رواية ماسة وشيطان الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم نرمين نحمد الله
رواية ماسة وشيطان الجزء الحادي والعشرون
رواية ماسة وشيطان البارت الحادي والعشرون
رواية ماسة وشيطان الحلقة الحادية والعشرون
_جنة؟!!!!
هتفت بها رؤى بدهشة ممتزجة بسعادتها وهي تستقبلها في بيت حماتها عندما فوجئت بها تطرق الباب…
قبل أن تضمها بقوة مردفة باشتياق حقيقي:
_كم افتقدتك حبيبتي!!!
ربتت جنة على ظهرها برفق وهي تضمها بقوة أكبر وسط نظرات عفاف وهيام الفضولية..
قبل أن تهتف عفاف بترحاب:
_أهلاً يا ابنتي…تفضلي.
التفتت نحوها رؤى لتقول ببعض الخجل:
_عفواً يا أمي…سأصطحب جنة لشقتي حتى نتحدث براحتنا بعيداً عن الأطفال.
مطت هيام شفتيها باستياء ثم هتفت بتحفز:
_تقصدين أن أولادي مزعجون؟!!
تجهمت ملامح رؤى وهي تشعر بالحرج من جنة لكن عفاف تداركت الموقف وهي تقول بحنان:
_لا بأس يا ابنتي…ولو أننا كنا نود الترحيب بصديقتك.
ابتسمت جنة بشحوب وهي تتمتم بعبارات شكر مبهمة…
بينما سحبتها رؤى من كفها لتصعد بها إلى شقتها وكأنها تمسك كنزاً…
حتى أغلقت الباب خلفها لتحتضنها بقوة من جديد هاتفة بحرارة:
_جنة حبيبتي…لا تتصورين قدر احتياجي للحديث إليكِ.
دمعت عينا جنة وهي ترمقها بتفحص لتهمس بصوت متحشرج:
_دعيني أولاً أطمئن عليكِ….صفا تخبرني دوماً أنك بخير لكن عدم امتلاكك هاتفاً كان يؤرقني وكنت أشعر بالحرج من زيارتك.
ابتسمت رؤى وهي تدفعها برفق لتجلسها على الأريكة وتجلس في حجرها مسندةً رأسها على ساقيها قبل أن تهتف بمرح :
_هل تذكرين عندما كنت أزوركِ في مكتبك لأنام هكذا على ساقيكِ على الأريكة بالساعات نتسامر ونحكي؟!!
دمعت عينا جنة وهي تتذكر- شخصاً آخر- كان يحب هذه الجِلسة أيضاً…
شخصاً …ما عاد ينتمي الآن لحياتها وقد وقفت بينهما كلمة القدر…
شخصاً توقن كم أحبها وأنه لم يبتعد إلا لأجلها…ومع هذا كانت تتمنى لو كان أقوى في المواجهة!!!
بينما أردفت رؤى بعاطفة صادقة:
_منذ تعرفت عليكِ صدفةً منذ سنوات وأنتِ لستِ مجرد صديقة…بل أختٌ وأم.
أغمضت جنة عينيها بألم وهي تشعر بالذنب نحو رؤى…
ماذا عساها تخبرها الآن…؟!!
أنها أحبت ذاك الرجل الذي انتهك حرمتها بل سمحت له بامتلاكها هي الأخرى؟!!!
أنها ضعفت أمام نداء قلبها وتجاهلت كل نداءات العقل والمنطق؟!!!
أنها استسلمت لوهم لم ولن يكون لها ونسيت أو -تناست- مبادئها التي لم يعد لها الآن سواها؟!!
ياللخزي!!!
بينما شعرت رؤى بألمها الواضح فرفعت إليها رأسها لتقوم قائلة بلهفة:
_ماذا بكِ يا جنة؟!! يا لغبائي!!!كيف نسيت أن أسألكِ عن حالكِ مع ذاك الوغد؟!!لا ريب أنه يؤذيكِ!!!
سالت دموعها على خديها أخيراً فمالت رؤى عليها لتحتضنها هاتفة بدموع أسفها:
_يا إلهي!!!سامحيني يا جنة…أنا من فعلت بكِ هذا…سامحيني!!!
تماسكت جنة نوعاً وهي تمسح دموعها فعادت رؤى تتفحصها مردفة بجزع:
_ماذا فعل بكِ؟!
ماذا فعل بي؟!!
ليتني أعلم حقاً ماذا فعل بي؟!!
أيّ جنونٍ تلبّسني وأنا أهيم معه في بحر عشق هائج تاركةً عقلي على الشاطئ؟!!
أي غفلةٍ طوقتني وأنا أذوب في لهيب هواه بلا حول ولا قوة؟!!!
بل أي لعنة أصابتني وأنا أسير مغمضة العينين -بعصابة مزركشة الألوان بالحب- نحو الهاوية؟!!
كانت هذه أفكارها الصامتة المزدحمة المشتعلة و التي ناقضت كلمتها الباردة الوحيدة:
_طلّقني!
تنهدت رؤى في ارتياح ثم هتفت بسعادة:
_الحمد لله أنكِ تخلصتِ من هذه المصيبة …طالما كنتُ أدعو الله لكِ أن يخلصكِ من شره.
ابتلعت جنة غصتها وهي تغتصب ابتسامة شاحبة لتعاود سؤالها بحنان:
_دعكِ مني وأخبريني…كيف حالكِ مع زوجك ؟!! صفا تكاد تنظم فيه أشعاراً.
ابتسمت رؤى بخجل ممتزج بعاطفة قرأتها جنة بسهولة خاصةً عندما همست رؤى بحرارة:
_يستحق يا جنة …يستحق وأكثر!!
ربتت جنة على رأسها وهي تهمس ببعض القلق:
_أموركما…طبيعية؟!!
ترددت رؤى قليلاً وهي تنظر لجنة بتفحص ممزوج بتوجسها…
بينما رمقتها جنة بنظرة حملت تساؤلها الخجول عن الأمر الذي استحت السؤال عنه…
لكن رؤى أطرقت برأسها بعد لحظات هامسة باقتضاب :
_من ستره الله لا يفضحه أحد!
تنهدت جنة بارتياح محترمةً تحفظها في الحديث عن الأمر….
بينما حافظت رؤى على إطراقها الصامت…
كم تود الآن لو تخبرها بحقيقة علاقتها براغب كاملة …لكن شيئاً ما بملامح جنة الذبيحة بألمها يجعلها تشعر أنها لن تحتمل المزيد من الحزن…
كما أنها ارتأت أن تبقى علاقتها براغب سراً شخصياً بينهما هما فقط دون تدخل مخلوق حتى ولو كانت جنة رفيقة روحها…
لهذا اكتفت بابتسامة كبيرة حقيقية وهي تعاود إسناد رأسها على ساقي جنة مسترجعة ذكرياتهما السعيدة معاً…
وكأن هذه الجلسة أعادت لها تلك اللحظات من الدفء الذي كان يغمرهما قديماً…
قبل أن تهمس بوداعتها التي اكتسبت الآن شيئاً من الانطلاق:
_رجلٌ حقيقيٌّ يا جنة…حنانه وقوته…عطفه وشدته…الأمان الذي أشعر به جواره والذي لم أعرفه إلا معه…هل تصدقينني لو قلت لكِ أنه يبدو لي وكأنه أعاد تشكيل روحي من جديد كعجينة طرية في يده؟!!
ابتسمت جنة بمزيج غريب من السعادة والشجن…
رؤى تبدو وكأنها تتحدث بلسانها هي عن فهد…
لقد منح القدر للصديقتين حباً بحجم السماء قلب حياتيهما من أقصى اليمين لأقصى اليسار…
وإن كان نصيب جنة أن تنتهي قصتها ها هنا…فيبدو أن قصة رؤى ستستمر لتمنحها السعادة التي تستحقها…
لهذا عادت تربت على رأسها هامسةً بصوت متهدج:
_أنا سعيدة لأجلكِ حبيبتي.. أنتِ صرتِ كل أهلي هنا بعد سفر شقيقتيّ…لهذا جئت لأودعكِ قبل رحيلي.
شهقت رؤى بعنف وهي تنتفض من مكانها هاتفة بجزع:
_رحيلك؟!!لماذا؟!!وإلى أين؟!!
جاهدت جنة نفسها لتتكلف ابتسامة شاحبة قبل أن تغمغم بمرح مصطنع:
_(……)مدينة هادئة سأثبت وجودي فيها أكثر كمحامية…أنتِ تعلمين أن العاصمة ليست مكاناً مناسباً للمبتدئين؟!!
اتسعت عينا رؤى بدهشة وهي تتبين ابتعاد هذه المدينة التي ذكرتها لتهتف بحسرة واضحة:
_يا إلهي!!لكنها بعيدة عن هنا!!
ثم دار بخاطرها هاجس جعلها تسألها بمزيج من الأسف والذنب:
_أنتِ تفعلين هذا للهروب من فهد؟!!هل يهددك ؟!!
نظرت إليها جنة طويلاً وهي لا تدري بماذا ترد…
الصديقتان كلتاهما كانت تشعر بالذنب نحو الأخرى !!!
ولأول مرة منذ بدأت صداقتهما تخفي كل منهما عن الأخرى خبيئة نفسها !!!
ربما اختلفت الأسباب …لكن تبقى النتيجة واحدة…
لقد تشقق جدار صداقتهما المتين لكنه لايزال آمناً للاستناد عليه!!!
لهذا قطعت جنة صمتهما الطويل لتقول بصلابة:
_ما عاد هناك مجالٌ للتفكير في ماضٍ رحل بالنسبة لكلينا…عيشي حياتك واستغلي عطية القدر لك في زوجك الحنون…وأنا سأعاود شق طريقي وحدي كما تعودت منذ زمن بعيد.
دمعت عينا رؤى وهي ترمقها بحب ممتزج بالقلق…
بينما قامت جنة لتقول بنفس الصلابة:
_اعتني بنفسكِ حبيبتي ولا تشغلي نفسكِ بي…سأكون بخير.
قامت رؤى بدورها لتحتضنها من جديد بقوة هاتفة وسط دموعها التي انهمرت الآن:
_سأفتقدكِ يا جنة…متى ستعودين ؟!!
أغمضت جنة عينيها بقوة تأثرها بهذا الوداع مستسلمةً لحضن رؤى للحظات..
قبل أن تقول بحزم غارقٍ بأشجانه:
_لن أعود يا رؤى…لن أعود.
====================
_راغب!!!لماذا عدتَ باكراً هكذا؟!!
هتفت بها عفاف بجزع وهي تتبين ملامحه الشاحبة التي دخل بها…
بينما امتقع وجه رؤى هي الأخرى وهي تشعر بالقلق عليه فيما أجاب هو بصوت محتقن:
_لا تقلقي يا أمي… يبدو أنها نزلة برد…سأحتاج فقط للراحة قليلاً!
ثم ألقى تحية مقتضبة على هيام قبل أن يلتفت لرؤى ملاحظاً شحوب وجهها قلقاً فسألها ببعض الرفق:
_كيف حالكِ يا رؤى؟!هل أنتِ بخير؟!
انفرجت شفتاها وهي تهم بالرد عندما اندفعت هيام تهتف كقذيفة مشتعلة:
_ولماذا لا تكون بخير؟!!نحملها على كفوف الراحة وصديقاتها يأتين إلى هنا وكأنه أصبح نادياً للمراهقات!!!
رمقتها عفاف بنظرة زاجرة فيما نظر راغب لرؤى بتساؤل لكن ملامحها المذعورة كعهدها لم تمنحه جواباً شافياً…
فزفر بقوة ثم قال لهيام بحزم:
_لم يمنعكِ أحد من استضافة صديقاتك…رؤى عروس جديدة ومع هذا لا تطلب الخروج والتنزه كمن في ظروفها ..فهل ستحرّمين عليها زيارة صديقاتها أيضاً؟!!
كان يتوقع منها المزيد من الجدال والتقريع لكنه فوجئ بها تنخرط في بكاء عنيف قبل أن تغادر شقة عفاف إلى شقتها بخطوات مندفعة!!!
فالتفت نحو والدته يسألها بدهشة:
_ماذا حدث لكل هذا؟!!
شاركته رؤى دهشته لرد فعل هيام المتطرف لكن عفاف أجابته بتنهيدة حارة سبقت قولها:
_شقيقتها عزة واقعة في ورطة…اكتشفوا أن خاطبها شابٌ سيئ يدمن المخدرات…وعندما طلبت منه الانفصال بالمعروف هددها بأن يسوئ سمعتها في الحي…وأنت تعرف أن هيام وشقيقتها يتيمتان فمن سيقف لهذا الوغد و شقيقك كما تعلم لا يحب المشاكل؟!!!
انعقد حاجبا راغب بشدة وهو يهتف بحدة رغم صوته المبحوح:
_أنا سأقف له!!! هل يظن أن “بنات الناس” لعبة في يده؟!!سأريه مقامه الحقيقي غداً وآخذ لها حقها ولو من عينيه!!!
ابتسمت عفاف بفخر وصوتها يعلو بالدعاء له للحظات…
بينما ارتسمت على شفتي رؤى ابتسامة كبيرة وهي تتأمله بإعجاب حقيقي…
هذا هو من سميت “الرجولة” باسمه…
هذا رجلٌ تتمناه كل امرأة بأي صفة…
ليته أبوها…أخوها…ابنها…صديقها…وكل أقاربها…
بل ليته يكون كل الرجال!!!
لكن شرودها الهائم به انقطع عندما فوجئت به يجذبها من كفها برفق ليقول لأمه بنبرة اعتذار:
_سأصعد الآن لأستريح…هل تريدين شيئاً؟!!
تغيرت ملامح عفاف عندما تذكرت تعبه فهتفت بجزع:
_سلامتك يا ابني!!!تناول طعامك ونم جيداً وأنا سأصعد مساءً للاطمئنان عليك.
ثم التفتت نحو رؤى توجه لها بعض الوصايا بخصوص طعامه وراحته …
قبل أن يصعدا معاً إلى شقتهما …
توجه بخطوات منهكة نحو الأريكة في غرفة نومهما وهو يشعر بالألم يكاد يدك عظامه…
عندما أمسكت رؤى ساعده وهي تهمس بتردد:
_نم على السرير …هو أكثر راحة!
هز رأسه باعتراض وهو يكاد يستأنف سيره نحو الأريكة لكنها تشبثت بساعده وهي تعاود همسها الراجي لعلها تقنعه بأي طريقة:
_والدتك قد تزورنا في أي وقت …ماذا ستقول لو وجدتك نائماً على الأريكة؟!
زفر بقوة وهو يتبين منطقية ما تقول…
عندما أردفت هي ببعض الحرج:
_سأنام أنا على الأريكة اليوم حتى تكون على راحتك.
تجاهل عبارتها وهو يندس في الفراش تحت الأغطية دون أن يقوى حتى على تبديل ثيابه…
فاقتربت منه ببطء لتهمس بعاطفة حقيقية لمست قلبه المتيم بها:
_سلامتك!!ألف سلامة!!
أشاح بوجهه قسراً وهو يخشى قراءة ما تفضحه عيناها عندما أردفت هي بنبرتها البريئة:
_سأعد لك كوب ليمون ساخن مع قرصين من (……..)وعندما تستيقظ سأكون قد أعددت لك حساء الخضروات…صفا كانت تفعل هذا كلما كنت أصاب بنزلات البرد…وكان فعالاً جداً.
قالتها وهي تهرول خارج الغرفة بسرعة وكأنها طفلة طلب منها أحد الكبار إنجاز مهمة وتريد إبهاره!!!
فابتسم رغماً عنه وهو يتتبع ظلها المنصرف بعينيه…
قبل أن تداعب أنفه رائحة عطرها الليمونية الممتزجة برائحتها الخاصة على وسادتها تحته…
فلم يشعر بنفسه وهو يسحب الوسادة ليضمها إليه ثم دفن وجهه فيها بعمق لوقت لم يتبينه…
حتى سمع هديلها الوديع جواره:
_راغب!!!الليمون والدواء!!
ألقى الوسادة جانباً بعنف وكأنما يلقي دليل إدانته بجُرْم….قبل أن يقوم من نومته ليجلس متناولاً منها الدواء والكوب…
عندما جلست هي على طرف الفراش جواره لتهمس بتردد وهي تتذكر ما قالته هيام منذ قليل:
_هل تريد أن تسألني عن شئ؟!!
رمقها بنظرات متفحصة وهو يرفع الكوب على شفتيه للحظة …
قبل أن يغمغم بخشونته المعهودة:
_هل تريدين أنتِ قول شئ؟!!
أطرقت برأسها دون رد…فأردف ببعض اللين:
_صديقتك هذه التي زارتك اليوم…من أين تعرفينها؟!!
رفعت إليه عينيها بخوف لم تخطئه عيناه …
فربت على كفها برفق هامساً:
_هو ليس تحقيقاً…لو أردتِ ألا تجيبي فلا بأس.
ارتجفت شفتاها بشبه ابتسامة أذابت قلبه فضغط على كفها أكثر بينما غمغمت هي بشرود:
_جنة صديقتي منذ سنوات…التقيتها أول مرة في أحد دروس المسجد التي كان يصر عبد الله على أن أحضرها…منذ عرفت هي عن ظروف يتمي وهي لم تعتبرني صديقتها فحسب بل كانت تعاملني كابنتها رغم أنها لا تكبرني سوى ببضع سنوات.
انعقد حاجباه مع سعاله القصير الذي هاجمه للحظات…
قبل أن يتنحنح قائلاً بصوت مبحوح:
_هل كانت تعلم عن زواجك العرفي هذا؟!!
عاد الخوف يتملك عينيها وهي ترمقه بنظرات مترددة…
ثم حسمت أمرها لتهمس بصوت مرتجف:
_أنا سأخبرك بالحقيقة كلها…لكن عدني أن…
انقطع حديثها بغصة حلقها فجذبها من كفها برفق ليقربها منه هامساً وقد حسم أمره:
_قولي ولا تخافي يا رؤى…مهما كان ما ستقولينه فهو لن يغير من حقيقة ما بيننا شيئاً.
ازدردت ريقها ببطء وهي تمسح دمعة خانتها لتتمالك قوتها وهي تغمغم باضطراب:
_لم يكن زواجاً…هو…هو استدرجني لشقته …ثم فعل فعلته….وبعدها ساعدتني جنة لنجعله يوقع على تلك الورقة …جنة كانت تعلم أنها لا تساوي شيئاً…لكنها قالت أنها أفضل من لا شئ…
اتسعت عيناه بصدمة للحظات مرت عليها طويلة كدهور…
قبل أن يهتف هو أخيراً بحدة وقد تمالك صدمته:
_لم أكن أظن الأمر هكذا…تعنين أنه حتى لم يكن زواجاً؟!!
أشاحت بوجهها في خزي بينما أردف هو بتشكك:
_هو لم يقربكِ إلا مرة واحدة…رغماً عنكِ؟!!
هزت رأسها نفياً وهي تهمس بمزيج من الذنب والخوف:
_لن أكذب…لم يكن رغماً عني!!
اشتعلت عيناه وقد تحفزت عضلات جسده كلها وبدا على وشك الفتك بها…لكنها أردفت بصدق اخترق قلبه:
_لم يكن رغماً عني…ولم يكن أيضاً برغبتي تماماً…هي لحظة ضعف فقدت فيها عقلي وإرادتي…يمكنني الكذب عليك لأكتسب تعاطفك لكنني عاهدت الله أن أصدقك دوماً مهما حدث!
خبط بقبضته على الفراش جواره فانتفضت مكانها برعب…بينما هتف هو بحنق:
_تزعمين أنها مرة واحدة؟!!
عضت على شفتها السفلى وهي تهمس بمرارة:
_أجل!!خطأ واحد قد يساوي أحياناً خسارة عمر !!!
أغمض عينيه وهو يعود برأسه للوراء يفكر….
نعم…حتى لو افترض صدقها فيما تزعم هي محقة في قولها…
خطأ واحد قد يساوي أحياناً خسارة عمر…
بل ربما…عمرين معاً!!!
لهذا فتح عينيه ببريقهما المشتعل الآن وهو يعاود سؤالها بغلظة لم يتعمدها:
_ولماذا جاءت اليوم لزيارتك؟!!هل تحمل لكِ أخباراً عنه؟!!
جاءت عبارته الأخيرة كصفعة لها وهي تدرك أنه لن يسامحها أبداً على فعلتها…
وأن الشك سيبقى ثالثهما في هذه العلاقة الغريبة…
فقامت من مكانها لتهمس بقوة غريبة على طبعها المستكين وكأنما اكتسبت بعض الصلابة من ثقتها بما ستقول:
_ربما أكون قد أخطأت يوماً…لكنني ندمت…والآن أعرف كيف أصون الرجل الذي منحني اسمه…لو كنت تشك في علاقتي بها أو بغيرها فاطمئن…هي جاءت لوداعي قبل مغادرتها للمدينة لوقت طويل…وأنا لم يكن لي صديقات سواها.
أشاح بوجهه وهو يشعر بنيران هائلة تلفح صدره…وبرغم سعادته “الخفية” بقوتها “المستحدثة” والثقة التي تتحدث بها لكن روحه كانت هائمة في وادٍ آخر….
قلبه يقسم له أنها صادقة…
بينما يطرق الشك بنفسه ألف باب…وما اعترفت به الآن يكوي ضلوعه كيّاً!!!!
لتزيد آلام جسده هي الأخرى من توتره….
فوضع الكوب الذي بيده على الكومود برفق وهو يهم بالنوم متجاهلاً الرد عليها…
لكنها عادت تقول برجاء:
_على الأقل اشربه و خذ دواءك…لا تحملني ذنبك يا راغب أرجوك.
وهل يمكنه تخييب رجاءها ؟!!
وهمسها الساحر باسمه يداعب كل أوتار رجولته بلحن لم ولن تعزفه روحه إلا لها؟!!!
لهذا عاد يمسك بالكوب ليتناوله جرعة واحدة مع الدواء قبل أن يعاود اندساسه بين الأغطية….
حتى شعر بابتعاد خطواتها البطيئة وإغلاقها للباب خلفها فعاد يحتضن وسادتها بقوة وتأوهاته المكتومة التي لا يسمعها سواه تكاد تصم أذنه…
وذهنه يرسم له آلاف الصور لها مع رجل غيره نال منها ما حرمه هو على نفسه…
ليعاود الاحتراق بذنبها القديم من جديد…
فلم يشعر بنفسه وهو يلقي الوسادة على الأرض لينتفض من مكانه وقد قرر ألا ينام على هذا الفراش مهما حدث…
لكن أنامله اصطدمت بدفترها الليموني الذي نسيته تحت وسادتها…
فاستخرجه بلهفة وقد كاد ينسى أمره ليقرأ آخر ما سطرته أناملها بعفوية:
اليوم جاءتني جنة لأرى في عينيها صورتي القديمة ببراءتها قبل أن تدنسها خطيئتها…
جاءت كهدية قدرية لأضحك معها ضحكة حقيقية لم أعرفها منذ زمن…
لكنها للأسف جاءت لوداعي …وكأن القدر يأبى إلا أن يهدم أركان الأمان بعالمي كاملة…
بالأمس رحل والداي…ثم رحل “الغادر” بعدما طعنني بخنجر خيانته…
واليوم ترحل جنة…وغداً يرحل راغب…
وأبقى وحدي!!
فكم من القوة تلزمني لأكمل هذا الطريق؟!!!
وكم من العمر يكفيني لأنسى حنان رجل مثله؟!!
رجل منحني دون مقابل…ولو يقبل لمنحته حياتي كلها!!
أغمض عينيه بتأثر وهو يغلق دفترها بعنف ليعيده مكانه…
كل حرف قرأه كان سهم صدقٍ مصوباً لقلبه عرف طريقه بإتقان!!!
ورغم الألم الذي كاد يشق رأسه بل جسده كله قام من مكانه وهو ينتوي ألا يعود لجحيم هذا الفراش أبداً…
سينام على الأريكة…لكن قبلها…فليطمئن على تلك “البائسة” أولاً!!!
لو لم يكذبه ظنه هي الآن في المطبخ تعد طعامه …وتبكي خوفاً وخزياً!!!
لهذا فتح باب الغرفة وتوجه نحو المطبخ بتثاقل ليجدها كما توقعها تماماً أمام الموقد تمسح وجنتيها بظاهر كفها وهي تتمتم بكلمات لم يسمعها…
فاقترب منها ببطء ليربت على كتفها برقة جعلتها تستدير نحوه بدهشة …
فضمها إليه بقوة وأنامله تتلمس ظهرها برفق للحظات ثم همس بصوته المبحوح:
_لا تبكي بعد!!
أومأت برأسها في طاعة دون أن تقوى على رفعه نحوه…فرفع هو ذقنها إليه ليردف :
_أعجبتِني وأنت تتحدثين عن نفسك منذ قليل بهذه الثقة والقوة….ليتكِ تبقين هكذا!
التمعت عيناها ببريق آسر ظاهره دهشة وباطنه فرح… وهي تتمتم بارتباك آسر:
_أعجبتُك؟!
قالتها ثم تزينت شفتاها بابتسامة ساحرة قبل أن تداريها بأناملها في خجل وهي تشيح بوجهها….
فوجد نفسه دون وعي يبتسم بدوره وهو يحتضن وجنتها براحته ليدير وجهها إليه ملتقطاً نظراتها الخجول…
قبل أن يزيح أناملها من على شفتيها برقة كي يستمتع بابتسامتها ليهمس بحنان :
_نعم ..أعجبتِني وستعجبينني في كل مرة تثبتين لي فيها قوتك .
اتسعت ابتسامتها بفخر طفوليّ وهي تهز رأسها في حماسة…
ثم هتفت ببراءتها الآسرة التي خالطها بعض المرح:
_انتظر حتى تتذوق هذا الحساء المميز أيضاً…سأعجبك أكثر!!
فضحك ضحكة قصيرة قضبل أن يجلس على الكرسي أمام مائدة المطبخ وقد نسي تعبه ليقول باستسلام غارقاً بعاطفته:
_حسناً …سأنتظر معكِ هنا حتي تنتهين…لنأكل سوياً!!
=================
_أين وثيقة طلاقك؟!!
هتف بها جاسم الصاوي لفهد الذي كان واقفاً أمامه في مكتبه…
فتجمدت ملامح فهد وهو يستخرج ورقة مطوية من جيبه ليناولها له….
انعقد حاجبا جاسم وهو يتفحصها قبل أن يقول بغيظ ممتزج بغضبه:
_زواج رسمي يا أحمق؟! رفعت الصباحي سيكتشف هذا بسهولة…ماذا أفعل فيك؟!!
التوت شفتا فهد بابتسامة سوداء وهو يقول بتهكم مرير:
_وماذا في هذا؟!!ألم تتزوج ابنته نفسها من قبل ؟!!
زفر جاسم زفرة مشتعلة وهو يلقي الورقة بإهمال في درج مكتبه قبل أن يلوح بسبابته في وجهه هاتفاً بلهجة تهديد :
_ستكون آخر مرة أتهاون معك فيها…هذه المرة تمكنتُ من إصلاح خطئك قبل فوات الأوان…لو تكرر هذا الأمر فسأنسى أنك ابني الوحيد وسيكون عقابي رادعاً.
أطرق فهد برأسه وهو يتمتم بفتور:
_لا تقلق يا أبي…أنا تعلمت درسي جيداً!!!
تفحصه جاسم ببصره وكأنه يتأكد من صدق قوله…قبل أن يردف بتسلط:
_كلّم خطيبتك واتفق معها على التفاصيل…كل أوامرها مجابة…المهم أن يتم الزفاف أول الشهر.
أومأ فهد برأسه دونما اهتمام…
وعيناه تحدقان في الفراغ أمامه وكأنهما بلا حياة…
بعد رحيل جنة هو صار جسداً نزعوا منه روحه ولم يبقَ منه سوى جثة …
فليفعلوا بها إذن ما شاءوا!!!
وكأنما شعر جاسم بما يدور في نفسه فابتسم ساخراً ليقول باستخفاف:
_حزنك هذا لن يستمر طويلاً…طيش شباب سيمضي لحاله…
ثم أردف ببعض الخبث:
_يسرا الصباحي بفتنتها لن تنسيك ماضيك فحسب…بل ستُنسيك اسمك!!
تنسيني اسمي؟!!!
نعم …ربما كان هذا ما أحتاجه الآن بالضبط!!!
أن أنسى اسمي!!!
اسمي الذي كان لعنتي منذ البداية…
“ابن الصاوي” الذي كُتب عليه أن يكون شيطاناً كأبيه!!!
ربما لو لم يكن دخل “الجنة” لما كان اكترث بهذا المصير…لكنه للأسف دخلها!!!
دخلها ليستمتع بكل لحظة قضاها فيها والآن غادرها مطروداً إلى أرض لعنته من جديد وقد حرموها عليه للأبد!!!
كانت هذه أفكاره الصامتة التي ابتلعها قبل أن يقوم من مكانه بجمود ليغادر مكتب أبيه بتثاقل…
ثم استقل سيارته ليتناول بعدها هاتفه ويجري اتصالاً…
ولم يكد يسمع صوت محدثه حتى قال بصوت منهَك:
_أحتاج للتحدث معك يا حسام…لا…لن يسعفني حديث الهاتف…أريد أن أراك…هل ستأتي أنت أم آتيكَ أنا؟!!
وفي مكانه عقد حسام حاجبيه وهو يشعر أن لهجة فهد لا توحي بخير…فأجاب بلهجته العملية:
_أنا كنت قادماً على أي حال لشراء بعض الأشياء للعرس…سأكون عندك مساءً.
أغلق فهد الاتصال معه بعد شكر مقتضب…
وأنامله تتوسله اتصالاً آخر يسكت به نحيب قلبه…
لكنه لم يستجب!!!
لو كان يحبها حقاً فيجب عليه أن يبتعد الآن…وهو لا يحبها -فقط- بل إنها الآن أغلى من حياته…
عاد برأسه إلى الوراء مغمضاً عينيه باستسلام ليتذكر وقتها أنه لم ينم منذ تلك الليلة العصيبة التي فاجأه فيها والده بقدومه والتي تبعتها أحداث سريعة لا يذكر منها سوى تلك الورقة التي أعطاها لأبيه منذ قليل…
قسيمة الطلاق!!!
التوت شفتاه بابتسامة مريرة وهو يفكر كيف يمكن أن ينتهي حب كحبه لجنة بمجرد ورقة؟!!!
كيف صارا الآن غريبين حقاً؟!!!
بل ربما أبعد من ذلك…!!!
الغريبان قد يلتقيان مصادفة لكن حتى هذا لم يعد متاحاً بعدما أصدر والده أمره لها بأن تغادر المدينة ولا تعود أبداً…
وهو واثقٌ أنه حتى دون أمر أبيه جنة كانت ستفعلها على أي حال…
جنة بقوتها التي يعرفها ستنفض عنها رداء ذاك الحب الذي خذلها لتختار رداءً آخر يناسب كبرياءها…
ربما ستتألم كثيراً لكن هذا أفضل من أن يفقدها تماماً وهو ما يثق بقدرة والده على فعله بمنتهى البساطة!!!
لهذا تنهد بحرارة وهو يعاود فتح عينيه ليتطلع لشاشة هاتفه بشرود…
قبل أن يحسم تردده برسالة أخيرة قرر أن يرسلها إليها:
_أنتِ جنة …وأنا شيطان…والشيطان لا يدخل الجنة…بل دخلها مرة …ثم حُرمت عليه للأبد بسواد خطيئته!!
ضغط زر الإرسال وشفتاه ترتجفان بانفعال وهو يتخيلها أمامه عندما تقرأها…
هل تراها ستعذره؟!!أم ستلعنه؟!!
هل سترفع كلماته لشفتيها تقبلها كما كانت دوماً تفعل؟!!!
أم ستلقي هاتفها لتكسره كما انكسر ما بينهما؟!!
هل تفهم أنه كان مضطراً لفعلته؟!!
أم تظنه جباناً باعها بلا ثمن؟!!
ليأتيه الرد بأسرع مما توقع مع رسالتها التي أرسلتها الآن قبل أن تغلق هاتفها تماماً:
_كنتَ محقاً يوم قلت إنه عندما يمتلك فهد الصاوي شيئاً فإنه يُدمغ باسمه للأبد..مفتاح جنتك سيبقى بيدك فإما هزمت شيطانك وعدت لتفتحها…وإما ألقيته في قلب جحيمك ليحترق وتحترق أنت معه!
============
_طلقتها؟!!
هتف بها حسام بدهشة وهو يجلس مع فهد في أحد المطاعم حيث التقيا بعد وصوله ليستمع منه لتفاصيل ما حدث…
فأومأ فهد برأسه في أسف…بينما هز حسام كتفيه وهو يقول بتعجب:
_ظننتك لن تفعلها أبداً!
أشاح فهد بوجهه وهو يقول بنبرات مختنقة:
_ربما لو كان حبي لها أقل من هذا ولو مثقال ذرة لتجرأت على المحاولة…لكنني لم أحتمل المجازفة بحياتها.
ثم أردف بألم:
_الخوف أحياناً يكون أقوى من الحب…أنت لا تتخيل كيف كان رعبي عندما رأيت قطرات الدم على الأرض ليلتها…
غامت عينا حسام بحزنٍ قاتم وهو يستعيد ذكرى مشابهة ليتمتم بشرود:
_أو رماداً أسوداً يخبرونك أنه كان يوماً لها!!
اتسعت عينا فهد بإدراك وهو يتبين ما يدور بعقل حسام الآن…
لقد مر بأسوأ مما مر هو به عندما أرسلت له طيف رسالة على هاتفه تخبره بعزمها الانتحار قبل أن يعرف من أمه أنها أحرقت بيتها الصغير المنعزل في أحد أنحاء مدينتها المجاورة وهي بداخله!!!
لكن هذه ليست تمام الحكاية…حسام يشك أن أخاها هو من قتلها لأنه تدخل بنفوذه لمنع التحقيق في هذا الأمر !!!
أخاها الذي رفض الاعتراف بها قتلها كي لا تطالب بحقها في إرث أبيها وقبلها اسمه!!!
لكن رسالتها التي أرسلتها تناقض هذا!!!
فهل انتحرت يأساً بعدما خذلها حسام بزواجه من يسرا؟!!!
أم سبقها أخوها بقتلها بهذه الطريقة بعدما أجبرها على إرسال تلك الرسالة ليوهم الجميع أنه انتحار؟!!!
وبين الفكرتين ظل حسام يتعذب بذنبها طوال هذه الأيام…فهو يحمّل نفسه إثم موتها سواء بخذلانها بزواجه أو بعدم قدرته على حمايتها من بطش أخيها الشيطان!!!
وأمامه كان حسام غارقاً بنفس الأفكار ورسالتها الأخيرة على هاتفه تدوي في رأسه لتحرق قلبه بجحيم مستعر
_اليوم أستريح من حياة لا مكان فيها لمن هي مثلي…سأحرق نفسي عساك تحترق بذنبي في كل لحظة من عمرك بعدي.
كانت هذه آخر كلمات وصلته منها قبل أن يعلم عن انتحارها بهذه الطريقة البشعة…
ليته ما استجاب لشهوات طمعه وقتها بالزواج من يسرا الصباحي بكل ما حمله من مميزات…
لم يستطع مقاومة طموحه وهو يرى فيها سلماً سيصعد به إلى مستقبل مشرق…
لم يدرِ وقتها أنه سيسقط من على درجاته لتنكسر قدماه وقد خسر الأمس والغد أيضاً!!!
وأمامه كان فهد يتفحصه وهو يفهم ما يجول بنفسه قبل أن يقول بتردد:
_لم تخبرني عن رأيك في زواجي من يسرا!!
أفاق حسام من شروده ليبتسم ساخراً وهو يقول باستخفاف:
_تظنني أغضب أو أغار مثلاً؟!!
أشاح فهد بوجهه وهو لا يدري ماذا يقول في موقف كهذا…
كلاهما يفهم الآخر جيداً…وهو أكثر من يعرف أن يسرا لا تساوي شيئاً لدى حسام الآن…
لكنه مع هذا يشعر بالحرج نحوه وقد وضعه تسلّط والده في هذا الموقف…
بينما ربت حسام على كتفه وهو يقول بلهجة أكثر رفقاً:
_أنا فقط أشفق عليك يا صديقي…لن تحتمل الزواج بأخرى وقلبك معلق بجنة.
تأوه فهد بقوة وهو يخبط رأسه بظهر مسند مقعده ليهتف بعجز:
_ماذا أفعل يا حسام؟!!حياتها أمام فراقنا وزواجي من يسرا….يد جاسم الصاوي ستطالها في أي مكان تذهب إليه لو لم أطاوعه!!
هز حسام رأسه وهو يقول بأسف:
_قصتكما كانت منتهية منذ البداية…والدك لم يكن ليتركها وشأنها أبداً…لم تكن لها ولم تكن لك.
أغمض فهد عينيه بألم وهو يهمس بخفوت:
_بل لم يكن لي إلا هي!!
تنهد حسام بحرارة وهو يعاود التربيت على كتفه….
ورغم شعوره بلوعة صديقه التي عاش مثلها من قبل لكنه عاد يقول بلهجته العملية:
_انسَها يا فهد…ولا تعاند قدرك…يسرا ليست بهذا السوء…أنا أعذرها في طلبها للطلاق مني …أي واحدة مكانها كانت ستفعلها…من يدري ربما كان حظك معها أفضل!!
فتح فهد عينيه المحمرتين إجهاداً ليهتف بضيق:
_مجرد سيرتها تخنقني…كفانا حديثاً عن هذا الأمر وأخبرني عن موعد عرسك.
مط حسام شفتيه باستياء وصورة دعاء تعيد صراع نفسه القديم ليقول باقتضاب:
_بعد أسبوع.
عقد فهد حاجبيه وهو يسأله بدهشة:
_بهذه السرعة؟!!
ابتسم حسام وسخريته اللاذعة تعاود غزو شفتيه:
_ولماذا نتأخر؟!!
هز فهد رأسه بتفهم بينما أردف حسام بود ظاهر:
_وأنت بالطبع ستكون أول المدعوين.
ابتسم فهد بمودة وهو يربت على ركبته ثم سأله باهتمام:
_هل من جديد بشأن أختي؟!!
هز حسام رأسه بأسف وهو يقول بحزم:
_الرجل اختفى ولم يترك خلفه أثراً…لكنني وصلت لطرف خيط سيدلني على مكانه… سأصل إليه حياً أو ميتاً!
ثم عاد يربت على كتفه مردفاً :
_لا تقلق…لن أستريح حتى نجدها.
=================
_ياللجمال!!
قالتها يسرا بدلال وهي تتناول من فهد ذاك الطاقم الماسي الذي أرسل جاسم الصاوي لطلبه خصيصاً من الخارج…
كانا يجلسان على أحد الأرائك بحديقة قصر رفعت الصباحي بعدما أعلنا خطبتهما بالأمس…
فابتسم فهد بتكلف وهو يقول بتحفظ:
_أبي أرسل في طلبه خصيصاً لكِ.
ضحكت بغنج وهي تقترب منه بجسدها لتهمس بعتاب مشبع بدلالها:
_وأنت لماذا لم تختره على ذوقك؟!!
أشاح بوجهه في نفور لم يخفَ عليها وهو يقول بتكلف:
_لم يكن هناك وقت.
فألقت رأسها على كتفه وهي تهمس بتردد:
_لماذا أشعر أنك تتباعد عني؟!!هل يوغر حسام صدرك ضدي؟!!هل يسئ الحديث عني؟!!
تمالك فهد نفسه بصعوبة هو يقول ببرود:
_حسام لا يذكر هذا الأمر أبداً…هو على وشك الزواج وأظنه طوى صفحتكما للأبد.
ارتفع حاجباها بدهشة وهي ترفع رأسها من على كتفه لتقول باستخفاف:
_زواج؟!!ومن هذه الحمقاء التي قبلت به ؟!!
كز فهد على أسنانه مخفياً غضبه …بينما أردفت هي باستهزاء:
_مطلقة يائسة أم عانسٌ فاتها قطار الزواج ؟!!
قام فهد واقفاً وقد أثقله هذا الحوار لكنه كان مضطراً لتحمل رفقتها فقال بسرعة وهو يتحاشى النظر إليها:
_لا أحب أن يدور بيننا حديث عن حسام…هو أولاً وأخيراً صديقي.
قامت بدورها وهي تشعر بغضبته فأراحت كفها على صدره وهي تحتضن وجنته بالآخر هامسةً برقة:
_تغار؟!!
تعلقت عيناه بملامحها للحظة قبل أن يتوه عقله في شروده…
فاتنة حقاً يسرا…!
قادرةٌ على إدارة رأس أعتى الرجال…!!
والده كان محقاً عندما قال أنها قد تنسيه اسمه…
لكنه وإن نسي أنه “ابن الصاوي” فلن ينسى أنه “فهد”…
فهد حبيب جنة…!!
وعند خاطره الأخير انسابت ذكرياته معها تغلف قلبه بستار من حزن ممتزج بشوق حارق…
ليته يراها مرة…
مرة واحدة يسمع منها وتسمع منه …
يشرح لها وضعه…
يشرح؟!!!
ماذا سيشرح ؟!!
أسباب فراقه أم زواجه الجديد؟!!!
هو الآن في عُرف جنة الرشيدي خائنٌ جبان مهما كانت مبرراته!!!
لكن يسرا أساءت فهم شروده المتفحص فيها فاقتربت بوجهها منه أكثر لتهمس بنبرة أشد حرارة:
_إلى هذه الدرجة تعلقت بي في هذه المدة القصيرة؟!!
أفاق من شروده على جملتها مع اقترابها الخطير الذي أشعل حواسه…
فدفعها برفق ليقول بلهجة متحفظة:
_يسرا…نحن في الحديقة.
ضحكت ضحكة عالية وهي تغمزه قبل أن تهتف بمرح:
_من يرى تحفظك هذا لا يصدق أنك فهد الصاوي بسمعته المعروفة.
أشاح بوجهه وهو يقول بضيق:
_لا تصدقي كل ما تسمعينه…مجرد إشاعات.
اقتربت منه أكثر لتدير وجهه إليها قبل أن تنظر لعمق عينيه هامسة ببطء واثق:
_وحتى لو كانت حقيقة…لا أهتم…أنت من الآن ملكي أنا فقط…
ثم امتدت أناملها تداعب وجنته وهي تهمس بثقة:
_سأنسيك كل امرأة عرفتها قبلي…ولن تكون لأخرى بعدي.
عاد يشيح بوجهه عنها عندما امتدت أناملها ل”ندبة ذقنه” مع همسها المستنكر:
_ما هذه الندبة البشعة؟!
انتفض جسده وهو يبتعد بوجهه عنها هاتفاً بغضب لم يتحكم به:
_لا تلمسيها!
ابتعدت عنه بارتباك وهي تغمغم بنبرة اعتذار:
_آسفة يا فهد…لم أكن أظنها تؤلم.
ضم قبضتيه بقوة جواره وهو يهمس بجمود رغم انكسار نظراته:
_نعم تؤلم…
ليردف بعدها بوجع صادق:
_جداً!
فابتسمت بإشفاق وهي تربت على كتفه قائلة باهتمام:
_ألن تعالجها قبل حفل الزفاف؟!!لن يكون لطيفاً أن تظهر في الصور!!
أخذ نفساً عميقاً ثم رفع رأسه لأعلى مع زفرة حارة قبل أن يقول بنبرة مختنقة منهياً هذا الحوار :
_ليتَ لها علاج!!
=============
كانت تسير في الطريق بشرود تحاول استكشاف المدينة لكن عينيها كانتا غائمتين لا تكادان تبصران المرئيات حولها…
منذ انتقلت للعيش في هذه المدينة البعيدة منذ أيام وهي تشعر أنها فاقدة للتوازن…
بهذه البساطة انتهت قصتها معه برسالتين على الهاتف…وكلمة طلاق!!!
وكأن ما بينهما كان مجرد قطع ورق ممزقة…فما ذنب الريح لو نثرتها ؟!!!
تنهدت بحرارة وهي تتحسس خاتمه الماسي في إصبعها…
لتبتسم بسخرية وهي تتذكر دبلة حسن قبلها…
هل كتب عليها القدر ألا ينالها من حبها يوماً سوى مجرد ذكريات؟!!!!
وبرغم كل هذا هي لا تلوم فهد…بل تعذر خوفه -المرضي-عليها…
بل إن قلبها يكاد يقسم أنه يعاني مثلها وأكثر…
لكن ما حيلتها ها هنا وهو اختار الاستسلام؟!!!
أو ربما هو الاختيار “الواقعيّ” وما دونه هو افتراضاتٌ مثالية تليق ب”يوتوبيا الأحلام” فقط!!!
انقطعت أفكارها عندما توقف بصرها عند أحد محلات بيع العصافير ليلفت نظرها قفصٌ صغير حوى عصفورين أحدهما أصفر والآخر أزرق…
دمعت عيناها باشتياق جارف وهي تتذكر عبارته لها والتي بدت وكأنها كانت منذ زمن سحيق:
_حقاً يليق بكِ الأزرق…الآن أدرك لماذا تعشقينه…لأنه لون الراحة…لون السكينة…لون السحر الغامض المسيطر الذي يتملك القلوب دون استئذان…
فخفق قلبها بجنون وجسدها كله يرتجف بانفعالها في هذه اللحظة…
لكنها تمالكت قوتها بعد قليل وهي تهمس لنفسها بحزم:
_كان ماضياً يا جنة…حلماً أروع من أن يصير حقيقة…ربما خسرتِه أنت لكنكِ لم تخسري نفسكِ بعد.
ثم تنهدت بحرارة وهي تتقدم نحو المحل لتشتري العصفورين…
قبل أن تعود لمنزلها البسيط فتضعهما في شرفته ….
ثم وقفت أمامهما تتأملهما بحنان قبل أن تهمس وكأنها تحدثهما:
_أنتما الآن صديقايَ الوحيدان…سأسميكما فهد وجنة…لكنني لن أفرق بينكما أبداً…!!
تهدج صوتها ببكائها عند جملتها الأخيرة ….فاستسلمت له للحظات…
قبل أن تمسح وجهها لتردف بابتسامة مصطنعة:
_لا …لا يليق أبداً أن نبدأ لقاءنا ببكاء…تناولا طعاميكما أولاً.
قالتها وهي تضع لهما طعامهما في مكانه المخصص لتنطلق زقزقتهما عالية …
فابتسمت ابتسامة شاحبة وهي تراقبهما بنظرة طويلة حزينة قبل أن تدلف إلى الداخل لتستلقي على الأريكة باسترخاء تحاول التفكير في مستقبلها هنا…
إنها بصدد إنشاء مكتب جديد…
والنقود التي حصلت عليها من بيع قطعة الأرض خاصتها وشقيقتيها جاءت في الوقت المناسب…
على الأقل هي مؤمنةٌ مالياً الآن …والغد يحمل لها طريقاً كانت قد نسيته لكنها ستعود إليه الآن…
لكن أفكارها انسحبت رغماً عنها إلى فهد…
ترى كيف هو الآن؟!!
هل يعود بعد فراقهما لنزواته وعلاقاته؟!!!
هل يستسلم لأبيه فيسير تحت كنفه حتى يصير نسخةً منه؟!!
هل لا يزال يحافظ على صلواته واستقامته كما صار مؤخراً؟!!
أم أن كل هذا كان مرتبطاً بها هي والآن هو نسيها ونسي كل شئ؟!!!
سمعت صوت الأذان فتنهدت بحرارة…
ثم قامت لتؤدي صلاة العصر قبل أن تهوي بجبينها إلى الأرض تدعو بخشوع:
_اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس…أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟!! إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريبٍ ملكته أمري؟!!إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي…
ظلت تكرر جملتها الأخيرة حتي ارتعش صوتها ببكائها وهي تشعر بهوان نفسها…
ثم تمالكت بعض قوتها وصورته الآن تملأ قلبها لتردف برجاء:
_اللهم كما رزقتني حبه فاحفظه وثبت قلبه على التوبة ….ولو لم يكن معي.
================
_معتصم يبلغك السلام!
قالتها زميلتها التي شغلت مكتبه المجاور لها بعد سفره …
فالتفتت نحوها دعاء بحدة وهي تغمغم بتوتر:
_سلمه الله!!!كيف تحدثتما؟!
ابتسمت زميلتها بعفوية وهي تكمل عملها في أوراقها لتقول ببساطة:
_عبر “الانترنت”…وجدت حسابه مصادفة على “الفيسبوك” وفرحت جداً عندما اطمأننت أنه استقر أخيراً في عمله الجديد…معتصم”ابن حلال” ويستحق كل خير.
شعرت دعاء بضيق غامض وهي تتبين بحدس الأنثى إعجاب زميلتها هذه به…
لكنها نفضت عنها هذا الشعور بسرعة…ما شأنها هي به أو بغيره الآن؟!!!
قصتهما انتهت…
قصتهما؟!!!
وهل كان لهما -أساساً- قصة؟!!!
زفرت بقوة وهي تتظاهر بالانشغال في عملها هي الأخرى بينما استأنفت زميلتها ثرثرتها بانطلاق:
_لقد سألني عن الجميع هنا….هو يفتقدنا كلنا….وفرح كثيراً عندما علم عن موعد زفافك القريب وطلب مني أن أبلغكِ مباركته.
أغمضت دعاء عينيها على نظراتها المتألمة وهي تحاول التشبث بأسوار مقاومتها الجديدة…
هي لن تعود لدوامة الحيرة هذه من جديد…
هي ستكمل طريقها مع حسام ولن تنظر للخلف بعد…
ما عاد هناك مجالٌ للرجوع…هو آخر محطات قطارها كما أخبرته يوماً!!!
ولم تكد تتم فكرتها حتى وجدته هو نفسه يدخل من باب مكتبها متوجهاً نحوها بخطوات ثابتة كعادته…
لكن ابتسامته “الأنيقة” عاودت شغل “وظيفتها” على شفتيه عندما لمح زميلتها تراقبه بشئ من الإعجاب…
فتقدم نحو دعاء ليلتقط كفها بين راحتيه ببرود “ظاهره الحرارة” قبل أن يقول بتكلف:
_افتقدتكِ حبيبتي.
توردت وجنتا زميلتها بخجل وهي تعض على شفتها قبل أن تنسحب باستئذان سريع من المكان…
بينما كانت دعاء نفسها أكثر برودة من تمثال رخامي وهي تتلقى نظراته الساخرة بعدها مع قوله:
_أعجبك تمثيلي؟!
رفعت إليه عينيها اللتين صار- هو -يخشاهما مؤخراً بقوتهما الجديدة وهي تهمس بصوت واثق رغم حزنه:
_ليس تمثيلاً يا “سيادة الرائد”…بل انتفاضة طير ذبيح…”حلاوة روح” كما يقولون!!!
انعقد حاجباه بغضب أشعل ملامحه وهو يكز على أسنانه هامساً بقسوة:
_استمري في حديثك بهذه الطريقة وسأقطع لسانكِ هذا يوماً.
اغتصبت ابتسامة ساخرة نافست ابتسامته السابقة وهي تعاود النظر لأوراقها قائلة:
_لماذا جئت؟!
لم يرد عليها وهو يجلس أمامها ليتأملها بمزيج هائل من مشاعره المتطرفة الآن…
هو لم يعد يراها “دعاء” تلك الفتاة المريضة بظروفها -المثالية- لوضعه الجديد…
بل يراها _مسخاً مشوهاً- لصورته هو “الخائنة”…!!!
يرى فيها كل “عورات” نقصه هو لهذا يكرهها في كل ساعة…بل في كل لحظة أكثر وأكثر!!!
لكن شعوره الجديد بها يؤرقه…
عندما يسمعها تتحدث بهذه الطريقة الواثقة وهذه القوة المشعة تكسو ملامحها لا يراها صورة من “نفسه” بل من “طيفه القديم”…
نعم…معضلته الحقيقية معها الآن أن صورتها بعينيه تتبدل ك”الحرباء”.
فتارة يراها خائنة مستغلة كصورته القديمة….
وتارة يراها قوية متمردة واثقة ك”طيف”…!!!!
تارة يراها تتوارى خلف ستار أسود من طمع واستغلال…
وتارة يراها خلف غلالات رائقة من كفاح أنثى ضعيفة قررت المقاومة…!!!!
ولو كان منصفاً لأدرك أنه حتى الآن لم يرَ “دعاء الحقيقية”…
هي حتى الآن مجرد “إسقاطات” لعقده القديمة فحسب…
وإن كان يتظاهر بالقسوة والقوة في مواجهتها فهو -مثلها- يخشى نهاية هذا الطريق!!!
لهذا أطلق زفرة مشتعلة وهو يجيب أخيراً على تساؤلها:
_الزفاف بعد يومين ولم نشترِ الثوب بعد…أنجزي ما بيديكِ بسرعة لنذهب لشرائه.
اتسعت ابتسامتها الساخرة وهي تهز كتفيها بلا مبالاة حقيقي مستأنفةً ما كانت تقوم به…
فعاد بظهره إلى الوراء مغمضاً عينيه عندما راودته إحدى ذكرياته مع “طيفه القديم”…
_هذه لكِ!!!
شهقت بحدة وهي تجده واقفاً خلفها في الشرفة بينما كانت تقوم ب”نشر الغسيل” …
فالتفتت نحوه لتتطلع نحو الكتب التي كان يرفعها الآن نحوها وهو يقول بخبث:
_هل ستكون هذه دوماً ردة فعلك كلما رأيتني؟!!
أشاحت بوجهها دون رد فغمغم بما يشبه الاعتذار:
_أعدكِ بشرفي ألا أضايقك بعد!!
كان هذا أول لقاء لهما بعد لقائهما الأخير على سطح البيت فرمقته بنظرة متفحصة خبيرة غريبة على سنها الصغير …
ليبتسم ابتسامة حقيقية وهو يقرب الكتب نحوها أكثر:
_النبي قَبِل الهدية!!
لكنها لم تبتسم بل ظلت على تأملها المتفحص له ….
لا لم يكن تأمل جرأة ولا عبث…
بل تأمُل استكشاف شعر هو به وكأنها تقرأ بعينيها -المتمردتين-خبيئة نفسه….
خاصة عندما قالت هي بعدها بنبرة جافة:
_ماذا تريد بالضبط يا سيدي؟!!أنا لست للتسلية وأظن أن مظهري خير دليل على هذا.
فاتسعت ابتسامته وهو يقول باحترام لم يكن يدعيه:
_لا لستِ للتسلية …أنا فقط أردت الاعتذار لكِ بطريقة عملية.
ضاقت عيناها بتفحص أكثر ثم بدا عليها الاطمئنان وهي تتناول منه الكتب لتقرأ عناوينها بلهفة…
قبل أن تغمغم بجدية:
_مجموعة مميزة حقاً…شكراً يا سيدي…لكنني سأدفع ثمنها من راتبي.
بدا على وجهه الاعتراض لكنها عادت تدفعها نحوه لتهتف بتحفز:
_وإلا لن آخذها.
ساعتها ضحك هو قائلاً بمرح:
_هل أنتِ دوماً عصبية المزاج هكذا؟!!تكشيرتك هذه ستلتصق بملامحك!!
كتمت ابتسامتها قسراً وهي تشيح بوجهها لكنه أدرك بعدها أنها سامحته…
وقد كان هذا الموقف بداية قصتهما بعدها…
قصة ربما لم تكن غريبة في تفاصيلها لكنها كانت ثرية بمشاعرهما معاً…
هو الذي رأى فيها نوعاً مختلفاً عما عرفه من النساء بقوة شخصيتها وعزيمة كفاحها لتحقيق ذاتها…
وهي التي رأته سندها الوحيد في هذا العالم الذي بدا وكأنه يقف كله ضد حقوقها وطموحاتها…
أفاق من سيل ذكرياته على رنة هاتفه برقم صاحب المحل الذي سيقصده لشراء ثوب الزفاف فأجابه ….
وأمامه كانت هي تستمع لمكالمته بفتور…
زفاف؟!!!حفلٌ؟!!ثوب؟!!
عبث!!!
كل هذا عبث!!!
لكن لا بأس…الدمية المعيبة ستنال أخيراً فرصتها…
“سندريللا” زهيدة القيمة ستتزوج “الأمير” في حفل ضخم ولا يهمها إن عاد كل شئ لطبيعته بعد منتصف الليل!!!!
المهم أنها أرضت ظمأ شعورها بالزهو أمام كل من انتقصوا من قيمتها يوماً…
وأولهم…والداها!!!
وليكن بعدها ما يكون!!!
لكن أفكارها -المتخبطة- انقطعت بسؤاله الساخر لها بعدما أنهى مكالمته:
_أين زميلك “العاشق”؟!!هل ترك العمل بعدما صدمتِه بغدرك؟!!
اشتعلت عيناها بغضب أثار فيه عواصف مشاعره نحوها من جديد…
واستفز تحديه أكثر فأردف بنبرة مستهزئة:
_خسر عمله لأجل واحدة مثلك؟!!
احتقن وجهها بحمرة داكنة وانفرجت شفتاها فتوقع منها صراخاً يرضي زهوة انتقامه…
لكنها همست ببطء ضاغطة على حروفها التي بدت كنصال سامة:
_هو خسر عمله لكنها “هي” خسرت حياتها…فأيّ ذنبينا أعظم يا “سيادة الرائد”؟!!!
اتسعت عيناه بصدمة لدقيقة كاملة وهو يراها بكلمات بسيطة تعرّي كل سوءات ماضيه …
بينما شعرت هي بمزيج متناقض من الندم والتشفي…!!!
لكنه لم يترك لها مجالاً للمزيد من المشاعر عندما وقف فجأة ليجذبها بعنف من ياقة قميصها وعيناه تكادان تقذفان شرارات من لهب وهو يهمس بأنفاس حارقة أمام وجهها:
_لو ذكرتِ هذا الأمر ثانية فلا تلومي إلا نفسك…لا تفتحي باب جحيم ستحترقين به حية!!!
اختنقت أنفاسها بخوف حقيقي وهي تغمض عينيها بقوة عن شياطين الغضب التي كانت تتقافز على وجهه…
لهذا كانت صدمتها بالغة عندما فوجئت به بعدها بلحظة واحدة يعدل لها ثيابها قبل أن تستعيد ملامحه برودتها القاسية وكأنها لم تستعر بالغضب -لتوها- وهو يهمس بحزم:
_والآن هيا لنشتري ثوبكِ…
ثم التوت شفتاه بمزيج احتقار وسخرية مع كلمته بعدها:
_يا عروسي!
وبعدها بقليل كانت تقف معه في المحل ليمنحهما الرجل الثوب الذي اختاره “سيادة الرائد ” على ذوقه دون أخذ رأيها كالمعتاد…
فتوجه بها نحو إحدى الغرف الداخلية ليقول بلهجة آمرة:
_جربيه كي أراه عليكِ أولاً…لا أريد أي مفاجآت.
لكن العاملة هناك تنحنحت بارتباك وهي تتقدم منهما مغمغة بحرج:
_عفواً يا سيدي…لكنهم دوماً يقولون أن رؤية العريس لعروسه بثوب الزفاف نذير شؤم.
زجرها حسام بعبارة ساخطة فهرولت مبتعدة عنهما باعتذار مرتبك…
بينما ابتسمت دعاء بسخرية وهي تفكر…
نذير شؤم؟!!
علاقتنا كلها نذير شؤم يا سيادة الرائد …
لكنها فرصتي الأخيرة لرفع رأسي أمام الجميع…
الثمن الذي سأتلقاه مقابل عمري القادم معك….
والذي سأستمتع بارتشاف شهده كله….كما سأتجرع علقمه كله!!!
وبهذا الإصرار توجهت للغرفة لتغلق ستارتها بحزم قبل أن ترتدي الثوب الذي بدا على قدر كبير من الفخامة….
ورغم ضيقها -الطبيعي -من اختياره للثوب دون أخذ رأيها لكن هذا لم يقلل من تقييمها له…
لقد كان تحفة فنية على أقل تقدير…!!!
بتصميمه الأنيق رغم بساطته والذي لاءم جسدها -الممتلئ-نوعاً ليظهره بشكل رائع….
وماساته التي تناثرت بندرة على صدره…ومع هذا لم تفقد سحر تأثيرها الأخاذ…
تأملت نفسها في المرآة للحظات بمزيج من الإعجاب والأسى…
عندما شعرت به خلفها يزيح الستار ويرمقها بنظرات عميقة لم تفهمها…!!!!
بينما كان هو يتأملها غارقاً في تفاصيل الثوب أكثر من تفاصيلها هي…
هذا هو الثوب الذي رسمته طيف على أوراقها يوماً…
وتمنيا معاً أن ترتديه له هو!!!
لازال يذكر ارتجافة أناملها على الورقة واحمرار وجنتيها وهي تراقب رد فعله على رسمها…
تلك الورقة التي احتفظ بها طوال هذه المدة ولم يستطع مقاومة تحقيق حلمه ب”الثوب” رغم أنه فقد “العروس”!!!
لهذا طلب صنعه خصيصاً كما رسمته “طيف” دونما اكتراث ل”من” سترتديه!!!
لم يكن يظنه سيكون بهذه الروعة والسحر لا يكاد ينقصه سو?
جلست جواره على منصة العرس تتأمل وجوه المدعوين بنَهَم…!!!!
نعم…أول عروس تعرفها لا يغزو ملامحها ارتباك ولا يخضب وجهها خجل!!!!
بل كانت نظراتها نحو الجميع طامعة…جائعة…
فقيرةً تتسول إعجاباً وتقديراً…أو حتى حسداً!!!
لا يهم!!!
ما يعنيها الآن هو أن “ترقع” ثوب أنوثتها المثقوب بمرضها المخزي…
وأن تستمتع بتلقي الثمن الذي لأجله قبلت هذه الصفقة!!!
ثم انتقلت نظراتها تلقائياً لوالديها اللذين وقفا هناك يستقبلان الضيوف بزهو …
وكأنهما مثلها- يرقعان – ثوب عجزهما وصبرهما لسنوات على ابتلاء لم يكن لهما ذنب فيه!!
لتبتسم أخيراً فيما يشبه الانتصار وهي تلاحظ نظرات الفتيات بالذات نحو حسام جوارها والذي بدا في بدلته الأنيقة ووسامته المفرطة كنجم سينمائي…
أخيراً تحققت الصورة التي طالما حلمت بها منذ الصغر…
هي بثوب زفافها الأبيض جوار الأمير الوسيم…
ولا يعنيها الآن أن “الأمير” سيتحول ل”وحش” آخر الليلة بعد انصراف الجميع…!!!
فقد تلقت المقابل باهظاً من نظرات الحضور ورضا والديها …ومن الإنصاف أن تدفع الثمن!!!
وجوارها كان حسام -على العكس-غافلاً عن كل ما حوله…
ابتسامته الأنيقة الباردة أدت دورها بإتقان على ملامحه فيما كان قلبه غارقاً بذكرياته ….
_كم افتقدتك يا طيف!!
همس بها بحرارة وهو يقف أمامها ببيتها الجديد الذي انتقلت إليه بعدما تركت العمل لديهم بأمر والدته التي لاحظت ما بينهما ورأت ابتعادها أسلم حل…
فأطرقت برأسها وهي تهمس بنبرة قوية رغم حزنها:
_لا يليق أن تقف هكذا…الجيران يعلمون أنني أقيم وحدي…ارحل يا..سيدي!!
تهدج صوتها في كلمتها الأخيرة …فانعقد حاجباه وهو يغمغم بعتاب:
_سيدي؟!!هل عدتِ تنادينني هكذا؟!!
حافظت على إطراقها الصامت للحظات ثم همست ببرود كان هو يعلم حقاً ما تخفيه وراءه:
_المقامات محفوظة يا “حضرة الضابط”.
أمسك مرفقها بقوة وهو يهتف بانفعال:
_أنا تفاجأت مثلك بتصرف أمي…صدقيني لو كنت موجوداً …
رفعت رأسها إليه أخيراً بعينيها القويتين لتقول بصلابة:
_ماذا كنت ستفعل؟!!
تلجم لسانه للحظات فيما أردفت هي بحدة أكبر:
_هل تعرف من أنا يا سيدي؟!!هل تتذكر شيئاً عن ماضيّ؟!!!هل تظنني أكرر خطأ والدتي؟!!هل تعتبرني حقاً بهذه الحماقة؟!!
هز مرفقها بعنف وهو يهتف بدوره:
_وأنا لست بهذه النذالة كي أتخلى عنكِ …سأقف جوارك حتى تأخذي حقكِ من أخيكِ…وبعدها سنتزوج.
نزعت مرفقها منه لتهتف بصرامة:
_ولو لم نستطع أخذ حقي؟!هل تعلم أمام مَن سنقف؟!!عاصي الرفاعي بنفسه!!!!
كسا التردد وجهه للحظات كانت أكثر من كافية لها لتردف بتحدٍ :
_لو أردت الزواج مني بظروفي الحالية فافعلها أمام الجميع ولا تنتظر معجزة السماء…وإلا فاذهب لمن تليق بمقامك يا “حضرة الضابط”!
قالتها ثم أغلقت الباب في وجهه بحزم تاركةً إياه غارقاً في حيرته…
لم يكن يعلم وقتها أن هذه ستكون آخر مرة يراها فيها …وأنه سيذهب حقاً لمن تليق بمقامه…
يسرا الصباحي …
والدها كان رئيسه في العمل وقد لمح له برغبته في تزويجه من ابنته…
مع “وعود مستترة” ب”مستقبل مضمون” !!!
ومع جمال “العروس” ومواصفاتها القياسية كان الإغراء أكبر كثيراً من تحمله…
من توسلات قلبه الصارخة بحبه ل”طيفه “والتي خفت صوتها تدريجياً حتى اختفى تماماً وهو يقبل الصفقة بعقلٍ راضٍ!!!
انقطعت أفكاره عندما لمحهما يدخلان من باب القاعة …
عاصي الرفاعي جوار زوجته…
فانعقد حاجباه بغضب وكفاه يتشبثان بمقبضي مقعده وهو يرمق عاصي بنظرات مشتعلة…
بينما كانت ملامح عاصي جامدة تماماً وهو يمسك كف ماسة متوجهاً نحوه بخطواته المهيبة أمام نظرات الحضور التي مزجت دهشتها بفضولها…
هذه هي المرة الأولى التي يحضر فيها عاصي الرفاعي أحد الأعراس هنا…
لكن البعض عزا هذا لمكانة حسام المميزة ..
وبعضهم تغامز أنه تأثير زوجته “اللعوب” الجديدة التي أدارت رأسه فهي صديقة للعروس كما يبدو!!!
وقف عاصي أخيراً مع ماسة أمام حسام ودعاء التي قامت من مكانها بسرعة لتحتضن ماسة هامسة جوار أذنها:
_حبيبتي!!!شكراً لحضورك…كنت أحتاج دعمكِ حقاً.
فضمتها ماسة بقوة لتهمس هي الأخرى بحزم في أذنها:
_لم أكن لأترككِ في ليلة كهذه…كوني قوية للنهاية…قوتك ستنقذكما معاً أنتِ وهو…لو ضعفتِ سيغرق كلاكما…أكملي الطريق الذي اخترتِه للنهاية.
بينما وقف حسام في مواجهة عاصي وقد فضحت عيناه عداءً قرأه عاصي بخبرته …
لكن نظراته حافظت على جمودها وهو يقول بصوته المهيب:
_مبارك!
فتمالك حسام نفسه أخيراً بصعوبة ليمد نحوه كفه مصافحاً ببرود:
_حضورك شرفٌ لنا سيد عاصي.
صافحه عاصي ببرود مشابه وهو يتفحص ملامحه بقوة…
قبل أن يلتفت نحو دعاء بمباركة خافتة …
ثم نظر لماسة نظرة خاصة فتنحنحت بحرج قبل أن تصافح دعاء بحرارة قائلة بحنان:
_مبارك زواجك حبيبتي…عفواً لن نستطيع البقاء أطول!
قالتها ثم رمقت حسام بنظرة متفحصة وكأنها تقرأ دواخله لكنه بدا مشغولاً عنها بنظراته السوداء نحو عاصي الذي جذبها برفق ليغادر معها المكان…
وبينما هما في طريقهما للخروج فوجئت بأحدهم يصطدم بها عفوياً..
فرمقه عاصي بنظرة غاضبة وهو يجذب ماسة نحوه عندما غمغم الآخر باعتذار متحفظ:
_عفواً يا سيدتي!
أومأت له ماسة بإشارة تفهم وهي تغادر مع عاصي…
فابتسم الشخص- الذي كان هو فهد-وهو يسترجع لون عينيها الفضي والذي ذكره بأخته المفقودة…
ثم تنهد بحرارة وهو يدعو الله سراً أن ينجح في العثور عليها ….!!
تقدم بدوره إلى حسام ليقف بجانبه ويربت على كتفه وهو يراقب شروده بنظرات متفهمة…
قبل أن تنسحب أفكاره لزفافه الذي اقترب هو الآخر…
زفاف…برتبة إعدام!!!
===========
انتهى حفل الزفاف بعد وقت قصير…
لتخفت الأضواء وتتباعد الأصوات وينفض الجمع وتجد نفسها معه وحدهما في غرفتهما…
فأغمضت عينيها باستسلام تنتظر مبادرته …عندما التفت نحوها ليهتف بخشونة:
_هل ستقفين هكذا؟!!ساعديني في تبديل ملابسي.
ظهرت الصدمة على ملامحها للحظة بينما أمسك هو مرفقها بقسوة ليردف:
_لماذا تبدين مصدومة هكذا؟!!!ماذا تنتظرين إذن؟!!أن أخلع عنكِ ثوبك لأبدي انبهاري بجمال الملاك الذي تزوجته؟!!!
حاولت الحفاظ على برود ملامحها مستدعية كل قوتها لكنها شهقت بعنف عندما فاجأها بأن شد سحاب ثوبها بعنف ليخلعه عنها بخشونة فيسقط تحت قدميها وهو يكمل هتافه الحاد:
_أنتِ هنا مجرد خادمة بالنهار وجارية بالليل…لا تطمعي في أكثر من هذا.
كان جسدها يرتجف رغماً عنها لكنها بذلت مجهوداً خرافياً لتحافظ على ثبات نظراتها وهي تغمغم ببرود:
_هل انتهيت؟!
استفزه برودها أكثر خاصةً عندما تجاوزت ثوبها لتدهسه تحت قدميها بقوة وهي تقول بنفس البرود:
_دوره انتهى…أنا أخذت نصيبي من هذه الصفقة وراضيةٌ به…وبقي أن أدفع الثمن.
اشتعلت ملامحه بغيظها وهو يدفعها من أمامها بقسوة قبل أن يتوجه نحو حمام الغرفة الصغير صافقاً بابه خلفه…
خلع ملابسه بعنف ليلقيها أرضاً ثم فتح الماء بكامل برودته ليقف تحته وهو يكتم آهة جاهدت لتغادر صدره…
هذه المرأة ستثير جنونه…
لماذا تغير وجهها الضعيف المستغل ليحمل هذه القوة المتمردة؟!!!
لماذا تنخلع من ثوب يرى فيه “ذنبه” لترتدي آخر يرى فيه “حبه”؟!!
لماذا تضغط على كل نقاط ضعفه لتعيد نكأ جروح أمسه؟!!
أم أنه هو الذي صار أسير مرايا ماضيه فما عاد يبصر إلا من خلالها؟!!!
وفي الخارج بدلت هي ثيابها بأخرى مريحة لا تلائم إطلاقاً ليلة زفاف…
وعقصت شعرها خلف رأسها بلا اكتراث بعدما مسحت زينة وجهها كاملة….
ثم راودتها نفسها أن تلقي نظرة على شكلها في المرآة لكنها لم تهتم…
بماذا سيفيد هذا الآن…؟!!!
هي وقعت حكم الإعدام على أنوثتها بهذه الزيجة…
لكنها لن تستسلم لضعف انكسارها أمامه…!!
كانت هذه آخر أفكارها قبل أن تستلقي على الفراش وهي تتطلع لسقف الغرفة بشرود وكأنها جثة بلا روح…
حتى سمعت صوت باب الحمام يفتح قبل أن يخرج هو منه ليستلقي على الفراش جوارها…
تجمدت أنفاسها بترقب لكنها حافظت على ثبات ملامحها بينما أعطاها هو ظهره ليغلق المصباح الصغير جواره…
فعمّ الظلام الغرفة كما عم قلبيهما معاً وكلاهما يبيت هذه الليلة غارقاً في سواد أفكاره…
نعم كلاهما كان أقرب ما يكون لصاحبه…وأبعد ما يكون عنه!!
=========
عادت إلى منزلها قرب المغرب هي تشعر ببعض السعادة لأول مرة منذ افتراقها عن فهد…
لقد وجدت مكاناً مناسباً لتفتتح مكتبها الجديد هنا بعد ما كادت تموت مللاً من أيامها الطويلة التي قضتها هنا…
ورغم أنها لم تكمل شهراً واحداً على رحيلها عن العاصمة لكنها كانت تشعر وكأنه عمرٌ آخر من اشتياق وألم!!
لكنها لن تستسلم لهذا الشعور بعد…
ستمضي في حياتها لرسالتها التي نذرت نفسها لها منذ زمن…
مساعدة كل مظلوم حتى تعيد إليه حقه…
وقفت أمام مرآتها ثم ابتسمت بفتور وهي ترفع إصبعها الذي لازال يحمل خاتمه الماسي لتهمس بحسرة:
_لقد عادت “الأستاذة” لعالمها ….فهل عدتَ أنت “ابن الصاوي” أم لازلت “فهد”؟!!
قالتها ثم احتضنت جسدها بذراعيها بقوة لتتأوه بخفوت قبل أن تردف بألم:
_افتقدت حضنك يا فهد…أنت وعدتني ألا تتركني …فلماذا فعلتها…لن أسامحك…لن أسامحك أبداً…
قالتها ثم غلبتها دموعها للحظات…
قبل أن تكمل همسها الموجع:
_بل أسامحك…أعلم أنك فعلتها لأجلي…لكن ماذا أفعل في اشتياقي؟!!..أنت أخرجتني من قبور الماضي لتبني لي قصراً من عشقك…أدمنتك حد الموت والآن كيف أنزع حبك من ضلوعي وقد تشربت به خلاياي كلها…حبك يشبهك يا فهد…حنون وموجع…قويٌ وهش…موتٌ وحياة!!!
ثم هزت رأسها بيأس لتمسح دموعها …
قبل أن تبدل ملابسها لتتناول دواءها قبل الطعام وهي تبتسم بحنين مسترجعة مذاق أنامله على شفتيها في كل مرة كان يصر أن يعطيه لها بنفسه…
ثم همست لنفسها بلوعة:
_هل كان حباً حقاً ؟!!أم أننا كنا نتوهم؟!!هل عشقني فهد؟!!أم أن ابن الصاوي أجاد الانتقام؟!!
وساعتها اجتاحتها ذكرى بعيدة لهما وهو يراقصها في بيتهما مجيباً على تساؤل شبيه:
_ما بيننا ليس حباً ولا انتقاماً…ما بيننا حياة دونها الموت!!
فسالت دموعها على خديها وهي تعاود همسها لنفسها:
_حياة دونها الموت…وأيّ موت!!!
سمعت زقزقة العصفورين في هذه اللحظة فقامت من مكانها لتتوجه نحوهما ….
تأملتهما بحنان ممتزج بحسرتها قبل أن تهمس بابتسامة كسيرة:
_استمتعا بكل لحظة تقضيانها معاً…فلا أحد يعلم ما يحمله الغد…هل تعلمان؟!!كنت يوماً ما سعيدة مثلكما…كان لي حبيب يخاف عليّ من خدش النسيم…لا…ليس واحداً بل اثنين…الأول افتداني بعمره…والثاني افتداني بحبه…محظوظةٌ أنا!!
قالتها ثم ضحكت ضحكة مختنقة لم تلبث أن تحولت لدمعاتٍ حارة…
قبل أن تتلفت حولها هامسة :
_أنتِ على وشك الجنون يا أستاذة!!!تحدثين نفسك والعصافير!!!
ثم مسحت دموعها وهي تردف في محاولة أخيرة للتماسك:
_كوب من القهوة وقطعة كبيرة من الشيكولاتة و”فيلم كوميدي”أكثر من كافية لتبديل مزاجك…الحياة لا تتوقف مادام في الصدر نفَسٌ يتردد.
قالتها وهي تعاود الدخول من الشرفة لتعد لنفسها ما وعدتها به…
قبل أن تستلقي على فراشها لتتناول حاسوبها المحمول وترفعه على ركبتيها…
تلاعبت أناملها بالأزرار تحاول البحث عن محتويً مناسب …
لكنها تلكأت قليلاً وهي تفتح أحد المواقع الإخبارية وكأنها تتلمس ولو خبراً بعيداً عنه…
ولم تخيب الأقدار رجاءها بالخبر الذي ذبحها ذبحاً:
_عرس السحاب…زفاف ابن جاسم الصاوي رجل الأعمال الشهير وابنة رفعت الصباحي الليلة .
=========
تجمدت أناملها على الأزرار وعيناها تتابعان بعض الصور التي أرفقت مع الخبر لفهد ويسرا…
اقتربت بوجهها من الشاشة وهي تكذب عينيها للحظات…
قبل أن تتمتم بصدمة :
_كذب!!كذب!!!إشاعات!!!إشاعات!!!فهد لن يفعلها…لن ي..
انتهت جملتها بصرختها الطويلة وهي تنتفض من مكانها لتخبط حاسوبها بالحائط قبل أن تعاود صراخها بانهيار:
_لا يا فهد!!!إلا هذا!!!!لن أسامحك فيه أبداً!!!
قالتها وهي تعاود خبط حاسوبها في الحائط عدة مرات دون وعي حتى تهشم تماماً…
لكن صرخاتها لم تتوقف حتى بح صوتها تماماً مع انهيار قوتها أخيراً فتهاوت على الأرض وهي تضع كفها على صدرها هامسة بذهول :
_بهذه السرعة؟!!بهذه البساطة؟!!
ثم تلفتت حولها وكأنها تبحث عن شئ وهمي لتردف بألم:
_بعت نفسي بلا ثمن!!!
آهة طويلة حارقة انطلقت من حلقها بعدها قبل أن تنكفئ على وجهها على الأرض مسندة جبينها على ساعدهاوهي تبكي بانهيار…
وجسدها كله ينتفض بلوعته ويأسه…
الليلة تكون له زوجة سواها…؟!!!
زوجة ستحتل مكان أنفاسها على صدره؟!
تبدأ صباحها بهمساته وربما يخصها مثلها بعبارته…تحتاجينني وأحتاجك أكثر؟!!
لكن…هل احتاجها فهد حقاً أم كانت مجرد محطة في حياته؟!!
تجربة جديدة وجذابة لكنها لم تستحق عناء الحرب لأجلها!!!
هو الذي كان يزعم أنها لديه كل النساء!!!!
هو الذي أقسم لها يوماً وكفها على صدره أنه حتى تزهق آخر أنفاسه لا يفارق ولا يخون!!!
هو الذي كان منذ أيام فقط يضمها لصدره ويحلم بطفلتهما؟!!!
هل نسي بهذه السهولة؟!!
أم أنها كانت تتوهم حباً كان أضعف من أن يقاوِم ويثبت؟!!!
ظلت على حالها بعدها لساعات منكفئة على وجهها على الأرض لا يكاد يقطع الصمت حولها سوى صوت نحيبها ودقات الساعة الرتيبة التي كانت تذكرها بعمرٍ سيمضي بها دونه…
ويمضي به مع أخرى سواها…
أخرى أعلنها الآن أمام الناس زوجته بينما كانت هي رفيقة الظلام التي انتهى دورها في حياته بكلمة!!!
كلمة طلاق!!!
وبئست المقارنة!!!
=================
وقف يراقصها على منصة العرس أمام حشد من نجوم المجتمع اعتاد وجوده مؤخراً…
وبينما بدت هي وكأنها أمسكت السماء بين كفيها بسعادتها التي صبغت ملامحها الفاتنة…
بدا هو غارقاً بشروده الحائر فاقتربت من أذنه بشفتيها هامسة بدلال:
_فيمَ كل هذا الشرود؟!
ابتسم ابتسامة شاحبة وهو يغمغم بمواربة:
_فيكِ بالطبع!
ابتسمت برقة وهي تسند رأسها على صدره فأردف بشرود:
_هذه الليلة بالذات لا يجوز أن أفكر بشئ سواكِ.
ورغم أنها لم تكن الزيجة الأولى لها…
ورغم أن الخجل الشديد لم يكن يوماً من صفاتها…
لكن كلماته داعبت وتراً خاصاً في قيثارة أنوثتها جعلها ترتجف حقيقة بين ذراعيه…
ثم رفعت عينيها إليه محافظة على رشاقة خطواتها الراقصة لتهمس برقة:
_أريد أن أنسى بك العالم يا فهد…أريد أن أمضي العمر كله معك.
أغمض عينيه بقوة يخفي عنها حديثهما وقلبه يكاد يتصدع باشتياقه لأخرى يتمنى لو كانت هي التي بين ذراعيه الآن…
بينما عادت هي تهمس باستفاضة وقد شعرت بحاجتها لهذا الحديث:
_لا أدري كيف شعرت هكذا بالاطمئنان نحوك في هذه الفترة القصيرة …رغم أن تربية أبي تدفعني دوماً للشك في الآخرين بحكم طبيعة عمله…لكنني معك بالذات أشعر براحة غريبة…وكأنني أعرفك منذ زمن بعيد.
مط شفتيه باستياء وحديثها يوخز قلبه بشعور ليس في موضعه الآن ليهمس ببرود:
_أنتِ فعلاً تعرفينني منذ زمن بعيد.
انعقد حاجباها بضيق وهي تفهم تلميحه عن زواجها السابق فتوقفت عن الرقص فجأة لتهمس بتحفز وقد تسارعت أنفاسها :
_ألم تخبرني قبلاً أنك لا تحب أن نذكر هذا الأمر بيننا؟!!هل ستبقى تعيرني بهذا الشأن؟!
فوجئ برد فعلها -الهستيري-نوعاً خاصة عندما لمح بعض المدعوين يرمقونهما بتساؤل وقد لاحظوا انفعالها…
فجذب خصرها نحوه ليعاود الرقص معها هامساً بحزم:
_يسرا…يجب أن تتحكمي في طبعك الانفعالي هذا ..خاصة في المناسبات العامة.
دمعت عيناها مع تشنج جسدها بين ذراعيه فعاد يتلفت حوله متظاهراً بالبرود ليردف:
_ماذا حدث لكل هذا الانفعال؟!!!جملتي كانت بريئة.
التصقت به أكثر وهي تتعلق بذراعيها في عنقه هامسة بانفعال:
_أنا لا أشعر أنك معي….دوماً شارد في وادٍ آخر…تعاملني بتكلف واضح وكأنك مجبر على هذه الزيجة.
اغتصب ابتسامة باهتة وهو يتأمل ملامحها قبل أن يهمس بفتور:
_هل تنظرين في المرآة يسرا؟!
انعقد حاجباها وهي لا تفهم مغزى سؤاله عندما عاود همسه :
_امرأة في فتنتك ووضعك هي مطمعٌ لأي رجل…أنتِ بالتأكيد لا تحتاجين إطرائي….فعن أي إجبارٍ تتحدثين؟!!
نظرت إليه بحيرة وهي تشعر أنها عاجزة عن فهمه…
كلماته تعطيها معنىً مخالفاً عما يشعر به قلبها…
نظراته نحوها تبدو وكأنها موصدة فلا تستطيع قراءتها…لكنها تجذبها نحوه أكثر…
أتراها أحبته؟!!
هي لم تعترف يوماً بهذا الحب الذي يروون عنه في القصص….
الحب هو أن تريد …فتتعلق….فتحتاج …فتحلم…فتطلب… ثم تمتلك…
لكن حياتها السهلة اختصرت كل هذه المراحل لأولها وآخرها فحسب…
هي تريد …فتمتلك!!!
لكن هل امتلكت فهد الصاوي حقاً؟!!!
ذابت تساؤلاتها الحائرة مع صخب الحفل الذي ازداد بعدها …
وتناسى عقلها حيرته مع إجهاد جسدها الذي استسلم للرقص مع رفيقاتها لساعات بعدها…
حتى انتهى بهما المقام في غرفة نومهما ببيتهما الجديد الذي لا يقل فخامة عن قصر والديهما…
فخلع هو رابطة عنقه ببطء ليضعها جانباً وهو يتحاشى نظراتها…
بينما همست هي بخجل حقيقي تعجبته في نفسها قبله:
_سأبدل ملابسي في الحمام.
زفر بخفوت وهو يتابع ظلها المنصرف ثم جلس على طرف الفراش وهو يفكر في أكثر ما يشغله الآن…
هل علمت جنة عن الأمر؟!!!
أم تخدمه الظروف فلا يصلها الخبر؟!!
ولو علمت هل ستعذره وتدرك أنه كان رغماً عنه؟!!
أم ستظنه خانها كما فعل مع سواها؟!!!
لقد حاول الاتصال بها مراراً ليشرح لها حقيقة الأمر لكنها أغلقت هاتفها منذ آخر رسالة كانت بينهما!!!
دق قلبه بعنف صارخاً بألمه وهو يحاول تخيل حالتها لو عرفت…
خاصة وهي الآن وحدها تماماً وليس لها أحد …
فدمعت عيناه بعجز وهو يخفي وجهه بين راحتيه لوقت ما…
حتى شعر بلمستها الناعمة على كتفه مع همسها بدلال:
_لماذا لم تبدل ملابسك؟!
رفع عينيه إليها لتصطدم نظراته بقميصها المغوي الذي احتضن جسدها بنعومة نافست نعومة همساتها وأناملها تمتد لتفك أزرار قميصه:
_دعني إذن أساعدك.
===============
انتبهت لآلام جسدها بعد هذه الساعات التي قضتها في نومتها على الأرض فتأوهت بقوة وهي تحاول القيام من مكانها بصعوبة…
حتى استقامت لتتوجه نحو زر الإضاءة فضغطته لتفاجأ بالساعة قد قاربت الرابعة فجراً!!!!
هزت رأسها بألم وهي تتعجب كيف مر بها الوقت هكذا دون أن تشعر…
لكنها عادت تحدث نفسها بيأس…
لم يعد هناك جدوى لحساب الزمن…
ما عادت هناك قيمة للدقائق والساعات….بل والأيام…
كلهن صرن متشابهات…مجرد دقات قلب فارغة بلا روح تنتظر النهاية!!!
تنهدت بحرارة وهي تتوجه بخطوات متثاقلة نحو غرفتها لتريح ظهرها الذي كان يئن بألمه….
لكنها توقفت مكانها عندما سمعت صوت جرس الباب!!!
انقبض قلبها برعب وهي تسترجع ذكرى أخرى مشابهة عندما هجم عليها رجال جاسم الصاوي لاختطافها من شقة فهد منذ وقت قصير….
فتشبثت بالحائط خلفها وهي تدعو الله بتضرع…
لكن الجرس عاود رنينه بإلحاح أكبر لدقائق طالت…
فارتدت حجابها ثم تناولت سكين المطبخ لتتوجه نحو الباب هاتفة بصوت أجادت اصطناع قوته:
_من؟!!
لم يصلها رد أيضاً فزادت خفقات قلبها جنوناً لكنها تشبثت بالسكين خلف ظهرها وهي تستجمع شجاعتها لتفتح الباب…
فهد؟!!
لا…لا…لا…
إنه وهم!!!
إنها تتخيله من فرط ما فكرت فيه طوال الساعات السابقة…
هل فقدت عقلها بصدمتها؟!!
أم أنه هو حقاً؟!!
لو كان حقيقياً فلماذا يقف كالصنم هكذا ولا يتحرك؟!!!
كل ما فيه ساكنٌ متيبس لكن مهلاً… !!!!
عيناه تتحركان…
نظراتهما تنساب كشلال شوق جارف أغرق جسدها كله…
قبل أن تعود لتتجمد هي الأخري -كجسده- أمام عينيها!!!
سقط السكين فجأة من يدها عندما أحست أنها فقدت السيطرة على أطرافها …
بل على كل جسدها …فشهقت بقوة وكأنها تستنجد ببعض الهواء لأنفاسها المختنقة….
ورغم أن قلبها كاد يقفز للأمام نحوه لكن قدميها انسحبتا بخطوة للخلف وهي تغمض عينيها بقوة هامسةً برجاء وجسدها كله يرتعش انفعالاً:
_بالله عليك لا تكن وهماً…تكلم…قل أنك حقاً هنا…قل أنني لازلت بعقلي.
لكنّ صوتاً لم يصلها للحظات سوى صوت انغلاق الباب …
ففتحت عينيها بترقب وجل وهي تنتظر اختفاء الطيف…
عندما فوجئت به يجذبها لصدره هامساً بحرارة:
_لم أستطع…لم أستطع.
تأوهت بقوة وذراعاها يكادان يعتصران رقبته وهي تدفن وجهها بصدره تملأ برائحته أنفاس صدرها التي تلاحقت بجنون….
بينما ازدادت ارتجافتها لتربك جسديهما معاً فضمها إليه أكثر مردفاً بألم:
_لم أستطع أن أكون لغيرك…لم أستطع حتى ولو لأجلكِ أنتِ!
لم يبدُ عليها أنها سمعته …
كانت كالغريق الذي يتشبث بطوق نجاته ولا يعنيه الآن من الدنيا غيره…
تمرغ وجهها في صدره ببطء ولازال ذراعاها معلقين برقبته حتى أنها لم ترفع وجهها إليه …
فقط كانت تتمتم بين دموعها بلا وعي وكأنها لازالت لا تصدق:
_فهد هنا…هذا صوته…أنا لا أتوهم!
أغمض عينيه بتأثر من حالتها ثم رفع كفه لذقنها محاولاً جذب وجهها إليه…
لكنها تشبثت بوجهها في سجن ضلوعه…عيناها مغمضتان تكادان تلاصقان قلبه وأنفها يجاهد لالتقاط أنفاس عطره… لتعاود تمتمتها الهستيرية:
_لا !!!!…لا ترفع ذراعيك عني!!!احتضنني من جديد…لا أريد أن أراك…لا أحتاج أن أراك…فقط أحتاج أن..أن أشعر بك…أن…
انقطعت همساتها بآهة ألم أطلقتها وهو يعاود احتضانها بقوة كادت تكسر عظامها للحظات…
قبل أن يكتنف خصرها بكفيه ليرفعها قسراً حتى صار وجهها في مستوى وجهه تماماً…
نجوم ليله الأسود التي اشتاقتها تعاود ترانيم عشقها لها…
تحكي لها حكايا شوق طويلة لم تكتب نهايتها بعد…
وتعدها بالمزيد من أساطير عشق لها وحدها لم يسمع بها قبلها إنس ولا جان. ..
فعاد وهج بندقها يتألق رويداً رويداً حتى اشتعل بشغف خالص وهي تهمس بصوت مبحوح:
_تكلم…قل أي شئ!
انفرجت شفتاه ببطء وعيناها تستجديان كلماته عندما بدا على وشك الحديث.
لكنها فوجئت بغزوهما الساحق لشفتيها وكأنما اختصرت قبلاتهما حديثاً طويلاً لم يكن ليقوى أحدهما عليه!!!
فتلاحقت أنفاسها أكثر وهي تدفعه أخيراً بكل ما أوتيت من قوة لتهمس وقد استعادت وعيها وتمييزها للواقع:
_فهد…لم يعد هذا من حقنا…أنت طلّق..
قطعت عبارتها وهي تعود بقدميها إلى الأرض أخيراً لتتحسس بدلته بأناملها …ثم همست بارتباك:
_هذه بدلة عُرس؟!!!أنت حقاً …..تزوجت!!!
رفع رأسه لأعلى دون أن يفك حصار ذراعيه حولها هامساً بأسف:
_أجل…تزوجت!
غادرت الدماء وجهها فجأة وهي تزيح ذراعيه عنها ببطء لتهز رأسها مع همسها المختنق:
_إذن ماذا تفعل هنا؟!!
عاد كفاه يطوقان كتفيها بانفعال مشتعل …وهو يهتف بقوة :
_أنتِ لي…ملكي…بأي شرع…وبأي قانون.
أغمضت عينيها وهي تضع كفها على صدرها تكاد تشعر أنها على وشك فقدان وعيها انفعالاً في أي لحظة…
لكنه هز كتفيها بعنف مردفاً بحزم أقوى:
_بدلي ملابسك …سنخرج حالاً!
فتحت عينيها اللتين تصارعتهما مشاعر عدة ما بين خوف واشتياق ورجاء …
لتسأله بارتباك ولازالت تشك أن كل هذا حلم يقظة ستفيق منه قريباً:
_إلى أين؟!
انغرس كفاه في كتفيها بقوة شعوره الآن بينما انعقد حاجباه وهو يقول بحسم:
_لا أدري إن كان طلاقنا الإجباري واقعاً أم لا…ولا أدري إن كان يمكنني ردك بمجرد كلمة…لكنني أريد أن نكتب عقداً جديداً بشروط جديدة هذه المرة…
اتسعت عيناها بترقب وقد زادتها كلماته حيرة بينما أردف هو بنفس النبرة:
_هذه المرة لن تتزوجي ابن الصاوي بل ستتزوجين فهد…وأظنكِ تدركين الفارق…كذلك لن يكون زواجنا سرياً بل في العلن…لكن ليس هنا…
هزت رأسها بتساؤل فيما أكمل هو حديثه:
_سنكتب العقد الآن ونسافر بعد يومين لتركيا …أنا أعددت كل شئ…وسأخفي كل أثر لنا حتى لا يتعقبنا أبي…طوال الأيام السابقة وأنا أداهنه كي أصرف انتباهه عنا…والآن وقد تمت زيجتي البائسة من ابنة الصباحي كما كان يرغب فهو في غاية الاطمئنان ولن يتوقع هذا التصرف السريع مني.
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تهمس بتوتر :
_قد يصل إلينا هناك…سنكون دوماً في خطر…هو لن يغفر لك هروبك هذا.
زفر بقوة ثم قال باقتضاب:
_لا تخافي…سأبقى دوماً أسبقه بخطوة…سيكون لديّ هنا من يخبرني دوماً بتحركاته.
ثم التوت شفتاه بشبه ابتسامة وهو يردف بتهكم مرير:
_ابن الصاوي تربية أبيه سيستغل كل ما علمه له!!!
انقبض قلبها بخوف وأناملها تمتد لتتحسس بطنها دون وعي…
قبل أن تهمس بشرود:
_وماذا عمن سيتورط معنا بلا ذنب؟!
انعقد حاجباه أكثر وهو يسألها بدهشة:
_تقصدين من؟!
صمتت للحظات وقد بدا عليها التردد…قبل أن تغمغم بفتور:
_زوجتك!
كز على أسنانه وهو يهتف بحدة:
_أنا لا زوجة لي سواكِ…ورقة طلاقها ستصلها بمجرد ما نغادر هذا البلد.
وبرغم سعادتها الخفية بما يقوله لكن قلبها كان لايزال غارقاً بمخاوفه…
جاسم الصاوي لن يمرر لهما فعلتهما هذه المرة …
سيكون انتقامه أقسى مما تتوقع…
وليت الأمر سيتعلق بها هي فحسب…بل بأحب الناس إلى قلبها الآن…!!!
لكنه عاد يهز كتفيها قائلاً بنفاد صبر:
_هيا يا جنة…بدلي ملابسك…أنا أعددت كل شئ.
==============
غادرا معاً مكتب المأذون الذي بدا وكأنه كان ينتظرهما رغم هذه الساعة المتأخرة من الليل…
فهد فعلاً أعد عدته لكل شئ….
واختار الليلة بالذات حيث لن يتوقع أبوه -حتى وإن كان يترصده- أن يغادر مسكنه مع عروسه بعد انتهاء الزفاف…
القليل من الأقراص المنومة في- كوب العصير -كانت كافية ليتخلص منها مؤقتاً….
وبعدها تم كل كل شئ كما خطط له تماماً…!!
بينما بدت هي شاردة في عالم بعيد حتى عاد بها إلى منزلها محافظاً على صمته هو الآخر…
حتى ترجل من السيارة ليفتح حقيبتها الخلفية مستخرجاً علبة ضخمة قبل أن يعود لجنة ليصعد بها إلى شقتها…
أغلق الباب خلفه ثم منحها ما يحمله هامساً بابتسامة عرفت طريقها إلى شفتيه أخيراً:
_ثوب زفاف لعروسي…ألم أقل لكِ أن هذه المرة مختلفة؟!
دمعت عيناها بتأثر وهي تتناول منه العلبة الضخمة لتفتحها بتردد…
قبل أن تلتقط أناملها ذاك الثوب الرقيق الذي لم ترَ في حياتها أجمل منه…
الثوب كان أبيض اللون انسيابياً على عكس فساتين الزفاف الواسعة لكن صدره وأكمامه كانت شفافة بزهور صغيرة زرقاء تناثرت على خصره وازدادت كثافتها حتى ملأت ذيله الطويل…
فردته بين ذراعيها بإعجاب لم يخفِ نظرات الحزن التي غلفت عينيها وهي تهمس بلهجة غامضة:
_تظنه سيناسبني؟!!
تألقت عيناه ببريق خاطف وهو يهمس بنبرة دافئة:
_ارتديه أولاً…لا أطيق صبراً على رؤيته عليكِ.
ابتسمت بشحوب وهي تبتعد به لبعض الوقت …
حتى عادت إليه وهي ترتديه ….
وقد رفعت شعرها كله إلى أعلى رأسها لينسدل من خلف تاج فضي على رقبتها وظهرها بانسيابية ساحرة…
واكتفت من زينتها بكحل أسود أظهر وهج البندق في عينيها وهي تتقدم منه بخطوات بطيئة لا تدري بفعل مشاعرها المترددة …أم ذاك الحذاء ذي الكعب العالي الذي ترتديه…
وما إن وصلت قبالته حتى توهجت نجوم ليل عينيه بأَلَق ساحر وهو يتفحصها بنظرات حارة…
قبل أن يهمس بحزم:
_اخلعي حذاءكِ.
نظرت إليه بدهشة للحظة لكنها نفذت أمره رغم عجبها…
فضمها إلى صدره بقوة ليلصق جبينها بصدره قبل أن يتأوه بحرارة صاحبت همسه :
_نعم…هكذا يا جنتي..هكذا يكون مكانكِ بالضبط على صدري…عيناكِ حبيبتايَ أقرب ما تكونان لقلبي…رموشهما تكاد تعانق دقاته.
اختلجت شفتاها بابتسامة شوق حالمة وهي تستسلم لدفء صدره للحظات…
قبل أن يرفعها بكفيه من خصرها ليتلاصق وجهاهما وهو يردف بنبرة أكثر حرارة:
_وأنا أحملكِ متى شئت لأروي نهم عينيّ إليك…فلا أدري أيهما أكثر لكِ شوقاً…قلبي أم عيناي؟!!
تشبثت أناملها بكتفه وهي ترتشف من كئوس العشق بعينيه ماطاب لها من أحاديث…
وتداوي بحرارة همساته ما جرحته برودة لياليها دونه…
لتهمس بعد صمت طويل :
_كيف عرفت مكاني؟!!كنت…تراقبني؟!
ابتسم وهو يعيدها إلى الأرض ليتلفت حوله قائلاً ببعض الخبث:
_أين العصفوران؟!
اتسعت عيناها بدهشة ثم ابتسمت بدورها وهي تهز رأسها وقد فهمت مغزى سؤاله…
بينما رفع هو ذقنها إليه ليهمس بعاطفته المشتعلة:
_تظنينني كنت سأتركك تغيبين عن عيني لحظة واحدة؟!!أبداً يا جنتي…حتى ولو كنتِ بعيدة…كل خطواتك كانت تصلني أولاً بأول…ولولا هذا ما احتملت كل هذا الغياب.
لكنها عضت على شفتها وهي تهمس بشرود:
_وهل ستتركني ثانية؟!!
لامست أنامله شفتيها بحنان وهو يهمس ببعض الأسف:
_لابد أن أعود قبل أن تستيقظ هي…لا أريد أن يفسد كل شئ في اللحظة الأخيرة…لن نلتقي إلا بعد يومين في المطار حتى نستغل المفاجأة…لا تخافي ..أنا أمّنتُ الأمر تماماً هذه المرة.
لكنها أطرقت بوجهها لتهمس بعجز:
_ستهرب كمجرم لتعيش بلا أهل ولا وطن؟!!
فاحتضن وجهها براحتيه ليلصق جبينه بجبينها هامساً:
_بل كعاشق…أنتِ أهله ووطنه!!!
ثم انسابت قبلاته على وجهها مع همسه المتقطع:
_حتى …تزهق…آخر…أنفاسي…
لتنتهي جملته “القديمة الجديدة ” بين شفتيها:
_لا أفارق ولا أخون!
غامت عيناها بعاطفتها وهي تتأوه بخفوت…قبل أن تهمس بشكواها منه إليه:
_لا تدري كيف كان حالي منذ قليل قبل وصولك…عندما قرأت الخبر كدت…
قطع حديثها بشفتيه اللتين اختصرتا حديثاً طويلاً واعتذارات أطول …
قبل أن يهمس بحرارة:
_صدقيني كل هذا فعلته قسراً لأجلك…أنا لم أعد أعيش إلا لأجلك.
تأملته بهيام للحظات وهي تشعر بالفخر…
فخر عاشقة وُلد حبيبها على يديها من جديد!!!
فهد الصاوي لم يترك فقط الحرام من أجلها…بل ترك الحلال أيضاً!!!
ترك زوجته حليلته ليلة زفافه ليهرع إليها هي …
ترك عالم أبيه بل سيترك بلده كلها لأجلها هي….
وكأنها صارت كل أهله…وكل وطنه…
كما صار هو كل ذلك!!!
فابتسمت أخيراً ابتسامة حقيقية وأناملها تداعب وجنتيه بهمسها الذي مزج كل براءة حواء بكل إغوائها:
_حبيبي يا فهد.
فانحنى فجأة ليحملها بين ذراعيه وهو يتوجه بها نحو غرفة النوم هامساً بحب:
_الليلة…أنتِ وحدكِ عروسي…لم أكن لأرضى بمقابل عن قسوة هذه الليلة بأقل من أن ينام أحدنا في حضن صاحبه!!
ثم وضعها برفق على الفراش ليردف بشغف :
_مفتاح جنتي سيبقى معي للأبد…ولن تغلق أبوابها في وجهي أبداً!
وبعدها بساعة كانت تفتح عينيها على ضوء الصباح الذي ملأ الغرفة ..
وملأ قلبها معها…وهي تشعر بشفتيه الدافئتين على وجنتيها…
مع تحية صباح بنكهة الحب…
وعبارته التي اشتاقتها تعاود مغازلة أذنيها من جديد…
_تحتاجينني…وأحتاجكِ أكثر!!
=======
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)