روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم نرمين نحمد الله

موقع كتابك في سطور

رواية ماسة وشيطان الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء الحادي والثلاثون

رواية ماسة وشيطان البارت الحادي والثلاثون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الحادية والثلاثون

_زهرة هذه تبدو طيبة القلب!أرأيت كيف استقبلتنا بحرارة هنا؟!
قالتها ماسة لفهد وهي تعاونه في رص ملابسه في الخزانة عقب دخولهما لشقتها الصغيرة في “أبو ظبي”…
لتستطرد بعدها في محاولة منها لطمأنته:
_أظننا سنكون صديقتين…هي جارتي هنا وستعمل معي في المشفى…يمكنني الاعتماد عليها لو احتجت شيئاً هنا.
لكن فهد التفت نحوها ليقول بضيق خفي:
_لكن ذاك الطبيب لا يريحني…نظراته نحوكِ كانت…
_فهد!!
هتفت بها تقاطعه بحزم…قبل أن تأخذ نفساً عميقاً لتردف بابتسامة شاحبة:
_لا تخف عليّ!
زفر مشيحاً بوجهه للحظة قبل أن يكتنف كتفيها بكفيه قائلاً بقلق:
_وكيف لا أفعل؟!أنتِ الآن في أضعف حالاتك وأخاف أن يدفعكِ هذا الضعف في طريقٍ ليس لكِ.
أسندت جبينها على صدره للحظات وكأنها تستمد منه بعض القوة…
قبل أن ترفع عينيها إليه لتقول بامتنان حقيقي:
_من قال أنني في أضعف حالاتي؟!!أنا قوية بك…وبأمي…بعزيز…ودعاء…
ثم شردت ببصرها في ماضٍ بدا الآن بعيداً كبعد السماء …
لتهمس بخفوت:
_ماذا تقول إذن عن أيام كنت فيها وحدي تماماً؟!
دمعت عيناه بتأثر وهو يقبل جبينها بمواساة…
فابتسمت وصوتها يستعيد تماسكه لتشير بعينيها نحو- الوسادة -التي أصر على إحضارها معه إلى هنا لتقول بنبرة ذات مغزى:
_والآن أخبرني…هل ضعفتَ أنت كي أضعف أنا؟!
رمق الوسادة -الأثيرة- صاحبة العطر المميز بنظرة دافئة حملت كل مشاعره…
نعم…إنها وسادة جنة التي لم يعد يستطيع النوم إلا عليها…
وكأنها -بقايا وطنٍ – يصر أن ينتمي إليه مهما أجبروه على الاغتراب…
تسأله إن كان قد ضعف؟؟!
لا…لم يفعل ولن يفعل…
فقد وهبته -جنته المفقودة- قَبَساً من “وهج البندق” الذي تغلغل بين أعماقه ليمنحه قوةً لن تبهت أبداً…
لهذا عاود الالتفات نحوها ليرقع ذقنها إليه هامساً بحزم حنون:
_افهميني يا “حبيبة أخيكِ”…أنا لا أقصد أن أحرّم الحب عليكِ…على العكس…كم أتمنى لو أراكِ سعيدةً مطمئنة في كنف رجل يستحقكِ خاصةً بعد كل ما عانيتِه…كل خوفي فقط أن يستغل أحدهم فراغاً بقلبك.
_فراغاً بقلبي؟!!
تمتمت بها بمرارة تحمل الكثير من الاستنكار الذي أساء هو فهمه…
فزفر بقوة مع قوله بحذر:
_لا تنسيْ أنكِ لازالتِ على ذمته…رسمياً!!!
أغمضت عينيها بألم لتكتم آهة كادت تخونها…
رسمياً؟!!
ليته كان هكذا فحسب…
ليتها كانت الأوراق- فقط- هي ما تثبت أنها كذلك…
دقات قلبها تقسم أنها “على ذمته”…!
خطوط باطن كفها ترسم خريطة عشق تثبت أنها “على ذمته”…!!
بقايا “سحر أنامله” على منابت شعرها تحكي أسطورةً تؤصل أنها “على ذمته”…!!!
دموعها المحتضنة لصورته خلف سجون رموشها لو أطلقتها لكانت نشيداً يردد أنها… “على ذمته”!!!
وكأنه بداية العشق ومنتهاه…
وأول الرجال وآخرهم…
فكيف تكون إذن إلا…”على ذمته”؟!!!
لكنها فتحت عينيها أخيراً لتقول بتماسك:
_لا داعي لقلقك هذا…أختك تجيد التصرف.
مط شفتيه بعدم اقتناع ثم قال بتردد:
_أنا أفكر في مد فترة إقامتي معكِ هنا…حتى…
لم يكد يتم عبارته حتى رن هاتفه باسم “يسرا”…
فابتسمت ماسة وهي تلوح بكفها هاتفة ببعض المرح:
_قلبها يشعر بك!
رمقها بنظرة عاتبة سبقت زفرة ضيق قبل أن يفتح الاتصال ليصله صوتها ب”هستيريتها ” المعهودة:
_أين أنت؟!!لم تهاتفني عندما وصلت كما اتفقنا…أنت نسيتني…نسيتني يا فهد!!!
أبعد الهاتف عن أذنه يتقي صراخها المنفعل للحظات…
قبل أن يتمالك ضيقه ليقول بحِلم يُحسَد عليه:
_لا يا يسرا…لم أنسَكِ…انشغلت فقط ببعض الأمور.
وردها كان بكاءً انخرطت فيه بانفعالٍ مَرضي لا يُستغرَب في حالتها…
فرقت ملامحه وهو يردف بحنان :
_لا تبكي…أنا عائد قريباً…اهدئي يا يسرا…الأمر لا يستحق كل هذا.
_بل غداً يا فهد…غداً…سأنتظركِ من الآن!
قالتها يسرا بانفعال فضح مشاعرها فتنهد بحرارة ليمنحها وعداً بعودة قريبة قبل أن يغلق الاتصال برفق…
فغمغمت ماسة التي كان صوت يسرا يصلها من فرط ارتفاعه :
_يسرا تحتاجك حقاً يا فهد…طبيبها يقول أنك سبب رئيسي في استجابتها للعلاج.
أومأ برأسه موافقاً قبل أن يلقي هاتفه بعدم اكتراث على الفراش الذي جلس عليه أخيراً ليغمغم بصوت مُرهَق:
_معكِ حق…لكنني أخشى تبعات هذا…أحياناً أشعر أنني أخطأت باستمراري معها …يسرا تنجذب نحوي كل يوم أكثر من سابقه…وقرار انفصالنا يزداد صعوبة ساعةً بعد ساعة…ولا أدري ما الحل!!
جلست جواره لتربت على ركبته بتفهم…
فالتفت نحوها ليقول بحيرة:
_أنا كنت صريحاً معها منذ البداية…أخبرتها أن قلبي لن يَسَع امرأةً بعد جنة…لكن تعلقها بي لم يعد يعرف حداً…وأخاف أن يؤثر هذا سلباً على علاجها.
تنهدت ماسة بحرارة قبل أن تقول أخيراً بتعقل:
_طالما لا ترى فيها أكثر من صنيع معروف فأتممه للنهاية…كن جوارها بعقلك وجسدك وأبقِ قلبك ل”مالكته”.
ثم تناولت “وسادة جنة” من جوارهما لترفعها أمامه مردفةً بنبرة ذات مغزى:
_افعل ما يرضيك أن تواجه به وسادتها كل ليلة…ما يليق بك وب”الأستاذة”.
==============
_فهد…افتقدتك جداً…سبعة أيام كاملة!!!
هتفت بها يسرا وهي تندفع نحوه في بهو المنزل فور وصوله وحركة جسدها تعد بعناق وشيك…
لكنه اكتفى بمصافحة فاترة مع نظرة زاجرة في عينيه وهو يبتعد بجسده …
قبل أن يغمغم بما يشبه الاعتذار:
_لم أكن أستطيع الحضور قبل أن أطمئن تماماً على ماسة كما اتفقنا.
ثم تلفت حوله قائلاً بدهشة مشوبة بالضيق:
_ما هذا الذي فعلتِه؟!
كانت قد أخلت المكان من الأثاث ليبدو أكثر اتساعاً…
بينما امتلأت أرضيته بشموع مربعة صغيرة صنعت مع الموسيقا الهادئة المنبعثة من أحد الأركان مزيجاً رومانسياً ناعماً…
خاصةً مع ثوبها ال”كلاسيكي” الأرجواني عاري الأكتاف و الذي انسدل على جسدها باحترافية تصميمه ليبرز مفاتنها بإغراء زادته لهجتها حرارةً مع همسها:
_ما رأيك في هذه المفاجأة؟!أعجبتك؟!
قالتها وأنامله في كفه تزداد تشبثاً به…بينما أناملها الحرة تتعلق بكتفه مع تمايل جسدها بنعومة مع الألحان…
لكنه ابتعد عنها برفق ليترك كفها قائلاً بضيق لم يفقده حلمه:
_نعم…لكنني متعَبٌ من السفر…سأستأذنكِ في الصعود لغرفتي …تصبحين على خير.
قالها وهو يكاد يعطيها ظهره لكنها تشبثت به ليعاودها هياجها الهستيري:
_لا تتركني هكذا وكأنني مجرد نكرة بلا قيمة…لو لم تجلس هنا معي فسأعود للخروج مع رفقتي القديمة…مادام زوجي يراني لا أرتقي لمستواه.
كظم غيظه باقتدار مراعياً ظروفها وقد انتوى في نفسه مراجعة طبيبها ليتدبر أمر تعلقها به هذا…
ليقول بأقصى نبراتها هدوءاً:
_حسناً…سأجلس معكِ هنا كما تريدين…لكن دعينا نفعل هذا أولاً…
قالها وأنامله تمتد لزر الإضاءة لتعود للمكان كامل إضاءته مع استطراده مبرراً:
_الضوء الخافت سيجعلني أميل للنوم أكثر وأنا أريد التحدث إليكِ بشأن هام.
تألقت عيناها فجأة ببريق حقيقي وقد منحتها عبارته أملاً في اهتمامه بها…
فجلست جواره على الأريكة لتسأله بلهفة:
_ماذا تريد؟!
تنهد بحرارة ثم رفع وجهه إليها ليقول برفق محاولاً تخير كلماته:
_ما رأيك لو نخبر والدتك عن الأمر كي تعود من سفرها لتكون جوارنا هذه الأيام؟!
اتسعت عيناها بارتياع للحظات قبل أن تصرخ بانفعال:
_هكذا إذن؟!أنت مللتَ مني حقاً؟!تريد إلقاء الحمل عن كاهلك ؟!لكنني سأريحك…سأريحكم جميعاً…
قالتها وهي تهبّ واقفةً مكانها لكنه جذبها من كفها ليجلسها جواره من جديد هاتفاً بصرامة :
_اجلسي وكفي عن لعب الأطفال هذا…أنا قلت تبقى “جوارنا” وليس “جوارك”!!
سالت دموعها على وجنتيها وهي تشعر بهوان نفسها على الجميع لتهمس أخيراً بيأس:
_أمي لن تعود …هي بالكاد أفلتت من قبضة رفعت الصباحي…لو علمت ستطلب مني السفر إليها…وأنا…أنا…
ثم تشبثت أناملها به بكل قوتها لتردف بعاطفة قوية:
_أنا أريد البقاء هنا معك.
وخزه قلبه بشعوره الجارف بالذنب والذي زادته هي باقترابها الخطير منه مع استطرادها بعمق احتياجها:
_لماذا لا تراني ؟!لا تشعر بي؟!أنا زوجتك يا فهد…زوجتك!
كانت قد التصقت به تماماً عند كلمتها الأخيرة وأناملها تضغط وجنته بشغف…
فكز على أسنانه بقوة محاولاً تمالك انفعاله وهو يزيح أناملها برفق ليبتعد عنها قائلاً بغضب مكتوم:
_زوجتي الحقيقية ماتت…وما بيننا لن يتجاوز مجرد ورقة…اتفاقنا كان واضحاً من البداية يا يسرا.
_إذن نغيره!!
هتفت بها بغضب أقوى وهي تعاود وقوفها لتصرخ من جديد:
_أنت أحمق…بل أكثر من رأيتهم في حياتي حماقة…تترك أموال والدك ونفوذه…وتضيع عمرك في الوفاء لجثة تحت التراب وتترك امرأة مثلي يتمناها ألف رجل…
ثم سولت لها نفسها إهانته لتستفزه أكثر:
_بل ربما …من يدري…ربما كنت تعاني من -ما تخشى- أن يفضح رجولتك!!
اشتعلت عيناه بغضب لم يعد يملك التحكم فيه فلم يشعر بنفسه وهو يقف لترتفع راحته هامّاً بصفعها…
لكنه توقف في آخر لحظة مكتفياً باعتصار ساعدها بين أنامله مع قوله من بين أسنانه:
_احمدي الله على بقايا صبرٍ لازلت أملكه…واتركيني وحدي الآن.
فانهارت في البكاء من جديد وهي تهمس بين دموعها:
_لماذا ماتت هي وعشت أنا؟!ليتني مِتّ مكانها…أنا لا أحد يحبني…لا أحد.
قالتها وانخرطت في نشيج مرتفع ارتجف معه جسدها كله…
فلانت ملامحه تدريجياً مع بكائها ليعود ويذكر نفسه بظروفها ووجوب وقوفه جوارها في محنتها…
فخفف ضغط قبضته على ساعدها ليرفع بعدها كفيه محيطاً كتفيها مع قوله أخيراً بصوتٍ عاد إليه هدوؤه:
_اسمعيني جيداً يا يسرا…أنتِ تستحقين أكثر من مجرد رجلٍ أحمق كما تزعمين يعيش على بقايا ماضٍ رحل…أنتِ امرأة قوية فلا تسمحي لشئ أن يكسرك…عودي لنفسك وتمسكي بالطريق الذي سرتِ معظمه فلم يبقَ إلا القليل…صدقيني بعد تمام شفائكِ ستنظرين للأمور نظرة أخرى.
رفعت إليه عينيها بنظرات راجية فمنحها إيماءة مشجعة رافقت قوله:
_لن أتخلى عنكِ أبداً حتى نكمل ما بدأناه…لكن…
ثم تهدج صوته أكثر مع استطراده :
_لا تحمليني ما لا أطيق.
فابتلعت خسارتها بحسرة وهي تمسح دموعها بأناملها هامسةً بنبرة اعتذار غارقةٍ بألمها:
_لا تغضب مني يا فهد…أنا أشعر أنني أحترق…رأسي لا يكف عن التفكير…وأخاف أن أضعف وألجأ لتلك الأقراص من جديد.
ثم تأوهت بضعف لتردف بصوت متقطع:
_بالأمس أغلقت باب غرفتي بالمفتاح وألقيته من النافذة كي أمنع نفسي قسراً من الخروج للبحث عنها…أنا أعرف أنني أثقل عليك…لكنني أكاد أجنّ!!
تنهد بإشفاق وهو يربت على كتفها ليهمس بحنان:
_لا بأس…غداً نذهب معاً إلى طبيبك لتدبر هذا الأمر…هو سيخبرنا ما يتوجب علينا فعله…وسننفذه معاً!
عادت عيناها تتوهجان ببعض الأمل…
فابتسم مردفاً :
_لا تقلقي…هي فترة صعبة حقاً لكننا سنتجاوزها معاً..
لم يكد يتم عبارته حتى رن هاتفه فالتقطه بخفة ليفتح الاتصال قبل أن ينعقد حاجباه بضيق مع قوله بعد لحظات:
_حسناً…أنا قادمٌ حالاً!!
ثم أغلق الاتصال ليندفع خارجاً مع هتافه المنفعل:
_أبي مريضٌ جداً…يقولون أنه يريد رؤيتي.
========
تنحت الممرضة لتفسح له الطريق قبل أن تهمس في أذنه بأسف:
_مؤشراته الحيوية منخفضة للغاية…وأخشى أن…
قطعت عبارتها وهي تسبل جفنيها في إشارة ذات مغزى قبل أن تخرج مغلقةً الباب خلفها…
فابتلع غصته بصعوبة وهو يتوجه نحوه ليجلس جواره على طرف الفراش هامساً بخفوت:
_أبي!
ظل جاسم مغمضاً عينيه للحظات قبل أن يفتحهما بأنين موجع مع همسه :
_الألم…لا…يُحتمل!!
دمعت عينا فهد بتأثر وهو يراقب تغير ملامحه…
وجهه الذي اكتسى فجأة بسواد غريب…
عينيه اللتين غارتا لتذبل نظراتهما باستسلام يائس…
شفتيه اللتين تشققتا وشحب لونهما كالموتى…
جسده الذي هزل تماماً في وقت قياسي حتى بدا وكأنه مجرد “كومة عظام”…
ليعاود أنينه اختراق أذنيه مع دموعه التي سالت على وجنتيه مع همسه المتوجع:
_افعلوا شيئاً…عالجوني أو اقتلوني…لكن لا تتركوني هكذا…لم أعد أستطيع!!
أشاح فهد بوجهه في عجز وهو لا يدري ماذا يفعل…
لقد اعتاد أن يرى والده دوماً في صورة قوية مهيمنة وضعفه هذا يربكه…
يثير بداخله مشاعر شفقة لم يظن أن يحملها يوماً له هو بالذات…
وخاصةً بعد ما فعله بجنة!!!
وها هو ذا يجد نفسه أخيراً قد غلبته مشاعر بُنوّته له …
ليخفق قلبه بألمه وحسرته عليه رغم كل شئ…
لهذا عاود النظر إليه بعد لحظات ليربت على كفه مؤازراً دون أن يجد ما يقول…
لكن جاسم عاد يهتف بصوت متقطع :
_لا أريد… أن يضيع سعيي في هذه الدنيا … هدراً…أنت… ستخلفني …في كل شئ!
عقد فهد حاجبيه في اعتراض وقد وشت ملامحه باستنكار هادر…
عندما تشبث جاسم بساعده ليردف بنبرة جاهد كي تكون قوية كعادته:
_المال…النفوذ…كرسي المجلس…كل شئ…كل شئ!!
انتهت كلماته بآهة وجع قوية اخترقت صدر فهد بقوة تأثره…
فربت على كفه ليقول بانفعال:
_عمّ تتحدث الآن؟!!كل هذا هباء…كل هذا لم يشفع للحظة ألم واحدة مما تعانيها…كل هذا لن يجديك يوم تقف بين يدي ربك!!
لكن جاسم بدا وكأنه لا يسمعه وقد غامت عيناه بشرود قاتم مع قوله:
_ستكون جنازتي مهيبة بحق…سيحضرها أعظم رجال الدولة…حتى الموت لم يهزمني…ابني سيكمل طريقي…اسمي لن يندثر…اليوم جاسم الصاوي…وغداً فهد جاسم الصاوي!!
كان صوته يتصاعد من حلقه بصعوبة مع شعوره باختناق أنفاسه….
لكن هذا لم يمنعه من اعتصار ساعد فهد بقبضته أكثر مع استطراده بنبرة آمرة كما اعتاد:
_اذهب لمكتبي حالاً وتسلم كافة الأمور من جديد …أنا كتبت لك توكيلاً عاماً تركته مع محاميّ هناك.
_لا!
هتف بها فهد قاطعة وهو يبعد ساعده عنه ليردف بحزم:
_يحرمُ عليّ طريقك هذا ما حييت!!
فانعقد حاجبا جاسم بغضب وهو يكز على أسنانه كاتماً ألمه مع قوله:
_لا وقت لعنادك السخيف هذا…كفّ عن حماقاتك!
أشاح فهد بوجهه في رد قاطع…
فدفعه جاسم بقبضته في صدره ليهتف بانفعال:
_إذن اخرج من هنا أيها الجاحد!!!لو كنت ربيت كلباً لكان أكثر وفاءً لي منك…اخرج …اخرج!!
انعقد حاجبا فهد بغضب مماثل وهو يهب واقفاً…
قبل أن يقول باستنكار:
_إلى متى ستظل تكابر؟!خسرتَ زوجتك وقبلها شرفك…خسرتَ ابنك وقبله ابنتك…ماذا تريد أن تخسر أيضاً كي تدرك عظم ذنبك؟!!أفق يا أبي قبل فوات الأوان…أفق!!!
لكن جاسم هز رأسه بانفعال وهو يلوح بسبابته في وجهه هاتفاً:
_لا أريد أن أسمع صوتك…اخرج هيا…اخرج.
وقف فهد مكانه متردداً للحظات قبل أن يتخذ طريقه نحو باب الغرفة بخطوات متثاقلة…
كاد فيها قلب جاسم يتوقف ترقباً وهو يرى نفسه ب-عين خياله -يموت وحيداً دون سند…
فالتهم الذعر قلبه وهو يشعر بالألم يتملك منه أكثر وأكثر…
لهذا ما كاد فهد يفتح الباب حتى استوقفه بندائه…
ليفجر بعدها قنبلته النارية:
_تلك المرأة لم تمت!
تجمدت أنامله على طرف الباب للحظات هُيئ إليه فيها أن قلبه توقف عن النبض…
بينما راح عقله في صدمة قصيرة …
قبل أن يستند على الباب مقاوماً ارتجافة جسده وهو يسأله السؤال الذي إجابته لديه حياةٌ و موت:
_من تقصد؟!
فأسبل جاسم جفنيه مجيباً بحسم:
_جنة الرشيدي!
جنة!!!
جنة لم تمت!!!
جنة لازالت حية!!!
حية في الدنيا كما هي في قلبه!!!
قلبه الذي جُنت دقاته الآن بخفقاتها وهو يعاود إغلاق الباب بعنف ليندفع نحوه هاتفاً بانفعال بحّ به صوته:
_خدعة جديدة ؟!!أم خطة بديلة؟!!
ثم انكب على كفه يقبله بعمق ليهمس بصوت مرتعش بين دموعه المتحجرة بعينيه:
_أرجوك يا أبي لا تفعل بي هذا…أخبرني الحقيقة..أرجوك!!
أتبع قوله بعدة قبلات لكف والده وجسده كله ينتفض بانفعال حارق…
ليصله أخيراً صوت جاسم يقول بنبرة متهالكة:
_هي التي دبرت كل هذا!
رفع فهد عينيه إليه بصدمة لدقيقة كاملة…
قبل أن يتمتم بذهول:
_ماذا؟!هي؟!!
فابتسم جاسم ساخراً وهو يسرد عليه تفاصيل ما حدث….
رقمٌ غريب رن على رقمه الخاص الذي لا يعرفه سوى المقربين…تجاهله مراراً قبل أن تصله منه رسالتها:
_أنا جنة الرشيدي…سأرسل إليك صورة لورقة ما…وبعدها سترد حتماً على اتصالي.
انعقد حاجباه بقلق وهو يقلب في ملف الصور على هاتفه لتتسع عيناه بصدمة وهو يرى ورقتها التي تثبت زواجها بفهد في نفس تاريخ زواجه بيسرا تقريباً…
جُن جنونه وهو يتصل بها ليكيل لها إهاناته وتهديداته التي تلقتها صابرة …
قبل أن تقول أخيراً بثقة:
_لن تستطيع أن تمسّ ظفراً مني…أنا لست بهذا الغباء كي أواجهك دون أن أحمي نفسي…لو أصابني أي مكروه…فصورة هذه الورقة ستكون قضية رابحة لأكثر القنوات الفضائية نزاهة وتأثيراً…نفوذك لن يتكتم على الأمر هذه المرة…وحملتك الدعائية للانتخابات ستوازيها حملة أكثر شراسة من مهاجميك…ليس بزواجي من فهد فحسب…بل أيضاً بشأن ابنتك التي رميتها بعد زواج سري…ستكون فضيحة مزدوجة كفيلة بزلزلة الأرض تحت قدميك.
جف حلقه وهو يستمع منها لهذه الكلمات بهذه الثقة…
قبل أن يلعن فهد سراً وهو يدرك أنه من فضح لها تلك الحقيقة الأخيرة….
ليحاول جاهداً استعادة ثبات نبراته مع تساؤله الحذر:
_ماذا تريدين بالضبط؟!!
وجوابها كان صمتاً طويلاً تلاعب بأعصابه…
قبل أن تقول أخيراً بنبرة قوية:
_كلانا يريد نفس الشئ…أنت تريد إبعادي عن ابنك وأنا أيضاً أريد ذلك…هو يجبرني على العيش معه وكلما هربت منه يجيد العثور عليّ…لهذا أريد مساعدتك في إبعاده عني للأبد هذه المرة…ستساعدني في السفر بعد أن نقنعه بموتي .
صمت بضع دقائق يفكر في عرضها…قبل أن يسألها بقلق:
_وما الذي يضمن لي ألا تعودي لتنصبي شراككِ حوله؟!
وإجابتها الصارمة وقتها كانت تكفيه:
_أنا هي ضمانتك الوحيدة…أنا التي لا أريد ابنك .
_كَذِب!!!كذب!!!
صرخ بها فهد وهو يهب واقفاً ليكور قبضته أمام وجهه مع استطراده بهياج ثائر:
_لن أصدق أن تفعل جنة هذا أبداً..أبداً!
فتناول جاسم هاتفه من جواره ليريه رسالتها مع صورة الورقة التي حصلت عليها من المأذون وقتها لتثبت زواجهما …
فنظر إليها فهد مصدوماً للحظات…
قبل أن يستطرد جاسم بتهكم غلب ضعف نبراته:
_هي التي أخبرتني عن موعد سفركما للهرب…وهي التي دبرت أمر حادث الغاز هذا…اتصلت بك يومها لتطلب منك الحضور…وأخبرتني أنك تترك رجلاً لمراقبتها…لهذا طلبت مني أن أجعل بعض رجالي يتصنعون محاولة الهجوم على بيتها كي ينطلي الأمر عليك…وحال وصولك للمكان أبلغها أحد رجالي ففتحت هي صنبور الغاز لتتصنع الإغماء…كانت تعلم أنك ستنقلها للمشفى المجاور لبيتها و الذي تدبرت أنا الأمر فيه لنقنعك بموتها!
انفرجت شفتا فهد بآهة خافتة وهو يبسط كفه على صدره …
هدير خفقات قلبه يدوي كالطبل بين ضلوعه…
فلا يدري هل يفرح لأنها لاتزال على قيد الحياة؟!
أم يبكي على غدرها الذي لم يحسب يوماً حسابه؟!!
لتنتشله كلمات جاسم من أعاصير انفعالاته وهو يهمس أخيراً بأضعف صوت حملته نبراته يوماً…
كمن يلقي حملاً ثقيلاً من على كتفيه:
_لم أكن أريد إيذاءك…بل …حمايتك.
لكن فهد عاود الالتفات إليه بملامح مشتعلة ليصرخ بانفعال:
_أين هي؟!أين سافرت؟!وكيف؟!
لم ينتبه في خضمّ ثورته لأنفاس والده التي تلاحقت تماماً وكأنه يوشك على لفظ آخرها مع همسه المختنق:
_سافرت باسم مستعار.
_أي اسم هذا؟!قل بسرعة!!
لكن عينا جاسم غامتا بنظرة غريبة وقد عجز عن الكلام للحظات…
مع ارتخاء ذراعيه بوهن ليميل رأسه على أحد كتفيه…
فشهق فهد بفزع وهو يرتمي جواره ليلتقط كفه بين راحتيه هاتفاً بانهيار:
_أبي…تماسك أرجوك حتى أنادي الطبيب.
لكن جاسم تشبث بكفه ليهمس أخيراً بين جفنيه المغلقين:
_ماسة…اعتَنِ بها…اطلب منها…أن تسامحني.
لتكون هذه آخر كلماته قبل أن تتحشرج أنفاسه بصوت غريب…
لتدوي تلك الصافرة من الجهاز القريب بدويٍ مميز في أذني فهد الذي لم يستطع منع خيطي الدموع على وجنتيه …
قبل أن يخفي وجهه في صدر والده لدقائق ارتجف فيها جسده بقوة بكائه الذي غلبه بعد طول انفعاله…
وقد عجز عن فعل أي شئٍ آخر…
وعلى الفراش استلقى جسدٌ قد خمدت أنفاسه مؤكدةً حسم صراعه بين “ماسة فطرته” و”شيطان طمعه”…
لتقرع طبول النهاية مدوية بإعلان انتصار ساحق لشيطانه…
وها قد تم تسليم ورقة الاختبار بعد امتحانٍ طويل …
ما عاد هناك مجالٌ لزيف أمل أو تسويف توبة…
وصدق وعد الكبير المتعال…
“لقد كنت في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءك…
فبصرك اليوم حديد”
================================================== ===============================================
نسم علينا الهوا من مفرق الوادي
يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي
يا هوا يا هوا يللي طاير بالهوا
في منتورة طاقة وصورة
خدني لعندن يا هوا
فزعانة يا قلبي
أكبر بهالغربة
ما تعرفني بلادي
خدني على بلادي
شو بنا شو بنا يا حبيبي شو بنا؟
كنت وكنا تضلو عنا وافترقنا شو بنا
وبعدا الشمس بتبكي
عالباب وما تحكي
يحكي هوا بلادي
خدني على بلادي
_دكتور جهاد!
هتفت بها ماسة في حرج فالتفت إليها من شروده في الألحان…
لتشرق ملامحه مع توهج عينيه بزرقتهما الصافية …
قبل أن يبتسم قائلاً بلكنته المميزة:
_أهلاً ماسة!هل ناديتني من قبل؟!
فابتسمت بدورها وهي تشير نحو هاتفه الذي انبعثت منه الألحان لتقول بما يشبه الاعتذار:
_ثلاث مرات…لكنك كنت منهمكاً بالأغنية!
أشار إليها بالجلوس فاستجابت ليقول هو ببساطة آسرة:
_فيروز في هذه الأغنية بالذات ساحرة…عندما أسمعها منها أشعر وكأنني عدت لفلسطين.
ثم أمال رأسه ليقول بتفحص:
_تعرفين أنك تشبهينها؟!
اتسعت ابتسامتها وهي تسأله بدهشة:
_فيروز؟!
_لا …فلسطين!
غمغم بها بشجن خفي مس قلبها بصدقه…ليردف بنفس النبرة الدافئة:
_شئٌ ما فيكِ لا أدري كنهه يذكرني بوطني…ربما لأنك تشبهين طفلةً كانت تلعب معي.
_طفلة؟!
غمغمت بها بتعجب فأومأ برأسه ليجيب بأسى:
_نعم…عاشت وماتت طفلة…بطلقة غدر!
انعقد حاجباها بتأثر وهي تتمتم ببعض كلمات مواساة…
فتصنع ابتسامة باهتة وهو يقول بجدية:
_لا بأس…ماذا كنتِ تريدين؟!
تنحنحت بارتباك وهي تقول :
_يلزمني الكثيرمن التدريب هنا…أنت تعلم أن خبرتي ضئيلة.
فاتسعت ابتسامته وهو يقول مشجعاً:
_كلنا كنا كذلك…يوماً بعد يوم ستكونين أفضل من أقدم ممرضة هنا!
التمعت عيناها ببريق امتنان لتشجيعه قبل أن تعاود سؤاله بتردد:
_كنت أريد سؤالك عن مشكلة علاجي أيضاً…عزيز أخبرني أنك لن تستطيع الجزم بشئ قبل رؤية أوراقي.
هز رأسه برفق وهو يتناول أوراقها من أحد أدراج مكتبه ليقول ببعض الدهشة:
_لست أدري ما الذي دفعكِ للسفر هنا للعلاج…إنها جراحة شهيرة كان بوسعكِ إجراؤها في مصر .
فتجهمت ملامحها للحظات قبل أن تقول بمرارة ساخرة:
_حقاً؟!!يبدو أن القدر كان له رأيٌ آخر!!
ضاقت عيناه بتساؤل بينما غابت هي في شرود قصير…
ماذا لو كان عاصي قد صبر عليها قليلاً حتى تستجيب للعلاج؟!
ماذا لو كان فضّلها -هي- على وريثه -المنتظر فلربما كسبهما معاً؟!!
لكن ماذا عساها تقول؟!!
وكأن القدر وضعه في هذا الاختبار فقط ليضع الأمور في نصابها…
عاصي الرفاعي لم يكن ليدع شيئاً للصدفة أو للظروف…
لازال يظن خيوط اللعبة كلها بيده وليته يفيق قبل فوات الأوان!!
_خائفة يا ماسة؟!
هتف بها بحنان زاد بريق عينيه وهو يلمح الحزن الذي غزا مراياها الفضية…
فانتشلها من شرودها لتبتسم وهي تهز رأسها مع قولها بخجل:
_تنطق اسمي بطريقة غريبة.
كانت حقاً تعنيها فطريقته في نطق اسمها كانت غريبة على أذنها بتشديده للسين مع إمالتها للكسر أكثر من الفتح …
لكنه ضحك بمرح وهو يرد بانطلاق تعجبه في نفسه نحوها هي بالذات:
_ها قد اختبرنا ذكاء المصريين…يجيدون التهرب من الأسئلة!
ضحكت بدورها وهي تهز رأسها لتقول بعدها بجدية تامة:
_لا يا دكتور…لست خائفة…لقد مررت بأسوأ من هذا وتجاوزته…كل ما أرجوه منك أن تصدقني القول ولا تمنحني أملاً كاذباً…أنا أثق بمهارتك.
فتنهد بحرارة ثم شبك أنامله ليقول بإيمان :
_الأمر كله بيد الله..نحن مجرد أدوات….وما علينا إلا الأخذ بالأسباب…
ثم لوح بسبابته في وجهها ليقول بحزم:
_وحتى لو كان الأمل واحداً بالمائة وجب عليكِ أن تسعيْ خلفه!
هنا ابتسمت بامتنان حقيقي وهي ترمقه بنظرة إعجاب طويلة…
رغم قصر المدة التي قضتها هنا لكن الجميع يتحاكون عن مهارته …
ومع هذا لم يزده مديحهم إلا تواضعاً وإيماناً…
يبدو أنها كانت على حق عندما شعرت بالارتياح نحوه من أول مرة رأته فيها…!!!!
بينما كان هو أمامها غارقاً في شعور لم يألفه من قبل…
ليجد عينيه دون وعي تتعلقان بأناملها الخالية من الخواتم!!!
ولا يدري لماذا شعر براحة خفية من هذا الاكتشاف…
رغم أنه يعلم أنها متزوجة لكن وجودها هنا وحدها وتخليها عن دبلتها يعني أنها منفصلة عن زوجها…
بل وربما …في طريقها للطلاق!!
وعند خاطره الأخير أنّبه ضميره بقوة…
ليستغفر الله سراً وهو يخفض بصره عن أناملها بضيق…
هو لا يدري ماذا أصابه…
شئٌ ما بهذه المرأة يجذبه بقوة رغم أنه لم يتعرف إليها إلا منذ أيام…
شئٌ يبدل ملامحه ليعيده طفلاً هانئاً بضحكات صاخبة لم تنهشها مخالب الفقد بعد…
شئٌ معطرٌ بعبق الماضي وربيع الطفولة ومذاق الوطن…
نعم…بالضبط…
إنها امرأةٌ بنكهة الوطن!!
_الشاي يا دكتور!!
هتفت بها زهرة لتنتزعه من أفكاره…
فالتفت نحوها بحدة غافلاً عن الغيرة التي كانت تلتهم نظراتها له ولماسة التي التفتت نحوها بدورها لتقول بترحاب حقيقي:
_أهلاً زهرة.
لم تستطع زهرة الرد عليها مع هذه الغصة في حلقها…
فاكتفت بإيماءة خافتة وهي تضع كوب “الشاي الأخضر” على المكتب عندما قال جهاد بامتنان:
_شكراً يا زهرة…لا تنسين هذا أبداً!
فابتسمت ماسة وهي تقف مكانها لتربت على كتف زهرة قائلة بصدق:
_لا أدري ماذا كنت سأفعل هنا دونها..لقد جعلتني أنسى أنني غريبة هنا…
وهنا عادت عيناه تتوهجان بإعجاب لم يستطع إخفاءه وهو يقول بحنان :
_لم تعودي غريبة…بل صرتِ منّا بحق!
فنقلت زهرة بصرها بينهما بحيرة مفعمة بالضيق قبل أن تقول لماسة بنبرة متجهمة:
_لقد انتهت مواعيد عملنا…تعاليْ نتناول طعامنا في المطعم كالعادة.
أومأت ماسة برأسها موافقة قبل أن تستأذن من جهاد في الانصراف…
لتحافظ زهرة على تجهمها طوال الطريق للمطعم حتى سألتها ماسة بحذر:
_ما الأمر يا زهرة؟!هل ضايقكِ أحد؟!
فاغتصبت ابتسامة باهتة وهي تقول بتكلف:
_لا أبداً…مجرد صداع!
قالتها وهي تفتح باب المطعم لتصطدم عيناها بجنة جالسةً هناك فاندفعت نحوها لتهتف وكأنها وجدت كنزاً:
_مريم!!أين كنتِ مختفيةً منذ أيام؟!
احتضنتها جنة بقوة مع قولها الرفيق:
_متاعب الحمل لا تنتهي كما تعلمين.
ثم انتبهت لماسة التي ترافقها فامتدت أناملها لها بمصافحة رقيقة لتقول بابتسامتها البشوش:
_من المؤكد أنكِ ماسة…زهرة حكت لي عنكِ …أنا مريم.
صافحتها ماسة بود مماثل لتجلس جوارها قائلة بمرح:
_يبدو أن زهرة جعلتني ذائعة الصيت هنا!
ثم تفحصت جنة باهتمام لتقول بحيرة:
_أشعر وكأنني رأيتك من قبل…لكنني لا أذكر أين.
ضحكت جنة بخفة قبل أن تنتبه لملامح زهرة البائسة…
فتنحنحت بارتباك لتقول بلباقتها التي لم تخذلها هنا:
_يقولون أن الغربة تؤلف القلوب…منذ علمنا أنكِ مصرية وقد دخلتِ قلوبنا حتى قبل أن نراكِ.
فأنارت الابتسامة وجه ماسة مع استطراد جنة ببشاشة:
_انتظري حتى تلتقي بطيف أيضاً…ستنبهرين بحق!
انتهت عبارتها بضحكة مميزة فرمقتها ماسة بنظرة حائرة مع تساؤلها:
_من طيف؟!
أجابتها جنة وهي تتفحصها باهتمام:
_صديقتنا…مصرية أيضاً…كاتبة معروفة هنا…
ثم مررت سبابتها على عنقها بحركة ذات مغزى ناسبت استطرادها:
_وتكره الرجال بتطرف…لو كان الأمر بيدها لأعدمتهم جميعاً في ميدان عام!!!
ضحكت ماسة بانطلاق للحظات قبل أن تقول بنفس المرح:
_حسناً…يسعدني أيضاً أن تتعرفن على صديقتي دعاء…هي تقيم معي لكنها الآن في شأن هام يخص عملها هنا…سأحضرها معي المرة القادمة.
ثم اقتربت بجسدها منهما لتقول وكأنها تفشي سراً خطيراً:
_دعاء هذه كارثة كونية…قنبلة ضحك تنفجر في أي مكان تذهب إليه…أظن أننا لو اجتمعنا سوياً هنا فسيطردوننا من المكان شر طردة!!
ضحكت جنة بمرح وهي تلكز زهرة المتجهمة -خفيةً- كي تشترك معهما في الحديث…
فابتسمت زهرة ابتسامة سخيفة وهي تحرك رأسها بلا معنى…
عندما رن هاتفها لتجد الاتصال من جهاد فاحمرت وجنتاها بقوة وهي تهتف بانفعال فاضح:
_جهاد!!معقول!!!إنها أول مرة يهاتفني خارج العمل!!
داست جنة على قدمها في حركة مستترة لتقول في محاولة للتستر على مشاعر تلك الحمقاء -المفضوحة-:
_وماذا في هذا؟!بالتأكيد هو يريد شيئاً هاماً…افتحي الاتصال…افتحي!
قالتها وهي تدوس على قدمها من جديد لعلها تفيق من حالة -البلاهة- التي أصابتها فجأة وهي متجمدة أمام الهاتف…
فتنحنحت زهرة لتفتح الاتصال ثم ردت بأقصى نبراتها دلالاً :
_دكتور جهاد…خيراً!!
كتمت جنة ابتسامتها بصعوبة بينما كانت ماسة غافلة عن كل هذا عندما التفتت زهرة نحوها أخيراً لتقول بنبرة مظلمة بعد أن أغلقت الاتصال:
_دكتور جهاد يريدك في أمر عاجل الآن في المشفى…يقول أن هاتفك مغلق!
وقفت ماسة مكانها لتهتف بقلق:
_ألم يخبركِ ما هو هذا الأمر؟!
هزت زهرة رأسها نفياً وهي تشيح بوجهها …
فاندفعت ماسة لتخرج بسرعة بعد تحية مقتضبة لتغادر المطعم عائدة إلى المشفى…
فالتفتت جنة إلى زهرة لتقول بإشفاق:
_زهرة…يجب أن تتعلمي التحكم في مشاعرك أكثرمن هذا.
لكن زهرة التفتت نحوها بدورها لتهتف بانفعال:
_رغماً عني يا مريم…نارٌ تأكل قلبي كلما رأيتها معه…لم تمر عليها بضعة أيام في المشفى والجميع يلاحظون نظراته الغريبة نحوها..
_إنها متزوجة أيتها الحمقاء!
هتفت بها جنة مدافعة فهزت زهرة رأسها في عدم اقتناع …
لتعاود جنة سؤالها باهتمام:
_ألم تخبركِ أي تفاصيل عن زواجها؟!
فهتفت زهرة بسخط:
_لا…حاولت سؤالها مراراً لكنها تتهرب مني…كتومة لأبعد حد!!
ربتت جنة على كتفها وهي تعاود نصائحها الودود لها بصبر رفيق…
حتى ابتسمت زهرة أخيراً لتقول مشاكسة:
_حسناً…حسناً…تجعلينني أظن نفسي بلهاء في كل مرة تتحدثين فيها إليّ هكذا!
فضمتها جنة برفق لتقول بحنانها الفطري:
_بل شديدة الطيبة …وهذا ما يخيفني عليكِ حقاً!!!
وبعيداً عنهما كانت ماسة تندفع مهرولة نحو مكتب جهاد ….
وقد أنبأها حدسها أن استدعاءه الآن خلفه أمرٌ جلل…
لتدخل أخيراً هاتفةً بين أنفاسها اللاهثة:
_ماذا حدث؟!
رمقها بنظرة مشفقة طويلة قبل أن يشير نحو هاتفه قائلاً بحرج:
_عزيز يقول أنه يحاول الاتصال بكِ لكن هاتفك مغلق.
فبسطت كفها على صدرها تنتظر المصيبة المتوقعة مع همسها بقلق:
_ماذا يريد أن يخبرني ؟!
فأطرق هو برأسه ليهمس بخفوت:
_البقاء لله!
هنا سقط قلبها بين قدميها ….
وقد عادت “غابات الزيتون” تحتل الطريق بين رموشها ومقلتيها لتفقد ساقاها القدرة على حملها…
فاستندت بكفها على ظهر المقعد لتهمس أخيراً بصوت مبحوح:
_من؟!
وهنا أتاها جوابه مريحاً قلبها من ناحية ومعذبه من ناحية أخري :
_والدك!
================
لم تدرِ كيف حملتها قدماها لشقتها الصغيرة حتى دخلت غرفتها …
لقد مات جاسم الصاوي…
مات حتى دون أن تمنحه نظرة وداع…
مات دون أن يترك لها سوى اسم على -الأوراق -الرسمية وبعض -الأوراق- النقدية!!!
نعم…لم ينلها منه ك-أب- سوى بضعة أوراق…
ولن يناله منها الآن سوى دعواتٍ بالمغفرة!!!
فأي أبوة هذه؟!!
لقد رحل جاسم الصاوي…
رحل محملاً بإثمه لتبقى صورته بعينيها ملطخة بجحوده أبداً…
رحل دون أن يضمها لصدره مرة واحدة في عناق أبويّ عاشت عمرها تحلم به…
رحل دون أن تسمعه كلمة “أبي” التي لم ولن تقولها لأحد بعد…
رحل …!!!
وهل أتى كي يرحل؟!!
ابتسامة ساخرة شقت أخاديد الدمع على وجنتيها بعد خاطرها الأخير…
لتشعر بقلبها يكاد ينفطر بحزنه …
فامتدت أناملها نحو هاتفها تفتحه بعد طول إغلاقه لتتصل بأقرب القلوب إليها …
وأحنّها…
نعم…رحمة!!!
ولم يكد الاتصال يفتح حتى سمعت لهفة صوتها تربت على قلبها :
_ماسة…أين أنتِ يا ابنتي؟!
كتمت بكاءها وهي تتصنع التماسك لتقول بجمود:
_أنا بخير يا أمي…لقد علمت الخبر…البقاء لله.
لكن جمودها هذا لم يخدع رحمة التي هتفت بحنانها المعهود:
_عودي يا ماسة…عودي لحضني يا ابنتي…أنا لم أكن أوافقكِ على سفرك هذا من البداية…لا تجمعي علي نفسك هم الغربة والحزن معاً!
فأخذت ماسة نفساً عميقاً قبل أن تقول بنفس الجمود:
_من قال إني حزينة؟!أنا راضية بوضعي الجديد…أما عن جاسم الصاوي فالموت حقٌ علينا جميعاً…سأزور قبره عندما أعود في إجازتي القادمة.
صمتت رحمة قليلاً قبل أن تقول بحكمتها المعهودة:
_حافظي على قلبك يا ماسة…خافي عليه أن يقسو كما تخافين عليه أن ينكسر…لا تسمحي لشيطانك بتملكك في لحظة ضعف…أجمل ما في ابنتي التي ربيتها على يديّ أن قلبها كاسمها…ماسة لن يخبو بريقها رغم الخدوش!
عادت دموعها تسيل على وجنتيها مع كلمات رحمة الخبيرة التي استطردت بحنان عاتب:
_ وددتُ لو كنتِ أقوى…لو كنتِ اخترتِ المواجهة بدل الهرب.
فهتفت ماسة بانفعال :
_أنا لم أهرب يا أمي…أنا تركت خلفي قضايا خاسرة لأبدأ من جديد.
هنا تنهدت رحمة بحرارة لتقول أخيراً بنبرة ذات مغزى:
_جاسم الصاوي مات دونك يا ماسة…فهل تحتملين أن يموت آخرٌ دونكِ أيضاً؟!!
والكلمة أوجعت قلبها لأبعد حد…
حد الصراخ الذي احتل نبراتها بخوف لم تهزمه قسوة عبارتها:
_هما اختارا يا أمي….كلاهما اختار…كلاهما أقصاني عن عالمه برغبته…وأنا لن أشتري من باع!!!
قالتها ثم أنهت الاتصال بكلمات مقتضبة بعد وعد باتصال قريب …
وقد شعرت أن كلمات رحمة تدمي روحها أكثر…!!!
رحمة تلومها على قسوتها ولا تدري أن تلك القسوة هي آخر خطوط دفاعاتها…
ولو انهار…ستنهار هي معه!!!
لا أحد يدرك كمّ الوجع الذي يعتصر قلبها هنا!!!
كمّ الشوق والاحتياج والحزن المصطبغ بحنين لا تعرف منه ملجأً ولا مفراً!!!
وهنا تعلقت عيناها بشاشة الهاتف لتهمس بين دموعها وكأنه سيسمعها:
_أين أنت؟!كنت دوماً جانبي عندما كنت أحتاجك!!!
ويبدو أنها حقاً سمعها…!
لعله ذاك الرباط القدري الغريب بينهما…!!
أو -فلنقل- إحساسه المفرط بها والذي يحتل بقعة النور الوحيدة وسط حطام روحه المظلم…!!
لهذا ما كادت تتم همسها ببضع دقائق حتى عاد هاتفها لرنينه…
وهذه المرة لم تنتظر انقطاعه كما كانت تفعل معه…
بل فتحت الاتصال بلهفة لتضم الهاتف إلى صدرها دون كلمة للحظات…
قبل أن ترفعه أخيراً لأذنيها ليصلها صوته القلق:
_لماذا كنتِ تغلقين هاتفك؟!أنا أكلمكِ منذ الأمس!!
حاولت أن تصبغ صوتها بجمود كهذا الذي تحدثت به مع رحمة لكنها عجزت…
انهارت مقاومتها مع إحساسها بل -يقينها- أنها -دونه هو- وحيدة…
وأن أحداً لن يعوضها هذا الشعور الذي لا تجده إلا معه!!!
فانخرطت فجأة في بكاء حاد مع همساتها المتقطعة:
_لماذا تفعلون بي هذا؟!!أنتم لا تمنحونني حتى فرصة للتنفس؟!!لم أعد أستطيع تقييم أي شئ…لا أستطيع أن أكون طيبة القلب التي تسامح… ولا أقدر أن أكون قاسية المشاعر التي تفارق…جاسم الصاوي تركني طوال هذا العمر ليعود في النهاية ويمنحني مجرد اسم وحفنة أموال …وحسرةً ستبقى في قلبي العمر كله…
انقطع حديثها مع عبارتها الأخيرةالتي شعرت بها تمزق قلبها….
فانفطر قلبه بعمق إحساسه بها وهو يعلم أنه خذلها -مثل أبيها- وربما أكثر…
لكنه عجز عن الكلام ودموعها تلهب صدره قبل أذنيه…
عندما استطردت هي أخيراً بانفعال أكبر:
_هل من المفترض الآن أن أدّعي حزناً عليه؟!!أم على نفسي قبله؟!!أن أدعو له برحمةٍ حرمني هو منها؟!أن أتصنع نحوه حباً لم يشعر هو به نحوي؟!!أن أكون له “ابنة” وهو الذي انتزع مني شعوري بنعمة “الأب”؟!!كيف؟!!كيف؟!!
زفر زفرة حارقة ود لو تخرج معها روحه منهيةً هذا العذاب الذي ينهش صدره…
قبل أن يقول أخيراً بنبرة غريبة على أذنها وكأنه يتحدث عن نفسه لا عن والدها فحسب:
_هو أرادكِ…أحبكِ حقاً لكن ذنوبه قيدته…تظنين الرجوع سهلاً كالذهاب؟! لا يا صغيرتي…في طريق الخطايا خطوة للأمام تساوي ألف ألف خطوة للوراء …فمن ذا يقوى على فعلها؟!!
ثم صمت لحظة ليردف بخفوت:
_الحب تمثالٌ مهيب من شمع تنصبه القلوب في ساحاتها…لكن الشمع يا صغيرتي ينصهر بلهب الخطايا…يذوب..يتحلل…ينهار التمثال فلا يبقى منه سوى أثرٍ ممسوخٍ يحكي…هنا كان يوماً تمثال حب!!
وخزت كلماته قلبها أكثر لتعاود ضم الهاتف لصدرها للحظات…
قبل أن تعيده لأذنها مع همسه الذي وصلها صادقاً لأبعد حد:
_سامحيه يا ماسة…وادعي له بالرحمة…هو أحبكِ لكنكِ…لكنكِ جئتِه بعد فوات الأوان!!
وكأنما كان ضعف قلبها نحوه موازياً لشدة قسوتها التي احتلت نبراتها وهي تهتف به أخيراً قبل أن تغلق الاتصال بعنف:
_لا…لن أسامحه…ولن أسامحك…أبداً يا عاصي…أبداً!!!
========
وقف يراقبها بافتتان لم يعد يغادر نظراته نحوها حتى انتهت من صلاتها …
فرفعت عينيها إليه مع قوله بابتسامته العذبة:
_تقبل الله!
طوت سجادة الصلاة وهي تقوم واقفة لتتوهج عيناها ببريق عشقها مع تمتمتها الخافتة:
_منا ومنكم!
تلقفها بين ذراعيه باحتضان رفيق تلته قبلته -المعتادة- على شق ذقنها ككل ليلة مع همسه الدافئ:
_كيف حال “ليمونيّتي” اليوم؟!
ابتسمت بسعادة وهي تومئ برأسها لتهمس بصدق مس قلبه:
_بخير…مادمت معك!
ثم تنحنحت بارتباك مع قولها:
_كنت أريد التحدث إليك في أمر ما.
جذبها من كفها برفق ليتمدد على الفراش بإرهاق احتل نبراته بقوله:
_لقد شعرت بأن هناك شيئاً ما عندما لم أجدكِ عند أمي عقب عودتي ككل ليلة.
فخلعت إسدال صلاتها لتجلس جواره على طرف الفراش هامسة بوداعتها المعهودة:
_قلبك دوماً يشعر بنا يا حبيبي.
غامت عيناه بقلق وهو يضغط كفها براحته هامساً:
_هل ضايقكِ أحد؟!
هزت رأسها نفياً ثم عادت تقول برفق:
_إنها عزة…أتتني اليوم تطلب مني التوسط لديك كي تسمح لها بما تريده.
أشاح بوجهه في إشارة واضحة للرفض فاقتربت منه لتربت على وجنته بكفها الحر مع قولها في محاولة لإقناعه:
_أرجوك يا حبيبي…اسمعني فقط.
_أسمع ماذا؟!إنها تريد العمل ب”الطبخ” للآخرين وكأنها مجرد خادمة…ماذا يقول الناس عنا؟!!
هتف بها في سخط فتغضنت ملامحها للحظات…
قبل أن تربت على صدره لتقول بهدوء:
_إنها هوايتها الوحيدة…أنت تعلم أنها لم تكمل تعليمها…وهي حقاً ماهرة في الطهي…لقد أنشأت لنفسها صفحة على “الفيسبوك” جمعت العديد من المتابعين …وصفاتها ممتازة وهي تطور نفسها بالقراءة والممارسة وتجميع الوصفات من جميع أنحاء العالم…ولو سمحت لها بهذا المشروع الذي تريده فستثبت نفسها حقاً….ليس الأمر كما كان قديماً…الطبخ الآن صار عالماً واسعاً والماهرون فيه يُشار إليهم بالبنان.
هز رأسه في عدم اقتناع ليقول بعدها باستنكار:
_ألم تجد سوى هذه الهواية؟!إنها تحقر من شأن نفسها وشأننا معها!!!
عادت تربت على صدره مهدئة لتقول بدفاع مخلص:
_من قال هذا؟!العمل الشريف لا يعيب أحداً…وأنا واثقة أنها عندما تمارس شيئاً تحبه فستبرع فيه!
ثم رفعت كفه إلى صدرها تضمه بقوة مع رجائها:
_قدّر ظروفها يا حبيبي…أنت تعلم أنها تكاد لا تفعل شيئاً طوال النهار…تراني أنا منهمكة بدراستي وجامعتي…وهيام متفرغة لأطفالها…أرجوك يا راغب اسمح لها بهذا الأمر لعلها تجد نفسها فيه.
زفر بضيق وهو يعاود الإشاحة بوجهه…
فهتفت وقد راودتها فكرة ما:
_ما رأيك لو نفتح لها المحل أسفل المنزل تتلقى فيه الطلبات ونحضر لها عاملتين لمساعدتها…سيبدو الأمر وكأنه مشروعٌ محترم يليق بك.
التفت نحوها بحدة ليقول معترضاً:
_ماذا تقولين يا رؤى؟!أتركها تقف في الشارع طوال اليوم عُرضةً للرائح والغادي؟!
هزت رأسها وهي تقول مجادلة:
_ليس في الشارع…هي ستقوم بالطبخ في شقتها معززة مكرمة…المحل سيكون فقط لاستقبال الطلبات وتوصيلها للمنازل…ولجعل الامر يبدو أكثر أناقة!!
صمت لبعض الوقت مفكراً…فعادت تقول برجاء:
_راغب…دعها تشعر بقيمة نفسها في فعل الشئ الذي تحبه…نجاحها سيدعمها كما كنت دوماً تخبرني.
ثم صمتت لحظة لتسأله بتردد:
_بالمناسبة …ما هي أخبار ذاك الوغد خطيبها السابق؟!
عقد حاجبيه بضيق وهو يقول :
_أخذ حكماً قضائياً بالسجن لكنني أعرف أنه لن يمرر الأمر هكذا.
ثم لوح بسبابته في وجهها قائلاً:
_لا تخبريها بهذا…كفاها الذعر الذي تعيش فيه بسبب ذاك الرجل.
أومأت برأسها في تفهم مع قولها:
_لهذا أرى أن نشغل تفكيرها بشئ آخر…ومن يدري؟!ربما طورت هوايتها هذه لاحتراف يؤهلها لعمل مرموق!
_دعيني أفكر!
قالها أخيراً منهياً النقاش لكنها شعرت ب-إحساسها- به أنه سيوافق…
فمنحته أجمل ابتساماتها وهي تميل على وجنته بقبلة عميقة قبل أن تقول بدلالها الفطري:
_مطلبٌ آخر…!!
رفع أحد حاجبيه بمكر وهو يجذبها نحوه ليقول مشاكساً:
_تعلمين أنني لا أفعل شيئاً دون مقابل!!
ضحكت بمرح مشوب بخجلها وهي -تغلظ- صوتها مقلدة صوته لترد بشقاوة محببة:
_عيب يا أستاذ…أنت زبون قديم وسنكرمك!
ضحك ضحكة طويلة وهو يضمها إليه أكثر مخفياً رأسها في صدره للحظات…
فضحكت بدورها وهي ترفع إليه عينيها أخيراً مع همسه الحاني:
_ماذا تريدين؟!
أراحت وجنتها على صدره مع تشبث عينيها بعينيه لتهمس برفق:
_أمي تريد السفر للحج…وتقول أنك لا توافق.
ابتسم وهو يداعب شعرها بأنامله ليهمس بمرح مشوب بحنانه:
_هل صرتِ المتحدث الرسمي للجميع هنا؟!!
فهزت كتفيها لتهمس بدلال آسر:
_يزعمون أنك لا ترفض لي طلباً!!
_صدقوا!
همس بها بين شفتيها في قبلة خاطفة قبل أن يردف بحرارة:
_يعلمون أنكِ نقطة ضعفي!
ابتسمت بفخر عاشقة تتلقى اعترافاً كهذا بهذه الحرارة…
لكنه عاد يقول بجدية:
_لكن صحة أمي لا تسمح لها بالسفر .
_سنسافر معها!
هتفت بها بحماس مع استطرادها المنفعل:
_نعم…حتى نعتني بها تماماً…لا تتصور مدى تعلقها بالأمر…إنها تطلبها من الله في كل صلاة…وأنا أيضاً.
ارتفع حاجباه بدهشة مع مداعبته لوجنتها هامساً بحنان:
_تطلبينها لأمي؟!
لكنها زمت شفتيها لتهمس بعدها برجاء رقيق:
_ولي!
ثم تنهدت بحرارة وهي تخفي وجهها في عنقه وكأنها لا تريد مواجهة عينيه بما ستقول:
_قلبي يتمناها وكأنها علامة قبول توبته!!!
أومأ برأسه في إدراك وهو يرفع ذقنها نحوه ليهمس بابتسامته الدافئة التي تكفي وحدها لإذابة صقيع هواجسها:
_وأنا لن أترك شيئاً يسعدكِ إلا وأفعله!
توهجت عيناها بفرح حقيقي وهي تنهض من على صدره لتهتف بسعادة :
_حقاً يا حبيبي؟!!وافقت!!!
تبعت قولها بتصفيق حاد زاد من طلتها الطفولية…خاصةً عندما وقفت لتردف بجذل:
_أمي و عزة ستفرحان كثيراً.
قالتها وهي تكاد تعطيه ظهرها لكنه جذبها نحوه ببعض العنف ليجلسها جواره من جديد هاتفاً بعينين مشتعلتين بعاطفته:
_إلى أين؟!
خفق قلبها بجنون إدراكه لمغزى سؤاله لكنها تصنعت البراءة بقولها:
_سأذهب لأفرحهما بموافقتك؟!
ليقترب هو بشفتيه من شفتيها مع همسه الحار وهو يضغطها بين ذراعيه :
_ألا تفرحينني أنا أولاً؟!
تثاقل جفناها بعمق إحساسها وهي تتلقى فيض عاطفته بشغف قبل أن تبادله مثله…
لتهمس أخيراً بعد دقائق مضت بهما مشتعلة …:
_أحبك!
_أعلم!
قالها وهو يداعب أنفها بسبابته مشاكساً مع ضحكته الخشنة المميزة…
فابتسمت وهي تلصق وجنتها بوجنته لتهمس بحرارة:
_أنا لا أقولها…أنا أتنفسها…أعيش بها…
ثم عادت بعينيها إليه مع استطرادها:
_حبك كان شهادة ميلاد جديدة لامرأة ماتت في عين نفسها قبل الجميع!
فطافت شفتاه على وجنتها بشغف رفيق أفقده كلماته للحظات…
قبل أن يهمس أخيراً أمام عينيها:
_يزعمون أن الكلمات تظلم المشاعر …إلا كلامكِ أنتِ…كل حرفٍ منه يتلقفه قلبي كقطرة ماء على فم ظمآن!!
فاتسعت ابتسامتها العاشقة وهي تلتصق به أكثر في تعلقٍ صار يتملكها نحوه يوماً بعد يوم…
وكيف لا؟!!
وهو الحب الحقيقي الذي جادت به الأقدار بعد طول حرمان!!!
قبل أن تبتعد هي عنه بجسدها أخيراً لتعقد ساعديها أمام صدرها قائلةً بدلال طفولي:
_مسرحيتي المفضلة ستعرَض على التلفاز بعد قليل…ولديّ مخزونٌ هائل من “اللب والحمص” في انتظار سهرتنا ككل خميس.
ثم وكزته في صدره بسبابتها بخفة مردفة:
_”اللب” لك و “الحمّص” لي!!
هز رأسه مع ضحكة مرحة صاحبت قوله:
_هوسك ب”الأصفر” صار يقلقني…حتى في طعامك !!!
لكنها جذبته من كفه لتوقفه قائلةً بضحكة عفوية:
_لم أنتبه للأمر إلا بعد تلميحك…يبدو أنني مسحورة ب”الأصفر” حقاً!!!
عاد يضحك بمرح وهو يقبل وجنتها بعمق قبل أن يقول لها برفق:
_حسناً…سأستحم وأبدل ثيابي ريثما تعدين “حفلة الخميس” ككل أسبوع.
وبعدها بقليل كان يجلس على الأريكة في انتظارها عندما أتته تحمل صينية الطعام والمشروبات…
قبل أن تنتبه لشاشة التلفاز فزمت شفتيها وهي تضع ما بيديها على المائدة لتقول باعتراض:
_لماذا غيرت القناة؟!لن تشاهد الأخبار بل المسرحية!!!
لوح ب”الريموت” في يده وهو يقول بابتسامة حانية:
_سنفعل كما تشائين…كنت فقط أشاهد جنازة جاسم الصاوي…كانت مهيبة بحق!!
تجمدت ملامحها للحظات كان هو غافلاً عنها قبل أن تتصنع اللامبالاة مع قولها:
_ومالنا وهؤلاء؟!
هز كتفيه وهو يشير نحو الشاشة حيث كانت مثبتةً على صورة لفهد وسط الجموع يتلقى التعازي:
_ابنه يبدو حزيناً جداً …يقولون أنه سيخلفه في عمله السياسي.
جلست جواره لتتشبث بكفه بين راحتيها وكأنها تحتمي به من هواجسها لتقول بهدوء مصطنع:
_هؤلاء الناس لا يحزنون…إنه مجرد تمثيل أمام الكاميرات…وغدٌ ذهب… وسيخلفه وغدٌ مثله.
اتسعت ابتسامته وهو يضم رأسها لكتفه قائلاً :
_لم أعهدكِ تهتمين بالسياسة!!
لكنها رفعت عينيها إليه لتقول بشرود:
_لا ليس السياسة…بل الإنسانية…أشعر أن هؤلاء الناس قد نُزعت من قلوبهم الرحمة.
قالتها وغابت مع نفسها في شرود طويل وقد حملها الحدث لأشد ذكرياتها سواداً…
فهد الصاوي وحطام خطيئتها القديمة…
ترى هل من الصواب أن تخبر راغب عنه ولا تخفيه شيئاً؟!!
أم أن هذا سيذكي نيراناً خمدت منذ زمن ؟!!
لا…لا…
لن تفعلها…
ستستجيب لصوت العقل هذه المرة وتردم التراب على خطيئة سترها القدر…
والأولى أن تسترها بدورها…!!!!
بينما انغمس هو في مشاهدة المسرحية غافلاً عن شرودها الطويل…
حتى انتبه لوجومها المفاجئ فسألها باهتمام:
_ماذا بكِ؟!
التفتت إليه من شرودها لتقول بعد صمت قصير:
_هل تذكر صديقتي جنة التي حدثتك عنها يوماً؟!!لقد افتقدتها حقاً…لم أسمع عنها شيئاً منذ ودعتني قبل سفرها..وبالأمس حلمت بها …وكانت…كانت تبدو حزينة جداً!
دمعت عيناها مع شعورها الذي اكتسحها الآن بافتقادها لجنة…
والذي ألبته ذكرياتها السوداء مع فهد…
لكنه قبل وجنتها بعمق ليهمس بحنان:
_لا تقلقي…غداً تعود من سفرها وتطمئنين عليها.
عاد الذنب يحتل نظراتها نحوه وقد شعرت بتأنيب ضميرها لمجرد تفكيرها في هذا الأمر من جديد…
فسألته لتغير الموضوع:
_كنت أريد أن أسألك عن شئ لكنني أخشى أن تسيئ فهمي.
رمقها بنظرة عاتبة مع قرصة خفيفة لوجنتها…
فابتسمت وهي تضع كفها على صدره لتهمس بحيرة:
_لماذا اخترتني رغم فارق مستوى التعليم بيننا؟!ألم تخشَ مثلاً أن أتكبر عليك؟!!
ابتسم ابتسامة واسعة وهو يرفع أناملها لشفتيه مقبلاً برقة…
قبل أن يهمس بنبرته العاشقة:
_أولاً…أنا لم أختر…حبكِ أصابني كقدرٍ فلم يسعني إلا الإيمان به…خيره وشره!!
ضحكت بسعادة غامرة وهي تقبل كتفه بحب…
فيما استطرد هو بنبرة أكثر جدية:
_وثانياً…لا أنكر أن هذا جعلني أتردد في البداية خوفاً من أن يرفضني أخوكِ لهذا السبب…لكنني عاهدت نفسي وقتها لو وافقتِ ألا أعترض طريق نجاحكِ أبداً …لأنه سيكون طريقي أنا الآخر.
لم يكد يتم عبارته حتي انتزعت كفها منه برفق لتتعلق بذراعيها في عنقه وقد عجزت أن تجد من الكلمات ما يوفيه حقه…
بل إنها لعنت تفكيرها يوماً عندما كانت تستكثر نفسها عليه قبل أن تعرفه لمجرد مقارنة ظاهرية بينه وبين فهد…
والآن دارت الأيام دورتها لتثبت لها حقيقة الأدوار…
وتريها الفارق بين المعدن النفيس والمعدن الصدئ…
لقد اختارت لها السماء قدرها فكان أجمل قدر…
وأعظم حب!!!
============
_هل أتيتَ يا “صاحبي”؟!!
هتف بها محمد الصغير وهو يندفع نحوه عقب عودته للبيت بعد صلاة العشاء…
فضحك عبد الله وهو يتلقفه بين ذراعيه ليحمله قائلاً بحنان:
_نعم يا “صاحبي”…وأحضرت لك لعبتك التي طلبتها!
ابتسمت فتون بسعادة وهي ترى منهما هذا لكنها عاتبت الصغير برفق:
_لماذا تدعو الشيخ هكذا؟!ألم نتفق أن نحترم “الكبار”؟!!
لكن الصغير أشار نحو عبد الله بسبابته ليقول بدفاع طفولي:
_هو موافق…فلا تتدخلي بين” الرجال”!!!
انطلق عبد الله ضاحكاً من فطنة الصغير…
فيما ضحكت فتون بدورها قائلة بعتاب مرح:
_هكذا إذن يا محمد؟!صرت أنا الدخيلة هنا؟!
فالتفت الصغير نحوها ليقول ببراءة:
_الآن أنا صاحبه وهو صاحبي…وعندما أكبر أناديه الشيخ عبد الله ويناديني الشيخ محمد!!
عاد عبد الله يضحك من جديد وهو يربت على ظهره قبل أن ينزله أرضاً ليقول بحماس:
_هيا إذن يا صاحبي…نفتح اللعبة …لنلعب معاً.
لكن فتون هتفت باعتراض:
_تناول طعامك أولاً يا شيخ!
لكنه لوح بسبابته نفياً وهو يتوجه نحو مائدة الطعام حيث فتح العلبة مستخرجاً محتوياتها من أدوات الحرب و”العساكر” البلاستيكية والحواجز والأسلحة…
لينهمك مع الصغير في رصها واللعب بها لوقت طويل دونما ملل…
فيما جلست فتون تتأملهما بحنان ممتزج بتوجسها الذي لازال يملؤها…
رغم أن اهتمام عبد الله بالصغير يزداد يوماً بعد يوم …
لكن من يضمن لها أنه لن يتخلى عنهما؟!!
خاصةً بظروف زواجهما العجيبة والذي لا يزال -إلى الآن – لا يتعدى كونه حبراً على ورق!!!
_أين “ماما صفا”؟!لماذا لم أعد أراها؟!
سؤال الصغير اخترق شرودها كطلقة غادرة…
فانعقد حاجباها وهي ترمق عبد الله بنظرة متفحصة ….
بينما اختفت ابتسامة عبد الله فجأة وهو يطرق برأسه للحظة…
قبل أن يقول للصغير بصوت متهدج:
_افتقدتها؟!!
_جداً!!!
هتف بها محمد باندفاع طفولي قبل أن يردف برجاء:
_دعنا نزرها يا “صاحبي”…هي أيضاً كانت تحضر لي اللعب وتشاركني فيها!!
_محمد!!
هتفت بها فتون بنظرة زاجرة قبل أن تذهب إليه لتجذبه من كفه قائلةً بحزم:
_كفاك لعباً اليوم…دع الشيخ ليأكل ويستريح…إنه ميعاد نومك!
أومأ الصغير برأسه في طاعة رغم الضيق الواضح على ملامحه…
لتذهب به إلى فراشه في غرفته قبل أن تعد الطعام على المائدة ليتناوله عبد الله بشرود ….
ثم قام من مكانه أخيراً ليقول بنبرة فاترة:
_سلمت يداكِ!
رمقته بنظرة طويلة وقد صارت مشاعرها نحوه تربكها…
كم تود لو ينتبه إليها ك”امرأة” في بيته لا مجرد رفيقة سكن…
بل إنها حتى لا تشاركه طعامه …!!!
هو لم يطلبها منها وهي تشعر بالحرج أن تفعلها من تلقاء نفسها…
وكيف تفعل؟!!
وهو يتهرب حتى من النظر إليها وكأنه إثمٌ عظيم!!!
أفاقت من خواطرها عندما انتبهت لمغادرته نحو غرفته وإغلاقه لبابها خلفه…
فتنهدت بحرارة وهي ترفع الأطباق نحو المطبخ…
قبل أن تغسلها بشرود لتعاود طريقها نحو غرفتها مع الصغير…
جافاها النوم لوقت طويل وهي تشعر بالقلق من مستقبلها هنا…
ترى هل سيفي الشيخ بوعده نحوها ونحو الصغير؟!!
ال”شيخ”؟!!
ما هذا الغباء الذي تتمسكين به يا فارغة العقل؟!!
طالما لازلتِ تنادينه ب”الشيخ” وتتمسكين بثيابكِ السخيفة هذه أمامه فمن المحتم أنه لن ينظر إليك أبداً كامرأته!!!!
قومي…
قومي واستغلي هذا الجمال الذي وهبه القدر لكِ!!!
الرجل ليس راهباً!!!
ولو لم ينل حاجته منكِ فسيبحث عن غيرك!!!
نعم…ما المانع؟!!
كما تزوجكِ بعد امرأته الأولى فما يمنعه من الزواج عليك؟!!
ووقتها ربما يلقيكِ وابنكِ في الشارع!!!!
إلا إذا….
إلا إذا حملتِ أنت بطفله الذي ينتظره بشوق طوال هذه السنوات!!!!
نعم…هذا ما سيثبت قدميكِ بحياته ويضمن ألا يهجركِ لأجل أخرى!!!
قومي أيتها الحمقاء وأدركي حالكِ قبل فوات الأوان!!!
أنت تتزينين لزوجك لا لرجل غريب!!!!
وبهذا الخاطر الأخير انتفضت من فراشها لتتوجه نحو خزانة ثيابها…
لتستخرج منها أكثر قمصانها فتنة…
قبل أن تتوجه نحو مرآتها لتنزع عنها طرحتها التي لا تكاد تخلعها…
ثم حلت شعرها الطويل من رباطه لتمشطه باهتمام…
لتتزين بعدها برقة أبرزت فتنتها الباهظة…
نظرت لصورتها أخيراً في المرآة لتمنح نفسها نظرة راضية…
قبل أن تعود ببصرها للصغير النائم بنظرة مطمئنة…
ثم سارت بخطوات متمهلة نحو باب الغرفة…
وفي صالة المنزل كان هو جالساً وقد دفعه أرقه للخروج من غرفته لعل ذهنه يهدأ من عنيف خواطره…
سؤال الصغير البرئ عن صفا أحيا شوقه المستعر نحوها…
وأغرقه في دوامة الذنب من جديد!!!
الصغير يريد رؤيتها…
وهو يتوق أن يفعل!!!
أن يلقي رأسه على صدرها ككل ليلة ليروي لها حكايا يومه الطويل…
أن يتذوق طعامها الذي لا يتصور أن تشاركه فيه سواها…
أن يتدلل عليها برغبته في حكاية قبل النوم فتحكي له حكايتهما لتنهيها بقولها الخالد:
_وهل هناك أجمل من حكايتنا؟!
انقطعت أفكاره عندما فتح باب غرفة فتون لتتغضن ملامحه وهو يراها قادمة نحوه بخطوات مرتبكة ناسبت قولها :
_ما الأمر يا شيخ؟!هل تحتاج شيئاً؟!
قالتها وهي تعدل طرحتها على رأسها بحركة عصبية وكأنها تتشبث بها!!!!
ما هذا الجنون الذي أوشكت على فعله؟!!
ربما تكون بحق في حاجة هذا الرجل…
لكنها امرأة عزيزة النفس…
لن تفرض نفسها على رجل ولو كان زوجها!!!
الحمد لله أنها عادت لعقلها في الوقت المناسب!!!
_بعض الأرق فحسب…عودي لنومك!
أجاب بها على تساؤلها وهو مطرق برأسه …
فلم تملك إلا أن تجلس جواره على مسافة مناسبة وهي تقول بحنانها البسيط غير المتكلف:
_أنا أعرف أن سؤال الصغيرعن “سيدتي صفا” قد ضايقك…سأفهمه ألا يفعلها ثانيةً!
هز رأسه نفياً وهو يقول بشرود:
_لا…لم يضايقني…على العكس.
أذكت عبارته نيران غيرتها التي لم تملك في أمرها شيئاً…
لكنها تجاهلتها لتقول بإشفاق حقيقي:
_هل أعد لك كوباً من “الينسون”؟!سيدتي صفا كانت تقول أنك تحبه بعد العشاء!!
رفع عينيه إليها بحدة فلعنت غباءها الذي جعلها تقول هذا له الآن…
لكنه فاجأها بقوله بلهجة شاردة:
_وماذا كانت تقول عني أيضاً؟!
اتسعت عيناها بدهشة وعبارته البسيطة تقع في قلبها أعظم موقع!!!
هذا رجل عاشق …
عاشق بحق!!!
يبحث عن بقايا من ذكر امرأة له وسط الناس!!!
يأنس بماضيه معها ويزهد بحاضر حقيقي بين يديه!!!
هل هذا هو العشق الذي كانت تسمع عنه ولم تجربه يوماً؟!!
أم أن هذا الرجل مخبول؟!!
أفاقت من أفكارها على نظرته المترقبة نحوها …
فازدردت ريقها ببطء لتهمس بارتباك:
_الكثير…هي لم تكن تحكي إلا عنك!
ابتسم رغماً عنه وهو يعود برأسه للوراء ليغمض عينيه وهو يكاد يرجوها أن تكمل حديثها…
لكنه كان يعلم أنه يظلمها بهذا أكثر…
شعوره بالذنب نحوها يزداد يوماً بعد يوم وهو يرى أنه يحرمها حقها كزوجة…
لكن ماذا عساه يصنع في هذا الحاجز النفسي الذي يقف بينهما…
من يصدق أن هذه المرأة التي لا تزال تحافظ على حجابها في بيته ولا يستطيع أن يمسها…
هي نفسها التي طالما اشتعلت بها أحلام ليله قديماً؟!!
لكن ماذا عساه يقول!!!
هل سُمّي القلب قلباً إلا لكثرة تقلبه؟!!
لعله ذنبه القديم الذي يستوجب أن يدفع ثمنه برضا…
لعل السماء تمن عليه بفرج قريب!!!
وأمامه كانت هي تدرك بحدسها ما يدور برأسه…
على الأقل ما يختص بصفا!!!
لهذا عفته من حرج السؤال لتندفع متطوعة بحديث طويل عن صفا….
عن حبها الكبير له…
عن حكاياتها الطويلة عن طباعه…
كيف كانت تنتظره بشوق كل ليلة يتأخر فيها…
وكيف كانت رغبتها في طفل منه!!!
كانت تحكي بإسهاب وهو مغمضٌ لعينيه يكاد يرجوها ألا تتوقف أبداً…
وعجباً له!!!
كانت صفا بين يديه فكاد يجن بفتون…
والآن فتون معه…فيتركها لحديث قديم عن صفا!!!
فيالشقاؤك يا عبد الله!!!
يالشقاؤك!!!
انتظمت أنفاسه أخيراً وهو مسندٌ رأسه على الأريكة مستسلماً لنومه…
فتوقفت عن الحديث لتنظر إليه بإشفاق ممتزج بحيرتها…
قبل أن تذهب لتحضر له غطاءً خفيفاً لتضعه عليه وقد خافت أن توقظه فيعود لأرقه…
ثم رمقته بنظرة أخيرة حملت تساؤلها القلق نحوه…
ماذا تخفي لي الأيام معك يا شيخ؟!!
ماذا؟!
=============
_أنس…أين كنت مختفياً طوال الفترة السابقة؟!
هتفت بها صفا بانفعال وهي تدخل عليه مكتبه في المدرسة…
فأشاح بوجهه دون رد عندما جلست هي أمامه لتردف بقلق:
_لقد مر أكثر من شهرين على وفاة عمي لم أركَ فيهما مرة واحدة…ماذا حدث؟!
ظل مشيحاً بوجهه للحظات…
قبل أن يعاود الالتفات إليها بعينين ذابلتين مع قوله بابتسامة شاحبة:
_دعكِ مني وأخبريني عن أحوالك.
زفرت زفرة مشتعلة وهي تطرق برأسها لتهمس بخفوت:
_الحمد لله.
ثم عاودت رفع عينيها إليه لتقول بنبرة راجية:
_لا تتركني ثانيةً يا أنس…أنا لم يعد لي سواك
فغامت عيناه بنظرة غريبة لم تفهمها قبل أن تعود لشفتيه ابتسامتهما الباهتة مع قوله المتحفظ:
_اعذريني يا ابنة عمي…تعلمين أنه لا يمنعني عنكِ إلا أمرٌ جلل.
رمقته بنظرة أكثر قلقاً وهي تقترب منه بوجهها لتسأله باهتمام:
_وما هو الأمر الذي استدعى غيابك عن المدرسة كل هذا الوقت؟!أنت لم تفعلها يوماً!!
ثم أطرقت برأسها لتردف ببعض الخجل:
_أنت حتى لم تكن ترد على اتصالاتي…ألازلتَ غاضباً مني لأجل ما حدث بيننا في آخر حوارٍ لنا؟!
تنهد بحرارة وهو يتلاعب بقلمه بملامح جامدة للحظات امتنع فيها عن الرد…
فرفعت عينيها إليه لتسأله بتردد:
_أنت كنت وراء ذاك القرار بفصل ذاك المعلم من هنا؟!
_نعم!
قالها قاطعةً دون تردد…
قبل أن يلوح بقلمه في وجهها قائلاً بتجهم:
_سأحميكِ من كل من تسول له نفسه التلاعب بك…بل ومن نفسك لو اقتضى الأمر.
عاد الذنب يلتهم ملامحها وهي تشعر بشئٍ ما تغير في ملامحه شديدة الطيبة…
نظراته الحنون غلفتها غلالةٌ رائقة من حزن استشعرت أنها هي وحدها سببه…
بينما انتزعها هو من أفكارها أخيراً بقوله الشارد:
_اخلعي الأسود يا ابنة عمي…الحداد في القلب لا في الملبس!
رمقته بنظرة متفحصة طويلة قبل أن تغمغم بلهجة مذنبة:
_لماذا لم تعد تناديني “صافي” كالسابق؟!
فالتفت إليها من شروده ليبتسم بتهكم مرير مع قوله:
_عندما تعود “صافي” فسيعود إليها اسمها…أنتِ الآن ابنة عمي فحسب.
دمعت عيناها بتأثر من تغير لهجته معها لتنفرج شفتاها وهي تهمّ باعتذار…
لكنه بادرها بقوله المفاجئ:
_أنا أريد الزواج منكِ!
اتسعت عيناها بصدمة حقيقية وهي تتفرس في ملامحه وكأنها فقط تتيقن من صدق قوله…
لكنه حافظ على جمود ملامحه وهو ينظر إليها نظرة ثابتة…
لتزدرد هي ريقها بتوتر هامسة:
_لماذا غيرت رأيك؟!
غامت عيناه بسحابة داكنة لتنفلت منه نظرةٌ نحو درج مكتبه قبل أن يعود ببصره إليها ليقول بنفس النبرة الجامدة:
_لقد أعدت التفكير…ما فائدة حبي لكِ لو لم ينتزعكِ من هذا الجحيم الذي أنتِ فيه؟!
ثم صمت لحظة ليبتلع غصة مريرة بحلقه قبل أن يردف بصوت مختنق:
_إذا كنت عجزت عن منح نفسي السعادة فلماذا لا أمنحها لكِ أنتِ؟!
سالت دموعها على وجنتيها وهي تشعر بتمزق هائل…
وكأنها وجدت نفسها فجأة ضالةً في طريق مقفر…
هي لم تعد تفهم شيئاً…حتى نفسها…
كل ما يعنيها الآن أن تنتقم…
أن ترد لقاتلها طعنته بأقسى منها!!!
أن تغرس في صدره خنجراً تلوث بدمائها قبله!!!
وكأنما قرأ هو ما بعينيها كعادته ليقول أخيراً بنبرة غامضة:
_نعم يا ابنة عمي…سأمنحكِ سيف الانتقام …لتريْ بعينيكِ مدى ثقله على يدين لم تعتادانه!
=======
ارتجفت أناملها وهي تمسك القلم لتوقع على الدفتر …
قبل أن ترفع عينيها إليه بنظرة عميقة حملت كل مشاعرها المتناقضة الآن…
ورغم أن ملامحه حافظت على جمودها لكن نظراته كانت دافئة لأبعد حد…
وكأن عاطفته التي التهبت بها أعماقه بحثت عن أضعف قشرة في سطح أرضه لتنفجر من عينيه بركان عشقٍ ثائر لن يخمد بعد ذلك أبداً!!!
فلانت ملامحها نوعاً وهي تضع القلم جانباً ليصلها صوت الرجل وكأنه ينبعث من خلف جدار بعيد:
_مباركٌ زواجكما!
انقبض قلبها بعنف والزغاريد تنبعث جوارها تصفع قلبها بحدتها…
قبل أن تشعر بكفه يسحبها إليه ليوقفها مع همسه في أذنها:
_تصنعي ابتسامة …فالجميع ينظرون إليكِ!
ارتجفت شفتاها بشدة وهي تحاول الابتسام كما نصحها…
لتتلاعب أناملها بقماش فستان زفافها الذي أصرت على اختياره ملفتاً لأبعد حد…
تماماً كما أصرت أن يكون الزفاف في أكبر فنادق المدينة وأفخمها…
وكل ما كان يدور في ذهنها وقتها أن زفاف صفا المعموري يجب أن يكون حديث الناس لأيام طويلة بعده…
خفق قلبها بجنون عندما شعرت به يجذبها نحو حلقة الرقص ليحيط خصرها بكفه مع تمسك الآخر بكفها…
فدمعت عيناها رغماً عنها وهي تعض على شفتها محاولةً كتم دموعها بكل ما أوتيت من قوة…
صوتٌ بداخلها يلومها…
خنتِ يا صفا؟!!
طاوعكِ قلبكِ أن تسلمي جسدكِ لرجل آخر؟!
أين عهودكِ لمن قلتِ له يوماً أنه “ابن قلبك” الأول والوحيد؟!!
تظنين أنك تنتقمين منه؟!!
أيتها البائسة!!
أنتِ تنتقمين من نفسكِ قبله!!
حمقاء كنتِ في عشقكِ وأكثر حماقةً في انتقامك…!!!!
فيالكِ من خاسرة!!!
لينبعث من داخلها صوتٌ آخر يطغى على الأول…
_بل رابحة!
انظري لزوجكِ الذي يليق بكِ وبمقامكِ…لا ك-سابقه -الذي مننتِ عليه بقبولك الزواج منه!!
رجلٍ عشقكِ طوال هذه السنوات دون مقابل…لا كمن ادعى عاطفة داسها بقدميه ليلهث كالكلب خلف خادمتك!
رجلٍ يتمنى رضاكِ ولن يكون يوماً كمن جعل “يمين الطلاق” المقدس علكة في فمه يبصقها وقتما يشاء…
رجلٍ بحق يستحق صفا المعموري كما تستحقه!!!
وبهذا الخاطر الأخير حسمت صراع نفسها لتمسح دموعها الخائنة بخفة….
قبل أن تتسع ابتسامتها المصطنعة وهي تتمايل بجسدها مع الأنغام متجاهلةً نظرات الجميع الفضولية نحوها…
لتتشبث عيناها بنظراته التي شعرت بها تخترق أعماقها بقوة خبرته بها …
ولأول مرة تشعر بالضيق من فهمه الشديد هذا لها…
لتهمس أخيراً بنبرة منفعلة:
_ما الأمر يا أنس؟!لماذا تنظر إليّ هكذا؟!
فابتسم ابتسامة باهتة وهو يدور بعينيه على ملامحها هامساً :
_أبحث عنكِ!
لامست عبارته قلبها بصدق مرادفها ولعل هذا ما جعلها تهمس بنبرة أكثر عصبية:
_كفّ عن هذا الحديث وكأنك طبيب نفسي…لا تعطِ الأمور أكبر من حجمها…أنا سعيدة وأنت سعيد…كلانا حقق غرضه من هذه الزيجة.
وهنا ضمها إليه بقوة أكبر ليلصق جسدها به مع همسه البطئ في أذنها:
_ليس بعد …غرض كلينا لم يتحقق بعد!
لم تشعر بنفسها وهي تبتعد عنه بحدة وكأن تياراً كهربياً ضرب جسدها من ملامسته…
يا ويلها!!!
ماذا فعلت بنفسها ؟!!
ماذا فعلت؟!!
لكنه شعر بنفور جسدها يضربه في مقتل رجولته ضربةً يكذب لو قال لم يتوقعها…
على العكس…لقد توقع ما هو أعظم…!!!
بل إن مجرد ثباتها هذا أمامه يعتبره قوةً لم يتوقعها منها!!!
لهذا لم يضغط عليها أكثر عندما أشار بيده لمنظم الحفل إشارة خفية كي يبادر بإنهائه…
ليعاود جلوسه معها على منصة العرس يتلقيان التهاني بشرود …
وكلاهما غارقٌ في جحيم خالص من أفكاره…
حتى انتهى بهما المقام في بيتهما….
أو فلنقل….بيت عبد الله!!!
نعم…صفا المعموري أصرت أن يسكنا معاً في شقتها القديمة مع عبد الله…
لتكون غرفته لأنس بعده!!!
والغريب أن أنس وافقها دون أي معارضة…
سوى نظرة عاتبة لم تعرها انتباهاً وسط فوضى مشاعرها الجارفة!!!
لتتوقف أخيراً أمام مرآتها تتأمل صورتها -الغريبة- بثوب العرس جوار أنس…
هذه أنتِ يا صفا!!
امرأة قوية قامت من عثرتها…
رددتِ له ضربته الموجعة بأخرى أكثر إيلاماً…
تزوجتِ غيره في شقته …
بل…ستنامين معه على فراشه!!!
فراشه الذي كنتِ تعدينه له كل ليلة بيديكِ والآن…
تفعلينها…لرجلٍ آخر!!!
ذكية يا صفا…
ذكية وقوية…وقادرة!!!
كوني فخورة بنفسك كما يجب أن تكوني!!!
انقطعت أفكارها عندما انتبهت له وهو يخلع سترته ليقترب منها …
فجنت خفقاتها أكثر وهي تراه يمد أنامله لينتزع عنها حجابها …
قبل أن يحتضن خصرها بكفيه ليتطلع إليها بنظراته الدافئة للحظات طال فيها صمتهما…
قبل أن يهمس وعيناه معلقتان بعينيها:
_والآن …ماذا تريدين؟!
عجباً لهذا الضعف الذي تسلل لأوردتها فجأة…
أين ذهبت قوتها المزعومة؟!!
أين قسوتها التي حافظت على قناعها طوال هذه الأيام؟!!
أين درع الانتقام الذي ظنته سيحميها في موقف كهذا؟!!
لا…لا…
لن تضعفي يا صفا…
لن تعودي كرةً يتقاذفها معشوقكِ بين قدميه…
ثوري على ردائك القديم وانزعيه تحت قدميكِ…
اجتاحي ضعفكِ كالإعصار فلا تبقي خلفكِ حتى مجرد بقايا جرح…
انسفي كل حقول ألغام عاطفةٍ فاسدة لم تنالي منها سوى الخسران…
اثبتي ….رسخي قدميكِ أكثر…
لكن….
أين تفرّ بروحها من قلبها الأحمق هذا؟!!
خائنة يا صفا !!!
خائنة!!!
لم تكن تظن أن مذاق الخيانة بشع هكذا!!!
كيف استساغه عبد الله إذن؟!!
كيف استطاع؟!!
لا…لا…
لن تكون أضعف منه…
ستقوى مثله على فعلها…
ستقهر قلبها وقبله جسدها…
ستفعلها…ستفعلها ولو ماتت بعدها كمداً!!!
وهنا ازدادت ارتجافة جسدها حتى بدت انتفاضتها كمحمومة بين ذراعيه …
لتزداد نظرته عمقاً وكفاه يتراخيان ليبتعدا عنها ببطء مع همسه الذي غلب كبرياؤه حسرته:
_لا تريدينني أن ألمسك.
تلاحقت أنفاسها بجنون ليتصبب عرقها غزيراً على جبهتها…
وهي تتشبث بكفيها في ذراعيه لتهتف بصوت مرتعش جعله يخشى عليها بحق:
_أنا التي أرجوك أن تلمسني…أن تمحو كل آثاره على جسدي…انتزعه من قلبي حتى ولو سكنت بعدها خفقاته…اقتلعه من روحي حتى ولو خرجت معه…اقتله بداخلي حتى ولو قتلتني معه…لوثني بخيانته كما تدنس هو قبلي ..دع كفتي الميزان تتساويا…غدرٌ بغدر…والبادي أظلم!!!
هل تذبح الكلمات؟!!
ربما لو كانت تفعل لكان هو الآن جثة هامدة!!!
حروفها كانت تقطر سماً تغلغل بين خلاياه بقسوة قاتلة…
لكنه لن يخلف عهده مع نفسه مهما كان الثمن!!
سينفذ -ما تزعم أنها ترغبه الآن-
و-ما يقسم هو أنه يرغبه منذ سنوات…
ستكون -حليلة جسده -كما كانت منذ الأزل -حليلة قلبه-!!!
وهنا عاد يضمها إليه من جديد ليطفئ لهيب شفتيه على شفتيها اللتين كانتا باردتين كالثلج…
قبل أن تنسحب هي ببطء لتهمس كالمغيبة:
_انتظر حتى أتزين لك…أريد أن أكون بعينيك الليلة كأجمل مرة رأيتني فيها!
زم شفتيه بانفعال مكتوم وهو يعطيها ظهره ليبتعد بضع خطوات نحو الحمام القريب حيث بدل هو ملابسه…
ليعود إليها بعد دقائق وقد بدت له كما كانت بخياله منذ سنوات…
وكأن الأيام لم تمر …!!!
هي هي…حلم عمره الذي كاد يلمسه بأنامله…!!!
بينما اقتربت هي منه بخطوات مرتجفة…
ثوب نومها القصير مع شعرها المنسدل على كتفيها يكتبان مع عطرها الصارخ دعوة صريحة للفتنة…
لولا عيناها الزائغتان ك-مغيبة -…
وشفتاها الشاحبتان ك-ميتة-…
وجسدها المرتجف ك-غريقة-
لزعم أن هذه هي أسعد لحظات حياته…!!!!
بينما وجدت هي صوتها أخيراً لتهمس بنبرة غريبة:
_جميلة يا أنس؟!أنا…امرأة جميلة؟!
هنا لم يستطع كبح جماح نفسه وهو يجيبها بفعلٍ أبلغ من أي كلام…
فيضان عاطفته الذي طالما انحسر خلف سدود كتمانه انفجر الآن بكل قوته ليحطم في طريقه كل ما عداه…
ليتذوق معها هذه اللذة التي ما حلم بها مع من سواها!!!
حتى إذا ما خمد الشغف وهدأت الأنفاس تلاقت العيون بحديث طويل…
ظاهره دفء وباطنه صقيعٌ أدرك كلاهما مدى قسوته…
خاصةً عندما انسحبت هي من جواره ببطء لتضم الغطاء عليها قبل أن تتوجه بصمت قاتل نحو حمام الغرفة لتغلق بابه خلفها برفق …
وهنا فقط انهارت بجسدها أرضاً وهي تتشبث بغطائها حول جسدها بقوة …
لتسمح لدموعها بالانهمار في نحيب مرتفع قبل أن تقول بصوت مسموع ودت لو تصرخ به الآن بكل قوتها :
_خنتك يا عبد الله…خنتك يا”ابن قلبي” …خنتك كما خنتني…في بيتك وعلي فراشك!!
وعلى الجانب الآخر من الباب استند هو بظهره لتطعنه كلماتها في الصميم…
وأي طعنة على قلب رجلٍ أقسى من هذه؟!!!
لكنه أخذ نفساً عميقاً وهو يرفع رأسه لأعلى مخفياً جرح رجولته بصمتٍ أقسم من الآن أن يطول…
هو نذرٌ وجب عليه قضاؤه…
وقيدٌ سيقاتل الدنيا كي لا يكسره…
=========
_صفا تزوجت يا عبد الله!
_صفا تزوجت!
_تزوجت!
ظلت الكلمة تدوي في أذنه للحظات طويلة لتفقده وعيه جزئياً حتى أنه لم يدرك كيف أنهى الاتصال مع رؤى ولا كيف ترك المحل ليعود لبيته وهو لا يسمع سواها…
كلمة كذبها قلبه قبل أذنيه…
لا…صفا لن تفعلها…!!!!
بل فعلتها!!!
سلمت نفسها لرجلٍ غيره!!!
بل سلمها -هو-إليه…
نعم…تخلى عنها مرة واثنتين وثلاث…
ومنحها صك عتقها من أسره للأبد!!!
هو أضاعها…وهي…
هي ضيعته!!!
استقبلته فتون بدهشة ممتزجة بقلق وهي تسأله عن سبب عودته مبكراً…
لكنه حتى لم ينظر إليها…
قدماه ساقتاه بحركة آلية لغرفته التي أغلقها خلفه برفق…
قبل أن تتراجع صدمته رويداً رويداً لتحل محلها ثورة عارمة…
ثورة أضرمت النيران بين ضلوعه وهو يفيق على معنى الكلمة المريع…
صفا تزوجت…
رجلٌ غيره رآها…اشتهاها…لمسها…بل….!!!
صرخة هادرة انطلقت من حلقه وهو يندفع ليلقي كل ما تطاله يداه على الأرض بجنون!!!
قبل أن تتكور قبضته ليضرب الحائط بكفه عدة ضربات متتالية تزامنت مع صراخه الهائج دون وعي…
حتى شعر فجأة بتنميل ذراعه مع خيط الدماء الذي سال على معصمه ولم يعرف مصدره…
لينهار أخيراً جالساً على فراشه وهو يتلفت حوله وكأنه يبحث عن شئ ضاع منه…
لعلها…روحه!!!
نعم…روحه!!!
هي كانت “صفا روحه” والآن…الآن…
أطلق آهة عالية وهو يرفع وجهه للسماء هاتفاً بأعلى صوته :
_يارب!!!
ظل يهتف بها تباعاً حتى بح صوته فوضع كفه على صدره لعله يتمالك أنفاسه الثائرة…
لكن هيهات…
صدره كان يغلي بغضب ومخالب الغيرة تنهش صدره بمخالب من نار…
لتأتيه صفعة ضميره مؤنبةً بعذابٍ جديد…
نعم يا عبد الله تزوجت…
تزوجت من يراها امرأة كاملة …
ألم تكن تراها دوماً ناقصةً بعينيك؟!!
ألم تفتقر معها لأنوثة تشبع ظمأ رجولتك؟!!
ألم تزعم دوماً أنها تمنحك شعور “الأم” و “الصديقة” لكنها تفشل في دور “الزوجة”؟!!
الآن وجدت من تغلو بعينيه بعد طول زهدك!!!
لكن…
كيف؟!!
كيف جرؤت؟!!
هو الذي عجز أن يلمس زوجته طوال هذه الأيام لتأتي هي وتفعلها هكذا ببساطة؟!!
الخائنة!!!!
لا!!!!
هو لن يخلص لها بعد!!!
سيخونها بجسده كما فعلت!!!
_فتوووووووووووون!!!!!
صرخ بها بكل غضبه فانفتح الباب بعد دقائق لتدخل هي منه بهدوء رغم انكسار نظراتها مع همسها الذابل:
_نعم يا شيخ!!
انقض عليها بعنف ليغلق باب الغرفة خلفها قبل أن يجذبها نحوه هامساً بنبرة مشتعلة:
_سنتمم زواجنا…الآن!!
لكنها دفعته بكفها برفق لتهز رأسها مع همسها بألم:
_لم تتغير يا شيخ…لم تتعلم شيئاً بعد كل ما حدث!
وكأنما سكبت كلماتها دلواً من ماء بارد على نيران روحه لتخمد مخلفةً وراءها حطاماً ورماداً…
لتردف هي بعدها بمواساة منغمسة ببساطتها المميزة:
_رؤى هاتفتني لتطمئن عليك وعندما سمعت صراخك وصوت تحطيمك للأشياء سألتها عن الأمر وعرفت السبب.
أغمض عينيه بقوة مع انعقاد حاجبيه وهو يعطيها ظهره …
فأردفت بنفس النبرة:
_اسمح لي يا شيخ…اندفاعك هذا هو ما ضيعها منك !!
هنا التفت نحوها بحدة ليهتف بهياج :
_هكذا إذن؟!كلكم الآن تلومونني أنا؟!أنا الذي كنت شيطان هذه الحكاية ؟!
فاقتربت منه لتربت على ذراعيه بكفيها بحنانها البسيط الذي ناسب قولها:
_لم أقصد هذا…على العكس…أنا لا أريدك أن تظل هائماً في شعورك بالذنب…
ثم صمتت لحظة لتستجمع شجاعتها مع استطرادها:
_كلاكما انتقم من الآخر بهذه الطريقة…أنا أكاد أقسم أنها تحترق الآن كما تحترق أنت…لقد كنت شاهدةً لأيام طويلة على حبها العظيم لك…”سيدتي” صفا مجروحة…أنا أشعر بها…زواجها…
_لا تذكري هذا أمامي الآن….اخرجي!!!
صرخ بها بثورته مقاطعاً عبارتها وهو يشعر بهذه الكلمة تؤجج نيرانه من جديد…
فغلبتها دموع تأثرها وهي ترمقه بنظرة مشفقة قبل أن تخرج لتغلق الباب خلفها…
ولم تكد تفعلها حتى أطلق هو آهةً خافتة قبل أن ينهار ليستلقي على فراشه رافعاً غطاءه عليه وكأنه يريد عزلةً عن هذا العالم بأكمله…
وبعدما تحولت صدمته لثورة نهشت صدره بمخالبها …
و”خيالاته” عما تفعله الآن مع من “صار زوجها” تكاد تصيبه بالجنون…
تراجعت أخيراً نيران ثورته لتخمد شيئاً فشيئاً مخلفةً وراءها فضاءً شاسعاً من شعوره بالضياع…
لقد حدث ما كان يخشاه معها منذ البداية…
عوقب على تفريطه في حقها بالحرمان منها…
وأي عقاب!!!
لماذا يا صفا؟!!
لم أكن أظنكِ تفعلينها أبداً !!!
لقد أجدتِ الانتقام كما أجدتِ العشق!!!
أجدتِ المنع كما أجدتِ العطاء…
وبعدما كنت أنا “ابن قلبك” جعلتِني “ذبيح قلبك”…
فيالقسوتك يا رحيمة العينين!!!
يقولون دوماً اتقِ شرّ الحليم إذا غضب…
فماذا عن شرّ الرحيم إذا قسا…
عن شرّ العاشق إذا حقد…
عن شرّ المأمون إذا غدر…
عن “شرّ” امرأة كانت يوماً “كل الخير”!!!
مضت به الساعة تلو الساعة وهو على ذات الوضع …
لم يكن يغادر فراشه إلا للصلاة التي كان يطيل فيها سجوده صامتاً دون دعاء…
وقد شعر أن ما في قلبه أعظم من أن تصوغه كلمات…
لكن رب العالمين يدرك لوعته وهو وحده القادر على إجلائها…
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟!!
وبعد منتصف الليل بقليل سمع صوت الباب يفتح برفق…
لكنه بقي على وضعه بلا مبالاة…
عندما فوجئ بمحمد يصعد لينام جواره مربتاً على وجنته بكفه الصغير مع همسه بحزن طفولي:
_ماذا بك يا “صاحبي”؟!
لم يستطع حتى الابتسام له فاكتفى بضمته الرفيقة مع سؤاله الخافت:
_لماذا لم تَنَم حتى الآن؟!!
عندها تعلق بعنقه بذراعيه الصغيرتين بكل قوته ليهمس ببراءة:
_قلقت عليك يا “صاحبي”!
ربت عبد الله على رأسه وهو يهمس بحنان لم يدارِ حزن صوته:
_لماذا؟!أنا بخير.
فهز محمد رأسه نفياً وهو يقول بانفعال طفولي:
_لا…لا تكذب …الكذب حرام…كنت تصرخ وتكسر الأشياء …وأنا اختبأت في غرفتي كي لا أسمع.
شرد عبد الله ببصره وهو يهمس بما يشبه الاعتذار:
_خفت مني؟!
فلوح الصغير بسبابته نفياً وهو يقول بتلقائيته العذبة:
_بل…خفت عليك !
ثم عاد يدفن وجهه في صدره ليردف ببراءة:
_أنا أحبك يا “صاحبي”!!
هنا ضمه عبد الله بكل قوة مشاعره وهو يغرق وجهه بقبلاته…
قبل أن يرفع وجهه إليه ليهمس بحنان بين دموعه التي لم يستطع وقفها:
_من الآن ستناديني “أبي”…اتفقنا؟!
ظهرت المفاجأة على وجه الصغير للحظات قبل أن تشرق ملامحه الوسيمة بفرحة غامرة وكأنه كان ينتظر منه هذا الأمر …
لتنطلق من فمه المنمنم ضحكة عفوية قبل أن يومئ برأسه هامساً :
_هل يبكي الرجال يا “أبي”؟!!
قالها وأنامله الصغيرة تمسح الدموع عن وجنة عبد الله ولحيته …
فاختلج قلب عبد الله بين ضلوعه وهو يسمعها منه لفظة “أبي” بهذه البساطة وكأنه يقولها منذ وعى على هذه الدنيا…
قبل أن ينتبه لسؤاله البرئ الذي عاد يذكي حرائق روحه…
فقبل جبين الصغير بعمق هامساً بصوت شديد الخفوت يكاد لا يُسمع:
_نعم يا صغيري…فقط…عندما ينكسر الرجل…يبكي!
لكن محمد رفع عينيه إليه بهمسه المتسائل:
_ماذا؟!
فابتسم عبد الله أخيراً ابتسامة باهتة وهو يداعب شعر الصغير بأنامله ليهمس بصوت ذبيح:
_لا …الرجل لا يبكي!
فعاد محمد يداعب لحيته بأنامله الصغيرة قبل أن يتثاءب بقوة مع سؤاله الأخير:
_وماذا يفعل إذن عندما يحزن؟!
صمت عبد الله طويلاً وهو يجذب رأس الصغير لصدره ليربت على ظهره بحركة رتيبة…
مع همسه الشارد :
_يتألم …ثم يتجاهل…ثم يتعايش…ثم…ينسى!!
انتهت عبارته لتنتظم معها أنفاس الصغير معلنةً استسلامه للنوم …
فعاد برأسه للوراء قليلاً يتأمل ملامحه الوديعة بحنان …
قبل أن يقبل رأسه مردفاً بنبرة كسيرة:
_وكيف ينسى يا صغيري؟!كيف ينسى؟!
=============

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى