رواية ماسة وشيطان الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم نرمين نحمد الله
رواية ماسة وشيطان الجزء الثاني والعشرون
رواية ماسة وشيطان البارت الثاني والعشرون
رواية ماسة وشيطان الحلقة الثانية والعشرون
_كيف تترك عروسك في هذه الظروف يا حسام؟!!
هتفت بها والدته باستنكار عقب عودته أخيراً إلى البيت بعد غياب استغرق اليوم كله…
منذ استيقظ صباحاً على خبر هجوم بعض اللصوص على منزل والدي دعاء منتهزين انشغالهم بالعرس لكنهم لم يحسبوا حساب عودتهما المبكرة عن الموعد المتوقع…
والنتيجة كانت جريمة قتل بغرض السرقة!!!
دعاء المسكينة فقدت والديها في “ليلة العمر” كما يقولون…
ضربة قاصمة لم يكن يتخيلها أحد!!!
وما كاد حسام يسمع عن الأمر حتى غادر المنزل مسرعاً إلى عمله دون حتى أن يسمعها مجرد كلمة عزاء…
طبيعته العملية جعلته ينظر للأمر وكأنه إهانة شخصية له و”لوظيفته” ول”واجهته الاجتماعية”أمام الناس!!!
هؤلاء المجرمون سيدفعون ثمن جريمتهم مرتين…
مرة لأنهم فعلوها…ومرة لأنهم تجرأوا على اختراق خصوصية “سيادة الرائد” وإيذاء أهله!!!
لهذا هتف بصرامة أمام والدته العاتبة:
_كان لابد أن ألقي القبض عليهم بسرعة…لم أكن لأترك الناس يتغامزون أن المجرمين فعلوها بنسبائي وأفلتوا دون عقاب؟!!
هزت والدته رأسها وهي تهتف باعتراض:
_كرامتك أهم من زوجتك حتى تحرمها وجودك جوارها؟!!
زفر بقوة وهو يشيح بوجهه قبل أن يهتف مدافعاً:
_أنا نجحت في إلقاء القبض عليهم جميعاً في وقت قياسي…سيعاقبون على فعلتهم بالقانون…أليس هذا أفضل لها من جلوسي جوارها كالنساء تاركاً إياهم يفلتون بجريمتهم؟!!
أطرقت والدته برأسها في يأس من مجادلته….
للأسف هذه هي طبيعة ابنها التي فقدت الأمل في تغييرها…
صورته أمام الناس تأتي في المقام الأول وبعدها أي شئ آخر…
هوسه المبالغ فيه بالمظاهر يزداد يوماً بعد يوم…خاصةً مع ماضيه المطعون بمرارته بين “طيف” و “يسرا”!!!
لكن ما ذنبها تلك “المسكينة” التي فقدت والديها -لتوها- وبالتأكيد تحتاج دعمه؟!!!
لهذا اكتفت بصمتها المشبع بعتابها …بينما أردف هو ببعض التردد:
_أنا واثقٌ أنكِ اعتنيتِ بها كما يجب…كيف هي الآن ؟!!
نظرت والدته نحو باب غرفتها البعيدة لتغمغم بقلق:
_لم تنم إلا تحت تأثير الأقراص المهدئة…حالها غريب يا ابني!!!
ورغم أن عبارتها وخزت قلبه ببعض الإشفاق لكنه وأد هذا الشعور ليغمغم بفتور:
_الأمر صعب لكنها ستنسى…ستبكي ليومين ثم يمر الأمر كغيره!!!
لكن والدته اقتربت منه لتقول بدهشة ممتزجة بقلقها:
_الغريب أنها لا تبكي…تتقبل العزاء من الجميع بوجه بارد دون انفعالات…عيناها شاخصتان في الفراغ وكأنها لا ترى ولا تسمع!!!
عاد يزفر من جديد مشيحاً بوجهه فغمغمت المرأة برجاء:
_اعتني بها يا حسام…هي الآن لم يعد لها سواك!
انعقد حاجباه بضيق وهو يغادر والدته دون رد نحو غرفة دعاء …
أغلق الباب خلفه ليتوجه نحو جسدها الساكن بخطوات متثاقلة …
ثم جلس على طرف الفراش جوارها يتأمل ملامحها النائمة ببعض الدهشة…!!!
من هذه؟!!
إنه يشعر الآن وكأنه لا يعرفها….وكأنها امرأة غريبةٌ نائمة في فراشه…!!!
بعيدة عن صورته التي يراها على وجهها أحياناً بطمعها وأنانيتها…
وبعيدة عن صورة طيف التي يراها أحياناً أخرى على نفس الوجه بقوتها وتمردها…
إنه الآن يشعر وكأنها أول مرة يراها -هي-فيها وليس مجرد انعكاس لصور ماضيه!!!
وأمامه كانت هي غارقة في أحلام متشابكة كدوائر متداخلة…
تارةً ترى نفسها ملكة بثوب زفافها الأسطوري وتارة ترى نفسها عارية بثياب ممزقة لا تكاد تسترها…
تارةً هي تدخل من بوابة سحرية نحو عالم مبهر بأضواء ساطعة لتصعد درجاً مفترشاً بالحرير حتى تعتلي قمته…
وتارةً هي تقف مذعورةً على حافة هاوية تنتظر أن يدفعها – أحدهم- للسقوط…!!!
تارة عزيزة كنجمة السماء…وتارة زهيدة كحصاةٍ على الأرض!!!
حتى اتحدت دوائر الحلم أخيراً لتتركز في مشهد أخير…
كانت ترى نفسها بثوب العرس والجميع ينظرون إليها نظرات تقدير لا تخلو من حسد…
ووالداها واقفان هناك يرمقانها بفرحة غامرة…
ثم فوجئت بقطرات الدم التي لوثت ثوبها فجأة فصرخت مستنجدة بأبويها لكنهما أعطياها ظهرهما لينصرفا بصمت…تلفتت حولها بخوف تبحث عمن تستعين به…
لكن الجميع اختفوا فجأة…
المكان صار خالياً إلا منها…
ووسط كل هذا الرعب الذي غزا روحها وجدته- هو- يتقدم نحوها ببدلة العرس التي تعرفها…
خطواته متثاقلة بطيئة لكنها كانت تغرس الخوف بقلبها أكثر…
كل خطوة منه نحوها كان مردودها خطوة خلفية منها…
ومع هذا وجدته فجأة أمامها فشهقت بعنف عندما امتدت أنامله تعتصر رقبتها بقوة…
لتختنق أنفاسها رويداً رويداً وهي تتمتم بين دموعها:
_خاسرة…خاسرة!!!
وأمامها أفاق هو من شروده المتفحص فيها عندما رأي دموعها التي بدأت تسيل من عينيها النائمتين مع همهماتها التي لم يفهمها …
امتدت أنامله دون وعي لتمسح دموعها النائمة لكنه توقف في آخر لحظة قبل أن يلامس بشرتها…!!!
ثم انعقد حاجباه بضيق وهو يشعر بالعجز…
خطأ…خطأ…!!!
هو لا يريد أن يشعر بالشفقة نحوها…
لا يريد أن يرى فيها سوى صورة انتقامه من ذاته…
هو يريد أن يكسرها…أن يعاقبها العقاب الذي لم يعاقبه لنفسه…
ولا يريد أن يثنيه عن عزمه هذا شئ حتى ولو وقعت في مصيبة كمصيبتها الآن!!!
قسوة؟!!
نعم…ربما…هو لم يعد يكترث بهذه المشاعر…!
هو رجلٌ يعيش ليحترق بالندم على ماضيه وقد نضبت خزائن روحه من أي أحاسيس دونه!!!
وبهذا الإدراك الأخير انتزع نفسه انتزاعاً من جوارها ليقوم بجمود ويغادر الغرفة نحو والدته التي ابتدرته بالسؤال عنها…
فغمغم بضيق لا يدعيه :
_نامي أنتِ جوارها الليلة يا أمي واعتني بها….أنا لا أصلح لهذا “الدّور”!!
=للجميع@
وقفت في شرفة بيت رحمة تتطلع للشارع البسيط الذي تجمع فيه بعض الأطفال يلعبون بالكرة…
واختلطت أصوات المارة والباعة الجائلين ببضاعتهم…
فاستندت بمرفقيها على سور الشرفة وهي تراقب وجوه الرجال الجالسين على مقهى قريب يلعبون “الطاولة” وتتعالى ضحكاتهم بتلقائية افتقدها عالمها الأنيق شديد الإحكام والانضباط حتى في ضحكاته!!!
ثم انجذبت عيناها لشابة بسيطة في مثل عمرها تحمل صغيرها الذي لم يتجاوز عامه الأول بعد وتسير به جوار زوجها وعلامات السعادة محفورةٌ على وجهيهما…
ولم يكادا يقتربان من الأطفال حتى تركوا اللعب بالكرة ليتجمعوا حولهما متسابقين بلهفة لحمل الصغير الذي كان يضحك الآن بانطلاق عبر سنتيه الأماميتين في ثغره الذي خلا إلا منهما…
وهو يلوح لهم بكفيه الصغيرين محاولاً التملص من ذراعي والدته ليلعب معهم!!!
فوجدت نفسها تبتسم تلقائياً مع شعور الدفء والحميمية الذي طوقها لتتحسس بطنها باشتياق هامسةً في نفسها:
_لأجلك يا صغيري فعلتها…لأجلك رضيت بالبقاء هنا!!
ولم تكد تتم فكرتها حتى شعرت بكف رحمة يربت على كتفها وهي تقول بحنانها المعتاد:
_كيف حالك اليوم يا ابنتي؟!!
التفتت نحوها بحدة وقد استعادت طبيعتها المتنمرة لترد باقتضاب :
_مثل كل يوم!!
تنهدت رحمة بحرارة ثم استندت بدورها على السور جوارها لتراقب الطريق مغمغمة بشرود:
_لا أدري عن شعوركِ الآن وأنتِ تقفين مكانكِ هكذا…لكنني أنا أشعر بالأمان في وقفتي هذه…عمري كله قضيته هنا في هذا البيت مع هؤلاء الجيران…ورغم أن والد عزيز تركني في وضع صعب لكنهم لم يبخلوا عليّ بمساعدتهم يوماً…وحتى عندما قررت أن أتبنى ماسة يوم وجدتها أمام ذاك المسجد هناك وقفوا جميعاً جواري وأيدوني…وكأنهم كانوا يشعرون بحاجتي لهذا بعدما هرب زوجي بابني الوحيد.
اختلست ميادة نظرةً مشفقةً إليها وقد بدأ قلبها يرق نحوها نوعاً…ثم سألتها ببعض التردد:
_لماذا فعل عمي شاكر هذا؟!!
ابتسمت رحمة بمرارة وهي ترد عليها بنفس الشرود:
_هذا هو السؤال الذي ظللت أسأله لنفسي طوال هذه السنوات ولم أعثر له على إجابة سوى الغدر!!!
انعقد حاجبا ميادة بتفحص وشعورها بالتعاطف نحو رحمة يزداد بينما أردفت رحمة بنفس النبرة:
_هل تدركين شعور زوجة أمضت يومها تنظف البيت وتغسل الملابس وتعد الطعام لتنتظر زوجها الذي غادر مع ابنها ثم لم يعودا أبداً!!
دمعت عينا ميادة رغماً عنها ورحمة تكمل ذكرياتها الموجعة:
_ظللت بعدها لأيام عاجزةً عن التصديق…رغم الأخبار المؤكدة التي وصلتني عن سفره مع عزيز وزواجه بأخرى لكنني كنت أنتظرهما كل يوم مكذبةً الواقع حولي…ولولا عطية السماء لي وقتها بماسة ربما كنت قد فقدت عقلي خلفهما!!!
أطرقت ميادة برأسها وحديث رحمة يشعل ذكرياتها القديمة…
كم تراها الآن تشبهها رغم فارق العمر…
كلتاهما جربت شعور النبذ ممن تحب وذاقت مرارة الوحدة بعدهم…
لكنها عرفت كيف تنفض عنها غبار ضعفها لتعاود الحياة بقوة تليق بها…
ومع هذا تبقى في القلب مرارة جرحٍ قديم لازالت تعكر مذاق شهد انتصاره على حزنه مهما طال العمر!!!
لكن رحمة قاطعت أفكارها عندما التفتت نحوها لتقول بابتسامة حنون:
_ولأن البِرّ لا يبلى..والذنب لا يُنسى والديان لا يموت …عاد ابني إلى حضني بعد كل هذه السنوات ليعوضني عن كل لحظة حزن عشتها في غيابه…وفي أشد أوقات عمري احتياجاً إليه!!!
هنا شعرت ميادة بتأنيب الضمير وهي ترى الأمر من هذه الزاوية لأول مرة…
هي كانت تريد أن يعود عزيز لوالده وأمواله ومكانته الاجتماعية التي تليق به وبها…
لكنها غفلت عن مكان رحمة وسط كل هذا…
تلك المرأة الصابرة التي تحملت وحدتها وغدر زوجها طوال هذه السنوات…
وقد آن الأوان أن تحصد ثمار هذا الصبر في أواخر أيامها..
وعزيز أيضاً الذي عاش عمره السابق محروماً من أمه وهي على قيد الحياة يحتاج الآن أن يشعر بدفء حضنها..
“العقل” يقول أن عزيز أخطأ عندما ترك ثروة أبيه خلفه…
و “القلب والضمير” يحكمان أن يندفع عزيز في حضن رحمة أمامه!!!
لكن ماذا عنها هي؟!!
هي التي وجدت نفسها فجأة وسط هذا الصراع…لكن من تلوم سوى نفسها وهي التي اختارت من البداية للنهاية…؟!!!
لكن رحمة بدت وكأنها قرأت أفكارها فعادت تقول لها بحنانها المعهود:
_لا تتصوري سعادتي بإقامتكما معي يا ابنتي…يعلم الله أنني أحبك الآن كعزيز وماسة تماماً…لقد حرمني القدر ابناً يوماً ثم رده إليّ ثلاثة!!!
ولأن كلماتها كانت صادقة فقد لامست ذاك الوتر الحساس بقلب ميادة التي ابتسمت هذه المرة ابتسامة حقيقية لكنها عجزت عن إيجاد كلمات…
فضمتها رحمة لصدرها بقوة حنانها لتردف بعاطفة جياشة:
_عزيز يحتاجكِ جواره يا ابنتي…يحتاج قوتكِ ليستند عليها في بناء نفسه من جديد…أنا أعلم قدر التضحية التي تحملتِها لأجل طفلكما…وغداً عندما تحملين ابنك بين ذراعيكِ ستدركين أنه حقاً كان يستحقها!!!
==
_هل ستخرج اليوم؟!!
هتفت بها ماسة وهي تتعلق به بجزع فزفر بقوة ثم هتف بضيق بالغ:
_هل تنتظرين أن أبقى حبيس البيت كالنساء؟!!
دمعت عيناها بقلق حقيقي وهي ترمقه بنظرات راجية…
لن تنسى هذا الرعب الذي عاشته ليلة زفاف دعاء عندما أطلق عليهما النار مجهولون ولولا ستر الله ثم يقظة الحرس لكانت مصيبة…
لقد أصابتها ليلتها نوبة اختناقها المعتادة في الأزمات واضطر هو لملازمتها طوال اليومين السابقين …
ولأول مرة تشعر بالامتنان لمرضها الذي جعله يبقى معها طوال الوقت فيكفيها شر هذا القلق الذي يكاد ينهش صدرها عليه…
لكنه يريد أن يخرج الآن وهي لا تدري كيف تمنعه…
فازدردت ريقها ببطء وهي تلصق راحتيها على صدره هامسة برجاء:
_ابقَ معي اليوم فقط.
أشاح بوجهه وهو يقول بتذمر واهٍ:
_أنتِ تقولين هذا كل يوم…وأنا لديّ أعمالي .
دمعت عيناها بعجز وهي لا تجد رداً سوى انقباض قلبها خوفاً عليه…فأزاحت كفيها عنه لتهمس باستسلام كاره:
_حسناً…كما تريد.
عاد يلتفت إليها بترقب ليلتقط نظراتها التي فاضت بعاطفتها وقلقها…
مشاعرها الماسية باهظة القيمة والتي يدرك هو قدرها جيداً…
وكيف لا؟!!
وهو الذي عاش عمره -على غناه- لكن قلبه كان يشكو فقر احتياجه لهذا الشعور!!!
فابتسم رغماً عنه وهو يجذبها من خصرها ليقربها نحوه هامساً بنبرة عاد إليها حنانها:
_تخافين عليّ؟!
أخفت وجهها في صدره وقد خانتها كلماتها كالعادة….
لكنه رفع ذقنها نحوه لتغوص نظراته في كنوز عاطفتها الفضية التي التمعت الآن ببريق خاص…
ثم همس بنبرة غريبة:
_لقد اعتدت أن يخاف الناس مني…هذه أول مرة أشعر فيها أن أحداً يخاف عليّ!!
ذابت الكلمات على شفتيها لكن نظراتها حملت إليه مشاعرها كلها …
فاتسعت ابتسامته وهو يربت على وجنتها هامساً بلهجة شاحبة:
_لا تخافي!! مَن هو مثلي لا تمنحه الحياة رفاهية الجروح…إما حياةٌ أو موت!!
تأوهت بخفوت وهي تعاود دفن وجهها في صدره ليضمه ذراعاها بكل قوتها وهي تهمس بجزع:
_أنت تخيفني أكثر بحديثك هذا …أنا…
قطعت عبارتها عاجزة عن إكمالها وهي تشعر بالقنوط من وضعهما هذا…
لقد ظنت أن الأيام ستحسم حيرتها بشأنه لكن العكس هو ما حدث…
كل لحظة لها معه تزيد قلبها عشقاً لكنها تلهب عقلها قلقاً…
وهو واقف كالطود مكانه لا يتحرك…كل مساعيها لتغييره تفشل أمام قناعاته الراسخة بأن القوة والبطش هما سبيله الوحيد لفرض سطوته وحماية نفسه…
هي تقف وحدها بعلاقة لم تتجاوز بضع شهور أمام سنوات عمره السابقة كلها…
والتي تركت ندوبها البارزة على صفحة قلبه!!!
لكنه قطع أفكارها بمداعبته الرقيقة لمنابت شعرها وهو يستحثها لتكمل عبارتها هامساً بمكر:
_أنتِ…ماذا؟!!
رفعت إليه عينيها متجاهلةً سؤاله الماكر لتهمس بما يشبه الرجاء:
_أروع ما في عاصي الرفاعي أنه رد الأمان لعالمي….فلماذا تصر على إعادتي لسجون خوفي؟!!
تنهد بحرارة ثم قبل جبينها بعمق قبل أن يسحبها من كفها نحو خزانته الصغيرة جوار الفراش…
حيث فتحها أمامها ليستخرج منها مفتاحاً صغيراً ناوله لها قائلاً بلهجته الغامضة:
_لا تخافي…حتى لو حدث لي مكروه أنتِ ستكونين آمنة…هذا مفتاح خزانتي الخاصة في بنك (….) وبها الأوراق التي تلزمك …فقط اتصلي ب(……) المحامي الخاص بي…وهو سيتدبر كل شئ…لكن أولاً غادري هذه المدينة…لا تبقيْ فيها لحظة واحدة بعدي!!!
ارتج جسدها ببكاء مكتوم للحظات….
قبل أن تمسح وجهها براحتيها لتلقي المفتاح على الفراش ثم تشبثت بكتفيه هاتفةً بحدة عاطفية:
_أماني ليس في نقود وأوراق…أماني هو أنت يا عاصي…متى ستفهم هذا ؟!!متى ستستمع إليّ؟!!
ابتسم بحنان جارف وهو يطوقها بين ذراعيه قبل أن يمسح دمعاتها الفارة هامساً بصوته الآسر:
_يقولون أن لكل امرئ من اسمه نصيب…وأنا “عاصي”!
لكنها هزت رأسها نفياً لتهتف بمكابرة:
_ولماذا لا تكون عاصياً لشيطانك…لماضيك…لكل ما يؤجج نيران قسوتك…؟!!!العصيان اختيارٌ وليس قدراً!!
فاتسعت ابتسامته الحانية وهو يتجاهل عبارتها ليعاود تقبيل جبينها هامساً بفخر حقيقي:
_ماشعرت يوماً باستمتاعي بحديث مثل حديثي معك.
أشاحت بوجهها في -شبه غضب-كساه بعض الدلال بينما انسابت نظراته الحارة تطوق ملامحها وهو يردف بمكر لم يخفِ عاطفته:
_أظنكِ تحتاجين لشغل فراغكِ بطفل !
اتسعت عيناها بقلق قرأته عيناه بسهولة لكنه تجاهله مؤقتاً وهو يردف بنبرة أرق:
_أشتاق لرؤية طفلة تشبهكِ بعينين ماسيتين وشعرٍ بلون الليل الحالك…أو طفلٍ في عنادك وقوة مجادلتك.
فصمتت للحظات تستجمع شجاعتها قبل أن تحسم أمرها لتقول بصلابة:
_هذا ما كنتُ أرغب في التحدث معك بشأنه منذ أيام.
انعقد حاجباه بتفحص وهو يقرأ ملامحها بخبرته عندما رفعت عينيها إليه لتفجر جملتها التالية:
_كنت أريد أن نؤجل التفكير في أمر الأطفال هذا لبعض الوقت.
لم تكد تتم عبارتها حتى عادت غابات زيتونه تشتعل بحرائقها القديمة…
فاكتست نظراتها ببعض الخوف جمد كلماتها للحظات…
حتى قطع هو الصمت بقوله الحاد كالسيف:
_ولو رفضتُ أنا؟!!!!هل ستتناولين موانع للحمل مثلها؟!!
اتسعت عيناها بصدمة وهي تستنتج ما آل إليه تفكيره…
يا إلهي!!!
حورية!!!
كيف نسيت هذا ؟!!!
عاصي سيبقى شديد الحساسية في هذا الشأن بعد ماضيه معها!!!
جرحه -الطازج-بها لا يزال ساخناً تكاد تكفيه لمسة واحدة لينفجر نزيفه الدامي!!!!
عاصي يظنها مثل حورية ترفض الإنجاب منه نفوراً…
وهي كالحمقاء لم تتخير كلماتها…
لهذا ارتبكت قليلاً وهي تهمس بما يشبه الاعتذار:
_عاصي…أنا لم أقصد…
لكنه دفعها ببعض الخشونة وقد استعاد وجهه القاسي ليلوح بسبابته في وجهها هاتفاً:
_لقد كان ما بيننا اتفاق أديتُ أنا فروضه كاملة…وبقي دورك أنت!
فاحتقن وجهها انفعالاً وهي تهتف بحدة:
_كُفّ عن التحدث بهذه الطريقة…لماذا تصر على تحويل ما بيننا لصفقة أو اتفاق؟!
_لأنه كذلك!!!
هتف بها بصرامة أخرستها للحظات…
قبل أن يردف بنبرة أقسى:
_قلبكِ ليس كقلبي!!
قالها وجرحه القديم يحكم سيطرته على أعماقه…
أجل يا ماسة…يا ذات الروح الملائكية في حضرة شيطان مكبل بآثامه…
قلبكِ مؤمنٌ بالحب متبتلٌ بصلواته…وقلبي كافرٌ به غارقٌ بإلحاده…فكيف يلتقيان؟!!
كانت هذه أفكاره الساخطة المتشحة بمرارتها …
فيما دمعت عيناها هي بقهر وهي لا تعرف كيف انتهى الحوار هذه النهاية…
هي لم تقصد إهانة رجولته أو الانتقاص منه…
بل إنه حتى لم يسمع مبرراتها فيما تطلبه…لهذا عادت تهمس بعتاب:
_تعني أن هذا فقط دوري هنا؟!!
لكنه عاد يلوح بسبابته في وجهها هاتفاً بنبرة أخافتها:
_اتفاقنا كان واضحاً!!!الزواج لأجل الولد!!
هزت رأسها باعتراض ثم عادت تهتف بانفعال:
_أنا لم أرضَ عن هذا الاتفاق …أنت فرضته عليّ فرضاً!!!
ازداد تأجج السعير في زيتونيتيه اللتين فاضتا الآن بمرارتهما المعهودة رغم تسيد مشاعر الغضب…
هي لا تدري شيئاً عن شعوره الآن بقرب نهايته…
إنها المرة الأولى التي يتعرض فيها لتهديد كهذا ولا يعرف شيئاً عن مصدره…
إحساسه- الذي يعرفه لأول مرة- بفقدان السيطرة يجعله كوحش جريح في قفص لن يهدأ حتى يقتنص مهاجمه قبل أن يصل إليه…
هو اعتاد الشعور بالخطر منذ سلك هذا الطريق على خطى والده …
لكن حدساً ما بداخله يخبره أن هذه المرة مختلفة وأنه لن يخرج منها سالماً…
ولهذا يريد الآن بالذات طفلاً!!!
يريد أن يرى ثمرة قلبه التي سيتركها خليفةً له على كل ما تعب طوال عمره في السعي خلفه…
يريد أن يطمئن أن خطواته في هذه الطريق لن تكون الأخيرة وأن ابناً من صلبه سيكمله بعده…
نعم…يريده بشدة …الآن أكثر من أي وقت مضى!!!
وعلى العكس منه كانت هي لا تريد هذا الآن بالذات…
ليس قبل أن تطمئن لغدها المجهول هنا في هذه الظروف الشائكة…
لهذا زفرت بقوة ثم عادت تردف بنبرة أكثر ليناً:
_فقط…اسمعني أولاً…كيف تريدني أن آمن على طفل في هذه الظروف؟!!لقد تعرضنا لتوّنا لإطلاق نار…فكيف تريدني أن أمنح الأمان لطفلي وأنا نفسي لا أجده؟!!
أشاح بوجهه المتشنج دون رد…
فاقتربت منه خطوة لتهمس بتوسل:
_عاصي…أنت تعرف عن ظروف نشأتي…لا أريد أن ينشأ طفلي مثلي مشتتاً ضائعاً…أريد أن أؤمن له طريقه قبل أن أراه.
لكنه ظل صامتاً مشيحاً بوجهه للحظات طويلة قبل أن يلتفت نحوها قائلاً ببرود قاسٍ:
_كما تشائين.
تنهدت في ارتياح وهي تكاد تمنحه ابتسامة امتنان عندما أردف هو بنبرة أقسى:
_لكنني سأتزوج أخرى تجد طريقها معي مؤمَّناً!!
شهقت بعنف قبل أن تجمدها الصدمة للحظات وهي ترى أسوأ هواجسها يتحقق …
بينما أكمل هو سيل كلماته السامة:
_وتذكري أنكِ أنتِ من نقض الاتفاق!!
قالها ثم توجه بخطوات سريعة نحو باب الغرفة مغادراً لتبقى هي مكانها مصعوقة للحظات لا تكاد تصدق ما سمعته منه…!!!
هل هذا هو مكانها الحقيقي هنا فقط؟!!!
وهل هذا ما يريده منها فحسب؟!!!
الولد؟!!!
وماذا لو لم تمنحه له؟!!
هل سيتخلى عنها ؟!
سيتركها ويتخير غيرها ببساطة؟!!!
وماذا لو منحته له؟!!
هل سترضى أن يكون ابنها نسخةً من أبيه…كما كان عاصي نفسه صورة من حماد الرفاعي؟!!!
هزت رأسها بعجز وقسوته التي عادت تكسو ردوده تؤجج هواجسها القديمة بشأنه…
وتهيل التراب على جمر عاطفتها ال-متذبذبة- نحوه…
فاشتعلت ملامحها بغضبها قبل أن تلحق به بسرعة في الرواق الخارجي لتدركه على أول السلم فتشبثت بذراعه هاتفة بانفعال:
_حسناً يا سيد عاصي…مادمتَ تراه اتفاقاً فقط فأنا لن أنقضه…لكنني …
قطع عبارتها وهو يجذبها من مرفقها بعنف ليقرب جسدها نحوه هامساً أمام عينيها بصوت كالفحيح:
_لا تنسيْ وضعك هنا!!!لا صوت يعلو فوق صوت عاصي الرفاعي!!!
وبينما انزوى قلبها بين ضلوعها مكسوراً بإهانته توهجت بحور فضتها بألقٍ عاصف وهي تعاود هتافها الحاد:
_أنا لم أنسَ وضعي…أنت الذي تتناساه!!
هنا كان غضبه قد بلغ ذروته فدفعها بخشونة ليزيحها من طريقه عندما تعثرت بدرجة السلم لتطلق صرخة عالية وهي تسقط لعدة درجات بثقل جسدها كله على ذراعها…
==
_سلامتك يا ابنتي!!!
هتفت بها رحمة التي قدمت مع عزيز بأسرع ما استطاعت عندما علمت من ماسة عن كسر ذراعها…
فابتسمت ماسة بشحوب وهي تجلس على فراشها بغرفتها القديمة في قصر عاصي الرفاعي لتقول بمرح مصطنع:
_لم يكن الأمر يستحق تعبك يا أمي…أنا بخير.
قالتها وهي تتحاشى النظر نحو عزيز الذي بادرها بقوله القلق:
_كيف حدث هذا يا ماسة؟!!
هربت بعينيها منه فأدرك أنها ستكذب -كما يعلم عن تفاصيلها التي يحفظها -بينما غمغمت هي بتلعثم:
_لقد تعثرت على الدرج فحسب.
فزفر بقوة وهو يتأكد من فكرته ثم تمتم بتوتر:
_سلمكِ الله من كل شر!!
دخل عاصي غرفتها في هذه اللحظة وعيناه تكادان تقدحان بشرر متطاير وهو يرى عزيز يجلس على كرسيه جوار فراشها …
كان قد خرج لقضاء بعض مصالحه وعندما عاد أخبره الحرس بوجودهما لكنه لم يتصور أن يجدهما جالسين هنا…
فقامت رحمة من مكانها لتقول بحنانها المعهود:
_أهلاً يا ابني…معذرةً لمجيئنا المفاجئ..إصابة ماسة أقلقتنا!
لكنه سيطر على غضبه كعادته وهو يصافحها قائلاً باحترام:
_البيت بيتكِ يا سيدتي…مرحباً بكِ في أي وقت.
قالها ثم التفت نحو عزيز الذي رمقه بعداء واضح وهو يتقدم نحوه مصافحاً قبل أن يقول بحزم:
_لي حديثٌ معك يا سيد عاصي…لكن ليس هنا!
فاشتعلت عينا عاصي بغضب صارخ ناقض برودة قوله :
_بالطبع سيد عزيز…غرف النوم لا تليق بأي حديث!!!
قالها وهو يضغط على حروف كلماته بنبرة ذات مغزى …
فشعرت رحمة بمزيج من الحرج والضيق لأنها لم تنتبه إلى هذا…
بينما لم يبدُ على عزيز الاهتمام وهو يغادر معه الغرفة بملامح متجهمة…
فالتفتت رحمة نحو ماسة هامسة بقلق:
_أخشى أن يسبب وجود عزيز مشكلة بينك وبين زوجك …أنا اضطررتُ لاصطحابه معي فلم أكن أستطع القدوم وحدي!!!
تنهدت ماسة بحرارة وهي تهمس بألم :
_لا يهم!!!
هنا عقدت رحمة حاجبيها وهي تقترب منها لتحتضنها هامسة بلهفة:
_ما الأمر يا ماسة؟!!لا تبدين سعيدة كما كنتِ في مكالماتنا السابقة!!
هنا انخرطت ماسة في البكاء بين ذراعيها وهي تشعر بحاجتها للحديث …
فروت لها تفاصيل ما حدث ما بينها وبين عاصي مؤخراً وشعورها بما استجد بينهما…
شهقت رحمة بدهشة ثم هتفت باستنكار:
_تعنين أنه هو من دفعكِ للسقوط من على الدرج؟!!
رفعت ماسة عينيها إليها وهي تومئ برأسها إيجاباً قبل أن تغمغم بين دموعها:
_لكنني لا أريد أن أظلمه يا أمي…هو لم يكن يقصد إيذائي..أنتِ لم تريْ وجهه ساعتها….لقد بدا وقتها وكأن روحه هي التي سقطت….كان في غاية القلق والجزع حتى جاء الطبيب لتجبير ذراعي.
أومأت رحمة برأسها في تفهم ثم غمغمت بأسف:
_علاقتكما صعبة حقاً…الحواجز بينكما كثيرة…وأنتِ ضغطتِ دون قصد على جرحه القديم…ليس أقسى على الرجل من أن ترفض امرأته الإنجاب منه…ورغم أن أسبابكِ تبدو مقنعة…لكنه لم يكن يرى أمامه وقتها سوى صورة زوجته الراحلة التي كانت تنفر منه طوال هذه السنوات …عاصي الرفاعي رغم واجهته الصلبة لازال يعاني خللاً في ثقته بالشعور بحب الآخرين له…خاصةً أنتِ!!!
مسحت ماسة دموعها وهي تهمس بألم:
_المشكلة ليست في هذا فحسب…أنا لم أعد أشعر معه بالأمان كالسابق…تهديده اليوم بأن يتزوج أخرى هزني بقوة…أنا أعرف أنه قادر على فعلها في أي وقت…وأنا لا أريد أن أنجب طفلاً من رجل فقط لأضمن وجوده جواري…هل تشعرين بي يا أمي؟!!
ضمتها رحمة بقوة للحظات وهي تستعيد مأساتة حياتها مع شاكر من قبل…
لتهمس بشرود بعد صمت قصير:
_وأحياناً لا يكون الطفل نفسه ضماناً لوجوده جوارك!!
فغمغمت ماسة بحيرة:
_إذن ماذا أفعل؟!!
تفحصتها رحمة ببصرها للحظات…ثم قالت بحكمة:
_أنتِ لن تفعلي شيئاً…أطيعي زوجكِ فحسب..لو لم يخنّي ظني هو الذي سيسعى لترضيتك.
هزت ماسة رأسها باعتراض وهي تهتف باستنكار:
_الأمر أكبر من هذا يا أمي…أنا لم أعد أسعى لمجرد ترضية…أنا أريده أن يتغير…أن يترك الجزء الأسود من عالمه حتى يشعرني بالأمان…أن…
لكن رحمة قاطعتها بحزم هامسة:
_تظنين أنكِ ستتمكنين من تغيير رجلٍ كزوجكِ بين يوم وليلة ؟!!!لا يا ماسة…ظننتكِ أذكى من هذا…الرجل لا يحب أن تشعره امرأته بأنها تكره صفاته وتسعى لتغييرها…وفطنة المرأة الحقيقية أن تفعل هذا بمنتهى الصبر والحساسية…الرجال لا يحبون السقوط في فخاخ التغيير لكن مهارتك أن تجيدي تغطيتها بحنانك وعاطفتك حتى يكون سقوطه مرضياً لكبريائه.
تنهدت ماسة بحرارة وهي تحاول استيعاب نصيحتها …قبل أن تهمس ببعض اليأس:
_حسناً…سأحاول يا أمي…سأحاول!!
وفي غرفة مكتبه جلس عاصي أمام عزيز الذي ابتدره بقوله الحازم:
_سيد عاصي…ربما تعرفني عن طريق أبي وعلاقتنا بالعمل…لكنني أيضاً أعتبر نفسي أخاً لماسة…فوالدتي هي التي ربتها.
حافظ عاصي على برود ملامحه وهو يقول بلهجته المسيطرة:
_وماذا بعد؟!
فاقترب منه عزيز بجذعه ليقول بغضب لم يكتمه:
_روايتها الكاذبة عن تعثرها على الدرج لم تقنعني!!!أنا لن أسمح لأي أحد أن يؤذيها بعد!!
توهجت عينا عاصي بغضب صارخ ليهتف من بين أسنانه :
_هل تجرؤ على تهديدي في بيتي؟!!
فهبّ عزيز واقفاً مكانه ليهتف بغضب مماثل:
_كما جرؤتَ أنت على إيذائها في بيتك…إياك أن تظنها ضعيفة منكسرة الجناح بسبب ظروفها …ماسة ستبقى أمانة في عنقي ما حييت ولن أتهاون في حقها أبداً.
هنا وقف عاصي بدوره ليتقدم منه خطوة قائلاً بنبرة حاسمة لا تقبل الجدل:
_لولا احترامي للسيد شاكر لكان لي معك تصرف آخر…عاصي الرفاعي لا يشارك أحداً الحديث عن أهل بيته!!
فاحتقن وجه عزيز بانفعاله وهو يهم بالحديث عندما أردف عاصي بنبرة أقسى:
_الحوار انتهى!!
== أسندت رأسها على ظهر الفراش بعد رحيل رحمة وعزيز وهي تفكر في حديث رحمة معها…
ثم غلبها ألم ذراعها فتأوهت بضعف وهي ترفعه أمامه متأملة جبيرته للحظات…
لا تكاد تصدق أن عاصي هو من فعل بها هذا…
لكن لمَ العجب؟!!
وهي تدرك منذ البداية أنه بحرٌ هائج من تناقضات لا تنتهي…
وأن قسوته -كحنانه- بلا حدود!!
انقطعت أفكارها عندما شعرت به يدخل إلى الغرفة فأطرقت برأسها حتى جلس جوارها على طرف الفراش …
كانت عاجزة عن رفع عينيها نحوه وهي تشعر أن قلبها الآن يتمرغ في خيبة حسرته…
لكنها اضطرت للنظر إليه عندما وصلها همسه الغاضب:
_كيف تسمحين له بالدخول لغرفتك ورؤيتك هكذا دون حجاب؟!!
تمالكت قوتها بصمت قصير قبل أن تهمس بنبرة محايدة:
_آسفة…تصرفت بحكم العادة …أنت تعلم أنه كان…
لكنه قاطعها فجأة بصيحة هادرة:
_اخرسي!!
دمعت عيناها رغماً عنها وهي تشيح بوجهها عندما أردف هو بنفس النبرة المشتعلة:
_هذا الرجل لم يحفظ حرمة بيتي ولهذا لن يدخله بعد…ولو حتى مع والدتك…هل تفهمين؟!!
وبرغم الخوف الذي بدأ يتسلل لنفسها من جديد وجدت نفسها تهمس مدافعة:
_هو لم يقصد هذا…هو تربى في الخارج ولا يدرك عاداتنا المتحفظة هنا…كما أنه اعتاد…
انتهت عبارتها بآهة ألم عندما اعتصرت قبضته فكها وهو يهمس بقسوته التي عاودت احتلال نبراته:
_لا يغرنّك حلمي عليكِ بعد…لن أسمح لك بعد الآن بالمجادلة…ستنفذين أوامري فحسب دون كلمة واحدة.
أغمضت عينيها بقوة وهي تشعر أنها تقاتل في جبهتين…!!!
تقاتل قلبها الذي لايزال لا يستوعب هذا الوجه القاسي بعد طول حنانه…
وتقاتل عقلها الذي لا يكاد يستوعب غيره!!!
قلبها الذي يتخبط بين جدران ارتباكه وخيبته مردداً أن هذا الرجل ليس “عاصي”…
وعقلها -على العكس-يقسم أن هذا هو “عاصي” الحقيقي…!
وأن ما رأته من حنانه واحتوائه لم يكن سوى قشرة واهية لن تلبث أن تتشقق عند أول صدام!!!
لهذا اكتفت بسكون جسدها المستسلم لذبذبات غضبه التي كادت تزلزل كيانها كله…
وهو يردف بغضب مشتعل وكأنه لا يزال لا يصدق جرأة عزيز عليه:
_هذا “الفتى” تجرأ ليوصيني بكِ أنت؟!!يهددني لو آذيتكِ؟!!
فتحت عينيها بدهشة عندما أزاح أنامله من على فكها لتتمتم بذهول:
_هو فعل هذا؟!!
أشاح بوجهه الذي كاد ينفجر انفعالاً فابتلعت صدمتها بجرأة عزيز الجديدة عليها…
قبل أن تغمض عينيها بألم حقيقي وهي تعاود إسناد رأسها على الفراش باستسلام…
ربما تكون قد أخطأت حقاً عندما غفلت عن غيرة عاصي وسمحت لعزيز بالدخول لغرفتها لكنها كانت حقاً مشوشة…
عقلها كان محتلاً بعدوان أفكارها المشتعلة بما حدث…!
وأمامها كان هو يكاد يحترق بلهيب مشاعره..
بركانٌ هائجٌ من نار غضب يقذف حممه بداخله…
الغضب من نفسه لأنه آذاها ولو دون قصد…
والغضب من ذاك “الفتى” الذي يجئ الآن بعد طول خذلانه لها ليتصنع رجولة مستحدثة ويهدده هو لو عاود إيذاءها…
والغضب منها هي التي تثير في نفسه زوابع عاصفة لا تنتهي من أحاسيس لم يعرفها إلا معها…
قوتها كماسة حقيقية تثير الرهبة في نفسه أحياناً رغم عشقه لهذه القوة…
ربما لأنه يدرك أن قوتها سلاحٌ نافذ ربما يكون هو نفسه أول ضحاياه يوماً!!!
وربما لأنه يخاف عليها من نفسه أن تنكسر قوتها هذه يوماً بسببه!!!
وربما لأنه يدرك أنها على حق في شعورها بعدم الأمان معه!!!
وربما هو كل هذا!!!
لهذا زفر زفرة مشتعلة ثم التفت إليها أخيراً لترق لهجته نوعاً وهو يلاحظ احمرار كفها الذي ظهر -بالكاد-تحت جبيرتها…
فغمغم بصوت لم تغادره قسوته بعد:
_لماذا عدتِ لغرفتك هذه؟!!
حافظت على إغماض عينيها وهي تهمس بفتور:
_هل كنت تريدني أن أستقبلهما في غرفة عاصي الرفاعي المحرمة؟!!
كز على أسنانه وهو يجيبها بانفعال غريب على ثباته المعهود:
_وهل عَدِمَ القصر غرفات ضيوفه حتى تستقبلينهم في غرف النوم؟!!
هنا سالت دموعها على خديها أخيراً في صمت…
فتشنج جسده بقوة انفعاله وهو يقاوم نفسه الآن كي لا يضمها لصدره…
كي لا يمسح دموعها التي كانت تحرق ضلوعه بحسرتها…
كي لا يعترف لنفسه بسبب انفعاله الآن وهو أنه اليوم -ولأول مرة- شعر بالغيرة عليها!!!
هذا الشعور الذي أذكى نيرانه كلها واستنكف أن يطفئها بفيوض عاطفتها!!!
فقام من جوارها فجأة وكأنه حسم هذا الصراع لصالح وجه قسوته…
قبل أن يقول بنبرة جافة:
_لن أطلب منكِ العودة لغرفتي…أنتِ تركتِها وحدك…فعودي وحدك!!!
لم تتغير ملامحها الساكنة التي نقش الحزن عليها الآن ألف خط…
فزفر بقوة وهو يتوجه نحو الباب بخطوات مندفعة…
لكن أنامله تجمدت على مقبض الباب عندما سمع صوتها خلفه أخيراً يكاد يبكي بخيبته:
_اليوم أخلف عاصي الرفاعي وعده معي لأول مرة!!
وقف مكانه ثابتاً للحظات وكأنه يفكر في كلماتها قبل أن يستدير نحوها برأسه عندما أردفت هي بمزيج كبريائها وعتابها:
_وعدتني ألا تؤذيني…وقد فعلت!!
== ظل طوال ليلته يتقلب على فراشه كالنائم على جمر…
لقد اعتاد نومتها جواره…!
همسها اللهاث باسمه وهي تندس كطفلة تائهة بين ذراعيه كل ليلة بدعوى أنها تخاف أن تعاودها كوابيسها…!
عاداتها الليلية التي صار يحفظها…
شعرها الذي تجمعه كله فيما يشبه كعكة كبيرة فوق رأسها كي لا يضايقها في نومها…
عطرها الهادئ برائحة الزهور…
وقمصانها الطويلة التي تفضلها زاعمةً أنها تخشى انكشاف ساقيها عند نومها ليلاً…
وتمتماتها الداعية بخشوع وهي تردد أذكارها قبل نومها كما علمتها رحمة…!!!
لقد صارت هذه الطقوس اليومية جزءاً من حياته التي أدمنها معها…
فكيف الآن تحرمه كل هذا؟!!!
صوتٌ بداخله يدفعه الآن لانتزاعها من فراشها بغرفتها الأخرى وحملها هنا قسراً دون تردد…
لكن صوتاً خافتاً من الماضي يحذره من إعادة العدو في الطريق الخطأ…!!
إن كان اختارها ماسةً حقيقية ليكفر بها ذنوب تاريخه الأسود فليلتزم بالقواعد التي وضعها هو بنفسه لها…
وأولها…لا إجبار!!!
شئٌ واحد فقط سيجبرها عليه قسراً ليس فقط لأنه كان اتفاقهما من البداية…بل لأنه يتمناه حقاً ومنها هي بالذات…
نعم…الولد!!!!
سمع النداء لصلاة الفجر فقام من مكانه ليبدل ملابسه…
ثم توجه نحو الرواق بخطوات متثاقلة لتحمله قدماه نحو باب غرفتها حيث امتدت أنامله تلامس المقبض للحظات…
عندما وصله صوت تأوهاتها الضعيفة…
فانعقد حاجباه بألم وهو يتذكر عبارتها الأخيرة…
هو حقاً أخلف وعده معها…هو آذاها !!!
طبيعته القاسية غلبت عاطفته ولو دون قصد…
واليوم أضاف لخدوش ماسته خدشاً جديداً من صنع يديه هو!!!
لكنها هي التي دفعته لهذا…
الغافلة لا تدرك أنها بعود ثقاب واحد أضرمت النيران وسط أحطاب ماضٍ لم يمتْ وما كان له أن يموت…
صفحته السوداء مع حورية لم تنطوِ بعد…
بعمق شعوره بالجرح من خيانتها تارة…
ورفضها الإنجاب منه طوال هذه السنوات تارة أخرى…
وبعظيم شعوره بالذنب نحوها في ذات الوقت وهو يوقن أنه هو من دفعها لهذه النهاية!!!
ووسط كل هذا تأتيه ماسة بعشقها الذي يلتمع كشمس الظهيرة في مقلتيها لكنها مع هذا تأبى الاعتراف به وكأنها تؤكد له أنه لا يستحقه…
والآن ترفض أن تمنحه الولد الذي طالما تمناه…!!
لهذا عاند إرادته بقوة سيطرته المعهودة على نفسه لتترك أنامله مقبض الباب قبل أن يعاود طريقه للخروج…
لكنه عند عودته كان قد فقد آخر حبات عقد مقاومته التي انفرطت كاملة على باب غرفتها من جديد…
ليجد نفسه يفتح الباب بحسم مسكتاً أصوات كبريائه بدعوى الشفقة…!!!
لكنها للأسف لم تكن هناك…
نعم…فراشها كان خالياً منها بل والغرفة كلها…!!
انعقد حاجباه بقلق وهو يعاود الخروج للبحث عنها في الحديقة …
لكن حدساً ما جعله يرفع بصره للأعلى شاعراً أن ماسته الآن بحاجة لتراقب شروق الشمس لعله يبذر النور في جديب روحها المظلمة الآن حزناً…
لهذا تقدم بخطوات ثابتة ليصعد الدرج نحو سطح المنزل حيث كانت واقفة هناك -كما تصور تماماً- كصورة رائعة لملاك حزين…
شعرها كان يتطاير حولها بخفة متخلياً عن حجابها الذي انزلق على كتفيها ليمنحها مظهراً متمرداً يليق بوضعهما الجديد…
وجسدها كان يرتجف بقوة مع النسمات الباردة التي اشتدت في هذا الوقت من الصباح…
فاقترب منها ببطء ليحتضن كتفيها براحتيه هامساً بصوته القوي الذي افتقر الآن لأي انفعال:
_ماذا تفعلين هنا؟!!
ظل جسدها على ثباته وكأنها لم تفاجأ به…!!!
بل على العكس قلبها النقي بدا وكأنه كان ينظر في بللورة عشقه السحرية ويكاد يقسم لها أنه لن يصبر على خصامها أكثر…!!!
لكن عقلها كان يحذرها من أن الأمر لا يعدو كونه مجرد “سطوة امتلاك”…!
وأن عاصي الرفاعي لا يعتبرها أكثر قيمة من جوادٍ رابح حتى الآن…لكنه لن يتردد في منحه “رصاصة رحمة” متى صار في غنيً عنه!!!!
لهذا حافظت على سكون وضعها -الظاهر- قبل أن تتمتم بلا شعور:
_واقفة…مكاني!!
انعقد حاجباه بضيق وهو يعلم أن عبارتها تحمل ما يفوق كلمتيها الوحيدتين بكثير…
لكنه لم يكن يريد الخوض في هذا الأمر…
لهذا أدارها نحوه ليلتقط نظراتها الفائضة بحزنها والتي روضت وحوش قسوته ليجد نفسه يغمغم ببعض الرفق:
_الأولى أن تستريحي في غرفتك…أنتِ لم تنامي طوال الليل.
أطرقت برأسها وهي تغمغم بنبرتها التي مزجت عتابها بمرارتها:
_أمرٌ جديد من السيد عاصي يستوجب الطاعة.
زفر زفرة حارقة وقبضتاه يحكمان الوثاق على كتفيها أكثر ليهتف بحدة:
_طالما كنتِ تستخرجين أفضل ما فيّ…صورتي بمرآتك كانت دوماً هي الأجمل…لماذا الآن تدفعينني للظهور بهذا الوجه أمامك؟!!
اغرورقت عيناها بدموعها وهي ترفعهما نحوه لتقرأ الندم الذي تخلل غابات زيتونه ممتزجاً برياح هوجاء من غضب أسود جعلها تتمتم بخيبة:
_لست أنا من فعلها…للأسف عندما تَنازَع شيطانك مع ماستك كانت الغلبة للشيطان.
انعقد حاجباه بغضب أكبر وهو يستشعر صدق حديثها …فيما أردفت هي بنفس الخيبة:
_أنت حتى لم تسمع مبرراتي…أصدرت حكمك ومنعتني حتى الاعتراض!!!
ثم خانتها دمعة غادرة سقطت على وجنتها فمسحتها بسرعة لتعاود همسها بقوة أكبر:
_طوال الليلة الماضية وأنا أشعر بالصراع الذي كان يدور بداخلك…أعرف أنك لم تذق النوم مثلي…كنت أطالع مقبض الباب في كل دقيقة أنتظر نتيجة حسم الصراع بين قلبك وشيطانك…بين حاضرنا وماضيك….لكنك…
قطعت عبارتها لتبتلع غصة حلقها قبل أن تردف بألم:
_خذلتني!
عادت عيناه تشتعلان بلهب غضبته وهو يهتف بحدة:
_ماذا كنتِ تنتظرين؟!!لم يُخلق بعد من يلوِ ذراعي !!!
فذابت حسرتها في بحورها الفضية لتمتزج بنظراتها اللائمة:
_إذن تعتبر ما بيننا “ليّ ذراع”؟!!
هنا كان غضبه هادراً وهو يراها تحاول بكل قوتها أن تجذبه لهذه المنطقة التي لا يريد التواجد فيها…
هو لن يستدرج لفخ الحب من جديد…
فعلها مرة واكتوى بنارها عمراً…ولن يعيدها مهما حدث…
هذا الشعور الذي يغزوه نحوها يجب أن يروضه…أن يقهره…
لن يكون هناك سلطانٌ على قلب عاصي الرفاعي إلا سلطانه هو نفسه!!!
وبهذا الإحساس الجارف الذي اجتاحه وجد نفسه يهز كتفيها غير آبه بألمها وهو يهتف بقسوة :
_افهمي!!!ما بيننا ليس سوى اتفاق!!!اتفاقٌ لا يخضع لوهم حب لن أمنحه لكِ أو لغيرك!!!عاصي الرفاعي لا يعترف إلا بلغة مصلحته …مصلحته فقط!!!
وبرغم ألم ذراعها الذي كانت تشعر به في هذه اللحظة وهو يهزها هكذا…
لكن ألم روحها الآن كان يفوقه بكثير…
مع عتاب عقلها الذي طالما حذرها من تماديها بحلم لن يتحول يوماً لحقيقة…
ونحيب قلبها المتواري خلف أستار خيبته…
خاصةً عندما أردف هو بنبرة أقسى:
_ستمنحينني طفلاً كما كان اتفاقنا…هذا كل ما يعنيني!!!
أغمضت عينيها بتعب ما عادت قادرة على احتماله…
ربما لو كانت زوجة أخرى مكانها لشعرت بالسعادة والفخر وهي ترى زوجها يطلب منها طفلاً بهذا التشبث والإصرار…
لكنها معه الآن تشعر بالإهانة…
بالانتقاص…
هي ليست لديه الآن سوى وعاء لطفل لا يمكنها حتى الشعور بالاطمئنان عليه وسط هذا الجو المشحون بالخوف والشر…
لهذا فتحت عينيها ببطء لتزأر أمواجها الفضية بقوتها من جديد وهي تواجهه بقسوة لا تقل عن قسوة نظراته :
_أنت جعلتني أندم على كل لحظة شعرت فيها بالامتنان نحوك…ماسة لم تكن لديك سوى وفاء بدين قديم واتفاقٍ على ولي عهد جديد…وبين هذا وذاك أنا لم أختر أحدهما..ولم أطلبه….أنت أجبرتني على هذه الحياة بهذه الشروط والآن أقولها لك أنا لا أريد كل هذا…لا أريده!!!
فومضت عيناه بحريق ثائر وهو يهمس ببطء قاسٍ:
_امنحيني الطفل أولاً…وبعدها…
اتسعت عيناها بمزيج من الاستنكار والترقب عندما اقترب بوجهه أكثر ليردف بمزيج غريب من القسوة والمرارة:
_إذا أردتِ الرحيل فلن أجذبكِ قهراً…عاصي الرفاعي لا يكرر خطأه مرتين.
ارتجف جسدها بقوة لا تدري ألماً أم خوفاً…
وهي تحاول البحث عن كلمات لكن حروفها كلها كانت مفلسة…
أعدمتها هذه القسوة التي عادت تستوطن نبراته…
وهو ينهي هذا الحوار بجملته الحاسمة:
_عندما يتحسن حال ذراعك سنتابع طبيبة بشأن موضوع الحمل!!!
نيرانٌ هائلةٌ من غضب أسود كانت تلفحها بعد مغادرته مع والدته للسفر إلى ماسة…
منذ علم عما حدث لها وهو يكاد يختنق بغضبه ولهفته التي قرأها قلبها بحسرة ذبحتها…
ورغم أن عقلها اليقظ بتفكيره العملي كان يدفعها للتريث بدعوى أن الأمر لا يتعدى مجرد حمية رجولية لامرأة ضعيفة في ورطة…
لكن قلبها كان في وادٍ آخر يئن بين ضلوعها كاتماً لوعته!!!
لهذا لم تشعر بنفسها وهي تجذب تلك المزهرية من مكانها لتقذفها بعنف فتهوي محطمةً على الأرض …
قبل أن تخطو نحوها لتدوس على إحدى شظاياها بقوة هاتفة بين أسنانها:
_ذوقي الألم يا ميادة…ذوقيه كي تتعلمي درسكِ جيداً…إنه ذنب قلبكِ الذي طاوعتِه هذه المرة.
لكن عبارتها انتهت بآهة ألم أطلقتها وقد أفاقت لنفسها أخيراً لتتحسس بطنها بقلق وقد غلب خوفها على طفلها أي إحساس سواه…
فتحاملت على نفسها لتسير نحو حمام الشقة الصغير حيث غسلت قدمها المجروح بصعوبة رغم ألمها…
قبل أن تربطه بضمادة وجدتها هناك في رف صغير خصصته رحمة لهذه الأشياء…
ثم سارت بخطوات حذرة نحو فراشها لتستلقي عليه شاخصة ببصرها في الفراغ…
وقد دفعتها غيرتها لفكرة واحدة الآن…
هي لن تخرج من هذه الصفقة خاسرة…
عزيز لابد أن يعود لأبيه ويترك هذا المكان الذي سيبقى يذكره بماسة…
ليس من أجلها فحسب بل من أجل طفلها الذي ستضحي لأجله بكل شئ…
وبهذا الشعور العاصف تناولت هاتفها من جوارها لتتصل بوالد عزيز …
وما إن أجاب الاتصال حتى بادرته بقولها:
_لقد وجدت الطريقة يا عمي…كيف سنجبر عزيز على ترك هذا المكان والعودة إليك مرغماً…حسناً…سأخبرك!!!
قالتها ثم اندفعت تروي له تفاصيل خطتها البسيطة والفعالة في ذات الوقت…
والتي استحسنها شاكر بدوره ووعدها بسرعة تنفيذها بعد شكر وافر!!!
لتغلق هي الاتصال بعدها بعنف يناسب عاصفة شعورها الآن…
ورغم الابتسامة الظافرة التي ارتسمت على شفتيها …كان قلبها يوبخها بشعور سخيف بالذنب لن تلتفت له بعد…
لقد أعاد عقلها السيطرة على زمام الأمور ولا عزاء لقلب تبعثرت دقاته في وديان ليست له…ولن تكون!!!
وبهذا الإصرار سحبت غطاءها على رأسها لتستدعي نوماً عاندها طويلاً…قبل أن يستجيب أخيراً ليرحمها من كل هذا الصراع!!!!
=========
_ميدا!!!استيقظي…ماذا حدث؟!!!
هتف بها عزيز بقلق وهو يحاول إيقاظها مع رحمة بعد عودتهما وقد روعهما منظر المزهرية المكسورة مع قطرات الدم على الأرض…
ففتحت عينيها ببطء لتصطدم بنظرات حنانه المشبعة بقلقه وهو يعاود سؤاله بلهفة:
_أنتِ بخير؟!!
أشاحت بوجهها دون رد…
عندما اقتربت منها رحمة لتهتف بدورها:
_ما الذي حدث يا ابنتي؟!!يا إلهي…لم يكن ينبغي أن نتركك وحدك!!!
قامت من نومتها لتستند على ظهر الفراش مغمغة باقتضاب:
_لم يحدث شئ!!أنا بخير!!
رمقتها رحمة بنظرة مشفقة وهي تشعر بالذنب…
ذهاب عزيز معها لماسة كان خطأً كبيراً لم تحسب حسابه…
خطأً قرأته في غيرة عاصي الرفاعي منذ قليل وتقرأه الآن في عيني ميادة…
لكنها لم تفكر بهذا…
دفعها قلقها على ماسة للسفر ولم تستطع الذهاب وحدها…!!!!
لهذا تنهدت بحرارة ثم تقدمت نحو ميادة لتهتف بنبرة اعتذار:
_سامحينا يا ابنتي!!!الظروف اضطرتنا لهذا!
أغمضت ميادة عينيها لتتجاهل الرد مكتفيةً بصمتها….فعادت رحمة تربت على كتفها قائلة:
_سأحضر لكِ العشاء ومشروباً دافئاً.
غمغمت ميادة بكلمات اعتراض مبهمة لم تأبه لها رحمة وهي تندفع للخارج نحو المطبخ لتنفذ ما أرادته…
بينما رفع عزيز قدمها أمامه برفق متفحصاً ليغمغم بقلق:
_أخشى أن يحتاج لتقطيب .
لكنها سحبت قدمها من كفه لتدسه تحت غطائها هاتفةً بحدة دون أن تنظر إليه:
_لا شأن لك بي!!
انعقد حاجباه بضيق للحظة ثم اقترب منها أكثر ليحتضن كفها بكفيه هامساً بحزم:
_انظري إليّ!!
ظلت مشيحة بوجهها للحظات لكنها اضطرت لرفع عينيها إليه عندما ضغط كفها بقوة أكبر بين راحتيه مردفاً بنفس الحزم:
_أنا الآن أخاطب عقل ميادة الذي لن يخدعه أحد…فهل تسمعين؟!!
اشتعلت عيناها ببريق تحدٍ راقه كثيراً فابتسم بإعجاب زاد من لمعة العسل في زمرديتيه قبل أن يقول بجدية تامة:
_أنا أعرف أن وضعنا غريب…وزواجنا كان أغرب…لكن أفضل ما في علاقتنا أن كلينا يصدق الآخر ولا يكذبه…صحيح؟!!
ازدادت لمعة التحدي في عينيها دون رد فأردف بصدق:
_أنا لم أذهب لماسة على أنها حبيبتي …فما بيننا انتهى بحق منذ زمن…أنا ذهبت إلى ماسة أمانتي التي لن أفرط فيها أبداً…ولن أسمح لطغيان الرفاعي أن ينالها كما نال زوجته السابقة.
أطرقت برأسها وهي تشعر بصدق حديثه لكن لا تزال هناك غصةٌ في القلب لن يبتلعها بمجرد كلمات…
فيما أكمل هو حديثه:
_أنا خذلتها مرة كعاشق وندمت على هذا حقاً…لكنني لن أخذلها كأخ متى احتاجتني.
هنا كان دورها لتبتسم بسخرية هامسة بمرارة لم تستطع إخفاءها:
_وهل يتحول الحب ل”أخوّة” في “قلب الشاعر”؟!!
فأطرق برأسه للحظات ثم عاد يقول بثقة:
_نعم…إذا فقد شغف الامتلاك ولم يبقَ منه سوى الامتنان لذكرياتٍ ذهبت ولن تعود.
أشاحت بوجهها في عدم اقتناع فعاد يديره نحوه ملتقطاً نظراتها الثائرة بفيض حنانه الزمردي…
حتى لانت نظراتها نوعاً مع همسه الدافئ:
_”قلب الشاعر” كاد يموت قلقاً عليكِ منذ قليل عندما رأيت الدم على الأرض!!
ورغم أن عبارته دغدغت حواسها برقة لكن هذا دفعها للرد بثورة عارمة:
_لا يعنيني قلقك ولا قلبك…فلا تلعب هذه اللعبة معي…بقائي هنا معك لأجل طفلنا ليس أكثر…
انقطعت عبارتها عندما فوجئت به يترك كفيها ليقوم ويغلق باب الغرفة بإحكام…
فارتجف جسدها دون وعي وهي تتعلق بنظراته التي اكتسبت بروداً ثلجياً وهو يتقدم نحوها ليعاود الجلوس جوارها من جديد…
ازدادت ارتجافة جسدها وهي ترمقه بنظرات قلقة…فانحني بجذعه نحوها ليهمس بصرامة:
_أولاً…لا ترفعي صوتكِ هنا ثانية…لا أحب أن تعرف أمي شيئاً عما بيننا…
ازدردت ريقها ببطء وهي تخفض بصرها عنه لتهمس بنبرة جاهدت لتخرج قوية:
_وثانياً؟!!
والإجابة كانت قبلة عميقةً على جبينها مع همسه الذي عاد إليه حنانه:
_أنا آسف لأنني تركتما وحدكما!!
قالها وهو يمسد بطنها بأنامله برفق حانٍ فرفعت إليه عينيها بتردد …
لتنهل من بئره الزمردي الذي توهجت أشعته العسلية بعاطفة خاصة الآن تلمحها عيناها لأول مرة…
ويشتهيها قلبها من زمن…
عاطفة تعدها بغنىً بعد فقر…وسكنٍ بعد طول غربة…
عاطفة تستجديها كل جوارحها ويتعفف عنها عقلها بدعوى “الاستغناء”…
ف”قلب الشاعر” كما يبدو قد بُعث من قبور ماضيه ليلتقط أول أنفاسه في بستانها هي!!!
فهل تمنحه فرصة أم تطرده وتكتفي بما نالها من جراح؟!!!
وأمامها كان هو يتأملها بشعور غريب يتملكه يوماً بعد يوم…
وغرابته تتناسب مع غرابة هذه المرأة أمامه…
تلك التي أبهره عقلها بذكائه لكنه عندما اقترب أكثر وجد نفسه قد تعثّر بنداءات قلبها الخفية التي كانت تدعوه لاحتضان يتمه برفق…
وبين كليهما وجد نفسه ينجذب إليها بعاطفة ظن أنه لن يعرفها من جديد….
لكنها منذ قبلت عرضه بالبقاء هنا وقد زادت قيمتها في عينيه أكثر…
لم يتصور أن ميادة التي اعتادت رفاهيتها ورغد عيشها قد تقبل الإقامة معه هنا…
ليكتشف بنفسه وجهاً جديداً لها زاده إليها انجذاباً…
وجه امرأة قد تضحي بأي شئ لأجل من تحب!!!
امرأة قرر أن ينذر لها ولطفلها ما بقي من عمره لتعويضها عما لاقته…
لهذا اقترب هو بوجهه أكثر مردفاً بحنانه الذي رافقه بعض الخبث هذه المرة:
_هل توصلين رسائلي إلى طفلي من فضلك؟!!
وإن كانت قد نجحت في الهروب بعينيها لكن قلبها للأسف غافلها بعميق تشبثه بهمساته التي استشعر صدقها…
عندما طوق وجنتيها براحتيه ليهمس بحرارة:
_أخبريه أنني أحبه كثيراً وأنني أنتظر اليوم الذي أراه فيه بفارغ الصبر.
فارتسمت على شفتيها رغماً عنها ابتسامة واهية تحسسها بإبهامه للحظات…
قبل أن يقترب بعينيه أكثر مردفاً :
_أخبريه أن له أفضل أم في الدنيا…وأنني لن أنسى لها تضحيتها لأجلي وأجله..وسأعيش ما بقي لي من عمر كي أسعدها وأسعده!!!
خفق قلبها بجنون وهي لا تكاد تصدق ما تسمعه منه…
بل -للعجب-تصدقه!!!!
كل ذرة في كيانها تكاد تقسم على صدقه!!!
تخبرها أن عزيز قد ألقى ماضيه خلف ظهره حقاً وأنه يريدها له رفيقة عمر…
وتهدهد أحلام قلبها الذائب بعاطفته لتمنحها شعوراً بالأمان لم تعرف دفأه من قبل….
خاصةً عندما أكمل اعترافه بين شفتيها:
_وأخبريه أن الماضي انتهى…والمستقبل فقط أنتِ وهو!!!
=============
_كنتِ على حق يا ماسة!!الصفقة كانت خاسرة!!!
تمتمت بها دعاء بحسرة أمام ماسة التي زارتها لتوها في بيت حماتها عندما علمت الخبر…
فتنهدت ماسة بحرارة لتربت على كتفها قائلة بمواساة:
_لا تفكري في الأمر هكذا…على الأقل هما رحلا راضيين عنكِ مطمئنين عليكِ.
مسحت دعاء دموعها وهي تغمغم بشرود:
_أحياناً أصبّر نفسي بهذا…وأحياناً أخرى أشعر بالندم لأنني وافقت على الزيجة لأجلهما والآن يرحلان ليتركانني أواجه مصيري بمفردي.
تأملتها ماسة للحظات وهي تشعر بعظم مصيبتها…
دعاء رضخت للضغوط حولها وقبلت هذا الزواج إرضاءً لوالديها والآن تشعر أنها عادت خاوية اليدين بعد ما حدث…
لقد غادرا عالمها ولم يبقَ لها سوى طريقها الذي ستحتمل مشاقه وحدها…
وليتها كانت ستسيره منفردة ربما ساعتها كان الوضع ليكون أهون…لكنها وضعت رقبتها تحت مقصلة رجلٍ لا يرى فيها سوى سواد ماضيه…
باعت عمراً بأكمله لتشتري سعادة ليلة رأت نفسها فيها كما تمنت دوماً…
امرأةً تستحق التقدير!!!
لهذا ربتت على كفها برفق قبل أن تقول بحزمها الرفيق:
_لا تفقدي قوتك يا صديقتي….إنه مجرد اختبار سنجتازه كما اجتزنا غيره.
هزت دعاء رأسها وهي تهمس بين دموعها:
_هل تتصورين أنه لم يتحدث إليّ بكلمة منذ زواجنا ولا حتى كلمة عزاء؟!!رغم نظراته العميقة التي أشعر بها تكاد تقيدني لكنه لا يتكلم…أنا أخافه يا ماسة…كوابيسي به لا تنتهي.
ضمتها ماسة لصدرها وهي تهمس بشرود:
_قلبي يخبرني أنه ممزقٌ بداخله مثلك وربما أكثر…جرحه ليس هيناً يا دعاء…وربما هو يخشاكِ كما تخشينه تماماً…لا أدري إن كان شعوري صحيحاً أم لا…لكن رجلاً كحسام لا أستطيع توقع ردود أفعاله بسهولة…
ثم غمغمت وهي تتذكر موقفاً شبيهاً لها مع عاصي:
_ربما هو يريد الاقتراب لكن كبرياءه يعانده…وقبله ماضيه…ماضيه الذي يحرّم عليه سعادة يرى نفسه لا يستحقها ويدفعه للظهور بهذا القناع القاسي…
رفعت إليها دعاء رأسها لتهتف بدهشة:
_أنا لا أصدق…تدافعين عنه؟!!
أفاقت ماسة من شرودها لتهز رأسها نافية ثم قالت بهدوء لا يخلو من شجن:
_بالطبع لا…أنا فقط أريدكِ أن تمنحيه فرصة كاملة حتى النهاية…فلا يكون له بعدها عذر!!!
انعقد حاجبا دعاء بتفحص وهي تشعر أن حديث ماسة يحمل الكثير على عكس كلماتها البسيطة…
فنظرت لذراعها المجبّر نظرة شك قبل أن تغمغم بحذر:
_ماسة…من فعل بك هذا؟!!
أشاحت ماسة برأسها دون رد للحظات…
قبل أن تهمس بشرود:
_قصتنا متشابهة يا صديقتي …هو ذات الصراع بين شيطان ماضٍ ينشب مخالبه في قلب العمر وماسة الخير التي تجاهد للحفاظ على بريقها رغم الخدوش…والآن دورنا أن ننتظر نتيجة هذا الصراع!!
============
_أدركني يا فهد…بسرعة!
كانت هذه جملتها المختنقة على الهاتف منذ قليل والتي لم ينتظر هو بعدها دقيقة واحدة كي يستقل سيارته نحو مدينتها الأخرى …
حاول الاتصال بها مراراً بعدها لكنها لم تكن ترد وقد أخبره رجله الذي وضعه لمراقبتها أن بعضاً من رجال أبيه توجهوا لمنزلها منذ قليل ثم غادروه مسرعين …وعندما صعد ليطرق الباب لم يجبه أحد!!!
كاد يصاب بالجنون حقاً وهو يتجاوز بسيارته كل حدود السرعة المعقولة ليصل في أقرب وقت…
وبمعجزة ما كان واقفاً أمام باب شقتها في أقل من ساعة ليفتحه بمفتاحه قبل أن تصل لأنفه رائحة الغاز التي انتشرت في المكان…
سعل بقوة وهو يهتف باسمها مراراً باحثاً عنها في أرجاء الشقة حتى وجدها على الأرض مسجاةً بلا حراك…
وجهها شاحبٌ كالموتى ونبضها يكاد يخبو…
سقط قلبه بين قدميه وهو يربت على وجنتها بسرعة ثم هز رأسه بارتباك وقد أفقدته المفاجأة قدرته على التفكير…
حتى استعاد تماسكه فقام ليغلق مفتاح الغاز بسرعة وسط سعاله الحاد ثم حملها بسرعة بين ذراعيه ليتوجه بها نحو المشفى الذي كان مجاوراً لمنزلها لحسن الحظ…!!
جلس خارج غرفة الطوارئ منتظراً خروج الطبيب بفارغ الصبر…
كانت أنفاسه متلاحقة سريعة كهذه الأحداث التي مرت بهما مؤخراً…
منذ علم جاسم الصاوي عن زواجهما ومروراً باختطافه لها ثم إجباره له على تطليقها والزواج من يسرا…
وانتهاء بعودته إليها لينفذا خطة الهروب كما اتفقا..
والتي كان من المفترض أن تتم اليوم بلقائهما في المطار مساءً …
نظر في ساعته ليتبين كم من الوقت تبقى على موعد الطائرة عندما سمع صوته جواره:
_لن تدركها!!
رفع عينيه إلى جاسم الصاوي الذي كان واقفاً الآن -مع حارسيه الشخصيين -أمامه كجبل ضخم من قسوة وغضب…
فوقف بدوره وهو يكز على أسنانه قائلاً بحزم رغم ارتعاش نبراته:
_لو حدث لها مكروه فلن أسكت على حقها أبداً!!
ابتسم جاسم بسخرية قاتمة وهو يقترب منه أكثر قائلاً بقسوة:
_أنا حذرتك وأنت لم تستمع …ظننتَ نفسك أذكى مني…وتجرأت على معارضتي بفعلة ستهدم كل ما بنيته.
التمعت عينا فهد بغضب هادر…
فيما أردف جاسم باحتقار:
_غبي!!!أين كنتَ تظن نفسك ستهرب معها؟!!كنت سأصل إليكما في أي مكان !!
احتقن وجه فهد وهو يهتف بحدة :
_أنت لم تمتلكني!!!أنا سأفعل ما أريد مع من أريد.
فانعقد حاجبا جاسم وهو يتمتم بين أسنانه :
_أخفض صوتك …سأعرف كيف أعيد تربيتك أيها السفيه!!
ضم فهد قبضته ليلكم الحائط جواره هاتفاً دونما اكتراث بأمره:
_لم يعد لي شأنٌ بك…أنا سأترك لك كل شئ ودعني لحالي.
صمت جاسم للحظات متفحصاً ملامحه بخبرته…
وقد أنبأه ذكاؤه أن الشدة لن تجدي الآن ففهد في هذه اللحظة على وشك الانهيار وربما يفسد هذا كل شئ..
لهذا عاد يغمغم بعينين غارقتين بقسوتهما رغم هدوء نبراته:
_لا تراهن على جواد خاسر…لم يكن رجالي ليتركوها إلا …منتهية!!!
انقبض قلب فهد عند كلمته الأخيرة لتشتعل أنفاسه بمزيج من غضبه وخوفه…
لكنه رفع رأسه ليقول بصوت لاهث وهو يلوح بسبابته في وجهه:
_لا!!!جنة ستعيش…وسآخذها بعيداً عن هنا.
فهز جاسم رأسه وهو يغمغم بتهكم ممزوج باحتقاره:
_أين ستعيش وكيف ستعيش دون أموالي؟!!
لوح فهد بذراعه وهو يصرخ بجنون وقد فقد السيطرة على أعصابه:
_لم أعد أريد منك شيئاً!!!فقط دعنا وشأننا…لا أريد أموالك ومكانتك .. بل لا أريد أُبوّتك…أنت..
انقطعت عبارته عندما فتح باب غرفة الطوارئ فجأة ليخرج منها الطبيب ممتقع الوجه…
فاندفع فهد نحوه بسرعة هاتفاً بلهفة:
_أفاقت؟!!
لكن الطبيب تفحصه بإشفاق للحظات ثم أطرق برأسه مغمغماً بأسف:
_للأسف..لقد تأخرت في إحضارها…إنها تُحتضر!!!
وكأنما تجمدت أنفاسه عندما سمعها…بل كأنما تجمد الكون كله!!!
ستموت؟!!
جنة…ستموت؟!!
أبوه قتلها…بسببه؟!!
سيعيش يحمل ذنبها كأمه؟!!
وإن كانت أمه قد رحلت محملة بخطيئتها فما كان ذنب جنة ؟!!
أنها فقط …أحبته ؟!!
وهو …هو لم يستطع حمايتها…!!!
هو جذبها -قسراً-لجحيم الشياطين هذا لتحترق به دونما ذنب!!!
هو استجاب لأنانية شعوره بها وغرّه ذكاؤه الذي خانه هذه المرة …
والثمن كان…حياتها…!!!!
جنة…ستموت؟!!
ستموت؟!!
ظل ثابتاً مكانه لدقيقة كاملة بعدها…
وعقله يحاول فقط استيعاب الحقيقة القاتلة…
حتى أفاق من صدمته أخيراً ليدفع الطبيب بعنف صارخاً:
_كاذب!!!كلكم كاذبون!!!جنة لن تموت..أنتم ستنقذونها بأي طريقة!!!
اندفع نحوه بعض العاملين في المشفى لتهدئته مع الحارسين الشخصيين لأبيه لكنه تخلص منهم جميعاً ليتوجه نحو الغرفة حيث تمدد جسد جنة الساكن على الفراش…
انطلق نحوها بسرعة ليحتضن جسدها الخامد الذي غابت عنه ملامح الحياة صارخاً بلا وعي:
_قومي يا جنة…قومي لندرك موعد الطائرة…لن أتركك بعدها ثانية واحدة…لكن قومي…قومي…
ثم سقطت دمعة حارة على وجنته وهو يردف بألم:
_قومي لأجلي…ولأجل ملك…لا تتركيني يا جنة…أنا لم أكن أعيش إلا لأجلك.
قالها وهو يضم جسدها بحرارة أكبر وكأنه بهذا سيمنح بعض الحياة للجسد الساكن…
ليصرخ بعدها بحدة وهو يكاد يعتصرها بين ذراعيه:
_لن تموتي يا جنة!!!!لن تموتي!!
ومع صرخته الأخيرة شعر بتلك الأيادي التي امتدت لتبعد جسده عنها …
لم يكن وقتها يميز أي شئٍ مما حوله سوى تشبث ذراعيه بها صارخاً وهو يقاومهم دون جدوى:
_اتركوني معها!!!اتركوني!!!
لكنهم جذبوه بعيداً عنها بصعوبة بعد صراع استمر لدقائق طويلة…
كان يقاومهم بكل ما أوتي من قوة لعله يدرك آخر لحظات له معها…
قبل أن يتناهي لسمعه صوت الطبيب الذي تفحصها أخيراً قبل أن يغمغم بأسف أن الأمر قد قُضي!!!
ليجد عينيه أخيراً دون وعي معلقتين بالغطاء الذي رفعوه أخيراً على وجهها معلنين بهذا كلمة النهاية…
قبل أن تتشوش المرئيات حوله بضباب كثيف وصرخته المدوية باسمها كانت آخر ما سمعه قبل أن يسقط فاقداً وعيه….
===========
لم يدرِ كم مرّ عليه من الأيام في ذاك المشفى الفاخر بالعاصمة والذي أصر والده على نقله إليه…
هو لم يكن يستعيد وعيه إلا لساعات محدودة تنتابه فيها نوباتٌ من هياج هستيري كانت تنتهي دوماً بالمزيد من الحقن المهدئة التي تعيده لعالم اللاوعي…
وهناك في أحلامه كان يراها كأجمل ما تكون…
بثوبها الأبيض الذي رآها فيه آخر مرة …لكن زهوره الزرقاء كانت تتجمع وتتكاثف على نفسها لتتركز عند بطنها التي استدارت حتي تحولت لمهد طفل صغير…
بل طفلة في غاية الجمال تشبهه في كل ملامحه إلا عينيها…
كانتا بندقيتين كعيني أمها الساحرتين…
ولها أيضاً نفس ابتسامتها الحانية!!!
كانت هذه الرؤيا تسيطر على أحلامه كلها …
لكنها أحياناً كانت تتقاطع أيضاً مع كابوسه “القديم” والذي عاد يراوده بقسوة أكبر ليجد نفسه عالقاً بين جحيم كابوسه بخطاياه القديمة ونعيم رؤياه ب”جنة” وطفلتهما …
وبينهما كان هو يتأرجح بأنشوطة ذنبه الملتفة حول عنقه في عذابٍ بدا وكأنه بلا نهاية….!!!!
لكنه استيقظ هذا الصباح وهو يشعر أنه قد استعاد بعض تمييزه…
نظر للنافذة جواره ليجد نور الصباح يعلن عن وجوده مع زقزقة العصافير التي حملت له ذكراها…
ذكراها؟!!
هل صارت جنة الآن مجرد ذكرى؟!!
لا…مستحيل…!!!
إنه يكاد يستشعر دفء جسدها بين ذراعيه…
رائحة شعرها بين أنفاسه…
بل إنه يكاد يستمع لهمسها الساحر في أذنيه كما كانا آخر ليلة!!!!
خبط رأسه بعنف بظهر الفراش في هذه اللحظة وهو يطلق آهة ألم عالية!!
عندما فُتح باب الغرفة ليدخل منه جاسم متفحصاً ملامحه بجمود…قبل أن يغلق الباب خلفه قائلاً ببروده المعهود والذي ناقض نظرات القلق في عينيه:
_لماذا تتأوه هكذا؟!!هل تحتاج لحقنة أخرى؟!!
لكن فهد أشاح بوجهه وهو يكز على أسنانه دون رد…
بينما تقدم جاسم ليجلس على الكرسي جوار فراشه قائلاً بعد صمت قصير:
_أراك اليوم أفضل!!يسرا في غاية القلق عليك…أنا أخبرتها أنني أرسلتك في مهمة عمل طارئة كي أفسر لها غيابك طوال تلك الأيام.
ظل فهد مشيحاً بوجهه للحظات ثم قال بحزم:
_أريد الخروج من هنا!
تفحصه جاسم للحظات ثم أومأ برأسه قائلاً ببعض الرفق:
_يمكننا المغادرة اليوم للبيت.
التفت نحوه فهد بحدة ليهتف بصرامة قاسية:
_لن أعود لبيتك ولا لشركتك…ولا لحياتك كلها…من اليوم ستضعني خارج حساباتك تماماً!!
زفر جاسم بقوة وقد بدا أنه يتوقع هذا الرد…ثم قام من مكانه قائلاً بلا مبالاة:
_طيش شباب!!!غداً تعود لرشدك وتشتاق لحياتك القديمة!!
قالها وهو يعطيه ظهره ليتوجه نحو باب الغرفة قاصداً الخروج عندما هتف فهد بغضب :
_أين تم دفنها؟!!
وقف جاسم مكانه للحظة ثم التفت إليه ليقول ساخراً:
_لماذا؟!!تريد زيارة قبرها؟!!تظن نفسك بهذه القوة لمواجهة ذنبك؟!!!
ثم تحولت لهجته ليحتلها غضبٌ ممتزج بقسوته:
_أنت حتى لم تفعلها مع والدتك طوال هذه السنوات!!!
رمقه فهد بنظرة عاصفة اختصرت صمت سنوات…
وذهنه يستعيد مرارة تلك الذكرى التي حمل وزرها وحده على كاهله طوال هذه الأيام….
بينما أردف جاسم وقد عادت لصوته برودته:
_لقد تم دفنها في مقابر(…..) لو كنت تهتم كثيراً.
أطرق فهد برأسه وهو يشعر أن جدران المكان تكاد تنطبق على صدره…
ولأول مرة يدرك كم هو والده على حق!!!
من هذا الذي سيقوى على زيارة قبرها؟!!!
إنه -بالكاد -يلتقط أنفاسه ليستوعب فكرة رحيلها…
ورغماً عنه انتابته ذكراها عندما كانت تزور قبر حسن…
كيف كانت تحتمل هذا بكل هذا الجلد؟!!
كم كانت قوية لتفعلها!!!
نعم…كانت قوية…
كانت!!!
الآن لم يعد ينبغي أن يتحدث عنها سوى بصيغة الماضي…
وهي التي كانت الحاضر والمستقبل!!!
وعند خاطرته الأخيرة اشتعلت أعماقه ببركان غضب أسود طمس كل ما سواه…
غضبٍ عمرُه سنوات من صمت لم يزده إلا حرقةً وخزياً…
والآن حان الوقت لتنكشف الحقائق وتتعرى الصور…
ليجد نفسه فجأة يصرخ بانفعال:
_كانت خائنة!!!
انعقد حاجبا جاسم بشك للحظات وهو لا يدرك معنى حديثه…
ثم عاود الاقتراب منه متسائلاً بترقب:
_زوجتك؟!
فنفض فهد غطاءه وهو يقوم من فراشه ليواجهه هاتفاً بالحقيقة التي أخفاها لسنوات:
_بل زوجتك…أنت!!!!
صمت جاسم للحظات محاولاً استيعاب ما يسمع قبل أن ينقض على فهد ممسكاً بياقة منامته ليهتف بغضب:
_اخرس أيها الحقير!!!هل ستخوض في شرف والدتك أيضاً؟!!
لكن فهد خلص نفسه منه ليلوح بذراعه وهو يهتف بغضب أكبر:
_شرف والدتي؟!!طوال هذه السنوات وأنا أحتمل وحدي الوزر كي لا أشوه صورتها بعينيك؟!!ألم تسأل نفسك مرة واحدة طوال هذه السنوات عن حقيقة ما حدث؟!!أنا الذي لم أشرب الخمر في حياتي كيف فعلتها ليلتها؟!!هي التي زعمت أنها ستبيت لدى أقاربها لماذا كانت في المنزل تلك الليلة؟!!لماذا صرفت هي الحارس ذاك اليوم وأعطته إجازة؟!!!رصاصاتي التي اخترقت جسدها كيف لم تُصب ملابسها الكاملة؟!!!
اتسعت عينا جاسم بصدمة وهو ينتبه لما قاله له المحققون منذ سنوات بخصوص هذه” النقطة الأخيرة “بالذات!!!!
وقد انتبهوا لهذه الحقيقة لكنه استغل نفوذه وماله وقتها ليشتري ضمائرهم فيتكتموا على هذه الحقيقة حتى يخمد الأمر ولا تكون فضيحة…
لكنه وقتها لم يتصور الأمر هكذا…
لقد ظن أن فهد نفسه ربما هو الذي اعتدى عليها تحت تأثير الخمر…
هذه الفكرة التي أثارت جنونه لكنه لم يجرؤ حتى على إعادة التفكير فيها بينه وبين نفسه …
فما باله بالسؤال عنها؟!!!
وهذا يفسر الحقد الذي أضمره لابنه الوحيد طوال هذه السنوات…
لكنه لم يتصور ولو في أسوأ ظنونه أنها هي التي كانت تخونه…
لا…لا…مستحيل!!!
انقطعت أفكاره عندما عاود فهد هتافه الحاد :
_نعم…كانت خائنة…رأيتها بعيني ليلتها مع رجل آخر ….على فراشك …فراشك الذي كنت تبكيها كل ليلة عليه بعدها!!!!
هنا هوت صفعته على وجه فهد مع صرخته الهادرة:
_اخرس!!!
لكن فهد لم يكترث بل استمر على هتافه الذي بدا وكأنه نزيف روحه:
_لا…لن أخرس بعد…كانت خائنة…خائنة…تلك التي رميت ابنتك على قارعة الطريق من أجلها كانت خائنة…فافرح بصفقتك الخاسرة يا سيد جاسم…بعت ابنتك التي من دمك لأجل من لطخت شرفك في الوحل!!!
انقض عليه جاسم وقتها ليمسك بتلابيبه صارخاً بثورة عارمة:
_اخرس أيها المجنون!!!يبدو أن هذه الأدوية أثرت على عقلك!!!إياك أن تتفوه بكلمة عن هذا الأمر بعد وإلا ألقيتك في مصحة عقلية ما بقي لك من عمر…هل تفهم؟!!!
قالها ثم دفعه بعنف ليسقط على ظهره على الفراش قبل أن يردف بنفس الثورة:
_لم أعد أريد أن أرى وجهك أيها ال(……)…ولن تحصل على قرش من مالي لا في حياتي ولا بعد موتي!!!
وقد كانت هذه آخر كلماته قبل أن يغادر صافقاً الباب خلفه بعنف…
فظل فهد مكانه على الفراش للحظات يحاول استعادة أنفاسه اللاهثة…
وهو لا يكاد يصدق أنه اعترف أخيراً بالحقيقة التي أخفاها لسنوات…
لكنه ليس نادماً …
لعل جاسم الصاوي الآن يتجرع نفس مرارة الكأس التي تجرعها هو برحيل جنة…
عن أي مالٍ يتحدث ؟!!!وأي حرمانٍ يقصد؟!!!
وهل بعد فقدان جنته خسارة؟!!!
وعندها دمعت عيناه بحسرة اختنقت بها حناياه كلها…فقام من مكانه ليزفر بقوة قبل أن يرفع وجهه لأعلى متأوهاً بألم:
_آآآه يا جنة!!!أي خسارة بعدك هينة !!!
قالها وهو يشعر بحاجته للصراخ …
لتدمير كل ما تطاله يداه…
لتمزيق جسده بيديه لعله يلحق بها!!!
لماذا تركته وحده؟!
هو الشيطان الذي فر من جحيمه إلى جنتها…فلماذا حرمته منها؟!!!
ليهيم الآن وحده كروح شاردة بلا مأوى!!!
جنة رحلت؟!!!
نعم…كان لابد أن ترحل…
روحها الطيبة كانت أجمل من أن تعيش بعالم أشبه بغابة…
رحلت…لكن حبها لن يرحل…
سيبقى بصدره كجمرة نار يستمد منها دفأه تارة…
ويشتعل بحسرتها تارة…
لكنها أبداً لن تنطفئ!!!
========
_فهد؟!!!
هتف بها حسام بدهشة وهو يجده أمامه ببيت والدته جوار حقيبة ملابسه…
فصافحه بقوة مرحباً قبل أن يجذبه للداخل قائلاً بقلق وقد أنبأته هيئة صديقه بكارثة:
_لماذا لم تسافر بعد؟!!ألم يكن من المفترض أن تكون الآن في تركيا مع جنة؟!!
ثم أغلق الباب وهو يجذب حقيبته ليردف بنبرة اعتذار:
_كان من المفترض أن أتصل لأطمئن عليك لكنني انشغلت بوفاة والدي زوجتي.
دمعت عينا فهد وهو يشيح بوجهه مبتلعاً غصة حلقه…قبل أن يتمتم بنبرات مختنقة:
_الموت الذي نظنه بعيداً كالنجوم قد يكون أقرب إلينا من أنفاسنا.
ثم التفت نحوه مردفاً:
_هل يمكنني المكوث لديك هنا لبضعة أيام؟!!
عقد حسام حاجبيه بقلق أكبر وهو يقول بانزعاج:
_ما الأمر يا فهد؟!!هل…
لكن فهد انهار جالساً على أحد الكراسي فجأة ليقاطع عبارته مغمغماً باقتضاب كسير:
_جنة….رحلت!!
تحشرجت حروف كلمته الأخيرة فارتفع حاجبا حسام بصدمة …..
قبل أن يقرأ الفاجعة على ملامح صديقه فتجمد مكانه للحظات …قبل أن يهمس مصعوقاً:
_يا إلهي!!!لا تقل أنه والدك!!!
أومأ فهد برأسه في اقتضاب قبل أن يطرق به هامساً بمحاولة للتماسك:
_لقد تركت له كل شئ …لم أعد أريد منه شيئاً…لن أنسى له ما فعله أبداً ولو كنت أثق أن الأمر سيجدي لأبلغت عنه بنفسي دونما اكتراث لأي شئ…لكنني أعلم أنه لن ينال أي عقاب…سيجد ألف شاهد وألف دليل على براءته…هذا العالم يتسيده من هم مثله ولا عزاء للشرفاء!!
زفر حسام بقوة عقبتها آهة ألم وهو يجلس جواره ليربت على ركبته هامساً بإشفاق:
_لن أسألك عن تفاصيل الآن…تعال لتستريح من عناء الطريق…الشقة السفلية خالية ومجهزة …اعتبرها لك.
أومأ فهد برأسه بلا معنى وهو يتوجه معه باستسلام نحو الشقة التي قصدها…
كان يتحرك بلا وعي كعادته مؤخراً…
ذهنه كان دوماً مكدساً بذكرياته العامرة معها…
لا يستطيع بل -ولا يريد- مغادرتها لأرض الواقع…
لا خير في حياة هي لا تشاركه فيها…
كل شئ بعدها عدم!!!
لكنه أفاق من شروده عندما وضع حسام حقيبته على الأرض جوار فراشه مغمغماً بتفهم:
_نم واسترح الآن…وعندما تستيقظ سيكون لنا حديثٌ طويل.
هز فهد رأسه وهو يتوجه نحو حقيبته ليستخرج منها وسادة ما وضعها على الفراش بحرص قبل أن يستلقي عليه مسنداً رأسه عليها ليهمس بنظرات زائغة:
_هل تظنني سأستريح يوماً يا حسام؟!
جلس حسام جواره على طرف الفراش وهو لا يدري بماذا يجيبه…
هو مصدومٌ مثله بما حدث وإن كان لا يتعجب شيئاً كهذا من جاسم الصاوي….
هو يعلم تماماً أن فهد عند أبيه ليس مجرد ابن…
بل هو استثمارٌ قادم حيث يعده ليصبح خليفته على كل هذه الامبراطورية…
ولم يكن ليسمح لأي أحد أو أي شئ بأن يسلبه هذا الحلم مهما كان الثمن!!!
لكن ما ذنبها جنة؟!!!
وما ذنبه فهد الذي يبدو وكأنه سيلحق بها حزناً؟!!!
نعم…هو أكثر من يتفهم شعور فهد الآن…
ومن سواه يشعر به وهو الذي ذاق مرارة هذا الموقف من قبل؟!!!
يالله!!
وكأن فهد الآن يذكره بنفسه عندما علم بفقده لطيفه….
نفس الحزن الذي لون العينين بلون الدم…
نفس الألم الذي انغرس في الملامح كتجاعيد عمرٍ آخر لن يمحوها الزمن…
نفس انكسار الجبين بهزيمة لن يرفع بعدها راية رجولته أبداً…
ما أشبه الليلة بالبارحة…
وما أشبه جرح صديقه بجرحه القديم!!!!
لهذا ربت على كتفه برفق وبصره معلقٌ بالوسادة التي أحضرها فهد معه ليسأله وهو يعرف الجواب:
_وسادتها؟!
أغمض فهد عينيه وهو يتمتم بحديث أشبه بالهذيان:
_لا أصدق أنه لم يبقَ لي منها سوى بقايا عطر على وسادة!!!كل يوم…بل كل لحظة أحاول أن أقنع نفسي بأنها رحلت ولن تعود…لكنني لا أستطيع التصديق…هي معي يا حسام…بكل تفاصيلها معي…عيناها لا تغادران مخيلتي بآخر نظرة رمقتني بها وكأنها كانت تشعر أنها الأخيرة…أناملها التي تشبثت بساعدي لدقائق طويلة وكأنها كانت ترجوني ألا أتركها…وليتني لم أفعلها…ليتني بقيت معها ليكون عمري كله فداءً لها…بل ليتني استمعت لتهديد والدي ولم أعد إليها…حبي لها قتلها…بل قتلنا معاً!!
تيبست أنامل حسام على كتفه وهو يرى خيطي الدموع اللذين سالا على خدّيه ببطء…
ليبتلع غصة حلقه هو الآخر محترماً دموع صديقه…
عندما يبكي الرجال فهذا يعني أن الوجع أكبر كثيراً من أن يحتمل…
وأي وجعٍ أكبر من أن يفقد المرء حباً هو هويته ووطنه…
وليس هذا فحسب…بل يجد نفسه السبب في هذا؟!!
=======
_قم يا فهد!
هتف بها حسام ببعض الحزم وهو يقف جوار فراشه لكن فهد ظل على وضعه المستكين…
فزفر حسام بيأس وهو لا يدري كيف ينتزعه مما هو فيه…
ثلاثة أيام مرت عليه هنا وهو لا يكاد يغادر فراشه …
هائمٌ في حالٍ غريب بين يقظته ونومه وكأنه لم يعد ينتمي لهذا العالم…
هو يشعر بحجم مصيبته لكنه لن يسمح له بأن يسقط في قاع هذه الهوة السحيقة أكثر…
لهذا هز كتفه برفق وهو يعيد هتافه بحزم أكبر:
_قم يا فهد!!!استيقظ!!
ففتح فهد عينيه الذابلتين ليهمس بخفوت :
_لماذا؟!
تنهد حسام بحرارة ثم جلس جواره قائلاً ببعض الرفق:
_الحياة تستمر برغم أنوفنا…ما تفعله هذا لن يفيدها بعد…هل تظنها كانت لتشعر بالرضا عنك وأنت في حالك هذا؟!!
فغامت عينا فهد بشروده الذي جذبه لذكرى أخرى معها:
_أريدك أن تعدني ألا تعود لطريقك القديم…حتى لو لم أكن معك…فهد لم يتغير لأجلي بل لأجل نفسه…أنا لست ماستك…ماستك الحقيقية هنا…في قلبك…ماستك هي ضميرك الذي عاد يلتمع الآن ببريقه فلا تجعلها تبهت أبداً!!
لتلتمع عيناه ببريق حقيقي من دموع قبل أن يتمتم بصوت متحشرج:
_أريد أن أصلي!
ارتفع حاجبا حسام بدهشة للحظة…ثم هز رأسه بتفهم ليقوم من مكانه قائلاً بحزم:
_قم توضأ وصلَّ…وبعدها سنخرج لتناول الطعام بأحد المطاعم المطلة على النيل.
هز فهد رأسه باعتراض لكن حسام جذبه من ذراعه ليردف بصرامة:
_لن أتركك هكذا حتى تقتل نفسك…يجب أن تخرج من حزنك هذا يا رجل!!!
زفر فهد بحرارة وهو يقف أمامه أخيراً ثم عادت عيناه تغيمان بشرودهما الحزين…
ليصمت للحظات قبل أن يعود لهمسه الشبيه بالهذيان:
_هل تظن أن الله عاقبني بفقدانها على كل ما فعلت؟!!هل هي ذنوبي التي حرمتني منها؟!!
أطرق حسام برأسه دون رد…
عندما أردف فهد بانفعالٍ مشبع بحسرته وكأنه لا يصدق:
_منذ أيام فقط كانت معي…ملء ذراعيّ وقلبي…كيف رحلت …كيف؟!!
ثم خبط بقبضته على صدره مكملاً بنبرة أقرب للصراخ:
_هل هو عقابي يا حسام؟!!لم أكن أظنه سيكون بهذه الشدة!! أنا تُبت…تُبت…فلماذا حرمني الله منها؟!!لماذا؟!!
أمسك حسام كتفيه وقد بدأ يخشى على صديقه الانهيار حقاً…فهتف بنبرته الحازمة:
_استغفر الله يا فهد!!!هو قدرها وقدرنا الذي يجب أن نرضى به!!!يجب أن تكون أقوى من هذا…هيا قم للصلاة لعل قلبك يهدأ…وأنا سأنتظرك بالخارج.
قالها ثم ربت على كتفه مشجعاً قبل أن يجذبه من ذراعه نحو الحمام القريب حيث توضأ فهد بحالٍ أقرب للا وعي…
ثم خرج ليفترش سجادة الصلاة التي تركها له حسام مكانها قبل خروجه…
وبرغم أنه كان يظن أنه سيشرد في صلاته فاقداً تركيزه…
لكنه وجد نفسه على العكس يردد الكلمات بقلبه قبل لسانه…
حتى أنه لم ينتبه لدموعه التي أغرقت وجهه وهو يلقي برأسه على الأرض بعد ختام صلاته …
لم يكن يعرف بماذا يدعو ولا ماذا يطلب…
هو فقط كان يرددها بتضرع من لم تعد له حيلة سواها…
_يارب!!!يارب!!!
لم يدرِ كم ظل يرددها ولا كم مر عليه من وقت…
فقط قلبه كان يغتسل بطهر شعوره بالافتقار إلى خالقه…
حتى شعر ببعض السكينة التي تسربت إليه رويداً رويداً فقام من مكانه ليمسح وجهه…
قبل أن يطوي سجادته ليضعها جانباً…
ثم خرج إلى حسام الذي كان ينتظره بالخارج ليتوجه معه إلى أحد المطاعم هناك…
لكنهما ما كادا يجلسان مكانهما حتى انتبها لبعض الضحكات الصاخبة لبعضهم على مائدة مجاورة مع هتافات مرحة باسم حسام… فلوح لهم حسام بكفه ثم غمغم بأسف:
_عفواً يا فهد…إنهم زملائي في العمل…لن يكفوا عن صخبهم حتى أذهب إليهم…لن أتأخر.
أومأ له فهد برأسه وهو يتطلع إلى صفحة النيل التي بدت هادئة خلف زجاج نوافذ المطعم…
عندما قاطع النادل أفكاره وهو يسأله عما سيطلبه…
فغمغم بشرود:
_قهوة…بدون سكر!!
أومأ النادل برأسه ثم تركه فالتوت شفتاه بابتسامة حنين وتلك الذكرى تراوده…
_لقد أدمنت قهوتكِ…
_قهوتي فقط؟!!!
_قهوتكِ..وطعامكِ…وهج البندق في عينيكِ…وعناد شفتيكِ…سحر كلامكِ…وصخب صمتك…شعوري كالطفل بين ذراعيكِ…وإحساسي بسكينتكِ أنتِ علي صدري…حاجتي إليكِ…وحاجتكِ ليّ..باختصار…أدمنتكِ كلّك!!
_كلامكِ جميل لكنه لا يساوي شيئاً أمام شعوري بصدقه…أنا امرأة لم تغرّها يوماً كلمات …لكن قلبي طالما كان دليلي في مشوار حياتي كله.
_وماذا يخبركِ قلبكِ عني؟!
_قضية صعبة!!
_سنكسبها يا أستاذة!!
دمعت عيناه بألم خالص مع هذه الغصة التي وجدها في حلقه…
وهو يردد لنفسه…بل خسرنا يا جنة…خسرنا!!!
ثم تنهد بحرارة وهو يقبض كفيه أمامه على الطاولة مطرقاً برأسه…
عندما شعر بكف صغير يربت على ذراعه…توجه ببصره نحوها ليجدها طفلة صغيرة بثوب أزرق تحتضن دميتها…
فابتسم بحنان وهو يحملها ليجلسها على ساقيه هامساً:
_ما اسمك يا جميلتي؟!
ضحكت الصغيرة بفخر وهي تهتف ببراءة:
_ملك!!
اتسعت عيناه بدهشة للحظة ثم ضمها إليه أكثر ليهمس بتأثر:
_يالله!!!اسمكِ جميل مثلك!!!
ثم أبعدها برفق لينظر لوجهها الصبوح مردفاً:
_ماذا كنتِ تريدين؟!!
ابتسمت ابتسامة ملائكية وهي تربت على وجنته بكفها الصغير لتهمس ببراءة:
_لا أريد شيئاً…رأيتك حزيناً فجئت لأربت على ذراعك.
دمعت عيناه رغماً عنه وهو يعاود ضمها بقوة هامساً بشرود :
_تعلمين؟!!يوماً ما كنت سأحظى بطفلة مثلك ….
فرفعت وجهها الصغير إليه لتهمس بفضولها البرئ:
_وماذا حدث؟!!
أغمض عينيه بألم وهو يهمس بنبرة كسيرة:
_رحلت!!
ولم يكد ينطقها حتى تركت دميتها لتضمه بذراعيها الصغيرين وهي تقبل وجنته بقوة هامسة:
_لا تحزن!!!
_فهد!!!
انتفض مكانه عندما سمع صوت حسام جواره ففتح عيني…
ثم تطلع بدهشة إلى ذراعيه الخاليين …
قبل أن يقف متلفتاً حوله وهو يهتف بذهول:
_أين ذهبت؟!!
تلفت حسام حوله بدوره متسائلاً:
_من هي؟!!
زاغت عينا فهد وهو يغمغم باضطراب:
_ملك…كانت هنا…طفلة صغيرة كانت هنا الآن بين ذراعيّ!!!
انعقد حاجبا حسام بقلق وهو يرمقه بنظرات مشفقة…
هو يراقب شروده منذ غادره ويدرك أنه كان أسير تخيلاته…
لهذا ربت على كتفه برفق ثم أجلسه قائلاً بحزم:
_اجلس الآن فقط!!!
جلس فهد وهو لازال يشعر بالاضطراب وعيناه تجوبان المكان بحثاً عن طفلة خياله…
فهز حسام رأسه بأسف على حال صديقه ثم قال بنبرة رفيقة على قوتها:
_يجب أن نفكر الآن فيما ستفعله في حياتك القادمة…لا يُعقل أن تستسلم لحزنك هكذا.
زفر فهد بيأس عندما أردف حسام بلهجة حاسمة:
_ستقيم معي هنا…وسأجد لك عملاً مناسباً…لن يخرجك من حزنك سوى هذا.
ابتسم فهد بمرارة وهو يغمغم بفتور:
_أي عمل هذا؟!!
اقترب حسام منه بجذعه ليجيبه بحزم:
_ألا تريد الانخلاع عن عباءة أبيك؟!!ستعمل بشهادتك كأي شاب في ظروفك…لا تقلق ..أنا…
انقطعت عبارته عندما رن هاتفه فتناوله ليجيب المتصل…
قبل أن تلتمع عيناه بلهفة ممتزجة بالظفر وهو يغلق الاتصال بكلمات مقتضبة…
ثم التفت نحو فهد هاتفاً بحماس:
_عصفورين بخبطة واحدة!!!لا أكاد أصدق نفسي….طوال هذه الفترة وأنا أبحث عنه حتى عاد إلى المدينة أخيراً!
انعقد حاجبا فهد بتساؤل عندما ابتسم حسام ببعض القسوة وهو يقول بشرود:
_لن تصدق!!!!سرحان الجندي…الرجل الذي كان يعمل مع والدك وأخفى سر أختك هو نفس الرجل الذي أشك أنه وراء إحراق منزل طيف بأوامر من عاصي الرفاعي.
فاتسعت عينا فهد بصدمة وقد عادت إليهما الحياة قبل أن يهتف بلهفة هو الآخر:
_وجدته؟!
هنا التفت نحوه حسام من شروده ليضم قبضته أمام وجهه قائلاً بحزم قاسٍ:
_لن يمر اليوم حتى أعرف منه الحقيقة كلها!!!
========
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)