قوية بما يكفي لأنسى كل ما لا يروقني من ماضٍ ذهب ولن يعود…فلا تشغل بالك به.
فهز رأسه ليقول بأسف:
_فقط لو كنت أعلم عما يبعدك عني قبل فوات الأوان!!!لو كنتِ…
_معتصم!!
قاطعت بهمستها الرقيقة عبارته قبل أن تبتسم لتردف برضا:
_ألم تتعلم شيئاً بعد كل هذا؟!هي درجاتٌ وجب علينا صعودها درجة درجة…حتى نصل لآخر درجة…أنا تعلمت ألا ألوم البدايات فلولاها لما كانت النهاية…أجمل نهاية!!
_أحبك!!
لم يجد أفضل منها رداً على عبارتها …
لا…بل وجد!!!!
غيمات قبلاته التي عادت تمطرها عشقاً على وجهها لتنبت الفرح بين جنبات روحها الراضية…
قبل أن تطوقه هي بذراعيها أخيراً لتقول بدلال:
_مطلبٌ أخير…شديد الصعوبة…لكن حبيبي معتصم لن يرفضه لعروسه !!
فارتفع حاجبه بمكر وهو يداعب أنفها بأنفه مشاكساً مع قوله:
_بدأنا الاستغلال!
وجوابها كان ضحكة رائقة قبل أن تتنحنح بحرج لتخبره بمطلبها…
والذي كان حقاً…شديد الصعوبة!!!!
============
_لم تمت!!
تمتم بها حسام مصدوماً وهو يقرأ اعترافات سرحان في محاضر النيابة بعدما ألقي القبض عليه…
قبل أن يهز رأسه بذهول وهو يحاول استيعاب كل هذه الحقائق التي كانت غائبة عنه…
عاصي لم يقتل طيف…
الجثة المتفحمة في المنزل المحترق لم تكن لها!!!
وهو الذي ظن أن عاصي تدخل بنفوذه لإيقاف التحقيق في هذا الأمر ليغطي على جريمته…
ليكتشف الآن أنه فعلها ليساعدها على الهرب!!!
وهي؟!!!
هي خدعته ب”رسالة”!!!
رسالة!!!!!!!!
رسالة دمرتك يا حسام!!!
جعلتك تعيش في عذاب ضميرك طوال هذا الوقت!!!!!
أيقظت وحش الانتقام بداخلك فلم تهدأ حتى فتك بكل شئ!!!
رسالة!!!!!
أيّ غرٍ ساذج كنت وأنت تبكيها طوال هذه الليالي؟!!!
أي قلب أحمق كنت تمتلك وأنت تناجي “عقد الفل” خاصتها كل ليلة!!!
بل أي عقلٍ كان فيك وأنت تصدق تمثيليتها هذه بمنتهى الاستسلام؟!!
أحمق…
غبي…
والآن …مجرم!!!!
نعم…مجرم!!!!
من منكما الدائن الآن…ومن المدين؟!!
أنت أم عاصي؟!!
عاصي لم يقتل أخته!!!
لكنك أنت…أنت كنت سبباً في مقتل زوجته وابنه!!!
خنت ضمير وظيفتك لتحقق انتقاماً مزيفاً لواحدة لم تمت!!!
لم تمت!!!!
عاد يهز رأسه بذهول قبل أن تنفلت منه ضحكة قصيرة…
لم تلبث أن تلتها ضحكاتٌ أُخَر ناقضت ذاك الدمع المتجمد في عينيه مع هتافه المنفعل:
_آه يا بنت “الرفاعي” !
انقطعت أفكاره عندما سمع صوت طرقاتٍ هادئة على باب مكتبه فرفع عينيه نحوه…
قبل أن يقف مكانه ليهتف بدهشة:
_أنتِ؟!ماذا تفعلين هنا؟!
ازدردت ريقها ببعض التوتر قبل أن تسير نحوه بخطوات ثابتة لتقول بنبرة هادئة:
_كيف حالك يا حسام؟!
قالتها وهي لا تكاد تصدق أنها تقف أمامه من جديد…
هي -بالكاد- أقنعت معتصم أن يسمح لها بهذه الزيارة التي تأخرت لكن …لعلها تدرك بعضاً مما يمكن إنقاذه!!!
بينما لم يكن هو في حالٍ يسمح له بالثرثرة…
فوضى أعماقه الآن كانت تكتسحه بلا رحمة لتزيد من خشونة طباعه…
لهذا هتف بنبرة جافة:
_ماذا تريدين أنتِ الأخرى؟!جئتِ تشمتين في سذاجة المخدوع أم تغيظين زوجك السابق بزواجك الجديد؟!
لكنها بدت وكأنها كانت تتوقع هذا الرد عندما صمتت قليلاً قبل أن تقول بنفس النبرة الهادئة:
_لا هذا ولا ذاك…جئت كي أريحك!
_تريحينني؟!!
هتف بها باستنكار وهو يلوح بذراعه قبل أن يهتف بغضب هادر:
_هاتي ما لديكِ أنتِ الأخرى… لا ينقصني دهاء النساء هذا!!!
تقبلت ثورته بتفهم وهي تدرك شعوره الآن…
حديثه الغارق في مرارته عن “سذاجة المخدوع” يعني أنه اكتشف الحقيقة…
اكتشفها في وقت متأخر للأسف!!!
لهذا تنهدت بحرارة ثم قالت بحذر:
_أنت علمت أنها لا تزال على قيد الحياة؟!
فابتسم ساخراً يداري هزيمته وهو يكتف ساعديه مع قوله:
_كنتِ تعلمين؟!
أومأت برأسها إيجاباً وهي تواجهه بثبات نظراتها لتلقي الحقيقةكاملة:
_قابلتها في أبو ظبي…مصادفةٌ جديدة من مصادفات القدر التي لا تنتهي.
فانعقد حاجباه بشدة مع اشتعال ملامحه وهو يسألها بانفعال:
_قابلتِها؟!
أغمضت عينيها بقوة للحظة تستجمع شجاعتها قبل أن تقول بحزم:
_نعم…قابلتها…لا تحقد عليها كثيراً فهي ليست هانئة…كلاكما مسخ شوهه انتقامه!!!
هنا دار هو حول المكتب ليقف قبالتها تماماً مع هتافه الثائر:
_ولماذا لم تخبريني من قبل؟!الآن تفضلتِ بإخباري الحقيقة؟!!بعد ماذا؟!بعد ما تلوثت يداي بالدم؟!
دمعت عيناها وهي تشعر ببعض الذنب لكنها أصرت أن تتم ما بدأته عندما قالت بثبات:
_لم أكن أعلم أنك تخطط للانتقام من عاصي بهذه الطريقة…كما أنها طلبت منا ألا يعرف أحد عن الأمر.
فضحك ضحكة ساخرة وهو يشيح عنها بوجهه الذي عجز عن إخفاء انفعاله…لتردف هي:
_أنا جئت أخبرك بالحقيقة كي تحسن تقييم أمورك…للأسف تأخرت أنا كثيراً في إبلاغك بها …لكنني واثقة أنك لن تستريح حتى تلتقيها من جديد….هذا اللقاء الذي يحتاجه كلاكما ليداوي نفسه من جرح الآخر حتى يستطيع أن يكمل طريقه.
عاد يضحك مرة أخرى ساخراً قبل أن يعاود النظر إليها بقوله المنفعل:
_سعيكم مشكور يا ذات الجناحات البيضاء…إذا كنتِ أنهيتِ محاضرتك فتفضلي بالخروج !!
فرمقته بنظرة أسف ٍ طويلة قبل أن تغمغم :
_أعانك الله على نفسك يا حسام.
قالتها وهي تعطيه ظهرها لتنصرف بخطوات مثقلةٍ بمزيج شعورها من أسف وإشفاق…
ليضم هو قبضتيه جواره بغضب وهو يكز على أسنانه بغيظ..
أبو ظبي!!!!!
المخادعة تحرقه بعذاب ضميره هنا وهي تتسكع مسافرةً بين البلدان؟!!!
تسرق منه راحة باله بحروف رسالة بينما تعيش حياتها بحرية؟!!!
لكن…ألم يكن من الأجدر به -وهو الذي يزعم حبها- أن يكون الآن طائراً من فرط سعادته بأنها لم تمت؟!!!!
ربما لو لم يكن قد تورط بانتقامه لكان حقاً كذلك!!!
لكن رائحة الدم التي تفوح من بين أنامله المذنبة تزكم أنفه عن هذا الشعور!!!
لا…ليس الأمر فقط متعلقاً بصفعة -خديعتها – على وجه غروره!!!
بل بعذاب ضميره -الحقيقي- هذه المرة وهو موقنٌ من سواد فعلته!!!!
انقطعت أفكاره من جديد عندما وصله استدعاء من مديره المباشر في مكتبه…
فابتسم ساخراً وهو يتوجه إلى هناك بخطًى متثاقلة…
لماذا يستدعيه الآن؟!!
هل جدّ جديدٌ بشأن عقابه على فعلته؟!!
هو يتوقع أسوأ عقاب خاصةً وهو مقرٌّ بتقصيره!!!
لكن…لا بأس!!!
لعل هذا العقاب يخمد نيران روحه المتأججة ….
طرق باب المكتب برفق ثم دخل يواجه الرجل بملامح جامدة…
لكن الرجل ابتسم ابتسامة ودود ناسبت قوله:
_أعرف أنك تنتظر أخباراً سيئة…لكن لا تقلق…أنا تحدثت معهم بشأنك ..وتاريخك المشرف شفع لك…خاصةً أن أحداً لم يتقدم ببلاغ شخصي ضدك …لهذا يمكننا تدبر الأمر فيما بيننا…أنا مقدر لظروفك النفسية السيئة بعد طلاقك الثاني..من المؤكد أنك لم تقصد هذا التقصير..فأنا أعرف عن كفاءتك منذ زمن بعيد..لهذا سأتجاوز عن هذا الأمر مكتفياً ب”لفت نظر” لكن هذا قد يستوجب نقلك لإحدى المناطق النائية…لا تقلق…لن يطول هذا الأمر …حتى…
كان الرجل مستمراً في حديثه الذي غاب هو عن بقية تفاصيله…
فيما ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة …
ها قد نفدت من العقاب يا “سيادة الرائد”!!
أنقذتك وظيفتك ومعارفك وتاريخك “المشرف”!!!
دم هذه المرأة مع طفلها سيضيع هدراً فداءً لانتقامك السخيف!!!
لعبة…
بدأتها امرأة وسار هو خلفها كطفل أحمق…
والثمن دفعته امرأة أخرى وطفل برحمها لم يرَ الدنيا بعد!!!
فأي ظلم؟!
أي ظلم!!!
وهنا عادت مشاهد متفرقة من حياته مع دعاء تؤرق مخيلته بالمزيد من الذنب…
حتى كاد رأسه ينفجر من فرط غيظه …
كم عذب تلك البائسة بذنب -أخرى- أجادت العبث به كدمية خرقاء!!!
“أخرى” لم يعشق امرأة غيرها …ولم تخدعه امرأة سواها!!!
“أخرى” جعلته يسير حافياً على نصل السيف بينما تتراقص هي طرباً حول دمائه…
حقاً …لو كانت الخديعة امرأةً لكانت هي بلا منازع!!!
_حسام …هل تسمعني؟!
أيقظه هتاف مديره من شروده فالتفت نحوه بنظرات مشتتة…
ليرمقه الرجل بنظرة مشفقة ناسبت قوله:
_عملنا صعب يا ابني…ستواجه الكثير من هذه الأمور …لكن يجب أن تتعلم أن تفصل بين حياتك الشخصية وبين واحبات عملك…
ثم صمت لحظة ليردف:
_يمكنك الحصول على إجازة لتريح أعصابك فأحوالك لا تعجبني مؤخراً.
فهز حسام رأسه ليقول مصدقاً على قوله:
_أجل…أنا أحتاج حقاً لإجازة…إجازة طويلة.
ثم أخذ نفساً عميقاً ليقول بعينين مغمضتين:
_سأتقدم إلى سيادتك بطلب وأرجو قبوله…
فضاقت عينا الرجل بنظرة متسائلة عندما منحه هو قراره الأخير:
_طلب “استقالة”!
=========
_الأزرق للصبية والوردي للفتيات…ستفسدين الذوق العام يا أستاذة!
هتف بها فهد وهو يسير معها لشراء لوازم العزيزة القادمة فالتفتت نحوه لتقول بمرح:
_لا شأن لي بالذوق العام…ابنتي وأنا حرة التصرف في شئونها!
لكنه هز رأسه ليقول مشاكساً:
_كل الثياب زرقاء وفيروزية…كزيّ المساجين!!!
انفلتت منها ضحكة عالية جذبت نحوهما أنظار بعض المارة في هذا “المول” الضخم الذي اكتظ برواده …
فجذبها من مرفقها نحوه ليهمس بغيرة مشتعلة:
_كم مرةٍ أخبرتك ألا تضحكي هكذا وسط الناس؟!
زمت شفتيها بحرج وهي تلتصق به أكثر مع تربيتتها على ذراعه بهمستها:
_آسفة!
لكنه رمقها بنظرة حانقة وجدت لها مبررها مع تلك الهمهمة التي انبعثت خلفها:
_أليس هذا فهد الصاوي؟!
فأشاحت بوجهها هي الأخرى في ضجر وهي تهمس له:
_دعنا نغادر هذا المكان…أنا تعبت!
_لا!
هتف بها قاطعة عندما شعرت بمن خلفهما يتقدمونهما ليرمقونهما بنظرات فضولية وابتسامات متظارفة…
قبل أن يمضوا في طريقهم…
بينما لم يكترث فهد بهذا وهو يقول بتجهم:
_لا تهتمي…غداً ينسون!
أكملت سيرها جواره بوجوم لبضع دقائق حتى شعرت به يضغط أناملها في راحته مع ميله على أذنها بهمسته:
_غاضبة؟!
فرفعت إليه عينيها بنظرة ضائقة لانت رويداً رويداً أمام نظراته الحنون حتى ابتسمت أخيراً …
قبل أن تهمس ببعض القلق:
_هل تظن حياتنا ستستقيم هنا؟!تاريخ والدك؟!شهرته؟!علاقاته؟!
ثم ازدردت ريقها بتوتر لتردف:
_أعداؤه!!!
لكنه عاد ينظر أمامه ليقول بحزم واثق:
_لا تشغلي بالك بهذا…أنا تخلصت من إرث والدي الفاسد كله…..بما فيه سجل عداواته…صحيحٌ أن فضول الناس سيطاردني لبعض الوقت لكنهم غداً ينسون عندما تنسحب الأضواء لأناسٍ آخرين.
أومأت برأسها موافقةً وقد منحتها كلماته بعض الأمان …لتسأله بعدها باهتمام:
_ومشروعك الجديد؟!
_لا تقلقي…خبرتي مع أبي نفعتني كثيراً…ولعل هذا ما يمنحني بعض الأمل في القادم.
قالها مطمئناً إياها وقد نجح حقاً فقد تنهدت بارتياح أخيراً لتقول بابتسامة واسعة:
_الحمد لله!
والغريب أنه كان يرددها هو الآخر في نفسه سراً وهو يشعر براحة غريبة مع سيره معها هكذا…
مطمئناً…مرتاح البال…
لقد عاش جاسم الصاوي ومات دون أن يجرب شعوراً كهذا !!!
لا يذكر أنه رآه مرة يتحرك دون حرس شخصي!!!
ورغم تظاهره الدائم بالقوة والتسلط…
لكنه -وحده- كان يرى في عينيه تلك النظرة الخائفة!!!
نظرة رجلٍ خاسر يتوقع أن تأتيه النهاية المخزية في أي وقت!!!
لهذا يحمد الله أنه أفاق لنفسه في الوقت المناسب قبل أن يسير نحو نفس المصير!!
انقطعت أفكاره عندما رن هاتفه فتناوله ليطالع اسم المتصل ببعض الضيق قبل أن يقول لجنة بحزم:
_ادخلي أنتِ هذا المحل وأنا سأنتظركِ هنا حتى أنتهي من مكالمتي.
نقلت بصرها بينه وبين الهاتف بتوجس قابله هو بنظرة رادعة…
فزفرت ببعض الضيق قبل أن تدخل للمحل كما أشار…
ولم تكد تمضى بضع دقائق حتى عادت إليه لتجده قد أنهى مكالمته وقد وقف واجماً بشرود…
فاقتربت منه وهي تسأله باهتمام:
_مَن كان هذا؟!
التفت إليها من شروده ليبتسم ابتسامة عابثة وهو يرفع أحد حاجبيه مع همسه بمكر:
_ولماذا “هذا” وليست “هذه”؟!!
فابتسمت وهي تلكزه في كتفه قبل أن تعاود سيرها معه ليجيبها هو عن تساؤلها:
_حسام!
عقدت حاجبيها بضيق وهي تهز رأسها لتقول بانفعال:
_أعوذ بالله!ألازلتَ على علاقة به بعد ما فعله بعاصي؟!
زفر بقوة ثم صمت قليلاً ليردف بعد فترة :
_الأمر أعمق مما تظنين…أنا أعلم أن الخيوط متشابكة حد التعقيد…لكنني أفهم حسام جيداً وأعرف كيف يفكر.
عادت تهز رأسها بتساؤل …فاستطرد بشرود:
_قد يبدو الأمر سطحياً وكأنه استغل وظيفته ليحقق انتقاماً رخيصاً…لكنه لم يحسبها هكذا…هو وقتها فكر أنه يستغل وظيفته حقاً لكن ليحضر حق امرأة ضعيفة لن يطالب به أحد…كان يظن أن عاصي أحرق البيت بأخته بعدما أجبرها على إرسال رسالة له كي يبدو الأمر كانتحار…
أشاحت بوجهها في عدم اقتناع …بينما أردف هو مدافعاً:
_لو كان سيئاً كما تظنين لما تعذب بذنب طيف طوال هذه الأيام…لما خاطر بعقابه في عمله عندما ينكشف الأمر…حسام حقق العدل كما يراه هو لا كما نراه نحن.
فعادت تلتفت نحوه لتهتف بسخط :
_الحكاية ليست فيما يراه أو فيما نراه…الحكاية في تلك المرأة وطفلها اللذيْن سيحمل وزرهما مابقي له من عمر…في إصابة عاصي التي لا ندري إلى الآن مداها…في خيانته للقسم الذي أقسم عليه في وظيفته.
هنا أومأ هو برأسه موافقاً ليقول بأسف:
_حسام قدم استقالته بعد ما عرف الحقيقة.
فمطت شفتيها باستياء وهي تقول باندفاع:
_أقل واجب!!الآن يمكنني القول أن لديه بعضاً من ضمير…لكنني عند رأيي…ذنبه سيبقى في عنقه طوال عمره ولا أدري كيف سيكفر عنه!!
صمت طويلاً دون رد …قبل أن يهز رأسه بأسف ناسب قوله:
_هو أيضاً يرى هذا…لأول مرة أجدني عاجزاً عن مساندته كصديق…ليس فقط لأن الأمر يتعلق بزوج أختي لكن لأنني لا أجد له من فعلته مخرجاً.
ثم صمت لحظة ليردف أخيراً:
_وكأنما كُتِب عليه أن يبقى أسير ذنوبه طوال عمره…وما أقساه من شعور لو تعلمين!!
===========
سارت بما تحمله بين يديها نحوه وهي تراقبه بعينيها العاشقتين…
كان جالساً أمام النافذة المفتوحة المطلة على البحر وأنامله منقبضةٌ على مسنديْ المقعد بقوة جعلتها تدرك الكثير عن طغيان مشاعره…
ورغم أنه كان يعطيها ظهره لكنها كانت تقرأ حزنه اليائس في سكون جسده…
ظهره الذي استقام كما ينبغي في جلسته مع ما تدركه من حمولٍ عليه!!
حتى صارت على بعد خطوة منه فوضعت ما بيدها جانباً ثم تناولت كفه بقبلة على ظاهره مع همسها بدلال ممتزج بعاطفتها:
_هذه لأبي!
حملت ملامحه بعض الارتياح وقد التوت شفتاه بشبه ابتسامة عندما حطت شفتاها بعدها على جبينه لتردف:
_وهذه لصديقي!
فاتسعت ابتسامته نوعاً بينما واصلت شفتاها طريقها لشفتيه بقبلة ناعمة ناسبت همسها الحار:
_وهذه لحبيبي وسيد قلبي!
تلقفها بين ذراعيه ليجلسها على ركبتيه مع همسه بصوته الذي لم يغادره حزنه بعد:
_صباح الخير…أين كنتِ؟!…لقد سمعت صوتكِ منذ وقت طويل تنادين الخادم!
فابتسمت وهي تتناول شريحةً من البيتزا التي أعدتها لتقربها من فمه هامسةً بمرح:
_كنت أعد لك هذه !
لكنه أشاح بوجهه ليمسك كفها قائلاً ببعض الخشونة:
_أستطيع تناول طعامي وحدي!
ورغم أن -سوء فهمه- قد ضايقها لكنها عادت تميل على أنامله الممسكة لكفها بقبلة عميقة مع قولها بتفهم:
_لا أفعلها لأنك تحتاجها…بل لأني أحب فعلها!
عقد حاجبيه بضيق تقبلته هي بصبر وهي تدرك ما يعانيه لتعاود تقريب الطعام من فمه مع استطرادها:
_لم تتذوق يوماً طعاماً من صنع يدي…هيا أخبرني عن رأيك بصراحة!
ظل حاجباه منعقدين للحظات حتى ظنته سيرفض…
قبل أن تنفرج شفتاه ببطء ليقضم قطعةً من طرف الشريحة ثم همس بعد لحظات باقتضاب:
_جيدة…سلمت يداك.
ربتت على وجنته برفق ثم انتبهت لأن جلستها هذه قد تكون تؤلم ساقيه مع ما علمته عن سابق إصاباته بعد الحادث…
فتحركت لتعاود وقوفها لكنه بدا وكأنه قد قرأ أفكارها كعادته فتشبث بها مع قوله بحزم:
_ابقيْ كما أنتِ…أنا بخير!
هنا ابتسمت بحنان وهي تعاود إطعامه بأحد كفيها بينما تتحسس وجهه بكفها الآخر مع همسها الذي فاض بعشق ما عادت تخفيه:
_هذا هو سر ما بيننا…كلانا يقرأ الآخر بمنتهى الشفافية دون كلمات…هذا ما يفوق الحب بكثير…إنه شفرة خاصة بين قلبينا فحسب!
ثم استمرت فيما تفعله وهي تردف بشرود:
_هل تعلم أنني كنت أحلم بك في تلك الفترة التي عقبت الحادث قبل أن أعلم عنه؟!كنت أراك تمد يديك نحوي لكن ذراعيّ كانا قصيرين …لم يكونا يصلان إليك أبداً…وكنت أستيقظ من نومي كل ليلة بعدها وأنا أشعر أنني…أنني…لا أدري كيف أصف لك …
بدا على وجهه بعض الاهتمام الذي كسر جموده وهو يلوك طعامه صامتاً…
فتنهدت بحرارة وهي تسند جبينها على كتفه لتهمس:
_ذابلة …مطفية…كسيرة…هل تصدقني لو قلت إنني بعد كل حلم كهذا كنت أشعر باختناق أنفاسي وكأن ثقلاً ما يجثم على صدري ؟!!!حتى أنني كل ليلة قبل نومي كنت أدعو ألا يراودني ذات الحلم…لكنه كان ينتابني بإصرار عجيب…حتى كانت تلك الليلة التي علمت فيها عما حدث لك …ليلتها لم تغفُ عيناي سوى بضع دقائق لأرى نفس الحلم …نفس اللهفة في ندائك…نفس العتب في عينيّ…نفس القصر في ذراعيّ…لكن …طاقةً غامضةً من نور ساطع ضربت ظهري فجأة لأجدني فجأة بين ذراعيك!
ثم رفعت عينيها إليه لتردف بابتسامة رآها بقلبه دون عينيه:
_لازلت أذكر شعوري بدفئي بين ذراعيك في حلمي ساعتها…لمعة عينيكِ الصافية كما لم أرهما من قبل…ولعل هذا هو ما هوّن عليّ مصابي وقتها.
انفرجت شفتاه وكأنه سيهمّ بالحديث لكنه عاود إطباقهما بإصرار مع انعقاد حاجبيه لتدرك هي صعوبة أن يتحدث عن ذاك الأمر…
ورغم أنها في ظروف أخرى كانت ستتقبل صمته لكنها تدرك الآن أن حديثه هو علاجه!!!
كلامه عن الأمر سيريحه من “جلد الذات” هذا الذي يمارسه على نفسه…
لهذا ستضغط عليه بكل ما أوتيت من قوة ليبوح لها بمكنون صدره عساه يخفف بعضاً من أوزار نفسه المشبعة بيأسها!!!
كان قد انتهى من تناول طعامه فعرضت عليه قطعةً أخرى رفضها باقتضاب قبل أن يعود لصمته المشتعل…
فمسحت يدها بمحرمة ورقية ثم تنفست بعمق تتأهب لمعركتها التالية قبل أن تسأله مباشرة:
_لماذا هدمت القصر؟!
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يشيح بوجهه ليتجاهل سؤالها هاتفاً ببرود لم يخدعها:
_هل ضايقكِ الأمر؟!هل تزعمين أنكِ كنتِ تحبينه؟!
بسطت كفها على صدره بحركتها التي تعلم كم تريحه لتجيبه بشرود مصطبغ بالشجن:
_أكذب لو قلت لك لم أحبه…غرفة الحديقة بكرمة العنب التي طالما احتضنت حزني…غرفتك الهادئة التي طالما منحتني سكينتي…فضاء سطحه الواسع حيث استقرت طائرتي الورقية…وحتى تلك المساحة الخالية في خلفيته والتي خصصتها لتدريبات سلاحك….نعم…سأفتقد كل هذا ما بقي من عمري …لكن…
ثم صمتت للحظة لتردف بمزيج قوتها وعاطفتها الفريد:
_لو كنت هنا وقتها لهدمته قبلك!
فارتسمت على شفتيه ابتسامة شاحبة وهو يسألها:
_لماذا؟!
هنا ازداد ضغط كفها على صدره لتقول برقة مشاكسة:
_لا تراوغني بمكرك…أنا سألت أولاً!
ذابت ابتسامته على شفتيه رويداً رويداً حتى تلاشت تماماً مع أطياف ذكرياته التي عادت تراوده …
لتنهش روحه بمخالب الذنب من جديد…
لكنها اكتنفت رأسه بين كفيها لتضمه لصدرها قبل أن تحوطه بذراعيها في احتواء كانت تحتاجه الآن مثله …وربما أكثر!!
لتهمس في أذنه بحنان :
_تكلم يا عاصي…تكلم لأجلك لا لأجلي…أنا أكاد أقسم على ما يشعر به قلبك الآن…لكنني أريد أن أسمعه منك…تكلم حتى تسامح نفسك!
كان صوتها يصله وهو بين ذراعيها وكأنما هو ترنيمة سلام هبطت من السماء على مسافر ليلٍ وحيد في صحرائه فآنسته…
أو كقطرات مطر عنيدة تحدت أحجار يأسه حتى صدعتها…
ورغم أنه كان يعتبر حديث نفسه عزيزاً لن يظهره لأحد…
لكنه بين ذراعيها الآن وقد غابت عيناه إلا عن ظلمة ما عادت تفارقه…
وصمّت أذناه إلا عن هدير دقات قلبها التي يتردد صداها مع دقات قلبه بنفس الإيقاع…
وغفل إدراكه إلا عن فيض حنانها الذي احتواه باقتدار لن يجيده مثلها…
وجد نفسه يهمس أخيراً بخفوت :
_لم أكن يوماً غافلاً عن ذنوبي…بل إنني لا أبالغ لو قلت إنني كنت أحفظها واحداً واحداً…كل ذنب كان يقع على قلبي كجلدة سوط تؤلم في البداية قبل أن يختفي الوجع لتحل محله ندبة…يوماً بعد يوم…ذنباً بعد ذنب…ندبةً بعد ندبة …تشوه القلب بخطاياه…زعمت أنني لن أكترث بالنهاية…ورغم أني كنت أنتظر عقاب السماء لكنني لم أكن أخشاه..
عضت على شفتها بانفعال ثم امتدت أناملها عبر فتحة قميصه نحو ما طالته من ندوب ظهره وكتفيه…
لتلامسها برفق مع همسها الدافئ:
_لم تعد تؤلم …صحيح؟!هكذا أيضاً ندوب القلب…الزمن كفيل بجروحنا فقط لو صدقنا العزم ومنحناه الفرصة.
لكنه هز رأسه ليهمس:
_من قال إنها لا تؤلم؟!وأي زمنٍ هذا الذي يداوي الجراح؟!
ازدردت ريقها تبتلع غصة ألمها لأجله بينما استطرد هو بنفس الخفوت الذي يقطر ألماً:
_لقد صعدت سلم مطامعي درجة درجة حتى إذا ما وصلت لقمّته…. سقطت!
تهدج صوته في كلمته الأخيرة فضمته إليها أكثر وهي تقبل رأسه بعمق ليسودهما صمت قصير…
قبل أن يردف هو بنفس النبرة :
_لكنني عندما رأيت الموت بعيني علمت أنني لم أكن بالشجاعة التي تخيلتها…علمت ضعف قدري جيداً أمام مشيئة القدر…وجدتني أستعيد شريط حياتي كله لأتمنى نقطة رجوع…و بعدما أفقت…ووسط شعوري بهذا العجز الكامل الذي تذوقته لأول مرة لم أتمكن من الشعور بالسعادة لهذه الفرصة الجديدة التي كان ثمنها دماء امرأة لا ذنب لها وابنٍ كان هو كل أملي في هذه الدنيا.
دمعت عيناها بتأثر وهي تسمعه يتحدث بهذا الانطلاق لأول مرة منذ عرفته…
حديثه الذي كان دوماً مقتضباً بعبارات يمكنها عدّ كلماتها بالضبط …
الآن تسمعه منه بتحرر و كأن سدود كتمانه انهارت فجأة ليفيض خلفها طوفان روحه الثائرة…
عاصي تغير حقاً!!
السيد المكابر باح أخيراً بحديث نفسه…
وياله من حديث!!!
لهذا لم تتعجب عندما رفع رأسه أخيراً ليهمس بنبرة أقوى:
_بعد ما أفقت من صدمة الحادث…لا أخفيكِ أن شيطاني غلبني أول الأمر ليطوقني بقيد جديد…عاصي الرفاعي لن ينكسر…ماذا لو فقد ابناً وزوجة؟!أو حتى زوجتين؟!هل عدمت الأرض نساءها؟!سيتزوج من جديد وينجب طفلاً واثنين وعشرة…لكن…
ثم تأوه بقوة مزقت قلبها بحرقتها مع استطراده:
_تلك الصرخات ردتني!!
فانعقد حاجباها بشدة وهي تردد خلفه :
_صرخات؟!أي صرخات؟!
هنا هز رأسه بقوة وهو يهتف بانفعال:
_صرخاتٌ لا تغادر أذني بعد الحادث…تارةً هي صرخات طفل صغير…وتارةً هي صرخات امرأة…وأخرى هي متداخلة بأصوات لا أميزها…صرخات عذاب لا تتوقف…ظننت أنني سأتخلص منها عندما أترك الماضي خلفي لكنها لم تفارقني إلى الآن.
سالت دموعها على وجنتيها وهي ترى بعينيها حد معاناته …
لكنها تشبثت بتماسكها كاملاً لتسأله بنبرة قوية:
_لماذا ترفض العلاج؟!الأطباء يقولون إن ما تمر به ينبع من داخلك…أنت الذي ترفض مساعدة نفسك…لماذا يا عاصي؟!
_لأنني لا أستحق!
هتف بها بحدة وهو يهز كتفيها بانفعال قبل أن يدفعها ببعض الخشونة ليوقفها ويقف مكانه مع استطراده:
_لا أريد الاستجابة لهذا الهراء الذي يدعونه…لا أريد أن يسخر أحد مني…
ثم زفر زفرة حارقة ليردف:
_لا أريد انتظار أمل لن يأتي…هو كأس عقابي الذي سأرتشفه كاملاً حتى آخر قطرة!
لكنها هزت رأسها بعدم اقتناع وهي تهتف معارضة:
_أنت بهذا تظلم نفسك…لماذا لا…
_لن أتناقش في هذا الأمر!
هتف بها قاطعةً في وجهها ليبتر بها عبارتها بقوته المعهودة قبل أن يستطرد بنبرة أكثر صرامة:
_لم يجبركِ أحدٌ على احتمال هذا الوضع…فتأقلمي مع أنه لن يتغير!!
ورغم أن حديثه آلمها بخشونته لكنها كانت تشتمّ فيه رائحة انكسار روحه بذنبها …
رائحة خوفه الذي لا يريد الاعتراف به من مزيد ضربات القدر…
رائحة ألمه من “أمسٍ “تبخرت كنوزه -المزعومة- كأن لم تكن …
و”غدٍ” ينذره بشؤم فقرٍ جديد!!!
لهذا احتملت جفاف عبارته صابرة وهي تتشبث بعضديه بقوة ناسبت همسها :
_مجرد وجودي هنا معك وحدنا في هذا المكان حلمٌ…حلمٌ جميل لا أريد الاستيقاظ منه أبداً…لكنني سأكون أنانيةً حقاً لو تركتك لما تريد…أنت قلت لي يوماً إن الغريق لا يستأذنه أحد قبل أن ينقذه.
لكنه تنهد أخيراً بحرارة قبل أن يطلق آهة عميقة عقبها همسه اليائس:
_مضى وقت الإنقاذ يا صغيرتي…غريقك الآن في القاع!!
=====
غادرت المطار لتستقل تلك السيارة الخاصة التي تنتظرها في المدينة بتوصية منها ….قبل أن تقول للسائق بغطرسة :
_أريد الذهاب لقصر الرفاعي.
اختلس الرجل نظرةً جانبية نحوها لتجذبه هيئتها بالغة الأناقة والترف…قبل أن يغمغم متظارفاً:
_هل صار معلماً سياحياً الآن؟!
فخلعت نظارتها الشمسية لترمقه بنظرة قاسية ناسبت قولها:
_حافظ على عملك أيها الظريف وابتلع لسانك هذا طوال الطريق !
عاد الرجل ببصره نحو الطريق ساخطاً فيما شردت هي ببصرها وهي تتابع المرئيات حولها بمزيد من لهفة وشجن…
رغم أنها أقسمت لنفسها وهي تغادر هذه المدينة يوماً أنها لن تعود…
لكنها فعلتها!!!
لماذا؟!!
مكالمةٌ هاتفية من ماسة أخبرتها بما حدث لعاصي وطلبت منها الحضور لعل وجودها جواره يشكل فارقاً في حالته النفسية…
صحيحٌ أنها أغلقت الاتصال في وجهها يومها دون الاستماع لبقية التفاصيل- بمنتهى الصفاقة- مدّ عيةً عدم الاكتراث…
لكنها وجدت نفسها تحجز لنفسها مكاناً في أول طائرة عائدة إلى مصر…
لن تفوت هذه الفرصة للشماتة في ابن الرفاعي بعد ما ناله!!!
لقد رفض الاعتراف بها وسار على نهج أبيه مكتفياً بحفنة أموال ألقاها في وجهها…
والآن دورها لتتشفى فيه وقد رد له القدر ضربته!!!
أجل …هي تشفق على زوجته المسكينة التي ماتت مع طفلها بعد ما نالتها لعنته…
لكن هذا لا ينفي فرحتها بعدالة القدر مع طاغية مثله!!!
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها عند خاطرها الأخير…
لم تلبث أن اكتست ببعض الشجن وذكرياتها تنساب رغماً عنها مع انتقال نظراتها عبر البيوت والشوارع…
هنا عاشت أقسى ذكرياتها…
و…أجملها!!!
أجل…رغم أنها تأبى الاعتراف بهذا لكنها…الحقيقة!!!
لهذا احتبست دمعة غادرة بين رموشها والسيارة تمر على بيت حسام الذي لا يزال كما هو…
بدهانه المميز الأنيق وطوابقه الفخمة وسطحه الذي شهد العديد من ذكرياتهما معاً…
وعلى ذكر حسام خفق قلبها رغماً عنها وهي تعود لنفس العبارة…
“عدالة القدر”!!!
الرجل العظيم -الذي رفضها يوماً لأجل من هي أفضل-لم يعرف سعادةً بعدها!!!
إحداهنّ رفضته بعد معايرته بعدم الإنجاب…
والأخرى أفلتت بنفسها من جحيم أنانيته وجنونه!!!
صحيحٌ أن دعاء زعمت لها أنه لم ينسَها …
لكن ..بماذا أفادها تذكّره؟!!
هي لم تؤمن يوماً ب”حب أول” و”حب أخير”…
ولا “حب قويٍ “ولا “حب ضعيف”…
عقيدتها في الحب إنه إما “غنيٌ ” أو “فقير”…
الأول -يكفيك -عن كل العالم فلا تحتاج سواه…
والثاني- يُلجئك -إلى كل العالم تتسول منه ما تحتاجه!!!
وحبه هو كان فقيراً…بل…معدماً!!!
تنهدت بحرارة عند خاطرتها الأخيرة لتكتشف توقف السيارة أمام القصر…
أو -بالأدق- ما كان قصراً!!!
لتتسع عيناها بصدمة قبل أن تسأل السائق -المتبرم- بدهشة:
_ماذا حدث للقصر؟!
فقال الرجل ببرود دون أن ينظر إليها:
_هدمه صاحبه!!
زفرت بقوة ثم عادت تهتف بنفاد صبر:
_التفاصيل يا رجل…انطق!!!
فانطلق الرجل يحكي لها ما يتداوله أهل المدينة مما حدث لعاصي بما في ذلك اختفاؤه الغريب بعدها…
لينعقد حاجباها بمزيج من دهشة وانفعال…
قبل أن تعود ببصرها نحو أنقاض القصر البعيدة…
ورغماً عنها راودتها هذه الذكرى عندما أتت إلى هنا مع والدتها وهي بعد طفلة صغيرة ليطردهما حماد الرفاعي شر طردة…
ومنذ ذاك اليوم وقد كانت أقصى أمانيها أن تعود إليه ظافرة مسيطرة…
أن تمتلكه كما يفترض أن يكون حقها…
أجل …ذاك القصر لم يغادر مخيلتها يوماً كرمزٍ لقوةٍ أرادتها…ولم تنلها…
حقٍ فقدته…ولن تهدأ حتى تستعيده!!!
والآن ذهب كل هذا كهشيم تذروه الرياح…
مات حماد الرفاعي…
وفقد عاصي بصره وسطوته …
وانقض القصر فما بقي من كل هذا إلا حطام!
هنا اعتصرت قبضة باردة قلبها وهي تدور بعينيها في المكان بأسًى حقيقي…
قبل أن تتناول هاتفها لتتصل برقم ما…وما إن فتح الاتصال حتى تنحنحت لتعود لصوتها قوته مع قولها:
_أنا في مصر…أين أنتما الآن؟!
======
_عاصي!
همست بها بعاطفتها الدافئة وهي تبسط كفيها على كتفيه بينما كان هو جالساً على كرسيه في جلسته التي قلّما يغيرها الآن أمام النافذة المفتوحة…
ورغم أن ملامحه بقيت على جمودها لكن نبرة صوته حملت بعضاً من دفء شعوره بها وهو يمد أنامله لتحتضن كفيها على كتفيه مع همسه :
_أين كنتِ؟!
فمالت بجسدها عليه لتطبع على رأسه قبلةً عميقة قبل أن تهمس بتردد:
_لدينا ضيف!
تشنجت أنامله ليزداد ضغطها على كفيها مع انعقاد حاجبيه بقوة ناسبت هتافه:
_مَن؟!
صمتت للحظات دون رد قبل أن تتوجه ببصرها نحو طيف الواقفة هناك…
طيف التي تجمدت مكانها وهي تنظر إليه برهبةٍ احتلت ملامحها رغماً عنها…
وسؤالٌ واحد يكتسح كيانها بلا رحمة…
من هذا؟!!
هل هو عاصي الرفاعي حقاً؟!!
لا…لا…
هذا الشيب الذي ازداد غزوه لفوديه وكأنما تضاعف عمره فجأة…
هذا الانكسار الذي هزم عنفوان ملامحه…
هذه الجِلسة البائسة البعيدة تماماً عن جِلسته المهيمنة المعتادة على كرسيه في قصره!!!
أين هذا العاجز البائس من عاصي الرفاعي الذي كانت كلمته تزلزل الدنيا؟!
هل جاءت شامتةً حقاً؟!!!
ما بالها إذن لا تستطيع الآن هذا؟!!
كل ما يملؤها الآن شعور جارف بالرهبة مع تلك القشعريرة التي تسري في جسدها كله…
لكنها أخيراً استطاعت التقدم نحوه بخطوات متثاقلة…
قبل أن تتبادل مع ماسة نظرات ذات مغزى صاحبت هتافه هو المتوتر:
_من هنا يا ماسة؟!
ازداد تشبث ماسة بكتفيه فيما قالت طيف أخيراً بصوت متحشرج:
_أنا…طيف!
ازداد انعقاد حاجبيه للحظات ولازال قابضاً على أنامل ماسة بقوة …قبل أن يتمتم بدهشة:
_طيف!!!
هنا تمالكت طيف دموعها بصعوبة وهي تستعيد بذهنها ما روته لها ماسة منذ قليل…
كل ما حدث لعاصي كان بسببها هي…
ربما يحمل هو أوزار أعدائه لكن حسام منع تدخل الأمن لإنقاذه ظناً منه أنه ينتقم لها!!!!
ربما لولا هذا لتمكنوا من إدراكه في الوقت المناسب قبل أن يفقد زوجته وطفله…
بل و…بصره!!!!
لكن ماسة رمقتها بنظرة لائمة جعلتها تتماسك قليلاً قبل أن تغمغم بصوت متحشرج:
_كيف حالك …”سيد” عاصي؟!
أجل… نادته كآخر مرة التقته فيها ليلة سلمها نقودها شريطة ألا يعلم أحدٌ عن سرها شيئاً…
ورغم أن “النقود” منحتها “قشوراً” من أمان طالما افتقده عالمها …
لكنها وقتها تمنت حقاً لو يمنحها “أماناً حقيقياً” باعترافه بها!!
أمنيةً ماتت سريعاً كغيرها من أمنيات اختنقت بدخان قسوة عالمها !!
لكنه -ومع رسميّة لهجتها المختنقة -شعر بدفء غريب انبعث من مجرد وجودها هنا…
لتنفرج شفتاه قليلاً وكأنه يبحث عن كلمات قبل أن يقول أخيراً :
_أين كنتِ؟!
فتبادلت مع ماسة نظراتٍ وافرة المعاني قبل أن تتنحنح ماسة أخيراً وهي تسحب كفيها منه ببطء لتقول بمرح مصطنع:
_سأترككما تتحدثان بحرية…لاريب أن لديكما الكثير من الحكايات.
قالتها وهي ترمق طيف بنظرة أخيرة مزجت حذرها برجائها قبل أن تغادرهما بخطوات متثاقلة …
عندما التوت شفتا عاصي بابتسامة شاحبة وهو يسألها بنبرة غريبة:
_ألا يزال شكلكِ كآخر مرة رأيتكِ فيها؟!
قالها وهو يستعيد صورتها في ذهنه منذ لقائهما الأخير…
سمراء نحيفة القوام تفتقر لمقاييس الجمال المتعارف عليها…
لكن عينيها متوهجتين بشعلة خاطفة تأسر الأنظار…
يومها شعر أن هذه الفتاة سيكون لها شأنٌ عظيم وقد صدق حدسه فها هي الآن ترد بمزيج من ثقة وحسرة لم تخطئ طريقها لقلبه:
_بل أفضل بكثير!
هنا اتسعت ابتسامته بمزيج من حنان ورضا…
فيما استطردت هي بنفس النبرة:
_سافرت و صن

_اعتنيْ بنفسك…ولو احتجتِ شيئاً هاتفيني.
قالها فهد وهو يستعد لمغادرتهما عقب إتمام عقد الزواج قبل أن يرمق عاصي الذي بدت على وجهه أمارات معاناته الصامتة…
ليميل على أذنها هامساً بحزم حنون:
_مهمتك صعبة…كوني صبورة!
أومأت ماسة برأسها مطمئنة فمنحها عناقاً مؤازراً أخيراً قبل أن يعود بخطوات ثابتة نحو عاصي ليصافحه بود مع قوله:
_مبارك يا سيد عاصي.
صافحه عاصي بحاجبين منعقدين مكتفياً بإيماءة صامتة ليغادرهما فهد بعدها ومعه الخادم…
وما إن شعرت ماسة بخلوّ المكان حتى اندفعت نحو عاصي لتتعلق بذراعيها في عنقه مع قولها بمرح لم تعرفه يوماً:
_سجل يا تاريخ! ماسة أحرزت أول هدف انتصار في هذه العلاقة!
ضمها بأحد ذراعيه بينما حافظ على الآخر جواره…
ليبتسم ابتسامة شاحبة ولازال حاجباه على انعقادهما فابتسمت بحنان وهي تمد أناملها لتفك انعقادهما بنفسها هامسةً بعاطفتها السخية:
_ابتسامة وتقطيبة…ذراعٌ يعانق وآخر يتمنّع…ملامح صاخبةٌ بالحديث مع شفاه مطبقة بالصمت..
ثم صمتت لحظة لتطبع على شفتيه “هدية” ناعمة تليق بهمسها:
_ستبقى “سيد الأضداد” الذي أعشقه بكل تناقضاته!!
أفلتت أنّة خافتةٌ من بين شفتيه تزامنت مع ضغط ذراعه المحتضن لها أكثر فأتبعت “هديتها” اليتيمة بالمزيد والمزيد على شفتيه مع استطرادها الهائم:
_حبنا المنقوص اكتمل…أخيراً.
ثم تأوهت بخفوت وهي تخفي وجهها في صدره هامسة :
_أخبرك سراً؟!
انفرجت شفتاه للحظة قبل أن يعاود إطباقهما من جديد مكتفياً بضغط ذراعه الذي اشتد عليها رغم حركة أنامله “الرفيقة” التي صاحبته على طول ظهرها مع استطرادها:
_تلك الأيام التي تلت فراقنا كنت أعاتب نفسي فيك…لماذا لم أعشقك يوماً كما تعشق المرأة زوجها؟!لماذا بقيت علاقتنا محصورة في إطار الصداقة تارة والأبوة تارة أخرى؟!حتى في أشد لحظاتنا العاطفية حميميّةً كنت أكتفي بالأخذ دون العطاء!
ثم رفعت عينيها إليه تعانق غابات زيتونه التي تفتقد اشتعالها القديم لتهمس بحرارة:
_قمصاني الطويلة…عقدة شعري المعقوص…صقيع كلماتي المتحجرة…كل هذا يجب أن يتغير!
وكأنما داعبت كلماتها وتراً منسياً في قلبه!!
هو لم يكن “غافلاً” عن “تحفظها” هذا الذي تحكي عنه لكنه كان يدرك ب”حدسه” منبعه !!
ماسة امرأة لا تجيد الرقص على حبال “المتاح” بدعوى “الرضا”…
“رقصتها” ينبغي أن تكون على أرض ثابتة ملساء تناسب “رشاقة” خطواتها العاشقة…
وإلا فكيف تأمن “حافية القدمين” من “أشواك” المصير؟!!
“رقصتها” ينبغي أن تكون في مكان هادئ…وبلا ألحان!!
رنين “خلخال” أنوثتها لا يحتاج لصخب نغمٍ يشوش عليه!!
يكفيها إغواء “نظرة” تنفلت كجواد طليق من بين رموشها الحارسة …
لتحمل لهب الشمس و حِدّة السيف ولذة العسل!!!
“رقصتها” لا كرقص “الغواني”في ظلام الحيرة والشكوك…
بل كرقص “الملكات” على بلاط القصور تحت الأضواء…
أو كرقص “حوريات البحر” عندما يصعدن برؤوسهن فوق الماء ليعانقن الشمس ويسحرن أعين البشر!!!
“رقصة” ماسة العاشقة كشعاع الشمس…
سحره “يكتمل” في حريته واختراقه لكل ما يشرق عليه…
و”ينقص” عندما تحجبه الجدران!!!
لهذا لم يتعجب عندما شعر بأناملها تتحسس وجهه برقة مثيرة مع همسها:
_أشتاق الآن أن أفرد شعري على كتفيك…أن أرتدي لأجلك أرق أثوابي…أن أُسمعك أَحرّ عبارات الغزل …همساتٍ لم يعرفها قلبي إلا لك…لك وحدك!
ثم مدت أناملها تنتزع عنها حجابها لتحرر شعرها من رباطه قبل أن تهز رأسها برفق مع استطرادها:
_أريدك أن تراني الليلة كأجمل مرة رأيتني فيها!
التوت شفتاه بابتسامة ساخرة متشحة بالمرارة لكن شفتيها المغرمتين كانتا لها بالمرصاد…
مرة…تلو مرة…تلو مرة…
حتى تحولت ابتسامته الساخرة لأخرى راغبة ناسبت همسها هي الدافئ بعدها:
_لن تراني يوماً أفضل مما ستراني الآن…منذ متى يبصر العاشقون بعيونهم؟!
ثم سحبت أنامله الحرة قسراً لتدور بها على ملامحها مردفة:
_أرأيت؟!معي حق؟!صحيح؟!
تأوه بخفوت وصورتها في مخيلته تسطع وسط كل هذا الظلام كشمس متوهجة…
هو يراها!!!
حقاً يراها!!!
عيناها تلتمعان ببحور فضتهما وتنبضان بعشق لم يشعر بهدير موجه- كما الآن -من قبل!!
رموشها ترفرف فوقهما كحمائم حرة بلا قيود…
شفتاها تشتعلان بعاطفة هو وحده يعرف كيف يطفئها …
وخصلات شعرها تهيم بفوضوية حول وجهها لتعمق الإحساس ب”حرية اللوحة” !!!
لوحة؟!!!!!
نعم…وهل أجمل من هذه لوحة؟!!
لكنه وبرغم الصخب المشتعل في أعماقه ظل صامتاً دون رد…
هو “رجلٌ” لا يعشق بلسانه!!
كلمات الحب لديه “عملة زائفة” لا يُتعامَل بها في “سوق” المغرمين!!
و هي “امرأة” لا تسمع في الحب ب”أذنيها”…
بل ب”قلبها”!!
قلبها الذي كان يسمع الآن دويّ دقات قلبه يكاد يقسم بسخاء على ما بخلت به كلماته!!
لهذا خفضت رأسها لتميل على صدره أخيراً بقبلة عميقة مع همسها:
_قلبك يفهمني عندما أخصه بقبلاتي…يدرك معناها تماماً كما أريده .
ثم بسطت كفها على صدره مكان قلبه تماماً لتردف:
_قلتَ لي يوماً إن الحب تمثال من شمع ينصهر بلهب الخطايا…لكن حبنا كان من حجر…صمد في وجه اللهب حتى انطفأ وبقي هو راسخاً مكانه!
أطلق آهة خافتة وهو يشيح بوجهه وكأنه يهرب من فيض عشقها هذا الذي يرى نفسه لا يستحقه…
لكن “الصرخات” عادت تدوي في أذنيه كما كانت ليلة الحادث…!!!!!!!
وكما تبعتها في كل ليلة بعدها!!!
تلك “الصرخات” التي أيقظت ضميره لتجلده بسياط الذنب…
وكأنها في كل مرة تذكره بذنوبه…
بماضيه…
بما يجب أن ينتظره من عقاب…!!
تلك “الصرخات” التي تحمل له كل مرة نفس النبوءة…
“لن تفرح”…
“لن تهنأ يوماً بمعاش”
“لن تنال من النار دفئاً…بل احتراقاً”
“حتى التوبة حرّمت على شيطان مثلك”
“ستعيش عاصياً وتموت وحيداً”
“لن تفرح”
“لن تفرح”!!!
فارتجف جسده ارتجافة خفيفة وعرقٌ خفيف قد بدأ يظهر على جبينه …
لتقرأ هي خبيئته بما يحمله قلبها العاشق من دراية به…
فاحتضنت وجنتيه براحتيها تداعبهما بحنان مع همسها الذي حمل الآن بعض الرجاء:
_أريد أن أطلب منك شيئاً…وأرجو ألا تخيب رجائي!
تنهد بحرارة حارقة وكأنه يخرج معها بعضاً من لهيب روحه…
قبل أن يومئ برأسه منتظراً كلماتها عندما استجمعت هي شجاعتها لتهمس مناقضةً كل ما يملؤها من خجل:
_أريد أن نفرح هذه الليلة…أن ننسى كل ما كان بل وما سيكون…
ازداد انعقاد حاجبيه لتدرك صعوبة ما تطلبه لكنها لم تستسلم…
بل التصقت به أكثر لتردف بنبرة أكثر حرارة:
_إذا كنت أنت زاهداً في فرحتك بي…فأنا أذوب اشتياقاً لفرحتي بك…لن أدّعي صبراً لا أملكه…اخرج من سجنك وانطلق معي بلا قيود…
كانت تعلم أنها تطلب ما يقارب المستحيل…
وأن الرجل الذي عاد “من قلب الموت ” محملاً بأوزاره لن يتقبل ببساطة بتلات الحب التي تلقيها تحت قدميه…
لكنها معه تسير بحدسها…
عاصي سيخرج من سجنه!!!
سيتحرر من كل هذه الأغلال التي كبلت روحه وأولها قيوده هو لنفسه!!!
يجب أن يتحرر من عقدة ذنبه ليرى نفسه الآن كما تراه هي…
بطلاً حقيقياً !!
وهل من بطولة أعظم من أن ينتشل المرء نفسه من بئر معصيته العميق ليتعلق بحافته نحو الخروج لطريق التوبة؟!!
خاصةً لرجلٍ في سنه وسابق مكانته ونفوذه!!!
هي لا تريد مجرد علاقة جسد بجسد…
بل تشبث روح بروح ليحلقا معاً خارج أسوار هذا الجحيم من ماضٍ وذنب!
لكن صمته المشتعل أمامها -والذي طال كثيراً -جعلها تشك أنها تسرعت في هذا الأمر…
وأنه ليس مؤهلاً بعد لشئ كهذا مع ما تموج به روحه من يأس مثقل بالذنب!
لهذا ارتخت أناملها على وجنتيه برفق لتبتعد عنه خطوة…
لا…ليس كبرياؤها ما أبعدها هذه المرة…
بل احترامها لحزنه!!!
لهذا أخذت نفساً عميقاً ثم همست بحنان لا تدعيه:
_لا بأس…كما تريد…لكن اعلم أنني لن أيأس منك أبداً…لن أهدأ حتى أعيد لك ضحكتك ..كما أعدت لي ضحكتي.
ظل وجهه على جموده وإن اختلجت عضلة فكه واشية بانفعاله…
لتردف هي أخيراً بملء روحها العاشقة:
_لن أنام هذه الليلة …سأبقى أملأ عيني من ملامحك التي افتقدتها…طوال هذه الليالي وأنا ……آآآه!
انقطعت عبارتها بآهة ألم لذيذة عندما تمرد ذراعه الحر أخيراً على جموده ليضمها إليه مع ذراعه الآخر بكل قوته قبل أن تذوب بقية حروفها بين شفتيه…
واختفي العالم كله في لحظات…!!!!
عندما غابت أنامله في رحلتها -التي افتقدتها – لمنابت شعرها بحركته الأثيرة…
وامتزجت خفقات قلبيهما فيما بدأ صاخباً مدوياً كقرع الطبول…
قبل أن يخفت رويداً رويداً حتى قارب هسيس النسيم…
دفءٌ بدفء…والبادي أكرم…
شوقٌ بشوق…والبادي أسعد…
وعدٌ بوعد…والبادي أصدق…
بل…
عشقٌ بعشق…وليس منهما بادئٌ ولا لاحق…
فكلاهما الآن في عز رحلته …منطلق!!!
========
_صباحية مباركة يا عروسي!
همس بها معتصم بحرارة في أذنها وذراعاه يطوقانها بدفء مع توهج عينيه بعاطفته وهو يردف:
_أم أقول يا حلمي؟!
فانطلقت منها أنّة خافتة وهي تعانق نظراته العاشقة بلهفة ناسبت همسها ذا الدلال:
_كنت تحلم بي؟!
فازداد ضغطه الحاني لها وهو يهمس بحرارة:
_كنتِ أغلى حلم!!
ثم ضحك ببعض الخجل وقد احمرت أذناه قليلاً ليناقض هذا خشونة صوته المرتبك بعدها:
_يوماً ما قد …أقصد…لديّ شئٌ ربما…تحبين رؤيته!!
قالها وهو يحل ذراعيه من حولها لتعبث أنامله بخصلات شعره وهو ينهض من نومته في ارتباك جعلها تنطلق ضاحكةً للحظات…
قبل أن تقوم بدورها لتحتضن وجنته براحتها هامسةً بمرح لم يخفِ عاطفتها:
_ماذا حدث في هذه الدنيا؟!معتصم العابث تحمر أذناه خجلاً!!!
فخبطها على كتفها بخفة وهو يغلظ صوته هاتفاً بمزيج من خشونة وعبث:
_خجل؟!!دعينا نختبر هذا الخجل إذن!!
قالها وهو يجذبها نحوه ببعض العنف لكنها عادت تضحك بانطلاق وهي تبسط راحتها أمام وجهه قائلةً بما يشبه الاعتذار:
_سحبتها!!
فضحك بدوره وهو يضمها برفق ليقبل رأسها بينما رفعت هي عينيها إليه لتقول برجاء جاد هذه المرة:
_ما هذا الذي كنت تريدني أن أراه؟!
تنهد بخفة ثم عاود تقبيل رأسها …
قبل أن ينهض من جوارها ليفتح الكومود جواره حيث استخرج منه بعض الأوراق التي ناولها لها مع قوله الذي امتزج بعاطفته:
_تبيّني التواريخ تحت تواقيعي!
ابتسمت بفرحة غامرة وهي ترى خطوطه البسيطة بقلم “الرصاص” والتي رسمت وجهاً يشبه وجهها …
وتحته كانت حروف اسمها مكتوبةً بطريقة خاصة …
والعجيب أن هذا كان مكرراً في جميع الأوراق التي تشابهت خطوطها إلا من تواريخها التي وشت لها
بقِدَم عاطفته !!!
فرفعت عينيها إليه بابتسامة حب واسعة ليعاود استلقاءه جوارها هاتفاً بمرح لا يخلو من حرج:
_يوماً ما وقعت إحداها في يد أمي…فعلمت عن شعوري نحوك…يومها أحسست بنفس إحساسي عندما كنت أتسلق سور المدرسة هرباً فيضبطني الحارس متلبساً!!!
علت ضحكاتها الرنانة بعاطفتها المشبعة بسعادتها للحظات قبل أن تعود ملامحها لسابق هدوئها مع سؤالها ببعض الحرج:
_بخصوص والدتك…هل قبلت زواجنا هكذا ببساطة رغم ظروفي؟!
لكنه ضحك ضحكة رائقة وهو يشعث شعرها بأنامله مشاكساً مع همسه :
_أنتِ لا تعرفين “زوزو”…غداً عندما تعاشرينها جيداً ستعلمين إنها لا تبالي بشئ في هذه الدنيا سوى سعادتي أنا وأخي.
ثم قبل جبينها بعمق عاطفته ليردف بصدق اخترق قلبها:
_وهي أدركت أن سعادتي لن تكون إلا معكِ.
ورغم أن عبارته أرضت غرور أنوثتها لكنها مطت شفتيها لتقول بمزيج من عتب ودلال :
_وهؤلاء الفتيات اللاتي…
_شظايا زجاج!!
هتف بها بحسم مقاطعاً عبارتها فأطلقت همهمة متسائلة قبل أن يقترب منها لينظر لعمق عينيها مفسراً:
_كل النساء بعيني شظايا زجاج وتبقين أنتِ ماستي ..
ثم صمت لحظة ليردف بين شفتيها :
_ماستي الوحيدة.
أغمضت عينيها بهيام تتلقى فيوض عاطفته بفخر عاشقة راضية…
ورغم أنه لم يكن أول عهدها بفورة المشاعر هذه لكنها كانت معه تختلف…
عندما يتصالح القلب والجسد ليمنحا تاج الملك لعاشق واحد…
فهذه هي “شرعية” السلطة لمُلكٍ ثابت لن يتزعزع!!
لتمضي بهما الدقائق لاهثة في عدوها حتى همس هو أخيراً وهو يضمها لصدره مستعيداً ذكرياته العامرة معها:
_قبل اعترافي لكِ ذاك اليوم…هل كنتِ تعلمين إني أحبك؟!
فابتسمت وهي ترفع عينيها إليه هامسةً بشقاوة:
_كنت أشك!
لكنه ضحك وهو يربت على وجنتها قبل أن يتنهد وهو يهمس بجدية تامة:
_أما أنا فكنت واثقاً من حبك لي…ولعل هذا ما كان يعذبني أكثر!
امتزجت عبارته الأخيرة بالكثير من الألم والعجز …
لكنها قرأت ما يريد قوله في عينيه فوضعت أناملها على شفتيه مع همسها الراجي:
_معتصم…أنا صرت قوية بما يكفي لأنسى كل ما لا يروقني من ماضٍ ذهب ولن يعود…فلا تشغل بالك به.
فهز رأسه ليقول بأسف:
_فقط لو كنت أعلم عما يبعدك عني قبل فوات الأوان!!!لو كنتِ…
_معتصم!!
قاطعت بهمستها الرقيقة عبارته قبل أن تبتسم لتردف برضا:
_ألم تتعلم شيئاً بعد كل هذا؟!هي درجاتٌ وجب علينا صعودها درجة درجة…حتى نصل لآخر درجة…أنا تعلمت ألا ألوم البدايات فلولاها لما كانت النهاية…أجمل نهاية!!
_أحبك!!
لم يجد أفضل منها رداً على عبارتها …
لا…بل وجد!!!!
غيمات قبلاته التي عادت تمطرها عشقاً على وجهها لتنبت الفرح بين جنبات روحها الراضية…
قبل أن تطوقه هي بذراعيها أخيراً لتقول بدلال:
_مطلبٌ أخير…شديد الصعوبة…لكن حبيبي معتصم لن يرفضه لعروسه !!
فارتفع حاجبه بمكر وهو يداعب أنفها بأنفه مشاكساً مع قوله:
_بدأنا الاستغلال!
وجوابها كان ضحكة رائقة قبل أن تتنحنح بحرج لتخبره بمطلبها…
والذي كان حقاً…شديد الصعوبة!!!!
============
_لم تمت!!
تمتم بها حسام مصدوماً وهو يقرأ اعترافات سرحان في محاضر النيابة بعدما ألقي القبض عليه…
قبل أن يهز رأسه بذهول وهو يحاول استيعاب كل هذه الحقائق التي كانت غائبة عنه…
عاصي لم يقتل طيف…
الجثة المتفحمة في المنزل المحترق لم تكن لها!!!
وهو الذي ظن أن عاصي تدخل بنفوذه لإيقاف التحقيق في هذا الأمر ليغطي على جريمته…
ليكتشف الآن أنه فعلها ليساعدها على الهرب!!!
وهي؟!!!
هي خدعته ب”رسالة”!!!
رسالة!!!!!!!!
رسالة دمرتك يا حسام!!!
جعلتك تعيش في عذاب ضميرك طوال هذا الوقت!!!!!
أيقظت وحش الانتقام بداخلك فلم تهدأ حتى فتك بكل شئ!!!
رسالة!!!!!
أيّ غرٍ ساذج كنت وأنت تبكيها طوال هذه الليالي؟!!!
أي قلب أحمق كنت تمتلك وأنت تناجي “عقد الفل” خاصتها كل ليلة!!!
بل أي عقلٍ كان فيك وأنت تصدق تمثيليتها هذه بمنتهى الاستسلام؟!!
أحمق…
غبي…
والآن …مجرم!!!!
نعم…مجرم!!!!
من منكما الدائن الآن…ومن المدين؟!!
أنت أم عاصي؟!!
عاصي لم يقتل أخته!!!
لكنك أنت…أنت كنت سبباً في مقتل زوجته وابنه!!!
خنت ضمير وظيفتك لتحقق انتقاماً مزيفاً لواحدة لم تمت!!!
لم تمت!!!!
عاد يهز رأسه بذهول قبل أن تنفلت منه ضحكة قصيرة…
لم تلبث أن تلتها ضحكاتٌ أُخَر ناقضت ذاك الدمع المتجمد في عينيه مع هتافه المنفعل:
_آه يا بنت “الرفاعي” !
انقطعت أفكاره عندما سمع صوت طرقاتٍ هادئة على باب مكتبه فرفع عينيه نحوه…
قبل أن يقف مكانه ليهتف بدهشة:
_أنتِ؟!ماذا تفعلين هنا؟!
ازدردت ريقها ببعض التوتر قبل أن تسير نحوه بخطوات ثابتة لتقول بنبرة هادئة:
_كيف حالك يا حسام؟!
قالتها وهي لا تكاد تصدق أنها تقف أمامه من جديد…
هي -بالكاد- أقنعت معتصم أن يسمح لها بهذه الزيارة التي تأخرت لكن …لعلها تدرك بعضاً مما يمكن إنقاذه!!!
بينما لم يكن هو في حالٍ يسمح له بالثرثرة…
فوضى أعماقه الآن كانت تكتسحه بلا رحمة لتزيد من خشونة طباعه…
لهذا هتف بنبرة جافة:
_ماذا تريدين أنتِ الأخرى؟!جئتِ تشمتين في سذاجة المخدوع أم تغيظين زوجك السابق بزواجك الجديد؟!
لكنها بدت وكأنها كانت تتوقع هذا الرد عندما صمتت قليلاً قبل أن تقول بنفس النبرة الهادئة:
_لا هذا ولا ذاك…جئت كي أريحك!
_تريحينني؟!!
هتف بها باستنكار وهو يلوح بذراعه قبل أن يهتف بغضب هادر:
_هاتي ما لديكِ أنتِ الأخرى… لا ينقصني دهاء النساء هذا!!!
تقبلت ثورته بتفهم وهي تدرك شعوره الآن…
حديثه الغارق في مرارته عن “سذاجة المخدوع” يعني أنه اكتشف الحقيقة…
اكتشفها في وقت متأخر للأسف!!!
لهذا تنهدت بحرارة ثم قالت بحذر:
_أنت علمت أنها لا تزال على قيد الحياة؟!
فابتسم ساخراً يداري هزيمته وهو يكتف ساعديه مع قوله:
_كنتِ تعلمين؟!
أومأت برأسها إيجاباً وهي تواجهه بثبات نظراتها لتلقي الحقيقةكاملة:
_قابلتها في أبو ظبي…مصادفةٌ جديدة من مصادفات القدر التي لا تنتهي.
فانعقد حاجباه بشدة مع اشتعال ملامحه وهو يسألها بانفعال:
_قابلتِها؟!
أغمضت عينيها بقوة للحظة تستجمع شجاعتها قبل أن تقول بحزم:
_نعم…قابلتها…لا تحقد عليها كثيراً فهي ليست هانئة…كلاكما مسخ شوهه انتقامه!!!
هنا دار هو حول المكتب ليقف قبالتها تماماً مع هتافه الثائر:
_ولماذا لم تخبريني من قبل؟!الآن تفضلتِ بإخباري الحقيقة؟!!بعد ماذا؟!بعد ما تلوثت يداي بالدم؟!
دمعت عيناها وهي تشعر ببعض الذنب لكنها أصرت أن تتم ما بدأته عندما قالت بثبات:
_لم أكن أعلم أنك تخطط للانتقام من عاصي بهذه الطريقة…كما أنها طلبت منا ألا يعرف أحد عن الأمر.
فضحك ضحكة ساخرة وهو يشيح عنها بوجهه الذي عجز عن إخفاء انفعاله…لتردف هي:
_أنا جئت أخبرك بالحقيقة كي تحسن تقييم أمورك…للأسف تأخرت أنا كثيراً في إبلاغك بها …لكنني واثقة أنك لن تستريح حتى تلتقيها من جديد….هذا اللقاء الذي يحتاجه كلاكما ليداوي نفسه من جرح الآخر حتى يستطيع أن يكمل طريقه.
عاد يضحك مرة أخرى ساخراً قبل أن يعاود النظر إليها بقوله المنفعل:
_سعيكم مشكور يا ذات الجناحات البيضاء…إذا كنتِ أنهيتِ محاضرتك فتفضلي بالخروج !!
فرمقته بنظرة أسف ٍ طويلة قبل أن تغمغم :
_أعانك الله على نفسك يا حسام.
قالتها وهي تعطيه ظهرها لتنصرف بخطوات مثقلةٍ بمزيج شعورها من أسف وإشفاق…
ليضم هو قبضتيه جواره بغضب وهو يكز على أسنانه بغيظ..
أبو ظبي!!!!!
المخادعة تحرقه بعذاب ضميره هنا وهي تتسكع مسافرةً بين البلدان؟!!!
تسرق منه راحة باله بحروف رسالة بينما تعيش حياتها بحرية؟!!!
لكن…ألم يكن من الأجدر به -وهو الذي يزعم حبها- أن يكون الآن طائراً من فرط سعادته بأنها لم تمت؟!!!!
ربما لو لم يكن قد تورط بانتقامه لكان حقاً كذلك!!!
لكن رائحة الدم التي تفوح من بين أنامله المذنبة تزكم أنفه عن هذا الشعور!!!
لا…ليس الأمر فقط متعلقاً بصفعة -خديعتها – على وجه غروره!!!
بل بعذاب ضميره -الحقيقي- هذه المرة وهو موقنٌ من سواد فعلته!!!!
انقطعت أفكاره من جديد عندما وصله استدعاء من مديره المباشر في مكتبه…
فابتسم ساخراً وهو يتوجه إلى هناك بخطًى متثاقلة…
لماذا يستدعيه الآن؟!!
هل جدّ جديدٌ بشأن عقابه على فعلته؟!!
هو يتوقع أسوأ عقاب خاصةً وهو مقرٌّ بتقصيره!!!
لكن…لا بأس!!!
لعل هذا العقاب يخمد نيران روحه المتأججة ….
طرق باب المكتب برفق ثم دخل يواجه الرجل بملامح جامدة…
لكن الرجل ابتسم ابتسامة ودود ناسبت قوله:
_أعرف أنك تنتظر أخباراً سيئة…لكن لا تقلق…أنا تحدثت معهم بشأنك ..وتاريخك المشرف شفع لك…خاصةً أن أحداً لم يتقدم ببلاغ شخصي ضدك …لهذا يمكننا تدبر الأمر فيما بيننا…أنا مقدر لظروفك النفسية السيئة بعد طلاقك الثاني..من المؤكد أنك لم تقصد هذا التقصير..فأنا أعرف عن كفاءتك منذ زمن بعيد..لهذا سأتجاوز عن هذا الأمر مكتفياً ب”لفت نظر” لكن هذا قد يستوجب نقلك لإحدى المناطق النائية…لا تقلق…لن يطول هذا الأمر …حتى…
كان الرجل مستمراً في حديثه الذي غاب هو عن بقية تفاصيله…
فيما ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة …
ها قد نفدت من العقاب يا “سيادة الرائد”!!
أنقذتك وظيفتك ومعارفك وتاريخك “المشرف”!!!
دم هذه المرأة مع طفلها سيضيع هدراً فداءً لانتقامك السخيف!!!
لعبة…
بدأتها امرأة وسار هو خلفها كطفل أحمق…
والثمن دفعته امرأة أخرى وطفل برحمها لم يرَ الدنيا بعد!!!
فأي ظلم؟!
أي ظلم!!!
وهنا عادت مشاهد متفرقة من حياته مع دعاء تؤرق مخيلته بالمزيد من الذنب…
حتى كاد رأسه ينفجر من فرط غيظه …
كم عذب تلك البائسة بذنب -أخرى- أجادت العبث به كدمية خرقاء!!!
“أخرى” لم يعشق امرأة غيرها …ولم تخدعه امرأة سواها!!!
“أخرى” جعلته يسير حافياً على نصل السيف بينما تتراقص هي طرباً حول دمائه…
حقاً …لو كانت الخديعة امرأةً لكانت هي بلا منازع!!!
_حسام …هل تسمعني؟!
أيقظه هتاف مديره من شروده فالتفت نحوه بنظرات مشتتة…
ليرمقه الرجل بنظرة مشفقة ناسبت قوله:
_عملنا صعب يا ابني…ستواجه الكثير من هذه الأمور …لكن يجب أن تتعلم أن تفصل بين حياتك الشخصية وبين واحبات عملك…
ثم صمت لحظة ليردف:
_يمكنك الحصول على إجازة لتريح أعصابك فأحوالك لا تعجبني مؤخراً.
فهز حسام رأسه ليقول مصدقاً على قوله:
_أجل…أنا أحتاج حقاً لإجازة…إجازة طويلة.
ثم أخذ نفساً عميقاً ليقول بعينين مغمضتين:
_سأتقدم إلى سيادتك بطلب وأرجو قبوله…
فضاقت عينا الرجل بنظرة متسائلة عندما منحه هو قراره الأخير:
_طلب “استقالة”!
=========
_الأزرق للصبية والوردي للفتيات…ستفسدين الذوق العام يا أستاذة!
هتف بها فهد وهو يسير معها لشراء لوازم العزيزة القادمة فالتفتت نحوه لتقول بمرح:
_لا شأن لي بالذوق العام…ابنتي وأنا حرة التصرف في شئونها!
لكنه هز رأسه ليقول مشاكساً:
_كل الثياب زرقاء وفيروزية…كزيّ المساجين!!!
انفلتت منها ضحكة عالية جذبت نحوهما أنظار بعض المارة في هذا “المول” الضخم الذي اكتظ برواده …
فجذبها من مرفقها نحوه ليهمس بغيرة مشتعلة:
_كم مرةٍ أخبرتك ألا تضحكي هكذا وسط الناس؟!
زمت شفتيها بحرج وهي تلتصق به أكثر مع تربيتتها على ذراعه بهمستها:
_آسفة!
لكنه رمقها بنظرة حانقة وجدت لها مبررها مع تلك الهمهمة التي انبعثت خلفها:
_أليس هذا فهد الصاوي؟!
فأشاحت بوجهها هي الأخرى في ضجر وهي تهمس له:
_دعنا نغادر هذا المكان…أنا تعبت!
_لا!
هتف بها قاطعة عندما شعرت بمن خلفهما يتقدمونهما ليرمقونهما بنظرات فضولية وابتسامات متظارفة…
قبل أن يمضوا في طريقهم…
بينما لم يكترث فهد بهذا وهو يقول بتجهم:
_لا تهتمي…غداً ينسون!
أكملت سيرها جواره بوجوم لبضع دقائق حتى شعرت به يضغط أناملها في راحته مع ميله على أذنها بهمسته:
_غاضبة؟!
فرفعت إليه عينيها بنظرة ضائقة لانت رويداً رويداً أمام نظراته الحنون حتى ابتسمت أخيراً …
قبل أن تهمس ببعض القلق:
_هل تظن حياتنا ستستقيم هنا؟!تاريخ والدك؟!شهرته؟!علاقاته؟!
ثم ازدردت ريقها بتوتر لتردف:
_أعداؤه!!!
لكنه عاد ينظر أمامه ليقول بحزم واثق:
_لا تشغلي بالك بهذا…أنا تخلصت من إرث والدي الفاسد كله…..بما فيه سجل عداواته…صحيحٌ أن فضول الناس سيطاردني لبعض الوقت لكنهم غداً ينسون عندما تنسحب الأضواء لأناسٍ آخرين.
أومأت برأسها موافقةً وقد منحتها كلماته بعض الأمان …لتسأله بعدها باهتمام:
_ومشروعك الجديد؟!
_لا تقلقي…خبرتي مع أبي نفعتني كثيراً…ولعل هذا ما يمنحني بعض الأمل في القادم.
قالها مطمئناً إياها وقد نجح حقاً فقد تنهدت بارتياح أخيراً لتقول بابتسامة واسعة:
_الحمد لله!
والغريب أنه كان يرددها هو الآخر في نفسه سراً وهو يشعر براحة غريبة مع سيره معها هكذا…
مطمئناً…مرتاح البال…
لقد عاش جاسم الصاوي ومات دون أن يجرب شعوراً كهذا !!!
لا يذكر أنه رآه مرة يتحرك دون حرس شخصي!!!
ورغم تظاهره الدائم بالقوة والتسلط…
لكنه -وحده- كان يرى في عينيه تلك النظرة الخائفة!!!
نظرة رجلٍ خاسر يتوقع أن تأتيه النهاية المخزية في أي وقت!!!
لهذا يحمد الله أنه أفاق لنفسه في الوقت المناسب قبل أن يسير نحو نفس المصير!!
انقطعت أفكاره عندما رن هاتفه فتناوله ليطالع اسم المتصل ببعض الضيق قبل أن يقول لجنة بحزم:
_ادخلي أنتِ هذا المحل وأنا سأنتظركِ هنا حتى أنتهي من مكالمتي.
نقلت بصرها بينه وبين الهاتف بتوجس قابله هو بنظرة رادعة…
فزفرت ببعض الضيق قبل أن تدخل للمحل كما أشار…
ولم تكد تمضى بضع دقائق حتى عادت إليه لتجده قد أنهى مكالمته وقد وقف واجماً بشرود…
فاقتربت منه وهي تسأله باهتمام:
_مَن كان هذا؟!
التفت إليها من شروده ليبتسم ابتسامة عابثة وهو يرفع أحد حاجبيه مع همسه بمكر:
_ولماذا “هذا” وليست “هذه”؟!!
فابتسمت وهي تلكزه في كتفه قبل أن تعاود سيرها معه ليجيبها هو عن تساؤلها:
_حسام!
عقدت حاجبيها بضيق وهي تهز رأسها لتقول بانفعال:
_أعوذ بالله!ألازلتَ على علاقة به بعد ما فعله بعاصي؟!
زفر بقوة ثم صمت قليلاً ليردف بعد فترة :
_الأمر أعمق مما تظنين…أنا أعلم أن الخيوط متشابكة حد التعقيد…لكنني أفهم حسام جيداً وأعرف كيف يفكر.
عادت تهز رأسها بتساؤل …فاستطرد بشرود:
_قد يبدو الأمر سطحياً وكأنه استغل وظيفته ليحقق انتقاماً رخيصاً…لكنه لم يحسبها هكذا…هو وقتها فكر أنه يستغل وظيفته حقاً لكن ليحضر حق امرأة ضعيفة لن يطالب به أحد…كان يظن أن عاصي أحرق البيت بأخته بعدما أجبرها على إرسال رسالة له كي يبدو الأمر كانتحار…
أشاحت بوجهها في عدم اقتناع …بينما أردف هو مدافعاً:
_لو كان سيئاً كما تظنين لما تعذب بذنب طيف طوال هذه الأيام…لما خاطر بعقابه في عمله عندما ينكشف الأمر…حسام حقق العدل كما يراه هو لا كما نراه نحن.
فعادت تلتفت نحوه لتهتف بسخط :
_الحكاية ليست فيما يراه أو فيما نراه…الحكاية في تلك المرأة وطفلها اللذيْن سيحمل وزرهما مابقي له من عمر…في إصابة عاصي التي لا ندري إلى الآن مداها…في خيانته للقسم الذي أقسم عليه في وظيفته.
هنا أومأ هو برأسه موافقاً ليقول بأسف:
_حسام قدم استقالته بعد ما عرف الحقيقة.
فمطت شفتيها باستياء وهي تقول باندفاع:
_أقل واجب!!الآن يمكنني القول أن لديه بعضاً من ضمير…لكنني عند رأيي…ذنبه سيبقى في عنقه طوال عمره ولا أدري كيف سيكفر عنه!!
صمت طويلاً دون رد …قبل أن يهز رأسه بأسف ناسب قوله:
_هو أيضاً يرى هذا…لأول مرة أجدني عاجزاً عن مساندته كصديق…ليس فقط لأن الأمر يتعلق بزوج أختي لكن لأنني لا أجد له من فعلته مخرجاً.
ثم صمت لحظة ليردف أخيراً:
_وكأنما كُتِب عليه أن يبقى أسير ذنوبه طوال عمره…وما أقساه من شعور لو تعلمين!!
===========
سارت بما تحمله بين يديها نحوه وهي تراقبه بعينيها العاشقتين…
كان جالساً أمام النافذة المفتوحة المطلة على البحر وأنامله منقبضةٌ على مسنديْ المقعد بقوة جعلتها تدرك الكثير عن طغيان مشاعره…
ورغم أنه كان يعطيها ظهره لكنها كانت تقرأ حزنه اليائس في سكون جسده…
ظهره الذي استقام كما ينبغي في جلسته مع ما تدركه من حمولٍ عليه!!
حتى صارت على بعد خطوة منه فوضعت ما بيدها جانباً ثم تناولت كفه بقبلة على ظاهره مع همسها بدلال ممتزج بعاطفتها:
_هذه لأبي!
حملت ملامحه بعض الارتياح وقد التوت شفتاه بشبه ابتسامة عندما حطت شفتاها بعدها على جبينه لتردف:
_وهذه لصديقي!
فاتسعت ابتسامته نوعاً بينما واصلت شفتاها طريقها لشفتيه بقبلة ناعمة ناسبت همسها الحار:
_وهذه لحبيبي وسيد قلبي!
تلقفها بين ذراعيه ليجلسها على ركبتيه مع همسه بصوته الذي لم يغادره حزنه بعد:
_صباح الخير…أين كنتِ؟!…لقد سمعت صوتكِ منذ وقت طويل تنادين الخادم!
فابتسمت وهي تتناول شريحةً من البيتزا التي أعدتها لتقربها من فمه هامسةً بمرح:
_كنت أعد لك هذه !
لكنه أشاح بوجهه ليمسك كفها قائلاً ببعض الخشونة:
_أستطيع تناول طعامي وحدي!
ورغم أن -سوء فهمه- قد ضايقها لكنها عادت تميل على أنامله الممسكة لكفها بقبلة عميقة مع قولها بتفهم:
_لا أفعلها لأنك تحتاجها…بل لأني أحب فعلها!
عقد حاجبيه بضيق تقبلته هي بصبر وهي تدرك ما يعانيه لتعاود تقريب الطعام من فمه مع استطرادها:
_لم تتذوق يوماً طعاماً من صنع يدي…هيا أخبرني عن رأيك بصراحة!
ظل حاجباه منعقدين للحظات حتى ظنته سيرفض…
قبل أن تنفرج شفتاه ببطء ليقضم قطعةً من طرف الشريحة ثم همس بعد لحظات باقتضاب:
_جيدة…سلمت يداك.
ربتت على وجنته برفق ثم انتبهت لأن جلستها هذه قد تكون تؤلم ساقيه مع ما علمته عن سابق إصاباته بعد الحادث…
فتحركت لتعاود وقوفها لكنه بدا وكأنه قد قرأ أفكارها كعادته فتشبث بها مع قوله بحزم:
_ابقيْ كما أنتِ…أنا بخير!
هنا ابتسمت بحنان وهي تعاود إطعامه بأحد كفيها بينما تتحسس وجهه بكفها الآخر مع همسها الذي فاض بعشق ما عادت تخفيه:
_هذا هو سر ما بيننا…كلانا يقرأ الآخر بمنتهى الشفافية دون كلمات…هذا ما يفوق الحب بكثير…إنه شفرة خاصة بين قلبينا فحسب!
ثم استمرت فيما تفعله وهي تردف بشرود:
_هل تعلم أنني كنت أحلم بك في تلك الفترة التي عقبت الحادث قبل أن أعلم عنه؟!كنت أراك تمد يديك نحوي لكن ذراعيّ كانا قصيرين …لم يكونا يصلان إليك أبداً…وكنت أستيقظ من نومي كل ليلة بعدها وأنا أشعر أنني…أنني…لا أدري كيف أصف لك …
بدا على وجهه بعض الاهتمام الذي كسر جموده وهو يلوك طعامه صامتاً…
فتنهدت بحرارة وهي تسند جبينها على كتفه لتهمس:
_ذابلة …مطفية…كسيرة…هل تصدقني لو قلت إنني بعد كل حلم كهذا كنت أشعر باختناق أنفاسي وكأن ثقلاً ما يجثم على صدري ؟!!!حتى أنني كل ليلة قبل نومي كنت أدعو ألا يراودني ذات الحلم…لكنه كان ينتابني بإصرار عجيب…حتى كانت تلك الليلة التي علمت فيها عما حدث لك …ليلتها لم تغفُ عيناي سوى بضع دقائق لأرى نفس الحلم …نفس اللهفة في ندائك…نفس العتب في عينيّ…نفس القصر في ذراعيّ…لكن …طاقةً غامضةً من نور ساطع ضربت ظهري فجأة لأجدني فجأة بين ذراعيك!
ثم رفعت عينيها إليه لتردف بابتسامة رآها بقلبه دون عينيه:
_لازلت أذكر شعوري بدفئي بين ذراعيك في حلمي ساعتها…لمعة عينيكِ الصافية كما لم أرهما من قبل…ولعل هذا هو ما هوّن عليّ مصابي وقتها.
انفرجت شفتاه وكأنه سيهمّ بالحديث لكنه عاود إطباقهما بإصرار مع انعقاد حاجبيه لتدرك هي صعوبة أن يتحدث عن ذاك الأمر…
ورغم أنها في ظروف أخرى كانت ستتقبل صمته لكنها تدرك الآن أن حديثه هو علاجه!!!
كلامه عن الأمر سيريحه من “جلد الذات” هذا الذي يمارسه على نفسه…
لهذا ستضغط عليه بكل ما أوتيت من قوة ليبوح لها بمكنون صدره عساه يخفف بعضاً من أوزار نفسه المشبعة بيأسها!!!
كان قد انتهى من تناول طعامه فعرضت عليه قطعةً أخرى رفضها باقتضاب قبل أن يعود لصمته المشتعل…
فمسحت يدها بمحرمة ورقية ثم تنفست بعمق تتأهب لمعركتها التالية قبل أن تسأله مباشرة:
_لماذا هدمت القصر؟!
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يشيح بوجهه ليتجاهل سؤالها هاتفاً ببرود لم يخدعها:
_هل ضايقكِ الأمر؟!هل تزعمين أنكِ كنتِ تحبينه؟!
بسطت كفها على صدره بحركتها التي تعلم كم تريحه لتجيبه بشرود مصطبغ بالشجن:
_أكذب لو قلت لك لم أحبه…غرفة الحديقة بكرمة العنب التي طالما احتضنت حزني…غرفتك الهادئة التي طالما منحتني سكينتي…فضاء سطحه الواسع حيث استقرت طائرتي الورقية…وحتى تلك المساحة الخالية في خلفيته والتي خصصتها لتدريبات سلاحك….نعم…سأفتقد كل هذا ما بقي من عمري …لكن…
ثم صمتت للحظة لتردف بمزيج قوتها وعاطفتها الفريد:
_لو كنت هنا وقتها لهدمته قبلك!
فارتسمت على شفتيه ابتسامة شاحبة وهو يسألها:
_لماذا؟!
هنا ازداد ضغط كفها على صدره لتقول برقة مشاكسة:
_لا تراوغني بمكرك…أنا سألت أولاً!
ذابت ابتسامته على شفتيه رويداً رويداً حتى تلاشت تماماً مع أطياف ذكرياته التي عادت تراوده …
لتنهش روحه بمخالب الذنب من جديد…
لكنها اكتنفت رأسه بين كفيها لتضمه لصدرها قبل أن تحوطه بذراعيها في احتواء كانت تحتاجه الآن مثله …وربما أكثر!!
لتهمس في أذنه بحنان :
_تكلم يا عاصي…تكلم لأجلك لا لأجلي…أنا أكاد أقسم على ما يشعر به قلبك الآن…لكنني أريد أن أسمعه منك…تكلم حتى تسامح نفسك!
كان صوتها يصله وهو بين ذراعيها وكأنما هو ترنيمة سلام هبطت من السماء على مسافر ليلٍ وحيد في صحرائه فآنسته…
أو كقطرات مطر عنيدة تحدت أحجار يأسه حتى صدعتها…
ورغم أنه كان يعتبر حديث نفسه عزيزاً لن يظهره لأحد…
لكنه بين ذراعيها الآن وقد غابت عيناه إلا عن ظلمة ما عادت تفارقه…
وصمّت أذناه إلا عن هدير دقات قلبها التي يتردد صداها مع دقات قلبه بنفس الإيقاع…
وغفل إدراكه إلا عن فيض حنانها الذي احتواه باقتدار لن يجيده مثلها…
وجد نفسه يهمس أخيراً بخفوت :
_لم أكن يوماً غافلاً عن ذنوبي…بل إنني لا أبالغ لو قلت إنني كنت أحفظها واحداً واحداً…كل ذنب كان يقع على قلبي كجلدة سوط تؤلم في البداية قبل أن يختفي الوجع لتحل محله ندبة…يوماً بعد يوم…ذنباً بعد ذنب…ندبةً بعد ندبة …تشوه القلب بخطاياه…زعمت أنني لن أكترث بالنهاية…ورغم أني كنت أنتظر عقاب السماء لكنني لم أكن أخشاه..
عضت على شفتها بانفعال ثم امتدت أناملها عبر فتحة قميصه نحو ما طالته من ندوب ظهره وكتفيه…
لتلامسها برفق مع همسها الدافئ:
_لم تعد تؤلم …صحيح؟!هكذا أيضاً ندوب القلب…الزمن كفيل بجروحنا فقط لو صدقنا العزم ومنحناه الفرصة.
لكنه هز رأسه ليهمس:
_من قال إنها لا تؤلم؟!وأي زمنٍ هذا الذي يداوي الجراح؟!
ازدردت ريقها تبتلع غصة ألمها لأجله بينما استطرد هو بنفس الخفوت الذي يقطر ألماً:
_لقد صعدت سلم مطامعي درجة درجة حتى إذا ما وصلت لقمّته…. سقطت!
تهدج صوته في كلمته الأخيرة فضمته إليها أكثر وهي تقبل رأسه بعمق ليسودهما صمت قصير…
قبل أن يردف هو بنفس النبرة :
_لكنني عندما رأيت الموت بعيني علمت أنني لم أكن بالشجاعة التي تخيلتها…علمت ضعف قدري جيداً أمام مشيئة القدر…وجدتني أستعيد شريط حياتي كله لأتمنى نقطة رجوع…و بعدما أفقت…ووسط شعوري بهذا العجز الكامل الذي تذوقته لأول مرة لم أتمكن من الشعور بالسعادة لهذه الفرصة الجديدة التي كان ثمنها دماء امرأة لا ذنب لها وابنٍ كان هو كل أملي في هذه الدنيا.
دمعت عيناها بتأثر وهي تسمعه يتحدث بهذا الانطلاق لأول مرة منذ عرفته…
حديثه الذي كان دوماً مقتضباً بعبارات يمكنها عدّ كلماتها بالضبط …
الآن تسمعه منه بتحرر و كأن سدود كتمانه انهارت فجأة ليفيض خلفها طوفان روحه الثائرة…
عاصي تغير حقاً!!
السيد المكابر باح أخيراً بحديث نفسه…
وياله من حديث!!!
لهذا لم تتعجب عندما رفع رأسه أخيراً ليهمس بنبرة أقوى:
_بعد ما أفقت من صدمة الحادث…لا أخفيكِ أن شيطاني غلبني أول الأمر ليطوقني بقيد جديد…عاصي الرفاعي لن ينكسر…ماذا لو فقد ابناً وزوجة؟!أو حتى زوجتين؟!هل عدمت الأرض نساءها؟!سيتزوج من جديد وينجب طفلاً واثنين وعشرة…لكن…
ثم تأوه بقوة مزقت قلبها بحرقتها مع استطراده:
_تلك الصرخات ردتني!!
فانعقد حاجباها بشدة وهي تردد خلفه :
_صرخات؟!أي صرخات؟!
هنا هز رأسه بقوة وهو يهتف بانفعال:
_صرخاتٌ لا تغادر أذني بعد الحادث…تارةً هي صرخات طفل صغير…وتارةً هي صرخات امرأة…وأخرى هي متداخلة بأصوات لا أميزها…صرخات عذاب لا تتوقف…ظننت أنني سأتخلص منها عندما أترك الماضي خلفي لكنها لم تفارقني إلى الآن.
سالت دموعها على وجنتيها وهي ترى بعينيها حد معاناته …
لكنها تشبثت بتماسكها كاملاً لتسأله بنبرة قوية:
_لماذا ترفض العلاج؟!الأطباء يقولون إن ما تمر به ينبع من داخلك…أنت الذي ترفض مساعدة نفسك…لماذا يا عاصي؟!
_لأنني لا أستحق!
هتف بها بحدة وهو يهز كتفيها بانفعال قبل أن يدفعها ببعض الخشونة ليوقفها ويقف مكانه مع استطراده:
_لا أريد الاستجابة لهذا الهراء الذي يدعونه…لا أريد أن يسخر أحد مني…
ثم زفر زفرة حارقة ليردف:
_لا أريد انتظار أمل لن يأتي…هو كأس عقابي الذي سأرتشفه كاملاً حتى آخر قطرة!
لكنها هزت رأسها بعدم اقتناع وهي تهتف معارضة:
_أنت بهذا تظلم نفسك…لماذا لا…
_لن أتناقش في هذا الأمر!
هتف بها قاطعةً في وجهها ليبتر بها عبارتها بقوته المعهودة قبل أن يستطرد بنبرة أكثر صرامة:
_لم يجبركِ أحدٌ على احتمال هذا الوضع…فتأقلمي مع أنه لن يتغير!!
ورغم أن حديثه آلمها بخشونته لكنها كانت تشتمّ فيه رائحة انكسار روحه بذنبها …
رائحة خوفه الذي لا يريد الاعتراف به من مزيد ضربات القدر…
رائحة ألمه من “أمسٍ “تبخرت كنوزه -المزعومة- كأن لم تكن …
و”غدٍ” ينذره بشؤم فقرٍ جديد!!!
لهذا احتملت جفاف عبارته صابرة وهي تتشبث بعضديه بقوة ناسبت همسها :
_مجرد وجودي هنا معك وحدنا في هذا المكان حلمٌ…حلمٌ جميل لا أريد الاستيقاظ منه أبداً…لكنني سأكون أنانيةً حقاً لو تركتك لما تريد…أنت قلت لي يوماً إن الغريق لا يستأذنه أحد قبل أن ينقذه.
لكنه تنهد أخيراً بحرارة قبل أن يطلق آهة عميقة عقبها همسه اليائس:
_مضى وقت الإنقاذ يا صغيرتي…غريقك الآن في القاع!!
=====
غادرت المطار لتستقل تلك السيارة الخاصة التي تنتظرها في المدينة بتوصية منها ….قبل أن تقول للسائق بغطرسة :
_أريد الذهاب لقصر الرفاعي.
اختلس الرجل نظرةً جانبية نحوها لتجذبه هيئتها بالغة الأناقة والترف…قبل أن يغمغم متظارفاً:
_هل صار معلماً سياحياً الآن؟!
فخلعت نظارتها الشمسية لترمقه بنظرة قاسية ناسبت قولها:
_حافظ على عملك أيها الظريف وابتلع لسانك هذا طوال الطريق !
عاد الرجل ببصره نحو الطريق ساخطاً فيما شردت هي ببصرها وهي تتابع المرئيات حولها بمزيد من لهفة وشجن…
رغم أنها أقسمت لنفسها وهي تغادر هذه المدينة يوماً أنها لن تعود…
لكنها فعلتها!!!
لماذا؟!!
مكالمةٌ هاتفية من ماسة أخبرتها بما حدث لعاصي وطلبت منها الحضور لعل وجودها جواره يشكل فارقاً في حالته النفسية…
صحيحٌ أنها أغلقت الاتصال في وجهها يومها دون الاستماع لبقية التفاصيل- بمنتهى الصفاقة- مدّ عيةً عدم الاكتراث…
لكنها وجدت نفسها تحجز لنفسها مكاناً في أول طائرة عائدة إلى مصر…
لن تفوت هذه الفرصة للشماتة في ابن الرفاعي بعد ما ناله!!!
لقد رفض الاعتراف بها وسار على نهج أبيه مكتفياً بحفنة أموال ألقاها في وجهها…
والآن دورها لتتشفى فيه وقد رد له القدر ضربته!!!
أجل …هي تشفق على زوجته المسكينة التي ماتت مع طفلها بعد ما نالتها لعنته…
لكن هذا لا ينفي فرحتها بعدالة القدر مع طاغية مثله!!!
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها عند خاطرها الأخير…
لم تلبث أن اكتست ببعض الشجن وذكرياتها تنساب رغماً عنها مع انتقال نظراتها عبر البيوت والشوارع…
هنا عاشت أقسى ذكرياتها…
و…أجملها!!!
أجل…رغم أنها تأبى الاعتراف بهذا لكنها…الحقيقة!!!
لهذا احتبست دمعة غادرة بين رموشها والسيارة تمر على بيت حسام الذي لا يزال كما هو…
بدهانه المميز الأنيق وطوابقه الفخمة وسطحه الذي شهد العديد من ذكرياتهما معاً…
وعلى ذكر حسام خفق قلبها رغماً عنها وهي تعود لنفس العبارة…
“عدالة القدر”!!!
الرجل العظيم -الذي رفضها يوماً لأجل من هي أفضل-لم يعرف سعادةً بعدها!!!
إحداهنّ رفضته بعد معايرته بعدم الإنجاب…
والأخرى أفلتت بنفسها من جحيم أنانيته وجنونه!!!
صحيحٌ أن دعاء زعمت لها أنه لم ينسَها …
لكن ..بماذا أفادها تذكّره؟!!
هي لم تؤمن يوماً ب”حب أول” و”حب أخير”…
ولا “حب قويٍ “ولا “حب ضعيف”…
عقيدتها في الحب إنه إما “غنيٌ ” أو “فقير”…
الأول -يكفيك -عن كل العالم فلا تحتاج سواه…
والثاني- يُلجئك -إلى كل العالم تتسول منه ما تحتاجه!!!
وحبه هو كان فقيراً…بل…معدماً!!!
تنهدت بحرارة عند خاطرتها الأخيرة لتكتشف توقف السيارة أمام القصر…
أو -بالأدق- ما كان قصراً!!!
لتتسع عيناها بصدمة قبل أن تسأل السائق -المتبرم- بدهشة:
_ماذا حدث للقصر؟!
فقال الرجل ببرود دون أن ينظر إليها:
_هدمه صاحبه!!
زفرت بقوة ثم عادت تهتف بنفاد صبر:
_التفاصيل يا رجل…انطق!!!
فانطلق الرجل يحكي لها ما يتداوله أهل المدينة مما حدث لعاصي بما في ذلك اختفاؤه الغريب بعدها…
لينعقد حاجباها بمزيج من دهشة وانفعال…
قبل أن تعود ببصرها نحو أنقاض القصر البعيدة…
ورغماً عنها راودتها هذه الذكرى عندما أتت إلى هنا مع والدتها وهي بعد طفلة صغيرة ليطردهما حماد الرفاعي شر طردة…
ومنذ ذاك اليوم وقد كانت أقصى أمانيها أن تعود إليه ظافرة مسيطرة…
أن تمتلكه كما يفترض أن يكون حقها…
أجل …ذاك القصر لم يغادر مخيلتها يوماً كرمزٍ لقوةٍ أرادتها…ولم تنلها…
حقٍ فقدته…ولن تهدأ حتى تستعيده!!!
والآن ذهب كل هذا كهشيم تذروه الرياح…
مات حماد الرفاعي…
وفقد عاصي بصره وسطوته …
وانقض القصر فما بقي من كل هذا إلا حطام!
هنا اعتصرت قبضة باردة قلبها وهي تدور بعينيها في المكان بأسًى حقيقي…
قبل أن تتناول هاتفها لتتصل برقم ما…وما إن فتح الاتصال حتى تنحنحت لتعود لصوتها قوته مع قولها:
_أنا في مصر…أين أنتما الآن؟!
======
_عاصي!
همست بها بعاطفتها الدافئة وهي تبسط كفيها على كتفيه بينما كان هو جالساً على كرسيه في جلسته التي قلّما يغيرها الآن أمام النافذة المفتوحة…
ورغم أن ملامحه بقيت على جمودها لكن نبرة صوته حملت بعضاً من دفء شعوره بها وهو يمد أنامله لتحتضن كفيها على كتفيه مع همسه :
_أين كنتِ؟!
فمالت بجسدها عليه لتطبع على رأسه قبلةً عميقة قبل أن تهمس بتردد:
_لدينا ضيف!
تشنجت أنامله ليزداد ضغطها على كفيها مع انعقاد حاجبيه بقوة ناسبت هتافه:
_مَن؟!
صمتت للحظات دون رد قبل أن تتوجه ببصرها نحو طيف الواقفة هناك…
طيف التي تجمدت مكانها وهي تنظر إليه برهبةٍ احتلت ملامحها رغماً عنها…
وسؤالٌ واحد يكتسح كيانها بلا رحمة…
من هذا؟!!
هل هو عاصي الرفاعي حقاً؟!!
لا…لا…
هذا الشيب الذي ازداد غزوه لفوديه وكأنما تضاعف عمره فجأة…
هذا الانكسار الذي هزم عنفوان ملامحه…
هذه الجِلسة البائسة البعيدة تماماً عن جِلسته المهيمنة المعتادة على كرسيه في قصره!!!
أين هذا العاجز البائس من عاصي الرفاعي الذي كانت كلمته تزلزل الدنيا؟!
هل جاءت شامتةً حقاً؟!!!
ما بالها إذن لا تستطيع الآن هذا؟!!
كل ما يملؤها الآن شعور جارف بالرهبة مع تلك القشعريرة التي تسري في جسدها كله…
لكنها أخيراً استطاعت التقدم نحوه بخطوات متثاقلة…
قبل أن تتبادل مع ماسة نظرات ذات مغزى صاحبت هتافه هو المتوتر:
_من هنا يا ماسة؟!
ازداد تشبث ماسة بكتفيه فيما قالت طيف أخيراً بصوت متحشرج:
_أنا…طيف!
ازداد انعقاد حاجبيه للحظات ولازال قابضاً على أنامل ماسة بقوة …قبل أن يتمتم بدهشة:
_طيف!!!
هنا تمالكت طيف دموعها بصعوبة وهي تستعيد بذهنها ما روته لها ماسة منذ قليل…
كل ما حدث لعاصي كان بسببها هي…
ربما يحمل هو أوزار أعدائه لكن حسام منع تدخل الأمن لإنقاذه ظناً منه أنه ينتقم لها!!!!
ربما لولا هذا لتمكنوا من إدراكه في الوقت المناسب قبل أن يفقد زوجته وطفله…
بل و…بصره!!!!
لكن ماسة رمقتها بنظرة لائمة جعلتها تتماسك قليلاً قبل أن تغمغم بصوت متحشرج:
_كيف حالك …”سيد” عاصي؟!
أجل… نادته كآخر مرة التقته فيها ليلة سلمها نقودها شريطة ألا يعلم أحدٌ عن سرها شيئاً…
ورغم أن “النقود” منحتها “قشوراً” من أمان طالما افتقده عالمها …
لكنها وقتها تمنت حقاً لو يمنحها “أماناً حقيقياً” باعترافه بها!!
أمنيةً ماتت سريعاً كغيرها من أمنيات اختنقت بدخان قسوة عالمها !!
لكنه -ومع رسميّة لهجتها المختنقة -شعر بدفء غريب انبعث من مجرد وجودها هنا…
لتنفرج شفتاه قليلاً وكأنه يبحث عن كلمات قبل أن يقول أخيراً :
_أين كنتِ؟!
فتبادلت مع ماسة نظراتٍ وافرة المعاني قبل أن تتنحنح ماسة أخيراً وهي تسحب كفيها منه ببطء لتقول بمرح مصطنع:
_سأترككما تتحدثان بحرية…لاريب أن لديكما الكثير من الحكايات.
قالتها وهي ترمق طيف بنظرة أخيرة مزجت حذرها برجائها قبل أن تغادرهما بخطوات متثاقلة …
عندما التوت شفتا عاصي بابتسامة شاحبة وهو يسألها بنبرة غريبة:
_ألا يزال شكلكِ كآخر مرة رأيتكِ فيها؟!
قالها وهو يستعيد صورتها في ذهنه منذ لقائهما الأخير…
سمراء نحيفة القوام تفتقر لمقاييس الجمال المتعارف عليها…
لكن عينيها متوهجتين بشعلة خاطفة تأسر الأنظار…
يومها شعر أن هذه الفتاة سيكون لها شأنٌ عظيم وقد صدق حدسه فها هي الآن ترد بمزيج من ثقة وحسرة لم تخطئ طريقها لقلبه:
_بل أفضل بكثير!
هنا اتسعت ابتسامته بمزيج من حنان ورضا…
فيما استطردت هي بنفس النبرة:
_سافرت و صن

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى