روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم نرمين نحمد الله

موقع كتابك في سطور

رواية ماسة وشيطان الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان البارت الثاني والثلاثون

رواية ماسة وشيطان الجزء الثاني والثلاثون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الثانية والثلاثون

_ألم تعثر على حبيبة القلب بعد؟!
هتفت بها يسرا بنبرتها المستفزة وهي تراقب شرود فهد عبر نافذته…
فالتفت نحوها من شروده بزفرة مشتعلة…
لتقترب هي منه مردفةً بدهشة لا تخلو من تقريع:
_شهران مرا على وفاة عمي جاسم ولازلت عاجزاً عن الخروج من قوقعتك هذه!!!
أطرق برأسه دون رد للحظات…
قبل أن يرفعه نحوها ليقول بحزم:
_من قال هذا؟!أنا أخذت قراراتي في كل ما يتعلق بحياتي القادمة!
اقتربت منه أكثر وهي تتفرس ملامحه بتفحص …
عندما أردف هو بنفس الحزم:
_سأرد كل حق أعرفه إلى صاحبه …لعل هذا يخفف من أوزار أبي -رحمه الله- ….وما بقي لي أنا وماسة سأقسمه بيننا …سأستغل نصيبي في بدء عمل جديد بعيد تماماً عن نشاط أبي السابق.
اتسعت عيناها بصدمة للحظة قبل أن تهتف باستنكار:
_أنت مجنون؟!أي حقوق هذه التي تريد ردها لأصحابها؟!أنت تتحدث في مليارات …هل ستتخلى عنها بهذه البساطة لتبدأ من جديد؟!
تنهد بحرارة وهو يشيح بوجهه عنها ليعاود شروده في النافذة مع قوله بألم:
_هذه المليارات التي تتحدثين عنها لم تشفع لأبي في النهاية…لم تخفف عنه مثقال ذرة من ألم في مرضه الأخير…عاش عمره يجمعها حراماً ليستعر بنيرانها في النهاية…فمن بنا العاقل ومن المجنون؟!
هزت رأسها بعدم اقتناع وقد ساءها تخليه عن ثروته بهذه البساطة لتعود تهتف بمكابرة:
_دعك من هذه المثاليات التي لا تسمن ولا تغني من جوع…اعترف أن كلامك هذا ليس من رأسك…هل هذا ما بقي لك من أفكار حبيبة القلب الغادرة التي سممت عقلك قبل أن تهرب منك؟!!
انعقد حاجباه بغضب وهو يشعر بالندم لأنه صرح ليسرا بما عرفه عن وجود جنة على قيد الحياة…
لكنه لم يستطع وقتها إلا أن يفعل…
كان كالمجنون وهو يدرك فجأة أي شرك وقع فيه بسذاجة عندما صدق قصة موتها الملفقة!!!
لقد حاول بعد وفاة أبيه جمع أي معلومات من رجاله عن جنة لكنه لم يصل لشئ!
حتى حسام عجز عن مساعدته هذه المرة فلم يستطع العثور على طرف خيط خاصة وقد سافرت هي باسم مستعار لا يعرف عنه شيئاً!!!
للأسف…الأمل الآن أن تظهر جنة من تلقاء نفسها !!!
وظنه أنها ستفعلها قريباً!!!
جنة التي يعرفها لن تفعل شيئاً كهذا غدراً ولا ظلماً…
من المؤكد أن لها أسبابها وهو لن يهدأ حتى يعرفها…
لكن مهما كانت مبرراتها فهو لن يسامحها على ما ناله -هو- بسببها…
على حرقة قلبه طوال هذه الأشهر وهو يظنها فارقت الحياة…
بل وبسببه!!!
فليعثر عليها أولاً …وبعدها سيريها كيف يكون ثأره ثمناً لهذا العذاب الطويل!!!
لكن يسرا عادت تقطع عليه سيل أفكاره بعبارتها المستفزة:
_تفعل كل هذا لأجل واحدة خدعتك لتهرب منك؟!
_بل لأجل نفسي!!
هتف بها بنبرة حاسمة وهو يعاود الالتفات إليها قبل أن يردف بصدق:
_لأجل نفسي يا يسرا…نفسي التي وجدتها على طريق الحق ولن أضيعها ثانيةً بين متاهات الضلال…
ثم صمت لحظة ليردف بنبرة أكثر حسماً:
_أما جنة…فسأجدها…ولن أحكم عليها حتى أسمع منها…ساعتها فقط سأقول كلمتي بشأنها!
==========
إهداء
_إلى “شبه” رجل نظر في مرآته فظن نفسه رجلاً…
ولو نظر في مرآتي لأدرك الفارق!!!
قرأتها زهرة في المطعم -الذي صار محل اجتماعهن معاً -بصوت مسموع على خاتمة رواية طيف الجديدة…
فضحكن جميعاً بصوت مسموع عدا جنة التي أشاحت بوجهها دون رد…
عندما سألت ماسة طيف باهتمام:
_لمن هذا الإهداء يا طيف؟!يبدو مقصوداً!
ثم صمتت لحظة لتردف ببعض الحرج:
_ألا ترينه غريباً بعض الشئ؟!
ضحكت طيف ساخرة وهي تستخرج إحدى سجائرها من علبتها قائلةً:
_لو كان بيدي لعممتها على جميع الرجال…لكن ما باليد حيلة!
هنا ضحكت ماسة ببعض المرح لتقول مدافعة:
_لا…ليس كل الرجال سواء…أخي كاد يموت حزناً على زوجته الأولى وظل مخلصاً لها…ورغم أن الظروف اضطرته لزواج ثانٍ لكنه لم يمس الأخرى وفاءً لحبيبته.
فضحكت طيف ضحكة ساخرة طويلة قبل أن تمط نهايات كلماتها بحركة مقصودة مع قولها باستهجان:
_الظروووووف اضطرته ؟!!ولم يمسهاااااا؟!!المسكيييييييين!!!!!
ثم صمتت لحظة وهي تلوح بسبابتها في وجه ماسة مردفة بتهكم:
_أخوكِ هذا إما أنه يكذب عليكِ أو أنه كائن فضائي هبط على كوكبنا بالخطأ!
ضحكن جميعاً بصخب رغم أن عبارتها أثارت شجن جنة وهي تشعر بهذا الحديث يؤجج ظنونها بشأن فهد مع يسرا…
لكنها عادت تتحسس بطنها بأمل وهي تدعو الله صامتة أن يحفظه لها حتى تعود إليه بابنته!!!
فيما أشعلت طيف سيجارتها لتأخذ منها نفساً عميقاً قبل أن تنفثه مع عبارتها التي غلبها فيها شرودها:
_آه…!!!من يقول أن ابنة “أم طيف” التي كانت تنام على الأرصفة دون عشاء..تجلس الآن في أفخم مطاعم “أبو ظبي “تشرب سيجارتها بتلذذ وتسب الرجال كما تشاء!!
تبادلن جميعاً نظرات متفاوتة بمشاعرها…
كانت أقواهن فيها جنة التي لم يعجبها هذا الوضع فقالت ببعض الصرامة:
_أحسني حمد الله على نعمته إذن بدلاً من هذا التمرد.
عادت إليها طيف بنظراتها المشتعلة…لكنها أردفت بغضب حقيقي هذه المرة:
_وأطفئي هذه اللعينة وإلا سأقوم!
تنمرت ملامح طيف بعناد فضح رفضها لكن ماسة حاولت تلطيف الأجواء بقولها لطيف:
_لأجل طفلها يا طيف…أنتِ تعلمين أن …
قطعت عبارتها عندما أطفأت طيف سيجارتها بحركة قوية في منفضة السجائر القريبة وهي ترمق جنة بنظرة ساخطة…قبل أن تقول باعتداد:
_حسناً…لأجل ظروف حملك فقط…أنا “صعيدية” وأفهم في الأصول!!
_صعيدية؟!!
هتفت بها دعاء بدهشة وهي تتفحص ملامحها باهتمام مع قولها الودود:
_وأنا أيضاً…من أي بلدان الصعيد أنتِ!!
وهنا اتسعت عينا ماسة بصدمة وطيف تذكر اسم المدينة ببساطة…
ثم التقت عيناها مع دعاء بنظرات ذات مغزى…
قبل أن تشير -الاثنتان -بسبابتيهما نحوها مع هتافهما المذهول معاً في نفس الوقت:
_أنتِ طيف؟!!
أجفلت طيف من ردة فعلهما المتطرفة…
فعادت برأسها للوراء في حذر وهي ترمقهما بتشكك قبل أن ترفع أحد حاجبيها مع قولها:
_ماذا؟!هل صرت مشهورة هكذا؟!
ظلت الصدمة تكسو ملامح ماسة ودعاء للحظات بعدها قبل أن تهتف الأخيرة بتشتت:
_حقاً…الدنيا ضيقة كما يقولون…
ثم عادت تشير نحوها بسبابتها في حركة عصبية مع استطرادها:
_أنتِ طيف؟!!يالجبروتك!!!لم أصدق ماسة عندما أخبرتني بخطتك الجهنمية التي دبرتها مع عاصي وانطلت على حسام…كنت أسأل نفسي دوماً عن طبيعة تلك المرأة التي استطاعت خداع رجلين كعاصي الرفاعي وحسام القاضي!!!
ثم هزت رأسها مع ابتسامة شاحبة رافقت قولها:
_والآن عرفت!!
ضاقت عينا طيف بنظرات مشتعلة وهي تقول من بين أسنانها:
_حسام القاضي!!!من أنت بالضبط؟!
راقبت جنة الحوار بعينين حذرتين …
فيما اكتفت حسناء بابتسامتها العابثة …
بينما بدت زهرة -المنبهرة دائماً- كمن يشاهد فيلماً سينمائياً ثلاثي الأبعاد!!!
عندما اتسعت ابتسامة دعاء لتتحول لضحكة ساخرة مع قولها:
_زوجته!!
_ماذا؟!
هتفت بها طيف بانفعال وهي تخبط بكفها على المائدة بحركة عصبية لفتت إليهما أنظار الحضور…
فتراجعت دعاء بظهرها وهي ترفع راحتها أمام وجهها لتقول مدافعة:
_كنت!!
أطلقت حسناء ضحكة عالية وقد شعرت بطرافة الموقف…
فرمقتها طيف بنظرة زاجرة ثم عادت ببصرها نحو دعاء صامتة للحظات…
قبل أن تستعيد ثباتها وابتسامتها الساخرة مع قولها:
_الآن فهمت….إذن هو ذاك “النذل خائب الرجا” الذي حكيتِ لنا عنه من قبل….من تخلى عنكِ في محنتك بمنتهى الصفاقة!
ثم شردت ببصرها لتردف بسخرية مريرة:
_لا فائدة…النذالة في دمه!!
ترددت دعاء للحظات ولازالت الصدمة تزلزل وعيها…
ثم حسمت أمرها أخيراً لتقول بحزم:
_لا يا طيف…سأقول ما له وما عليه…أنتِ دمرت حسام بفعلتك هذه…أي قسوةٍ امتلكتِها كي تفعلي به هذا؟!لقد جعلتِه يعيش بذنبك طوال هذه الأيام وهو يرى نفسه السبب في انتحارك…
_ذنب؟!وهل يعرف مثله الشعور بالذنب؟!
هتفت بها طيف بحقد وشا بمدى جرحها وهي تهب واقفةً مكانها…
وذهنها يستعيد ذكرياتها التي طمستها معه قهراً…
ليستعيد قلبها الشعور بطعنة غدره وكأن دماءه لا تزال رطبةً على راحتيها!!!
فيما هتفت دعاء بانفعال:
_لقد سجن نفسه طوال هذه الأيام بين ذكرياته معك…ثوب الزفاف الذي رسمته أناملك جعله حقيقة لألبسه أنا…عقد الفل الذي تمنيتِ تزيين رأسكِ به لم يغادر خزانة ملابسه …ندبتك التي تركتِها في قلبه صارت بصمة مميزة لقسوته مع الجميع وعلى نفسه أولاً…
ثم هزت رأسها لتقول باستنكار:
_لا أدري أي عشقٍ أسود هذا الذي جمع بينكما لتنتهيا معاً بهذا التشوه؟!!
هنا انهارت طيف جالسةً على مقعدها وقد أبت أن يظهر شئٌ من تأثرها على ملامحها الجامدة…
لكن ارتجافة أناملها فضحتها وهي تقول بنبرة لم تفقد صلابتها:
_هو الذي أخبركِ بهذه التفاصيل؟!
صمتت دعاء دون رد وهي تطرق برأسها…
فأردفت طيف بنفس النبرة:
_ماذا كنتِ تنتظرين مني بعد صفعته لي؟!أن أدير له خدي الآخر؟!لا …لست أنا…علمتني الأيام أن الصفعة ترد بعشرٍ وأكثر!!
ثم رفعت أنفها لتقول باعتداد:
_لست نادمة…هو كان يستحق كل هذا العذاب…وأكثر!
أشاحت دعاء بوجهها في اعتراض وقد آلمها كل هذا الموقف بقسوته…
لم تتصور يوماً أن تلتقي ب”طيف حسام” وجهاً لوجه…
وليتها ما فعلت!!!
ليتها ما رأت كيف يحولنا الانتقام لمسخ مشوه ربما لا يقوى صاحبه نفسه على النظر إليه!!!
لكن طيف استعادت تماسكها كاملاً بسرعة تحسد عليها وهي تعاود سؤالها بحذر:
_المهم…دعكِ من ذاك البائس وأخبريني…من أين تعرفين عاصي الرفاعي؟!
_عاصي زوجي أنا!
قالتها ماسة بنبرة ثابتة وهي تواجه طيف بنظراتها القوية…
قبل أن تردف بخفوت:
_وهو الذي أخبرني بالحقيقة كلها!
فابتسمت طيف بسخرية وهي تتلاعب بحزام حقيبتها بحركة عصبية مع قولها المتهكم:
_يالله!!!!ما هذا اليوم اللطيف؟!لولا أنني أعرفكما من زمن لقلت أنه “برنامج مقالب “وأنا بطلة الحلقة!!!
رمقتها ماسة بنظرة طويلة وقد أدركت أن سخريتها السوداء هذه تخفي جرحاً كبيراً…
ولا تدري لماذا شعرت في هذه اللحظة بالذات أنها تشبه عاصي كثيراً…
نفس قناع القسوة الذي يدفن تحته أطناناً من ألم!!!
نفس ستار القوة الذي يتوارى خلفه قلبٌ كسير!!!
نفس غيوم جبروت كثيفة اختفى خلفها قمر الحب مدحوراً!!!
ترى هل تلومهما؟!
أم تلوم الظروف التي دفعتهما لهذا؟!!
لا!!!
لن تلقي باللوم دوماً على الظروف…
ربما لم نختر البدايات لكن النهاية تكون دوماً قرارنا وخيارنا!!!
لهذا عادت تقول لطيف بحزم أقوى:
_عاصي كان يبحث عنك طوال هذه الفترة كي يعوضك عما فات…لكنكِ هربتِ منه بعدما حصلتِ على نصيبك من إرث أبيكِ…فعلامَ تلوميه؟!
هنا عادت طيف تقف مكانها لتقول بقسوة :
_أعطاني حفنة أموال واستنكف أن يعترف بي أمام الناس وكأنني مجرد “كلب أجرب” ألقى إليه عظمة ليصرفه بعيداً…ياللكرم!!
ثم تناولت حقيبتها وهي تردف بنبرة عاد إليها تهكمها:
_عاصي الرفاعي لا يفكر في أحد سوى نفسه…لو كان أفضل من هذا لما وصلتِ أنتِ إلى هنا!!
عقدت ماسة حاجبيها بضيق ودعاء تربت على ركبتها خفية…
فيما ارتدت طيف نظارتها الشمسية باعتداد قبل أن تلوح بسبابتها في وجهيهما قائلة بصرامة:
_لا أريد أن يعرف أحد عن حقيقة وجودي هنا.
ثم رفعت أنفها لتردف بفظاظة:
_بل لا أريد أن أراكما ثانيةً من الأساس…وداعاً!!
قالتها وهي تغادر المكان بخطوات ثابتة تاركةً خلفها سحابةً سوداء من همّ أظل المكان بعد طول صخب…
ليسود الصمت على الألسنة بينما تغلي القلوب على مراجل الوجع !!!
==========
طيري يا طيارة طيري
يا ورق وخيطان
بدي أرجع بنت صغيرة
ع سطح الجيران
وينساني الزمان ع سطح الجيران
_أوقف هذه الأغنية!!
هتفت بها ماسة بانفعال لم يجده هو مبرراً وهي تشير نحو هاتفه بأنامل مرتجفة…
فالتفت نحوها بدهشة مستنكرة أجفلتها للحظات…
قبل أن تغمغم بنبرة اعتذار مرتبكة:
_آسفة يا “دكتور”…لم أقصد …كن على راحتك…سآتيك بعد قليل!
قالتها وهي تعطيه ظهرها لتنصرف…
وقد أشعلت كلمات هذه الأغنية بالذات حنيناً لا يكاد ينطفئ بصدرها…
كيف تنسى أنها أول ما غنته بصوتها أمامه؟!!
كيف تنسى ملامح وجهه وقتها وهو يتأملها كساحرة هبطت عليه من أعالي الجنان لتسكن أرضه؟!!
كيف تنسى عبارته وقتها:
_صوتك يشبهك…قوي رقيق ساحر…لكنه كسير!!
كيف تنسى عتابه المطعم بنكهة- غيرته -وهو ينهاها عن الغناء هناك في الحديقة ساعتها….
قبل أن يجذبها من كفها نحو سطح القصر ليمنحها الحرية كي تفعل ما تشاء هناك ؟!!
كيف تنسى ؟!!
والنسيان في حق رجل مثله “كبيرةٌ “لا تمحوها توبة…
لكنه “فريضةٌ “لا تسقط عن مُستطيع!!!
فما حيلتها ؟!!
ولازال “سيد الأضداد” متكئاً على عرش روحها يبسط هيمنته…
إلا على جواد جامح من كبريائها الذي لم يروضه عشقها بعد!!!
_ماسّة!
بلكنته المميزة نطقها ليخرجها من شرودها فالتفتت نحوه من جديد …
لتلتقي بنظراته الحنون مع أنامله التي امتدت لهاتفه توقف الأنغام …
قبل أن يقول بابتسامته العذبة:
_ها قد توقفت الأغنية…ماذا كنتِ تريدين؟!
احمرت وجنتاها بخجل وقد هُيئ إليها أنه قد قرأ أفكارها بعينيه النافذتين هاتين…
لتتنحنح بارتباك مع غمغمتها بكلمات متقطعة:
_لم أقصد …التدخل…فقط. ..هذه…الأغنية…
ضحكته الصافية المنطلقة قاطعت كلماتها المتعثرة…
ليزداد احمرار وجنتيها مع قوله المرح أخيراً:
_أحب رؤيتك مرتبكة…تبدين مختلفة كثيراً عن تلك الواثقة الحاسمة التي يعرفها الجميع هنا!
ثم لوح بسبابته في وجهها ليردف بنفس المرح:
_طوال عمري كنت مولعاً برؤية الوجه الآخر للعملة.
ابتسمت أخيراً بمرح مشوب بخجلها وهي تطرق برأسها…
فأشار للكرسي أمام مكتبه ليقول بنبرة أكثر جدية :
_والآن اجلسي…وأخبريني ماذا كنتِ تريدين!
امتثلت لأمره صامتة للحظات قبل أن تستعيد تماسكها لتقول بامتنان:
_جئت أشكرك على مساعدتي…ليس فقط لأجل نجاح العملية…لكن لأنك ساعدتني في التكتم على الأمر قدر المستطاع.
نظر إليها نظرة طويلة وكأنه يقرأ دواخلها…
قبل أن يقول بنبرة متسائلة:
_لم يكن الأمر بهذه الصعوبة…لكن ما يحيرني حقاً لماذا تعمدتِ ألا تجري هذه الجراحة هنا في المشفى ؟!ولماذا سعيتِ لإخفاء الأمر بهذا الحرص؟!
صمتت طويلاً دون رد وقد عجزت عن ذكر أسبابها الحقيقية…
أو فلنقل -سببها الحقيقي- فليس لديها غيره!!!
نعم…بالضبط…
عاصي …ومن غيره؟!!
هي -شبه- واثقة أنه يراقبها بطريقة ما ها هنا!!!
ولا تريده أن يعرف شيئاً عن أمر جراحتها هذه!!!
ألم يتخلَّ عنها لأجل الولد…
فليحصل عليه من غيرها إذن!!!
هو لا يستحق أن يكون والد ابنها…
لا يستحق هذه الفرحة أبداً!!!
لهذا أخذت نفساً عميقاً ثم قالت بتحفظ:
_هذه طبيعتي…لا أحب أن يعرف أحدٌ شيئاً عن حياتي الخاصة.
ابتسم بتفهم وهو يراقب ملامحها الجامدة ليقول برفق:
_نعم…لقد لاحظت هذا أيضاً طوال فترة عملك معنا هنا الفترة السابقة…
ثم صمت لحظة ليردف بإعجاب لم يستطع كتمانه:
_صندوق مزخرف بنقوش زاهية…لكنه مغلق!!
ابتسمت لغرابة تشبيهه لتهز رأسها مع قولها ببعض الشجن:
_أنت تعلم أن الناس لا يتركون أحداً وشأنه…ولا أحب أن تكون شئوني الشخصية مثار أحاديث الناس هنا!
_ماسة!
هتفت بها زهرة وهي تدخل من الباب باندفاع لترمقهما بنظرة ملتاعة..
فالتفتت نحوها ماسة وهي تقول بترقب:
_ما الأمر يا زهرة؟!تبدين منزعجة!!!
حاولت زهرة السيطرة على انفعالها الهادر الذي يتملكها -كعادتها- كلما رأتهما سوياً..
لتقول بأقصى ما استطاعته من هدوء:
_عفواً لمقاطعتكما…لكن مريم مريضة…أنتِ تعلمين أنها مريضة “سكر” وحملها يزيد الأمر سوءاً…هي تحتاج لتعليق بعض المحاليل وأنا لدي نوبتجية مسائية اليوم…هلا ذهبتِ إليها بدلاً مني؟!
أومأت ماسة برأسها موافقة قبل أن تعاود التفاتها لجهاد بابتسامة ممتنة:
_حسناً يا “دكتور”….سأضطر للانصراف…أشكرك مرة أخرى!!
منحها جهاد أجمل ابتساماته قبل أن يعاود الانشغال بأوراقه..
فيما رمقته زهرة بنظرة آسفة قبل أن تغادر مع ماسة التي بادرتها بقولها:
_أعطني عنوان مريم…وأنا سأبيت معها الليلة!
أومأت زهرة برأسها وهي تعطيها العنوان بفتور…
لكن ماسة لم تنتبه لهذا وهي تهرول للخروج …
فتنهدت زهرة بحرارة وهي تعاود الالتفات نحو غرفة جهاد بيأس…
قبل أن تعود لعملها…
بينما توجهت ماسة للعنوان الذي معها…
لتفاجأ بحالة مريم السيئة وهي تفتح لها الباب بتهالك رغم محاولتها للتظاهر بالتماسك:
_ماسة!!ما هذه المفاجأة؟!أين زهرة؟!
رمقتها ماسة بنظرة مشفقة وهي تحتضن كتفيها بذراعها لتقول بحنان عاتب:
_ماذا نفعل في عنادك هذا؟!ألم نطلب منكِ كثيراً أن تأتي للإقامة معي أو مع زهرة في شقتها؟!ظروف حملكِ هذه لا تتفق أبداً مع عيشكِ وحدك!!
ابتسمت جنة ابتسامة شاحبة وهي تقول بإعياء واضح:
_حسناً…يبدو أنكما على حق…كانت ليلة صعبة حقاً…حتى أنني خشيت على الطفلة.
قالتها وهي تتحسس بطنها برفق…
فأسندتها ماسة حتى أوصلتها إلى فراشها الذي عاودت الاستلقاء عليه …
قبل أن تبدأ ماسة في تعليق المحاليل على القائم المعدني جوار الفراش…
حتى انتهت مما تفعله…
فجلست جوار جنة على طرف الفراش لتربت على كفها قائلة بحنان :
_لا تخافي…ستكونين بخير!
أغمضت جنة عينيها وهي تكاد تعتصر قماش قميصها فوق بطنها لتهمس بصوت متهدج:
_أخاف عليها هي يا ماسة…أنتِ لا تعلمين بماذا ضحيت لأجلها!!
رمقتها ماسة بنظرة مشفقة طويلة وهي تشعر أنها تخفي سراً كبيراً ومعاناةً أكبر…
ورغم أنها لم تعرفها إلا منذ ما يقارب الشهرين…
لكن اجتماعهن -شبه اليومي- بذاك المطعم جعل المسافات تقصر كثيراً بين القلوب…
وكما حكت لهن ماسة عن حكايتها مع عاصي بينما تحفظت عن ذكر جاسم الصاوي…
احترمت بتفهم كبير تحفّظ مريم هي الأخرى عن ذكر أي شئ يتعلق بحياتها الخاصة…
ولو أنها لم تنكر سر هذه الألفة التي كانت تشعر بها نحوها هي بالذات…!!!!
لهذا عادت تربت على كفها برفق قائلة :
_لا بأس…ستنسين كل هذا التعب عندما تتلقفينها بين ذراعيك…لترينها بعينيك أجمل طفلة في العالم.
ثم صمتت لحظة لتسألها بمرح محاولةً التخفيف عنها:
_هل فكرتِ في اسم لها؟!
هنا فتحت جنة عينيها ببطء لتبتسم بشرود مع همسها:
_والدها أسماها منذ زمن بعيد…”ملك”!
ابتسمت ماسة وهي تلاحظ ذاك الحزن الذي ارتسم بعيني رفيقتها مع عاطفة التمعت كالشمس في عينيها…لتقول بمواساة:
_يبدو أنكِ تحبينه كثيراً…لن أسألكِ عن تفاصيل شخصية ربما لا تحبين الإفصاح عنها…لكنني أدعو الله بحق أن يجمعكِ به قريباً.
_يارب يا ماسة…يارب!
همست بها جنة بحرارة قبل أن تغلق عينيها مستسلمة لإعيائها الذي أسلمها لنوم طويل…
فتنهدت ماسة بحرارة وهي تراقب ملامحها بقلق مشوب بحنانها…
قبل أن تقوم من مكانها لتتمدد جوارها على الفراش الآخر وعيناها تراقبان المحلول المعلق باهتمام…
قبل أن تنسحب منها أفكارها عنوة لمنطقة بعيدة…
لا…للعجب لم تكن لعاصي هذه المرة!!!
بل…ل”جهاد”!!!
ذاك الرجل الذي ساعدها كثيراً منذ جاءت إلى هنا…
وطوقها بمعروفه الذي بدأ بمساعدتها في العمل..
وانتهى بأن كان سبباً في علاجها!!!
ولأول مرة تنتبه أن “جهاد” يمثل “النقيض” لصفات “عاصي”!!!
مثاليته وتواضعه وإيمانه…أمام غرور عاصي وجبروته…
مرحه المناسب لصغر سنه…أمام وقار عاصي الذي يصل لحد الغموض كثيراً…
تلك الهالة المضيئة المحيطة دوماً به كملاكٍ رحيم…أمام قسوة عاصي التي جعلت الجميع يمنحونه بجدارة لقب “شيطان “!!!
غريب!!!
وكأنما يمثل كل رجلٍ منهما نصفاً عكسياً من اللوحة!!!
أحدهما أبيض…والآخر…أسود!!
وعند خاطرها الأخير هزت رأسها بعنف وهي تنهى نفسها عن التفكير في هذا الأمر أكثر…
لتنتبه للمحلول الذي كاد ينتهي تقريباً…
فقامت من مكانها لتنزع العبوة الفارغة وتضع أخرى مكانها…
لتعاود بعدها الجلوس على فراشها تنتظر انتهاء هذه الليلة …
وبعدها بساعات كان الصباح قد أشرق على الدنيا…
فتثاءبت بإرهاق ثم قامت لتوقظ جنة برفق هامسةً :
_قومي يا مريم…أريد أن أقيس لكِ نسبة “السكر” حتى نطمئن!
فتحت جنة عينيها وهي تشعر بالكثير من التحسن…
فقامت من نومتها وهي تقول بامتنان:
_شكراً يا ماسة…أتعبتكِ معي.
لكن ماسة ابتسمت لها بحنان لتقول بصدق:
_المهم أننا اطمأننا عليكِ.
وبعدها بقليل كانتا تقفان في شرفة الشقة الصغيرة تتبادلان الأحاديث بود…
عندما سألت جنة ماسة باهتمام و”زهرة هي من تشغل بالها الآن”:
_ما رأيك في دكتور جهاد؟!
التفتت نحوها ماسة بحدة وقد أزعجها السؤال لسبب لم تشأ الاعتراف به…
فابتسمت جنة بما يشبه الاعتذار مع قولها:
_مجرد ثرثرة!!
تنهدت ماسة بحرارة ثم قالت بشرود متشح بالغموض:
_أحياناً أشعر أنني محظوظة حقاً…رغم أن القدر بدا وكأنه يحرمني أبسط حقوقي…لكن عطايا السماء لم تنقطع عني يوماً…وكأن القدر الذي كان يمنعني بيد …كان يمنحني باليد الأخرى.
عقدت جنة حاجبيها بقلق وقد أساءت تفسير كلمات ماسة ….
ماسة التي كانت غافلةً عما فهمته جنة وهي تردف بنفس النبرة الغامضة:
_دكتور جهاد ساعدني كثيراً هنا…شخصية جديرة بالاحترام حقاً.
أطرقت جنة برأسها للحظة قبل أن تسألها مباشرة دون مواربة:
_ماسة…هل يتعدى الأمر معك حدود الامتنان والاحترام؟!
صمتت ماسة للحظات تفكر…
قبل أن تنفرج شفتاها وهي تهم بالرد عندما حانت منها التفاتةٌ نحو العصفورين هناك…
فابتسمت بسعادة وهي تتوجه نحوهما لتقول بمرح:
_ياللجمال!!!كم أعشق العصافير!!
_فهد وجنة!!
قالتها جنة بابتسامة شاردة وهي تعقد ساعديها أمام صدرها…
فتجمدت ماسة مكانها للحظات وقد كان للاسمين معاً دويٌ هائل في أعماقها!!!
_فهد وجنة!!!
_مريضة سكر!!!
_هل رأيتكِ من قبل؟!!
_شحوب وجه جاسم الصاوي مع قوله:
_لماذا الإمارات بالذات؟!!
_خريجة حقوق!!!
_فهد وجنة!!!
_جنة!!!!!
_جنة!!!!!!
كانت هذه الومضات تتوالى تباعاً في ذاكرتها لتلتمع الحقيقة فجأة في ذهنها…
الآن تذكر أين رأتها…
فهد أراها صورتهما معاً ذات يوم لكنها لم تنتبه لهذا!!!
يالله!!!
سبحانه يدبر الأمر!!!
طوال هذه الأيام وهو يكاد يجن بحثاً عنها وهي هنا جوارها هي!!!
أخيراً يا فهد…
عثرنا على جنتك المفقودة!!!
لكن…لماذا فعلت جنة هذا؟!!
_أخاف عليها هي يا ماسة…أنت لا تعلمين بماذا ضحيت لأجلها!!!!
اذن هذه هي الحكاية!!!!
جنة خافت على جنينها من بطش جاسم الصاوي الذي كان سينالها مع فهد إن آجلاً أو عاجلاً…
فآثرت الابتعاد حتى تطمئن!!!
معها حق!!!
لكن…فهد!!!
فهد يجب أن يعرف!!!
_ماسة!
هتفت بها جنة تنتشلها من صدمتها وهي تقترب منها -غافلةً عما يدور برأسها -لتقول بنبرة عاتبة:
_هل تتهربين من السؤال؟!
_أي سؤال؟!
تمتمت بها ماسة بتشوش حقيقي وهي تعاود النظر إليها بتفحص…
فابتسمت جنة وهي ترفع أحد حاجبيها بنبرة محذرة:
_جهاد يا ماسة!
ظلت ماسة تنظر إليها لدقيقة كاملة لا تكاد تعي ما تقوله هي…
حتى سألتها أخيراً :
_متى غادرتِ مصر يا…..مريم؟!
عقدت جنة حاجبيها بدهشة من توقيت السؤال …
قبل أن تهز كتفيها لتجيب ببساطة:
_سبتمبر الماضي…. لماذا؟!
هنا ابتسمت ماسة ابتسامة واسعة وهي تحتضنها بقوة أمام نظراتها المندهشة…
ثم ربتت على بطنها البارز بحركة حانية…
قبل أن تقول لها بغموض:
_سأعد لكِ مفاجأة هائلة ستشكرينني عليها.
أمالت جنة رأسها بتساؤل…
لكن ماسة توجهت نحو الباب لتنتزع حقيبتها بسرعة مع قولها المتعجل:
_تذكرت أمراً هاماً يستدعي رحيلي..سأعود إليكِ بعد قليل….سلام!
قالتها وهي تصفق الباب خلفها بعنف لتغادر…
فهزت جنة رأسها ولم يسعفها ذكاؤها بتفسير لتصرفها إلا مجرد هروب من سيرة “جهاد” الملغمة!!!
بينما هبطت ماسة الدرج بسرعة ولم تكد تصل لمدخل البناية…
حتى تناولت هاتفها لتتصل به وما إن سمعت صوته حتى هتفت بسعادة:
_وجدتها يا فهد..وجدت جنة!!!
===========
سمعت رنين الجرس فتحاملت على نفسها لتقف عندما عاودها الدوار المصاحب لانخفاض ضغطها…
لاريب أنها ماسة أو زهرة جاءتا تطمئنان عليها….
سارت بخطوات متعثرة نحو باب الشقة لتلتقط وشاحها العريض مغطية به نصف جسدها العلوي قبل أن تفتح الباب لتصطدم بنظراته القاسية…
هيئ إليها أن قلبها قد توقف عن النبض للحظات…
قبل أن يعاوده جنون دقاته بثورة بثت ألماً حقيقياً بين ضلوعها…
فهد!!!
هل هو فهد حقاً؟!!
أم أنه حلمٌ جديد من أحلامها -التي لا تنتهي- به؟!!
نعم…إنه…هو..هو…!!!
وكأن الشهور لم تمرّ…
وكأنها منذ دقائق فقط كانت…على صدره!!!
ازداد شعورها بالدوار وهي بالكاد تتحامل على نفسها لتحافظ على ثباتها…
ليرتجف جسدها أكثر مع همستها التي انفلتت باسمه بحرارة شوقها إليه:
_فهد!
فيما اقترب هو ببطء ليدخل ويغلق الباب خلفه وعيناه لا تحيدان عن عينيها بنظرة مظلمة أهلكت قلبها ترقباً…
خاصةً عندما همس أخيراً بنبرة جامدة:
_جيدٌ أنكِ لازلتِ تذكرين!!
انفرجت شفتاها وكأنها تبحث عن كلمات لكن صدمتها ألجمتها…
عندما هوت صفعته العنيفة على وجهها فجأة لتدمي شفتيها…!!!!
كتمت صرختها بكفها وهي تتحاشى النظر إليه…
فلم يشعر بنفسه وهو يجذبها نحوه ليطوقها بذراعيه بعنف يعتصرها اعتصاراً جعلها عاجزةً عن منع تأوهاتها…
وبينما كانت قبضتاه على ظهرها توسعانها ضرباً …
كانت شفتاه على وجهها في وادٍ آخر!!!
كانت يداه تنفسان عن غضب يحرق صدره كبركان…
بينما بدت قبلاته وكأنها تعتذر…
تعاتب…
تشرح..
وتفسر…
وتقسم أنها لازالت على العهد!!
هو لم يكن يفهم مشاعره….
لكنها هي -للعجب- كانت تفهمه!!!
نعم…رغم أنها كانت غائبةً تماماً عن شعورها وكأنها فجأة فقدت إحساسها إلا به …
هو فقط!!!
لحظاتٌ مرت عليها كغريقة تجاهد فقط للوصول لسطح الماء …
تريد فقط أن تتنفس…
أن تدرك…
أن توقن فقط أن هذا حقيقي!!!
قبل أن يعود إليها إحساسها تدريجياً بهذا الألم الذي اكتسح جسدها تدريجياً بفعل ضرباته…
لكنها عجزت عن التأوه مع اعتقاله لشفتيها بين شفتيه فيما بدا كقبلة…
لكنه كان أشبه بإعصار!!!
بينما كان هو أبعد ما يكون عن تحكمه في أي شئ!!!
رغم سابق حديثه مع نفسه بالتريث…
ونصائح ماسة له قبلها أن يسمعها أولاً…
لكنه الآن يجد نفسه وكأنه فقد السيطرة على جسده…
على قلبه…
على روحه…
على دمعه الذي امتزج بدموعها وبشرته تلاصق بشرتها …
وجسده يضمها فيما لا يدري إذا كان عناقاً أو معركة!!!
حتى شعر بها تتهاوى بين ذراعيه أخيراً فاقدةً ثباتها…
سقطت على ركبتيها…
لكنه لم يفلتها بل ظل ملتصقاً بها ليسقط على ركبتيه هو الآخر…
قبل أن يبتعد بوجهه عنها أخيراً ليهمس وسط أنفاسه اللاهثة :
_لماذا؟!!لماذا؟!!لماذا؟!!
كانت وتيرة صوته تزداد انفعالاً كل مرة حتى وصلت حد الصراخ في آخر مرة…
ليردف بثورة عارمة:
_امنحيني سبباً واحداً ل…
انقطعت عبارته وعيناه تصطدمان أخيراً ببطنها البارز أمامه…
لتتسمر نظراته عليه لدقيقة كاملة…
قبل أن يرفع عينيه إليها أخيراً ليهزها بين ذراعيه بعنف هاتفاً بصوت متهدج:
_مَلَك؟!مَلَك…صحيح؟!!قولي أنها هي!!!
كانت عاجزة عن الرد مع كل هذا الانفعال والألم…
فاكتفت بإيماءة ضعيفة…
ليهز هو رأسه بانفعال وقد عجز عن الكلام…
بل عن التنفس!!!
جنة لم تعد وحدها…عادت إليه مع “مَلكه” تماماً كما كان يرى في حلمه…
والآن …ماذا يفعل؟!!!
هل يضحك؟!
هل يبكي؟!
يحتضنها؟!
يضربها؟!!
من جديدٍ يُقبّلها؟!
أم يقتلها؟!!!!!
لكنها قطعت عليه حيرته عندما تخاذل جفناها أخيراً مستسلمةً لإغماء تام…
=============
_هل هذه وصيتي يا فهد؟!
همست بها ماسة مؤنبة وهي تحقن جنة -الغائبة عن الوعي – بشئ ما في ذراعها فيما كان فهد متشبثاً بكفها في استماتة…
وعيناه معلقتان بها رغم هتافه العاصف لماسة:
_ولماذا لم تخبريني عن حملها؟!هل تحولت أنا ل”المغفل” الذي يخدعه الجميع؟!!
وضعت ماسة سبابتها على شفتيها محذرة قبل أن تهمس بعتاب:
_أخفض صوتك…دعها تسترِح.
ثم ألقت المحقن الفارغ في السلة جوار الفراش وعيناها تصطدمان بأثر أنامله على خدّ جنة و جرح شفتيها الصغير…
لتعاود النظر إليه مع همسها المستنكر:
_ضربتها يا فهد؟!طاوعك قلبها لفعلها بعد كل ما عانيتِه في فراقها؟!!
ظلت عيناه على حصارهما المستميت لوجه جنة تفضحان الذنب المستعر بأعماقه…
لكنه عاد يهمس بسخط:
_دعكِ من هذا وقولي لي….لماذا لم تخبريني عن أمر حملها هذا؟!
رمقتها ماسة بنظرة مشفقة طويلة قبل أن تهمس بصوت خفيض:
_أولاً أنت لم تمنحني فرصة لإخبارك بأي شئ…لم أكد أعلمك بشكوكي حتى أغلقت الاتصال بعنف لأفاجأ بك هنا بعدها بأقل من يوم واحد…
ثم صمتت لحظة لتردف:
_ثانياً…كنت أريدها مفاجأة سعيدة لك…تراها بعينيك أفضل من أن تسمعها!
فارتفع حاجباه بتأثر ليبتسم رغماً عنه مع همسه المنفعل:
_وأي مفاجأة!!!
ثم التفت نحو ماسة أخيراً ليسألها بقلق:
_متى ستفيق؟!
ابتسمت ماسة وهي تربت على كفه لتهمس بحذر:
_أريدها أن تنام لأطول وقت…أنت تعلم أنها مريضة سكر…ونوبات دوارها صارت شديدة التقارب…ظروف حملها صعبة وقد عانت كثيراً وحدها…
استفزته كلماتها أكثر فكز على أسنانه ليهمس بغضب مكتوم:
_وما الذي دفعها لهذه الوحدة سوي حماقتها وغرورها؟!!
نظرت ماسة إليه بعتاب لتهمس مؤنبة:
_ظننتك ستطير فرحاً برؤيتها من جديد…ما جدوى الحب إذن لو لم يمنحك القوة على مسامحتها؟!على الأقل استمع لمبرراتها!!!
زفر زفرة مشتعلة دون رد فهزت رأسها لتهمس محذرة:
_فهد…انفعالها الأخير هذا قد يزيد تعبها…لهذا سأطلب منك…
ثم صمتت لحظة لتردف بتردد:
_أن تتركها ولو…
_أتركها؟!!!أنتِ تحلمين!!!!
عاد يهتف بها بنبرة عصبية وكفه يضغط راحتها أكثر بحركة تلقائية…
فتأوهت جنة أخيراً بخفوت لتلتفت إليها عينا فهد وماسة التي هتفت بلهفة:
_جنة؟!أنتِ بخير؟!
فتحت جنة عينيها ببطء لتنظر لماسة نظرة طويلة قبل أن تهمس بضعف ولازالت لم تستعد وعيها كاملاً:
_ماسة…كيف عرفتِ اسمي؟!
حافظ فهد على صمته المتفحص لها مكتفياً باحتضان كفه المتشنج لكفها…
فيما ابتسمت ماسة لتقول بحنان:
_أنا أخت فهد!
هزت جنة رأسها في عدم تصديق لتمد عينيها نحو فهد بنظرة متسائلة…
لكنه حافظ على صمته المشتعل فقامت ماسة واقفة لتربت على كتفها برفق قائلة:
_فهد سيخبرك بكل شئ…لكنني مضطرة للانصراف الآن !
ثم رمقت فهد بنظرة تحذير أخيرة -لم يلتفت إليها مع تشبث نظراته بجنة -لتردف :
_اعتنِ بها…ولو احتجت شيئاً هاتفني !
قالتها ثم تركتهما لتغلق باب الغرفة خلفها…
فأغمضت جنة عينيها بإعياء لتهمس بصوت بالغ الضعف:
_هل هي أختك التي كنت تبحث عنها؟!
لم يرد عليها ولازال جسده كله متشنجاً بانفعاله…
فانفلتت من شفتيها أنةٌ خافتة وهي تود لو تملك فقط القدرة لفتح عينيها كي تنظر إليه…
لكنها لم تستطع…
جسدها كان مستسلماً لشديد وَهَنه…
فاضطرت للاكتفاء بهمسها الذي كان -بالكاد- يسمعه:
_أريد أن أتكلم معك…اسمعني…
لكنه قاطعها بوضع أنامله -الحرة-على شفتيها مع ضغطه لأناملها في كفه الآخر…
ليهمس بحزم لم تغادره قسوة نبراته:
_نامي الآن…ولنا حديثٌ طويل في الصباح عندما..
انقطعت عبارته عندما شعر بشفتيها تضمان أنامله عليهما بقبلة بدت شديدة الوهن…
لكنها جعلت جسده كله يقشعر تأثراً بها…!!!
فانعقد حاجباه بقوة قبل أن ينحنى عليها بجذعه وهو يهمّ برِيّ اشتياقه العاصف إليها…
لكنه تراجع بأقصى ما استطاع من عزم مراعياً حالتها…
ليظل جسده مشدوداً بقوة انفعاله حتى شعر بانتظام أنفاسها أخيراً …
فعاد يميل عليها بجذعه ليقبل بطنها بعمق هذه المرة …
قبل أن يأخذ نفساً عميقاً ليعاود تقبيله مرة بعد مرة…
تتخلل هذه المرات همسته المرتعشة:
_الحمد لله!
لم يدرِ كم ظل يفعلها ولا يقولها…
لكنه انتبه لنفسه أخيراً على صوت آذان الفجر…
فابتسم بسكينة وهو ينتبه أنه لم ينم منذ أكثر من يوم كامل…
بالتحديد منذ أخبرته ماسة عن الأمر…
لكنه قام من مكانه ليستكشف المكان بفضول…
قبل أن يتوضأ ليصلي وقد شعر أنه اغتسل بفرحته الجديدة ب”مَلَكه ” القادمة…
والتي أحسها وقتها أعظم هدايا “قدره” بعد عودة جنة إليه!!!
ولم يكد ينتهي من صلاته حتى انتبه لصوت زقزقة “العصفورين ” بالشرفة الخارجية…
فخرج إليهما ليتأملهما بنظرة متفحصة…
قبل أن يبتسم ابتسامة جانبية مع همسته التي فاضت بعاطفته مع غيظه:
_أيتها العاشقة الحمقاء…كم أحبك!!!
قالها ثم تنهد بعمق …
قبل أن يعاود طريقه إلى غرفة جنة حيث رمق وجهها النائم بنظرة عاتبة طويلة وسط فيوض عشق واشتياق…
ثم توجه إلى نافذة غرفتها ليفتحها بهدوء مراقباً شروق الشمس بعينين زائغتين…
الآن بدأ يفهم لماذا فعلت جنة هذا…
طبيعتها “الثورية” لم تكن لترتضي الهروب حلاً…
وخوفها على طفلتهما أيدت هذا الموقف!!!
لكن…أين كان هو من حساباتها هذه؟!!
أم تراه كان محل “اختبار الأستاذة” لترى كم من الدرجات سيحصل بعد آخر دروسها معه؟!!!!

_فهد!
همستها الضعيفة قطعت أفكاره رغم خفوتها…
وكأنما كان ينتظرها قلبه بكل اشتياق كي يعاود خفقاته على لحنها كما كان في الماضي…
فأخذ نفساً عميقاً يتمالك مشاعره قبل أن يستدير بجسده نحوها ليحتكر نظراتها بعينيه العاتبتين…
ثم أخذ طريقه نحوها ليهمس أخيراً على بعد خطوة واحدة منها:
_فتحت النافذة يا أستاذة…لكن أظنكِ ما عدتِ تحتاجينني… ولا أنا أحتاجكِ أكثر!
ضربتها قسوة عبارته في مقتل…
فرمقته بنظرة مصدومة للحظة وقد ارتجفت شفتاها بقوة…
قبل أن تقوم من نومتها مستندةً على راحتيها لتهتف بألم:
_لا…لا تقل هذا …اسمعني أولاً.
كز على أسنانه وهو يقبض كفيه بقوة قبل أن يعطيها ظهره مقاوماً انفعاله…
فأزاحت غطاءها برفق لتقوم وتقف خلفه للحظات…
ثم مدت أناملها لتلامس كتفه مع همسة باسمه…
فانتفض جسده انتفاضة أجفلتها وهو يستدير نحوها ليضغط ذراعيها بكفيه بقوة غضبه مع هتافه الثائر:
_تكلمي…لماذا فعلتِ هذا؟!
_حتى لا أكرهك ولا تكرهني…
هتفت بها بانفعال مشابه وهي تتشبث بأناملها في قميصه…
فاهتزت نظراته للحظات مع استطرادها القوي:
_حتى لا ينطفئ ما بيننا…حتى تعيش ابنتنا في النور لا في الظلام!!!
ازداد انعقاد حاجبيه وهو لا يزال يرمقها بنظراتها الغاضبة…
بينما استمر جسدها على ارتجافه رغم محاولتها للتماسك:
_لقد علمت بحملي في نفس يوم زفافك من يسرا…ليلتها جئتني أنت تمنحني عقد زواج جديد بشروط جديدة…ترددت أن أخبرك وقتها…كنت أعلم أنك لا تفكر سوى في الهرب…ربما لو كان الأمر يتعلق بي وحدي لوافقتك على ما تريد…لكنني وقتها…
ترنحت مكانها للحظة فازداد تشبثه به تلقائياً عندما أسندت جبينها على صدره لتهمس بصوت متهدج:
_خفت…خفت يا فهد…أبوك لم يرحم ابنته فهل كان سيرحم ابنتي أنا؟!!
ثم مرغت وجهها في صدره لتردف بنبرة أكثر وجعاً :
_أنا التي كنت دوماً أقول أنني امرأة ليس لديها ما تخسره…فجأة وجدتني أملك ما سأبكي عليه دماً بدل الدموع لو خسرته…أنت وحبنا…وابنتنا!
ورغم أن حديثها بدا له منطقياً لكنه اعتصر ذراعيها بقبضتيه أكثر وهو يهتف بغضب:
_وهكذا أخذت الأستاذة قرارها وحدها…فهد الضعيف لن يحميها هي وابنتها…وهي التي ستحمل راية الجهاد حتى تصل لهدفها وحدها …صحيح؟!!
رفعت إليه عينين لاتزالان آسرتين بوهج البندق الذي اشتعل ببريق قوته الآن مع قولها :
_كانت فرصة لكلينا…فرصتك لتدرك مدى قوتك وتشبثك بطريقك الجديد بعيداً عن تأثرك بي…وفرصتي للابتعاد عن شر جاسم الصاوي حتى أطمئن علي ابنتي.
وهنا هزها هو بعنف ليهتف بانفعال هادر:
_ووسط كل هذا لم تفكري فيّ أنا؟!!في قسوة إحساسي بفقدك؟!!أنتِ التي جربتِ هذا الشعور من قبل بمرارته كيف ارتضيتِه لي؟!!
أغمضت عينيها بألم دون رد…
فارتجفت نبرته وهو يردف بنفس الانفعال:
_كدت أموت حسرةً عليكِ وأنتِ هنا تراقبينني كطفلٍ يجتاز اختباره!!!
فتحت عينيها ببطء لتنهمر دموعها على وجنتيها مع همسها الذي امتزج بنكهة الاعتذار:
_وكيف تظنها كانت حياتي هنا دونك؟!!مهددة بالخوف والوحدة…والغيرة!
_غيرة؟!!
هتف بها باستنكار فعلا صوتها وهي تحاول تخليص ذراعيها من قبضتيه دون جدوى:
_نعم…غيرة…كل يوم كنت أطالع أخبارك كالغرباء أنتظر خبراً يهدئ لوعتي أنك طلقتها…كل لحظة كانت تمر بي هنا وحدي كانت تذبحني بهواجسي وأنا أتخيلك معها …نسيتني بين أحضانها …
_اخرسي يا جنة…اخرسي حتى لا أحطم رأسك الذي فعل بنا كل هذا!!!!
صرخ بها بغضب مقاطعاً كلماتها…
حمقاء هذه؟!!
مجنونة!!!
عن أي غيرة تتحدث؟!!
وعن أي امرأة تحكي؟!!
هي التي تركته خلفها جثة بلا روح تظن أن إحداهن قد مرت يوماً على ناظريه!!!!
لكن لا بأس…
مادامت تظن هذا فسيجعلها واحدة من طرقه لعقابها الذي ينتوي ألا يمرره إلا عسيراً!!!
لهذا تجاهل نظراتها الراجية بعد صمت قصير…
ليقول بحزم وهو ينظر في عينيها:
_لم تجيدي حساباتك هذه المرة يا أستاذة…أنتِ تركتِني برغبتك فلا تلوميني لو تمسكت بمن بقيت جواري في محنتي!
تجمدت عيناها على شفتيه للحظات قبل أن يسكن جسدها تماماً مع تساؤلها بنبرة مرتعشة:
_هل تعني أنك…أنك…أتممت زواجك بها؟!
انعقد حاجباه بشدة ثم فك قبضتيه من على ساعديها أخيراً ليعقدهما أمام صدره هاتفاً بنبرة متحدية:
_والآن ماذا؟!هل تملكين الجرأة على محاسبتي؟!
وكأنما كان ذراعاه هما ما يسندانها…فلم يكد يرفعهما حتى ترنحت مكانها من جديد…
لتتهاوى جالسةً على طرف الفراش …
فارتجفت عيناه بمزيج من الخوف والإشفاق لكنه عاد يتمسك بقسوة نظراته…
عندما تمتمت هي بمرارة احتلت شرود نظراتها:
_إذن ما كان يقال صحيح؟!أنت اعتبرتها زوجتك حقاً؟!لم تتغير لأجلي؟!
كز على أسنانه بغضب وهو يتأمل ملامحها البائسة بغيظ هاتفاً:
_بلى تغيرت…لكن ليس لأجلك…لأجل نفسي…ألم يكن هذا درس الأستاذة لتلميذها البليد ؟!!لكن لم يخبرني أحد أنه كان من المفترض أن أبقى راهباً بعدك!!!
كان يعلم أنه يذبحها بقسوته لكن ما الذي يساويه هذا أمام ما لاقاه هو لشهور مضت…؟!!!
أما هي فقد أطرقت برأسها الذي أخفته بين راحتيها محاولةً التشبث بما تبقى لها من عقل لتدرك كل هذا الذي يحدث….
لتهمس أخيراً بعد صمت قصير:
_اتركني وحدي لبعض الوقت!
لكن كلماتها أججت غضبه أكثر …غضبه منها ولأجلها…
لهذا عاود جذبها من مرفقها نحوه من جديد ليهتف بانفعال:
_انسيْ هذه الكلمة تماماً…من الآن لن تتحركي خطوة واحدة بعيداً عني…لو استطعت أن أحصي أنفاسك فسأفعل!
أمسكت جانب رأسها في إعياء وهي تغمغم ب-ما حاولت جعله- نبرة قوية:
_أرجوك يا فهد…أنا بالكاد أحاول استيعاب كل هذه المفاجآت…رأسي يكاد ينفجر!
ظل عاقداً حاجبيه للحظات يفكر في رد موارب ثم غلبه إشفاقه عليها…
فدفعها برفق ليمددها على الفراش قبل أن يقول بصرامة:
_ابقيْ هنا حتى أحضر لكِ ما تأكلينه!
هزت رأسها باعتراض وهي تهمّ بالحديث لكنه قاطعها بنبرة أكثر جفافاً:
_لا أفعلها لأجلك…بل لأجل ابنتي!
أشاحت بوجهها هاربةً من عينيه فرمقها بنظرة عاصفة أخيرة…
قبل أن يغادر الغرفة ليعود بعد قليل حاملاً صينية الطعام التي وضعها جوارها على الفراش…
لكنها لم تستطع رفع عينيها إليه فتمتمت بما يشبه الشكر…
قبل أن تلتفت بعينيها نحو دوائها على الكومود…
ليخفق قلبها بقوة وهي تجده يتناوله كما كان يفعل دوماً…
قبل أن ينتزع منه قرصاً قربه ببطء من شفتيها…
ثم توقف عند اللحظة الأخيرة ليضعه بعنف على الصينية أمامها هاتفاً ببرود:
_تناوليه وحدكِ كما عودتِ نفسك طوال هذه الأيام!
دمعت عيناها بمزيج من قهر وندم وقد بدت لها حركته كصفعة على وجهها!!!!
ثم أشاحت بوجهها عنه وهي تضغط شفتيها كاتمةً بكاءها بصعوبة …فزفر بقوة ليهتف بنبرة حادة:
_كفى دلالاً وتناولي إفطارك…سأحاول تدبر الأمر لنسافر اليوم.
عادت تلتفت نحوه بحدة لتهتف بدهشة:
_نسافر؟!إلى أين؟!
اقترب بوجهه من وجهها لتصطدم بنظراته القاسية مع إجابته الأكثر قسوة:
_لا تسألي…من الآن أنتِ لا رأي لكِ في أي شئ…هل تفهمين؟!
انعقد حاجباها بغضب وشت به ملامحها رغم إعيائها…
لكنه عاد يشير للطعام هاتفاً بصرامة:
_هيا بسرعة…!!
تصنعت التماسك وهي تمد أنامل مرتجفة نحو قرص دوائها الذي تناولته بنفسها…
ثم شرعت في تناول طعامها دون شهية حقيقية سوى لإسكاته…
لم تتصور يوماً أن يعاملها فهد بهذه الطريقة…
لكن تباً لها…
ماذا كانت تتوقع إذن بعد ما فعلته ؟!!
فهد الصاوي لن يمرر لها فعلتها على خير…
هي تعرف طبعه جيداً!!
لكن…هل بقي لها من عشقه شفيع؟!!
أم أن الأيام طمست نقوش ذاك الهوى ؟!!
شعرت أنها ستغص بالطعام في حلقها فتناولت كوب الماء لتتجرعه ببطء…
دون أن ترفع عينيها إليه…
وربما لو فعلت لرأت كم الاشتياق الذي كان يفيض بهما كشلال هادر بلا بداية ولا نهاية…
عيناه كانتا تتشربان كل تفاصيلها بنَهَم ولو كان الأمر بيده لما ترك موضع أنملة على بشرتها لا تمسه شفتاه !!!
لكنه لن يتجاوز عن صنيعها هكذا بتهاون!!!
ليس بعد كل ما لاقاه بسببها…
ربما تبدو له أسبابها ب-بعض- المنطقية لكنه مع هذا لن يسامحها بهذه البساطة!!!
لكن تساؤلاً ما تبادر لذهنه الآن جعله يتخلى عن صمته المشتعل:
_لماذا لم تبلغيني بالحقيقة بعد وفاة أبي؟!ماذا كنتِ تنتظرين؟!
أزاحت الصينية جانباً ثم صمتت للحظات قبل أن تقول ولازالت تحافظ على خصامها الطويل لعينيه:
_كنت أريد أن أعرف ماذا ستفعل في حياتك بعده…
ثم أخذت نفساً عميقاً لتردف بنبرة مرتجفة:
_كنت أنتظر أن أضع طفلتنا لعلها …
قطعت عبارتها وقد استنكفت أن تكمل معناها الذي بدا لها استجداءً لمشاعره…
ورغم أن معناها وصله كاملاً لكنه أراد المزيد من تقريعها فهتف بتهكم:
_نعم…أردتِ أن تتبيني هل أستحق أبوتي لها أم لا…الأستاذة كانت تنتظر المزيد من أدلة البراءة قبل أن تصدر حكمها بشأني!
عادت تطرق برأسها دون رد…
عندما زفر هو بغضب لينتزع الصينية من أمامها هاتفاً بنفاد صبر:
_هيا لنحضر حقيبتك…ليس لدينا وقت!
قالها وهو يحمل الصينية ليغادر الغرفة فقامت من مكانها لتراقب ظهره المنصرف بحسرة ذائبة في مرارتها…
هل فعلها فهد حقاً؟!!
هل اتخذ لنفسه زوجة بعدها؟!!
هل سلم جسده لسواها؟!!
قلبها يخبرها أنه لم يفعلها أبداً…
لكن عقلها يهتف :وما يمنعه؟!!
ومن يلومه؟!
ألم يكن يظنها ميتة؟!!
فهل كُتب الوفاء على الأحياء والأموات؟!
هي أحبته هو بعد حسن…
فكيف تعاتبه لو أحب يسرا بعدها؟!!
والفكرة نفسها كانت مسمومةً بما يكفي لتغييب عقلها بضلالاته أكثر…
لكن أفكارها انقطعت عندما عاود دخوله للغرفة ليقول بنفس النبرة الحازمة:
_لقد أجريت اتصالاتي الآن بشأن السفر…
ثم ابتسم ليردف بسخرية متعمداً استفزازها:
_الأمور تسير بسهولة تليق ب…”ابن الصاوي” و …..الأستاذة!!!
لكنها أشاحت بوجهها وقد عجزت عن الرد…
فزفر بقوة قبل أن يفتح خزانة ملابسها بعنف منتزعاً تلك الحقيبة بالأعلى…
ثم امتدت أنامله لتجمع ما بداخلها من ملابس عشوائياً…
فاقتربت منه لتلملم حاجياتها هي الأخرى وقد آثرت السّلْم بطاعته الآن…
عندما سقط شئٌ ما من الخزانة تحت قدميه جعله يهتف بغيظ:
_ما الذي تفعله هذه هنا؟!
أطرقت بوجهها في خجل دون أن تجد رداً…
بينما عاد هو يتأملها بتأثر وقد غلبت عاطفته غيظه…
فقد كان الشئ الذي سقط هو إحدى “مناماته”!!!
وبالتحديد -مفضلتها “الكحلية” – التي ابتاعتها له بنفسها في مناسبة ما!!!
والتي أحضرتها معها هنا -كما يبدو -لتكون ذكرى لها منه!!!
لهذا لم يشعر بنفسه وهو يجذبها إليه بعنف ليخفي وجهها في صدره مطوقاً إياها بين ذراعيه…
فارتج جسدها هي ببكاء طال كتمانه وما عادت تقوى عليه أكثر…
ليشتعل قلبه بين جنباته اشتياقاً -سيطر عليه باقتدار- وهو يضربها بقبضته برفق على ظهرها هاتفاً بغيظ:
_أيتها الحمقاء المجنونة المختلة…سأبقى طوال عمري أضربك كلما أتذكر ما فعلتِه بنا!!
ظلت تبكي بين ذراعيه عاجزة عن الرد…
فزفر بقوة ليهمس جوار أذنها بنبرة عاتبة:
_من يراكِ تبكين بهذا الضعف لا يصدق أنكِ من وضع خطةً بهذه القسوة!
رفعت إليه عينيها أخيراً لتهمس بنبرة متهالكة:
_لو كنت فهمتني حقاً…لما تعجبت…جنة الرشيدي لم تهرب يوماً من معركة !
شدد ضغط ذراعيه حولها حتى تأوهت بألم مع همسه المنفعل

_ماسة…دكتور عصام يريدك في غرفة العمليات…حالة طوارئ!
هتفت بها رئيستها في العمل فأتمت استعداداتها قبل أن تسألها باهتمام:
_ما هي الحالة؟!
هزت رئيستها رأسها بتأثر مع قولها:
_رجلٌ مصاب…أحدهم ترصده…ثم أطلق النار على ظهره غدراً…وهو وحده!!!
ولا تدري لماذا ازدادت نبضات قلبها جنوناً وقتها…
وهي تجد نفسها تندفع بسرعة نحو غرفة العمليات لتتفحص ملامح الرجل بارتياع…
ورغم أن ملامحه كانت بعيدة الشبه عن عاصي…
لكن ذاك الشيب في فوديه -مع ما روته المرأة من تفاصيل تزورها في كوابيسها كل ليلة -جعل جسدها ينتفض بخوف حقيقي وجملة المرأة تدوي في رأسها…
_كان وحده!!!
_وحده!!!
لتجد دموعها تسقط على وجنتيها بقوة وهي تراقب نزيف الدم الذي أغرق الملاءة تحته مع هتاف الطبيب بصرامة:
_كفي عن البكاء وقومي بعملك!
ارتجف جسدها أكثر وأناملها ترتعد على الأدوات مع هتافها الباكي:
_أرجوك يا دكتور افعل ما بوسعك…يمكنني التبرع له بالدم لو كان يحتاجه!!
رمقها الطبيب بنظرة مستنكرة وهو يحاول إنقاذ الرجل قدر استطاعته…
فيما عجزت هي عن التماسك أكثر لتزداد حالتها سوءاً حتى وصلت حد الانهيار…
ما دعا الطبيب لإخراجها قسراً من غرفة العمليات!!!
لكنها بقيت خارجها منهارةً وقد عجزت قدماها عن حملها فتهاوت على أحد الكراسي…
لا تدري ما هذا الذي أصابها !!!
منظر الرجل وهو غارقٌ في دمائه لا يكاد يفارق مخيلتها…
_كان وحده!!!
اعتصرت قبضة باردة قلبها وهي تتذكر كيف دفعتها حماقتها لقطع أي اتصال بينها وبين عاصي طوال هذه الأيام…
نعم…منذ ذاك اليوم الذي هاتفته فيه عقب وفاة جاسم الصاوي وقد غيرت رقم هاتفها عامدة كي لا يصل إليها…
لقد ظنت نفسها صارت قوية بما يكفي لتتخطى هذا الحاجز من عاطفتها اليائسة نحوه…
لتأتي هذه الحادثة فتحيي لهيب مشاعرها !!!
فتجد نفسها تربط -لا شعورياً- بينه وبين ذاك الرجل بالداخل!!!
_كان وحده!!
كادت تصرخ بحرقة والعبارة اللعينة لازالت تدوي برأسها حتى فتح باب الغرفة أخيراً فاندفعت نحو الطبيب لتسأله بلهفة وسط دموعها:
_أنقذته؟!
_مات!
قالها الطبيب بجمود عملي اكتسبه من كثرة معايشته لهذه الأحداث…
فصرخت صرخة قصيرة وهي تردد خلفه بلا وعي:
_مات!!!كان وحده!!!مات!!!
اندفعت نحوها إحدى زميلاتها لتهدئتها فيما لوح الطبيب بسبابته في وجهها ليقول بحزم:
_لو بقيتِ على هذه الحالة فلن تدخلي معي غرفة الجراحة بعد الآن أبداً!!
لكنها لم تكن تسمعه وعقلها مغيبٌ بهواجسه بين الحقيقة والخيال!!!
لتنتشلها كلمات زميلتها من سيل أفكارها العاصفة وهي تربت على كتفها بإشفاق:
_اهدئي حبيبتي…إنه قدره!!!
_قدره!!!
تمتمت بها بحسرة ولازال جسدها ينتفض بانفعاله…
ثم طلبت هاتف زميلتها هامسةً بصوت متهدج:
_سأجري مكالمة مهمة!
كانت أناملها ترتجف على شاشة الهاتف وهي تكاد تفقد وعيها ترقباً…
ليسقط قلبها بين قدميها عندما كاد الرنين ينقطع دون رد…
قبل أن تعود لها الحياة أخيراً مع ذبذبات صوته التي قطعت صوت الرنين أخيراً…
احتضنت الهاتف بقوة للحظات حتى هدأت خفقات قلبها المذعورة…
ثم أغلقت الاتصال دون كلمة واحدة…
لتعود بخطوات متثاقلة نحو زميلتها لترد لها أمانتها أمام نظراتها المشفقة!!!
وكأنما استنزفها هذا الموقف تماماً لتجد نفسها تخرج من المشفى نحو حديقته الخلفية…
حيث جلست على إحدى الأرائك هناك تحيط رأسها بكفيها محاولةً استعادة ثباتها الذي فقدته هكذا ببساطة بمجرد حادث عابر!!!
ترى هل أخطأتِ حقاً يا ماسة؟!!
هل قسا قلبكِ كما تزعم رحمة؟!!
أم أنك تسيرين على الدرب الصحيح كي لا تنكسر روحك بعد؟!
أنتِ لم تحتملي مجرد مصادفة استحضرت أعظم كوابيسك بفقده…
فهل تحتملين لو صار الكابوس حقيقة؟!!
لكن…هل عسى وجودكِ جواره يشكل فارقاً؟!!
ربما…نعم..
ربما…لا…
كفك الممدود لجسده- الذي يغرق بكامله في بحر خطاياه- قد ينقذه…
لكنه قد يجذبكِ إليه لتغرقا معاً!!!
فمن يحكم بينكما الآن…
من يستطيع الفصل بين “ماستكِ” و”شيطانه”؟!!
_هل أستطيع الجلوس؟!
رفعت إليه عينيها بحدة عندما ميزت صوته الحنون بلكنته المميزة..
فجلس جوارها محافظاً على مسافة مناسبة وهو يتأمل هيئتها المزرية بإشفاق مع قوله:
_لم أصدق عندما أخبروني أنكِ منهارة هكذا بسبب “حالة”!!
أطرقت برأسها دون رد…
فعاد يقول باهتمام:
_ما الأمر يا ماسة؟! دكتور عصام مستاء كثيراً من تصرفك …وأنا أيضاً مندهش…لقد حضرتِ معي الكثير من العمليات الجراحية من قبل…وكانت أصعب من هذه…فما الجديد؟!
عادت دموعها تسيل على وجنتيها وقد عجزت عن الرد…
فلانت ملامحه وهو يقترب بوجهه منها قائلاً بود:
_ماسة…أنا لست فقط زميلك أو طبيبك المعالج…أنا أعتبر نفسي مسئولاً عنكِ هنا بتوصية من عزيز…أخبريني ما الذي يزعجك هكذا!
مسحت دموعها بأناملها وهي تهز رأسها بلا معنى…
فتفرس ملامحها للحظات قبل أن يقرر الحديث مباشرة:
_حدسي يخبرني أن الأمر متعلق بزوجك…لماذا لم تعودي إليه بمصر عقب نجاح العملية؟!ظننت أن هذا أول ما ستفعله امرأة في ظروفك!!
التفتت إليه بحدة لتلتقي عيناهما بهذا القرب لأول مرة…
فيلمح ما بماستيها من العذاب المستعر بألم لم يفهم سببه…
وإن شعر به ينفد إلى قلبه مستنفراً خلاياه كلها للذود عنها…
فخفض بصره عنها وهو يشعر بإثم انجذابه هذا نحوها …
لكن هذا لم يمنعه من قوله بنبرته الودود:
_لا أقصد التدخل في شئونك…لو لم تريدي الحديث فلا بأس!
عضت على شفتها بتوتر تكتم انفعالها …
فعاود رفع عينيه إليها مع تساؤله:
_هل أرحل وأتركك وحدك؟!
هزت رأسها ببطء لتهمس أخيراً ببعض التماسك:
_لا داعي لدهشتك يا دكتور…أنا وزوجي…منفصلان!
ورغم الارتياح الذي بدا على وجهه والذي أثار دهشتها…
لكنه عاد يلجم مشاعره وهو يسألها باهتمام:
_طلاق؟!
وخزت الكلمة قلبها بألم أثار غيظها أكثر…
لتجد نفسها تهتف وكأنها تعاند مشاعرها:
_ليس بعد…لكن سيحدث قريباً…أنا أريده وسأحصل عليه!
عاد برأسه للوراء وهو يتأمل ملامحها باستغراب مع تساؤله:
_هل هذا ما يثير ضيقك هكذا؟!
زفرت بقوة ثم أخذت نفساً عميقاً لتقول أخيراً وهي تنظر للسماء بشرود:
_أنت تعرف هذا الشعور جيداً لأنك جربته…شعور أن ينتزع أحدهم منك وطناً لا تملك العودة إليه…تبقي الأماكن بعينيك متشابهة مهما تعدد جمالها …و تبقى أنت مجرد غريب فيها…ووحده هو يبقى وطناً…
انعقد حاجباه بشدة وكلامها يعيد غرس الألم بين ضلوعه…
ليسألها بترقب:
_ومن انتزع منكِ “وطنك”؟!
عادت عيناها تدمعان وهي تراقب سرب طيرٍ في السماء أوشك على العودة لمسكنه في هذا الوقت من الغروب…
لتهمس بألم سكن حروف كلماتها:
_ليتني أعلم من فعلها ..ليتني أعلم عدوي كي أهزمه…ليتني أدرك خطئي كي أصلحه…أنا وجدت نفسي هكذا فجأة منبوذة في العراء…لا أعرف أين الملجأ!
ارتفع حاجباه بتأثر وهو يراقب عينيها اللتين التمعتا بحزن آسر…
وهي تردف بنفس النبرة الكسيرة:
_يمكنني أن أخبرك قصة تسمعها كثيراً عن زوجة عقيم حظي زوجها بأخرى طمعاً في الولد…فانتصرت لكبريائها وتركته…قصة شهيرة تحدث كل يوم مئات المرات…لكن تبقى الحقيقة في القلب نسخة ألم واحدة لن تتكرر…قصة مميزة بتفرد أبطالها…قصة حب لم يصمد ليدافع عن نفسه…فداسته أقدام المصالح…
ثم تهدج صوتها مع نشيجها بعدها :
_مات…ومتنا معه!
تعالت شهقاتها بعدها ببكاء لم تستطع منعه…
فامتدت أنامله دون وعي وكأنه سيربت على كتفها…
قبل أن يتراجع في آخر لحظة وهو يزفر بقوة مع همسه الخفيض:
_ليتني ما سألتك…لقد زدت عذابك بهذا الحديث!!
حاولت السيطرة على أنفاسها المختنقة بصعوبة…
لتستعيد تماسكها بعد فترة قبل أن تقوم من مكانها لتقول وهي تمسح دموعها بقوة :
_أنا بخير…ربما فقط أحتاج لإجازة…لا أظنني سآتي غداً.
قالتها وهي تنصرف بخطوات سريعة كأنها تهرب…
والحق أنها فعلاً كانت كذلك!!!
هذا الرجل يربكها…
وجوده حولها يذكرها دوماً بعاصي…
لا…ليس الأمر كونه يشبهه…
بل كونه نقيضه تماماً…
نقيضه الذي -ربما- تتمناه!!!
وعند خاطرها الأخير توقفت مكانها للحظة…
وكأنها بهذا تمنع طوفان أفكارها الهادر…
ثم عادت لغرفتها بالمشفى لتبدل ملابسها قبل أن تأخذ طريقها لشقتها…
طريقها الذي قصّرت مسافته طول أفكارها الشاردة…
حتى وصلت أخيراً لتتلقاها دعاء متعجبة من حضورها الباكر ووجهها الذي امتزج شحوبه بدموعه…
لكنها هتفت بنفاد صبر:
_لا أريد الحديث الآن يا دعاء…سأنام طويلاً…لا توقظيني حتى أفعل وحدي.
لكنها لم تكد تتوجه نحو غرفتها…
حتى سمعت رنين الجرس المتصل وكأن الطارق لا يرفع يديه من عليه…
تبادلت مع دعاء نظراتٍ منزعجة…
قبل أن تتوجه نحو الباب لتفتحه…
فاصطدمت بوجه زهرة المحتقن تصرخ فيها بحدة:
_لم أكن أظنكما بتلك الأخلاق!!!
تبادلت ماسة مع دعاء نظرات قلقة قبل أن تلتفت إليها بقولها المندهش:
_أي أخلاق؟!ماذا تقصدين؟!
هزت زهرة رأسها بعنف وهي تناولها هاتفها لتستمر في صراخها الهادر:
_أنت والدكتور المحترم…الصورة لفت المشفى كله…فضيحتكما الجديدة حديث الجميع الآن!
شهقت دعاء بعنف فيما انتزعت ماسة منها الهاتف لينعقد حاجباها بغضب وهي ترى الصور التي يبدو أنها التقطت لهما بينما كانا يجلسان معاً منذ قليل…
كلها تبدو طبيعية…باستثناء تلك التي امتدت فيها أنامله تكاد تلامس كتفيها وفي عينيه نظرة تحمل عاطفةً لا يمكن إنكارها!!!
وهنا…ابتسمت ماسة ساخرة وهي تخبط رأسها في باب الشقة ببعض العنف مع همستها:
_كَمُلت!
ربما في ظروفٍ أخرى كانت لتغضب أو تثور…
تقلق…
تخاف من فضيحة هي بريئة منها!!!
لكنها الآن لم تعد تبالي بأي شئ!!!
مرحباً بمصائب الدنيا كلها…
هل بقي في الكون ما هو أسوأ؟!!
لكن زهرة أساءت فهم ابتسامتها ولا مبالاتها فهتفت بها بانهيار تام:
_من أين أتيتِ؟!هل ابتليتُ أنا بكِ؟!مريم اختفت منذ آخر مرة زرتِها أنتِ فيها…والآن تخطفين جهاد مني أيضاً…؟!!
وكأنما شعرت بالندم على عبارتها الأخيرة فلم تكد تتفوه بها حتى اندفعت نحو شقتها المقابلة لتصفق بابها خلفها بعنف …
وقد نسيت حتى أن تستعيد هاتفها!!!
هاتفها الذي تناولته دعاء من ماسة وهي تغلق الباب برفق لتتأمل الصور بأسف مع قولها العاتب:
_ما هذا يا ماسة؟!
زفرت ماسة بقوة ثم همست بنبرة باردة:
_سوء تفاهم!
نظرت إليها دعاء بترقب تنتظر تفسيراً لما تراه…
لكن ماسة أخذت منها الهاتف لتعود به إلى غرفتها …
قبل أن تغلق بابها خلفها دون كلمة واحدة…
وهل بقي في الدنيا كلامٌ يقال!!!!
============
_ادخلي يا دعاء!
هتفت بها ماسة بعد وقت طويل وهي ترفع الغطاء على جسدها المستلقي على فراشها…
قبل أن تعطي ظهرها للباب بعدما سمعت صوت الطرقات عليه…
ثم مسحت دموعها وهي تسمع صوت الباب يفتح لتقول بتماسك أجادت ادعاءه:
_لقد سمعت صوت رنين الجرس…لابد أنها زهرة جاءت لأجل هاتفها…ستجدينه عندكِ على الكومود.
لم يصلها رد على عبارتها مع اقتراب الخطوات…
فرفعت الغطاء حتى رأسها لتهتف بشبه انهيار:
_لا أريد الحديث الآن يا دعاء…دعيني ومصيبتي!!!
_وما هي مصيبتك؟!
اتسعت عيناها بصدمة وهي تميز صوته خلفها…!!
بل على بعد أنفاس منها…!!!!!
أنامله رفعت الغطاء من على رأسها بقوته المعهودة لتداعب وجنتها ورقبتها بحميمية دافئة …
قبل أن تعرف طريقها لمنابت شعرها مع استرساله الحار جوار أذنها:
_هل جئت في الوقت المناسب؟!
عاصي؟!!!
عاصي !!!!!
هل هو حقاً هنا؟!!
هل جاء خلفها الآن؟!!
عجباً لذاك الرباط القدري الغريب بينهما!!!
عجباً لقلبين يتصلان رغم كل هذا البعاد!!!
عجباً لنداء لم يخذلها يوماً في تلبيته …
ولم تخذله -هي -يوماً في التعلق بسواه!!!!
لم تترك مجالاً للسؤال أو الصدمة سوى لحظات…
قبل أن تستدير بجسدها نحوه لتلتهم تفاصيل ملامحه بشوق أجادت -هي- دفنه خلف قناع جمودها…
ذاك القناع الذي أقسمت ألا يتشقق بعد الآن أبداً!!!
بينما عجز -هو -عن منع أشعة شموسه الزيتونية التي طوقتها بعاطفة جبارة…
وهو يرفعها من كتفيها نحوه ليحاول البحث في بحار فضتها عن كنوز عشق كانت يوماً له…
أو على الأقل -ما بقي له – منها!!!
لكنه…لم يتبين شيئاً!!!
نعم…لأول مرة يشعر بأنه يقف أمام جدار هائل لا تكشفه مرايا عينيها كعادتها…
ليسود بينهما صمت طويل…
قطعته هي بقولها الذي تصنعت برودته بشق الأنفس:
_لماذا جئت؟!
ورغم خيبته من لقائها الفاتر لكن السعادة التي ملأت روحه بحق الآن جعلته يتغاضى عن هذا….
ليهمس أمام عينيها بصوت متهدج بفرحة لم ترَها في عينيه من قبل:
_جئتكِ لتفرحي معي…لم أطق صبراً حتى أخبركِ.
ضاقت عيناها بشك وهي ترمقه بنظرة متسائلة…
فابتسم ابتسامة واسعة شعرت بها صادقة لأبعد حد مع استطراده وهو يهز وجهه بانفعال:
_لقد عادت خطوط اللعبة في يدي كما وعدتك…كلها يا ماسة …كلها!!!
ابتسمت ابتسامة جانبية تشبه ابتسامته -هو – القديمة…
ثم نزعت كفيه من على كتفيها لتنهض من على الفراش …
قبل أن تعطيه ظهرها وهي تتوجه نحو النافذة التي فتحتها لتأخذ نفساً عميقاً من هواء الليل البارد لعله يطفئ نيران صدرها…
وقد أنبأها حدسها أن مجيئه إليها هنا يخفي الكثير الذي لن يروقها…
وهل بقي في جعبته ما يثير لديها الفرح؟!!
لقد فقدت -لعبه السحرية- بريقها المتراقص بأضوائه أمام قلبٍ لم يعد يتقافز أمامه بطفولة بلهاء!!
وكيف لا بعدما اقترف الخطيئة التي لا تغتفر؟!!
لقد سمح لسواها بتملكه فهل بعد هذا كلام؟!!

بينما راقبها هو ببعض الذنب الممتزج باشتياقه وقد شعر أنها تخفي جرحاً عميقاً خلف سدود كتمانها …
لكنه لن يتركها حتى تعترف به على صدره كعادتها…
لن يترك لها -بعد الآن- مثقال ذرة من حزن في قلبها…
خاصةً تلك الليلة التي يعتبرها أعظم ليلة في حياته!!!
لهذا قام من مكانه ليتوجه نحوها هامساً بنبرة دافئة تشعر دوماً أنها شفرتها هي الخاصة لديه:
_كنتِ دوماً تميمة حظي…منذ دخلتِ حياتي وقد علمت أنها لن تعود أبداً كما كانت.
ظلت تعطيه ظهرها محاولةً إخماد بركان عاطفتها التي لو سلمت لها فلربما ألقت نفسها بين ذراعيه تتوسله العودة دون شروط…
لهذا احتضنت جسدها بذراعيها بقوة وكأنها تقطع على نفسها هذا الشعور لتقول بنبرة جامدة:
_لا داعي للمقدمات…قل ما عندك!
لم ينتبه لنفور لهجتها وهو يحتضن كتفيها براحتيه ليديرها نحوه ملتقطاً نظراتها بهيمنة مسيطرة قبل أن يهتف بانفعال:
_أخبرتكِ أنني أنا عاصي الرفاعي…متى أردت شيئاً فلابد أن يستجيب القدر!
اتسعت ابتسامتها الساخرة ولازالت تكتف ساعديها مع لفظتها المتهكمة:
_حقاً؟!
لكنه لم يكترث لرنة السخرية في صوتها مع اعتصاره لكتفيها وهو يهتف بلهجة منتصرة:
_لقد تخلصت من ذاك الرجل الذي كان يهددني…وعرفت أن حسام القاضي هو من كان خلفه .. لم أستطع النيل من الأخير بعد…لكن لا بأس…دوره سيأتي قريباً.
ورغم اشمئزازها من رائحة الدم المنغمسة بالانتقام والتي فاحت بين حروف كلماته…
لكنها شعرت ببعض الارتياح لحديثه وقد اطمأن قلبها عليه أخيراً لتهمس بصدق لم تتكلفه:
_الحمد لله.
بينما عاد هو يهز كتفيها بانفعال أكبر مع قوله بفرحة حقيقة لم تتبينها في عينيه من قبل:
_حلم عمري تحقق يا ماسة..تلك المرأة حملت بطفلي منذ بضعة أشهر…ومنذ أيام فقط تأكدت أنه سيكون ذكراً…ذكراً من صلبي يحمل اسمي بعدي…يرث كل هذا الذي تعبت عمراً في بنائه…
ثم ارتجف صوته رغماً عنه وهو يهمس بسعادة دمعت لها عيناه تأثراً:
_سيحبني مثلما أحببتني أنتِ….لن أجعله يكرهني كما فعل بي حماد الرفاعي…سيكون سندي وظهري وصاحبي وخليفتي…هل تدركين قيمة هذا عندي؟!
خفق قلبها كالذبيح بين ضلوعها وهي تئن بألم جعلها تغمض عينيها رغماً عنها….
ماذا عساها تقول الآن؟!!
هل تسعد لأجل هذا القلب “الشقي” الذي أوشك على التخضب ب”حنّاء” فرحته أخيراً بعد طول حرمانه؟!!
أم تتحسر لأن هذه الفرحة لم تكن من نصيبها هي معه؟!!
هل تحتضنه وتقبل جبينه بتهانٍ تعزفها “مثاليتها” الوردية؟!
أم تلعن ذاك الخبر وترجو السماء ألا تجيب دعاءه بكل أنانية؟!!
وهل يسمى الحب حباً إلا ب-ببعض- قطرات الأنانية فوق كئوس العطاء؟!!
ووسط حيرتها هذه لم يسعها إلا أن تفتح عينيها أخيراً محاولةً السيطرة على أنفاسها اللاهثة لتهمس بصوت متهدج:
_لم تخبرني بعد…لماذا جئت؟!
نظر إليها بتفحص وقد بدأ يشعر بعظم سُمك الجدار -اللا مرئي-بينهما…
فتراجعت ابتسامته شيئاً فشيئاً حتى همس أخيراً بعد صمت قصير:
_جئت لأعيدكِ معي…لتشاركيني فرحتي القادمة.
وهنا ضربته ضحكتها الساخرة الطويلة كطعنة رمح…
ضحكة رنانة بدويٍ غريب على لحن صوتها البرئ!!!
فهزها بين ذراعيه بعنف هاتفاً بضيق زاده انفعاله صخباً:
_لماذا تضحكين هكذا؟!لقد سمحت لك بالسفر فقط خوفاً عليكِ من ذاك الخطر هناك…والآن ما عاد هناك مبررٌ لبقائك هنا…ستعودين معي …لنبدأ معاً في علاجك.
حلت ارتباط ساعديها لتنزع كفيه عنها …ثم هزت رأسها لتقول بتهكم قاسٍ:
_علاجي؟!!لقد فقد السيد عاصي مهارته في تقصي أخباري إذن!
كانت سهام فضتها المشتعلة تحرق كل ما تطاله نظراتها من غابات زيتونه…
فانعقد حاجباه بشدة لتشتعل عيناه بغضب فجرته لهجتها المستفزة…
عندما توهجت عيناها ببريق شراسة غريب على إشعاع ماستها وهي تقول بنفس النبرة:
_جئتَ لتشاركني فرحتك؟!! حسناً…أنا أيضاً أريد أن أشاركك فرحتي!!!
ثم أشارت بكفها على صدرها لتردف بثبات:
_أنا أجريت جراحة ناجحة…وتم علاجي بالفعل..اليوم أستطيع إنجاب طفل متى شاء ربي.
اتسعت عيناه بصدمة للحظات وهو يتفرس ملامحها غير مصدق…
ما هذا الذي تهذي به؟!!
الآن فقط يحدث هذا!!!
الآن تزعم أنها يمكنها منحه طفلاً؟!!!
بعد ماذا؟!!
بعدما تورط بزيجة أخرى؟!!
لكن…لا بأس …
ما الضير في ولد واثنين وثلاثة بل عشرة…
لقد عاد الحظ يضحك في وجهه فلينهل إذن من نصيبه ما شاء!!!
لكنها لكزته بسبابتها في صدره لتوقظه من نشوة ظفره وهي تهتف بصرامة قاسية:
_لكنك لن تكون أباه!!!
كز على أسنانه بغضب وهو يشعر بمفاجأتها تفقده كلماته…
ما الذي تعنيه بكلماتها الخرقاء؟!!
وكيف لم يعلم عن أمر هام كهذا وهو الذي كانت تصله أخبارها أولاً بأول؟!!
كيف استطاعت تدبر أمرٍ كهذا وحدها؟!!
بل…ما الذي تقصده بكونه لن يكون أبا طفلها؟!!
هل ستعود لحماقاتها وترهاتها عن رغبتها بالطلاق؟!!
لكنها عادت تقطع عليه هدير أفكاره عندما سول لها -شيطانها -فكرتها الجهنميةبالانتقام…
فامتدت أناملها لهاتف زهرة الذي نسيته هناك لتعبث فيه للحظات…
قبل أن ترفعه بصورتها مع -جهاد- أمام وجهه لتهتف بنبرة قاسية:
_افرح معي يا عاصي…كما تريدني أن أفرح معك…قلب ماستك تعلق بغيرك .
قالت عبارتها الأخيرة بنبرة أقرب لصراخ الذبيح..
لنحيب الثكلى…
ولعويل الجريح…
لكنها لم تحسب حساب هذا -الإعصار -الذي اجتاح الغرفة بعدما وقعت عيناه على الصورة…!!!!!!
والذي كان الهاتف المهشم أوله…
وصراخه الهائج بكلمات مبعثرة تتلوه…
قبل أن تجد عنقها معتصراً بأكمله بين أنامله بوحشية لم تتخيلها في أبشع كوابيسها…!!!!
ووسط صدمتها بما يحدث غفلت عن واقعها الآن للحظات…
وعيناها تتشبثان بعينيه وكأنها تقرأ فيهما ما بقي لها من مصير!!!!
لتقسم لنفسها الآن فقط.. أنها لم ترهما يوماً كما الآن!!!
لا…عيناه لم تكونا مشتعلتين كعهده عندما يغضب….
بل محترقتين…!!!!
محترقتين تماماً!!!
متفحمتين برماد قلب لم يتوقع أن تأتيه الضربة من ها هنا!!!
ماسة!!!!
ماسته النقية تعلقت بغيره!!!!
وجهها اقترن بوجه آخر ولو في -صورة-!!!!!
بل…وتعترف بهذا بمنتهى الصفاقة وكأن…
وكأن ما خفي كان أعظم!!!
لم يشعر بنفسه وأنامله تواصل اعتصارها لرقبتها مع ذاك القطران الأسود من الغضب الذي سرى بين أوردته…
بينما لم تكترث هي لألمها ولا لخوفها…
بل هتفت باستماتة وكأنها لم تعد تبالي بحياة أو موت:
_افرح يا عاصي…افرح يا من تظن شمس الدنيا تشرق وتغرب بين كفيك!!!
فالتمعت عيناه ببريق حقيقي من- دموع- ظللت غابات زيتونه لتحرق كبرياءه بنيران عجزه وهو يصرخ بثورة عارمة:
_سأقتله…وأقتلك قبله!!
_ألم تقتلني بعد؟!!
همست بها بأنفاس شارفت على الاختناق ثم سعلت بقوة وقد شعرت بقرب نهايتها…
لكنها عاودت همسها بمرارة:
_أنت دفنتني حية…صدقني لم يعد لديّ فارق بين موت وحياة!
ثم ألقت بسهمها الأخير وهي تكاد تلفظ آخر أنفاسها:
_كُتب عليك أن تقتل كل امرأة زعمت يوماً حبها!!!
كز على أسنانه بغضب أكبر وهو يشدد ضغط أنامله على رقبتها بمزيج من ثورة وألم…
ألم قلب ذبح بخنجر غدر في أشد لحظاته أمناً!!!
ربما كان مغالياً عندما جاء يخبرها عن حمل زوجته الأخرى…
لكنه لم يحسبها هكذا!!!
هو لم يكن كاذباً عندما زعم أنه جاء إليها لتفرح معه!!!
لم يكن لديه من يفعل معه ….سواها!!!
نعم…عاصي الرفاعي مع كل نفوذه وسطوته وتجمهر الناس حول إشارة من بنانه كان مجرد قلب وحيد…
لم يأنس إلا بها هي!!!
قد يلومه أحدهم لو علم أنه جاء يخبرها عن فرحته بطفله من امرأة” أخرى”!!!
لكنه هو وحده يعلم أنه ليس هناك “أخرى”…
هي امرأته الوحيدة مهما تَسَمّت بهذا نساءٌ في عالمه!!!
هي المعشوقة العاشقة… المغدورة الغادرة!!!
هي البريئة التي- تدعي – الآن إثماً سيموت كمداً لو- صدقت- به!!!
وسيموت ألماً لو -كذبت -به فقط …لتعذيبه!!!
معقول؟!
هل يمكن أن تكون صادقة؟!!
لا…!!
بل…ربما…نعم!!!
حشرجة أنينها المكتوم قطعت أفكاره العاصفة فتراخت أنامله على رقبتها رويداً رويداً …
عندما سعلت هي بقوة للحظات قبل أن تتلاحق أنفاسها وهي تدفعه بعيداً عنها بقوة مع هتافها اللاهث:
_طلقني…واحفظ ما بقي لك من رجولة معي!!!
ازداد انعقاد حاجبيه مع عينيه اللتين أغلقهما بقوة وكأنه استنكف أن تقرأ هي مرارتهما…
فيما كانت هي في وادٍ آخر وقد أعماها شيطان قسوتها لتردف بصوت هادر:
_أقسمت لك يوماً أنني سأجعلك تطلقني رغماً عنك…طلقني وإلا خنتك كمن سبقتني!!
فتح عينيه بعنف ليختلج قلبها في صدرها وهي تلمح الدمع الذي تجمد بعينيه لدقائق طالت كدهور…
دهور من جراح عجزت أن تجد من يداويها…
تراجعت فيها أمواج قسوتها الفضية لتخلف وراءها فضاء واسعاً من ندم ما عاد يجدي…
لكن…ماذا عساه كان يتوقع منها؟!!
أن تطلق زغاريد الفرح وهو يسحبها خلفه كقطة مطيعة ليعيدها ل”حرملك” نسائه؟!!
أن تقنع بدورها ك”رقم” في سجله وتُقبّل ظاهر كفها وباطنه رضًا بصنيعه؟!!
لا…لا كانت هي …
ولا كانت الدنيا لو فعلتها.!!!
لعن الله عشقاً أذل صاحبه فلم يرفع له هامة ولم يعز له جبين!!!
وبهذا الخاطر الأخير عادت تقترب منه بحذر لتهمس بحزم:
_عذراً لو أفسدت عليك حفلك…عد لحياتك يا عاصي…واستمتع بكأس قدرك الممتلئ…ودعني أنا لكأسي فلا أظننا سنقرع كأسينا بعد!!!
كانت دقات قلبه المدوية تعزف لحن الخسارة بشجن حزين…
لكنه أجاد ستر ضعفه خلف غلالة رائقة من جمود احتل ملامحه لدقيقة كاملة أخرى….
قبل أن يهمس بصوت شديد الخفوت لكنه كان على قلبها كقرع الطبول:
_أنتِ لم تفسدي حفلاً…أنتِ سلبتِني ما بقي من عمر!
ثم تحرك بضع خطوات مبتعداً عنها ليهمس بنبرة ميتة وهو يعطيها ظهره:
_لو عاقبتكِ بقانون عاصي الرفاعي لكنتِ ميتةً بين ذراعيّ منذ لفظت أول كلماتك.
ثم صمت لحظة ليردف بجمود كانت تدرك جيداً ماذا وراؤه:
_لكنك كعادتكِ تكسرين كل قوانيني!
وابتسامته الجانبية عادت لشفتيه- كانتفاضة طير ذبيح -مع استطراده:
_على الأقل…أفلتت إحدى نسائي من أسري حية!
ساد صمت طويل بعدها وكلاهما يعطي الآخر ظهره وقد أدركا أنها ربما تكون آخر مرة يلتقيان فيها…
كلاهما كان يعلم أن الجرح هذه المرة لن تداويه كلمات…
وأن القطار -ربما- وصل بهما لآخر محطاته…
فلم يعد هناك بعد الوصول إلا النهاية!!!
لتأتي كلمتها الأخيرة مكسوةً ببريق زائف من انتصار خدعها به كبرياؤها :
_ستطلقني!
والإجابة قصمت ظهرها -قبله- وهو يسير أخيراً نحو باب الغرفة ليفتحه هامّاً بالرحيل أخيراً
ودون أن ينظر إليها مع انحناءة رأسٍ لم يعرفها -مثله- يوماً:
_ظننتكِ ستصلحين ما أفسدته سنوات عمري قبلك…لكنكِ أنتِ…أنتِ كسرتِني!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى