روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الثلاثون 30 بقلم نرمين نحمد الله

موقع كتابك في سطور

رواية ماسة وشيطان الفصل الثلاثون 30 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء الثلاثون

رواية ماسة وشيطان البارت الثلاثون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الثلاثون

_كيف حال عمي جاسم الآن؟!
هتفت بها يسرا وهي تندفع نحو فهد وماسة فور عودتهما للمنزل…
فاكتفى فهد بإيماءة مقتضبة فيما قالت ماسة بهدوء مصطنع:
_سيسافر لإعادة الفحوصات بلندن…لعله مجرد تشخيص خاطئ!!
غمغمت يسرا بكلمات مطمئنة تقليدية…
بينما تركهما فهد بخطوات متثاقلة ليقول بنبرة منهكة:
_سأصعد لأستريح.
رمقته ماسة بنظرة مشفقة طويلة…فيما لحقت به يسرا بسرعة لتسير جواره مع همسها بقلق:
_فهد…ابقَ معي قليلاً…أريد أن أطمئن عليك.
تنهد فهد بتعب واضح دون رد مكتفياً بسيره الصامت جوارها…
حتى وصل لغرفته التي دخلها وهي خلفه تهتف بتوتر:
_ماذا فعل والدك مع ماسة؟!هل سيعلن نسبها الحقيقي؟!
فالتفت نحوها فهد بنظرة ساخرة حملت مرارته مع كلماته:
_ما رأيك أنت؟!هل تظنين جاسم الصاوي يفعلها؟!
تفحصته بعينين زائغتين للحظات قبل أن تغمغم بشرود:
_لا…لن يفعل!
أومأ برأسه موافقاً وهو يتحرك بضع خطوات نحو النافذة …
ليقول أخيراً بحسم:
_لن أجعلها تحتاج إليه ولا لأي أحد…كنت أرى أن أعلن أنا الأمر ولنعلنها حرباً عليه…لكن للأسف هي رفضت…الآن هي لا تريد منه سوى اسمها الحقيقي ولو سراً وبعدها ستسافر بعيداً عن هنا.
_تسافر؟!
غمغمت بها في استغراب فعاد يلتفت نحوها ليقول مؤكداً:
_نعم…ستذهب إلى أبو ظبي .
ازدردت ريقها الجاف بتوتر وهي تقترب منه أكثر مع سؤالها:
_وأنت ستسافر معها؟!
رمقها بنظرة متفحصة طويلة ثم حسم أمره ليقول بنبرة محايدة:
_سأقوم بتوصيلها حتى أطمئن عليها هناك…وبعدها سأعود .
شحب وجهها فجأة مع تلاحق أنفاسها السريع وقد تجمدت مكانها للحظات…
قبل أن تنهار أخيراً في بكاء هستيري صاحب هتافها:
_لا…لن تعود…أنت مللت مني…تريد أن تتركني !!!
انتهت كلماتها بصرخات متتابعة قصيرة وهي تنهار بركبتيها على الأرض …
فانحنى ليرفعها من كتفيها إليه هاتفاً بأقصى ما امتلكه من مراعاة لحالتها:
_لا يا يسرا…أقسم لكِ أنني سأعود…أنا وعدتك…اهدئي فقط.
هزت رأسها في عدم تصديق مع انهمار دموعها أكثر…
وجسدها يتشنج بقوة انفعالها بين ذراعيه…فعاد يقول مهدئاً:
_يومان فقط…صدقيني.
أخفت وجهها بين راحتيها في نحيب صامت للحظات فزفر بضيق وهو لا يدري ماذا يفعل…
قبل أن يفاجأ بها أخيراً تلقي برأسها على صدره لتضمه بذراعيها بقوة!!
وكأنما لدغته أفعى!!!
فلم يشعر بنفسه وهو يدفعها بقوة بعيداً عنه…قبل أن يتحرك مبتعداً عنها هو الآخر بحركة عنيفة!!!
كانت نظراته مشتعلة بغضب حارق جعلها تشعر بالخوف …
قبل أن ينكسر هذا الغضب تدريجياً مع تثاقل أنفاسه…
ليحل محله ألم هائل أغلق عليه جفنيه وهو يعطيها ظهره أخيراً …
فعادت تقترب منه لتهمس بين دموعها:
_إلى هذه الدرجة لا تطيق أن تلمسني؟!
لكنه بدا وكأنه لا يسمعها…
كفه كان مبسوطاً على صدره في موضع القلب تماماً مع ذكرى أخرى له مع -جنته- وهو يضمها إليه مع همسه:
_اخلعي حذاءكِ.
_نعم..يا جنتي…هكذا يكون دوماً مكانكِ على صدري…عيناكِ الحبيبتان أقرب ما تكونان لقلبي…رموشهما تكاد تعانق دقاته.
فدمعت عيناه المغمضتان باشتياق فاق ألمه…
آه يا جنتي وجحيمي!!
إنه مكانكِ أنتِ على صدري…فكيف أسمح لسواكِ أن تشغله ولو شفقةً أو مواساة!!!
هو لكِ وسيبقى لكِ…
كما كان ولا يزال كل ما فيّ لكِ!!!

وعند الباب المفتوح وقفت ماسة تراقب الموقف بقلب كسير…
لا تدري على أيهما تشفق أكثر!!!
على أخيها الذي لازال أسير عشق رحل…؟!!!
أم على زوجته التي تحتاجه حقاً في هذا الوقت وليس لها سواه!!!
فتنهدت بعمق شعورها ثم تقدمت منهما لتتنحنح مع قولها مخاطبة يسرا:
_فهد متعَبٌ للغاية يا يسرا…دعينا نتركه الآن فأنا أريدك في حديث هام!
كان قولها مقروناً بتربيتة هادئة على كتف يسرا …
لكن الأخيرة انتفضت مكانها لتزيح عنها كفها مع هتافها الثائر:
_فهد متعَب؟!!وأنا…لست مُتعَبة؟!!
ضم فهد قبضته بانفعال محافظاً على ثباته بأعجوبة…
فيما استطردت يسرا بهياج طبيعي في حالتها:
_لم أعد أريد العلاج…أعيدوني لأقراصي…إنها تجعلني أنسى…وأنا أريد أن أنسى…أريد الأقراص حالاً!!!
انتهت كلماتها بعودة أخرى لبكاء حاد…
فاحتضنتها ماسة بقوة وهي تتبادل مع فهد نظرات مفعمة بمشاعر يفهمها كلاهما …
قبل أن تجذبها معها قائلة بحنان لا يخلو من حزم:
_تعاليْ معي فقط…سنتحدث قليلاً.
قالتها وهي تسحبها معها خارج الغرفة لتغلق بابها خلفها برفق بعدما رمقت فهد بنظرة مؤازرة أخيرة …
وقد أخبرها حدسها أنه هو الآخر على وشك الانهيار مع كل هذه الضغوط التي يواجهها وحده!
وما كادت تغلق بابها خلفها حتى سمح هو لآهة عميقة أن تغادر صدره…
وكم ود لو تحمل معها كل ما يحشو قلبه من ألم!!!
ليتوجه بعدها إلى فراشه الذي استلقى عليه بكامل ملابسه قبل أن تحين منه التفاتة نحو هاتفه…
ابتسم بسخرية مريرة وهو يتذكر كيف كان يتعجب من جنة عندما كانت تهاتف حَسَن -بخيالها- بعد موته!!!
والآن فقط عندما صار مكانها يود لو يفعل المثل!!!
مجرد تفكيره فيها يمنحه راحةً خاصة…
جنة…هي حقاً جنة…
امرأةٌ ذِكْرُها سكينة…وذكراها سلوى…وتذكُّرُها داءٌ مزمنٌ و شفاء…
فماذا تكون إلا …جنة؟!!!
تناول هاتفه بأنامل مرتجفة وهو يقلب في صوره ليستعيد ذكرياته العامرة معها…
لتتوقف عيناه أخيراً على آخر صورة كانت لهما في وضع “السيلفي” الشهير وهي نائمة على صدره وابتسامتها تنافس ابتسامته في سعادة من القلب!!!
ليلة من الليالي التي حلما فيها معاً ب”ملك” الصغيرة عاشقة الأزرق كأمها!!!
ليته استطاع تخزين كل لحظة جمعتهما سوياً…
ليته اختزن حنانها…عذوبتها…شقاوتها…
وهج البندق في عينيها…بريق النور على شفتيها…
سحرها “الأزرق” الذي لن تنافسها فيه امرأة سواها!!!
ليهمس أخيراً :
_افتقدتك يا جنة…افتقدتك جداً.
قالها ثم استسلم أخيراً لنوم عميق…
فلم يشعر بباب غرفته الذي فتح بعدها بوقت طويل….
لتطل هي منه برأسها للحظات تتيقن من نومه قبل أن تتقدم منه ببطء…
رغم حديث ماسة المتعقل معها لكنه لم يستطع إخماد تلك النيران المشتعلة بصدرها…
ساعات وهي تحاول النوم دون جدوى ولولا بقية من إرادة بداخلها لخرجت تبحث عن “أقراص دوائها السحرية” بنفسها…
جلست على طرف فراشه تراقب ملامحه التي استكانت باستسلام مرهَق…
لتلمح عيناها هاتفه الذي احتضنه على صدره بأنامله…
فامتد كفها يتناوله ليعيده مكانه عندما اصطدمت عيناها بصورتها…
صورة “غريمتها”!!!
خفق قلبها بعنف وهي تنشب أظفارها في شاشة الهاتف تخدشها…
بل تكاد تكسرها!!!
صورة فهد وهو يضمها إليه بحنان مبتسماً معها أدمت قلبها بجرح غائر!!!
إعصارٌ أسود من غيرة اجتاح روحها عاصفاً مدمراً في طريقه ما سواه!!!
ليحتل “شيطان” غيرتها الصورة وهي تقارن نفسها ب-جنة-!!
من هي حتى تحظى بقلب رجل كفهد حيةً وميتة؟!!!
من هي حتى يتنازل لأجلها عن والده وثروته وسلطته ونفوذه ؟!!
من هي حتى تسرقه من عالمه لتدفنه في أرضها ؟!!
من هي حتى يتركها هي لأجلها؟!!
لا…لن تسمح لها…بل…لن تسمح له هو!!!
الأحمق يفر من حضنها هي -يسرا الصباحي ملكة مجتمعها المخملي الفاتنة- ليعانق صورة في هاتف لامرأة ميتة!!!!
أحمق يا فهد!!!
أحمق وعنيد ومكابر!!!
لكنني لن أسمح لك أن تضيع نفسك في ذكريات ماضٍ وتضيعني معك!!!
لن أرتضي أن تخرج من حياتي بهذه البساطة!!!
أنت لي ما دمت قررت -أنا- هذا!!!
وسأعرف كيف أجتذب قلبك لتكون لي زوجاً -بحق- لا مجرد حبر على ورق!!!
وبهذا الخاطر الأخير تلاعبت أناملها بشاشة الهاتف لتمسح جميع صورهما معاً …
وكأنها بذلك ستمحوها من قلبه!!!
لتتنهد أخيراً بارتياح وهي تعيد هاتفه مكانه على صدره لتخرج بعدها من الغرفة بخطوات ثابتة…
وكأنها لم تفعل شيئاً!!!!
=========
_جنة!
همسته الناعمة داعبت أذنيها مع قبلتيه على وجنتيها ملحقتين بهمستهما الخاصة:
_تحتاجينني… وأحتاجكِ أكثر!!
ففتحت عينيها ببطء لتتلقى ضياء نجومه الملتمعة في سواد عينيه…
قبل أن تخرج حروف اسمه من شفتيها مشبعةً بعشق جارف…
عشق تلقفته شفتاه بشغف وهو يضمها إليه بقوة ليرفعها معه في أعالى سماوات الحب للحظات…
قبل أن يعاود معانقة وهج البندق في عينيها مع همسه الذائب في عتبه:
_لماذا تركتِني؟!
فانفرجت شفتاها تبحثان عن رد…
عندما شعرت به يبتعد عنها فجأة لتجذبه امرأة أخرى نحوها بهتاف واثق:
_لم يعد لكِ …يا أستاذة!!!
ومع تهكمها الصارخ في كلمتها الأخيرة …
اختفى طيف فهد فجأة من أمامها لتجد نفسها وحدها…فتناديه بلا جدوى…
فهد…
فهد…
انتفضت من نومها فجأة لتتحسس رقبتها بإعياء وهي تشعر بالاختناق…
أزاحت غطاءها عنها لتقوم واقفةً فتنتابها نوبة دوارها المعتاد بسبب انخفاض ضغطها الذي صاحب حملها…
فتشبثت بظهر الفراش للحظات …قبل أن تستعيد توازنها لتتوجه نحو النافذة فتفتحها بسرعة سامحةً لضوء الشمس أن يملأ الغرفة لعله يبدد ظلمات روحها بعد هذا الحلم المقبض…
ثم احتضنت جسدها بذراعيها وهي تراقب السماء بشرود…
قبل أن تتحسس بطنها لتهمس بأسى:
_ترى لازلت على عهدنا يا فهد؟!أم استسلمت لشيطانك؟!
دمعت عيناها رغماً عنها وهي تتذكر تلك الصورة التي ذبحتها ذبحاً منذ بضعة أيام له مع يسرا على أحد مواقع التواصل الاجتماعي…
والخبر المرفق تحتها مفاده أن فهد الصاوي اختطف زوجته من بؤرة الأضواء هذه الأيام ليختفيا معاً فيما يبدو وكأنه “شهر عسل” خاص!!
ورغم أنها لم تصدق “تماماً” ما ورد في الخبر…
لكن الغيرة القاتلة نهشتها وهي تتبين أن يسرا الصباحي إلى الآن لا تزال على ذمته!!!
تراه عاد إليها بعد ظنه في وفاتها؟!
وهل تمكن جاسم الصاوي مما أراده باختفائها؟!!
هل نسيها فهد مع الأيام وارتد على عقبيه إلى طريق أبيه؟!
أم أن وديعتها “الماسية” في قلبه لازالت تعصمه من الزلل؟!!
كلها أسئلةٌ ظلت تتردد في عقلها دون جواب…حتى تنهدت بحرارة وهي تعاود تحسس بطنها لتهمس بأمل:
_غداً يا صغيري نعود…معاً نعود…
ثم شردت ببصرها لتردف بنبرة مختنقة:
_ولنرَ وقتها هل يستحقكِ والدك أم لا!!!
انقطعت عبارتها عندما سمعت رنين هاتفها فتحركت لتتناوله بخفة عندما وجدت الاتصال من زهرة التي بادرتها بقولها:
_هل تناولتِ إفطارك؟!اليوم إجازة…ما رأيك لو نتناول الإفطار معاً في المطعم؟!
أجابتها برفضٍ واهٍ متعللة بسوء مزاجها…
لكن زهرة عادت تلح بقولها بانبهار طفولي كالعادة:
_لن تصدقي من ستأتي معنا…كاتبتي المفضلة التي حدثتك عنها…لقد صارت صديقتي !
ابتسمت جنة ابتسامة شاحبة وقد همت بتأكيد رفضها…
لكن زهرة عاودت إلحاحها وعزّ عليها ردها خائبة…
فردت بالقبول مرغمة…
لتلتقي بعدها بهنّ في المطعم كما اعتادت…
جلست لبعض الوقت تستمع بصمت إلى أحاديثهن الصاخبة…
ثم مضت تراقب اختلافهن بعينيها الخبيرتين…
حسناء بنظراتها المتحفزة على الدوام…
وزهرة بانطباعاتها الطفولية التي تجعلها تبدو دوماً كطفلة منبهرة…
وطيف…غريبة الأطوار التي لفتت انتباهها بطبيعتها الساخرة رغم الحزن الغائر في عينيها…
لتدرك جنة بحدسها أن هذه المرأة هي الأخرى تحمل سراً…
ويبدو أن طيف قرأت نظراتها المتفحصة فقد سألتها باهتمام:
_ماذا كنتِ تعملين يا مريم؟!!
ابتسمت جنة بتحفظ وهي تجيب باقتضاب:
_خريجة كلية حقوق!
ثم تهربت من سؤالها بسؤال موازٍ:
_وأنتِ؟!ماذا كنتِ تدرسين؟!
فتراجعت طيف برأسها للوراء لتقول بما بدا وكأنه افتخار بلهجة سخرية:
_لم ألتحق بأي جامعة…بل إنني حتى لم أكمل تعليمي.
صمت ثلاثتهن بدهشة من جوابها …فضحكت ضحكة قصيرة أتبعتها بقولها:
_نعم…لم اكمل تعليمي..قبل قدومي إلى هنا…كنت أعمل خادمةً في البيوت حتى أجد ما يسد رمقي…لكن آخر سيدة عملت لديها لاحظت شغفي بالقراءة فشجعتني…وكانت تمنحني المال لشراء الكتب أيضاً.
ضاقت عينا جنة بتفحص وهي تتأملها ببعض الإعجاب…
فيما هتفت زهرة بطيبتها المعهودة:
_يالها من امرأة طيبة!
اتسعت ابتسامة طيف الساخرة وهي تقول بمرارة لم تختنق بدخان سخريتها:
_نعم…كانت طيبة…حتى حدث ما حدث!
وهنا اتسعت عينا زهرة بترقب وهي تسألها كمن يشاهد عرضاً سينمائياً:
_وماذا حدث؟!
_ابنها أحبني!!
قالتها طيف بنبرة زاد حدّ تهكمها لكن أصابعها التي كانت تنقر على المائدة بتوتر فضحت انفعالها…
فيما شهقت زهرة بانبهار ناسب تصفيقها بلهفة قولها:
_ابنها أحبك؟!وماذا فعلتِ لتجعليه يحبك؟!أخبريني!!
كتمت جنة ابتسامتها بصعوبة وهي تدرك مغزى سؤال زهرة برائحة “جهاد” التي تفوح من كل كلماتها…
فيما أجابت طيف بمواربة وهي تضع إحدى ساقيها على الأخرى بتلذذ ساخر:
_سكبت الشاي الساخن عليه!!
ضحكت حسناء ضحكة طويلة بينما اكتفت جنة بابتسامة هادئة…
فيما ظهر الإحباط على وجه زهرة التي غمغمت باستنكار:
_ماذا؟!
وهنا ضحكت طيف بانطلاق لتلتفت نحوها أنظار رواد المطعم…
لكنها تجاهلت هذا وهي تقترب بوجهها من زهرة لتقول بسخريتها الواثقة:
_ألم تسمعي في الأمثال الشعبية أن الرجل كطابع البريد…كلما تبصقين عليه يزداد التصاقاً!
تراجعت زهرة برأسها في اشمئزاز واضح من التشبيه…
فيما عادت حسناء لضحكاتها العالية…
بينما تفحصتها جنة باهتمام لتقول أخيراً بجدية:
_وبعضهم كوشم على الجلد…يحفر بالنار…ولا ينزع إلا بالنار!!!
وهنا تجهمت ملامح طيف فجأة وكأن كلمات جنة أصابت وتراً حساساً بنفسها…
ربما لأن ذكرها ل”النار” أوقد -ذكرى ما – بداخلها…!!!!
لتصمت للحظات قبل أن تعاود قولها بسخرية:
_يقولون أيضاً أن النار لا تحرق مؤمناً…وهنا بالذات…أنا مؤمنة جداً!!!
وهنا لم تملك جنة إلا الابتسام لذكاء ردها…
فيما غلبت حسناء دعابتها وهي تهتف مشاكسة:
_يا ولد يا مؤمن!!!
انطلقت ضحكاتهن مجلجلة بعدها للحظات…
قبل أن تتوجه جنة بسؤال حذر لطيف:
_لكنكِ تبدين على قدر كبيرمن الثراء…كيف أكملتِ طريقكِ هنا؟!
هزت طيف كتفيها وهي تشيح بوجهها في إشارة لامتناعها عن الجواب…
فتجاهلت زهرة الأمر لتهتف ببراءتها المعهودة:
_حسناً…استمعن الآن لخطتي الجديدة مع جهاد…وأخبرنني عن رأيكن فيها!
مطت طيف شفتيها باستياء لتقول باستهجان واضح:
_لا أدري ما الذي يعجبك في جهاد هذا؟!إنه يبدو كدمية أطفال بعينيه الباردتين!!!
_باردتين؟!
هتفت بها زهرة باستنكار فهدأتها جنة بتربيتة على كتفها لتسألها بحنان:
_قولي يا صغيرة…ماذا تنتوين؟!
هنا نسيت زهرة استنكارها لتشتعل عيناها بحماس مع قولها:
_لقد أوصاني بإحدى قريباته …ستأتي هنا قريباً للإقامة والعمل…وأنا استطعت تدبير سكنٍ مناسب لها أمامنا…ستكون فرصتي للتقرب إليها وبما أنه شديد الاهتمام بها…فستكون هي طريقي إليه.
_يالخيبتك!
هتفت بها طيف باستهجان لتقول بعدها :
_ألم تفكري أنها ربما تكون غريمتك في قلبه!
لوحت زهرة بسبابتها نفياً وهي تقول بنفس الحماس:
_لا…هي متزوجة لكنها تواجه مشكلةً تمنعها من الإنجاب…لهذا ستأتي ليعالجها أيضاً.
وهنا عادت طيف تقترب منها لتوكزها بسبابتها في جانب رأسها مع قولها :
_ألا تستخدمين عقلكِ هذا أبداً؟!ما الذي يدفع امرأة متزوجة للإقامة هنا وحدها بل والعمل دون زوجها إلا لو كانا منفصليْن؟!
عادت جنة تبتسم لفطنتها فيما شحبت ملامح زهرة لتقول بخيبة:
_ماذا؟!!لم أفكر في هذا الاحتمال!!
شعرت جنة بالإشفاق نحوها فربتت على كفها لتقول بحنان :
_زهرة حبيبتي…الحب قدر …لا تجوز معه خطط ولا يسبقه تدبير…ادعي الله فقط أن يرزقكِ القلب الطيب الذي يسعدك.
وهنا تدخلت طيف في الحوار لتهتف بحمائيتها:
_ولماذا لا تسعد المرأة إلا بقلب رجل ؟!!لماذا لا تسعد بنجاحها؟!باستقلالها؟!بنظرات التقدير التي يجلبها لها تميزها؟!!
فالتفتت نحوها جنة لتقول بتعقل مع ابتسامتها:
_نعم…تسعد بكل هذا…لكن فطرة الله التي فطر الناس عليها أن تميل الأنثى لرجل فيكون بينهما مودة ورحمة.
لكن طيف أشاحت بوجهها في استنكار مع قولها:
_أنتِ قلتها…تميل الأنثى لرجل…فأين الرجال هذه الأيام؟!
ابتسمت جنة ابتسامة يائسة وهي تهز رأسها مدركة عقم الجدال…
فيما نقلت زهرة بصرها بينهما بحيرة للحظات…
قبل أن تسند ذقنها على راحتها وقد بدت كمن سقطت على رأسه صاعقة….
لتقول أخيراً بشرود:
_غريمة جديدة على قلب جهاد؟!!معقول؟!!
==============
_صوت ضحكاتكما كان واصلاً إليّ هنا في مكتبي!!!
هتف بها أنس في غضب غريب على طبعه الحليم أمام صفا التي جلست أمامه في مكتبه بالمدرسة…
وقد وضعت إحدى ساقيها على الأخرى لترد بمكابرة:
_وماذا في هذا؟!!هل حرّموا الضحك هذه الأيام؟!!
زفر بقوة قبل أن يكز على أسنانه ليقول معنفاً:
_هذا المعلم الجديد لا يعجبني…طريقته في التودد إليكِ ملفتة…وأحاديث الناس لن ترحمك.
ضحكت ضحكة ساخرة وهي تعود بظهرها للخلف مع كلماتها:
_هم لن يرحموني على أي حال…فلماذا أهتم؟!
نظر إليها نظرة طويلة يائسة حملت كل مشاعره…ثم غمغم بحسرة:
_أنتِ تَضيعين يا صفا.
ورغم أن عبارته زادت تشققات جدران روحها المتصدعة…
لكنها تمسكت بقناعها الجديد لتقول بنفس النبرة الساخرة:
_أضيع منك؟!!
ضاقت عيناه بألم للحظة وقد عزّ عليه أن تستخف بمشاعره…
قبل أن يبتلع مرارته كاملةً كما اعتاد معها منذ زمن ليستعيد صوته حزمه المصطبغ بحنانه:
_بل تضيعين من نفسك…تشوهين كل جميلٍ تزينت به روحك…جعلتِ من عشقكِ القديم قبراً من نار دفنتِ فيه نفسكِ حية…لو كان هو طعنكِ مرة فأنتِ تطعنين نفسكِ ألف مرة.
توهجت عيناها ببريق قاسٍ لتشرد ببصرها مع همسها وكأنها لم تسمع شيئاً مما قاله:
_سأعرف كيف أجعله يندم على ما فعله!!
هز رأسه بيأس وهو يدرك أن عنادها غالبها الآن…قبل أن يعاود سؤالها بضيق:
_ما الذي تريدينه بالضبط؟!
_أن أتزوج!!!
قالتها بحسم خلا تماماً من خجل يُفترض في هذا الموقف…
لكنه لم يتعجب هذا منها مع استطرادها بانفعال مكتوم:
_هذا المعلم طلبني للزواج…وأنا أفكر في القبول.
_ماذا؟!!
هتف بها باستنكار وهو يخبط بقبضته على سطح مكتبه بقوة أخافتها قليلاً…
خاصةً عندما هب واقفاً ليتوجه نحوها مردفاً بسخط :
_هل جننتِ يا صفا؟!إنه يصغركِ ببضعة أعوام ومن الواضح أنه طامعٌ في مالك!!!
فابتسمت ساخرة وهي تقف قبالته لتعقد ساعديها أمام صدرها قائلة:
_وما الجديد؟!!لن يكون أول من يفعلها !!!
شعر بالدم يرتفع لرأسه مع فرط انفعاله وغيظه…
لقد زاد الأمر عن حده حقاً…
صفا تمادت كثيراً ولم يعد يعرف حدّاً لهذا الجنون الذي تلبسها!!!
لو كان الأمر بيده لصفعها على وجهها لعلها تفيق من ضلالاتها…
ضلالاتها التي جعلتها تردف الآن بتنمر واضح:
_حياتي لن تقف…رحل رجلٌ وسيأتي غيره!!!
نفرت عروق جبينه بغضب مستعر وقد احمر وجهه انفعالاً ليهتف بحدة:
_ومن سيسمح لك بهذا؟!هل أنتِ بلا أهل؟!!تظنين الزواج لعبة؟!!أنا بالكاد أمنع أبي عن التصدي لكِ بدفاعي عنكِ…ولولا مرضه الشديد لكان لنا معكِ تصرف آخر!!
دمعت عيناها بقوة لتتسلل منهما نظرة -مذنبة- عبر غيوم القسوة التي صارت تحتلهما مؤخراً…
لكنها عادت لعنادها بسرعة مع قولها بتحدّ سافر:
_أنت تعلم رغبة عمي جيداً…لو علم أن خاطباً آخر يريدني فسيجبرك على الزواج مني ولو قسراً.
ثم لوحت بسبابتها في وجهه لتهتف بانفعال:
_ما رأيك إذن يا ابن عمي؟!أتزوجك أنت أم ذاك الرجل؟!
_وهل يجب أن تتزوجي أحداً الآن؟!!
هتف بها في استنكار واجهته هي بهتافها الثائر وهي تلوح بذراعها:
_نعم…يجب أن أتزوج الآن…يجب أن أرد له ضربته…أن أجعله يتذوق المرارة التي ذقتها بزواجه…سأذبحه كما ذبحني!!!
تهدج صوتها في عبارتها الأخيرة ليفضح ضعفاً مستتراً خلف قناع شراستها المستحدث هذا…
ضعفاً زاد عذابه بها وهو يراها لا تزال تدور في فلك واحد لن تخرج عنه…
عبد الله…وفقط!!!
حنانها كله كان له…والآن قسوتها أيضاً له!!!
عطاؤها ومنعها …كلاهما له!!!
البائسة تكاد تضيع سمعتها وكرامتها ومستقبلها فداءً لانتقام مزعوم!!!
فأي جحيم أسود تدفع نفسها نحوه؟!!
أي جحيم؟!!
لكنها عادت تنتزعه من أفكاره بقولها البارد رغم اشتعاله:
_ماذا قلت؟!تتزوجني أنت أم أطلب من الرجل التقدم لخطبتي من عمي؟!!
نظر إليها نظرة عاتبة طويلة…ثم قال بحسم:
_لا يا صفا…لن أتزوج امرأةً تتخذني وسيلة للانتقام!
انعقد حاجباها بغضب فلوح بسبابته في وجهها ليردف ضاغطاً على حروفه:
_ولن أسمح لكِ بفعلها مع غيري.
شعرت برفضه يوجع كبرياءها الذي لا يزال مضرجاً بدماء جرحه القديم…
لتصمت للحظات بدت له كدهر كامل…
قبل أن ترتعش ملامحها مع تمتمتها الخافتة:
_أنت…تحبني!!!
تجمدت عيناه عليها وهو يسمعها منها بهذه الصراحة لأول مرة…
لكن صدمته لم تكن في -كلماتها- بقدر ما كانت في- اللهجة- التي نطقتها بها…
توكيد؟!
رجاء؟!
استغاثة؟!
اعتذار؟!
ندم؟!
كل هذه المعاني حملتها…
لكنها كانت أبعد ما تكون عن السؤال!!!
وكأن حبه لها -حقيقة ثابتة- تظلمها “علامة استفهام” ولا يليق بها سوى “نقطة” في آخر السطر!!!
لهذا أخذ نفساً عميقاً وهو يشيح بوجهه عنها للحظة…
قبل أن يعود إليها بعينيه ليقولها لها هو الآخر لأول مرة:
_نعم…أحبك يا صفا…ولم أحب امرأة سواكِ طوال هذه السنوات.
ورغم أنه كان من المفترض أن يصيبها تصريحه بالفخر وهو يشبع غرور أنوثتها…
لكنها على العكس شعرت بالخزي الذي جعلها تسبل جفنيها مع استطراده:
_ولهذا السبب لن أوافقكِ على الزواج الآن!
ضغطت شفتيها بانفعال وقد عجزت عن رفع عينيها إليه كطفلة مذنبة…
فيما تنهد هو بحرارة ليقول أخيراً بحزم لم يطفئ حسرته:
_لم أنتظر كل هذه السنوات حتى ألقاكِ في منتهى الطريق مجرد جثة باردة أحملها على كتفي لأرحل بها.
هنا عادت ترفع عينيها إليه بحدة ساخطة وهي تهمّ برد عاصف…
عندما قطع رنين الهاتف نيتها ليتناوله وهو يفتح الاتصال بسرعة …
قبل أن تتسع عيناه بصدمة مع ارتجافة صوته:
_أبي!
صرخت صفا صرخة قصيرة وهي تقترب منه بسؤال ملتاع…عندما أغلق هو الاتصال مغمضاً عينيه بهمسه المختنق:
_البقاء لله!
====
_الحمد لله !
غمغم بها عبد الله بعدما أنهى إفطاره متحاشياً النظر نحوها كعادته …
فهتف محمد الصغير ببراءته المعهودة:
_أكملها يا شيخ!
رمقه عبد الله بنظرة حنون فأردف الصغير بنبرات متباطئة وكأنه يستظهر نصاً يحفظه:
_قل الحمد لله الذي …أطعمنا…و سقانا…وجعلنا…
قطع عبارته متلعثماً لا يتذكر بقيتها…
فابتسم عبد الله وهو يربت على رأسه ليكملها له:
_مسلمين!
كررها الصغير وراءه ثلاث مرات سريعاً وكأنه يحفظها…
لتبتسم فتون بقولها الحاني:
_لن ينساها بعد يا شيخ…ما دمتَ أنت من قالها له.
رفع إليها عينيه بحذر لتردف وهي تنظر للصغير ببعض الإشفاق:
_هو لا ينسى شيئاً من كلامك.
خفق قلب عبد الله بشعور غريب وهو يتأمل الصغير بتفحص…
ولا يدري لماذا ذكّره بنفسه في مراهقته…
نفس النظرة الضائعة في عينين مصطبغتين بمرارة اليتم وخوف الحاجة!!!
ربما يكون محمد أصغر سناً منه عندما فقد والديه…
لكن تبقى لنظرته نكهة خاصة تعيده لماضٍ قديم ترك أثره بنقوش بارزة على جدران روحه!!!
لهذا لم يقاوم أن يضمه إليه بقوة عاطفة اكتسحته الآن ….
ليضمه محمد أكثر بذراعيه الصغيرين وكأن قلبه -البرئ- يتنعم بهذا الحنان الذي يحتاجه…
فيتشبث كلاهما بحضن صاحبه حتى لم يدرِ عبد الله أيهما كان أشد احتياجاً لهذا الحضن…
هو أم الصغير؟!
بينما راقبتهما فتون بفرحة حقيقية لم تخلُ من توجس وهي تخشى أن تفيق من هذا الحلم على حرمان جديد…
لهذا ازدردت ريقها بتوتر وهي تحاول سحب الصغير بقولها الفاتر:
_يكفي هذا يا محمد…ستعطل الشيخ عن عمله.
لكن الصغير أصدر صوتاً متذمراً فتشبث به عبد الله لبضع لحظات أخرى قبل أن يبعده برفق مع قوله الحنون:
_سأعود اليوم مبكراً كي نذهب في نزهة إلى مدينة الألعاب التي وعدتك بها.
صفق الصغير بكفيه في سعادة قبل أن يقبل وجنة عبد الله بقوله البرئ:
_أنت طيب جداً يا شيخ…ليتك كنت أبي!
شحبت ملامح فتون فجأة وهي تحمل الصغير قسراً من بين ذراعيه لتقول له بلهجة آمرة:
_اذهب لغرفتك يا محمد…ودع الشيخ كي يذهب إلى عمله.
ذهب الصغير إلى غرفته مسرعاً وقد هددته نظرتها الزاجرة بعقاب قريب…
فيما التفتت هي نحوه لتلتقط الحزن المنقوش على ملامحه فتهمس بأسف:
_اعذره…فهو طفلٌ لا يفهم شيئاً.
استغفر الله بخفوت ثم أطرق برأسه ليقول برفق:
_هو لم يخطئ في شئ…أنا أيضاً تمنيت ولداً مثله منذ أول مرة رأيته فيها.
ترقرق الدمع في عينيها وهي تلمح كسرة الألم في عينيه…
بالتأكيد هو تمنى الولد…ولازال يتمناه …لكن ليس منها…
من سيدة قلبه التي ملكته ولازالت …حتى بعد هذا الفراق!!!
والغريب أنها لم تشعر بغيرة ها هنا…
بل على العكس…كل شعورها كان منغمساً بمذاق الذنب!!
ولعل هذا ما جعلها تقول له الآن برجاء لم تفارقه عزة نفسها المعهودة:
_بالله عليك يا شيخ لا تخذل ابني…أنا أعلم أن زواجنا غريب…بل إنني حتى لا أفهم لماذا رغبت أنت فيه…لكن محمد لا ذنب له في هذا…لو كنت تنتوي لنا فراقاً فلا تعلق الصغير بك أكثر…
ثم تهدج صوتها مع استطرادها بألم:
_لا تجعله يتذوق اليتم مرتين!
تنهد بحرارة وكلماتها تصيب قلبه في الصميم…
ليربت على كتفها برفق مع قوله :
_لا تخافي…لن أتخلى عن محمد أبداً…سأذهب إلى البنك غداً لأنشئ له وديعة بنكية باسمه بمبلغ مناسب لن يُمَسّ قبل بلوغه…وسأتولى تعليمه كاملاً بأرقى مستوى…
ابتسمت وهي تمنحه نظرة امتنان راجية…
فشرد ببصره وهو يردف بخفوت:
_لن أجعله يذوق مر الحاجة مثلي…لن أجمع عليه همّ اليتم والفقر معاً!!!
قالها وهو يتذكر تفاصيل متفرقة من ماضيه بعد وفاة والديه…
واضطراره وقتها للعمل في أكثر من وظيفة كي يستطيع تربية شقيقته!!!
كم من ليلة قضاها مسهداً يفكر كيف يعيش مرفوع الرأس بكرامة فلا يكون عالة على أحد…
كم من أيام قضاها متخبطاً بين أعمال بسيطة تستنزف وقته ولا تمنحه إلا القليل من المال…
كم من ثيابٍ اشتهاها وغض طرفه عنها لأنه لم يكن يملك وقتها ثمنها…
وكم من وجبة عفّ عنها ليدخر ثمنها لما هو أهم!!!
أيام تلتها أيام وهو يتحمل مسئولية وجدها ملقاةً على عاتقه فجأة…
قبل أن يمنحه القدر عوضاً كافياً -بل أكثر من كافٍ- ب”صفا روحه”!!
نعم…صفا كانت أهلاً لما غاب الأهل…
كانت أماناً يوم احتاج المال…
كانت حناناً يوم قسا الدهر…
بل كانت حياةً يوم افتقد “الحياة”!!!
قد كانت يوماً…فماذا كانت؟!!
كانت “صفا روحه” وكفى!!!
وبهذا الخاطر الأخير زفر زفرة حارقة…
ثم عاد إليها ببصره متجاهلاً نظرة امتنانها ليقول برفق:
_أعدي نفسك و الصغير للخروج اليوم كما وعدته.

وبعدها بساعات اصطحبهما معاً لمدينة الألعاب كما وعد الصغير…
لينغمس معه في شعور جديد يجربه لأول مرة….
كان يراقب ملامحه الصغيرة بشغف وانبهار وكأنه يراه لأول مرة…
طوال هذه السنوات وهو لم يشعر بالتوق إلى أطفال…
رغبته كانت لأجل “صفا” فحسب!!
وحتى عندما كان يجدّ معها في السعي إلى الأطباء لم يكن يشعر بقلق حقيقي…
لكنه كان يفعلها لأجلها فقط!!!
ربما لأن سعيه خلف طموحه ردم الكثير من الركام فوق جمر عاطفته…
فنسي فطرة “الأبوة” كما نسي “شقيقته”…بل ونسي نفسه!!
نعم…ظل يدور في حلقة مفرغة من السعي خلف -ما ظن أنه قد حُرم منه- …
ونسي التنعم بما جادت به السماء عليه!!
والآن يجد قلبه يعود للحياة رويداً رويداً بمشاعر تنبت الزهر في أعماقه…
بدايتها كانت رؤى…والآن محمد…
محمد الذي أوقد قنديلاً قديماً بروحه ظل منطفئاً لسنوات…خاصةً الآن…
فالصغير كان يتعلق بقميصه كلما شعر بالخوف من إحدى الألعاب…
يحتضنه بعفوية مع ضحكة عالية كلما شعر بالفرحة…
يحكي له حكايات من نسج خياله الخصب وهو يسير جواره كفه الصغير في راحته…
وحتى عندما اشترى له الحلوى فوجئ بالصغير يقتسمها معه…
بل ووضعها بنفسه في فمه مع قوله بصوته البرئ:
_نصفها لك….كي تصير صديقي…فأنا ليس لي أصدقاء!
وحينها لم يتمالك عبد الله نفسه وهو يضمه إليه بقوة ليغرق وجهه الصغير بقبلاته وقد عجز عن الرد…
بينما كانت فتون تراقبهما بتأثر وقلبها ينتفض بين ضلوعها …
لم ترَ ابنها يوماً سعيداً هكذا منذ وفاة والده…
ورغم أن هذا كان سبباً لأن تفرح وتطمئن…
لكنها على العكس كانت تشعر بالقلق أكثر…
فطريقها مع هذا الرجل لايزال مشوشاً بغيومه…
والخطوة الخاطئة لن تضرها هي فقط…بل وصغيرها أيضاً!!!
لكنها سلمت أمرها لله كعادتها وهي تحاول الاستمتاع معهما بهذا الوقت…
حتى انتهت رحلتهما بنوم الصغير على حجرها في طريق عودتهما بسيارته…
ليرمقه عبد الله بنظرة حنون طويلة مع همسه المشفق:
_من كان يرى فرط حركته منذ دقائق فقط لا يصدق استسلامه للنوم بهذه السهولة.
فابتسمت وهي تداعب شعر الصغير بأناملها مع همسها:
_هكذا هو دوماً.
عاد ببصره للطريق أمامه فترددت لحظة قبل أن تقول له بامتنان:
_جزاك الله عنا خيراً يا شيخ.
رمقها بنظرة جانبية دون أن يجرؤ على المزيد…
ترى هل سيجزيه الله عنها خيراً حقاً؟!!
وكيف وهو قد ظلمها بهذه الزيجة…تماماً كما ظلم نفسه!!!
لكن ما حيلته في نفسه …
و”طيف صفا” يبدو كلعنة أبدية ليس له منها فكاك!!!
كيف صور له عناده يوماً أنه قد يهنأ بامرأة أخرى؟!!
كيف سول له شيطان انتقامه أن يعاقبها بهذه الطريقة؟!
ألم يكن يدرك وقتها أنه يعاقب نفسه قبلها؟!!
وهذه المسكينة التي ظلمها معه بلا داعٍ!!!
لكنه وجد نفسه مضطراً لهذا خاصةً بعد الفضيحة التي أحدثها لها ذاك الوغد بعدما كاد يعتدي عليها!!!
انقطعت أفكاره عندما وصل أخيراً إلى منزله…
ليوقف سيارته مكانه ويترجل منها ليحمل منها الصغير على كتفه حتى أوصله لفراشه بغرفته التي تخصه مع أمه…
لتلحق هي بهما وفي عينيها ألف نظرة شكر…وألف ألف نظرة رجاء!!!
لكنه لم ينتبه لهذا وهو يتجاوزها سريعاً مع همسه الخافت:
_تصبحين على خير!
راقبت انصرافه بارتباك مشوب بخجلها…
قبل أن تغلق الباب خلفه برفق…
وقلبها يخونها بأول دقة -غريبة -تعرفها له!!!
له هو؟!!معقول؟!!
احمرت وجنتاها أكثر وهي تتوجه نحو مرآتها تتأمل ملامحها بحيرة…
_هل اشتهيتِ الرجل يا فتون؟!
_وماذا في هذا أليس زوجي؟!
_أفيقي أيتها الحمقاء هو لا يزال لا يرى سوى “سيدتك” صفا!!
_لم تعد بعد “سيدتي” …أنا الآن زوجته وهي مجرد ماضٍ!!
_يالكِ من جاحدة…تعضين اليد التي امتدت لكِ بالخير؟!
_أنا لم أخطفه منها!!!هو تقدم للزواج مني برغبته بعد ما طلقها ثلاثاً وحُرمت عليه!!!
_وتظنين نفسكِ قادرة على امتلاك قلبه بعدها؟!وكيف وهو لا يطيق حتى لمسكِ وفاءً لها!!!
وعند خاطرها الأخير تغضنت ملامحها بألم وهي تتحاشى النظر لصورتها في المرآة …
لتعود ببصرها نحو الصغير النائم في فراشه…
قبل أن تهمس أخيراً بصوت مسموع:
_رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه…لا تطمعي فيما ليس لكِ…وعيشي لابنكِ فقط…ابنك فقط يا فتون!!
وقف أمام ذاك الحاجز الخشبي بدوائره المميزة المتداخلة وهو يصوب مسدسه نحوه…
ضاقت عيناه بتركيز محاولاً إصابة هدفه كالعادة…
لكن أنامله ارتجفت على مسدسه وهذه الذكرى تراوده فجأة:
_لماذا لم تعودي تخافين “الشيطان”؟!!
_إنه سرّي الصغير في عينيك…في البداية كانتا تبرقان بقسوة شيطانية مخيفة كانت تثير نفوري…لكنني بعدها بدأت أميز خيوطاً زيتونية لامعة فيهما تدعوني للتعلق بها لعلي أفهمهما…أحياناً تبدوان كغاباتٍ كثيفة من الزيتون أتوه فيها فلا أستطيع قراءتهما جيداً…وأحياناً تشتعلان بجنون فأدرك أنك غاضب…وأحياناً تبدوان وكأن أغصان هذه الغابات تتمايل مع رقة النسيم فيصلني شعورٌ بهدوء روحك…وأحياناً تغرق هذه الغابات في بحارٍ من مرارةٍ لا أفهمها لكنني أشعر بقوتها….وفي أحيانٍ أخري قليلة..تختفي هذه الغابات وتظهر مكانها شموسٌ زيتونية صغيرة تتألق بوهجٍ دافئ يغمرني بالسكينة عندما أحتاجها
_والآن …كيف تبدوان؟!
ازداد انعقاد حاجبيه ورصاصته تخرج من مسدسه لتخطئ هدفه…
فزفر بقوة وهو يلقى مسدسه أرضاً بعنف!!!
لقد اعتاد دوماً تفريغ غضبه بهذه الطريقة…
رصاصاته التي تغادر مسدسه كانت تحمل معها -عادةً- شحنات توتره…
لكن يبدو أنها فقدت صلاحيتها للأسف…
أو ربما هو شعوره الآن أكثر اشتعالاً من أن يطفئه شئ!!!
هل يجرؤ على الاعتراف الآن أن أيامه فقدت مذاقها بعدها؟!!
هل يمكنه مصارحة نفسه أنها تركت بداخله فضاءً شاسعاً لن تملأه سواها؟!!
هل يستطيع الآن البوح بأنه ….يفتقدها؟!!
ماسة لم تكن فقط زوجته…
بل كانت طفلته…وصديقته…
نعم …”طفلته” التي هام بها -قلبه-بقوة حرمانه من الذرية طوال هذه السنوات…
لتنهمر عاطفته فجأة معها كسيول جرفت في تيارها كل شئ…
و”صديقته” التي أحبها -عقله- بعمق شعوره بأنها تجيد قراءته…
تجيد فك شفرة روحه التي انغلقت أمام الجميع سواها….
لكنها هي فقط كانت تفهم…
تفهم نظراته…ابتسامته…صمته…
ضعفه الذي يشهد الله أنه لم يبدُ أمام أحد سواها…
حزنه “الشفاف “الذي غاب عن عيون العالمين إلا عينيها…!!!
عاد يتنهد بحرارة وهو يتلفت حوله بعجز وكأنه يبحث عن شئٍ ما لا يدري كنهه…
قبل أن يغادر مكانه إلى غرفة الحديقة المجاورة …
دارت عيناه في المكان بحزن غائر وهو يتذكر طيفها الذي طالما كان هنا…
لقد كانت هذه الغرفة ملجأها المفضل عندما كانت تشعر بالألم…
لماذا لا يشعر أنها فارقت مكانها -هناك- على الأريكة…؟!!
بل إنه لا يبالغ لو زعم أنه يشعر بدفء أنفاسها على صدره كما كانت هنا آخر مرة…
صوتها الرنان يصدح بأغنيتها في أذنه وهي تصنع طائرتها الورقية…
وابتسامتها ذات الشجن ترتسم أمام مقلتيه فلا يكاد يرى سواها…
أشاح بوجهه في انفعال ضج به قلبه ليغادر المكان بخطواتٍ متثاقلة حتى سحبته قدماه لسطح القصر…
لتحين منه التفاتةٌ إلى ذاك الجدار هناك…
توجه نحو الجدار ليجلس أمامه على الأرض مسنداً ذراعه على ركبته المرفوعة….
فتذكر يوم جلست هنا على ساقيه لتغني له لأول مرة…
له هو…هو فقط…
يومها قال لها أن الأحمق هو من يترك ماسته تلامس الأرض قبل أن يلتقطها…
فهل فعل الآن ما استنكر على نفسه الإتيان به يوماً؟!!
نعم…للأسف…
لقد سمح لها بالسقوط من يده ليزيد خدوشها من جديد…
لكن عزاءه أن كل هذا لن يطول…
نعم…غداً تعود له السيطرة على كل شئ…
غداً يحصل على الولد الذي تمناه…
ويتخلص من مهاجمه المجهول…
وحينها سيستعيد ماسته …
وسيكون كفيلاً بمداواة جروحها كلها!!!
ولأول مرة يشعر أنه -يكذب -على نفسه…
وصوتٌ بداخله يخبره أن النهاية اقتربت كثيراً وآن ميعاد السداد!!!
فتنهد أخيراً بحرارة وهو يرفع عينيه للسماء بترقب وكأنه ينتظر حقاً أن يأتيه العقاب في هذه اللحظة…
لم يشعر يوماً بمرارة الوحدة…كما الآن…
بألم الفقد…كما الآن…
بفداحة الخسارة…كما الآن…
بل بدا له الأمر وكأن العالم كله تحول فجأة ل”قبر” كبير دفنوه فيه حياً …
فلم يبقَ له بعد العذاب…إلا العذاب!!
انقطعت أفكاره عندما رن هاتفه فتجاهله لبعض الوقت…
قبل أن تلتقطه أنامله بتثاقل لتعاود غاباته الزيتونية اشتعالها وهو يفتح الاتصال ليهتف بحدة:
_أين أنت يا رجل؟!لقد وصل الأمر لحريق في ساحة القصر الخلفية بالأمس…وأنت لا تفعل شيئاً سوى الهراء!!!
ليصله صوت رجله “سرحان” على الجانب الآخر من الاتصال يقول بارتباك:
_لقد توصلت إليه يا سيدي…عرفته!!
هنا ازدادت عيناه توهجاً ببريق قسوتها وهو يسأله من بين أسنانه:
_مَن؟!
والجواب أتاه بسرعة فاعتدل واقفاً ليفكر لبعض الوقت…
قبل أن يقول لرجله بحزم:
_لا تفعل شيئاً الآن…اكتفِ بالمراقبة!
=====
_هل استرحت الآن؟!
هتفت بها والدته بعتاب وهي تراه يجمع بعض ملابسه في حقيبته…
فقال بجمود دون أن ينظر إليها :
_نعم…وهي أيضاً استراحت!
قالها وهو مستمر فيما يفعله دون أن ينظر إليها فهتفت باستنكار:
_هل هذا ما تحاول به إقناع نفسك لإخماد صوت ضميرك؟!!أنت…
_شيطان!!!
هتف بها بعنف مكملاً عبارتها فتراجعت مكانها خطوة وهي ترى انفعاله الذي سيطر على ملامحه قبل نبراته:
_نعم…شيطان…لا يرى سوى صورة نفسه فقط…هذا هو طبعي ولن أغيره!!!
رمقته بنظرة آسفة طويلة فأشاح بوجهه محاولاً تمالك انفعاله…
فيما قالت هي أخيراً بحسرة أم على ابنها الوحيد:
_كلنا بشر يا حسام…ليس منا ملكٌ كريم أو شيطانٌ رجيم…أنت الذي أضعت فرصتك مع زوجتك.
فزفر بقوة وهو يغلق سحاب حقيبته الصغيرة مع قوله الذي عاد إليه جموده:
_لم تعد زوجتي…هل نسيتِ أنني طلقتها بالأمس؟!!
لكنها عادت تقترب منه قائلةً بحذر:
_ردها…لن تكون أول ولا آخر رجلٍ يفعلها!!!
فضحك ساخراً قبل أن يرفع حقيبته على كتفه ليقول بنبرة متغطرسة:
_وهل عهدتِ ابنك يعود في كلمته؟!
دمعت عيناها بحزن حقيقي وهي تتمتم بأسى:
_هداك الله يا ابني!!
لم يرد عليها وهو يتناول نظارته الشمسية ليرتديها باعتناء مع قوله الذي رافق قبلة على جبينها:
_سأسافر لرحلة قصيرة مع بعض أصدقائي…اعتني بنفسك.
رمقته بنظرة عاتبة أخيرة تجاهلها رغم قسوة مردودها على قلبه…
ليغادرها بخطوات سريعة نحو سيارته التي استقلها بسرعة ملقياً حقيبته خلفه لينطلق بها بسرعة جنونية…
أدار مشغل الأغاني على لحن غربي صاخب محاولاً التركيز في عالم آخر …
لكن كلمات دعاء التي قالتها له بالأمس لازالت تدوي في أذنيه…
_هل تذكر ليلة عقد قراننا عندما أتيت لي بالدفتر بنفسك لتثبت لي فقط أنك صاحب القرار؟!أنا اليوم سعيدة لأنني صرت صاحبة القرار…نعم…لا تتوهم أنك تخليتَ عني بنذالة…لا…لو أردتُ أنا لاستغللت شفقتك…أو ضغوط والدتك…بل وربما كنت هددتك بفضيحة وسط عالمك الذي تتفاخر به…لكنني أنا من لا أريد…اختياري لي هذه المرة يا حسام…ولا تعلم أنت كم يساوي هذا عندي!!
خبط على المقود بأنامله في حركة رتيبة وهو شارد في الطريق أمامه…
ترى هل اختارت دعاء حقاً ؟!!
أم أنه هو من تشبث بقناع “الشيطان” حتى النهاية؟!!
هل كان محقاً عندما تركها لحياة جديدة تبدأ فيها بداية نقية تستحقها؟!
أم أنه اتخذها مجرد ذريعة ليرضي أنانيته بالتخلص منها بعد ما حدث؟!
هل يستحق لقب “رجل” بعد تخليه عنها في هذه الظروف؟!!
أم أن دماء رجولته أريقت على قارعة طريق جحوده؟!!
أفاق من شروده فجأة عندما كاد يصطدم بسيارة آتية من الاتجاه المقابل …
ليتفاداها بأعجوبة قبل أن يتوقف على جانب الطريق محاولاً التقاط أنفاسه…!!!!!
صادمةٌ هي الحياة يا حسام…
قد تنتهي في لحظة كما حدث الآن…
فلا تُضيع وقتك في تفنيد ما كان…
أنت اخترت…ولا تزعم أنك أخطأت الاختيار…!
أكثر الناس حماقة من يقف على حافة بئر الندم…
فلا هو عاش بقلب قديس ولا هو قد ثمل بخمر خطيئةٍ أسكرت ضميره فغيبته!!!
وعند خاطره الأخير عاد يعدل شكله في مرآة سيارته ليتناول هاتفه متلاعباً بشاشته قبل أن يفتح الاتصال ليقول هو بنبرة عابثة:
_أنا قادم في خلال دقائق…أريد ضبط مزاجي بالكامل!
والجواب كان ضحكة مرحة من صديقه مع سؤال ماكر:
_بالكامل؟!!
ليطلق هو ضحكة ساخرة فجة ناسبت مغزى قوله الوقح:
_ابذل قصارى جهدك…أنا الآن رجل عازب!!
قالها ثم أغلق الاتصال ليعاود السير في طريقه…
طريقه الذي اختاره!!
=========
_دعاء!!
هتفت بها ماسة بحرارة وهي تضمها إليها بقوة لتردف بتأثر:
_حبيبتي…كم افتقدتك…كم أنا سعيدة بمجيئك هنا.
ضمتها دعاء بقوة أكبر وهي تقول بعاطفة مماثلة:
_لم أحتمل فراقك أكثر…كنت أحتاجك!
رفعت ماسة إليها عينيها لتتأمل وجهها بتأثر لم تستطع إخفاءه…
وتلك “النظارة السوداء” تخفي نصف ملامحه…
بينما تلفتت دعاء حولها لتهمس بدهشة:
_لم أتوقع أن تكوني هنا…عندما هاتفتك ظننتكِ ستكونين في بيت أخيكِ.
تنهدت ماسة بحرارة ثم جذبتها لتجلسها جوارها قائلةً وكأنها تنفي عن نفسها تهمة:
_لم أتصور أنني سأرضخ لرغبة جاسم الصاوي بالإقامة في بيته…لكنني اضطررت لهذا.
رمقتها دعاء بنظرة متسائلة وهي تلاحظ ذكرها لأبيها باسمه المجرد بما يوحي بسوء العلاقة بينهما…
فيما استطردت ماسة بشرود بائس:
_حالته النفسية ساءت كثيراً بعد عودته من لندن وتأكده من تشخيص مرضه النادر…في البداية طلب حضوري هنا ليبدأ محاميه في تدبير أمر إثبات نسبي وتغيير اسمي على الأوراق الرسمية…لكنه طلب مني البقاء بعدها معه ولم أستطع الرفض مع حالته الصحية الصعبة.
هزت دعاء رأسها لتقول بأسف:
_هل استيقظ ضميره إذن؟!
فتأوهت ماسة بصوت مسموع قبل أن تهمس بشرود:
_نظراته تفضح أسفاً وندماً ورجاءً حاراً لي أن أقترب الخطوة التي لا يجرؤ هو على الإتيان بها…
ثم التفتت إليها من شرودها لتردف بمرارة:
_هل تعلمين أنه لم يحتضنني مرة واحدة منذ التقينا؟!
عقدت دعاء حاجبيها بدهشة ممتزجة بالضيق فيما هزت ماسة رأسها لتستطرد بنفس المرارة:
_يداه ترتجفان في كل مرة يصافحني فيها…أكاد أستشعر رغبته الجارفة في أن يضمني لصدره كأي أب…عيناه تبرقان في حضوري بريقاً حقيقياً لا أراه إلا وهو معي…لكن كل هذا يعاود الاختفاء خلف سدود كتمانه…ومطامعه التي لم يلجمها مرض ولم يردعها مُصاب…
ثم ابتسمت ساخرة لتهمس باستهجان:
_حتى الخدم هنا لا يعرفون أني ابنته …يظنونني مجرد ضيفة !
_غريب!
همست بها دعاء بإشفاق غلب تعجبها…
فابتسمت ماسة وهي تعود لشرودها مع همسها:
_لم أعد أستغرب شيئاً…خبرتي مع عاصي جعلتني أدرك كيف يسيطر شيطان النفس على القلب بقبضة من حديد فلا يسمح له إلا بالنبض الفارغ…بينما تبقى المشاعر ترفاً إضافياً لا يستحقه عبد شيطانه!!!
أومأت دعاء برأسها في أسف وهي تتذكر- خبرة- مشابهة…
أثارتها ماسة بسؤالها التالي:
_ماذا ستفعلين بعد طلاقك من حسام؟!
_سأعيش!!
هتفت بها بسرعة واشية بمدى انفعالها قبل أن تضحك ببساطة ناسبت قولها المرح كعادتها :
_امرأة عشرينية جميلة…ملفوفة القوام…تجيد الطبخ وأعمال المنزل….لديها من المال ما يكفيها…وشهادة جامعية محترمة…وفوق كل هذا حرة تماماً بلا قيود…!!!
رمقتها ماسة بنظرة مشفقة طويلة قبل أن تقول بحذر:
_دعاء…أنتِ لا تحتاجين ارتداء قناع مرحكِ هذا أمامي…ما فائدة صداقتنا لو أخفت كلٌ منا آلامها عن الأخرى؟!
فابتسمت دعاء بحنان وهي تربت على كتفها لتقول بصدق:
_لم يعد “قناعاً”…بل “قناعة”!!
ارتفع حاجبا ماسة بإعجاب حقيقي فيما سألتها دعاء بابتسامة هادئة:
_تعلمين أنني أصر على ارتداء نظارتي هذه حتى وأنا وحدي؟!!
هزت ماسة رأسها بتساؤل…فيما كانت تستطرد هي بنفس النبرة الراضية:
_كي أذكر نفسي فقط بالحقيقة التي أريد تصديقها…لو فكرت بعقليتي القديمة فسأقول أن الدمية المعيبة اكتسبت المزيد من العيوب…زيجة فاشلة…يتمٌ ووحدة…و عيني التي فقدتها…
ثم صمتت لحظة لتعاود همسها الواثق:
_لكنني بعقليتي الجديدة لم أعد أراني دمية معيبة…بل امرأة كاملة لا ينقصها شئ…أنا هدمت صنمي بيدي يوم رضيت بقدري…وليتني فعلتها منذ زمن.
اتسعت ابتسامة ماسة الفخورة وهي تضمها إليها قبل أن تهمس بأسف:
_لم أتصور أن يطلقك حسام بهذه البساطة!!!فهد أيضاً عاتبه كثيراً في هذا لكنه أخبره أنها رغبتك أنت.
تنهدت دعاء بحرارة ثم قالت برضا حقيقي لا تدعيه:
_نعم…رغبتي…رغم أن والدته توسلتني كثيراً كي أعود في قراري وكانت لي نعم الأم طوال الأيام السابقة…لكنني أصررت على قراري…حسام كان نقطة هامة في صفحة حياتي الماضية…مشاعره الوليدة نحوي بإعجاب حقيقي كانت سبباً في استعادتي لثقتي بنفسي كأنثى تستحق الحب…ربما لولا هذا لظللت طوال عمري سجينة إحساسي بالنقص…
تفحصتها ماسة ببصرها وهي تدرك بإحساسها أنها ترى الآن “دعاء” جديدة…
أكثر ثقة…أكثر قوة…ربما لأنها أكثر “رضا”!!!
بينما أردفت دعاء بنبرة أكثر قوة :
_لكن استمراره معي كان سيخنق ثقتي هذه…أنا تحررت من قيود الماضي وأولها شعوري بالانتقاص ولم أكن لأسمح لأحد أن يعيدني لذاك السجن.
ثم ابتسمت وهي تقول بمرح:
_الناس في مدينتنا يصفونني بالمجنونة لأنني تخليت عن زوج كحسام…وبعضهم لا يصدق أنني أنا من طلبت الطلاق…ولسان حالهم “رضي بالهم …والهم لم يرضَ به”!!!
ابتسمت ماسة بحنان وهي تضم رأسها إليها لتقبله بعمق عاطفتها…
قبل أن تحيط وجنتيها بكفيها هاتفةً بحمائية صديقة مخلصة:
_هَمّ؟!!أنتِ همّ؟!!أنتِ قطعة سكر!!!
فضحكت دعاء ضحكتها الساحرة وهي تلوح بكفيها مشيرةً لامتلاء جسدها…مع غمزتها الماكرة التي ناسبت دعابتها:
_قطعة واحدة بهذا الحجم!!!!عيبٌ عليكِ!!أنا الشِوال كله!!
ضحكت ماسة ضحكة طويلة وهي تعاود ضمها إليها بقوة لتمتزج ضحكاتهما للحظات… قبل أن تسألها أخيراً باهتمام:
_هل فكرتِ ماذا ستفعلين بمستقبلك؟!
أومأت دعاء برأسها مع إجابتها التي اتشحت بالأمل:
_لقد تركت عملي في مدينتنا وجئت للبحث عن عمل هنا…كنت أريد بداية جديدة في مدينة لا يعرفني فيها أحد…كما أن فرصتي لاستكمال علاج عيني ستكون هنا في العاصمة أفضل.
ابتسمت ماسة بمؤازرة وهي تقول بحماس:
_لا تقلقي…أنا علمت أن العدسة اللاصقة في حالتك تجعل الأمر يبدو طبيعياً تماماً…لكنها فقط تحتاج لمزيد من الوقت كي نتمكن من استخدامها.
فابتسمت دعاء بدورها وهي تعدل وضع نظارتها السوداء على وجهها مع قولها بسكينة راضية:
_الحمد لله…لطفه سبق قضاءه.
هنا احتضنت ماسة كفها بقوة بين راحتيها لتقول بحزم حنون:
_دعاء…اسمعيني جيداً…منذ أول لقاء لنا في القطار وقد شاءت الظروف أن تتحد أقدارنا…لن أستطيع أن أتركك وحدكِ هنا…ما رأيك لو تسافرين معي؟!
انعقد حاجبا دعاء بصدمة فيما أردفت ماسة بحماس لتقنعها:
_ستكون فرصتك في العلاج أكبر…كما أننا سنكون معاً يداً واحدة كما اعتدنا.
ابتسمت دعاء بارتباك وقد راقتها الفكرة لكنها تمتمت بحيرة:
_لكن…ماذا سأعمل هناك؟!وأين سأقيم؟!!وماذا…
لكن ماسة قطعت عبارتها بقولها الحاسم:
_سنتدبر الأمر معاً …فقط قولي نعم…حتى نتدبر أمر أوراقك.
صمتت دعاء تفكر لبضع دقائق…
قبل أن تسأل ماسة بتردد لا يخلو من تعاطف:
_هل قرار سفرك هذا نهائي ؟!هل يعني هذا أن حكايتك مع عاصي…
قطعت عبارتها وهي مشفقة من إكمالها …
لكن ماسة أومأت برأسها دون رد سوى شحوب ملامحها بحزن كسير…
فربتت دعاء على كتفها لتسألها باهتمام:
_ألم يحاول الاتصال بكِ طوال هذه الفترة؟!
غامت عينا ماسة بشرود وهي تهمس بنبرة بلا حياة:
_غيرت رقم هاتفي ثلاث مرات…وفي كل مرة ينجح في العثور على رقمي الجديد…يتصل بي كل ليلة وكأنه يتعمد إشعاري أنه لازال يحكم قبضته حولي…ورغم أنني لا أرد على اتصاله لكنه يفعلها يومياً في نفس الموعد…
ثم خفت صوتها أكثر ليصل حد التمتمة مع جملتها:
_نفس الموعد الذي اعتاد النوم فيه.
دمعت عينا دعاء بتأثر ثم ازدردت ريقها بتوتر لتقول باندفاع:
_يقولون أن زوجته الجديدة…
_لا أريد أن أعرف عنها شيئاً!
هتفت بها ماسة مقاطعة إياها وهي تهب واقفة بحركة عصبية…
قبل أن تزفر بقوة مع قولها بنبرة اعتذار:
_لا أريد الحديث بهذا الشأن يا دعاء.
أومأت دعاء برأسها في تفهم وهي تقف بدورها…فقبلت ماسة وجنتها لتبتسم مع قولها :
_تعالي معي إذن كي أريكِ غرفتك…سنبقى معاً حتى نسافر .
هزت دعاء رأسها بحرج ولازالت غارقة بترددها…لتصطحبها ماسة نحو إحدى الغرف قبل أن تتركها لتستريح…
وما إن أغلقت باب غرفة دعاء حتى تنهدت بحرارة وقدماها تسحبانها نحو غرفة جاسم…
فتحت باب الغرفة ببطء لتطالع وجهه النائم بنظرات مضطربة…
وجهه الغارق بشحوبه…وأنفاسه المتلاحقة مع انفراجة شفتيه…
وذاك الأنين الصامت بألمه الذي لم ينقطع حتى في نومه…
كل هذا جعل عينيها تدمعان بتأثر وهي تسمح لنفسها بنظرات عميقة نحوه بمشاعر لا تستطيع إبداءها في صحوه…
لتتشبث أناملها بمقبض الباب للحظات ورغبة بداخلها تتزايد بجنون…
أن تتوجه نحوه لتلقي رأسها على صدره …حضنٌ واحد!!!
أن تقبل كفه كما تفعل الابنة البارة مع أبيها…قبلة واحدة!!!
أن تخبره أنها سامحته…كلمة واحدة!!!
لكن كل هذا كان عسيراً عليها بحق!!!
فاكتفت بدعاء صامت استودعت فيه حاجتها لرب العالمين كما علمتها رحمة…
قبل أن تعاود غلق الباب ببطء كما فتحته لتعود إلى غرفتها…
وضعت رأسها على وسادتها تتوسل النوم أن يأتيها باكراً هذه المرة ليرحمها من “حرب” كل ليلة …
لكن هيهات!!!
كل ما فيها كان ينتظر اتصاله …
عيناها معلقتان بشاشة هاتفها تنتظران تراقصها المضئ برقم هاتفه…
أذناها مرهفتان تنتظران سماع رنته المميزة بأغنية غنتها يوماً على صدره…
قلبها يتواثب بجنون وكأن دقاته صارت مرهونة بهذا الاتصال الذي يمنحه “إكسير” الحياة…
أنفاسها مختنقة وكأنها لن تصالح الهواء إلا بنشوة إحساسها بأنه معها رغم كل هذا البعد!!!!
حمقاء؟!!!
ربما …ومَن أقرب للحمق من العاشقين؟!!
لكن عزاءها أن كرامتها لم تخدش معه …
فليعربد القلب بحانات عشقه كما شاء…مادامت روحها في محراب كبريائها تتعبد!!!!
لهذا أخذت نفساً عميقاً عندما اهتز الهاتف في يدها بنغمته الأثيرة والتي لا يعقبها رد منها كما اعتادت…
لتضمه لصدرها بقوة مع همسها لنفسها بألم:
_شكراً لأنك على الأقل تطمئنني أنك بخير.
لم تكد تنهي همسها حتى انقطعت رنة الهاتف لتصلها رنة وصول رسالة…
خفق قلبها بجنون وأناملها تتواثب بسرعة على شاشة هاتفها لتقرأ رسالته:
_مرآتي لا تزال متصدعة بخدوشها…كما كسرتِها بيدكِ فلن أصلحها حتى تعودي.
دمعت عيناها بوجع حقيقي وهي تدرك ما خلف عبارته…
تقرأ بين حروف رسالته القليلة آلاف السطور من الاشتياق…
اشتياق يوازي اشتياقها وربما أكثر!!!
لكن…هل قال “تعود”؟!!
تعود؟!!
والكلمة نسجت بخيالها طيفاً وردياً للقصر بمشهده المهيب…
غرفة حديقته التي كانت خاصة بهما هو وهي فقط…
غرفتها القديمة التي طالما وقفت في نافذتها تنتظر شروق الشمس…
سطحه الذي استقرت عليه طائرتها الورقية تنتظر حلماً راهنت على تحقيقه …
وأخيراً غرفة نومه هو التي لم تدخلها امرأة سواها…
بل…ربما الآن قد حدث!!!
وهنا تحولت “وردية” طيفها ل”رمادية” خانقة…
لتعتصر هاتفها في يدها بقوة قبل أن تخفيه قسراً عن عينيها تحت وسادتها…
لتغمض عينيها أخيراً مع همسها بقوة لم تُخفِ حسرتها:
_لن أعود يا “عاصي القلب”…لن أعود!!
========
وفي غرفتها التي اصطحبتها إليها ماسة وقفت دعاء أمام مرآتها للحظات…
اقتربت بتمهل حتى كادت تلاصقها…
ثم امتدت أناملها المرتجفة تخلع عنها نظارتها ببطء شديد كعادتها في كل مرة تفعلها…
ضغطت شفتيها بقوة قبل أن تحمد الله بصوت مسموع…
على الأقل …هي لم تعد تشعر الآن بالغرابة أو النفور…
لن تنسى أبداً أول مرة رأت فيها عينها -المصابة- بعد الحادث…
لقد كادت تكسر مرآتها يومها بصوت صراخها الذي لازال يدوي في أذنيها…
شعورٌ قاتل أن يفقد الإنسان جزءاً من جسده مدركاً أنه لن يعود…
فما بالنا بعينه؟!!
لقد حدثها شيطانها يومها أنها لا تستحق كل ما حدث لها…
وأن الله لا يحبها كي تصاب بكل هذا القدر من المصائب المتتابعة…
لكن ذاك الحلم الذي حلمت به ليلة مصابها عاودها…
الجنة…والجبل الضخم…بكلمة “الله أكبر” على قمته!!!
لتعود السكينة تغشى روحها رويداً رويداً لتدرك معنى ما قرأته يوماً أن الله يبتلي المرء على قدر إيمانه…
فمن رضي فله الرضا…ومن سخط فله السخط!!!
وهي رضت…وترضى…وسترضى…
لن تفشل أبداً في هذا الاختبار!!!
وبهذا اليقين عادت ابتسامتها “المميزة” تزين ثغرها …
قبل أن تستخرج ثيابها من حقيبتها لتبدل ملابسها بأخرى مريحة…
ثم توقفت أناملها على سلسلة عنقها التي حوت يوماً ما “تميمة”!!!
نعم…تميمة صنعها أحد السحرة لوالدتها يوم ظنت مرضها درباً من المس الشيطاني…
وحتى بعدما تيقنت من كونه مرضاً عضوياً كانت تأبى أن تجعلها تخلعها!!!
ماسة قالت لها يوماً أنها محرمة…
لكنها لم تخلعها لهذا السبب…
بل لأنها كانت بعينيها رمزاً لتسلط مرضها على تفكيرها!!!
تجسيداً بارزاً لعقدة “الدمية المعيبة” التي طالما خنقت عنفوان أنوثتها…
لهذا استبدلت “التميمة” بصورة قديمة لها مع والديها…وضعتها في إطار مذهب كي تكون دوماً أقرب ما تكون إلى قلبها…
تلك التي رفعتها الآن أمام عينيها لتهمس بابتسامة شاحبة:
_ليتكما أدركتما كم كنت أحتاج لدعمكما…أرأيتما كم صرت الآن قوية وحدي؟!لم يكن الزواج حجر حظي كما ظننتم …بل كان الرجل الذي قبلتموه لعنة على رأسي.
ثم أخذت نفساً عميقاً لتردف بنبرة مطمئنّة:
_لا أدري من أين تأتيني هذه الثقة؟!لكنني أشعر أنني الآن أفضل…وغداً سأكون أفضل وأفضل…حلمي تجاوز الثوب الأبيض والفارس المتأنق…إلى رغبة حقيقية في الشعور بكينونتي…بحريتي…بقيمتي التي لن تنتظر رجلاً ليقدرها….وظني أنني لن أُحرَم الحب أيضاً في نهاية الطريق!
وبهمستها الأخيرة استلقت على فراشها بارتياح…
وهي ترسم لنفسها عشرات الأحلام…ومئات الخطط…
ورغم غرابة المكان الذي تنام فيه لأول مرة…
لكن النوم اقتنص وعيها أخيراً لتغرق بعده في حلمها الأثير الذي راودها من جديد وكأنه بشارة السماء لصبرها…
جنة…وجبل…وكلمة “الله أكبر”..
=======
دخلت عليه لتجده جالساً في مجلسه المعتاد بشرفة قصره الواسعة…
اقتربت منه ببطء وهي تنظر إليه بثبات لا يعكس شيئاً من شعورها الآن …
هل تغيرت ملامحه أم أنها تتوهم؟!!
غابات الزيتون في عينيه صارت أكثر غموضاً وتشابكاً…
لكنها عادت تختفي خلف شموس دافئة تنبض باشتياق هي أكثر من تشعر به…
ربما لأنها تشاركه مثله!!!
الشيب غزا فوديه أكثر ليبدو أكبر سناً أو ربما أكبر هماً…
حاجباه الغليظان ينعقدان انعقادة خفيفة كعادته عندما يكتم انفعاله…
وعضلة فكه متشنجة بصورة لا تلحظها إلا عين خبيرة به -مثلها-
شفتاه مطبقتان بقوة بتلك الطريقة التي تبرز خطوط فكه الجانبية…
لحيته نمت بإهمال لم يقلل وسامته في عينين لازالتا تريانه” أوسم الرجال”…بل “كل الرجال”!!!
ظل الحديث يدور بين عينيهما طويلا…
حتي قطعته هي لتقول بجمود:
_أحتاج لموافقتك علي سفري…يقولون ان موافقة الزوج ضرورية لإكمال أوراقي.
لم تتغير ملامحه الثلجية …
لكنه قام من مكانه ليقترب منها أكثر حتي وقف قبالتها تماماً ليقول ببرود لم يخدعها:
_ومن قال أنني سأسمح ل”زوجتي” بالسفر؟!!
ضغط علي كلمة”” زوجتي”” في إشارة واضحة لكنها تجاهلتها وهي ترفع رأسها لتقول بكبرياء:
_يبدو أنك نسيت وضعي الجديد…ماسة اللقيطة التي كنت تستقوي عليها بجبروتك تختلف بالتأكيد عن ماسة ابنة جاسم الصاوي أكبر رجل أعمال في مصر.
ابتسم بسخرية وهو يلاحظ ارتجافة جسدها المنفعل والمناقضة تماماً لثباتها المزعوم…
قبل أن يقول ببروده المعهود:
_ماسة اللقيطة هي ماسة الصاوي…في الحالتين …هي زوجتي.
فأشاحت بوجهها عن نظراته الثاقبة وهي تقول بضيق:
_لم يعد لك نفس السلطان عليّ.
ورغم أن كلماتها أصابت أعظم مخاوفه…لكنه دارى كل هذا ببراعة عندما ارتفع حاجباه في تسلية ليبتسم ساخراً مع قوله:
_لو كنت أريد انتزاعك من سريرك في غرفة نومك بقصر والدك لفعلت…وأنتِ تعلمين أنني أكثر من قادر علي ذلك…
ثم اقترب بوجهه من وجهها ليهمس بحزم:
_لكنني أردتك أن تعودي وحدك!
أثارتها عبارته أكثر وقد أحنقها أن يفهم الأمر هكذا…فهتفت بسخط:
_أنا جئت من أجل موافقتك علي سفري فحسب.
اتسعت ابتسامته الساخرة وهو لا يزال يطوق نظراتها بعينيه هامساً:
_كنتِ تستطيعين فعل ذلك دون المجئ بنفسك إلي هنا…بل ربما كان بإمكان والدك أن يدعوني لأجئ بنفسي لمنزلكم.
ازدردت ريقها ببطءوهي تشعر بحصار نظراته المتفحصة التي تكشف خبايا روحها بسهولة كعادتها..
نعم …ببساطة كان يمكنها فعل ذلك…لكنها فضلت أن تأتيه بنفسها؟!!
لماذا؟!!
ربما لأنها لم تشأ إقحام أحد في علاقتهما …
وربما لأنها تعودت مواجهة أزماتها لا الهرب منها…
وربما لأنها أرادت رؤيته هنا بعينيها مع زوجته بوضعهما الجديد لعل قلبها -الأحمق- يدرك أنها حقاً “النهاية”!!!
لكنه قطع عليها أفكارها عندما أمسك ساعديها ليردف ببطء وكأنه يقرأ دواخلها ككتاب مفتوح:
_لكنكِ أردتِ المجئ هنا بنفسك…لأنك افتقدت هذا المكان….افتقدتِني.
ثم اقترب أكثر ليهمس في أذنها :
_افتقدتِ الحديث معي عن أسرارك التي لم تبوحي بها لأحد غيري…افتقدتِ ضمتي لكِ فتسيل دموعك علي صدري معلنة خضوعك لوعدي بالأمان…افتقدتِ أناملي تربت علي شعرك في كل ليلة ترين فيها كوابيسك المزعجة…وافتقدتِ قبلاتي التي طالما كانت تسرق الكلام من علي شفتيك لتلقيه بقلبي.
اتسعت عيناها وقلبها يدق بعنف وهي تنظر إليه كمن ضبط متلبسا بجرم!!!
وهل هناك جرم أكبر من ان تظل تعشق رجلا كهذا؟!!!
وبعدما فعله؟!!
بينما نظر هو لعينيها اللتين فضحتا شعورها كله ليذوب بروده كله في لحظة…
ثم رفع ذقنها إليه وهو يهمس أخيراً بضعف غريب علي قوته المعهودة:
_أم تراني أنا الذي افتقدت كل هذا؟!
قالها وشفتاه تقتربان بتمهل مهلك من شفتيها باشتياق لم يعرفه يوماً إلا لها…هي فقط!!
نعم…وحدها من أشعلت بصدره حرائق عاطفة لا تليق بالطريق الذي سار و-سيسير- فيه…
لكنها ابتعدت بجسدها عنه فجأة لتهتف بصلابة:
_افتقدْ أنت أو لا تفتقد…لم يعد كل هذا يعنيني.
ثم أخذت نفساً عميقاً تتمالك به نبضاتها الثائرة…
قبل أن تعطيه ظهرها لتهرب بعينيها من عينيه المشتعلتين مردفةً بحزم:
_عاصي…لأجل كل ما كان بيننا… لأجل كل ما تزعم الآن أنك تفتقده…امنحني حريتي.
لم يصلها جوابٌ على عبارتها سوى صمت طويل …
قبل أن تشعر بقبضتيه تطوقان كتفيها مع قوله الصارم:
_لا!
استدارت نحوه بحدة وهي تحاول إزاحة كفيه عنها لكنه تشبث بها أكثر مع استطراده العاصف:
_لن أجبركِ على البقاء معي…لكنني لن أسمح لكِ بالخروج عن دائرتي…سأمنحكِ الحرية بذاك القدر الذي يكفي لعدم اختناقك لكن لا تطمحي في ما هو أكثر.
ثم ضم قبضته أمام وجهها هامساً من بين أسنانه:
_أنتِ لي…قلبكِ لي…جسدكِ لي…روحكِ لي…صرخاتكِ وأغنياتكِ لي…كل ذرة فيكِ لي…لي أنا!!
احمر وجهها بانفعال مع تجمد الدموع في عينيها وهي تهتف بحدة:
_لازلتَ تنصر شيطان طمعكِ…تريد امتلاك كل شئ…المال والسلطان والبنون والحب…
قاطع عبارتها بضمة عنيفة لجسدها ألصقتها به وكأنه يثبت لها صدق عبارتها…
كان كفاه ينغرسان في خصرها بقوة توازي” غضبه “الذي يحرقه…
و”اشتياقه” الذي يعصف به…
و”خزيه” الذي لا يريد الاعتراف به!!!
و-كعادتها- انعكس لها كل هذا في مراياه الزيتونية….
لكنها رفعت عينيها إليه بسهامها الفضية التي لم تخطئ يوماً طريقها لقلبه مع همسها الراجي رغم قوته :
_لا تفعلها بي يا عاصي…أبقِ على تلك الشعرة الرفيعة التي تمنعني من كراهيتك وامنحني ما أريد.
انعقد حاجباه بشدة وهو يعتصرها بين قبضتيه أكثر …
وقد بدت كلمتها وكأنها صفعة على وجهه مع لهجة مصدومة تمتم بها :
_كراهيتي؟!!
ثم هز رأسه وكأنه لا يصدق كلمتها ليقترب بوجهه منها أكثر محتكراً نظراتها بسؤاله الذي ارتعشت نبرته رغماً عنه:
_أنتِ…قد تكرهينني أنا يوماً؟!!!
ازدادت ارتجافتها بين يديه وهي تتعذب به…وله!!!
خاصة عندما أردف هو بنفس النبرة:
_لو كرهني العالم كله…ماسة لن تفعل!!
ثم علت نبرته أكثر وكأنه يطلب منها الوعد ليصدقه:
_لن تكرهيني!
وحينها كانت تحتاج من القوة الكثير لتهزم نبض قلبها الثائر بعشقه فتهتف بصلابتها المعهودة:
_سأحبك بالقدر الذي يعصمني من زلل حقد أو انتقام…وأكرهك بالقدر الذي يمنعني الرجوع إليك!
أغمض عينيه بقوة مع انعقادة حاجبيه أكثر وكأنه يقاوم إعصاراً عنيفاً بداخله …
قبل أن يسند جبينه أخيراً على جبينها وكأنه هنا- فقط -يجد راحته …
ليهمس بنبرة دفاع غريبة على طبيعته المتعجرفة:
_لا أراني خنتكِ بهذه الزيجة…لم تكن أكثر من مجرد وسيلة للحصول على طفل…صفقة سأربحها كغيرها!!!
ثم ابتعد بوجهه قليلاً ليتعلق بنظراتها ينشدها غفراناً هو أحوج ما يكون إليه الآن…
لكن مراياها الفضية لم تمنحه ما اشتهاه…فزفر بقوة مع همسه المشتعل بانفعاله :
_لم أدخلها غرفتي…لم تشاركني فراشاً كان لنا يوماً…هل تصدقين لو أخبرتكِ أنني كثيراً لا أذكر ملامحها ؟!!
_كفى!
هتفت بها في تنمر وهي تضربه بقبضتيها على صدره لتردف بانفعال:
_هل تظن أن اعترافك هذا يرضيني؟!!هل تظنني أقبل مبرراً لأن تمس امرأة غيري لمجرد أنه لم يكن على فراشي؟!!هل تعيّرني بوفائك المزعوم لي مقارنةً ببقية نسائك؟!!في البداية حورية ثم أنا ثم تلك البائسة ولنترك القوس مفتوحاً حتى يقرر السيد عاصي إغلاقه!
ثم هزت رأسها وقد عجزت عن منع دموعها من الانهمار مع اختناق نبراتها:
_قد أسامحك يوماً على رغبتك في ولد لم أستطع منحه لك…لكنني لن أسامح نفسي لو رضيت أن أكون مجرد اسم في قائمة نسائك.
اعتصرت كلماتها قلبه بألم يفوق ألمها بكثير لكنه كان عاجزاً عن منحها ما يواسيها به…
نعم…لأول مرة معها هي -بالذات- يجد كفه خاليةً لا تملك العطاء…
لتنفلت حروف اسمها من شفتيه مشبعةً بإحساسه في همسة غادرة …
وأنامله تنغرس في خصرها بقوة آلمتها…
لكنها دفعته بقوة لتبتعد عنه مردفةً بنبرة قاسية:
_يمكنني أن أرفع قضية خلع لن يعجز جاسم الصاوي عن جعلها رابحة…ويمكنني أن أجعله يجبرك على تطليقي بأكثر طرقه قذارة…لكنني لن أفعلها…تدري لماذا؟!!
تسمر مكانه مصدوماً للحظة…
قبل أن يغلب غضبه ذهوله فاشتعلت عيناه ببريق قسوة خاطف وهو يتقدم نحوها خطوة …
ثم وقف مكانه فجأة وقد بدا أنه يبذل مجهوداً رهيباً للسيطرة على بركان انفعاله الصامت…
فيما تجاهلت هي كل هذا عمداً لتلوح بسبابتها في وجهه مجيبةً على سؤالها بنفسها:
_لأنني أريد أن يبقى أمرنا بيننا فقط…أن تفقدني بملء إرادتك…دون إجبار إلا مني أنا….أن تكتوي بنيران خسارتي وأنت تعلم أنك لن تعوضها…لا أدري إن كان قلبك قد عرف حبي يوماً لكن ما أثق به أنك ستحترق يوم تفلتني من قبضتك …وأقسم لك أنني سأجعلك تفعلها!
ثم قست نبرتها أكثر لتردف ببطء متعمد:
_أنت جعلتني أتزوجك قسراً…وأنا سأجعلك تطلقني قسراً…هكذا نكون متعادلين.
اتسعت عيناه بذهول وهو لا يكاد يصدق قسوة لهجتها التي احتلت كلماتها القاتلة…
من هذه؟!!
هل هذه ماسة ؟!!
ماسته النقية التي لم تلوثها بعد شوائب حقد أو كراهية؟!
ملاكه البرئ الذي لم يعرف يوماً مذاق القسوة؟!!
نعم….للأسف …
هي ماسة…
ماسة صنيعة يد “الشيطان” الذي كسرها فجرحته شظاياها!!!
لهذا زفر بحرارة وهو يرفع وجهه للأعلى للحظات …
قبل أن يعاود النظر إليها بملامح باردة هذه المرة ناقضت اشتعال عبارته:
_روحكِ صارت معلقةً بي في جحيم واحد…لو تحررت روحي من سعيرها فأعدكِ أن أمنحكِ خلاصكِ.
التقت عيناهما بعدها في لقاء طويل….
لتدرك هي -كما فعل هو- أن شيئاً ما بينهما قد تغير…
أنها صارت تملك من القوة ما يؤهلها لتكون نداً له في هذه العلاقة…
لا…ليس الأمر مجرد أثر لنفوذ والدها…
لكنه- أثرها -هي في نفسه…!!!!
لكن تراهما كان أكثر فتكاً :
أثر -غيابها -الذي بعثر ذرات روحه كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف…؟!!
أم أثر -قربها- الذي أدمنته أنفاسه كما الهواء؟!!
أثر -نقائها- الذي طالما اغتسل بأمواج فضته في حدقتيها ؟!!
أم أثر -قسوتها- حديثة العهد حادة الأظافر؟!!
لهذا وجد نفسه يتناول أناملها ليرفعها ببطء نحو صدره ثم يضغطها بقوة مع همسه المشبع برائحة الخسارة:
_لو فعلتُها يوماً فاعلمي أن آخر دقات قلبي لحقتها…لن أفرط فيكِ إلا وأنا أثق ألا حياة بعدكِ .
ورغم أنها كانت أكثر عبارة عاطفية سمعتها منه …
لكن عناد مقلتيها طغا على أي شعور آخر…
ذاك العناد الذي بدأ فتياً كصقر جارح في سماواتها الفضية حتى امتزج بعتبها رويداً رويداً …
لتتحول صقور نظراتها الحادة لحمائم رقيقة من عاطفة متشحة بلومها…
فارتجفت أناملها على صدره وهي تسبل جفنيها تعباً…
وأي تعب!!!!
عندما عاود هو همسه جوار أذنها بصدق غارق في بساطته بعيد تماماً عما اعتادته منه….وكأنه قرر فجأة خلع غلالة غموضه وكتمانه:
_عندما أضع كفك على صدري هكذا…أشعر أنني لست وحدي…أنتِ فقط من منحتني هذا الشعور…بعد كل هذا العمر …ورغم من أحاطني من بشر…لم يعبر جدران وحدتي إلا أنتِ…كل الناس حولي …أمامي…خلفي…جواري… لكن أنتِ…أنتِ اخترقتِني…اخترقتِني لأبعد عمق!!!
كاذب!!!!!
منافق!!!!
مدّعٍ!!!
ودت لو تلقي كل هذه الأوصاف في وجهه!!!
لو تخمد بها نيران عقلها الذي ضج من فرط التفكير…
أو -على الأقل- لو تقنع بها ذاك -الأحمق العاشق- الذي يترنح كالذبيح بين ضلوعها الآن!!!
لكن كل هذا كان عسيراً بحق!!!
وكيف لا؟!!
وكل همسة نطقها سمعها قلبها قبل أذنيها!!!
صدقتها جوارحها قبل عقلها!!!
أقسمت عليها روحها -هي- قبل أن يحملها لسانه!!!
لترتجف شفتاها باسمه في همسة غادرة انغمست حروفها بعشقها …
فأغمض عينيه بقوة مع انعقاد حاجبيه وكفه الآخر يجذبها نحوه ببطء ليريح رأسها على صدره…
_لا!
همست بها وهي تبتعد عنه في آخر لحظة …
لتسحب أناملها منه مع استطرادها بنبرة مرتجفة :
_يوماً ما كان صدرك لي وطناً…لكن ليس بعد…ليس بعد أن استحلته امرأة غيري!
فاضت عيناه بمشاعر مضطربة صاخبة…
فيما أعطته هي ظهرها ثانية وهي تكتف ساعديها بقوة لعلها تتمالك أنفاسها الثائرة هي الأخرى…
آه يا عاصي القلب!!!
لو كان الحب وحده يكفي لكنت اكتفيت بك عن العالمين…
لكن…للأسف…هو وحده لا يكفي…!!!
ليلفهما بعدها صمتٌ ثقيل حارق…وكلاهما يبدو أقرب ما يكون لصاحبه…
لكنه…أبعد ما يكون عنه!!!
قبل أن تقطع هي هذا الصمت بقولها الحازم:
_وافق على سفري.
فعاد يدير كتفها نحوه ليلتقط نظراتها بتفحص مع سؤاله بنبرة عادت إليها قوتها:
_لماذا تريدين السفر؟!
وهنا ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة تليق بقولها :
_بل سلني…لماذا أبقى هنا؟!!
ضغطت أنامله على كتفها أكثر فاستطردت بقوة نبراتها:
_سأسافر حتى أنقذ ما تبقى مني…حتى تبرأ روحي من أسقامها…حتى أتنفس هواءً نقياً لا يلوثه غدر عاصي الرفاعي أو جحود جاسم الصاوي…حتى أنجح في آخر اختباراتي كما كنت أنت دوماً تصفني…هل تكفيك هذه الأسباب؟!
زفر زفرة مشتعلة ثم ترك كتفها أخيراً….
ليصمت لحظات أخرى وهو يعطيها ظهره مفكراً بشرود انتهى بقوله ب-ما ظنّه- لهجة باردة:
_والدكِ مريض…هل ستتركينه هكذا؟!
كانت تعلم أنه يخفي خلف عبارته الكثير…
ظاهرها يستنفر شفقتها على أبيها المريض…
وباطنها يستجدي عشقها له هو…قلقها بشأنه…
خوفها عليه في هذه الظروف!!!
لازلتَ تجيد استغلال الأوراق الرابحة يا سيد “عاصي”…
لكنني أنا لم أعد أريد “اللعب”!!!
لهذا سارت حتى وقفت قبالته لترد بنبرة متحدية:
_أنت وجاسم الصاوي وجهان لعملة واحدة…كلاكما يظنني سأنتظره جوار جدار احتياجي حتى يلتفت نحوي…لكن الحقيقة أن الجدار انقضّ منذ زمن وأنا غادرت مكاني ولن أعود.
ورغم أنها توقعت أن تثير عبارتها غضبه…
لكن عينيه غامتا بسحابة داكنة وهو يهمس بصوت دكه حزنه دكاً:
_ستعودين…ستعودين كما عدتِ هذه المرة…وكما ستعودين في كل مرة تفتقدين فيها هذا المكان…
ثم صمت لحظة ليردف بخفوت شديد:
_لكن ربما لن أكون أنا هنا في المرة القادمة.
ورغم خفوت صوته الذي كاد لا يُسمَع لكن عبارته أصابت قلبها بدويّ هائل كاد يقتلعه من مكانه…
وقد بدت لها ك-نبوءة -من نبوءاته التي -تصادف- دوماً أن تصدق!!!!
فانهمرت دموعها غزيرة بصمت وكأنها تنافس دعواتها الحارة له بالحفظ من كل سوء …
وهي تشعر بكيانها يتزلزل كله…
قبل أن يرتفع ذراعاها فجأة فيتشبثان بذراعيه يهزانه بعنف مع هتافها بانفعال يائس:
_لماذا لا يمكنني اختطافك من هنا كما اختطفتني أنت من عالمي؟!!لماذا لا أستطيع تقييدك ونقلك قسراً لمكان أحتجزك فيه وحدك كما فعلت بي؟!!لماذا لا أهدم هذا القصر وأهدم معه سنوات من جبروت تتوارثونه بلا ملل ؟!!لماذا هذا ليس من حقي ؟!!لماذا؟!
وهنا ارتفع حاجباه في تأثر ثم امتدت أنامله تمسح دموعها برقة بالغة…
مع ابتسامة شاحبة ولدت على شفتيه ناسبت همسه ذا الشجن:
_ليتكِ تفعلين! تحكي الأساطير دوماً عن الأمير الذي يخطف الأميرة ويقتل التنين …فهل تستطيع صغيرتي عكس الأدوار؟!
ثم تنهد بحرارة ليردف بأسى:
_ربما لم يكن ينبغي أن نلتقي…قلبكِ الطفل يتقافز بخفة منتظراً ربيعه…لكن قلبي كهلٌ يستند على عصا ماضٍ مهترئة منتظراً خريفاً لن يزول!
أغمضت عينيها بيأس بينما استمر هو يمسح دموعها بأنامله للحظات …
قلبه يحرقه اشتياقاً لملمس بشرتها على شفتيه لكنه يعلم أنها -هي- حرمت نفسها عليه !!!
فابتلع خسارته باقتدار يليق بمثله ليهمس أخيراً :
_حسناً…سافري ما دمتِ ترغبين بذلك…
فتحت عينيها ببطء وكأنها تتيقن من جديته فيما يقول…
لكنه كان حقاً كذلك…
إحساسه بها أخبره أنها تحتاج لهذا حقاً…
وأن انهيارها وشيك لو لم يفعلها…
ورغم أن هذا كان يناقض بشدة رغبته العارمة في احتجازها هنا معه…
لكنه فضل ألا يضغط عليها أكثر خاصةً والخطر لا يزال يحوم حوله ولم ينتهِ منه تماماً بعد!!!
لهذا ابتسم هو ب-غلالة- الأب التي يجيد اختيار توقيت ارتدائها معها:
_صغيرتي تحسن انتزاع ما تريده مني!
أشاحت بوجهها وعضّتها على شفتها تكاد تدميها مع استطراده الدافئ:
_لن تغيبي عن عيني لحظة …تماماً كما كان الأمر هنا…سفركِ لن يكون وداعاً…ولا حتى هروباً…كل البلدان تتشابه مادام وطنكِ هنا…هنا فقط يا ماسة!
قالها وهو يعيد غرس أناملها على صدره في موضع القلب تماماً…
لتعاود هي التفاتها إليه بحدة وقد ساءها تلميحه أنها ستكون تحت رقابته…
فسولت لها نفسها انتقاماً يشفي غليل كبريائها بهمسها:
_حتى الوطن…نهاجر منه أحياناً متى أتعبنا!
أصابت كلماتها هدفها فلم تدرِ هل تفرح تشفياً أم تبكي ندماً عندما عادت عيناه لفضاء مرارتها الواسع…
الذي ابتلع نظراتها العطشى كاملة وهي تغرق فيه قسراً للحظات ما عادت تتبين لها طولاً من قصر…
قبل أن يقطع هدير صمتهما صوت امرأة:
_عفواً…ظننتك وحدك.
عقد عاصي حاجبيه بغضب هادر وهو يلتفت نحو زوجته الجديدة…
لتنتقل أنامله تلقائياً من وجنة ماسة إلى كفها الذي اعتصره بقبضته بقوة …
لكنها لم تشعر بهذا مع التفاتتها بدورها نحو المرأة تتفحصها باهتمام وشعورٌ بداخلها ينمو بسرعة حتى ابتلع كل شعورٍ دونه…
غيرة؟!!
لا.. للعجب..لم يكن كذلك!!!
بل …شفقة!!!
فأمامها كانت تقف امرأة بملامح شديدة الوداعة ترمقهما بخوف واضح…
امرأة تعرفها ماسة فقد قابلتها مصادفةً في مناسبة عائلية هنا من قبل…
هي ابنة عم عاصي ال….أرملة!!!
نعم…توفي زوجها بعد عام واحد من زواجهما وتركها و-طفلها-خلفه!!!
إذن عاصي لم يختر امرأة عذراء هذه المرة…
لقد فقد رفاهية “التجربة” مع ضيق الوقت فاختار -بعقله -من يضمن صلاحيتها للحصول على وريث بسرعة!!!!!!
وعند هذا الخاطر ابتسمت بسخرية مريرة وهي تتابع ملامح المرأة التي شحبت أكثر مع هتاف عاصي الذي عاد إليه قناع تسلطه:
_ألا تستأذنين قبل الدخول؟!
عجزت المرأة عن الرد مع ارتجاف جسدها بخوفه فتراجعت خطوة قبل أن تجد أخيراً صوتها لتهمس بتلعثم:
_آسفة…سأعود إلى غرفتي.
قرنت قولها بفعلها وهي تنسحب بخطوات شبه راكضة نحو غرفتها…
فشردت ماسة ببصرها تراقبها بمشاعر متداخلة…
هل تشعر بالسخط عليها لأنها قبلت الزواج من عاصي تحت هذه الظروف؟!
أم تعذرها وهي تعلم أن لا أحد يستطيع الاعتراض على أوامر الرفاعي هنا؟!!
هل تغار منها وهي التي حظيت بمكانها لديه؟!!
أم تشفق عليها وهي تراها مجرد جسد يستغلونه لنيل رغباتهم؟!!
جحيم مستعرٌ يندلع الآن بين جنبات روحها الثائرة…
فلا تطفئه أمطار عشقها مهما هطلت!!!
وحينها شعرت بصوته وكأنه يخدش أذنها رغم خفوته:
_ماسة.
ظلت متجمدة مكانها للحظات تستعيد شتات روحها…
ثم التفتت نحوه برأسها لتهمس أخيراً بقوة لا تدعيها:
_حورية قالت لي يوماً أنني لن أجد امرأة أكثر زهداً في زوجها منها هي.
انعقد حاجباه بغضب عادت تشتعل معه غابات زيتونه متوقعاً عبارتها التالية وهي تشير لصدرها :
_أنا الآن أكثر زهداً منها!
ثم نزعت كفها من كفه لتهتف أخيراً بسخرية نافست مرارة العلقم في نبراتها:
_أنا أديت غرضي من الزيارة يا سيد عاصي…عد أنت لزوجتك ولا تضيع وقتك !
======
على مقعدها في الطائرة جلست تراقب السحاب بشرود…
عندما ربتت دعاء على كفها لتقول بمرحها المعهود:
_فيمَ أنتِ شاردة؟!!ألا يكفي أنني تركت لك المقعد المجاور للنافذة؟!!
ابتسمت ماسة ابتسامة شاحبة وهي تدير وجهها إليها هامسة:
_أنتِ فضيحة في الأماكن العامة…هل تذكرين لقاءنا الأول في القطار!!
ضحكت دعاء ضحكة طويلة وهي تتذكر ما تحكي عنه….
قبل أن تلتفت برأسها نحو فهد النائم على مقعده خلفهما هامسةً بإشفاق:
_لأجل أخيكِ المسكين فقط لن أحدث جلبة!!!
عادت ماسة برأسها للخلف بدورها ترمق فهد بنظرة حنون…قبل أن تعاود دعاء سؤالها بمرح:
_هل تظنين المال معنا يكفينا للتسوق هنا؟!مع ما أشاهده على “الانترنت” سينتهي بي الحال هنا إما متسولة أو سارقة!!!
ابتسمت ماسة بمرح وهي تتفحصها بحنان صادق…
دعاء تجاوزت أزمتها حقاً…
تجاوزتها بنفسها دون أحد!!!
لقد ظنت أن طلاقها من حسام سيبقى ندبة في قلبها طوال عمرها…
لكنها أثبتت لها أنها أقوى كثيراً مما تظن…
وأن الضربة التي لا تقتل تمنحنا المزيد من القوة!!!
انقطعت أفكارها عندما سمعت ذاك الصوت معلناً وصولهم…
فانقبض قلبها بقوة وهي تشعر بخوف غريب يسكنها…
لا…ليس خوفاً من الغربة فقد جربتها من قبل…
لكن…لعله خوف من نفسها هي!!!
خوفٌ من أن يهلكها قلبها اشتياقاً…أو تهلكه هي تجاهلاً!!!
لكن فهد -الذي استيقظ لتوه- جذبها من كفها ليوقفها جواره وكأنه شعر بما تفكر فيه…
ثم همس جوار أذنها بصوت لم يغادره نعاسه بعد وهما يسيران معاً :
_لا تخافي يا “حبيبة أخيكِ “…قلبي يخبرني أنها ستكون رحلة خير لكِ…بل لنا جميعاً.
فابتسمت دعاء وهي تسير خلفهما لتقول بمرح:
_بركاتك يا شيخ “فهد”…من فمك لباب السماء!!
ضحك فهد بخفة وهو يهبط معهما سلم الطائرة قبل أن يقول لدعاء مشاكساً:
_لديك أذنان تسمعان دبة النملة…ألا أستطيع الحديث مع أختي بحرية؟!
هزت دعاء كتفيها وهي تسحب كف ماسة الآخر لتقربها نحوها مع هتافها:
_استمتع بها قليلاً…وبعدها ستكون لي وحدي!
ضحك ثلاثتهم بمرح نجح في إخفاء سحب التوتر العالقة في سماوات نفوسهم الغائمة…
فهد الذي كان يشعر بالقلق على أخته وهو مضطر لتركها هنا للعودة ليسرا بأقرب وقت مخافة أن يؤثر انهيارها على شوط العلاج الكبير الذي اجتازاه بشق الأنفس…
مع ذاك الهاجس الذي يقبض قلبه منذ اكتشف اختفاء صوره مع جنة من على هاتفه فجأة…
ورغم أنه كان شبه واثق من أن يسرا هي من فعلتها…لكنه لم يشأ مواجهتها في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها…
فكظم غيظه قسراً لكن هذا لم يطفئ حسرته على رصيد ذكرياته مع جنته الذي اختفى فجأة…
بل والأشد خطورة…معنى هذا التصرف الذي قامت به يسرا لو أنها حقاً من فعلتها!!!
بينما حافظت دعاء ع

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى