روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الخامس عشر 15 بقلم نرمين نحمد الله

موقع كتابك في سطور

رواية ماسة وشيطان الفصل الخامس عشر 15 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء الخامس عشر

رواية ماسة وشيطان البارت الخامس عشر

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الخامسة عشر

_سر العلاقة المشبوهة بين ابن رجل الأعمال الشهير جاسم الصاوي ومحامية تكبره سناً ….
لم يكد يستوعب صدمته بالخبر السابق حتى تناول هاتفه بسرعة ليتصل برقمٍ ما وما إن أجابه حتى هتف بلهجة آمرة:
_جريدة (…..)الاليكترونية تسحب الخبر حالاً وتنشر تكذيباً واعتذاراً ….لقد تم نشره منذ ساعة واحدة فقط ….هددهم بإغلاق الجريدة كلها…وتابع هذا الأمر بنفسك.
ثم أردف بنفس النبرة الآمرة
_ولا أريد أن يصل الخبر لأبي.
قالها ثم أغلق الاتصال بعنف ليلتفت نحوها قائلاً بتوتر :
_لا تقلقي …أنا كفيل بقطع هذه الألسنة.
لم يبدُ عليها أي رد فعل فقد كان بصرها شارداً في الفراغ وملامح الصدمة على وجهها…
فاقترب منها ليردف بحزم لم ينجح في إخفاء توتره هو الآخر:
_اطمئني …الخبر لم يذكر أي تفاصيل عنكِ أنت…..سيمر الأمر كإشاعة وأعدكِ ألا يتكرر.
ظل وجهها على جموده بينما كان جسدها كله مشدوداً وأناملها ترتجف بقوة على حاسوبها…
فتصدع قلبه بشعوره الرهيب الآن بالذنب و العجز ليهتف بحدة فجرها انفعاله:
_جنة..ردي علىّ…لا تسكتي هكذا!!
التفتت إلىه أخيراً من شرودها لتهمس مصدومة :
_جنة؟!!!
ثم صمتت لحظة لتردف بعدها بنفس النبرة المشدوهة:
_أين جنة؟!! أنا؟!!!!
انعقد حاجباه بشدة وقد فقد كلماته فجأة…
عندما هبت هي من الفراش لتهتف بعدها بثورة عارمة:
_جنة الرشيدي التي أعرفها لن تكون مجرد إشاعة رخيصة…جنة الرشيدي لن تكون علاقة مشبوهة يتستر عليها صاحبها بنفوذه…جنة الرشيدي لن تعيش في ظل رجلٍ ينفق عليها من مالٍ حرام!!!
انتفض من الفراش هو الآخر ليقف قبالتها محيطاً كتفيها بذراعيه هاتفاً بانفعال :
_ومن أخبركِ أنني راضٍ عن هذا الوضع؟!!! لو كان الأمر بيدي لأخذتكِ الآن إلى والدي وواجهته بحقيقة زواجنا لكنني أخاف عليكِ أنتِ…جاسم الصاوي لا يعتبرني أكثر من مشروعٍ استثمر فيه عمره كله …ولن يسمح لأحد أن يفسد مخططاته بشأني…ولا حتى أنا نفسي.
نفضت ذراعيه من على كتفيها بحدة فأردف بحدة أقوى:
_ومال أبي ليس حراماً…هو ليس لصاً ولا قاطع طريق…فلا تتماديْ في أحكامك.
اشتعل جسدها بثورتها وهي تصرخ بما هي مقتنعة به:
_ليته كان لصاً أو قاطع طريق …ربما كان ضحاياه أقل…جاسم الصاوي لا يسرق شخصاً أو عائلة…بل يسرق وطناً بأكمله…هذا الشاليه الفخم وما حوله من الأراضي التي تتباهى أنت بها ليست حقك ولا حقه…هذا هو حق البلد الذي ينهبه بصفقاته المشبوهة…وأنت تساعده في هذا.
كز على أسنانه بغضب وهو يهتف مدافعاً:
_ابن الطبيب يكون طبيباً مثله…وابن العامل يكبر ليكون كأبيه…إذا كان كل رجلٍ يرث مهنة والده فما العجب في شأني أنا؟!!
هزت رأسها ولازالت تصرخ بثورتها :
_إذا كنت تريد إرث أبيك في سرقاته فلا شأن لي بك…أنت حرّ!!!
نفرت عروق جبهته بغضبه الذي يحاول السيطرة علىه لكنها لوحت بسبابته في وجهه صارخة بعنف:
_معك حق…ابن الشريف شريف…وابن اللص لصٌ مثله!!!
ارتفعت أنامله بحدة تقبض على كفها وهو يكز على أسنانه هامساً بنبرات مشتعلة:
_اسكتي الآن حتى لا تجبريني على فعلٍ أكرهه…أنا أقدر ثورتك فلا تستغلي صبري.
لكنها جذبت كفها من كفه لتعطيه ظهرها للحظات وهي تكتف ساعديها محاولةً التقاط أنفاسها مع انتفاضة جسدها المرتجف…
قبل أن تهمس بصوتٍ مبحوح من فرط صراخها السابق:
_دعني وحدي الآن.
أدار كتفيها إلىه وهو يهتف بانفعال صارم:
_لا…لم يعد لأحدنا أن يكون وحده بعد الآن…أنا وأنتِ صرنا كياناً واحداً شئتِ أم أبيتِ!!
تشنج جسدها تحت كفيه وقد اشتعلت عيناها بثورتها من جديد …
عندما أردف هو بنفس النبرة الصارمة:
_أنا سأعرف كيف أخفيكِ عن عينيه كي أحميكِ من بطشه!!
هزت رأسها بانفعال وهي تخبط بقبضتها على صدرها هاتفةً بحدة:
_تخفيني؟!!!أنا أعرف رجلاً دافع عني بعمري كله….حماني بصدره العاري حتى آخر نفسٍ فيه…والآن تأتي أنت لتكون أقصى تضحياتك سجناً مظلماً بعيداً عن عيون أبيك!!!
وعند ذكرها ل”حسن” لم يستطع إخماد بركان غضبه الذي ثارت حممه كاملة في داخله ليجد نفسه يعتصر ذراعيها بقبضتيه وهو يهزها بعنف هاتفاً بلهجة أخافتها :
_لو ذكرتِه ثانيةً بيننا فسأكسر رقبتك…هل تفهمين؟!!!
قالها وهو يدفعها بقوة حتى سقطت على ظهرها على الفراش لتتأوه بألم…
لكنه غادر الغرفة بسرعة صافقاً بابها خلفه وهو يخشى أن يدفعه غضبه للتهور عليها أكثر…
قادته قدماه للشاطئ حيث كانا هنا منذ قليل…
ليبتسم بسخرية مريرة وهو يتذكر كيف تبدل الحال في لحظات!!
خلع قميصه ثم ألقاه جانباً ليتوجه إلى البحر محاولاً إفراغ شحنات غضبه في السباحة…
ورغم برودة الجو ساعتها لكنه لم يكن يشعر بشئٍ مع هذه النيران التي تحرق صدره…
كان يضرب الماء بذراعيه بقوة وهو يود لو يهدم كل هذه السدود التي يوقن الآن أنها تقف بينهما…!!!
هو يعلم أنها على حق…
هو في عينيها مجرد خطيئة سوداء في تاريخها ناصع البياض…
لكنه حقاً لا يعرف كيف يمكنه التصرف؟!!!
لو كان الأمر بهذه البساطة لذهب إلى والده وطلب منه أن ينفصل عنه بعمله مصرحاً له بزواجه منها!!!
لكنه يعرف أن جاسم الصاوي لا يقبل أن يأخذ منه أحدٌ شيئاً يملكه…
فكيف ب-ابنه- الذي يعدّه ليكون خليفته في امبراطوريته العظيمة؟!!!
جاسم الصاوي لن يكتفي بلومه أو حرمانه من ماله …
بل سيكون عقابه أشد مما يتوقع …
عقابٌ سينالها هي الأخرى وهذا الذي يثير كل خوفه….
فهو لن يحتمل أن يصيبها أدني سوء بسببه أو أن يُحرَم منها تحت أي ظرف!!!
لهذا كان من الأسلم لهما أن يبقيا علاقتهما مخفيّةً عن عيني والده…
ليس جبناً أو تخاذلاً منه…
لكنه إدراكه الحقيقي لشخص أبيه الذي لن يمرر فعلته على خير!
والمشكلة هي أن جنة لا تفهم هذا…
شخصيتها الثائرة بطبعها تأبى الهروب وتعشق المواجهة ولو كان فيها هلاكها…
لكنه لن يسمح لها بذلك…
لن يسمح لها أن تؤذي نفسها ولو أجبرها بكل الطرق!!!
حتى لو رأته جباناً متخاذلاً وليس بطلاً أسطورياً كحبيبها السابق!!!!
عند هذه النقطة ثارت نفسه أكثر ليعود أدراجه من جديدٍ إليها وهو يشعر رغم كل ما يملؤه من غضبٍ وثورة أنه حقاً…افتقدها!!!
وعلى سريرها كانت هي مستلقيةً على ظهرها ترمق السقف بشرود…
وقد انحسرت أمواج ثورتها مخلفةً وراءها شطآناً عاريةً من الحزن والألم…!!!
أغمضت عينيها بقوة تستجدي دموعها لعلها تريحها قليلاً لكنها عاندتها هي الأخري…
وكأن الجفاف الذي طال روحها وعقلها وقلبها قد وصل لعينيها أيضاً!!!
قلبها يكاد يذوب قلقاً على فهد الذي لا تعلم إلى أين غادر…وعقلها وكرامتها ينتفضان بالتحدي ضد ابن الصاوي…!
جزءٌ منها يشعر بالندم على إهانتها له…
على هذا الجرح الذي رأته صارخاً في عينيه…
لكن كيانها كله يتمرد بثورته على عاطفتها نحوه من جديد…
فهد سيبقى ابن الصاوي مهما حاولت التفريق بينهما !!!
شعرت به يعود للغرفة من جديد فأغلقت عينيها محافظةً على جمود وضعها…
عندما اندس جوارها في الفراش ليتكئ على مرفقه ناظراً إليها من علوّ للحظاتٍ صامتاً…
قبل أن يهمس بحزنٍ صادقٍ عرف طريقه لقلبها:
_لم أطلب سوى يومٍ واحد ننسى فيه كل شئ…لكن حتى هذا استكثرته علينا الظروف.
ظلت على صمتها وقد عجزت عن الرد…
همسه المختنق غضباً وألماً حمل لها مشاعره كاملةً دون نقصان…
لكنها لم تكن أقل منه غضباً وألماً…لهذا اكتفت بنحيب دقات قلبها الصامتة …
عندما شعرت برأسه على صدرها وهو يحتضن خصرها بذراعيه مردفاً بنبرة غريبة مشتتة:
_أنا…أشعر بالبرد!!
ارتجف جسدها بقشعريرة قوية….وهي تشعر ببرودة جسده الحقيقية…
ففتحت عينيها لتري خصلات شعره المبتلة لتغلبها عاطفتها -الأمومية- نحوه وهي تهتف باستنكار جزع:
_هل كنت تسبح في هذا البرد؟!!
لم يرد عليها وقد أغمض عينيه باستسلام لدفئه جوارها…
فتنهدت بحرارة وهي تحاول بصعوبة رفع الغطاء عليه بإحكام مع تشبث ذراعيه المحكم بها ….
ظلا على هذا الوضع للحظات ….
ساد فيها صمتٌ ثقيلٌ بينهما وهي تجد نفسها -عفوياً- رغم ثورتها وغضبها تضم جسده المرتجف برداً وانفعالاً …
صمتٌ ثقيل لم يقطعه سوى صوت دموعها التي وجدتها أخيراً وهي تشعر شعور الأم بابنها العاقّ المريض…
فلا هي تستطيع مسامحته ولا هي تقوى على هجرانه…
هذا هو -بالضبط-فهد الصاوي عندها!!
وكأنما قرأ بحركتها -العفوية-كل ما يدور بقلبها.. .
فقد رفع رأسه إليها وهو يضمها بعنفٍ أكثر حتى تأوهت ألماً قبل أن يمسح دموعها بشفتيه هامساً بحزمٍ قاسٍ:
_هل علمتِ الآن لماذا لن أتخلى عنك أبداً.؟!..لأنني أعرف أن دفئي لن يكون إلا بين ذراعيكِ…مهما أنكرتِ وكابرتِ …قلبكِ صار ملكي يا أستاذة…وما هو ملكي لا أتنازل عنه !!
أغمضت عينيها بقهر ممتزج بعجزها عندما شعرت بوجنته الباردة تلتصق بوجنتها وهو يردف بنفس النبرة القاطعة:
_لن أسمح أن تضيعي مني أبداً حتى لو حاربتك أنتِ نفسك…!!!
=======
لم يستطع كلاهما النوم في هذه الليلة…
ورغم أنه كان يعتقلها -حرفياً-بين ذراعيه طوال الليل وكأنه يخشى أن يفلتها لحظة فلا يجدها…
لكنها كانت تشعر أنه بعيد…
بعيدٌ كالسماء…كالحلم…وكالسراب!!!
لو كان أحداً ما أخبرها أنها ستعشق رجلاً مثله لاتهمته بالجنون…
والآن تجد نفسها غارقةً حتى أذنيها ببحر عشقه الهائج دون معين…
سواه!!!
نعم…هو الآن البحر …وشطآنه…
هو الصحراء …وواحتها…
وهو بعد الجفاف…المطر!!!
هو كل الألوان…
أبيض نقائها وسواد ذنوبها…وردية أحلامها وزرقة رهبتها….خضرة بهائها وصفار خريفها…
هو كل الأنغام…
برتابتها تارة…وحالميتها تارة…وجنون صخبها تارة أخري!!
هذا رجلٌ ظهر لها من العدم ليحتل عالمها كله فيقلبه لها رأساً على عقب قبل أن يساوي وحده كل البشر!!!
رفع رأسه إليها أخيراً ليتطلع إلى عينيها المفتوحتين بشرود…
فزفر زفرة قصيرة قبل أن يقبل وجنتيها كعادته كل صباح…
لكنه تخلى عن همسه في أذنيها هذا الصباح مكتفياً بقوله المقتضب:
_صباح الخير.
أغمضت عينيها دون رد للحظات…
قبل أن تقول بنبرة قاطعة:
_أريد الرحيل من هنا.
قام من جوارها وهو يقول بفتور:
_كما تريدين.
قامت بدورها من الفراش لتغسل وجهها قبل أن تبدل ثيابها لتخرج إليه حيث كان ينتظرها بملامح جامدة…
غادرا الشاليه بسرعة وكلاهما يتحاشى مجرد النظر للآخر حتى ركبت جواره سيارته…
لتسند رأسها على ظهر مقعدها صامتةً لوقت طويل بينما اكتفى هو بنظراتٍ مختلسة نحو جانب وجهها أثناء قيادته…
حتى قطعت هي هذا الصمت بقولها دون أن تنظر إلىه:
_ماذا ستفعل لو رزقنا الله يوماً بطفل؟!! هل ستخفيه كما تخفيني عن عيني والدك؟!!
اختلس نظرة خاطفة نحوها قبل أن يقول ببرود قاسٍ:
_والدي لن يؤذي طفلي…لكنه قد يؤذيكِ أنتِ…لهذا فوجود طفل لن يغير من الأمر شيئاً…أنا لا أهتم إلا بكِ!
ثم التفت إلىها مردفاً بتهكم مرير:
_ثم من أين سيأتي الطفل إذا كانت “الأستاذة”لا تعترف بي كزوج بعد؟!!!
رمقته بنظرةٍ عميقة حملت كل ألمها المصبوغ بحبها الجارف له…
فابتسم بمرارة قائلاً:
_هذا هو الفارق بيني وبينك…أنتِ أغلى ما في حياتي لكنني في حياتك مجرد خطإٍ تندمين عليه!!
أغمضت عينيها بتأثر قبل أن تهمس بأسى:
_أنت حتى لا تمنحني فرصة الندم…لم أعد قادرة حتى على التقاط أنفاسي بعيداً عنك.
ثم أطرقت برأسها لتخفيه بين كفيها هاتفةً بانهيار بين دموعها:
_ماذا فعلتَ بي؟!!!
زفر زفرةً مشتعلة وبكاؤها الهستيري جواره يزيد إحساسه بالألم والعجز…
فتوقف فجأة بالسيارة لتصدر صريراً مزعجاً قبل أن يجذب رأسها بذراعه إلى صدره بقوة هاتفاً بحدة:
_ماذا فعلتُ أنا أم ماذا فعلتِ أنتِ بي؟!!!أنا الذي لم أحمل يوماً همّ شئٍ في حياتي أجدني فجأة أعيش في سجنٍ من خوفي عليك..أخاف أن أكون سبباً في أن يصيبك أذى…وأخاف منكِ أن تتركيني…وأخاف من نفسي أن أخذلك…ووسط كل هذا تنظرين أنتِ إلىّ على أنني مجرد وغد جبان يستغلك في السرّ ولا يرتقي لدرجة بطلك السابق الذي افتداكِ بحياته…ويشهد ربي أنني لن أتردد أن أموت لأجلكِ كي أثبت لكِ…
قاطعت عبارته بشهقتها العنيفة مع أناملها التي وضعتها على فمه وهي ترفع رأسها إليه هاتفةً بجزع:
_لا تنطقها!!!
ثم تهدج صوتها بعدها بدعائها:
_أبقاكَ الله لي!
أشاح بوجهه للحظات وهو عاجزٌ عن احتواءصخب مشاعره ومشاعرها معاً….
ثم عاد يقبل رأسها على صدره الذي بدا وكأنه ضج من فرط دقاته الثائرة بجنون….
قبل أن يبعدها عنه برفق ليعاود القيادة صامتاً حتى وصل بها إلى منزله فقال دون أن ينظر إلىها :
_انزلي أنتِ…لديّ شأنٌ هام!!
نظرت إليه بترقب لكنه كان عاقداً حاجبيه بشرود وهو يردف بحزمٍ قاسٍ:
_وإياكِ أن تفكري في الهروب مني ثانيةً لأن تصرفي وقتها لن يعجبك!!
أشاحت بوجهها في غضب ممتزج بقلة حيلتها وهي تغادر السيارة بتثاقل متوجهة للمنزل …
قبل أن تلقي نظرة آسفة على سيارته التي انطلق بها بسرعة جنونية كعادته عند غضبه .
وفي السيارة كان هو يشعر بثقلٍ جاثم على صدره…
ورغم صعوبة ما ينتويه لكنه كان عازماً عليه ليس فقط من أجلها…
ولكن من أجل نفسه أيضاً!!!
هو الذي يحتاج الآن أن يحترم نفسه حقاً قبل أن يطلب منها احترامه…
يحتاج أن ينخلع عن رداء أبيه الذي ألقاه قسراً على كتفيه ويبدأ بداية جديدة تليق بها وبتوبته بعدها…
يحتاج أن ينسلخ من جلد ماضيه مغتسلاً بمطر حبها الطاهر لعله يصالح بعدها صورته في مرايا ضميره!!!
قطعت أفكاره عندما وصلت سيارته للمكان الذي يقصده…
فأوقفها مكانها وهو يستجمع قوته قبل أن يغادرها ليدخل …
شركة جاسم الصاوي!!!
===================
_كيف حالك؟!لماذا تكاسلتَ عن متابعة مشروعنا الجديد؟!!
قالها جاسم الصاوي بعدم اكتراث وهو يتابع شاشة حاسوبه باهتمام…
فتجاهل فهد الشقّ الثاني من السؤال وهو يرد بفتور مماثل:
_أنا بخير.
رفع جاسم عينيه إلىه بسخرية حملتها شفتاه بابتسامة وهو يقول بما يشبه التحقير:
_ولماذا لا تكون كذلك؟!!حياتك كلها لملذاتك فقط…حتى العمل الذي أعتمد عليك فيه بدأت تهمله.
أطرق فهد برأسه للحظات وقد اعتاد منه هذه اللهجة فلم تعد تثير ضيقه وإن كانت لا تزال تثير حزناً دفيناً بقلبه…
ورغم أن هذه المقدمة لا تشجعه إطلاقاً على ما يريد محادثته فيه…
لكنه عزم على إتمام الأمر معه…
لهذا قال بحزم لا يخلو من توقير:
_كنت أفكر أن أفتتح مشروعاً خاصاً بي وحدي.
التمعت عينا جاسم بغضب مفاجئ قبل أن يستدير نحوه بكرسيه مشبكاً أصابعه أمام وجهه …
قبل أن يقول من بين أسنانه:
_وماذا أيضاً؟!!
تحاشى فهد النظر إليه وهو يقول بنبرة من حسم أمره:
_لقد اكتسبتُ خبرة كافية وأريد خوض التجربة وحدي .
ابتسم جاسم بسخرية وهو يقول باستهجان:
_تريدني أن أثق في عملٍ تديره وحدك؟!!
تألقت عينا فهد بتحدٍ واضح وهو يواجهه بنظراته الواثقة قائلاً:
_لا أجد ما يمنع…أنا أثبتُ تفوقاً واضحاً في عملي معك منذ أكثر من ثلاث سنوات رغم صغر سني.
اتسعت ابتسامة جاسم الساخرة وهو يرد بنفس النبرة المستهجنة:
_كل ما فعلتَه أنت كان تحت رقابتي وإشرافي…أنا لن أغامر بقرشٍ واحد من مالي في يد سفيه مثلك!!
ابتلع فهد إهانته بصبر من اعتادها …
قبل أن يفجر قنبلته التالية:
_إذن امنحني نصيبي في إرث أمي!!!
لم يكد يهتف بها حتى بدا وكأن الغرفة كلها قد اشتعلت ببركان أسود…
بركانٍ من غضب جاسم الصاوي الذي هب واقفاً وهو يكرر بثورة هادرة:
_إرث أمك؟!!! لا أصدق أنك اليوم جئت تتبجح مطالباً بإرث أمك!!!
كز فهد على أسنانه وهو يقبض أنامله بقوة وهذا الموضوع يفجر كل جروح ماضيه بقسوة قاتلة…
عندما دار جاسم حول المكتب ليتوجه إليه جاذباً إياه من ياقة قميصه وهو يهدر بعنف:
_إرث أمك الذي تحكي عنه لن تحصل عليه أبداً…أتدري لماذا؟!!
دمعت عينا فهد بقهر عاجز وقد عجز عن مواجهة والده الذي صوب لقلبه سهمه الأخير وهو يردف باحتقارٍ ممتزج بالمرارة:
_لأن القاتل لا يرث!!!
=====================
غادر فهد الشركة وهو يتعثر في خطواته وقد شعر بغشاوة سوداء على عينيه ….
لم يدرِ كيف حملته خطواته نحو السيارة وما إن ركبها حتى رفع زجاجها العاكس كله بلونه القاتم…
ليلقي رأسه على مقودها بيأس أسود صبغ خلاياه كلها…
جرح ماضيه الذي طالما تناساه عاد الآن ينزف من جديد…
جنة الرشيدي محت كل تاريخه الأسود مع النساء لكنها أحيت الجمر المشتعل تحت الرماد…
والذي كان سبباً في تحوله أصلاً لهذا المسخ الذي صار إليه حتى دخلت حياته لتمتلك قلبه!
لقد كان يتوقع رفض جاسم الصاوي لقراره بالانفصال عنه في أعماله…
لهذا لم يجد له سبيلاً سوي إرث أمه رغم أنه لم يحسب يوماً أن يمد يده لقرشٍ منه…
لكنه لم يحسب حساب هذه الطعنة الغادرة….
جاسم الصاوي لم ينسَ له فعلته…
وهو يعذره برغم كل شئ لأنه لم يعرف الحقيقة كاملة!!!!
الحقيقة التي كتمها وحده في صدره طوال هذه السنوات فلم تغادره أبداً لتبقى كالرمح المكسور في جسد مطعونٍ مغدور لم يستطع نزعه ولو بعد حين!!!
الحقيقة التي منعته النوم لسنوات خوفاً من عقاب السماء أو فضيحة بين أهل الأرض…
الحقيقة التي جعلته يفقد الثقة في كل النساء ولولا جنة الرشيدي التي وضعها القدر مصادفةً في طريقه لظل في ضلاله القديم!!!!
تنهد بحرارة عندما ملأت صورة جنة ذهنه فاحتلته كاملاً حتى لم يعد يذكر سواها…
أو -بالأدق-لم يعد يريد أن يذكر سواها…
هي حقاً جنته التي شاءت الأيام أن تمنحها له على الأرض…
والتي يتمنى بحق لو لا يخيب ظنها فيه…
لو يعشقها كما تستحق ويمنحها الأمان الذي ترجوه…
لو يعلنها أمام الجميع مليكته الشرعية الوحيدة الأبدية النقية وال….طاهرة!!!!
عند الكلمة الأخيرة عاد ذهنه يتلطخ بسواد ماضيه….
لكنه هز رأسه بعنف هارباً من أشباح الذكرى..
وهو يحاول التشبث بخيوطها الماسية التي زينت قلبه كالنجوم في ليلة بلا قمر…
ورغم فشله في مسعاه بالتحرر من قيود جاسم الصاوي لكنه -على الأقل-كان يشعر بأن حجراً ثقيلاً قد انزاح عن صدره أو كما يقولون…يكفيه شرف المحاولة!!!
شرف؟!!!!
ابتسم باستهزاء مرير عندما جالت الكلمة الأخيرة بخاطره…
وهو يفكر أنها اليوم بالذات أبعد ما تكون عن نسبه -العظيم-كابن الصاوي!!!!!
لم يدرِ كم ظل على حالته هذه لكنه رفع رأسه أخيراً بملامح كسيرة قبل أن يعاود تشغيل السيارة ليهيم بها في الطرقات دون هدف…
حتى حل المساء لينتبه فجأة لهاتفه الذي نسيه في وضع صامت منذ الأمس…
الأمس الذي اختاره معها ليكون يوماً خارج حدود الزمن لهما وحدهما …
ولولا ما حدث في آخره لأقسم أنه أروع يوم في حياته…
بل لا يبالغ لو قال أنه يساوي كل حياته!!
تناول الهاتف بترقب يبحث عن مكالمات فائتة منها …
لكنه لم يجد شيئاً…
يبدو أنها ستبدأ في التراجع عن الطريق الذي ظن أنها ستكمله معه للنهاية…
بعدما حسم عنادها الصراع بين قلبها وعقلها!!!
جعله هذا الخاطر الأخير يستسلم ليأسه أكثر فتعمد التأخر عن المنزل حتى منتصف الليل…
قبل أن يعود إليه بخطواتٍ متثاقلة ليجد نفسه يتوجه نحو غرفتها وكأن شيئاً ما يجذبه إلى هناك رغماً عنه…
ورغماً عن كبريائه الرجوليّ الذي كان يدعوه لتجاهلها كما تجاهلته!!!
وعلى فراشها كانت هي كمن يتقلب على جمر…
وأصابعها تحتضن هاتفها بقوة وهي تغالب نفسها التي تتوسلها الاتصال به فقط لتطمئن عليه بعد الحالة الغريبة التي تركها فيها والسرعة العالية التي انطلق بها…
لكنها تحكمت في عاطفتها بأقصى ما استطاعت وهي تحاول أن يكون عقلها سيد المرحلة القادمة حتى لا تخسر أكثر مما خسرته…
لهذا ما كادت تشعر بدخوله الغرفة ليحتل عطره كل خلية من خلايا جسدها المتيم بحبه حتى تجاهلت عاطفتها تماماً لتغلق عينيها متظاهرةً بالنوم…
وأمامها جلس هو على طرف الفراش يتأمل ملامحها بألم متشحٍ بالعجز وهو يتمنى لو كان قد نجح في مسعاه ليعود إليها بحلٍ يخرجهما -ولو جزئياً- من هذه المتاهة التي يدوران فيها…
ثم تناول كفها برفقٍ ليدفن وجهه فيه وهو يهمس بصوتٍ خفيضٍ جداً …
يكاد لا يُسمع:
_رغماً عني…كل ما في حياتي كان رغماً عني…أنتِ الشئ الوحيد الذي اخترته برضايَ لهذا سأتمسك به حتى آخر لحظة في عمري.
تجمعت الدموع بعينيها المغلقتين وهي تشعر بصدق حديثه الذبيح…
محاولةً الحفاظ على ثباتها بصعوبة…
لكن جسدها ارتجف بانفعالها عندما شعرت ببلل دموعه الصامتة على كفها …
فقامت من نومتها لتضم رأسه إلى صدرها هامسة بجزع:
_فهد….ماذا حدث؟!!!..أنت….؟!!
قطعت عبارتها مشفقةً عليه من إكمالها وهي تعرف أنه لن يحب أن ترى هي دموعه…
فاكتفت بضمتها القوية له دون كلمات وهي تشعر أنه يخفي عنها جرحاً كبيراً لن يفصح عنه بسهولة….
ليخفي هو وجهه في حضنها للحظات طويلة….
مطارداً طيور سكينته في سماء عشقها الواسعة…
قبل أن يبتعد ليمسح وجهه بكفيه هامساً بخشونة لم يتعمدها:
_لم أعرف أنك مستيقظة…أنا سأنام هنا الليلة.. …تصبحين على خير.
قالها وهو يستلقي جوارها دون أن يجد القدرة حتى على تبديل ملابسه معطياً لها ظهره …
فعضت على شفتها بتوتر وأناملها تقترب منه ببطء تكاد تلامس كتفه لكنها تراجعت في آخر لحظة…
وهي تتشبث بأقصى ما استطاعته من جمود لتعطيه ظهرها هي الأخري متجاهلةً نحيب قلبها الصامت لأجله…
وهي تحدث نفسها بحزم:
_كفاك تنازلاً يا أستاذة…حكّمي عقلكِ حتى لا تضلي الطريق.
=====
جلس عبد الله في المحل يتابع حركة البيع والشراء بشرود…
لقد مضى قرابة الشهر على عمل صفا الجديد في المدرسة…
ورغم سعادته لأجلها وشعوره بأنها حقاً كانت تحتاج هذا العمل بالذات لتروي ظمأ أمومتها…
لكنه يشعر وكأنها قد -خُطفت – من بين يديه!!!
لم يعد اهتمامها الملهوف خاصاً به وحده…
بل إنه صار في المرتبة الثانية في حياتها بعد عملها هذا…
عملها الذي لا يقتصر على ساعات تواجدها بالمدرسة بل صار يمتد لما بعدها أيضاً فهي تقضي وقتها بعده في التفكير لأنشطة للأطفال وشراء مستلزماتها …
بالإضافة لفكرها الذي صار مشغولاً دوماً بمشاكلهم النفسية والاجتماعية التي لا تنتهي…
فهي لم تعد تكتفي بالتدريس للصغار…بل امتد نشاطها للمرحلة الإعدادية والثانوية…
حيث تساعد الأخصائيات الاجتماعيات في احتواء تطورات مراهقتهم كما تزعم!!!
وهذا بالطبع يستنزف وقتها وعقلها قبل قلبها الذي تباعد عنه كثيراً…!!!!
من يصدق أن صفا التي كانت تنتظره دوماً بعد صلاة العشاء عندما يعود من عمله ليجد طعامه ساخناً كما يحب …ثم تسامره حتى ينام على صدرها…الآن صارت تنام قبله؟!!!!
مكتفيةً بوضع الأطباق له على المائدة !!!!
زفر بخفوت عندما رن هاتفه فتناوله ليجيب المتصل…
والذي كان أحد شركائه في التجارة يحدثه بشأن صفقة جديدة بينهما…
فدعاه عبد الله على الغداء في منزله لأن الرجل كان قادماً من سفر بعيد…
ثم أغلق الاتصال معه ليهاتف صفا التي بادرته بقولها المتعجل:
_لن أستطيع الكلام الآن …انتظرني خمس دقائق فقط يا عبد الله وسأهاتفك أنا!!
أغلق معها الاتصال بعنف وهو يشعر بدمه يغلي غضباً…
هو الذي اعتاد حنانها وتدليلها المسرف له…
وكأنه عندها الدنيا بما فيها ومن فيها!!!
الآن لم يعد يستطيع حتى مهاتفتها في أي وقت!!!!
زفر بقوة وهو يلقي الهاتف بعيداً ليغمغم بتهكم غاضب:
_ننتظر حتى تجد “السيدة” وقتاً لتكلمني!!!
لكنه لم يكد يرفع رأسه نحو باب المحل حتى احتلت عيناه تلك القادمة تجذب خلفها طفلاً وتتوجه نحوه بخطواتٍ مرتبكة…
وعلى عكس ثيابها البسيطة التي تشي برقة الحال كانت ملامحها -باذخة-الفتنة!!!
عيناها الكسيرتان رغم لمحة الحزن فيهما كانتا تشعّان بسحرٍ أنثوي خاص…
أنفها الدقيق المرتفع في شموخ يناقض ما يبدو على حالها من ذل…
شفتاها المتوردتان بصورة طبيعية لتنتهيا بشامة سوداء على جانبيهما زادتهما فتنةً لم تكن تنقصهما!!!
وجسدها…!!!!
أشاح بوجهه عنها عند هذه اللحظة وهو يستغفر الله في نفسه شاعراً بالذنب….
وهو يجدد عهد توبته التي عاهد الله عليها منذ زمنٍ …
ثم أطرق برأسه محاولاً التشاغل بمحتويات درجه المفتوح…
لكن “الفاتنة” وقفت أمامه مباشرة وهي تغمغم بتلعثم منحها جاذبية خاصة عنده:
_الشيخ عبدالله؟!!
رفع بصره إليها من جديد بنظرة خاطفة …
قبل أن يغضه عنها متمتماً بفتور :
_نعم!!
زادت نبرته الفاترة من تلعثمها وهي تغمغم بنبراتٍ متهدجة:
_خمس دقائق فقط من وقتك يا شيخ عبد الله!!!
ابتسم بسخرية مريرة من -المفارقة- وبصره يتوجه تلقائياً لهاتفه الذي ينتظر هو الآخر منه مكالمةً بعد خمس دقائق!!!!!
لكنه كتم ابتسامته وهو يشير للكرسيّ أمامه قائلاً دون أن ينظر إليها :
_تفضلي.
جلست “الفاتنة” لتحمل الصغير على ساقيها وهي تقول بنبراتٍ ممطوطة توحي بأصلها الريفي :
_أنا زوجة “مرعي” رحمه الله….وهذا ابنه!!!
عقد حاجبيه بإدراك وهو يتذكر الرجل…
عاملٌ بسيط كان يعمل هنا في المحل لكنه لقي حتفه بحادث سيرٍ منذ بضعة أشهر…
ويبدو أنها قادمةٌ طلباً لمساعدة مادية…
لهذا تناول مبلغاً معقولاً من المال من درجه ثم وضعه في مظروف ليناوله لها قائلاً بتحفظ متحاشياً النظر لوجهها:
_رحمه الله…كان رجلاً طيباً…خذي هذا المبلغ الذي يعادل راتبه …ولكِ مني مثله كل شهر.
لم تصله منها إجابة كما لم تمد يدها لتتناول المظروف…
فاضطر لرفع وجهه إلىها ليلمح العبرات المترقرقة في عينيها وهي تغمغم بحرج:
_لقد أسأتَ فهمي يا شيخ عبد الله…لم آتِ طالبةً للصدقة…بل…للعمل!!!
انعقد حاجباه بضيق وملامحها الخلابة تنغرس بمخيلته أكثر…
قبل أن يقول بخشونة لم يتعمدها:
_أي عمل؟!!
ازدردت ريقها بتوتر وهي تغمغم بارتباك:
_أريد العمل هنا مكان “مرعي”!!
هز رأسه نفياً وهو يقول باستنكار:
_كل العاملين في المحل رجال…لا يُعقل أن تقفي وسطهم هكذا!
سالت دموعها على وجنتيها وهي تهمس بتوسل:
_أرجوك يا شيخ عبد الله…طالما كان مرعي -رحمه الله- يصفك بطيبة القلب…لهذا قصدتك اليوم…أنا لا أطلب سوى عمل شريف يغنيني عن سؤال الناس الذين يطمعون في من هي في ظروفي…أنا غريبة في هذه المدينة منذ غادرتُ قريتنا….مرعي كان هو كل أهلي هنا…وأنت تعرف كيف ينظر الناس لامرأة مثلي.
رق قلبه لها فأومأ برأسه مغمغماً برفق:
_لا يمكنكِ العمل هنا كما أخبرتك…لكنني سأحاول تدبر عملٍ آخر لكِ.
التمعت عيناها بلهفة الحاجة وهي تهمس برجاء:
_أي عمل يا شيخ !!!
عاد يومئ برأسه فيما يشبه الوعد وهو يمد يده لها بمظروف المال من جديد…
لكنها همست بخجل:
_اعذرني يا شيخ…يعزّ علىّ أن أرد يدك…لكنني لن…
زفر بضيق يناقض شعوره الحالي نحو هذه “الفاتنة” وهو يقول بلهجة جافة:
_هذه ليست صدقة…هذا راتب مرعي الذي لم يحصل عليه قبل وفاته…كان ينبغي أن أرسله أنا إليكم لكنني لم أعرف لكم عنواناً.
أطرقت برأسها دون رد…
فرفع عينيه نحو الصغير الذي بدت علىه علامات “اليُتم” المبكر…
وقد وضع إصبعه في فمه ينظر إليه بفضول ممتزج بالخوف…
فابتسم عبد الله وهو يسأله بلطف:
_ما اسمك يا حبيبي؟!!
رفع الصغير رأسه لأمه وكأنه يستأذنها فأشارت له برأسها ليعود وينظر إليه هامساً بخجل:
_محمد!
اتسعت ابتسامة عبد الله وهو يناوله المظروف قائلاً بحنان:
_اسم جميل…خذ يا محمد!!
عاد الصغير يرفع رأسه لأمه ثم قال له ببراءة:
_أمي تنهاني أن آخذ شيئاً من أحد.
أطرق عبد الله برأسه للحظات في إعجاب خفيّ من هذه المرأة عزيزة النفس…
ثم عاد يرفعه إليها مغمغماً :
_هاتفيني هنا على رقم المحل بعد يومين…لعلى أتمكن من إيجاد عمل مناسب لك.
وقفت “الفاتنة” حاملةً صغيرها وهي تقول شاكرةً:
_بارك الله لك يا شيخ…!!!
قالتها وهي تعطيه ظهرها لتغادر لكنه استوقفها منادياً:
_محمد!! نسيتَ هذا!
قالها ثم قام من على كرسيه ليواجه الصغير قائلاً بحنان:
_هذا لك أنت!!
ثم نظر إليها قائلاً :
_صدقيني هذا حقكما وليس إحساناً مني.
ظلت واقفة مكانها للحظات بتردد…
ثم مدت إليه أناملها المرتجفة لتلتقط منه المظروف بخجل…
قبل أن تتوجه بخطوات سريعة خارجةً من المحل بينما كان الصغير يلوح له بكفه مودعاً!!!!
فلوح له عبد الله بكفه هو الآخر وابتسامة حزينة ترتسم على وجهه…
قبل أن يتمتم بدعاء خاشع لله أن يرزقه وصفا الولد الصالح الذي يتمنيانه…
ظل واقفاً مكانه للحظات شارداً…
قبل أن يرن هاتفه برقم صفا فتناوله ليهمس بعتاب:
_هل وجدتِ الوقت لي أخيراً؟!!
وصله صوتها الغارق بعاطفته تتمتم باعتذار:
_رغماً عني يا حبيبي…أنت تعلم أنني…
قاطعها بنفاد صبر قائلاً :
_لا بأس !!!المهم الآن أن تستعدي لاستقبال ضيف هام على الغداء اليوم.
صمتت قليلاً ثم غمغمت بارتباك:
_اليوم؟!!! لن أستطيع يا عبد الله…حفل المدرسة غداً وتدريب الأولاد…
عاد يقاطعها هاتفاً بغضب:
_أحدثكِ عن ضيف هام من شركائي في التجارة وتحدثينني عن حفل أطفال؟!!!
تنمر صوتها بحدة غريبة عليه وهي تهتف بدورها:
_عملي مهم بالنسبة إليّ كما هو عملك بالنسبة إليك…يمكنك دعوة ضيفك على الغداء في أحد المطاعم…سيكون هذا أكثر راحة…وأناقةً أيضاً!!!!
صمت مبهوتاً من تغير أسلوبها الجديد معه….
صفا حقاً خُطفت من بين يديه كما كان يظن….
صفا “القديمة” لم تكن أبداً لتناطحه بالكلام هكذا…
بل لم تكن لتعترض على أوامره أبداً…!!!!
ولما طال صمته شعرت هي ببعض الذنب فعادت تتمتم بما يشبه الاعتذار:
_لا أقصد مضايقتك يا عبد الله…أنا فقط….
أغلق الاتصال دون أن يستمع لبقية عبارتها ….
ثم عاد يجلس على كرسيه متجاهلاً اتصالاتها العديدة بعدها…
إنه بحاجة لتنظيم أفكاره ليعرف كيف يستعيدها من جديد …
لقد افتقدها حقاً جواره …
لقد أدمن اهتمامها -الكلّي -به وانشغالها عنه مؤخراً يكاد يصيبه بالجنون…!!!!
لكنه لن يسمح لها بهذا…
هي له وحده…ويجب أن تبقي كذلك!!!!
وفي المساء انتظرته هي بلهفة ممتزجة بشعورها -المستحدث-بالذنب…
هي تعترف أنها تشاغلت عنه كثيراً منذ انغمست في عملها الجديد…
لكنها -للحق-لا تراه مجرد عمل…بل عالماً كاملاً من كل ما حُرمَت هي منه طيلة هذه السنوات…
لقد تفجرت ينابيع أمومتها الفطرية كاملةً منذ وجدت نفسها فيه…
لتكتمل أنوثتها الحقيقية فتشعر بعذوبة الارتواء بعد الظمأ…
وهو شعورٌ عظيمٌ حقاً خاصةً لمن افتقده طويلاً!!!!
لكنها مع هذا تعذر عبد الله على غضبته اليوم…
هو تحملها كثيراً طيلة الأيام السابقة ولم يتذمر مراعياً حاجتها للعمل الجديد…
ويجب عليها أن تنتبه إليه أكثر حتى لا تزداد غضبته التي تعلم أنها تحرق في طريقها الأخضر واليابس!!!!
لم تكد تتم فكرتها حتى سمعت صوت مفتاحه في الباب تبعه دخوله بوجه متجهم تعرف أنها ستتعب كثيراً كي تراضيه…
لهذا تقدمت منه بابتسامتها الحانية لتضع كفيها على صدره هامسةً بعاطفة لا تدعيها:
_افتقدتك يا حبيبي…افتقدتك جداً!
أشاح بوجهه في ضيق لم يحاول إخفاءه وهو يرد بتهكم :
_حقاً؟!!!منذ متي؟!!
أحاطت وجنته براحتها تدير وجهه إليها لتتعلق بعينيه وهي تهمس بحرارة:
_لا تعاملني هكذا!! أنت تعلم أنني لا أحتمل منك هذا الأسلوب.
حملت عيناه المزيد من عتابه وهو يقول بجفاء:
_هل تعلمين عدد الليالي التي عدتُ فيها لأجدك نائمة؟!! وفي الصباح تكونين متعجلة للحاق بمدرستك؟!! لقد كدتُ أنسى أنني متزوج!!
عضت على شفتها بارتباك المذنب وهي تداعب وجنته بأناملها لتهمس بعدها بنعومة:
_معك حق…أنا أسرفتُ في الاهتمام بعملي وأنتَ كنتَ مراعياً لأبعد حد…سامحني!
زفر بخفوت وهو يخفض بصره عنها..
فاستطالت على أطراف أصابعها لتقبل رأسه قبل أن تهمس أمام عينيه برقتها :
_صفا روحك تتدلل عليك…ألا يحق لها الدلال؟!!
ابتسم رغماً عنه وهو ينظر إليها بعاطفة لم يغادرها العتاب بعد …
قبل أن يحيط وجنتيها بكفيه هامساً بصدق:
_أنا مستعدٌ لاحتمال أي شئ في سبيل أن تكوني سعيدة…إلا أن تبتعدي عني…ربما كان هذا خطأك …أنكِ أسرفتِ في حبي حتى أدمنتكِ .
أغمضت عينيها للحظات وقلبها يخفق في صدرها بقوة …
ماذا عساها تفعل بعد كلماته هذه إلا أن تحبه أكثر؟!!!
لكن…هل هناك أكثر؟!!!
إنها حقاً تعشقه بكل ذرة في كيانها …
وتود التكفير عن خطئها بإهماله بأي ثمن…
لهذا فتحت عينيها لتتطلع إليه بنظراتٍ معتذرة قبل أن تهمس بحنانها الفطري:
_اعذرني يا حبيبي…أنت أكثر من يعلم عن معاناتي دون أطفال طوال هذه السنوات…لأجدني فجأة في جنة حقيقية من مشاعر أعيشها معهم بكل طاقتي…لكن مع هذا…لو كنت تريدني أن أترك العمل فلن أعترض…أنت عندي أغلى من أي شئ.
تنهد في حرارة دون أن يجيبها للحظات…
لقد كان هذا حقاً ما ينتويه الليلة عقاباً لها على أسلوبها الجديد معه…
لكنها نسفت غضبه كله بفيض عاطفتها كالعادة…!!!
عجباً لها من امرأة تستطيع في لحظة أن تكون في غاية الضعف…
لكن ضعفها هذا منتهى قوتها أمامه!!!
لهذا ضمها إلى صدره بقوة اشتياقه وحاجته اللامتناهية لها ليهمس في أذنها بحرارة:
_لن أقوى على حرمانك من شئٍ تعشقينه لكن في المقابل …لا تحرميني منكِ!!
=========
كان يدور في صالة المنزل بغضب ممتزج بقلقه البالغ وهو لا يدري كيف يتصرف…
لقد عاد للمنزل بعد صلاة العشاء كالعادة لكنه لم يجدها…
حاول الاتصال بها مراراً لكن هاتفها كان دوماً مغلقاً!!!
لهذا لم يجد بداً من الاتصال بأنس ليسأله عنها آخر الأمر لكن هاتفه كان مغلقاً كذلك…
وهو الآن لا يدري كيف يتصرف…
ولا أين يمكنه البحث عنها !!!!
خبط على المائدة بعنف وهو يدور في أرجاء الشقة بعجز …
يبدو أنها لم تعد منذ غادرتها هذا الصباح…فأين عساها تكون؟!!!
ارتجف جسده بانفعال وهو يتوجه نحو باب الشقة وقد قرر الذهاب لمنزل عمها لعله يسأل أنس عنها…
لكنه فوجئ بها أمامه تفتح الباب وهي تنظر إليه بترقب هاتفةً بلهفة:
_عبد الله!!! هل عدت؟!!!
زأرت عيناه بغضب شيطانيّ وهو يجذبها من ذراعيها بقوة لصدره هاتفاً بحدة:
_أين كنتِ؟!!!
تأوهت بضعف وأصابعه تنغرس في لحم ذراعيها بقوة غضبه قبل أن تقول بخوف لا يخلو من ضيق:
_ما الأمر يا عبد الله؟!!! أنا أخبرتك بالأمس أن حفل المدرسة اليوم…علامَ كل هذا الغضب؟!!!
هز جسدها بقوة بين ذراعيه وهو يهتف بجنون ثائر:
_علامَ كل هذا الغضب؟!!! أعود للبيت ولا أجدك…وهاتفكِ مغلق …ولا أعرف مكانك…وتريدينني ألا أغضب؟!!!
حررت نفسها من ذراعيه بقوة وهي تهتف بانفعال:
_أحد أطفالي طلب هاتفي ليلعب به ثم وقع منه وانكسر…وانشغلتُ في إعدادت الحفل ولم أتمكن من مهاتفتك…لم أنتظر أن تغضب هكذا!!!
لوح بذراعه وهو يهتف بنفس الثورة:
_صحيح…لماذا أغضب؟!!! المفترض أن أعتاد على انشغالك هذا…على أن تذهبي لأي مكان دون علمي وتعودي في أي وقت!!!!
وضعت كفيها على صدغيها وهي تشعر بصداع عنيف…
لقد كان اليوم حقاً شديد الإرهاق علىها…
وأحدٌ من “أطفالها” سقط من على الدرج واضطرت للذهاب معه إلى المشفى قبل أن تغادره مضطرة بعد أن اطمأنت عليه لتلحق بالحفل الذي تعبت كثيراً كي يبدو في أفضل صورة…
ووسط كل هذا غافلها النسيان فلم تتمكن من الاتصال به لتخبره…
وظنت أنه يذكر حديثها بالأمس عن حفل اليوم…
لم تتوقع منه هذه الثورة العارمة!!!
لهذا زفرت بقوة وهي تقول بانفعال:
_أجّل الشجار للغد يا عبد الله…أنا مرهقة جداً!!!
اشتعلت عيناه أكثر ثم تناول مزهرية كانت أمامه ليلقيها على الأرض فانكسرت بدويٍ هائل زاد من ألم صداعها أكثر…
فوجدت نفسها تهتف بحدة رغماً عنها:
_اهدأ قليلاً…لماذا تعاملني هكذا وكأنني كنت في مرقص؟!!! مادمتَ قلقاً هكذا لماذا لم تتصل ب”أنس” لتسأله عني؟!!!
ورغم أنه فعل هذا حقاً لكن شيطانه جعله يضم أنامله بقوة ليرفع قبضته في وجهها صارخاً:
_لأنه ليس من المفترض أن أسأل رجلاً آخر عن مكان زوجتي…زوجتي التي نسيت نفسها ونسيتني!!!
هزت رأسها بيأس من هذا الحوار العقيم…
ثم تركته لتتوجه نحو غرفتهما حيث استلقت بكامل ملابسها عاجزةً حتى عن تبديلها…
فقط خلعت حجابها لتلقيه بإهمال على أحد الكراسي…
قبل أن تتناول مسكناً قوياً لعلّه يخفف من صداع رأسها هذا!!!
لكنه دخل عليها بعد دقائق طويلة بملامح متجهمة وقد تراجعت ثورته قليلاً ليحل محلها عتابه الصامت…
وهو يقف أمامها قائلاً بجفاء:
_غداً تذهبين معي لنشتري لكِ هاتفاً جديداً…ولن تتحركي خطوة بعد الآن إلا بعلمي….هل تفهمين؟!!!
كادت ترجوه أن يتركها وحدها فهي كانت في غاية الإرهاق والألم…
لكنها اكتفت بقولها المقتضب:
_لا تتعب نفسك…أنا تلقيتُ اليوم راتبي…سأشتريه أنا غداً!
وكأنها بقولها -العفوي-قد أشعلت فتيل ثورته من جديد …
لتجده يعاود الصراخ فيها بجنون :
_أنتِ لا تعملين من أجل المال…زوجة الشيخ عبد الله لن تنفق شيئاً من مال رجل آخر!!
استفز صراخه ألمها أكثر لتنتفض من نومتها هاتفة بكلماتٍ لم تحسب حسابها حقاً:
_صفا المعموري لا تحتاج لمالك ولا لمال أي أحد آخر….هل نسيتَ من أنا؟!!!
لم تكد تتفوه بعبارتها حتى شعرت بفداحة ما قالته…
لقد ضغطت دون قصدٍ على جرحه القديم معها …
وعبد الله لن يتسامح أبداً في هذا الأمر!!!!
لهذا كانت دهشتها بالغة عندما اكتفي بإغماض عينيه للحظات ذاب فيها قلبها ندماً ….
قبل أن يفتحهما مخفياً جرح رجولته وهو يقول قبل أن يغادر الغرفة …
بل والشقة كلها:
_لا لم أنسَ…ولن أنسى!!!
===============
استيقظ من نومه على صوت حركتها المضطربة بالخارج…
فقام من فراشه ليتوجه نحو المطبخ حيث مصدر الصوت ليجدها واقفةً تعد الإفطار بحركاتٍ بطيئة من ألمها الذي فضحته أنّاتها …
عقد حاجبيه بضيق وهو يسألها بخشونته المعهودة:
_ماذا تفعلين؟!!
انتفضت مكانها وهي تلتفت نحوه لتهمس بارتباك:
_أعد الإفطار.
اقترب منها لينتزع الطبق الذي تمسكه بيدها فيضعه جانباً قبل أن يهتف بحنق:
_ألم يوصيكِ الطبيب بالراحة لأسبوعين كاملين؟!!!
ازدردت ريقها بتوتر وهي تتطلع لعينيه بترقب هامسة بصوت مرتجف:
_أرجوك لا تغضب …أنا لم أقصد مخالفة أمرك….أنا فقط فكرت …من سيعدّ الإفطار لو لم أفعل أنا؟!!
أشاح بوجهه عن وجهها الذي اكتست ملامحه بالخوف كالعادة…
ثم قال بلهجة أكثر رفقاً :
_أنا لن أذهب للورشة هذين الأسبوعين…سأبقي معكِ لأعتني بكِ.
اتسعت عيناها بدهشة للحظة وهي تنظر إليه مصدومة…
قبل أن تهمس بارتباك :
_لا…لا داعي لتتعب نفسك…أنا..
قاطع همسها المرتبك بحديثه الصارم:
_لا بديل لهذا…لو كانت الأمور في بيت أمي على ما يرام لتركتكِ في رعايتها…لكنني أعرف أن هيام ستستغل شخصكِ الضعيف هذا.
دمعت عيناها وهي تشعر بهوان نفسها لتهمس بعدها بخفوت شديد:
_يمكنني العودة إلى بيت عبد الله.
هز رأسه نفياً وهو يقول بنفس النبرة الحازمة:
_صفا الآن تخرج للعمل…وحتى لو لم تكن كذلك…زوجة راغب درويش لا تخرج من بيته إلى بيت أخيها إلا زائرة!!
أومأت برأسها في طاعة ثم أطرقت برأسها هامسة باستسلام :
_ماذا تريدني أن أفعل؟!!
عاد قلبه يفيض بالشفقة على مظهرها البائس هذا…
فمد كفه ليربت على كتفها…
لكنه ما كاد يلمسها حتى انتفضت بفزع وهي تعود بظهرها للخلف فاصطدمت بطاولة المطبخ لتتأوه بعدها بقوة…
هز رأسه بأسف للحظة ثم اقترب منها ليمسك كتفيها قائلاً أمام عينيها الخائفتين:
_لا داعي لكل هذا الخوف الذي تعيشين فيه…أنا لن أؤذيكِ بعد.
ارتجف جسدها تحت كفيه وهي عاجزةٌ عن الكلام…
ليت الأمر بهذه البساطة…
يريدها ألا تخاف منه وهي التي عاشت أيامها السابقة كلها تخشى مجرد المرور جواره…
إنها -وبرغم شهامته ومروءته مؤخراً معها- لكنها لم تنسَ ما فعله بها منذ تزوجا…
فظاظته الواضحة وخشونة ألفاظه وإهاناته المتكررة…
كل هذا يمتزج مع ذكريات ليلتها الأولى معه والتي أوسعها فيها ضرباً…
وبعد كل هذا يريدها ألا تخاف!!!!
ومع هذا فقد أومأت برأسها في طاعة وهي تتحاشى النظر لعينيه…
وربما لو كانت فعلت لاصطدمت بفيوض عاطفته التي أطلت منهما واضحة وهو يراها بين ذراعيه هكذا!!!!
لكنه تمالك نفسه ليزدرد ريقه الجاف الآن قبل أن يقول لها برفقه -الخشن-:
_استريحي في فراشكِ حتى أعد الإفطار.
ثم التفت نحو الطاولة مردفاً بأسف:
_أنتِ أعددتِ كل شئ بالفعل…لا تفعليها ثانيةً…والتزمي بالراحة !!
عادت تومئ برأسها وهي تنتظر أن يفك حصار كفيه حول كتفيها…
وما إن فعل حتى عادت بخطواتٍ متثاقلة نحو غرفتها حيث استلقت على ظهرها على الفراش كما أمرها…
وبعدها بدقائق عاد ليضع صينية الإفطار أمامها على السرير قبل أن يجلس على طرف الفراش قائلاً:
_هيا…تناولي طعامكِ حتى تتناولي الدواء.
اختلست نظرة خاطفة لوجهه وهي تشعر أن ملامحه الخشنة قد اكتسبت بعض الوسامة…
أم أن هذا تأثير مواقفه الأخيرة معها…؟!!!!
ورغماً عنها وجدت نفسها بلا وعي تقارنه بفهد…!
فهد الصاوي أسطورة حياتها الخيالية…!!
بملامحه الوسيمة ومظهره الأنيق وكلماته المنمقة التي كان يداعب بها أنوثتها بمهارة.
كم يختلف عن راغب ببشرته السمراء التي لوحتها أشعة الشمس ومظهره البسيط وكلماته الخشنة التي تميل معها هي بالذات للقسوة والجفاء!!!!
لكن جزءاً من عقلها نهرها وهو ينبهها أن تنظر للأمر من جانب آخر…
كيف تقارن بين من فضحها ومن تستر علىها؟!!!
بين من أخذ منها أغلى ما تملك دون أن يمنحها اسمه…
وبين من منحها اسمه دون أن يطالبها بشئ؟!!!
بين من تركها وحدها تواجه مصيرها بنذالة…
ومن أبى أن يتركها وحدها في ظروفها الحالية وترك عمله وأهله كرامةً لها !!!!
لم تكد هذه الأفكار تملأ رأسها حتى شعرت بنفسها يراودها إحساسٌ جديد نحو هذا الرجل أمامها…
إحساسٌ بعيد تماماً عن الخوف أو الامتنان…
إنه إحساسٌ بالتقدير والاحترام لرجلٍ يستحق هذا اللقب…
لقب “رجل”!!!!
رفع عينيه إليها فجأة ليلاحظ نظراتها المختلسة إليه فاشتعلت عيناه بنيران عاطفته للحظة …
قبل أن يطفئها بقوته المعهودة ليكمل إفطاره متجاهلاً النظر إليها من جديد…
وما إن انتهيا من الإفطار -الصامت- حتى أعاد الصينية مكانها للمطبخ ثم بدل ملابسه ليذهب إلىها قائلاً باقتضاب:
_سأخرج لإحضار نتيجة التحاليل وبعدها سأذهب للطبيب لأرى رأيه.
قالها وهو يتوجه لباب الشقة دون أن ينتظر ردها…
لكنها استوقفته بندائها الملهوف:
_انتظر!!
قامت من الفراش بصعوبة لتتوجه نحوه هاتفةً بتوسل:
_لا تتركني هنا وحدي…أرجوك…خذني معك.
انعقد حاجباه بغضب وهو يهتف بانفعال:
_ما لعب الأطفال هذا؟!!! هل أنا ذاهبٌ في نزهة؟!!!
ارتجفت أناملها التي رفعتها على صدرها لتهمس بارتباك وسط دموعها التي سقطت رغماً عنها:
_اسمعني فقط…أنا …لا أعرف هل ستفهم…أنا…
ازدادت ارتجافة جسدها أمام ملامحه الغاضبة…وقد شعرت بسخافة ما تريد قوله …
لكن ما حيلتها؟!!
إنها الحقيقة للأسف…
إنها تعاني خوفاً مرضياً من الوحدة -يزداد في الأماكن الغريبة-لم تتخلص منه منذ سنوات!!!!
أما هو فقد زفر بقوة وهو يشعر أن كل هذا يفوق احتماله…
لقد أوشك صبره على النفاذ…
لو كان قد نجح -بصعوبة- في التغلب على إحساسه بها ك”امرأة فاتنة”..
فكيف يقاوم شعوره الآن نحوها ك”طفلة مذعورة”..؟!!!!
هذه المرأة ستدفعه للجنون حتماً بفوضى المشاعر التي تثيرها صاخبة في أعماقه…!!!!
اقترب منها أخيراً ببطء ليكظم غيظه بعسر مشبكاً كفيه خلف ظهره هاتفاً بأقصى ما استطاعه من هدوء:
_أنا أسمعكِ …ما الذي تريدين قوله؟!!
عضت على شفتها بتوتر ثم غمغمت بارتباك:
_منذ وفاة والديّ وأنا أصبتُ بما سماه الأطباء “رهاب الوحدة” .. أخاف البقاء وحدي دوماً في أي مكان…حتى في تلك الفترة التي طلق فيها عبد الله صفا كنت أذهب للبقاء معها حتى يعود عبد الله من عمله…صدقني …الأمر خارجٌ عن إرادتي…قلبي يكاد يتوقف ذعراً عندما أجد نفسي وحدي في أي مكان.
عقد حاجبيه بإدراك وهو يتذكر حالة الذعر الغريبة التي انتابتها بالأمس عندما تركها وخرج…
فصمت قليلاً ثم تنهد بحرارة عندما أردفت هي برجاء:
_خذني معك …لن يكون الأمر مرهقاً كما تظن.
نظر لعينيها لحظة بإشفاق شديد وهو يشعر أن إحساسه بها لم يخطئ…
هي مجرد طفلة يتيمة افتقدت حنان والديها ومع شدة طباع أخيها كما يعرفها فقد ضلت طريقها لهثاً خلف أول من طرق باب مشاعرها المحرومة…
لكن الطارق -للأسف- لم يكتفِ بالطرق بل خل
_استيقظي يا رؤى…موعد الدواء!!
قامت من نومها على هتافه الخشن في ظاهره والذي صارت تعرف أنه يخفي خلفه حناناً بلا حدود…
حناناً تذوقته بنفسها طوال الأيام السابقة وتكاد تقسم أنها لم تذق يوماً مثله بعد وفاة والديها…
حتى في علاقتها القصيرة مع فهد …
والتي تميزت بوهج ثائر من المشاعر الصاخبة لكنها لم تحمل ولو مثقال ذرة من هذا الحنان الذي يفيض من هذا الرجل -الغريب-كشلالٍ دافق بلا منبع ولا مصبّ!!!!
إنه يعتني بها وكأنها ابنته المدللة …
بل إنه ترك عمله وكل شئٍ خلفه فقط ليبقى معها عندما علم عن عقدتها -المرضية-بالخوف من البقاء وحدها…
ورغم أنها كانت تحمل هم رفقته التي كانت تراها منفرة لها…
لكنها الآن تشعر أنها أدمنت وجوده هذا…
صحيحٌ أنه لا يزال شديد التحفظ في كلماته بل ونظراته نحوها…
لكن أفعاله تفضح اهتمامه وشعوره…
شعورٌ فسرته هي بأنه مروءة وشهامة…
أو ربما…شفقة…!
وأحياناً ينتابها إحساسٌ أنه يشعر بالذنب نحوها بعد ظروفها الأخيرة…
لكن إدراكها لم يصل بها لأبعد من هذا…
خاصةً بعد حديثه معها عن أنه لن يكون يوماً لها زوجاً!!!
قطع أفكارها عندما وضع صينية الطعام أمامها كالعادة وهو يقول ببعض الرفق -المستحدث-على أسلوبه :
_هذه هي الأطعمة التي أوصى بها الطبيب.
ابتسمت وهي تتطلع لصنوف الطعام أمامها قبل أن يتوقف بصرها على طبق من “البلح الأسود” منزوع القشر والنواة …وقد وضع جواره شوكة ليسهل عليها تناوله…!!!!
فامتلأت عيناها بحنينً ممتزج بامتنانها وهي تقول برقتها -المهلكة-كما يراها:
_سبحان الله…أبي -رحمه الله- كان يقشر لي “البلح” هكذا في صغري لأنني كنتُ أرفض تناوله …وكان يحشوه لي بال”شيكولاتة” حتى يغريني بالمزيد.
ثم تنهدت بحرارة وهي تردف :
_عبد الله ظل يفعلها لسنوات بعد وفاته لكنه نسي هذه العادة مع الوقت …كما نسيتها أنا !!
ارتسم شبح ابتسامة على شفتيه وتوهجت عيناه بعاطفته وهو يغمغم بصوتٍ حاول بصعوبة أن يكون جافاً:
_حسناً…في العشاء أحشوه لكِ ب”الشيكولاتة” كما تحبين.
ابتسمت وهي تغمغم بحرج متحاشية النظر إلىه:
_لا لا…لا تتعب نفسك…لم أقصد أن…
قاطعها وهو يغرس الشوكة في طبق البلح ثم يضعها في فمها قائلاً بحزم:
_كُلي…وكفاكِ ثرثرة!!
التمعت عيناها بضحكة بريئة يراها لأول مرة منذ تزوجها …
ضحكة لم تصل لشفتيها لكنها تألقت بنظراتها كشهابٍ ساحر…
لكن الشهاب اختفى سريعاً كما ظهر لتعود لعينيها نظرتهما الكسيرة وهي تمضغ الطعام ببطء قبل أن تطرق برأسها في صمت…
خفق قلبه بجنون وهو يكاد يتوسلها أن تضحك…
حتى لو لم تكن ضحكة الشفاة التي يعرفها…
تكفيه ضحكة عينيها الساحرة هذه والتي بدت وكأنها سرقت من الشمس نورها ومن القمر بهاءه…
هو الذي لم يهتز جسده شعرة لجمال أي امرأة رآها غيرها …
لكن خلاياه كلها تتمرد بالثورة على تماسكه مع كل تفصيلة من تفاصيل ملامحها مهما كانت بسيطة…
ولا يعرف لماذا هي بالذات شاء القدر أن تكون سيدة قلبه …
وهي الموصومة بعارها التي لا يرتضيها كبرياؤه الرجوليّ أكثر من مجرد جارية!!!
تنهد بحرارة عندما وصلت أفكاره إلى هذه النقطة…
فرفعت عينيها إليه بقلق هامسة بوداعتها المعهودة:
_ما الأمر؟!!
هز رأسه وهو يشيح بوجهه قائلاً بخشونته :
_لا شئ.
ظلت تنظر إليه بقلق وهي تشعر أن شيئاً ما يؤرقه…
فعادت تهمس بتردد:
_هل يضايقك بقاؤنا هنا؟!! يمكننا العودة لمنزل والدتك متي تحب.
نظر إليها للحظات صامتاً…
ثم قال بحزم:
_لن نعود إلى هناك حتى تأتيكِ هيام بنفسها إلى هنا وتعتذرمنكِ…وساعتها يحق لكِ قبول اعتذارها أو رفضه كما تريدين.
اتسعت عيناها بدهشة للحظة…
فأردف بنفس النبرة الحازمة:
_كرامة زوجتي مثل كرامتي تماماً…لا أسمح أن يمسها أحد!!
رمشت بعينيها للحظات وهي تشعر بالغرابة…
هل هذا الرجل حقيقي؟!!!
يتحدث عن كرامتها التي لا يسمح بالمساس بها رغم فعلتها -الشائنة-والتي تقف إلى الآن بينهما؟!!!
كيف يمكنه أن يكون هكذا؟!!!
مزيجٌ غريب من القوة والمهابة والحزم مع الحنان والتفهم والاحتواء…
ياللخسارة!!!
لو كانت تملك بعضاً من الأحلام الوردية لجعلت له نصيباً منها….
لو كان قد تبقى لها بعضٌ من فُرُش الحب لبسطتها تحت قدميه…
لكنها للأسف صارت الآن فقيرةً من الحب وأحلامه…
مُعدَمةً لا تملك شروى نقير في هذا العالم الذي وطأته قدماها مرة ثم عوقبت بالنفي منه بعد خطيئتها…
فماذا يمكنها أن تمنح له وهي البائسة الفقيرة المعدمة وهو القوي الغنيّ المعطاء؟!!!
هي خالية اليدين معه…
وستبقى كذلك!!!!
لهذا عادت تهمس بصوتٍ غارق في خزيه ومرارته:
_أنا أعرف أنك تحب والدتك جداً…لا أريد أن تخسرها لأجل واحدة مثلي!!
انعقد حاجباه بغضب وقد غلبه طبعه الانفعاليّ من جديد ليهتف مكرراً عبارتها:
_ماذا تقولين؟!!! أخسر والدتي لأجل واحدة مثلك؟!!!!
عاد الخوف لنظراتها التي كانت عالقةً به في ترقبٍ وجِل وقد عجزت تماماً عن فهم ما أغضبه هكذا…!!!!
فزفر بقوة ثم استغفر الله بصوت مسموع…
قبل أن يمسح وجهه بكفيه ليقول بعدها وهو ينظر لعينيها بقوة عاصفة:
_لا شئ في هذه الدنيا يجعلني أخسر والدتي…هي أغلى ما في حياتي…أنا أهاتفها كل يوم للاطمئنان علىها…وخروجي من المنزل لا علاقة له ببرّي لها…لكنني لا أتهاون فيما يخص كرامتي…هذا هو عيبي الذي لم أستطع التغلب علىه للأسف…كرامتي أولاً قبل أي شئٍ آخر.
أومأت برأسها في تفهم وهي تشعر بالمزيد من الاحترام له…
قبل أن يقترب منها أكثر لتلين نظراته وهو يربت على كتفها برفق هامساً بحزم:
_ولا تقللي من شأن نفسكِ بعد الآن…ربما أنا لن أسامح لكن الله غفورٌ رحيم…لا تجعلى من الماضي عائقاً حتى لا تضيعي مستقبلكِ.
دمعت عيناها في تأثر قبل أن تمنحه واحدة من ابتساماتها -المهلكة- وهي تومئ برأسها كطفلة مطيعة…
فازدرد ريقه بتوتر وهو يشيح بوجهه عنها مردفاً :
_أنا “ابن سوق” علمتني الحياة أن أزن الناس بموازينهم…هيام يجب أن تعترف بقوتك حتى تحترمك…لو بقيتِ ضعيفةً هكذا فلن تسلمي من بطشها…يمكنني اختيار الطريق السهل ببقائنا بمفردنا هنا…لكنني أريدكِ أن تتعلمي كيف تكونين قوية…كيف تنتزعين حقك من أنياب السبع كما يقولون!!!
اتسعت ابتسامتها لتشبيهه عندما التفت إليها ليردف بنبرة أرق:
_تعلّمي متى تكونين رقيقة كورقة الشجر ومتي تشتدين كجذعها…حتى تثبتي جذوركِ في أي مكان.
ثم ارتعش صوته رغماً عنه وهو يكمل حديثه:
_لعل هذا يكون الدرس الذي أنجح في تعليهه لكِ قبل أن أخرج من حياتك.
اكتسي صوته بمرارة خاصة في عبارته الأخيرة…
لكنها كانت غافلةً عن هذا وهي تسأله بترقب :
_هل من الممكن أن أسألك عن شئٍ دون أن تغضب؟!!
عاد يربت على كتفها برفق وهو يومئ برأسه مغمغماً :
_قولي ولا تخافي بعد!
ترددت للحظة ثم حسمت أمرها لتسأله:
_هل ستسمح لي بالذهاب إلى الجامعة لاستكمال تعليمي؟!!
ظهرت المفاجأة على وجهه للحظة بدت بعدها علامات الرفض على ملامحه…
فغمغمت برجاء:
_أتمم معروفك معي وساعدني أن أكمل طريقي كما وعدتني.
أطرق برأسه دون رد…
فأكملت بنفس النبرة التي مزجت براءتها برجائها:
_سأقسم لك على المصحف أنني سأحفظ اسمك الذي أحمله…لن أتحرك خطوة واحدة دون أن أخبرك…لو تريدني حتى ألا أتحدث إلى صديقاتي فلن أفعل…صدقني أنا لستُ سيئة كما تظن…أنا فقط كنت…
قطعت عبارتها بدموعها التي غلبتها وهي تشعر بعارها يزيد من ذلها أمامه …
لتهمس بين دموعها بندم صادق:
_لا يهمّ ماذا كنت…لن أزعم أنني كنتُ ضحية وغد بلا ضمير لأنك لن تصدقني…لكنني حقاً أريد أن أبدأ من جديد …أن أتحرر من كل قيود خوفي وندمي …أن أستغل الفرصة التي منحها الله لي.
رفع رأسه إليها أخيراً…
ليميل عليها بجذعه ضاماً رأسها إلى كتفه للحظات…
حتى هدأت حدة بكائها نوعاً فربت على رأسها برفق…
قبل أن يهمس جوار أذنها بشرود مشبعٍ بالمرارة:
_هل تعلمين كيف كانت أول مرة رأيتكِ فيها؟!!كنتُ واقفاً أمام الورشة مساءً بينما كنتِ أنتِ عائدة من أحد دروسك الخصوصية تضمين كتبك إلى صدرك وتخفضين بصركِ في سيْرِكِ…غافلةً عن أحد الشباب الذي كان يتتبعكِ بعينين لا تحملان خيراً…ورغم أنني وقتها لم أكن أعرف عنكِ سوى أنكِ جارتي في نفس المنطقة…لكنني شعرتُ بالقلق عليكِ .سرتُ خلفكما بمسافة مناسبة حتى أتدخل لو حاول مضايقتك…لكنني رأيته يقترب منكِ أكثر عندما خلا الطريق من المارة ليقول كلاماً لم أسمعه…لأفاجأ بكِ تلتفتين خلفكِ لتضربيه بكتبكِ على رأسه ..
رفعت رأسها إليه وهي تتذكر هذه الواقعة التي يحكي عنها …
بينما أردف هو بنفس الشرود :
_اقتربتُ أنا منكما وقتها بخطواتٍ سريعة فخاف الشاب وجرى…لكنكِ رفعتِ كتبكِ في وجهي أنا الآخر وكأنكِ تهددينني بها …رفعت لكِ وقتها كفّي بإشارة مطمئنة فنظرتِ إلىّ نظرة رادعة متوعدة قبل أن تنسحبي بخطواتٍ مندفعة نحو منزلك.
ابتسمت ابتسامة شاحبة وهي تهمس بإدراك:
_لهذا بدا وجهك مألوفاً لي عندما رأيتك أول مرة في منزل عبد الله.
أومأ برأسه إيجاباً ثم أكمل حديثه:
_ليلتها تتبعتكِ حتى عرفت هويتك…رؤى الفاتنة المهذبة شقيقة الشيخ عبد الله والتي يتحدث الجميع عن جمالها وحسن خلقها.
أغمضت عينيها بألم ممتزج بحسرتها وهي تود الآن لو تنشق الأرض وتبتلعها…
حقاً …كانت كذلك…
كانت مضرب الأمثال في الجمال والخلق…
قبل أن تُضيع هي كل هذا بخطإٍ ساذج…
لا…ليس مجرد خطأ…بل خطيئة!!!!
خطيئة سلبتها فرحتها بتقدير رجلٍ كهذا الذي أمامها…
والذي تتمنى الآن لو كانت الأمور قد سارت معه بصورة طبيعية…
لو كانت له …قبل أن تكون لغيره…!
لكن للأسف…
لقد تلطخت لوحتها بسواد ماضيها الذي طمس كل ملامحها الجميلة ولم يترك لها سوي الحسرة والندم على ما كان…
عضت على شفتها بألم وهي تنظر إليه لتتمتم بحرارة وسط شهقاتها الباكية:
_أنا آسفة…آسفة.
ظلت ترددها للحظات وعيناها تصطدمان بأحجار عينيه الصلبة بقوتها …
والتي تفتتت رويداً رويداً مع كل قطرة من دموعها الصادقة …
لتنساب شلالات حنانه الجارفة مكانها أخيراً…
وهو يعيد ضم رأسها إلى كتفه هامساً بحزمه الرفيق:
_أنا لا أقول هذا لإهانتكِ أو تقريعك…أنا فقط أذكّر نفسي قبل أن أذكّرك بمن تكونين…لعلّي أتمكن من موافقتكِ على ما ترغبين به.
استسلمت لدفء شعورها -الجديد-به للحظات…
قبل أن ترفع عينيها إليه بنظراتٍ مزجت حيرتها بامتنانها…
فابتسم ابتسامة باهتة وهو يربت على رأسها مردفاً:
_أنا أحب التفكير بصوتٍ عالٍ…كل من يعرفني يعرف هذا عني…هذا فقط كل شئ!!
أغمضت عينيها بقوة وهي تهمس بسخرية مريرة:
_أما أنا فلم أعتد التفكير أصلاً…طالما كنتُ “المفعول به” في جُمَل حياتي كلها !!!
عقد حاجبيه بشكّ وقد راوده هاجسٌ جعله يسألها:
_هل أرغمكِ عبد الله على الزواج مني؟!!
ظلت مغمضةً عينيها للحظات…
قبل أن تفتحهما لينهمر منهما سيلٌ من براءتها المذبوحة وهي تتمتم باستسلام:
_وهل يشكل هذا فارقاً؟!!!
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يشعر بالضيق يتملكه أكثر…
عندما أردفت هي بنفس الاستسلام المختنق:
_هو اختارك زوجاً مثالياً لشقيقته …ولم يعلم أنها هي التي ليست كذلك!!
أشاح بوجهه للحظات يحاول تمالك شعوره الجارف بها…
ثم عاد يلتفت نحوها ليدفعها برفق حتى أسند ظهرها على وسادتها قبل أن يناولها بعض المناديل الورقية من على الكومود جوارها ليقول لها بعدها متجاوزاً حديثهما السابق….
وهو يراقب ملامحها الحبيبة الشاحبة بحنان:
_سنؤجل التفكير في موضوع الجامعة هذا حتى تستردين عافيتك كاملة…عبد الله هاتفني اليوم ليطمئن عليكِ …لم أخبره بشأن مرضكِ كي لا يقلق…وأمي أيضاً تبعث إليكِ بسلامها ودعواتها بالشفاء لكنني لا أريد أن يزورنا أحدٌ هنا حتى أشعر أنكِ قد تحسنتِ.
ابتسمت بضعف وهي تهز رأسها موافقة…
فابتسم بدوره ابتسامةً مشجعة وهو يتناول طبق “البلح الأسود” من جواره ليغرس الشوكة فيه من جديد وهو يقول بحزمه الحاني:
_والآن أكملي طعامكِ كله.
==================
_أمي!!
صرخت بها ماسة في فرحة وهي تندفع بين ذراعي رحمة التي غلبتها دموعها هي الأخري وقد عجزت عن الكلام…
فابتسم عاصي وهو يتقدم منهما قائلاً بحفاوة :
_مرحباً بكِ يا سيدتي.
ثم ربت على كتف ماسة مردفاً بلهجته الواثقة:
_بيت ماسة هو بيتك!!
التفتت نحوه ماسة بحدة وهي عاجزةٌ عن التصديق…
عاصي الرفاعي أحضر لها رحمة إلى هنا؟!!!!
أم تراه عزيز هو من أخبرها؟!!!
وقد جاءتها الإجابة مباشرةً من رحمة التي قالت لعاصي بامتنان وسط دموعها:
_أشكرك يا ابني…لم أصدق أذنيّ عندما هاتفتني لتخبرني عن الأمر حتى وصلني رسولك ليلة أمس بتذاكر الطائرة .
أطرقت ماسة برأسها وقتها مكتفيةً بحضن رحمة الدافئ الذي اشتاقته …
بينما رد عاصي باقتضاب:
_سأترككما الآن وحدكما…لاريب أن لديكما الكثير لتتحدثا عنه!!
قالها قبل أن يغادرهما بخطوات واثقة تخفي ابتسامة ارتياحٍ كبيرة لم تحملها ملامحه منذ زمن بعيد…
ولم يكد يخرج من باب الغرفة حتى جلست رحمة على الأريكة متشبثةً بماسة بين ذراعيها وهي تتأمل وجهها بتفحص لتهتف بصوت مرتعش:
_لا أصدق أنني رأيتك من جديد…كيف هنتُ عليكِ لتتركيني هكذا أكاد أموت قلقاً عليكِ؟!!
قبلت ماسة يدها بعمق قبل أن تدور بعينيها على ملامحها الحبيبة تتفحصها بلهفة هاتفةً بدورها:
_أنتِ بخير؟!!! صحتكِ جيدة؟!!!!
ثم تهدج صوتها وهي تردف بانفعال:
_سامحيني يا أمي…لم أفعلها إلا لأجلك…لأجل أن…
قطعت عبارتها وهي تجهش بالبكاء عاجزةً عن السيطرة على شعورها الحار في هذه اللحظة…
فضمتها رحمة أكثر وهي تربت على ظهرها هامسةً بحنان:
_كفاكِ بكاءً يا ابنتي!!! اهدئي الآن وأخبريني بالضبط ماذا حدث معك؟!!وكيف تزوجتِ هذا الرجل الطيب؟!!
مسحت ماسة دموعها بأنامل مرتجفة من فرط تأثرها ثم ابتسمت مكررة خلفها بسخرية مريرة:
_طيب؟!!
عقدت رحمة حاجبيها وقد أنبأتها لهجة ماسة أنها تخفي الكثير…
فعادت تسألها ببطء متفحص:
_ما الأمر يا ماسة؟!! أريد معرفة كل التفاصيل!!
تنهدت ماسة بحرارة وهي تلتصق بها أكثر قبل أن تتمالك نفسها لتروي لها ما حدث معها منذ تركت بيتها وحتى الآن…
كانت رحمة تستمع إلىها بصبر وعقلها يختزن كل التفاصيل الصغيرة التي كانت ماسة ترويها بعفوية…
رغم انفعال قلبها الصارخ بألمه على ابنتها التي واجهت كل هذا وحدها!!!
حتى انتهت ماسة بقولها :
_أنا حقاً لا أفهمه يا أمي…لا أدري لماذا تزوجني أنا بالذات وهو يعرف كل ظروفي؟!!! ولماذا يعاملني بهذه الطريقة الحانية رغم تسلطه…في الوقت الذي يعامل فيه زوجته بأقسى طريقة؟!!! لماذا أحضر عزيز إلى هنا وكأنه يقصد كسري وإذلالي وفي نفس الوقت يهتم بعلاجي حتى أكثر مما أفعل أنا؟!!!
هزت رحمة رأسها وهي تفكر بشرود…
قبل أن تقول بحيرة:
_والأغرب أنه زعم لكِ أنه تزوجك من أجل الولد…ومع هذا تقولين أنه لم يمسكِ حتى الآن تقديراً لظروفك!!!
هزت ماسة رأسها وهي تغمغم بارتباك:
_عندما أكون بين ذراعيه فيحتضنني بحنان الأب الذي حُرمتُ منه طوال عمري أشعر بأمان الدنيا كلها…لكنني عندما أرى قسوته وتسلطه مع الآخرين بل ومعي أنا في بعض الأحيان أشعر أنني أكرهه كما لم أكره أحداً من قبل…خاصةً وقد أجبرني هذا ال”شيطان”كما يلقبونه هنا على هذه الزيجة لأسباب لا أعرفها !!
صمتت رحمة قليلاً تدير الأمر في رأسها قبل أن تقول أخيراً بحكمة سنوات عمرها الطويلة:
_لا أرى “شيطاناً” في كل ما ذكرتِه يا ابنتي…على العكس عاصي الرفاعي معكِ رجل حقيقي كما كنت أتمنى دوماً لكِ…امنحي نفسكِ وامنحيه الفرصة لاستمرار حياتكما معاً …ربما أنا متحفظةٌ كثيراً بشأن كونكِ زوجة ثانية…لكن قدّر الله وما شاء فعل….لو شئنا الإنصاف لقلنا أن ما فعله معكِ عاصي الرفاعي لم يكن ليقوى رجلٌ آخر على فعله!!!!
أومأت ماسة برأسها موافقة قبل أن يعود لها خوفها وهي تقول بتوجس:
_لكنه قتل رجلاً يا أمي…قتل ابن عم زوجته هكذا ببساطة دون خوف من عقاب أرض أو سماء!!!
انقبض قلب رحمة عند هذه النقطة وقد ظهر هذا على ملامحها التي تغضنت بقلق…
بينما أردفت ماسة بنفس التوجس:
_وزوجته المسكينة التي يحبسها في غرفتها فلا يكاد يزورها أحد والتي تعيش في ذعر من أن يقتلها هي الأخري بعدما تضع طفلها.
ربتت رحمة على ظهرها وهي تقول برفق:
_لا تصدقي كل ما تسمعينه يا ابنتي…أنتِ تستمعين فقط لطرف واحد والقصة لا تكتمل إلا بطرفيها!!
هزت ماسة رأسها نفياً وهي تهتف مدافعة:
_تقصدين أنها تكذب؟!! لا يا أمي…أنا رأيت بعيني كيف يقسو عليها…بل إنني رأيته يوماً يخرج من غرفتها حاملاً سوطاً بيده…لا يا أمي…حورية لا تكذب.
ابتسمت رحمة بإشفاق وهي تقبل وجنة ماسة بحنان قبل أن تقول بتعقل:
_لا أقول أنها تكذب…لكن ربما هي لا تري سوى جزء من الحقيقة…الحنان لا يتجزأ يا ابنتي…وهذا الرجل يمتلك منه الكثير…لكنه يخفيه خلف واجهته الصلبة التي ربما يحتاجها لفرض سطوته هنا!!
تشبثت ماسة بها أكثر وهي تخفي وجهها في طيات ثوبها لتهمس برجاء:
_لا تتركيني يا أمي…ابقي معي هنا أو خذيني معك!!!
دمعت عينا رحمة وهي تشعر بقلبها يتمزق برجائها…
لكنها تمالكت قوتها لتقول لها بحزم:
_لن أستطيع البقاء هنا بالطبع…بل إنني سأرحل بعد قليل وكفاني أنني اطمأننتُ عليكِ…لكنكِ أنتِ ستبقين هنا زوجةً معززة مكرمة لرجلٍ فعل لأجلكِ الكثير الذي يستحق الشكر علىه…رغم أن قلبي لا يسامحه على زواجك القسري به…لكن يشفع له عندي كل ما تلا ذلك من عطفه واهتمامه!!!
قالتها وهي تتمني حقاً لو تفعل كما تطلب ماسة…
لو تبقى هنا معها أو ترحل بها…
لكنها كانت تعلم أن كلي الأمرين الأمرين صعب!!!
ماسة تحتاج لأن تستعيد قوتها بنفسها أولاً ثم بمعونة هذا الرجل الذي تشعر أنه هدية القدر لابنتها بعد كل ما سمعته…
هو فقط تنقصه فرصةٌ تمنحها له ماسة لتراه بوجهه الحقيقي بعيداً عن خوفها وتوجسها…
عاصي الرفاعي-في ظنها-ليس شيطاناً كما تزعم ماسة….
ربما هو كهفٌ عتيقٌ مغلقٌ بأسراره…
لكن الرجل الذي يفعل مثلما فعل هو لابنتها ليس أبداً بشيطان!!!!
قاطعت ماسة أفكارها عندما تنهدت بحرارة وقد عجزت عن الرد….
فتفحصت رحمة ملامحها بحنان ممتزج بالأسف وقد راودها هاجسٌ جعلها تسألها:
_ألازلتِ ناقمةً علىّ لأجل عزيز؟؟! صدقيني يا ابنتي…أنا فعلتها لأجلكِ قبل أن يكون لأجله!!
ابتسمت ماسة بمرارة وهي ترفع رأسها إليها قائلة بيقين :
_لا تفتحي دفاتر الماضي يا أمي….الآن أدركِ كم كنتِ محقة…لم يكن لي….ولم أكن له!!
=======
ذهبت لتسأل عنه في غرفة مكتبه لكن أحد الخدم أرشدها لمكانه في ركنٍ بعيد يقع في خلفية القصر….
لقد فهمت من ثرثرة الخادم أن هذا هو أحد أماكن السيد عاصي المفضلة….
والذي يلجأ إليه عندما يشغله أحد الأمور الهامة….
سارت بخطواتٍ مترددة نحوه وهي تتأمل المكان حولها بفضول لا يخلو من رهبة….
المكان كان غريباً عن بقية الحديقة المحيطة بالقصر….
كانت مساحته صغيرةً نسبياً مقارنةً بباقي مساحة القصر الشاسعة وحديقته المحيطة به….
لكنها تبقي شديدة الاتساع بل إنها تعادل ثلاثة أضعاف مساحة شقة رحمة وربما أكثر…!!!
أرضه غير ممهدة مفروشة بالأحجار الصغيرة ….
ووسط كل هذا لا يوجد سوى قائم خشبي علقت عليه لوحة بيضاء بدوائر متداخلة سوداء لم تدرك جدواها لأول وهلة…
وقفت مكانها تتأهب لمواجهته بما جاءت لأجله قبل أن تنظر لظهره المواجه لها والذي انتصب فجأة موجهاً مسدسه نحو هدفٍ ما هناك قبل أن يطلق النار !!!
صرخت مجفلةً للمفاجأة فالتفت إليها بحدة قبل أن يتجاهلها تماماً وهو يعيد التصويب نحو هدف جديد…
كانت قد وصلت إليه عندما كادت أصابعه تضغط على الزناد من جديد فتشبثت بكفه هاتفةً بنبرة مهزوزة:
_هذا الصوت يوترني…اسمعني فقط لدقيقتين…وبعدها سأرحل.
لم يلتفت نحوها لبضع لحظات ظل فيها كفها متشبثاً بكفه وهي تراقب جانب وجهه بشعور غريب…
حتى فوجئت به يلتفت نحوها بحركة مباغتة ملصقاً فوهة مسدسه بصدرها…!!!
شهقت شهقة قصيرة وهي تتعلق بغابات زيتونه التي كانت الآن -للعجب- في قمة صفائها وهدوئها…
لتتوه فيهما للحظات …
قبل أن تسحب نظراتها منهما قسراً نحو المسدس على صدرها …
والعجيب أنها لم تشعر بمثقال ذرة من خوف!!!
صوتٌ ما بداخلها يخبرها أن عاصي الرفاعي مع كل قسوته وجبروته لن يؤذيها هي أبداً…
ربما هو يريد أن يكسرها…
أن يخمد لهيب تمردها وعصيانها…
أن يتملك روحها العنيدة التي تستعصي عليه…
أن يستحوذ على قلبها الذي كان يوماً لسواه…
وهو الذي اعتاد أن يتملك كل ما يريد مهما كان الثمن!!!
لكنه مع كل هذا لن يمسها بسوء…
هذا هو شعورها به الذي لن يكذبها أبداً!!!
وكأنه عقدٌ غير مرئيٍ بينهما تقرأه عيناه لها في كل لحظة….
أن يمنحها الأمان الذي تبتغيه دون شروط…
ودون حدود!!!!
لهذا دمعت عيناها في عجزِ من غاب عنه الفهم لكن لم يغبْ عنه الإحساس!!!
بينما سألها هو بنبرة جامدة:
_خائفة؟!!
أغمضت عينيها بقوة وهي تهز رأسها نفياً…
فابتسم ابتسامته الجانبية ولايزال مصوباً مسدسه لصدرها قائلاً بنفس النبرة:
_لماذا؟!
ظلت مغمضة عينيها للحظات وكأنها تخشى أن يقرأ فيهما ما تشعر هي حقاً به…
لكنها لم تشأ أن تبدو ضعيفة أمامه لهذا فتحت عينيها وقد انفرجت شفتاها لتهمّ بالرد عليه بأحد ردودها القوية الساخرة…
لكنه لامس شفتيها بكعب مسدسه قائلاً بثقةٍ :
_لا تتحدثي كي لا تكذبي!!ماسة لم تعد تخاف عاصي الرفاعي بل على العكس صارت تجد أمانها معه…لكن لسانها العنيد لن يعترف بهذا بسهولة.
عقدت حاجبيها بضيق حقيقي وهي تشعر بنظراته المتفحصة تكشف كل خبايا روحها بسهولة…
لكنه أعتقها من أسر نظراته أخيراً وهو يخفض يده الممسكة بالمسدس جواره قبل أن يسألها بترقب:
_لماذا جئتِ؟!!
أطرقت برأسها قليلاً قبل أن تهمس بتردد:
_لقد رحلت أمي منذ قليل…جئتُ أشكرك على إحضارك لها إلى هنا.
ابتسم ابتسامة حقيقية مصبوغة بحنانٍ خاص لم يعرفه إلا لها وهو يعاود سؤالها :
_زعمتِ قبلاً أنكِ لن تشكريني قبل أن تفهمي أسبابي.
رفعت إليه عينيها بأمواجها الفضية التي ترقرقت الآن كأروع ما تكون بأمواج هادئة من سكينتها وهي تهمس بامتنان لم تستطع نكرانه:
_هذا الأمر لا يحتاج لفهم…كفاني أنك جعلتني أراها من جديد…لن تتصور ماذا يساوي هذا عندي.
هز رأسه بتفهم وهو يستمتع بنظراتها الرائقة أخيراً بعد طول فورانها ليقول بحسم:
_بل أدرك تماماً أهمية هذا عندك…لهذا اتفقت معها أن أرسل إليها لتزوركِ هنا مرةً كل شهر…
عقدت حاجبيها بقلق قائلة:
_صحتها لن تحتمل السفر بالقطار لهذه المسافة الطويلة.
اتسعت ابتسامته -الخاصة بها- وهو يقول برفق:
_لا تقلقي….ستذهب وتعود بالطائرة…أنا سأتولى الأمر.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة امتنان رغماً عنها ثم سرحت ببصرها بعيداً وهي تهمس بشرود:
_أمي كانت سعيدة حقاً …ابنتها التي تعبت في تربيتها طوال هذه السنوات لم تنكسر كما كانت تظن…لقد عادت لتجدني هنا أعيش سيدةً في هذا القصر…مرفوعة الرأس محفوظة الكرامة….لقد اختفت نظرة الألم التي طالما كانت ترمقني بها بعد الحادث…لتحلّ محلها نظرتها القديمة التي طالما خصتني بها…نظرة تقدير وفخر لماسة لم تخيب ظنها فيها.
ثم اغرورقت عيناها بالدموع وهي تردف بنفس الشرود وكأنها تحدث نفسها:
_لا أدري من الذي اختار لي اسمي…لكن أمي كانت دوماً تقول أنه يليق بي وأليق به…لقد ربتني رغم فقرنا على أن أكون ملكة بحق …لا بمال ولا بنسب…بل بثراء روحي القوية الواثقة التي تعرف قيمتها مهما كانت الظروف.
تألقت شموسه الزيتونية بدفئها الذي غمرها بإعجاب حقيقي …
لكنها كانت غافلةً عنه بشرودها وهي تستأنف بَوْحها المنطلق باستفاضة:
_لا تتصور سعادتها بصورنا التي التقطت لنا ليلة الزفاف رغم بساطتها…لقد كانت تضمها لصدرها بكل فخر وكأنها ترى فيها نجاحها هي في تأدية أمانتها …الطفلة اللقيطة التي تلقفها ذراعاها وهي بعد قطعة لحم حمراء والتي ظلمها الناس قبل أن تظلمها الظروف لم تعد ضعيفة عاجزة بل صارت ….سيدة!!
تهدج صوتها في كلمتها الأخيرة فعضت على شفتها تكتم دموعها قبل أن تتمالك نفسها لتكمل:
_لقد أخذت إحدى الصور لتعلقها في صالة منزلها كما كانت تحلم طوال عمرها …صورة ماسة بثوب عرسها الأبيض جوار…
صمتت قليلاً وقد قطعت عبارتها بتأثر …
قبل أن تطرق برأسها مكملةً بصوتٍ أكثر خفوتاً:
_زوجها!
أفلت مسدسه من يده ليسقط جواره ثم اقترب منها ببطء ليحتضن وجهها براحتيه قبل أن يرفعه إليه هامساً بإعجابٍ واثق:
_عندما أسمعكِ تتحدثين هكذا…أدرك أنكِ حقاً …ماسة!
تجاهلت الرد على عبارته وهي تهرب بعينيها من عينيه اللتين تألقتا ببريق زيتونيٍ آسر لتهمس بامتنان لم يخفِ حسرتها البائسة:
_لم آتِ لأشكرك على سعادتي أنا بحضور أمي فحسب…بل على سعادتها هي أيضاً…سعادتها التي رأيتها بعيني اليوم والتي أفتديها بعمري كله.
داعب وجنتيها بأنامله المحتضنة لوجهها برفق غريب على طبعه القاسي دون رد…
فرفعت عينيها إليه بتردد لتهمس ببعض التوجس:
_ألا تمانع علاقتي بأمي واتصالي بها؟!!
ضاقت عيناه بتفحص متسائل…فازدردت ريقها ببطء لتهمس موضحة:
_لأنها….أمه هو أيضاً؟!
التمعت عيناه ببريق عابث وأنامله تضغطان أكثر على وجنتيها بتملكٍ أدركته بحدسها الأنثوي…
قبل أن يهمس ببطء واثق:
_أنا أثق بكِ كما أثق بنفسي!
ارتفع حاجباها بدهشة للحظة من هذه الثقة التي يتحدث بها عنها…
لتعود عيناها للتّيه من جديد في عينيه …
وهي تشعر بقلبها تكاد دقاته تفضح انفعالها الآن وتأثرها بهذا المزيج الفريد من المشاعر التي يثيرها فيها هذا الرجل…
لكنه بدا وكأنه يرى قلبها في مرآة خفية لا تبصرها سوى عينيه وحده…..
فقد قرب وجهها إليه أكثر حتى لم يعد يفصل بينهما سوى أنفاسهما…
وهو يسألها بنبرته التي تخلط الحنان بالقوة في مزيج متجانس:
_لماذا لم تعودي تخافين “الشيطان”؟!!
انعقد لسانها للحظات وعقلها يستحلفها ألا تجيب…
لكنها وجدت نفسها تقول بنفس الانطلاق الغريب في البوح الذي لم تعرفه بعد “رحمة” إلا معه هو فقط:
_إنه سرّي الصغير في عينيك…في البداية كانتا تبرقان بقسوة شيطانية مخيفة تثير نفوري…لكنني بعدها بدأت أميز خيوطاً زيتونية لامعة فيهما تدعوني للتعلق بها لعلى أفهمها…أحياناً تبدوان كغاباتٍ كثيفة من الزيتون أتوه فيها فلا أستطيع قراءتهما جيداً…وأحياناً تشتعلان بجنون فأدرك أنك غاضب…وأحياناً تبدوان وكأن أغصان هذه الغابات تتمايل مع رقة النسيم فيصلني شعورٌ بهدوء روحك…وأحياناً تغرق هذه الغابات في بحارٍ من مرارةٍ لا أفهمها لكنني أشعر بقوتها….وفي أحيانٍ أخري قليلة..تختفي هذه الغابات وتظهر مكانها شموسٌ زيتونية صغيرة تتألق بوهجٍ دافئ يغمرني بالسكينة عندما أحتاجها.
لمست كلماتها قلبه كما لم تفعله به أي كلماتٍ من قبل…
وهو يشعر أن همساتها تشبهها…صادقة…نقية…وآسرة…!!!!
فتوهجت عيناه ببريق خاطف وهما تدوران على ملامحها بتفحص ثائر بعاطفة استشعرها جسدها الذي ارتجف بقوة وهو يعاود سؤالها :
_والآن …كيف تبدوان؟!
انتبهت لنفسها فجأة ولخطورة ما صرحت به دون وعي…
وقد عاد إليها ارتباكها المذعور وسط فوضى مشاعرها -اللا مسمّاة – نحوه….
فرفعت أناملها ببطء تزيح كفيه عن وجنتيها وهي تستدعي بعض قوتها هاربةً من حصار نظراته لتتجاهل سؤاله قائلةً بتماسك هشّ:
_ماذا بشأن “المشغل” الذي حدثتك عنه؟!!
ظلت عيناه تطوقان ملامحها بقوة تشبهه للحظات…
قبل أن يبتعد عنها متفهماً ارتباكها المشوب بذعرها والذي يعرف أسبابه بعد الحادث الذي تعرضت له….
والذي يقسم لنفسه كل مرة تكون فيها بين ذراعيه أن يمحوه عنها للأبد…..
ثم التقط مسدسه من جديد وهو يعاود النظر للوحة التصويب قائلاً بصوتٍ عادت إليه برودته:
_لقد تدبرتُ لكِ مكاناً قريباً من القصر…يمكنكِ الذهاب غداً مع أحد الحراس لشراء ما يلزمك .
التمعت عيناها بدهشة وهي تهمس بترقب:
_هل ستتركني أخرج من القصر؟!
التفت إلىها بنظرة مسيطرة وهو يقول بحزم:
_أظنكِ الآن تدركين جيداً أنك ستكونين تحت عيني في أي مكان…في القصر …أو خارجه.
زفرت بضيق وقد عاد إليها شعورها بالنفور من هذا القصر الذي يبدو كسجنٍ كبير…
لكنها غمغمت بفتور:
_شكراً يا سيد عاصي.
قالتها وهي تعطيه ظهرها لتتأهب للمغادرة…
لكنها عادت بخطوات بطيئة لتقف قبالته ناظرةً لعينيه بترقب حائر…
ثم همست بما يشبه الاستئذان:
_سؤال واحد يؤرقني بشأنك!!
ابتسم ساخراً رغم شموسه الزيتونية التي كانت تغمرها بدفء سكينتها الآن ليقول بنبرته المسيطرة:
_سؤال واحد فقط؟!! ظننتكِ تملكين عشرات الأسئلة!!!
عاد الخوف يسكن أمواجها الماسية وهي تهمس بصوت مهزوز وكأنها تخشى مجرد السؤال:
_هذا أكثرها قسوة.
ضاقت عيناه بتفحص وهو يومئ برأسه منتظراً سؤالها…
فغمغمت بتردد وهي تخاف إجابته أكثر مما تخاف غضبه:
_هل حقاً قتلت ذاك الرجل …عدنان؟!!
اشتعلت عيناه بوميض صاخب من غضبٍ شيطانيٍ هائج أغشى عينيها للحظات …
قبل أن يهتف من بين أسنانه:
_لا تتدخلي فيما لا يعنيكِ….هل تفهمين؟!!
أشاحت بوجهها في انفعال وهي تشعر رغماً عنها أن خوفها منه يعاودها…
فابتعدت عنه متوجهةً نحو القصر بخطواتٍ مندفعة ….
ليرتجف جسدها بخوف حقيقي عندما دوى صوت رصاصاته من جديد خلفها وقد بدا أنه يفرغ غضبه كله في طلقاته المتتالية…
فعادت برأسها للخلف ترمق ظهره المواجه لها بنظراتٍ حائرة…
وهي تهمس لنفسها بقلق مصبوغ باليأس…
_ماذا تراه وراؤك يا سيد عاصي؟!!
============
كان واقفاً في نافذة غرفته يتطلع للسماء بشرود…
وبينما كان قلبه لايزال عالقاً بين جرحه وذنبه القديم…
كانت أفكاره الآن كلها متجسدة في ماسة!!!
تلك الفتاة التي أدخلها عالمه قسراً وفاءً لدينه القديم…
وليته حقاً يستطيع الوفاء به!!!
ماسة لابد أن تقوم من عثرتها…
أن تستعيد قوتها كاملة لتسير بين الجميع مرفوعة الرأس…
فلا يعيرها أحد بنسب مفقود لم يكن لها ذنب فيه….
ولا بجريمة من الظلم أن تكون فيها الضحية التي تنال كل العقاب!!!
قطعت أفكاره عندما سمع صوت طرقاتٍ واثقةٍ على باب غرفته…
فابتسم بثقة وهو يكاد يقسم أنها هي!!
هي الوحيدة في هذا القصر التي تطرق باب غرفته بهذه الثقة ويحق لها أن تفعل…
فهو مهما بلغت قسوته على الجميع…
تبقى لها هي عنده مكانةً خاصة!!
ربما لأنه تفجر مشاعر أبوّته التي حُرم منها…
وربما لأنه حقاً معجبٌ بقوتها وصلابتها…
وربما لأنها تذكره بتلك التي كانت يوماً مثلها ورحلت…
رحلت دون أن يستطيع مساعدتها للأسف!!!
وربما هو مزيجٌ من كل هذا!!!!
توجه نحو الباب ليفتحه بقوة فطالعه وجهها الذي يتشبث بحبال صلابتها وهي تقول دون أن تنظر إليه:
_كنت أريد أن أستأذنك أن تعيد إلىّ هاتفي…لأطمئن على أمي.
سحبها من ذراعها إلى الداخل ليغلق الباب خلفها ويسندها عليه ممسكاً بكتفيها قبل أن يقول بحزم:
_عندما تريدين شيئاً فلا تطلبيه على باب غرفتي كالمتسولين…أنتِ الآن سيدة هذا القصر.
هربت بعينيها من نظراته التي تسرق منها تماسكها وهي تشعر رغماً عنها بالكثير من الامتنان له…
حتى لو كان “شيطاناً” مع الجميع…فهي لا تراه معها كذلك كما قالت لها رحمة !
لهذا أومأت برأسها في طاعة دون أن تنظر نحوه….
ليصلها همسه القوي المشبع بسيطرته:
_غداً أجلب لكِ هاتفاً جديداً!
تنحنحت بحرج لتشعر بارتباكها يعاودها وهي تقف أمامه هكذا بهذا القرب…
فقالت لتنهي الحوار:
_شكراً وأعتذر على إزعاجك…تصبح على خير.
قالتها وهي تعشم نفسها بفرار سريع من حضوره الطاغي هذا!!
لكنه أجهض فكرتها عندما رفع ذقنها إليه ليهمس أمام عينيها:
_لماذا اعتذرتِ الليلة عن العشاء معي؟!
انعقد لسانها وهي عاجزة عن الرد…
ماذا عساها تقول له؟!!!
أنها تحاول الهرب من تواجدها معه لأنها لم تعتد هذه المشاعر الضبابية التي تجتاحها في وجوده؟!!!
هي التي لم تعرف في حياتها سوى بياض الحب أو سواد الكراهية…
لكنه يجبرها على وضعه في خانةٍ رمادية باهتة فلا تكاد تعرف وصفاً لما تشعر به معه!!!
لهذا كانت نفسها تسول لها الكذب بأي عذر…
لكنها كانت تعلم أنها حتى لو أرادت فهو سيكشف خبيئتها بسهولة كعادته…
لهذا اكتفت بصمتها المرتبك ولازال هو يحيط ذقنها بأنامله ليهمس بعد لحظات:
_هل تعلمين؟!منذ زمنٍ بعيد…كنت أجيد الرسم …ليتني رأيتك وقتها …كنتُ سأصنع من وجهكِ لوحةً أسطورية!!
توردت وجنتاها بخجل أبت الاعتراف به…
لتستعيد سيطرتها على قوتها بسرعة وهي ترفع إليه عينيها بسهامها الفضية المشتعلة الآن قائلة:
_اليد التي تمسك سلاحاً لن تستقر فيها فرشاة رسم….والقلب الذي يستهويه إرهاب الأرواح لن تشبع نهمه مجرد لوحة!
لم تكد تنتهي من عبارتها حتى شعرت ببعض الندم …
مع بحار المرارة التي غرقت فيها غابات زيتونه وهو يتمتم بعد لحظات بنبرة غريبة:
_معكِ حق!!
اتسعت عيناها بترقب وهي تشعر أنها تتمنى الآن بحق لو تغوص في عينيه أكثر…
لو تقرأ في حديثهما الصادق- الذي لا يَخفي عليها- كل ما كان من ماضيه…
لو تروي ظمأ فضولها نحو هذا الرجل الذي تخطى كل دوائرها التي تحيط به نفسها…
ليصل لمركزها ويثبت قدميه هناك…
فيصير فجأة هو الأقرب إليها….مع أنه حقاً أبعد ما يكون!!!
طال شرودها في عينيه المشبعتين بألغازه…
فلم تشعر باقترابه -الخطير- منها حتى لم يعد يفصل بينهما سوي صوت تردد دقات قلبها المذعورة…
وأنامله تتلمس شفتيها برفق قبل أن يهمس ببرود مشتعل لا يجيده مثله:
_هل منحتِ شفتيكِ طواعيةً لرجلٍ قبلي؟!!!!!
اتسعت عيناها للحظات بصدمة من سؤاله وهي تكاد تُكذّب أذنيها فيما سمعته….
قبل أن تزأر أمواجها الفضية بغضبها الهادر وهي تشعر بالإهانة…
لتجد نفسها دون وعي تدفعه ببعض الخشونة وهي تهتف بانفعال:
_ومادمتَ تشكّ في هذا فلماذا قبلتَ الزواج من فتاةٍ مطعونةٍ في شرفها؟!!!
عاد يتشبث بكتفيها بقوة أكبر وهو يعتقل نظراتها التي مزجت قوتها بجرحها في مزيج مدهش…
ليهمس بعدها ببطء وكأنه ينقش كلماته على جدران روحها:
_أنا -قطعاً- لا أشك…أنا أريدكِ أنتِ أن تقوليها…أن تتذوقي حروفها…أن ترفعي رأسكِ بها لتتخلصي من شعوركِ القديم بالانتقاص.
ثم عاد يتلمس شفتيها من جديد هامساً بنبرةٍ أكثر دفئاً:
_ماسة لم تمنح نفسها ولن تفعلها إلا…لزوجها…
ثم اشتعلت عيناه أكثر وهو يردف بتملّك حاسم:
_أنا!
ارتجف جسدها بانفعاله وهي لا تدري هل زادتها كلماته ثقةً وقوةً..
أم أورثتها المزيد من الضعف تجاهه؟!!!
وقد تشوشت نظراتها عندما شعرت باقترابه يزداد خطورة…
مع اختناق أنفاسها الذي بدا واضحاً وهي تشعر أنها على وشك السقوط أرضاً!!!
لكن طرقاتٍ مترددة على باب الغرفة الذي تستند عليه أنقذتها….
فأغمضت عينيها ببعض الارتياح وهي تشعر به يزيحها جانباً ليفتح الباب بغضب شعرت به وإن لم يبدُ في صمته الأسود…
عندما اخترق مسامعها هتاف الممرضة الجديدة التي ميزت صوتها:
_أدركنا يا سيدي…السيدة حورية…!!!!!
لم ينتظر إتمام عبارتها وهو يندفع نحو غرفة حورية التي كانت ممددةً بلا حراك على فراشها…
فالتفت للممرضة التي جاءت خلفه عدواً لتهتف بجزع:
_إنها تنزف…وأخشي أنها قد …فقدت الجنين!!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى