روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم نرمين نحمد الله

موقع كتابك في سطور

رواية ماسة وشيطان الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء الثامن والعشرون

رواية ماسة وشيطان البارت الثامن والعشرون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الثامنة والعشرون

_أظنكِ ستُرزقين طفلة…يقولون إن الفتاة تجعل أمها في حملها أجمل!!
قالتها رحمة بحنان وهي تراقب وجه ميادة الذي استدار بفتنة زائدة مع تقدم شهور حملها…
فابتسمت ميادة الجالسة جوارها على أريكة صالة منزلها البسيطة لترد بامتنان:
_شكراً يا عمتي…أنتِ تعتنين بي كثيراً.
ربتت رحمة على كفها وهي تقول بمزيج من حنان ولوم:
_ألن تدعوني “أمي” بعد؟!
ارتبكت نظرات ميادة لتهرب بعينيها إلى الأرض وهي تشعر بكثير من الذنب…
ماذا لو علمت رحمة عما تدبره مع شاكر؟!
هل ستبقى متشبثةً بهذا الطلب الأخير؟!!
وبرغم أنها كانت تعاتب نفسها كثيراً فيما يدور خلف الستار…
لكن عقلها كان لا يزال يدير دفة أمورها كما اعتادت…
ولو أن الأمر لم يعد يسيراً كالسابق..
فالصراع بين قلبها وعقلها يزداد ضراوة في كل يوم تقضيه هنا منعمةً بعاطفة رحمة وعزيز!!
لكن رحمة انتشلتها من كل هذا عندما تجاوزت عن إجابتها التي لم تمنحها لها …
لتمد أناملها ببطء فتبسطها على بطن ميادة متمتمةً بالرقية الشرعية في خشوع…
تأملتها ميادة بدهشة وهي تتابع حركة شفتيها بترقب مشوب بفضولها…
حتى انتهت رحمة مما تفعله فغمغمت ميادة بحيرة:
_ماذا كنتِ تفعلين؟!
اتسعت ابتسامة رحمة الحنون وهي تجيبها ببساطة:
_أرقيكِ…كي يحفظكِ الله مع طفلك.
ثم ضحكت لتشع ملامحها بطيبة أكثر مع سؤالها:
_ماذا؟!!ألم تسمعي عن الرقية من قبل؟!
عضت ميادة على شفتها بانفعال فضحته ملامحها وعيناها تغيمان في ماضٍ بعيد….قبل أن تهمس بتأثر:
_بلى…جدتي كانت تفعلها أحياناً في طفولتي.
تنهدت رحمة بحرارة ثم قالت بنبرتها الحنون:
_رحمها الله…يبدو أنها كانت تحبك كثيراً.
دمعت عينا ميادة رغماً عنها وهي تعود بذهنها لتلك الفترة الحرجة من حياتها لتتمتم بلا وعي:
_لم يحبني أحد…لم أكن سوى حِمل ثقيل سعى الجميع للتخلص منه.
تفحصت رحمة شرودها بتمعن وقد شعرت أنها وضعت يديها على طرف خيط قد يوصلها لقلب زوجة ابنها غريبة الطباع…
فجذبت ذقنها إليها برفق مع سؤالها المباشر :
_وهل أحببتِ أنتِ نفسك؟!
اتسعت عينا ميادة بصدمة للحظة قبل أن تتنمر ملامحها فجأة لتلتمع عيناها السوداوان ببريق حاد مع قولها:
_نعم…أحببتها…ولا أظنني سأفكر يوماً إلا فيها…وحدها ميادة تستحق مني الاهتمام…الجميع قد يغدر في لحظة…لكنني مستعدة تماماً لهذا…لقد عودت نفسي كيف أكون قوية وحدي دون حاجة لأحد.
هزت رحمة رأسها لبضع ثوانٍ ثم نظرت في عينيها مباشرة لتقول بحكمة:
_لا يا ابنتي…للأسف…أنتِ لم تحبي نفسكِ كما تظنين…أنتِ زدتِ شقاءها أكثر عندما تجاهلتِ حاجتها الحقيقية بينما تغرقينها بما لا تحتاجه…
ثم ربتت على ركبتها لتردف بحنان:
_يقولون أن حاجات الروح أكثر ضراوة من حاجات الجسد…والروح ياابنتي لا تتوهج إلا بجذوة الحب…ومتى انطفأت فلن يسعد بعدها جسد ولن يهدأ دونها بال.
_سلم لسانكِ يا “حاجة”!!!
هتف بها عزيز الذي خرج من غرفة نومهما لتوه ثم توجه نحو رحمة مقبلاً كفها…
فابتسمت له مع دعاء بالبركة قبل أن يجلس هو في المنتصف بينهما ليضمهما معاً بذراعيه قائلاً بمرح:
_هل فاتني شئ أثناء نومي؟!
خفق قلب ميادة بعاطفة خاصة وهي تلصق نفسها به أكثر مناقضةً كل ما كانت تدعيه…
وقد بدا لها هذا المشهد -لهم جميعاً معاً -كحلم بعيد طالما راودها يوماً…
بعائلة حقيقية تنعم معها بالحنان والدفء قبل أن يندثر كل هذا تحت أنقاض عمرٍ عاشته تزعم أن وحدة قلبها هي سر قوتها!!
بينما قامت رحمة من مكانها لتسمح لهما بمزيد من الخصوصية -كعادتها- وهي تقول لعزيز بمرح مشابه:
_فاتك الكثير…سأترككما معاً كي تحكيه لك زوجتك.
قالتها ثم عادت إلى غرفتها لتغلق بابها خلفها برفق فتابع عزيز خطواتها بحنان..
قبل أن يلتفت نحو ميادة ليقبل وجنتها بعمق هامساً بنبرته الدافئة:
_هل فاتني الكثير حقاً؟!
رفعت عينيها إليه بنظرة طويلة لتغرق في بحوره الزمردية التي ماجت الآن بعاطفة خالصة هدهدت روحها بسحرها الأخاذ الذي بسط سطوته عليها للحظات…
قبل أن تطرق برأسها لتفرك أناملها بحركة عصبية….
لكنه رفع ذقنها إليه ليعاود سؤاله بنبرة أكثر جدية:
_ما الأمر يا ميدا؟!أشعر أن شيئاً ما يؤرقك!
هزت رأسها نفياً كاذبة وهي تغمض عينيها …فتنهد بعمق ثم قال بحذر:
_منذ عرفتِ عن عودة ماسة للعاصمة وانفصالها عن زوجها.
فتحت عينيها فجأة لتشتعل نظراتها بغضب أكد له ظنه …
رغم أنها حاولت تكذيبه بقولها الذي مزج برودها بسخريتها:
_تظنني أغار؟!أم تظن قصتكما لازالت تحمل مشاهد إضافية؟!
ورغم السخرية الواضحة في نبرتها لكنها بداخلها كانت تعلم أن هذا الأمر صار هاجسها الآن…
بعدما علمت عما استجد بشأن ماسة وهي تخشى أن ينهار هذا العالم الآمن من حولها…
لقد جربت شعور “النبذ” من قبل من أقرب الناس إليها….
وتدرك أكثر من أي أحد كيف هي قسوته…
فهل تتجرع هذا الكأس من جديد مع عزيز ؟!!
لكنها لن تتجرعه وحدها هذه المرة…
طفلها سيشاركها إياه!!!
فهل ستحتمل ؟!!
_لا يا ميدا!
انتشلها من خواطرها بعبارته لتعاود الاستسلام لأسره الزمردي الذي اكتسب قوة خاصة مع قوله الحازم:
_الإجابة على السؤالين هي “لا”….فقصتي معها لن تحتمل المزيد…وأنتِ…
ثم صمت لحظة ليقترب بوجهه منها أكثر مردفاً بقوة وكأنه يضمد بكلماته جروح روحها بحنان خبير:
_أنتِ امرأة لا تليق بها غيرة…لن ينتزع منكِ أحد شئ تريدينه دون إرادتك.
كان يعلم أنه يغازل ذاك الجزء” القوي ” بشخصيتها والذي تحاول هي دوماً تعزيزه…
رغم أنه كان يدرك -بطول تعامله معها -أن خلف هذه الواجهة الصلبة طفلة ضعيفة تبكي في صمت…
وعليه أن يتعامل مع “الاثنين” بحذر كي يكسبهما معاً!!!
لهذا رفع خصلات شعرها التي تهدلت على جبينها ليضعها خلف أذنيها بحنان …
فبدت له صفحة وجهها بوضوح أكبر كأجمل ما تكون…
قبل أن يقربها إليه أكثر بذراعه الآخر الذي يضمها… مع همسه الدافئ أمام عينيها:
_هل تدركين قوة ما بيننا؟!
فارتعشت حدقتاها لتبدو من خلفه صورة باهتة لعاطفتها التي حاولت إخفاءها بهمسها الذي امتزجت مرارته بسخريته:
_وما هو الذي بيننا؟!
ابتسم بحنان ممتزج بامتنانه ثم قبل جبينها بعمق ليجيبها بثقةٍ ودّ بحق لو تصلها كما يشعر بها:
_ما بيننا حياة قبلتِ أنتِ أن تشاركيني مُرّها وأقسمت أنا ألا يكون حلوها إلا لكِ.
دمعت عيناها بانفعال وهي تشعر بصدق حديثه…
بينما تناول هو أناملها ليقبل أطرافها واحداً واحداً ولازال يأسرها بزمرديتيه مع استطراده بنفس النبرة:
_كل يوم…بل كل لحظة تتشبثين معي هنا بعالمي الذي اخترته تجعلكِ تكبرين بعيني أكثر…
أفلتت أنّةٌ خافتة من شفتيها وضميرها يوخزها بالندم من جديد…
خاصة عندما استقرت شفتاه على باطن كفها بقبلة عميقة تبعها بهمسه :
_كنت أحتاج امرأة بقوتك لتدعمني…وأنتِ لم تخذليني قط.
أخفت وجهها في كتفه وكأنها ما عادت قادرة على كتمان عاطفتها التي اتشحت الآن بالمزيد من شعورها بالذنب…
بينما ترك هو كفها برفق ليتخلل خصلات شعرها بأنامله مردفاً:
_أنا اخترت اسم ابنتنا القادمة.
رفعت إليه عينيها فجأة مع سؤال حائر ظلل رموشهما…
فابتسم بحنانه -آسرِها- ليهمس:
_أريدها…ميادة…مثلك.
ثم شبك أنامله بأناملها ليضعها جميعاً على بطنها مع قوله الذي أراد به نسف كل ذرة من شكوكها:
_أريد أن تكون حياتي كلها لميادة…
ثم رفع أناملهما المتشابكة لشفتيه يقبلها مستطرداً:
_و…ميادة!!
ابتسمت ابتسامة ابتسامة صادقة لأول مرة منذ زمن بعيد وهي تهمس باسمه بعد تنهيدة حارة :
_عزيز!
_حياة عزيز!!
بمنتهى الصدق نطقها ….
لكنها لم تكتفِ بها مع سؤالها التالي:
_و”قلب” عزيز؟!
أشاح بوجهه عنها للحظات…ثم عاد يلتقط نظراتها المشتعلة بتحفزها لتطفئها أمطاره الزمردية الحنون مع همسه بصدق:
_الحب ليس العمود الوحيد الذي ترتكز عليه أي علاقة…ربما يكون ما بيننا أقوى كثيراً منه…ما بيننا تفاهم وثقة وطفل سيمنحه كلانا عمره…دعينا نتمهل الخطى في هذا الطريق لعلنا نصل للحب أيضاً في آخره.
التوت شفتاها بابتسامة شاحبة لتهمس :
_على الأقل كنتَ جاملتني وقلتَها كاذباً!!!
ابتسم وهو يشير بسبابته لجانب رأسها قائلاً باعتزاز:
_عقل ميادة لن يصدق أنه ربح قلب “الشاعر” بهذه البساطة…ولن يرضى بكذب مجاملة…لكنه يصدقني وهذا يكفيني.
اتسعت ابتسامتها وهي تومئ برأسها الذي قبله هو بحنان قبل أن يتركها قائماً ليقول :
_سأعد لك العصير معي.
همت بالاعتراض وهي تكاد تقف لكنه دفعها برفق ليجلسها مردفاً برفق:
_ابقيْ مستريحة…سأعده أنا فرحمة تحبه بطريقتي.
راقبته بشرود وهو يتوجه نحو المطبخ المقابل عندما رن هاتفها برقم غريب …
فتناولته لتفتح الاتصال عندما وصلها صوت شاكر مغمغماً بحذر:
_ميادة…هل يمكنك الحديث الآن؟!
اكتست عيناها بتوتر ملحوظ وهي تراقب انهماك عزيز فيما يفعله لتهمس بخفوت :
_نعم…هل جدّ هناك شئ؟!
عاد صوته الواثق يغزو أذنيها بقوة:
_نعم…رجلي هناك في إدارة الحي أخبرني أن أمر إزالة المنزل على وشك الصدور..بعدها سأتدبر أمر عمل عزيز هو الآخر…وساعتها لن يجد له ملجأً غيري.
ازدردت ريقها بصعوبة وهي حائرة في شعورها الآن…
هل تفرح لقرب نجاح خطتها؟!
أم تخاف من عاقبة أمرها لو انكشفت الحقيقة؟!!
لكن شيطان “طمعها” غلبها وهي تقنع نفسها أنها لن تخسر شيئاً…
“حب” رحمة و”أمومة “طفلها المنتظر و”حنان” عزيز و”ثراؤه” أيضاً…!!!
كل هذا ستملكه بين كفيها عما قريب …
ودون أن تضطر لتضحية!!!
لهذا غمغمت برد استحسان مقتضب لشاكر قبل أن تغلق الاتصال بسرعة …
لتعيد هاتفها جوارها عندما عاد عزيز إليها حاملاً كوب العصير ليسألها باهتمام مشيراً بعينيه للهاتف الذي كان قد سمع رنينه:
_والدتك؟!
أومأت برأسها كاذبة وهي تتناول منه الكوب فابتسم ليقول بحزم حنون:
_لم نزرها منذ وقت طويل…وأنتِ تكتفين فقط بمكالمات الهاتف….الليلة موعد متابعتك لدى الطبيبة…ما رأيك لو نذهب إليها بعدها؟!
_لا!
هتفت بها بضيق وهي تشيح بوجهها …
فتنهد بحرارة ثم احتضن وجنتها براحته يدير وجهها إليه مع همسه الحازم:
_متى ستسامحين؟!
_وهل سامحت أنت أباك؟!
هتفت بها بتحفز وقد عادت عيناها تشتعلان بغضبهما فانعقد حاجباه بغضب مشابه…
لكنه كتم انفعاله بأقصى ما استطاعه من قوة ليقول بمزيج من حزم وعتاب:
_وضع أبي مختلف…أولاً أبي لم يؤذني وحدي…لو كان الأمر يتعلق بي فحسب لكنت تجاوزت عنه…لكنه حق أمي وحق ماسة التي دفعها بيديه لطريق رجل بلا ضمير كي يدمر لها ما بقي من حياتها.
أطرقت برأسها عاجزة عن مجادلته وهي تدرك في نفسها منطقية ما يقول…
بينما استطرد هو بنفس النبرة:
_وثانيا…أبي لا يريد مني مجرد عفو…بل يريد طمس شخصيتي…صهر كياني في كيانه هو…وأنا أريد أن أكمل طريقي كما أرتئيه لا كما يختاره لي غيري.
اعتصرت أناملها كوب العصير بقوة محافظة على إطراقها الصامت…
وقلبها يؤيده في كل كلمة نطقها لكن شيطان “طمعها” كان يشوش على وضوح الصورة…
عندما أردف هو بنبرة أرق:
_لكن والدتك ليست كذلك…ليس من العدل أبداً أن نظل العمر كله نجلد انساناً بذنب قديم تاب عنه…هي تحتاجك الآن كما تحتاجينها.
_أنا لا أحتاج أحداً!!!
هتفت بها بانفعال وهي تقوم واقفة لتردف بقسوة:
_أنا قضيت عمري السابق كله أقوي نفسي كي لا تحتاج أحداً…ولن أضيع كل هذا الآن.
هز رأسه بيأس وهو يقوم واقفاً بدوره …
ثم تنهد بعمق قائلاً:
_حسناً…بعض الدروس تحتاج المزيد من الوقت لتعلمها.
ارتجف جسدها بغضب مكتوم وهي تشيح بوجهها الذي احمر بانفعاله…
فابتسم رغماً عنه بحنان وقد بدت له كطفلة ثائرة…
ليتناول من يدها كوب العصير ثم يرفعه نحو فمها بنفسه مردفاً ببعض المرح:
_هلّا شربتِ الآن العصير حتى ندرك موعدنا!!
عادت عيناها تتعلقان بعينيه لتتلقى بنَهم دفء نظراته الحنون….
فتشققت شفتاها عن ابتسامة وليدة…
كبرت شيئاً فشيئاً حتى أضاءت وجهها كله قبل أن تتجرع رشفة من الكوب…
فضحك بمرح وهو يرفع أحد حاجبيه ليقول مشاكساً:
_لديكِ ابتسامة عجيبة قادرة على تحويلك في ثانية واحدة من “الساحرة الشريرة” إلى “سنووايت” نفسها!!!
ضحكت بانطلاق ضحكة منفعلة طويلة انتهت بخيطين من الدموع على وجنتيها وهي تضع أناملها على شفتيها المرتجفتين…
كم هو صادق في عبارته!!!
هي تتأرجح في أفعالها بين “شر طمعها” و…”احتياج عاطفتها المنسية”…
بين حصاد سنوات من “النبذ” و…وعدٍ مزركش بال”الاحتواء”…
فلا هي وأدت ضميرها بمنجل “الشر”…ولا هي قادرةٌ على ارتداء قناع “البراءة”!!!
ويبدو أنه لمح كل هذا مرسوماً في حدقتيها المرتعشتين بانفعال يناقض قوتها المعهودة…
فاقترب منها مبتسماً ليحتضن كتفيها بكفيه هامساً بجدية هذه المرة:
_لن أتحدث معك في هذا الأمر ثانية…
ثم شدد ضغط قبضتيه على كتفيها وكأنه يمنحها دعماً يدرك أنها تحتاجه :
_سأنتظر منك أن تفاجئيني.
تنهدت تنهيدة بعمق حيرتها وهي تطرق برأسها أخيراً بينما ابتعد هو ليقول بصوت عاد إليه حنانه:
_سأذهب لأعطي لأمي كوب العصير مع دوائها وأجلس معها قليلاً حتى تبدلي ثيابك.
أومأت برأسها إيجاباً وهي تعود لغرفتهما الصغيرة …
حيث وضعت كوبها جانباً بعدما ارتشفته ببطء شديد…
وكل رشفة منه كانت تحمل لها ذكرى “حنون” من عزيز ورحمة…
تقابلها ذكرى “قاسية” من والديها…!!!
وبين فيض ذكرياتها كان “قلبها” يترنح بضعفٍ أخافها خلف ضبابات “عقلها “الذي لم يخذلها يوماً …
فلم تدرِ أيهما تتبع هذه المرة؟!!
بدلت ثيابها بسرعة ثم مشطت شعرها لتتأمل صورتها التي بدت لها أكثر بهاءً!!
فابتسمت وهي تتحسس بطنها الذي برز قليلاً خلف ثوبها الواسع نسبياً وهي تتذكر عبارة رحمة عن أن الفتيات يجعلن أمهاتهن أجمل….
وهنا اجتاحها سحرٌ غريب وهي تحتضن بطنها بذراعيها…
يزعمون أن الأمومة شعورٌ رائع…
لكنها الآن تدرك أنه يفوق هذا بكثير…
هو سحر الامتزاج بروح أخرى ارتبطت بها للأبد…
أمانٌ خالص مشبعٌ برغبة عارمة في العطاء لمخلوق صغير لن تسمح أن تفترق عنه أو يفترق عنها…
وإن كان والداها فعلاها يوماً…فهي لن تفعلها أبداً!!!
تنهدت بحرارة وهي تبتلع أفكارها أخيراً لتتوجه نحو نافذة الغرفة التي فتحتها لتلفح وجهها نسمات الهواء مختلطة بألوان السماء القرمزية المميزة للغروب…
قبل أن تجول بعينيها في الوجوه “الطيبة ” التي كانت تراها في الطريق…
ولا تدري لماذا بدت لها الآن أكثر عذوبةً من ذي قبل…!!!
ثم دارت بعينيها في الشرفة حولها بحنين -تعجبته في نفسها -مع عبارة دوت بداخلها:
_غداً..يصير كل هذا مجرد حطام…
زفرت بقوة عند خاطرها الأخير…
لتنتفض فجأة عندما شعرت بكفه يربت على ظهرها مع صوته الحنون:
_مستعدة؟!
فالتفتت نحوه لتومئ برأسها قبل أن يغادرا معاً …
لتحافظ على صمتها الشارد طوال الطريق والذي لم يحاول هو قطعه احتراماً لأفكارها…
لكنه أبقى على احتضان كفها وكأنه يمنحها دعماً غير مشروط…
حتى أنها لم تدرِ كيف وجدت نفسها فجأة على سرير الكشف في غرفة الطبيبة التي دارت على بطنها العاري بذاك الجهاز الصغير المميز…
لتتابع عيناها بلهفة تلك الصورة على الجهاز بلونيها الأبيض والأسود…
والتي كانت أكثر وضوحاً واكتمالاً للجنين من المرات السابقة…
قبل أن يصل لسمعها أخيراً صوت الطبيبة تغمغم بنبرة مرحة:
_لا أستطيع الجزم الآن…لكن أغلب الظن أنها فتاة.
صيحة فرِحة خرجت من شفتيها رغماً عنها …
صاحبتها ضحكة حنون من عزيز الذي ضغط كفها ليهمس في أذنها بعاطفة هادرة:
_ميادة كما كنت أريد.
لكنها كانت غافلةً عنه ونظراتها متشبثة بالصورة أمامها تكاد تراها بعيني خيالها طفلة حقيقية…
زمردية العينين كأبيها…
حنونة الطباع كرحمة…
وقوية مثلها!!!
دمعت عيناها بتأثر عندما أمرتها الطبيبة بالقيام لتهتف بلهفة:
_لا…دعيني قليلاً أريد أن أملأ عينيّ من صورتها.
رمقها عزيز بنظرة حنون ثم غمغم باعتذار واهٍ للطبيبة التي قالت بتفهم:
_لا بأس!!!الطفل الأول دوماً هكذا.
لكن الصورة بقيت محفورة في قلبها حتى بعدما غادرا سوياً عيادة الطبيبة…
وكأنها لمست ب-بساطة -نقاء فطرتها لتنثر النور فجأة في جنبات روحها !!!
طلبت منه التمشية قليلاً ليجيب دعوتها بترحاب…
كانت تتأبط ذراعه بأحد ذراعيها وتحتضن بطنها بالآخر في عاطفة لم تعرفها في نفسها من قبل…
عندما التفت هو نحوها ليسألها بتأثر:
_هل تشعرين كما أشعر؟!
ففاضت عيناها برجاء أبى كبرياؤها أن يبوح به لسانها …
لكنه قرأه كاملاً فشدد ضغط ذراعه عليها ليقربها نحوه أكثر قبل أن يميل عليها هامساً:
_أشعر أن ميادة الصغيرة ستكون تميمة الحظ لنا…هي وحدت طريقانا بعدما كدنا نفترق.
فرفعت عينيها إليه بتردد احتجزه صمتها القصير للحظات…
قبل أن تقول بنبرة مرتجفة:
_عزيز…ما رأيك..لو…
هز رأسه بتساؤل وهو يمنحها نظرة مشجعة فحسمت أمرها لتردف بخفوت:
_نذهب لنزور أمي؟!
هنا ابتسم هو بسعادة وهو يتلفت حوله قبل أن يميل عليها من جديد هامساً:
_لولا خوفي من اتهام بفعل فاضح في الطريق العام لمنحتك أجمل قبلة بعد عبارتك هذه.
ابتسمت بخجل حقيقي وهي تلتصق به أكثر بينما تنهد هو ليهمس بارتياح:
_أخيراً يا ميدا…ألم أقل لكِ أنني أنتظر مفاجأتك؟!
=========
_مسكينة يسرا!!
همست بها ماسة بإشفاق وهي تطالع جسدها الذي استكان أخيراً بعد جرعة xxxx مهدئ أخرى…
قبل أن تسقط في سبات عميق!!
فأومأ فهد برأسه ثم جذبها من كفها ليغادرا الغرفة بهدوء…
كانت ماسة قد انتقلت للإقامة معهما هنا في منزلهما بالعاصمة منذ بضعة أيام ريثما تتاح لها الفرصة لمواجهة جاسم الصاوي…
و يفي فهد بوعده لزوجته في مساعدتها في العلاج الذي بدأوه فور عودتهم.
التفتت نحوه لتسأله باهتمام مشوب بشفقتها:
_هل ستتعذب هي هكذا طويلاً؟!صرخات ألمها تكاد تشق صدري وأنا لا أملك التخفيف عنها فلا خبرة لي في علاج الإدمان.
سار معها حتى غرفتها وهو يجيبها بأسف:
_العلاج الجسماني لا يستغرق الكثير من الوقت…سبعة أيام على الأكثر…سنستعين فيها بالمهدئات….المشكلة ستكون في العلاج النفسي وآثار الانسحاب…يقولون أنها ستستغرق وقتاً أطول حسب استجابتها كي نضمن عدم عودتها لتعاطي تلك السموم.
دخلت الغرفة لتغلق بابها خلفهما وهي ترد بحذر:
_وهل سيمكنك تكتم الأمر طوال هذه الفترة؟!
تنهد بحرارة وهو يستلقي على الأريكة بإجهاد قائلاً:
_أنا أبذل قصارى جهدي…من حسن الحظ أن والدتها مسافرة لوقت طويل ويمكننا تدبر أمر مهاتفاتها التليفونية…و”سيادة اللواء” لا وقت لديه لتفقد ابنته وسط مشاغله…كما أنني صرفت طاقم الخدم بدعوى خصوصيتنا مكتفياً بواحدة أثق بها كثيراً.
جلست جواره لتربت على ركبته بعطف قائلة:
_لا بأس…أظن الأمر سيكون أيسر ما دامت هي الأخرى ترغب في العلاج.
مسد جبينه بإرهاق واضح وهو يومئ برأسه إيجاباً…
فغمغمت بحنان:
_أنت لا تنام جيداً منذ جئنا إلى هنا.
زفر بقوة ثم أسند رأسه إلى ظهر الأريكة ليقول بضيق:
_رأسي يكاد ينفجر.
تنهدت بحرارة ترقب ملامحه بتعاطف ناسب قولها:
_أنت تحمل الكثير على ظهرك دون شكوى يا أخي…ما بين اعتنائك بيسرا وانشغالك بشأن مواجهتنا مع والدك.
ثم صمتت لحظة لتردف بخفوت:
_وحزنك الذي تداريه عن الجميع لكنني أقرأه دوماً في عينيك.
أغمض عينيه بألم للحظات قبل أن يهمس بصوت متقطع:
_هذا البيت يخنقني…لم أتصور لحظة أن أعود للإقامة فيه برغبتي .
هزت رأسها بتفهم عندما فتح هو عينيه ليردف بضيق:
_متى سيأتي اليوم الذي ألقي فيه كل هذا خلف ظهري؟!
ابتسمت لتمنحه بعض الأمل وسط كل هذا مع قولها الواثق:
_صبراً يا فهد…لازال الطريق طويلاً لكنني أثق أنك ستبلغ منتهاه.
فرد لها ابتسامتها بأخرى باهتة وهو يجيبها بامتنان:
_شكراً يا ماسة…وقوفك جواري وجوار يسرا في الأيام السابقة دين في عنقي.
ألقت رأسها على كتفه وهي تربت على صدره هامسة:
_لا دين بين الإخوة.
ثم رفعت عينيها إليه لتردف بامتنان:
_أنت سندي يا فهد…لا تتصور مدى فرحتي بك واحتياجي إليك هذه الأيام بالذات.
توهجت عيناه ببريق حنان غشي قلبها قبل عينيها …
فاستطردت بشرود اجتاحته أفكارها العاصفة:
_حضن رحمة الذي عدت إليه…واهتمام عزيز…وحنانك أنت…كل هذا سيكون زاد طريقي الجديد …
ثم همست لنفسها دون صوت:
_ماسة ستكون أقوى بكم جميعاً…حتى ولو فقدت “سيد” قلبها.
لكنه انتزعها من شرودها بقوله :
_كفانا إذن تأجيلاً للمواجهة…
فرمقته بنظرة متسائلة ليردف بحسم:
_أعدي نفسك…الليلة سنذهب إلى جاسم الصاوي لتبدأ معركتنا معه.
==========
وقف أمام مرآته بخيلاء وابتسامته الظافرة تحتل شفتيه…
بريق الفوز يتوهج بعينيه وهو يعدل ياقة قميصه بفخامة تليق بمن هو في منصبه الآن…
لقد فاز فوزاً ساحقاً في معركته الانتخابية الأخيرة ليقتنص كرسي المجلس باقتدار…
وبعد قليل موعده مع أشهر القنوات التلفزيونية في أول لقاء له بعد فوزه بالمنصب…
ليشرح للشباب قصة كفاحه الطويل وكيف يحضهم على الطموح والجد لأجل رفعة الوطن و تقدمه و….
و….
و…كل هذا “الهراء” الذي تكفل -أحدهم- بكتابة خطبة طويلة بشأنه سيلقيها -كعهده- بمنتهى الحماس!!
لكن كل هذا لا يكفيه…
هو لازال يطمع بالمزيد…
كرسي المجلس مجرد خطوة تؤهله لحلمه برئاسة المجلس كله…
وهو هدفه التالي الذي سيحرص أن يحققه عما قريب.
طرقاتٌ خافتة على الباب قطعت أفكاره تلاها دخول أحد الخدم مع قوله بتهذيب:
_السيد فهد ينتظرك بالأسفل.
انعقد حاجباه بغضب مفاجئ وهو يصرف الخادم بصيحة هادرة…
قبل أن يندفع مغادراً الغرفة نحو بهو قصره منتوياً تعنيف فهد الأحمق الذي يصر على إحراجه…
ماذا سيقول الخدم لو وجدوه ينتظره بالأسفل طالباً رؤيته كالغرباء؟!!!
ألا يكفيه انتشار الشائعات عن ابن جاسم الصاوي الذي خرج عن عباءة أبيه؟!!
لكنه ما كاد يصل إليه حتى رآها معه…!!!!
ترمقه بنظرات ثابتة خلت تماماً من العاطفة رغم براءة قسماتها…
نعم…ماسته التي فرط فيها يوماً بإرادته…
فهل آن الأوان لتعويضها؟!!
أم أن الزمان الذي دار دورته لن يغير قراره لو أعاد الاختيار؟!!
لهذا وقف أمامها بنظراتٍ اجتاحتها عاطفة غلبته دونما إرادة منه…
وهو يراها صورة مصغرة من تلك المرأة التي تزوجها يوماً ليقتطف زهرة شبابها قبل أن يلقيها وابنتها في العراء فداءً لأخرى خائنة؟!!
والنتيجة…؟!!!!
تنهد بحرارة وهو يغمض عينيه بألم واضح للحظات..
لكنه ما كاد يفتحهما أمامها من جديد حتى اخترقتهما سهامها الفضية الماضية بقوة لا يدري من أين اكتسبتها في ظروفها هذه…
فلا يدري هل تخيفه لأنها تشكل خطراً عليه؟!!
أم تثير إعجاب ذاك “الجانب الأبوي” الذي يجاهد للطفو على سطح مشاعره الأخرى؟!!!
لكن فهد قطع عليه هدير أفكاره وهو يقول ببرود ساخر:
_مبارك نجاحك سيد جاسم…عساك سعيد!!
وكأنما أعادته لهجة فهد الساخرة لسلطان جبروته الذي أعاد لملامحه جمودها وهو يشيح بوجهه قائلاً ببرود:
_لماذا جئتما؟!
ظهر القلق في عيني ماسة وقد انفرجت شفتاها تهمّ بتذكيره بوعده…
لكن فهد سبقها بقوله الصارم:
_أنت تعلم…فلا داعي للّف والدوران.
_تأدب يا ولد…أنت تحدث أباك.
هتف بها جاسم بغضب وقد احمر وجهه بانفعال من يدرك ضعف موقفه لكن فهد ضحك ليقول ساخراً:
_بالضبط!!هذه تربيتك يا سيد “جاسم” …ماذا تنتظر مني غير العقوق؟!
ثم لوح بسبابته في وجهه ليردف بأقسى نبراته:
_أنت علمتني جيداً كيف أستغل ثغرات خصمي لأحصل على ما أريد ولا أظنك تريد اختبار مهاراتي.
_خصمك؟!!
هتف بها جاسم من بين أسنانه قبل أن يردف باستنكار:
_هل صرت الآن خصمك؟!
فاقترب منه فهد خطوة ليجيبه بازدراء واضح:
_لا ليس الآن…بل منذ استبحت دم زوجتي الذي لن أسامح فيه.
زفر جاسم زفرة مشتعلة وهو يشيح بوجهه دون رد…
فاستطرد فهد وقد عادت لصوته برودته القاسية:
_لكن هذا ليس شأننا الآن…
ثم أحاط كتفي ماسة بقبضتيه داعماً ليردف بحسم:
_ماذا ستفعل بشأنها؟!
نقل جاسم بصره بينهما للحظات…
ثم أعطاهما ظهره بصمت تعمده حتى يمكنه فرض شروطه التي مهد لها بقوله:
_من الجيد أنك عدت ليسرا…
ثم التفت نحوه برأسه ليردف بنبرة ساخرة:
_يبدو أن فتنتها غلبت وفاءك ل”المرحومة” التي تخاصمني لأجلها!!!
اكتست ملامح فهد بانفعال جارف وقد شعر بقبضة باردة تعتصر قلبه الذي لايزال مذبوحاً بمصيبته…
لكن ماسة- التي كانت تشعر الآن جيداً بما يعانيه- رفعت إليه عينيها بفيضها الحنون….
ثم ربتت على كفه القابض على كتفها برفق قبل أن تواجه جاسم بأول مشاركة لها في هذا الحوار:
_لن أفرط في حقي يا سيد جاسم حتى لو كان عمري هو المقابل.
ازدرد جاسم ريقه بتوتر وقد هزته عبارتها رغماً عنه…
لكنه لم يشأ أن يعترف بهذا لهذا عاد يعطيهما ظهره متجاهلاً عبارتها …
ليبتعد بضع خطوات قبل أن يقول بنبرته القوية:
_حسناً يا فهد …مادمتَ ربطت نفسك بها فاقبل شرطي .
تبادل فهد وماسة نظرات قلقة قبل أن يقول فهد بنبرة لا تقل عن نبرة أبيه قوة:
_وما هو شرطك؟!
فصمت جاسم للحظات كما اعتاد في صفقاته ليعطي كلماته أبلغ أثر…
قبل أن يستدير نحوهما بجسده ليقول ببطء:
_كما عدت ليسرا،فستعود للعمل معي كالسابق وتحت نظراتي تماماً هذه المرة!
_على جثتي!!
بحسم قاطع هتف بها فهد فانعقد حاجبا جاسم بغضب …
بينما استطرد هو بنبرة وعيد :
_ماسة ستأخذ حقها كاملاً وأظنك تدرك ما يمكن لابنك “المجنون” فعله خاصةً وأنه لم يعد لديّ ما أخسره.
ثم ضرب بقبضته على صدره ليردف بحزم:
_أما أنا فانسَ شأني تماماً …لم يعد بيننا سوى اسم على الأوراق الرسمية ولو كان الأمر بيدي لتنازلت عنه بطيب خاطر.
كز جاسم على أسنانه بغضب ثم لوح بسبابته في وجهه ليقول مهدداً:
_لن تكون شوكة في خاصرتي…لو لم تعد لي صاغراً فسأنسى أنك ابني وأدمرك في أي مكان تذهب إليه.
فابتسم فهد ابتسامة متحدية وكأنه كان يتوقع الرد…
ثم نظر في ساعته ليقول ببطء واثق:
_لديك مقابلة تلفزيونية بعد قليل…سنتركك الآن لها…لكن إن لم تمنحني رداً قريباً بشأن ماسة فستكون المقابلة التلفزيونية القادمة لي أنا…
ثم ضم ماسة إليه أكثر مردفاً بنبرة ذات مغزى:
_وأختي.
قالها ثم دفعها برفق أمامه ليغادر القصر منهياً الحوار…
بينما تسمر جاسم مكانه يراقب رحيلهما بقلب موجوع رغم ما اكتست به ملامحه من جمود…
لماذا لا يموت قلبه كما مات ضميره؟!!
أم أن هذا هو عذابه الذي بقي له بعد سوءات عمله كلها؟!!
أن يبقى يراقب خساراته في أعز أهل الأرض لقلبه دون أن يقوى على التراجع!!!
أن يبقى “شيطانه” غارقاً في غِيّه بينما روحه تئن ألماً بجرح لا يدركه غيره!!!
فأي عذاب!!!
وأي خسران!!!
لكنه تمالك نفسه أخيراً ليتجاهل كل هذا ليعاود النظر في ساعته…
قبل أن يتحرك مغادراً القصر بدوره ليدرك”مقابلته التلفزيونية”!!!
=====
استيقظ من نومه ليلاً ليتفقدها على فراشها لكنه لم يجدها…
تنهد بحرارة وهو يسترجع شرودها الطويل منذ عادت إلى البيت بعد خروجها من المشفى منذ بضعة أيام مضت…
ورغم محاولاته المستميتة لإخراجها من هذه الحال لكنها كانت تبدو وكأنها تقاوم نفسها قبل أن تقاومه هو…
تقضي يومها مع أمه وعندما يعودان لشقتهما ليلاً بعد انتهاء عمله بالورشة تتهرب منه بذريعة رغبتها في النوم…
لقد ظن أن هيام عادت تضايقها لكنه رأى بعينيه كيف تغيرت معاملة هيام لها تماماً بعد الحادث وكأنها تحفظ لها صنيعها مع شقيقتها…
كما أن عزة لا تكاد تغادر شقتها حفاظاً على مشاعرها هي الأخرى بعد الوعد الذي شهده ثلاثتهم في المشفى…
الجميع يدللونها كما تستحق…فما الذي يشغل بالها بعد؟!!
غادر الغرفة بحثاً عنها عندما وجدها جالسةً على كرسي المائدة تعطيه ظهرها…
فاقترب منها بخطوات متمهلة مستكشفاً ليجدها تكتب في دفترها الليموني…
ابتسم بحنين جارف وهو يسترجع بذهنه آخر ما كتبته في هذه الأوراق…
والذي يعتبره بحق -رغم بساطته -أجمل وأصدق ما قرأه في عمره كله…
لهذا اقترب بحرص أكبر حتى صار خلفها تماماً لكنها لم تكن تشعر به مع انهماكها في الكتابة…
مبعثرةٌ هي الكلمات …
كما هي مشاعري الآن…
بين “مد” عشق يدفعني إليه…
و”جزر” خوف يسحبني بعيداً…
بين “صفعات” أمسٍ يزعم أنه قد رحل…
و”أحضان” غدٍ تعدني بالأمان…
بين “كوكب دري” يلتمع في سمائي لم يشرق إلا بحبه…
و”بئر سحيق” أقف بحيرتي على حافته!!!
قدماي لا تزالان ترتعشان على أرضٍ تدور بي بسرعة فأنّى لي الثبات؟!!
والغد الذي ظننتني امتلكت مفاتِحه لازال يهرب مني كعصفور عنيد…
هل يعيش الحب لو ظل مقيداً بسلاسل الخوف؟!!
هل تزهر براعمه تحت سماء ملبدة بغيوم الشك؟!!
هل تمتد يد الفرح لتصافحه أم يبتر وحش الماضي أنامله ؟!
هل يتنفس؟!!
هل يحيا؟!!
_نعم …يحيا!
همس بها في أذنها مقاطعاً وهو ينحني عليها ليطوق ظهرها بذراعيه من الخلف …
قبل أن تحط شفتاه على عنقها …
فأغلقت دفترها بسرعة لتبسط كفها عليه وهي تزيحه بعيداً مع التفاتتها الواهنة نحوه بقدر ما سمح به احتضانه القوي لها…
قبل أن يرفع هو عينيه إليها ليردف بصدق:
_ولو مات حب العالم أجمع…حبكِ أنتِ سيحيا تحت أي ظرف.
احتضنت نظراته بعاطفتها التي سطعت كالشمس في عينيها لكنها تنحنحت لتهمس بارتباك:
_هل قرأت ما كتبته؟!
فك ارتباط ساعديه حولها ليرفعها نحوه بأحد ذراعيه قبل أن يلتقط دفترها بالآخر مجيباً بعاطفة ما عاد يختنق بكتمانها:
_ليس هذا فحسب…قرأت دفترك كله.
ثم رفع الدفتر لشفتيه بقبلة امتنان مردفاً بنفس النبرة:
_من أول كلمة….لآخر كلمة.
شهقت شهقة حادة ثم توهجت وجنتاها بانفعال وهي تشيح بوجهها…
لكنه احتضن وجنتها براحته ليقربها نحوه من جديد هامساً:
_ممَ تخافين؟!
أغمضت عينيها للحظات قبل أن تستند بجبينها على صدره لتهمس بأسى:
_خائفة أن أعود لنقطة البداية…لا أظن أن ما بيننا سيصفو بهذه البساطة؟!
_بساطة؟!
غمغم بها باستنكار وهو يرفع ذقنها إليه ليردف :
_كدتُ أفقدكِ للأبد…وتصفين هذا ب”البساطة”؟!!
هزت رأسها بانفعال يليق بعبارتها بعدها:
_هل تريد إقناعي أنك تخلصت من كل شكوكك نحوي؟!هل تزعم أنك ستثق بي ؟!
فابتسم بحنان مقدراً انفعالها ليسألها برفق:
_نتحدث بالعقل؟!!أم بالقلب؟!
صمتت حائرة دون رد فداعب وجنتها بأنامله ليقول بجدية تامة:
_سأبدأ بحديث العقل…أنا أدين لدفترك هذا بالكثير.
قالها وهو يلوح لها به أمام وجهها قبل أن يلقيه برفق على المائدة جواره ليردف :
_وكأن القدر أوقعه في طريقي من أول مرة ليجعلني أقرأ ما بداخلكِ دون رتوش إضافية…بمنتهى الشفافية…قرأت فيه صدق توبتك وندمك…قرأت فيه مشاعرك نحوي…خوفك الذي تودين لو ينتهي…قوتك التي كنتِ تتشبثين بها بإرادة من فولاذ..وكأنني رأيتكِ بين سطوره تمزقين ماضياً أرهقكِ وتحلمين بغد نقي مثلك…فهل هناك ما هو أصدق من هذا كي أثق به؟!
أسبلت جفنيها بتعب أثاره طول تفكيرها في هذا الشأن…
فضم رأسها لصدره برفق قبل أن يستند برأسه عليه مكملاً بنبرة دافئة:
_أنهينا إذن حديث العقل…فهل تسمعين حديث القلب؟!
لم تستطع إجابته بأكثر من همهمة خافتة …
وهي تدفن وجهها في صدره تستنشق عبير عاطفته وتنتشي بلحن دقاته الصاخبة الآن…
لينساب همسه نهراً من عسل في أذنيها:
_أنا الذي عشقتك بكل صورك…عشقتكِ فتاة تحتضن كتبها بين ذراعيها وهي تسير في الطريق…وعروساً فتنتني بالابيض يوم ارتدته لي…وامراة افتدت شرفي بروحها فشاركتها دمي …عشقت ضعفكِ لما كان يحتل خلاياي كلها مستنفراً للدفاع عنكِ بكل ما أملك..وعشقت قوتك لما كانت درعاً جديداً للأميرة في غياب حارسها…فماذا تريدين أكثر؟!
ثم رفع ذقنها إليه ليردف بحرارة:
_انبذي عنكِ الخوف يا” ليمونية”…فعيبٌ على ملكة القلب أن تخاف!
ابتسمت بخجل زين وجنتيها بحمرة لذيذة مع تساؤلها :
_ليمونية؟!
فتأوه بخفوت وإبهامه يداعب “شق ذقنها” بهيام احتل نبراته:
_طالما أحسستكِ امرأة بنكهة الليمون…غرامها لاذع لكنه منعش…لا يترك القلب إلا ثائراً بخفقاته.
اتسعت ابتسامتها للحظات ثم عاودت إسناد رأسها على صدره فداعب شعرها بأناملها ليسألها برفق خبير:
_هل هذا فقط ما يؤرقك؟!
رفعت عينيها إليها بحذر مشفق ليقرأ توجسها في نظراتها …
قبل أن تهمس بتردد:
_عزة.
كان يعلم أن هذا جزء آخر من عذابها لكنه أرادها أن تتكلم من تلقاء نفسها…
فاكتفى بنظرة مشجعة آتت ثمارها عندما أردفت هي بين إشفاق وغيرة:
_أخاف أن أظلمها…وأن ..تظلمني.
أسبل جفنيه ليبتعد بنظراته عنها متعمداً كي يمنحها الشجاعة لقول ما تريد…
فأردفت هي بانفعال أكبر:
_كيف أقاوم تفكيري أنني سأخسر معها المقارنة أمام تفكير رجل مثلك يريد أن يكون الأول في حياة امرأته؟!وفي نفس الوقت كيف أتقبل عذاب ضميري وأنا أراها صورة مني في قلة حيلتها وحاجتها إليك؟!
ضمها إليه أكثر محتوياً انفعالها بحنان يصطبغ بقوته ثم قال بحزم واثق:
_أما عن غيرتك فلن ألومكِ عليها…بل سأدع الأيام تثبت لكِ عشقاً لن ينافسكِ فيه أحد…
ثم أخذ نفساً عميقاً ليردف:
_وأما عن عزة نفسها فهي أمانتي…لن أتخلى عنها حتى أضمن لها معيشةً آمنة.
انفرجت شفتاها تهم بسؤال فضحته عيناها …
لكنه وضع سبابته على شفتيها مردفاً بحزم راجٍ:
_رؤى…تذكري دوماً ألا تفسدي الغد بالأمس…أنا وأنتِ دفعنا ثمناً غالياً كي نصل لهذه النقطة…فلا تضيعي عذابنا بلا ثمن…اصبري حبيبتي …
ثم اقترب بوجهه منها أكثر هامساً بنبرة أرق:
_ألا يستحق ما بيننا القليل من الصبر؟!
لانت نظراتها رويداً رويداً أمام فيض عاطفته الذي اكتسح قلبها باقتدار…
حتى تزينت شفتاها أخيراً بابتسامة دللها بشفتيه للحظات …
قبل أن يبتعد عنها قليلاً ليعاود تناول دفترها ممسكاً بالقلم في وضع الكتابة…
فهتفت بدهشة وهي تراقب ما يفعله:
_ماذا تفعل؟!
لم يرد عليها للحظات مكملاً ما بدأه حتى أغلق آخر ورقة في الدفتر ليرفعه نحوها قائلاً بعاطفة سبقها احترام طالما اشتاقته منه هو بالذات:
_أحبك.
ثم لوح بالدفتر في وجهها مردفاً بنبرته الدافئة:
_كتبتها على كل صفحاته الباقية …فلا تكتبين شيئاً بعد حتى تقرئينها قبله…أريدها أن تكون الحقيقة التي ترين من خلالها أي شئ آخر…أن تدوري في فلكها كما أفعل أنا منذ عرفتك.
دمعت عيناها بتأثر وهي تنقل بصرها بينه وبين دفترها للحظات…
قبل أن ترتمي على صدره لتطوق خصره بذراعيها بكل قوتها مع همسها الحار:
_حبيبي يا راغب!
اعتصرها بين ذراعيه وأنامله تلامس “قلادتها ” بهيام مصطبغ باشتياق مع همسه:
_منذ أخبرتني أمي أنها ستكون لعروسي…لم أحلم أن ترتديها امرأة سواكِ.
رفعت أناملها برفق لتتشابك بأنامله على قلادتها ثم همست بتأثر:
_وأنا منذ ارتديتها أول مرة وددت لو لا أخلعها أبداً.
انتهت عبارتها بين شفتيه وقد عانقتا شفتيها أخيراً…
لتكتبا عهود ميثاق جديد بينهما هذه المرة…
ميثاق بدا وكأنه بعمق الحياة…
بقوة العشق…
وبطول العمر!!!
_ستكون بخير يا عزيز؟!
هتفت بها ميادة وسط دموعها المنهمرة وهي ترقب جسد رحمة المسجى على الفراش دون حراك…
لقد سقطت مغشياً عليها بمجرد ما سمعت خبر القرار الذي صدر من الحي بإزالة البيت !!!!!
ذاك الخبر الذي لم يحتمله قلبها الضعيف فانهارت إزاءه…
ضمها عزيز إليه بقوة ليقول مهدئاً رغم قلقه هو الآخر:
_لا تخافي…الطبيب يقول أنها ستكون بخير…هي فقط تحتاج للراحة بعد الدواء.
كانت ماسة جالسة جوار رحمة على الفراش تحتضن كفها بكفيها وقد أبت أن تتركها منذ علمت الخبر…
لكن عزيز التفت نحوها الآن ليقول بإشفاق:
_ماسة…أنتِ لم تتناولي طعاماً منذ جئتِ.
فغمغمت بقلق وعيناها معلقتان برحمة لا تحيدان عنها:
_ليس قبل أن أطمئن عليها.
وعند آخر كلمة منها انتحبت ميادة بقوة بين ذراعي عزيز لتهتف بنشيج باك:
_قولوا أنها ستفيق قريباً…قولوا أنها بخير.
ثم أمسكت ساعدي عزيز تهزهما بقوة مع استطرادها الهستيري:
_افعل أي شئ يا عزيز لكن دعني أسمع صوتها من جديد.
عقد عزيز حاجبيه بدهشة من انهيارها الغريب على ثباتها الذي يعرفه…
لكنه عاد يضمها إليه برفق قائلاً بحزم يحتاجه الموقف:
_اهدئي يا ميادة…انهياركِ هذا سيؤثر على الطفل.
لم يكد يتم عبارته حتى تأوهت رحمة بخفوت وهي تفتح عينيها…
فاندفعت ميادة نحوها لتجلس على ركبتيها على الأرض محتضنة كفها لتهتف مع دموعها المنهمرة:
_أنتِ بخير؟!
التفتت نحوها رحمة بعينين ذابلتين وهي تحاول الإيماء برأسها…
قبل أن تنتبه لماسة جوارها فانفرجت شفتاها لتهمس ببطء:
_ماسة…أنتِ هنا…هل علمتِ ماذا حدث؟!
تماسكت ماسة بصعوبة وهي تحتضن كفها الآخر لتقول بابتسامة مصطنعة:
_لا تحملي هماً يا رحمة…كل شئ سيكون على ما يرام…فقط كوني بخير.
لكن رحمة هزت رأسها نفياً لتهمس بما بدا كالهذيان:
_لن أترك بيتي …هو عمري كله…سأموت قبل أن أخطو خطوة واحدة بعيدة عنه.
هنا عادت ميادة تنخرط في بكاء حار مع همساتها المختنقة:
_لا تخافي يا أمي…أنا وعزيز لن نترككِ أبداً.
هنا ابتسمت رحمة بشحوب مع سؤالها الذي انغمس بحنانها رغم ضعفها:
_أمي؟!هل دعوتِني “أمي” أخيراً؟!!
مسحت ميادة دموعها بسرعة وهي تحاول التقاط أنفاسها لتهتف بتماسك مصطنع:
_نعم…من الآن لن أدعوكِ إلا هكذا…لكن …
قطعت عبارتها عندما تأوهت رحمة بخفوت ثم أسبلت جفنيها بضعف لتعود لسباتها…
فشهقت ميادة بحدة وهي تنظر إليها برعب…
قبل أن تسأل ماسة بانهيار:
_ماذا حدث؟!لماذا لا تفيق؟!
رمقتها ماسة بنظرة مشفقة لتقول مطمئنة:
_لا تقلقي يا ميادة…الدواء الذي أعطاه لها الطبيب سيجعلها تنام للصباح…وهذا أفضل كي تستريح.
ثم أردفت بحزم رفيق:
_لا تجلسي على الأرض هكذا…ستؤذين طفلك.
لكن ميادة بدت وكأنها لم تسمعها…
عيناها كانتا متشبثتين بملامح رحمة الساكنة…
ومطارق الذنب تهوي على ضميرها بلا رحمة…
هي السبب في سقوط رحمة هذا…
هي السبب!!!
لقد ردت الإحسان بأبلغ إساءة…
قابلت حنان رحمة بمنتهى القسوة…
وردت لها إخلاصها بطعنة غدر!!!!
لكنها لم تكن تتوقع أن يصيبها هذا…
كل تفكيرها كان محصوراً في أن تغلق كل الأبواب أمام عزيز حتى لا يجد له ملجأً إلا حضن أبيه!!!
فسوّل لها شيطانها هذه الفكرة غير مدركةٍ لأثرهذا على رحمة الغالية!!!
غالية؟!!
نعم…غالية!!!
ربما آن الأوان أن تعترف بمشاعرها نحو الجميع…
أن تسمح لشعاع الشمس باختراق قلبها ليذيب كل هذا الجليد…
أن تصرخ بأعلى صوتها أنها “محتاجة”..
نعم…محتاجة…
محتاجة ل”عشق” عزيز …
و”حنان” رحمة…
و”أمومة” والدتها…
و”اهتمام” أبيها!!!
محتاجة… بل تكاد تموت تعطشاً لعاطفة طالما كفرت بها خلف دعوى “الاستغناء”!!!
محتاجة… لحسم الصراع بين “ماسة ” الحب التي بدأ بريقها يخطف بصرها بروعته و”شيطان” طمعها الذي يريد الاستحواذ على كل شئ!!!
لكن عزيز قطع أفكارها عندما رفعها من كتفيها برفق نحوه ليوقفها قائلاً بحنان:
_قومي واستريحي في غرفتنا…ستكون بخير…لا تقلقي.
رمقته بنظرة غارقة بشعورها بالذنب لكنه لم يفهمها مع استطراده المشفق:
_إنها المرة الأولى التي أراكِ فيها بهذه الحالة…لم أكن أعلم أن رحمة غالية عندكِ هكذا.
فعادت ببصرها نحو رحمة لتهمس أخيراً بخفوت وقد حسمت بداخلها -قراراً- ما:
_نعم…غالية…غالية جداً يا عزيز!
======
وقفت في شرفة منزل رحمة بعدما اطمأنت لاستقرار حالتها تتطلع للسماء بشرود…
وقد خلت من نجومها وقمرها لتبدو كصفحة سوداء قاتمة آلمت قلبها أكثر…
ورغماً عنها اجتاحتها ذكرى منه بدت لها بعيدة كما هذه السماء:
_عيناكِ خطيرتان جداً في ليلة كهذه…عندما يغيب القمر فكأنما يستودع فيهما فقط كل نوره وسحره!
دمعت عيناها باشتياق وهي تضم جسدها بذراعيها لتستند بهما إلى سور الشرفة القصير…
لتجذبها ذكرياتها إلى طيف ساحر آخر منه وهو يجدل لها شعرها مع همسه :
_كل ما فيّ يتغير معكِ وكأنكِ خلقتِ لتكوني كل استثناءاتي!!!
هنا لم تستطع منع دموعها التي سالت على وجنتيها كخطين رفيعين مع همسها لنفسها:
_للأسف…ما عدت استثناءً…خضعت مثل الجميع لقواعد جبروت عاصي الرفاعي.
ثم مسحت دموعها بسرعة وهي تحاول دفع ذكراه الهادرة عن كيانها لتعاود انشغالها بالمارة في الطريق…
عندما سمعت صوته الحنون خلفها:
_لماذا أنتِ ساهرة حتى الآن؟!
التفتت نحوه برأسها ثم تنهدت بحرارة لتهمس بحسرة:
_سيهدمون بيتنا يا عزيز!
هز رأسه نفياً وهو يشرد بدوره في الفراغ أمامه قائلاً:
_لا أدري من أين تأتيني هذه الثقة…لكن قلبي يخبرني أن بيت رحمة لن يسقط أبداً…بل سيبقى حتى يسع أحفادها .
والغريب أن الأمل الذي كان يشع بين كلماته انتقل إليها بمنتهى السلاسة…
كعهدها القديم معه…كلمات عزيز تترك دوماً أثرها في القلب…
ربما لأنها تخرج أيضاً من القلب….!!!
لهذا ابتسمت ببعض الارتياح عندما أفاق هو الآخر من شروده ليتأمل ملامحها هامساً ببعض الشجن:
_نفس الوِقفة يا ماسة!
رفعت عينيها إليه ببطء وهي تدرك ما يتحدث عنه …
عندما كان يغار عليها من الوقوف هكذا في الشرفة كي لا تلاحقها أنظار أهل الحي…
لكنها كانت تخبره أنها لا تقف هكذا إلا لتنتظر مجيئه!!!
وكم أثار هذا من خلافات بينهما….
خلافات كانت تنتهي باعتذارها ووعدها بألا تفعلها …
ذاك الوعد الذي كانت تخلفه بعدها بقليل عندما كان شوقها يغلبها إليه فلا تطيق صبراً على انتظاره هكذا في موعد قدومه…!!!!
لكن الأيام مرت…وها هي ذي تقف في نفس المكان…
لا لتنتظره هو…بل لتنعي حباً آخر أوشك هو الآخر على الغروب في سماء عمرها القصير!!!
بينما تقدم هو بهدوء ليقف جوارها محافظاً على مسافة مناسبة بينهما ….
ثم استند مثلها بذراعيه على السور مردفاً بنفس النبرة:
_هل تذكرين كم كنت أتشاجر معك كلما رأيتكِ تقفين هكذا؟!
فابتسمت بشجن لترد بشرود:
_نعم…أذكر…
ثم أطرقت برأسها لتردف بأسى:
_لكن …تغير الكثير!!
تنهد بحرارة متفحصاً ملامحها البائسة ليقول بإشفاق:
_نعم…عيناكِ وقتها كانتا أكثر بريقاً.
ثم أردف بتفهم وكأنه -مثلها- يضع الحدود الجديدة لعلاقتهما:
_ولم تكوني ترتدين حجابكِ أمامي!
وكأنه لم يقصد مجرد “غطاء رأس” بل “حجاب قلب” كذلك!!!
وهو ما كان يصله تماماً دون نقصان!!
ماسة لم تعد له …كما لم يعد هو لها…
قولاً حاسماً هذه المرة!!!
بينما تحسست هي وشاحها برفق وهي تتذكر ذاك اليوم الذي غضب فيه عاصي منها لأنها قابلت عزيز دون حجاب…
غيرته التي اكتسحت غابات زيتونه لأول مرة يومها…
والتي صبغت مشاعره بلون خاص وقتها…
فعادت الدموع تملأ عينيها وهي ترد على عبارته بألم:
_وقلبي كان أكثر براءة.
وخزته عبارتها في الصميم وهو يحمل نفسه الكثير من ذنبها ليهمس بانفعال :
_إياكِ يا ماسة …إياكِ أن تخسري براءة قلبك مهما حدث.
أخذت نفساً عميقاً في محاولة أخيرة منها للتماسك ثم قالت لتغير الموضوع:
_هل نامت ميادة أخيراً؟!!كانت تبدو في غاية القلق.
أومأ برأسه إيجاباً ثم عاد يتفحص ملامحها باهتمام مع سؤاله:
_وأنتِ…كيف حالك؟!
وبرغم بساطة سؤاله لكن الحنان الذي كان يقطر بين حروفه لمس روحها بحق…
وكأنما كان كافياً وحده لتنهار آخر سدود تماسكها المزعوم….
لينهمر خلفها سيل دموعها مع اعترافها الذي ما عادت قادرة على كتمانه:
_موجوعة يا عزيز…موجوعة بحق….قلبي يكاد ينفطر.
زفر بقوة وهو يرفع رأسه لأعلى بعجز مدركاً حرقة شعورها الآن…
دموعها كانت تحرق رجولته وهو مكبل اليدين لا يدري كيف يساعدها…
ليسودهما صمت طويل بعدها حتى تمالكت هي دموعها أخيراً …
فعاد يسألها بحذر مشوب بحنانه:
_أحببتِه؟!
هزت رأسها بقوة وهي تهمس بألم:
_ليته كان مجرد حب…ليتها كانت قصة تقليدية لزوجة عاقر هجرها زوجها ليتزوج أخرى طمعاً في الولد…ليته كان ال”سيناريو” الشهير لامرأة تضحي بحبها لأجل كرامتها…لكن الحقيقة أبعد من كل هذا…أنا…أنا…
قطعت آهتها الطويلة عبارتها لتشعر بسيخ من نار يكوي صدرها مع استطرادها:
_أنا أشعر أنني قطعةٌ منه يا عزيز…قطعةٌ منه كما هو قطعةٌ مني…هو منحني كما لم يمنحني أحد…وجرحني كما لم يجرحني أحد…بعض روحي يلعنه على خيانته وما بقي منها يكاد يموت خوفاً عليه…جزءٌ بداخلي يدفعني للابتعاد عنه بكل قوتي… لكن جزءاً آخر يلومني أني تركته وحده…يرجوني أن أبقى جواره …أمامه…حوله…أدافع عنه بروحي…فلا يصيبه خطر إلا ويصيبني قبله!!!
ثم عادت دموعها تغلبها بنحيب عالٍ مع شهقاتها وهي تردف بعجز:
_لو لم تذبحني خيانته فسيقتلني خوفي عليه!
أغمض عينيه بألم عن انهيارها الذي لم يشهد مثله من قبل …
لكنه انتظرها صابراً حتى هدأ بكاؤها نوعاً ليقول بتعقل لم يغادره حنانه:
_لن تضلي الطريق يوماً يا ماسة…أنتِ فعلتِ الصواب…لعل رحيلكِ عنه يكون صفعة إفاقة له….كثيرنا لا يدرك قيمة الشئ حتى يفقده.
ظهر بعض الأمل في مقلتيها وهي تتمنى لو يكون ما يقوله صحيحاً…
فابتسمت ابتسامة باهتة وهي تومئ برأسها…
ليبتسم بدوره وهو يقول ببعض الشجن:
_من كان يصدق أنه سيأتي اليوم الذي تشكين أنتِ فيه لي أنا من حب رجل آخر؟!وفي هذا المكان بالذات؟!!
أغمضت عينيها باستسلام وهي تتمتم بضعف:
_ألم أخبرك قبلاً؟!!تغير الكثير!!!
_نعم…تغير الكثير.
قالها بيقين وهو يرمقها بإشفاق للحظات…
قبل أن يحاول انتشالها من بحور حزنها التي أوشكت على ابتلاعها من جديد..
فقال ليغير الموضوع:
_ماذا فعلتِ مع والدك؟!
فتحت عينيها بعد لحظات وكأنها لم تفهم سؤاله من أول لحظة…
قبل أن تغتصب ابتسامة ساخرة لاءمت لهجتها:
_تقصد جاسم الصاوي؟!
عقد حاجبيه بدهشة متسائلة…فتنهدت بعمق ثم روت له تفاصيل مقابلتها الأخيرة له مع فهد…
حتى انتهت منها بقولها الذائب بحسرته:
_لقد خذلني من جديد!!!
صمت لدقائق مفكراً ثم عاد يرفع عينيه إليها ليقول بحسم:
_سافري يا ماسة!
رفعت إليه عينيها بصدمة فهز رأسه ليضيف بثقة:
_نعم…سافري واتركي خلفكِ كل هذا…جاسم الصاوي لن يمنحكِ اسمه بهذه البساطة…خصومه السياسيون سيستغلونكِ للإيقاع به.
ثم صمت لحظة ليردف بأسف:
_وربما نالك الكثير من حقاراتهم مع ذاك الحادث القديم الذي تعرضتِ له…سيكون اسمكِ على كل لسان في البلد لقمةً سائغة لكل من يسول له خياله المزيد من الفضائح.
اتسعت عيناها بارتياع وهي تتبين صحة ما يقول…
فانعقد حاجباه بضيق وهو يهتف بانفعال:
_ماسة أنا لا أقصد مضايقتك…أنتِ تعلمين مكانتك عندي…أنا فقط أريد أن أريكِ كيف تسير الأمور في هذا البلد…جاسم الصاوي له أعداءٌ كثيرون…ستدخلين طرفاً في صراع لا قِبَل لكِ به!
هدأت ملامحها نوعاً وهي تحاول أن تعقل حديثه دون تحيز…
لكنه عاد يبتسم بثقة ليمنحها بعض القوة:
_ربما يكون هذا هو الحل الأفضل…أن يمنحكِ جاسم الصاوي الأوراق التي تمنحكِ حقوقك لكن دون إعلان لهذا وأظن أنه بنفوذه يمكنه التكتم على الأمر…..ومع سفركِ سيأمن هو ألا يكشف الأمر أحد …وهكذا تستعيدين اسمك دون أن يخسر هو شيئاً من سمعته .
صمتت لوقت قصير تفكر في اقتراحه…
عندما عاود قوله بحزم حنون:
_سافري واصنعي لنفسكِ كياناً جديداً…بعيداً عن كل محطات ضعفك هنا…بعيداً عن جحود جاسم الصاوي…وعن طغيان عاصي الرفاعي…
ثم صمت لحظة ليفوح الذنب من كلماته :
_وعن خذلاني لكِ قبلهما.
اعتدلت في وقفتها لتفك ارتباط ساعديها ثم أخذت نفساً عميقاً سبق قولها بمودة:
_لا تحمل نفسك ما لا تطيق يا عزيز…كلانا لم يملك سوى أن يستجيب صاغراً لكلمة القدر.
أومأ برأسه وهو يعتدل في وقفته بدوره ليقول برفق :
_لكن هذا ليس غرضي الوحيد من دفعك للسفر.
رمقته بنظرة متسائلة فأردف بحماس:
_أمي أخبرتني عن مشكلتكِ الخاصة بالإنجاب …وأنا استشرت أحد أصدقائي بشأنها…هو طبيب ماهر متخصص بهذا الشأن تعرفت عليه عندما كنت مع والدي في دبي قبل عودتي إلى مصر…هو الآن يعمل في مشفى كبير ب”أبو ظبي”…عرضت عليه الأمر لكنه أراد أن يرى أوراقك بنفسه…
فانعقد حاجباها بتفكر للحظات مع همسها بتردد:
_لكن…
لكنه قاطعها بحزم:
_هو سيساعدكِ في العمل أيضاً كممرضة معه في المشفى…ألا تريدين ممارسة عملكِ الذي تعشقينه و طالما قلتِ إنه رسالتكِ في الحياة؟!
أومأت برأسها في تردد فابتسم ليقول باستحسان:
_ستكون فرصة لضرب العديد من العصافير بحجر واحد…أنتِ تحتاجين عالماً جديداً تتنفسين فيه بنقاء بعيداً عن دخان ماضيكِ هنا.
ابتسمت أخيراً بشبه اقتناع وقد بدأت فكرته تروقها لتهمس بامتنان حقيقي:
_أعدك أن أفكر في الأمر…شكراً يا عزيز…شئٌ جميل سيبقى بيننا مهما طال العمر.
أومأ برأسه موافقاً ثم همس بما يشبه الوعد:
_ربما عجزت عن منحكِ الحب الذي تستحقين…لكنني لن أبخل عليكِ دوماً بصداقة أوقن أنكِ تحتاجينها..أنتِ أمانة في عنقي مثل رحمة تماماً.
توهجت عيناها ببريقها الماسي من جديد وهي تشعر بالصدق في كلماته…
بينما تنحنح هو أخيراً ليقول بحنان:
_كفاكِ سهراً حتى الآن…اذهبي للنوم.
منحته نظرة امتنان أخيرة وهي تعطيه ظهرها لتنصرف …
قبل أن تعاود الالتفات نحوه لتسأله بفضول:
_ما اسم صديقك الطبيب هذا؟!
فاتسعت ابتسامته وهو يجيبها:
_طبيب فلسطيني… اسمه “جهاد الريحاني”.
======
_صفا؟!
هتف بها أنس بدهشة وهو يراها تدخل عليه في مكتبه بالمدرسة بمظهرها الجديد تماماً على عينيه…
وقد تحول حجابها العريض الذي كان يغطي نصف جسدها العلوي تقريباً إلى وشاح قصير انحسر عن خصلات شعرها المصبوغة بلون أحمر مثير…
وأظهر رقبتها ومقدمة صدرها خلف ياقة قميص زاهي الألوان يعلو تنورة شديدة الضيق أبرزت جسدها بشكل ملفت خاصةً بعدما فقدت الكثير من وزنها مع حمية خاصة دوامت عليها لفترة لتستعيد رشاقتها…
انعقد حاجباه بضيق وهو يراقب مشيتها المتعثرة بحذائها ذي الكعب العالي الذي يعلم أنها لم تعتده بعد حتى جلست أمامه واضعة إحدى ساقيها فوق الأخرى مع نبرة متعالية لم تعد تفارق صوتها:
_ما الأمر؟!!ألا تعجبك طلّتي الجديدة؟!
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يطرق برأسه مغمغماً:
_كثيرٌ من أمورك لم يعد يعجبني .
فالتفتت نحوه بحدة هاتفة:
_لماذا؟!!لأنني قررت أن أستعيد الشعور بأنوثتي؟!!
رفع إليها عينيه بنظرة طويلة حملت مزيجاً من أسفه وضيقه قبل أن يسألها بنبرة عاتبة:
_منذ متى كانت أنوثة المرأة باستعراضها لجسدها؟!!
دمعت عيناها بجرح لايزال ينبض في حدقتيها مع هتافها المنفعل:
_لقد نسيتُ أنني امرأة…طوال هذه السنوات وأنا ألهث خلف سراب أمومة لم أدركه…غافلةً عن أيام عمري التي كان يتآكل فيها شبابي بوهن…
ثم لوحت بكفها مردفةً بنبرة أكثر انفعالاً:
_لكنني أفقت لنفسي الآن…سأكف عن حماقة العطاء دون مقابل…وسآخذ من الدنيا كل ما يمكنني أخذه…سأستعيد الشعور بأنني امرأة كاملة لا ينقصها شئ!!
هز رأسه بضيق وهو يرد عليها باستنكار:
_ليس بهذه الطريقة !قيمة المرأة ليست في مظهرها!
وكأنما لدغتها عبارته كأفعى فقد هبت من مقعدها فجأة لتصرخ بثورة:
_لو كان الأمر كذلك لما تركني هو لأجل خادمتي!!!
أغمض عينيه بألم وهو يشعر بجرحها يكويهما معاً…
خاصةً عندما سالت دموعها أخيراً على وجنتيها مع استطرادها الثائر المشبع بمرارته:
_مشاعر سنوات لم تشفع…عطاء قلبٍ لم يعشق غيره أيضاً لم يشفع…حبي واحتوائي وحناني …كل هذا لم يشفع…نسفته فتنة امرأة أخرى بلحظة!!
_ومن الذي أدخل هذه المرأة بينكما؟!
قالها بصرامة قاسية وقد قرر أن تكون كلماته صفعة إفاقة لها…
وقد كان له ما أراد فقد اتسعت عيناها بصدمة للحظات قبل أن تغمغم بارتباك:
_أنت تحملني أنا المسئولية؟!!تزعم أنني أنا المخطئة؟!!
زفر بخفوت ثم قام من مقعده ليتوجه نحوها قائلاً بأقصى ما استطاعه من هدوء:
_كلاكما كان مخطئاً…لكنني لا أريدكِ أن تعيشي دور الضحية التي تسعى لانتقامٍ أنتِ أول من سيكتوي بناره.
ظلت الصدمة تحتل ملامحها التي غابت في شرود بائس…
بينما اقترب هو منها أكثر ليردف بحزم:
_أنا لا أنكر ذنب عبد الله لكنني لا أنكر خطأكِ كذلك…ذاك الخطأ الذي تحاولين إصلاحه الآن بخطإٍ أكبر.
التفتت إليه من شرودها بملامح حادة لكنه أكمل بنفس الحزم:
_أغلقي هذه الصفحة تماماً يا صفا…لا تحرقي نفسكِ بنارٍ لن يراها سواكِ…لا تفقدي هويتكِ وإلا فلن تعودي بعدها لنفسكِ أبداً.
هويتي؟!!
وهل بقيت لي بعده هوية؟!!
هو كان الهوية والوطن…
فياحسرةً على غربتي بعده!!!
تنهدت بحرارة وهي تضع كفها على صدرها كاتمةً نزيف أفكارها الصامت…
قبل أن تعاود جلوسها مع كلماتها المقتضبة وكأنها فقط تغير موضوع الحديث:
_هل خططت للشكل النهائي لحفل آخر العام؟!!لديّ بعض الأفكار المبتكرة ستروق “أولادي” كثيراً.
فابتسم بحنان للفظة “أولادي” التي قالتها ببساطة…
هذه هي صفا الحقيقية التي عشقها …
بحنانها وفيض عطائها …
والتي سيبذل ما في وسعه لينتشلها من صحراء تيهها وتخبطها…
وأول الخطوات هنا ألا تهرب كما تفعل الآن…
بل أن تواجه وتصمد وتتعلم من خطإ لن تكرره…
لهذا عاود جلوسه هو الآخر أمامها متجاهلاً عبارتها السابقة ليقول ببطء حذر:
_عبد الله زارنا في منزل أبي بالأمس.
انتفض جسدها انتفاضة خفيفة مع ارتجافة شفتيها رغماً عنها وهي تهمس بترقب:
_ماذا كان يريد؟!
تأمل ملامحها- الواشية بعمق عاطفتها – بأسف للحظات قبل أن يستعيد صوته هدوءه الحاني:
_جاء يرد لكِ الشقة وأصل رأس مال المحل مع أرباحه مناصفةً بينكما .
فانعقد حاجباها بغضب لتقف من جديد هاتفة باستنكار:
_يظن أنه بهذا أعاد لي حقي؟!!لا وألف لا!!!
ثم مالت عليه بجذعها مردفةً بنبرة ثائرة:
_أنا أريد المحل كله…كل هذا حقي أنا…كل ما بناه هو طوال السنوات السابقة كان بفضلي أنا…أنا…أنا.
كان صراخها هادراً في كلماتها الأخيرة التي عكست مشاعرها …
فاحترم ثورتها للحظات قبل أن يقف مواجهاً لها بقوله الحازم:
_بل بفضل الله ثم بفضل مجهوده هو…الرجل تصرف بمنتهى الأمانة رغم أن أحداً لم يجبره على هذا…لكنه كان مصراً على إعادة أموالكِ إليكِ.
_وعمري؟!!هل سيعيده أيضاً؟!!
همست بها بصوت مختنق بعبراتها فأشاح بوجهه في ألم…
بينما أردفت هي بلهجة امرأة خاسرة:
_وكرامتي؟!!وقلبي؟!!وأمان غدٍ ظننته سيكون معه؟!!هل سيرد لي كل هذا؟!!
أغمض عينيه عاجزاً عن مجادلتها وهي في هذه الحالة…
بينما ابتسمت هي أخيراً بسخرية مريرة مع استطرادها:
_عظّم الله أجر الشيخ …على الأقل لم يتزوج أخرى في شقتي !!!
انقبض قلبه لحزنها الذي شق صدره بمرارته وهو يقف في أسوأ موقف قد يوضع فيه عاشق…
عندما تضطره الظروف أن يستمع لهمساتها الذبيحة بغرام آخر فلا يدري هل يواسيها أم يواسي قلبه؟!!
لكنها رحمته من كل هذا عندما انسحبت أخيراً بخطواتٍ مندفعة لتغادر الغرفة …
بل والمدرسة كلها!!
ثم استقلت أول سيارة أجرة وجدتها لتعود لشقتها آملةً في وحدة منعزلة تفرغ فيها أحزانها …
لكنها ما كادت تصل لباب شقتها حتى وجدت باب شقته المقابل مفتوحاً وقد همّ بالخروج منها حاملاً حقيبة ملابسه…
التقت نظراتهما في حديث طويل…
ولأول مرة تختلف لغة الحديث فلا تفهمها العيون…
شراسة نظراتها أمام ندم نظراته…
بريق قسوتها أمام وميض عجزه…
ووسط كل هذا اشتياقٌ خفيٌ يجاهد كي يطفو على سطح كل هذه المشاعر…
لكنه كان يكفي ليتحرك كل منهما نحو صاحبه دون وعي حتى لم تعد تفصلهما سوى بضع خطوات…
ليلفهما بعدها صمتٌ طويل كان هو أول من قطعه وعيناه تدوران عليها بمظهرها الجديد مع كلماته التي اختصرت الحال:
_تغيرتِ يا صفا.
فالتوت شفتاها بابتسامة قاسية مع إجابتها المقتضبة:
_جداً يا شيخ!
ثم حطت عيناها على حقيبته للحظة قبل أن ترفعهما إليه هاتفةً ببطء قاس:
_تزوج امرأة…واعبث بأخرى…جرّب عشرةً ومائةً وألفاً…وأتحداك لو وجدت مثلي…تدري لمَ؟!!
قبض أنامله بقوة وقد أثارته عبارتها رغم صدقها…
بينما استطردت هي بنفس الثقة القاسية:
_لأن ترياقي الذى سرى في عروقك قطرة قطرة ويوماً بيوم حد الإدمان سيقتلك اشتياقاً قبل أن تستلذ بخيانة…صورتي ستقف بين عينيك وبين كل النساء…خذها كلمةً مني لن تنساها يوماً!
فاشتعلت عيناه بعجزٍ أورثه المزيد من الغضب الذي احتل همسه الثائر:
_وأنتِ…هل ستنسين؟!!
عقدت ساعديها أمام صدرها مع اتساع ابتسامتها القاسية لتجيب بنبرة كراهية يسمعها منها لأول مرة:
_ومن قال أنني أريد نسيانك؟!!على العكس…لن يشغلني بعد اليوم إلا مراقبة كل خساراتك بعدي.
هز رأسه مصدوماً بقسوتها التي تخدش قلبه لأول مرة بهذه الضراوة…
لكنها رمقته بنظرة مظلمة أخيرة ثم عادت لشقتها صافقةً بابها في وجهه بعنف ….
قبل أن تستند بظهرها إلى الباب نفسه الذي تهاوى خلفه جسدها في انهيار تام …
لتحتوي ارتجافتها العنيفة بذراعيها أخيراً مع همسها المختنق بدموعها:
_لن أسامحك أبداً يا عبد الله…لن أسامحك.
=======
_لمن هذه الشقة يا فهد؟!!
هتفت بها ماسة وهي تدلف للداخل فيما أغلق فهد الباب خلفه برفق مبالغ فيه وكأن ارتجافة أنامله تعانده…
ليصمت رغماً عنه للحظات…
قبل أن تغلبه رعشة صوته وهو يهمس بابتسامة شاردة:
_للأستاذة!
التفتت نحوه ماسة بدهشة للحظة …
قبل أن تنبئها ملامحه عمن يعنيها …فأومأت برأسها بتفهم هامسة:
_زوجتك الراحلة؟!
_بل زوجتي الوحيدة!
قالها بحزم قابضاً أنامله بقوة جواره مع انعقاد حاجبيه وهو يردف بانفعال:
_لا أحب أن يدعوها أحد ب”الراحلة”!!مَن مثلها خُلقت لتبقى …لن ترحل أبداً كما تظنون.
تنهدت بحرارة ثم اقتربت منه أكثر لتربت على صدره برفق محاولةً استيعاب انفعاله بقولها الرفيق:
_معك حق…امرأةٌ مثلها خُلقت لتبقى ذكراها ملهمة بالخير…بالجهاد في سبيل الحق.
تأوه بخفوت وهو يضمها إليه ليهمس بألم:
_افتقدتها يا ماسة…افتقدتها حد الجنون….يزعمون أن الأيام تجعلنا ننسى فمالي لا يزيدني الوقت إلا شوقاً وحسرةً عليها؟!!
دمعت عيناها بتأثر وهي تعاود تربيتها على صدره …فعاد ينظر إليها مردفاً بابتسامة شاحبة:
_أنتِ تذكرينني بها…نفس النقاء الذي لم يلوثه سواد الحياة…هل تعلمين أنها كانت تبحث معي عنكِ قبل عثوري عليك؟!كم كانت تريد رؤيتك ومساعدتك…لهذا أتيت بكِ اليوم إلى هنا…
ثم دار بعينيه في المكان بحنين ارتجفت له خلاياه كلها….ليقول بنبرة مختنقة:
_وددت لو نجتمع سوياً.
ابتسمت وسط دموعها التي مسحتها بأناملها بسرعة وهي تدور ببصرها في المكان الذي بهرها بأناقته البسيطة و ذوقه الذي تميز بالرقي ..
لتسأله أخيراً بأسى:
_هذه الشقة كانت لكما؟!
تنهد بحرارة وهو يدور بعينيه في المكان مستشعراً تلك الرجفة التي عصفت بجسده كله مع فيض ذكرياته الغامر معها هنا…
قبل أن يجيبها بشرود :
_بل لها هي فقط …أنا كتبتها باسمها سراً بعد زواجنا لكنني لم أخبرها…كانت سترفض أي شئ من أموال جاسم الصاوي .
تأملت ماسة شروده بإشفاق وقد ترددت بين أن تتركه لذكرياته أو تحاول التخفيف عنه بالانتقال للحديث عن شأن آخر…
لكن نظرةً واحدة لملامحه حسمت ترددها…
هذا رجلٌ غارقٌ في مشاعره حتى النخاع…
أي أمرٍ مهما كان لن يصرفه الآن عن ذكراها التي انحفرت بسن الوجع بين ملامحه فسكنتها للأبد…
لهذا وجدت نفسها تقول له بمزيج من شفقتها وحنانها:
_احكِ لي عنها يا فهد!
بدا لوهلة أنه لم يسمعها …قبل أن يبتسم ابتسامة باهتة وهو يجذبها من كفها نحو أحد الأرائك ليجلس جوارها قائلاً بأسى:
_لن يسعفني في وصفها كلام يا ماسة…طالما عجزت عن تفسير شعوري نحوها…ظننتني يوماً خبيراً في شئون النساء حتى إذا ما التقيتها أحسست وكأنني صبيٌ مراهق يرى امرأة لأول مرة في حياته…ومن يومها وهي صارت بعيني أول النساء وآخرهن.
ربتت ماسة على ركبته بحنان لتسأله بفضول غلبها:
_كيف تعرفت إليها؟!
تأوه بصوت مسموع وهو يعود برأسه ليستند على ظهر الأريكة قبل أن تدمع عيناه وهو يتحسس ندبة ذقنه هامساً:
_من هنا كانت البداية…ليلتها قالت لي أن ندبتها ستترك أثراً لن يمحى …وكم كانت صادقة!!!
قالها ثم بدأ يحكي لها تفاصيل قصته مع جنته باستطراد مستمتع…
نعم…برغم كل ذاك الوجع الذي كان يغرس مخالبه في صدره كانت ذكراها الرطبة لا تزال بلسم أسقامه…
حتى انتهى من روايته بقوله:
_جاسم الصاوي ظن أنه سيستعيد ابنه لو تخلص منها…ليته أدرك أنه يوم قتلها…قتلني معها!!!
أشاح بوجهه عند عبارته الأخيرة التي تهدج فيها صوته فاضحاً انفعاله…
فصمتت تحترم حزنه للحظات…قبل أن تقول بحزم رفيق:
_فهد…اسمعني جيداً…لا أريد أن أقول كلاماً مكرراً لكن حياتك يجب أن تستمر…يسرا ليست امرأة سيئة كما كنت أظن…ألا يمكنك التفكير في منحها -بل منحكما سوياً- فرصة أخرى؟!
_مستحيل!!
هتف بها باستنكار مع التفاتته الحادة نحوها ….
فانعقد حاجباها بضيق فيما زفر هو بقوة ليردف مشيراً لصدره بألم:
_جنة هنا…هنا بقلبي ولن تبرحه حتى تسكن خفقاته…صدقيني لم يمنعني من اللحاق بها إلا رغبتي في ألا أخذلها بعد رحيلها….أن أثبت لها أن حياتها التي فقدتها بسببي لم تضع هباء…وأنني سأمنحها حياتي التي سأعيشها على طريقتها هي!!!
ابتسمت باعتزاز وهي تتبين ذاك الإخلاص الهادر في كلماته لتهمس بفخر:
_كم هي محظوظة برجلٍ أخلص لها حتى بعد موتها…
ثم اكتست عيناها بغمامة داكنة حملت ذكرى برائحة “غابات الزيتون”…..
لتزدرد ريقها بألم هامسة بشرود أخذت دورها فيه الآن:
_كثيراتٌ يذقن مرارة الخيانة وهنّ لازلن على قيد الحياة.
نظر إليها بتفحص محاولاً استقراء ما وراء كلماتها لكنها ابتسمت بتكلف لتغير الموضوع…
ثم احتضنت ساعده بذراعيها قائلة بنبرة استئذان:
_هل يمكنني البقاء هنا؟!
انعقد حاجباه برفض فأردفت بما يشبه الرجاء:
_لا أريد أن أقتحم خصوصية يسرا أكثر..رغم صداقتنا الوليدة لكن يسرا شخصية تعتز بكبريائها…إحساسها بوجودي شاهدة على معاناتها في العلاج سيجعل مزاجها أسوأ.
هز رأسه نفياً وهو يقول بحسم:
_انسيْ الأمر تماماً…لن أتركك وحدك.
مطت شفتيها باستياء ثم عادت تقول بإلحاح:
_أرجوك يا فهد…يمكنك أن تزورني كل يوم للاطمئنا….
لكنه قاطعها بصرامة أكبر:
_أبداً!!هذا الأمر لا نقاش فيه!!
ورغم أنها كانت ترغب حقاً في الابتعاد عن خصوصيته مع يسرا…
لكن عبارته الحمائية داعبت نفسها بشعور غامر بالحنان والاحتواء….لتهتف بدلال مشوب بحنانها:
_ماذا؟!! لا تأتمنني على شقة الأستاذة؟!
فابتسم وهو يقبل جبينها بحنان ليقول بصدق سمعته بقلبها قبل أذنيها:
_يا حبيبة أخيكِ أنا كلي لكِ…لكن الأمر ليس هكذا…
ثم ربت على كفها مردفاً :
_أنا أحتاجكِ بجانبي ربما أكثر من حاجتك لي…
وعند كلمته الأخيرة عصفت به أكثر ذكرياته دفئاً وشجناً لتذيبه اشتياقاً ولوعة ….
_تحتاجينني وأحتاجك أكثر!!
مع قبلتين صباحيتين ب”طعم الحياة”…
على وجنتين ب”نقاء الماس” و”رائحة الجنة”!!!!
_فهد!!!هل عدت لشرودك؟!!
انتزعته بها من ذكرياته فابتسم لها ابتسامة باهتة لتردف بغضب مصطنع:
_لماذا تتحكم فيّ هكذا؟!!من فينا الأكبر كي يملي أوامره على الآخر؟!
اتسعت ابتسامته وهو يقرص وجنتها بمرح قائلاً:
_أنتِ تكبرينني ببضعة أشهر لكن انظري لفارق الحجم بيننا …أنتِ تبدين جواري كعصفور ضئيل.
فهزت رأسها لتقول بمرح مشابه:
_هي بالحجم إذن؟!!
ضحك بخفة وهو يقوم من جوارها قائلاً بمرح مشابه:
_نعم..أي اعتراض؟!!!
ضحكت بدورها وهي تهز رأسها…
فسألها باهتمام:
_ماذا تشربين؟!
تلفتت حولها لتقول بدهشة وكأنها انتبهت للأمر الآن فقط:
_المكان نظيف تماماً.
أومأ برأسه وهو يسبقها إلى المطبخ قائلاً :
_نعم…أنا كنت مهتماً أن أرسل من ينظفه كل فترة…وكنت هنا أول يوم عدنا فيه إلى العاصمة.
ابتسمت بإدراك وهي تلحق به لتقول بنبرة دافئة:
_يعجبني اهتمامك بالتفاصيل.
فالتفت نحوها وهو يمسك أحد الأكواب ليسألها بابتسامة حنون مع قوله:
_تشربين القهوة معي؟!
لكنها تناولت منه الكوب لتزيحه جانباً مع قولها :
_نعم…لكنني أنا من سيصنعها.
وقف يراقبها بحنان وهي تعدها عندما تذكر- شيئاً ما- جعله يسألها بترقب:
_ماسة…أنتِ لم تخبريني عن علاقتك بزوجك كيف كانت.
تيبست أناملها فجأة على الملعقة التي كانت تمسكها…
ثم التفتت نحوه متصنعة البرود الذي ناسب قولها:
_أخبرتك أن قصتنا انتهت.
هز رأسه في استحسان ثم قال باهتمام:
_لا أريد الخوض في دفاتر قديمة مادمتِ ترغبين بذلك…لكن أخبريني هل اتفقتما على الطلاق؟!
عادت تتشاغل بصب القهوة في الكوب لتقول بأقصى نبراتها بروداً:
_لا تقلق…أظنه سيفعلها قريباً.
قالتها كاذبة وقلبها يخبرها أن عاصي الذي عشقته بكل كيانها لن يتخلى عنها أبداً…
لينتابها أمل ضعيف أشرق بقلبها رويداً رويداً وكلمات عزيز تراود عقلها بقوة…
نعم…من يدري؟!!
لعل رحيلها عنه الآن يجعله يرجع عن طريقه…
لعل افتقاده لها يرده إليها داحراً شيطان طمعه وجبروته…
لعل شظايا “الماس” التي نثرتها بدربه تدله على طريق الوصول إليها…
بل…ربما يمنحها “المهر” الذي طلبته منه يوماً…
لوحة ب”فرشاة” ترسمها يده بعدما تلقي”سلاحه”!!!
لهذا تنهدت أخيراً بحرارة وهي تمسك الكوب لتناوله إياه …
عندما أصابتها عبارته بمقتل:
_هل تعلمين أنه تزوج ليلة أمس؟!
=================
_انتبهي!!!
هتف بها فهد بجزع وهو يبعدها برفق عن شظايا الكوب الذي وقع منها فانكسر…
وليته أدرك كم فجرت عبارته في صدرها شظايا اكثر!!
تزوج؟!!!
عاصي تزوج؟!!
ما بالها متعجبة هكذا؟!!
ألم يخبرها أنه سيفعل؟!
ألم تهجره لأجل هذا؟!!
ألم تقضي أيامها السابقة تؤهل نفسها لهذا المصير؟!!
ألم تتوقع خسران “ماسته” أمام “شيطانه”؟!!!
يالله!!!
فارقٌ كبير بين ما نتوقعه وما نلاقيه!!!
برغم كل ما أعدته بنفسها من قوة لتحتمل …تجد عذابها أقوى!!!
عزيز كان مخطئاً في حكمه…
وهي كذلك!!!
رحيلها عنه لم يكن سوى حجر جديد في الجدار الذي قام بينهما…
خطوة أخرى في طريق ستسيره بدونه…
“إجابة صحيحة “في “ورقة امتحان” تَساوَى فيه النجاح والرسوب ..
في الحالتين هي خاسرة…
إن لم يكن “كرامتها” ….ف”قلبها”!!!
_ماسة!!!
هتف بها فهد من جديد مراقباً صدمتها بقلق مع قوله الآسف:
_لم أعلم أن الخبر سيضايقكِ هكذا…ظننتكِ …
قطع عبارته متفحصاً إياها بجزع حقيقي لكنها التفتت نحوه أخيراً لتهمس بصوت مرتعش:
_لا أهتم.
نظر إليها بشك ونظراتها الزائغة تناقض قولها بصورة فجة…
لكنها تمالكت نفسها أكثر لتبتسم مردفة:
_ما يعنيني لو تزوج؟!ألم أخبرك قبلاً أن قصتنا انتهت؟!
ربت على وجنتها برفق ولازال يرقبها بقلق مشوب بحنانه…
لكنها عادت تقول برجاء حار:
_فهد…دعني هنا وحدي لساعة …ساعة واحدة فقط…أرجوك.
انفرجت شفتاه يهم بالرفض خاصةً مع حالتها هذه…
لكنها اعتصرت كفه بكفيها مع همسها برجاء أقوى:
_أنا أحتاج هذا بشدة…لا تجادلني الآن…أرجوك.
أشاح بوجهه في ضيق للحظة ثم عاد يضمها إليه بقوة لدقيقة كاملة…
قبل أن يبعدها برفق هامساً :
_ساعة واحدة فقط لكن بشرط…ستخبرينني بكل شئ عندما أعود.
أومأت برأسها موافقة وهي تقاوم انهيارها باستماتة…
لكنه ما كاد يغلق الباب خلفه حتى تركت العنان لدموعها لعلها تطفئ هذه النيران التي اشتعلت بصدرها الآن…
ابكيه يا ماسة…
ابكيه بكل قوتك الآن حتى لا يبقى في دموعك ما يذرف عليه بعد…
أهلكي قلبكِ الأحمق حزناً حتى لا يبقى فيه موضعٌ لاشتياق…
تدثري بحسرتكِ وسط برد خيانته حتى تدركي قيمة الدفء بعد…
ابكي…
واصرخي…
والبسي الأسود حداداً على عشق مات غدراً ولا دية له!!!
كان هذا هذيان روحها بترنيمة عذاب لم تعلم لها أولاً من آخر …
والتي قطعها أخيراً رنين هاتفها…
ظلت تنظر طويلاً للهاتف الذي تراقصت أضواء شاشته برنته المميزة التي اختارتها له…
لحن أول أغنية سكبت إحساسها معها على صدره الذي توسدته يومها بمنتهى الأمان…
“أنا بعشق البحر”
كالبحر كنت ولا تزال…
حنوناً…مثيراً…هائجاً..غامضاً…
وغادراً!!!
لم تجب الاتصال لمرتين وثلاث وشرودها يختطفها بين واقع وخيال…
لكن نغمات الجهاز عادت تنتزعها من أفكارها فتناولته بأنامل مرتجفة لتفتح الاتصال….
وكأنها فقط تقطع على نفسها تأثرها ….
لتصمت تماماً منتظرةً سماع صوته الذي غاب عنها متدثراً بصمته هو الآخر…
لدقائق طالت كثيراً ولم يجرؤ أحدهما على قطعها…
_عاصي!!
همستها اليتيمة شقت ستار الصمت أخيراً لتذبح قلبه ب”ألمها” الذي شق صدرها …
ب”عاطفتها” التي كانت تقطر بين حروفها…
ب”اشتياقها”الذي اختبأ خائفاً بين ذبذبات صوتها…
و ب”وعيدها” الذي كان يغلف نبرتها:
_يقولون أنك….
قطعت عبارتها عاجزة عن مجرد النطق بها…
لتصلها حرارة أنفاسه عبر الهاتف فتصهر خلاياها بشعورها الدافئ به تماماً وكأنها على صدره!!!
فوجدت نفسها تردف بهمس مضطرب بين تكذيب ورجاء:
_هل فعلتها حقاً؟!
اعتصر هاتفه بيده وصوتها يعيده رغم عنه لسجون اشتياقه…
لكنه قهر هذا الشعور بقوة لا يجيدها مثله…
ليهمس بصوت ظاهره “القوة” وباطنه” خزيٌ ” لم يستشعره سواها:
_نعم…عاصي الرفاعي لا يخلف كلمةً أعطاها.
أغمضت عينيها بألم وهي تعتصر الهاتف بين أناملها هي الأخرى في “توافق قدري” غريب بينهما…
لتحاول بعدها قول شئ…
أي شئ!!!
عتاب…
استنكار…
تهنئة ساخرة…
لكن لسانها بدا وكأنه التصق بسقف حلقها الجاف فعاد الصمت يلفهما من جديد لوقت أطول هذه المرة…
حتى راودتها نفسها بغلق الاتصال لكنها للأسف…لم تستطع!!
وفي نفسها …لعنت ضعفها مرة…
و غدره ألف مرة…
وعشقها له ألف ألف مرة…
لكنها لم تقوَ على التفوه بمجرد كلمة !!!
بينما لم يكن هو أفضل منها حالاً…
يتمنى لو يقطع المسافة بينهما بلحظة…
لو يغرسها غرساً على صدره ليمحو أثر امرأة سبقتها لم تنل منه سوى- ثورة جسد-..
لو يخفي وجهه بين خصلات شعرها متنشقاً عبير عشق لم تمنحه له سواها…
لو يسبح ببحار ماسيّتيها مغتسلاً بعد دنس خطيئته…
لكنه يعلم كم جاهد نفسه كي لا يفعلها…
لقد عاش عمره كله يضع الحجر فوق الحجر كي ي

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى