روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان البارت الثامن والثلاثون

رواية ماسة وشيطان الجزء الثامن والثلاثون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الثامنة والثلاثون

_لماذا تصرخين هكذا؟!
هتف بها عاصي بقلق وهو يندفع نحو غرفة الصغيرين حيث كانت نور تصرخ بغضب غريب على طبيعتها الهادئة فيما وقف ضياء جوارها عاقداً ساعديه أمام صدره بينما الصغيرة تهتف بقهر طفولي:
_ضياء أفسد لوحتي …وألقى علبة ألواني من النافذة .
عقد عاصي حاجبيه وهو يرى اللوحة التي رسمتها ابنته قد مزقت إلى نصفين فالتفت نحو ابنه بنظرة متسائلة ليهتف الأخير بطبيعته المسيطرة:
_طلبت منها اللعب معي فرفضت …الآن لن يشغلها عني شيء .
عنفه عاصي بكلمات زاجرة وقد توعده بعقاب صارم فخرج الصغير عدواً من الغرفة ….
بينما تقدم عاصي من ابنته ليحملها ويضمها إليه ثم جمع نصفي اللوحة ليضعهما متجاورين قائلاً باعتزاز:
_كم تجيدين الرسم!
ابتسمت الصغيرة لهذا الإطراء وقد بدت وكأنها نسيت أن اللوحة مقطوعة فمسحت دموعها لتحتضنه بدورها عندما سمعا صوت ماسة خلفهما تقول بحنان:
_خطوطها قوية كأبيها …
_وألوانها دافئة كأمها !
قالها عاصي وهو يلتفت نحوها ولازال يحمل صغيرته …
غابات الزيتون في عينيه تتوهج بحنان عاطفته…مع معنى جديد غاب كثيراً عن
عالمه…معنى “الرضا”!
ابتسمت ماسة وهي تداعب شعر الصغيرة لتقول لها مواسية:
_ضياء يغار عليكِ…أنتِ صديقته الوحيدة هنا …لهذا يجن جنونه عندما يراكِ مشغولةً عنه …
ثم رمقت عاصي بنظرة جانبية ذات مغزى لتردف:
_ستكبرين وتدركين أن هناك نوعاً خاصاً من قلوب الرجال يعشق التملك ولا يقبلون في قلوب أحبتهم شركاء!
فابتسم عاصي ابتسامته الرصينة وهو يفهم ما ترمي إليه ليقول لماسة ببطء ضاغطاً على حروف كلماته:
_ربما لهذا السبب بالذات لن أعاقبه…إذا الحب تملك قلوب الرجال فمن ذا الذي يرضى بالشريك؟!
اتسعت ابتسامة ماسة وهي تتذكر آخر مرة زارها فهد هنا …لم تكن قد رأته منذ وقت بعيد لهذا ما كاد يلقاها بعبارته الأثيرة “حبيبة أخيكِ” حتى وجدت نفسها ترتمي بين ذراعيه كي تشبع نفسها من عاطفة افتقدتها طويلاً …
هذا الذي لم يتفهمه عاصي وقتها وغابات الزيتون في عينيه تشتعل بحرقة غيرة أن وجدت روحها ملاذاً على صدر غيره !
لقد قضت بعدها بضعة أيام تسترضيه حتى أنها عاهدت نفسها ألا تفعلها أمامه مرة أخرى .
لهذا مالت على كتفه بشفتيها بقبلة عميقة قبل أن ترفع عينيها إليه هامسة :
_عندما يعشق سيد الأضداد فلا مجال لمنطق ولا جدوى لتقييم…كل ما في حبه شديد التطرف …كأنه عالم بكر لم تطؤه قبلي قدم بشر!
نقلت الصغيرة بصرها بينهما وهي لا تفهم شيئاً من همسهما هذا …لتقول أخيراً بطيبتها المعهودة :
_أين ضياء؟!
_في وكره السري المعتاد الذي يختبئ فيه عندما يريد اعتزال العالم…تحت طاولة الطعام .
قالتها ماسة ضاحكة فابتسم عاصي وهو يقبل جبين ابنته بينما يزيح خصلات شعرها خلف أذنها هامساً بحنان:
_لن أصالحه حتى يصالحك .
قبلت الصغيرة وجنته فتحرك بها ليضعها في فراشها ثم رفع عليها غطاءها قائلاً:
_قد آن ميعاد نومك …لا تحزني …غداً أعد لكِ مفاجأة ترضيكِ.
ابتسمت نور برضا وهي تغمض عينيها ثم فتحتهما لتسأله ببراءة:
_وضياء؟! ألن ينام؟!
لكن عاصي قال بحزم:
_دعيه وحده حتى يدرك خطأه ويصلحه .
ظهر الأسف على وجه الصغيرة لكنها أطاعته كعادتها لتستسلم للنوم بينما خرج عاصي وماسة من الغرفة نحو غرفتهما حيث تمدد هو على فراشه …
بينما وقفت ماسة خلف الباب الموارب تراقب الصغير لدقائق طالت نوعاً ثم ابتسمت وهي تغلق الباب أخيراً لتتوجه نحو عاصي قائلة :
_تدري ماذا فعل ابنك؟!
التمعت عيناه وهو يشبك ذراعيه خلف رأسه قائلاً بثقة:
_دعيني أخمن…غادر مخبأه عقب شعوره بأننا هنا …ثم توجه لغرفتهما ووضع لشقيقته علبة ألوانه هو الخاصة عوضاً عن علبتها التي ألقاها من النافذة ثم احتضنها وقبّلها قبل أن ينام .
ضحكت ضحكة رائقة وهي تتمدد جواره على الفراش لتلقي برأسها على صدره قائلة:
_يبدو أنك تفهم ابنك جيداً حقاً….مع إضافة بسيطة…لقد لصق لها نصفي اللوحة كي تعود كاملة !
_حقاً فعلها ؟! هذه إضافة قيمة لفكرتي عنه !
قالها بفخر حانٍ وهو يضمها نحوه فرفعت عينيها إليه لتهمس بعاطفتها المتقدة:
_كم يشبهك! لم أكن أظنني محظوظة حدّ أن أملك نسخة أخرى منك…ذكاؤه…قوة شخصيته…تملكه …عنيف عقابه…مع حبه وحنانه ودفاعه الحمائي عن شقيقته أمام الجميع …ربما لا تكون جميعها خصالاً حسنة لكن هذا المزيج من الصفات يجعله فريداً مثلك .
التوت شفتاه بابتسامة حانية وهو يداعب منابت شعرها بتلك الحركة التي تعشقها …ثم غامت عيناه بنظرة أسى مع قوله :
_ربما لهذا السبب أخاف أن أفقد السيطرة عليه…أحياناً أود لو لا أطلق أسره من بين ذراعيّ…لو أمنحه كل ذرة حنان حُرمت أنا منها يوماً…لو أقضي ما بقي لي من عمر فقط كي أرسم على وجهه ووجه شقيقته ابتسامة لا تموت …لكنني أخاف من تدليله…طبيعة شخصيته المسيطرة في هذا السن الصغير تجعلني أضطر لبعض الشدة كي لا أفسده…
ثم التفت نحوها بعينيه سائلاً:
_تظنينه يحبني؟!
ابتسمت وهي تدرك قيمة هذا السؤال لرجل بتاريخه مع أبيه فرفعت رأسها لتطبع قبلة رقيقة على ذقنه هامسة:
_لا أظن…بل أثق تماماً…أنت زوج رائع وأب أروع!
قبل جبينها بعمق وهو يضمها إليه أكثر فتثاءبت لتهمس بصوت متثاقل:
_كان يوماً مجهداً…تصبح على خير!
قالتها ليتثاقل رأسها على صدره مستسلمة لنعاس سريع فظل يرمقها بنظرة حنون دافئة حتى استسلم للنوم هو الآخر …
كابوسه “الجديد” يعاود مراودته ولا يفهم معناه …
يرى نفسه نائماً على ظهره بينما شئ ثقيل غير مرئي يجثم على صدره …
ومن العدم تظهر يدٌ صغيرة شديدة السواد يسيل منها الدم …
تقترب منه رويداً رويداً لتخمش صدره بأظافرها المنمنمة …
يريد الصراخ لكن صوته يبقى حبيس حلقه حتى يستيقظ من نومه فزعاً والعرق يملأ جبينه !
صدره يعلو ويهبط بانفعال من أثر الكابوس فيضم ماسة النائمة إليه أكثر قبل أن يزيح رأسها جانباً برفق ليقوم ويتناول كأساً من الماء !
عيناه تضيقان بتفكير عميق وهو لا يدري تفسيراً لهذه “اليد الصغيرة السوداء” التي صارت تؤرق مضجعه …
هل هو شعوره بالذنب نحو ابنه الذي مات؟!
أم هو خوفه من شخصية ضياء التي تزداد صعوبة مراسها يوماً بعد يوم ؟!
أم هو -شيء آخر- لايزال عالقاً بين ثنايا عقله الباطن ولا يدركه ؟!
تنهد بحرارة عند الخاطر الأخير ليشعر بأناملها على كتفه مع صوتها الناعس:
_لماذا استيقظت ؟!
ربت على أناملها برفق ثم قال وهو يغادر الفراش :
_طار النوم من عيني…أظنها فرصة ملائمة لبدء لوحتي التي لا أجد لها وقتاً بينما الصغيران نائمان ….عودي أنتِ الأخرى لنومك .
أصدرت همهمة ناعسة قبل أن تعود لنومها فتوجه هو نحو الحمام الذي ما ولجه حتى تعجب من الكرسي الصغير الذي وجده -للغرابة – تحت المرآة قبل أن تتسع عيناه بدهشة وهو يطالع المرآة نفسها !
فهناك على سطح المرآة الأملس كان قد كُتب ب”معجون الأسنان” ما يصلح بعد ترجمته لخطوط ابنه التي لا تزال مبتدئة متعثرة:
_ “أحبك أبي “!
اضطربت جوانحه بانفعال وهو يزيح الكرسي الصغير جانباً ليقترب من المرآة وابتسامة صغيرة تزهر ببطء على شفتيه …
قبل أن تظهر ماسة خلفه لتفاجأ مثله بالوضع فاقتربت منه لتحتضن ذراعه بذراعيها هامسة بفخر أمومي:
_ابنك يصالحك كما صالح شقيقته !
أومأ برأسه صامتاً لكنها وحدها كانت تفهم ما يجيش بصدره من انفعالات …
مهما بلغت قوة ظاهره لكن تبقى نقطة ضعفه حيال مشاعر صغيريه أكبر من أن يتجاهلها !
لهذا احترمت صمته القصير بعدها حتى التفت أخيراً نحوها متسائلاً:
_لماذا لم تكملي نومك؟!
فالتمعت عيناها ببريق حماسة ناسب عبارتها:
_إغراء اللوحة كان لديّ أكبر من مقاومته …لم أشاهدك ترسم منذ وقت طويل !
فابتسم وهو يعانقها بقوة وعيناه تنتقلان برضا بين المرآة ب”كلمتيْها” عظيمتي الأثر على قلبه وبين رأسها المغروس على صدره…
عجباً!
لقد ظن يوماً أن حياته قد آلت إلى منتهاها ولم يتبقّ له منها إلا سداد دين ظلمه القديم …
ليفاجئه القدر ببداية جديدة…وعمر جديد…وحب جديد !
والآن حين ينظر لماضيه يشعر وكأنما كان …لغيره !
أجل …كأنه انسلخ من جلده ليبعَث من جديد بروح أخرى وقلب آخر !
فما أجمل أقدارنا عندما تتجاهل حساب الزمن وتمنحنا السعادة في وقتٍ ظنناه “بدل ضائع” …
و(العمر لحظة لو تعلمون)!
========
يسير عاصي جوارها متشابكي الأيدي نحو غرفة الرسم خاصته ليغلق الباب خلفهما قبل أن يرفع الغطاء عن لوحته التي لا تزال بيضاء تماماً …
لتسأله ماسة باهتمام :
_كنت أود سؤالك عن مصدر إلهامك ؟! ما الذي يدفعك لبدء خطوط أول اللوحة حتى تكملها ؟!
فابتسم وهو يجلس ليجلسها على ساقيه بينما تمتد أنامله لتسحب فرشاته …ثم شدد ضغط ذراعه الحر على خصرها ليجيبها :
_كل انسان يصرخ بطريقته …الفن عموماً هو طريقة راقية لصراخ أرواح لا تجيد
الكلام…الشاعر يصرخ بقصيدته …والروائي يصرخ بصراع أبطاله …والرسام يصرخ بخطوط لوحته…الصرخة قد تكون صرخة حزن…رعب…فرح…حب…وقد تكون مزيجاً من كل هذا …
ثم أسند رأسه على رأسها المزروع على صدره ليردف وفرشاته تتحسس طريقها عبر اللوحة البيضاء:
_عندما أرسم فأنا أصرخ بما عجزت عنه كلماتي …ومن يفهم هذا الصراخ هو فقط من تعجبه اللوحة !
تململت في جلستها وقد هبت للقيام كي تراقبه من بعيد كعادتها لكنه تشبث بها ليهمس لها بحنان دافئ:
_طالما وددت لو أرسم لوحة وأنتِ مني بهذا القرب…عندما تمتزج أنفاسنا كيف سيكون
الأثر على فرشاتي؟!
ابتسمت وهي تعود لتستقر بين ذراعيه تتابع أصابعه المسافرة في رحلتها بجنون لا يفتقر للجرأة…
أحياناً تتباطأ بألوان دافئة تملأ روحها سكينة …
وأحياناً تنطلق بأخرى صاخبة مع ازدياد وتيرة دقات قلبه تحت أذنيها فتدرك أنه يتذكر شيئاً يؤرقه …
حقاً…إنه يصرخ…يصرخ بطريقته !
وأخيراً بدأت معالم الصورة تتضح …
جسرٌ رمادي قديم بين شاطئين أحدهما أسود شديد القتامة والآخر أخضر مبهج …
وبأسفل الجسر نهرٌ ساكنٌ تترقرق مياهه تحت ضوء القمر …
لكن ما روعها حقاً هي تلك “اليد السوداء الصغيرة” التي ظهرت في خلفية الصورة وكأنما طفت فوق النهر ترفع أناملها نحو القمر وقد لوث سوادها خيط أحمر كأنما يسيل منه الدم !
عقدت حاجبيها برهبة وهي ترفع عينيها إليه متسائلة:
_ما هذه ؟!
قالتها وهي تشير نحوها فزفر بقوة وهو يهز رأسه قائلاً:
_لا أدري…
ثم التوت شفتاه بشبه ابتسامة مع استطراده:
_ربما لا أفهم صراخي هذه المرة !
ازداد انعقاد حاجبيها وهي تعاود النظر للوحة بحيرة زادت من انقباض قلبها … لكنه وقف ليوقفها معه قائلاً :
_فلنكتفِ بهذا القدر اليوم…فلديّ مهمة عاجلة قبل أن يستيقظ الصغيران .
رمقته بنظرة متسائلة فربت على وجنتيها ليقول بغموض:
_مفاجأة لنور…ولماستي كذلك !
=======
_أين أبي؟!
سألتها الصغيرة بينما تدخل عليها المطبخ فابتسمت ماسة قائلة :
_على الشاطئ يقول إنه يعد لك مفاجأة !
_وأنا؟! ألازال غاضباً مني؟!
هتف بها ضياء بتنمر وهو يدخل هو الآخر فقرصت ماسة أذنه لتقول مازحة:
_أنت تصالح أباك ب”معجون الأسنان” وأنا أقضي ساعة في تنظيف المرآة !!!
_هل أعجبته؟!
قالها الصغير بلهفة فضحكت ماسة قائلة:
_ستعجبه أكثر لو توقفت عن مضايقة شقيقتك!
_أنا لم أعد غاضبة.
قالتها نور وهي تحتضنه فابتسمت ماسة لطيبتها قبل أن تنظر للساعة قائلة :
_هو قال ساعتين فقط …أظننا نستطيع الخروج إليه الآن!
خرجت من البيت معهما نحو الشاطئ حيث جرى الصغيرين نحوه لتطلق الصغيرة صيحة مرحة وهي ترى ما صنعه لها …
صندوق خشبيٌ صغير لونه بألوان مشرقة وقد صمم لغطائه حلية تشبه نجمة كبيرة .
ابتسمت ماسة بحنان وهي تراه يضع ما بيده من أدوات جانباً ليجذب الصغيرة فيجلسها في حجره قائلاً بصوته الذي مزج قوته بحنانه:
_هذا سنسميه “صندوق الأحلام”…لا تفرطي فيه أبداً مهما كبرتِ…سواء كنت معك أو لا …
عقدت الصغيرة حاجبيها مع عبارته الأخيرة لكنه ابتسم لها مطمئناً ليشير لحلية الصندوق مع استطراده :
_ارسمي كل حلم ترتجينه في لوحة وضعيها هنا …هذه النجمة ستحمل حلمك للسماء كل ليلة…لو تحقق الحلم فاعلمي أن اللوحة كاملة …ولو لم يتحقق فابحثي عما ينقصها …
كان يحدث الصغيرة بأسلوب بسيط يتناسب وسنّها لكن ماسة كانت تفهم ما يختفي خلف عبارته …
تفهم كيف يحثها على السعي خلف أمانيها دون يأس…
تماماً كما كانت تفهم غيرة ضياء الذي وقف صامتاً يراقبهما بتبرم …
فالتفت نحوه عاصي ليجلسه هو الآخر في حجره قائلاً :
_مادمت قد صالحت شقيقتك فانظرا ما بداخل الصندوق.
جذب ضياء الصندوق ليفتحه ثم شهق بفرحة طفولية وهو يرى سيارة
بلاستيكية صغيرة بموديل خاص كان قد طلبها من أبيه منذ زمن …
أخرجها ليقلبها بين يديه قائلاً بانبهار:
_هكذا أكملت المجموعة التي عندي…شكراً يا أبي …سأذهب لأجري السباق .
قالها وهو يقبل جبين أبيه بسرعة ليهرع نحو الداخل بينما نور تعدو خلفه هاتفة بلهفة:
_دعني ألعب معك بها …وسأجعلك تلعب بدميتي.
ضحكت ماسة بسعادة وهما يختفيان عن ناظريها داخل البيت بينما وقف عاصي لتلتفت نحوه قائلة:
_أعجبتني طريقتك في إخراج سيارته من صندوقها هي …كذلك يتعلم أن سعادة شقيقته مرتبطة بسعادته .
أومأ برأسه موافقاً ثم انحنى ليحضر لها مفاجأتها قائلاً :
_وهذه لكِ!
ابتسمت وهي ترى “الطائرة الورقية” التي صنعها بينما قلبه يخفق بقوة وهي تتذكر شبيهتها التي جمعتها به يوماً على سطح بيته القديم …
فرفعت إليه عينيها لتقول بشرود :
_ألازلت تذكر ؟!
اقترب منها خطوة لتستريح نظراته على بحار فضتها التي تألقت بعاطفتها بينما أنامله تداعب وجنتها برقة هامساً:
_كانت المرة الأولى التي يغزوني فيها صوت غنائك…وقتها قلت لكِ إن صوتك يشبهك …رقيق دافئ حنون …لكنه كسير …وقتها شعرت أن طائرتك الورقية هي حلم روحك البعيد ..
.والآن بعد كل هذه السنوات …لم يعد صوتك كسيراً…صار قوياً مثلك…وها هي ذي طائرتك الجديدة …خذيها…وطاردي معها الحلم الجديد .
لم تشعر بنفسها وهي تتعلق بعنقه بقوة لتدفن وجهها في صدره هامسة :
_أي حلم ؟! وهل تجوز الأحلام لمن يسكن الجنة ؟!
ثم رفعت عينيها إليه لتردف:
_أنت كل حلم…وكل حقيقة…معك فهمت معنى أن يقسو العالم فلا أهتم …مادامت عيناك تحنوان.
توهجت عيناه بدفء عاطفته وهو يهمس لها بنبرته الآسرة:
_شمسٌ أنتِ …عاندت أفلاكها لتسكن سمائي ولا تغيب .
_بل نجمٌ وارته الغيوم…آواه ليلك حتى أضاء.
همست بها وأناملها تشتبك بأنامله الحرة قبل أن تتناول منه طائرتها لتقول بمرح :
_يبدو أن السباق لن يكون لسيارات ضياء فحسب…تسابقني؟!
قالتها وهي تخلع عنها خفها المنزلي بسرعة لتعدو حافية القدمين بطائرتها الورقية على الشاطئ وصوت ضحكاتها يدوي في أذنيه كأعذب لحن …
قبل أن يعدو خلفها وقد بدت في عينيه كعروس من عرائس الأساطير تحلق برشاقة فوق غيمات العشق …
خطواته تتباطأ عمداً كي يسمح لها بالمزيد من العدو والانطلاق…
وخطواتها هي الأخرى تتباطأ عمداً وقد اشتاقت لحاقه بها …
ذراعاه يطوقان خصرها أخيراً ليسقطها معه أرضاً على الرمال …
ضحكاتها تنافس لمعة عينيها في بريقها الخاطف …
بينما يقترب منها بوجهه هامساً بين أنفاسه اللاهثة :
_لم أركِ منطلقة هكذا منذ وقت طويل!
فتنهدت بحرارة ثم استلقت على ظهرها تماماً على الرمال بينما أناملها تمسد بطنها مع همسها الحذر:
_ربما ستكون هذه آخر مرة تسمح لي فيها بهذا !
تجمدت ملامحه للحظة وعيناه تنتقلان بين بطنها وعينيها …
قبل أن يهمس بذهول:
_أنتِ…؟!
أومأت برأسها إيجاباً فظلت ملامحه على جمودها للحظات …
قلبه يخفق بجنون والخبر على بساطته يزلزله !!
لقد ظن أنه قد نال من القدر أقصى حدود كرمه …
لكن الآن…الآن …
_عاصي…هل…؟!
قالتها بقلق وهي ترى عينيه تلتمعان ببريق حقيقي…بريق دموع!
فقامت لتستند على مرفقيها بينما رفع هو رأسه للسماء بما بدا كالدعاء …
قبل أن يجذبها فجأة بين ذراعيه لتستقر أنفاسه الصاخبة بين حنايا عنقها وصمته
اللاهث يدوي في أذنيها كأبلغ حديث …
تشبثت به بدورها وهي تشعر بوقع خبر كهذا على نفسه ثم ربتت على ظهره وهي تهمس له بحنان:
_أعلم أنه ليس على الأرض الآن من هو أسعد منك لكنك لا تزال عالقاً بالخوف من ماضيك…أرجوك يا عاصي…أطلق العنان لفرحتك…لكلماتك…أو حتى لدموعك…افرح ودعني أفرح معك .
لم تكد تتم عبارتها حتى رفع إليها عينيه…شموسه الزيتونية تتوهج ببريق دافئ …شفتاه ترتجفان بانفعال كانت تدرك جيداً مدى عظمته …
قبل أن تستقرا على جبينها مع همسه المتهدج:
_طالما ظننتك معجزتي الأخيرة في زمان يزعمون أنه بلا معجزات!
فابتسمت وهي تسأله بلهفة:
_تريد ذكراً أم أنثى؟!
_أريد دليلاً يا ماسة …أريد دليلاً!
همس بها بتأثر وهو يعاود اعتصارها بين ذراعيه مردفاً:
_أريد دليلاً على عفو السماء…أريد فرحة بطول ما بقي من عمر…أريد حباً بعمق ما افتقده الأمس…أريد قطعة منك تبرق
كالماس وسط ظلام روحي…وليكن بعدها ما يكون .
دمعت عيناها بتأثر من بوحه الحار الذي ندر أن يغادر صدره بهذه الشفافية لترفع عينيها إليه هامسة:
_ألازلت تبحث عن دليل؟! بعد هذه السنوات؟!
فتنهد بحرارة وهو يتذكر كابوسه الجديد …تلك “اليد السوداء” الصغيرة…ليقول لها بشرود:
_ثمة شيء ما ناقص …ربما …
قطع عبارته وعيناه تغيمان بنظرة لم تفهمها ثم هز رأسه بابتسامة واهنة وهو يقوم ليجذبها برفق معه قائلاً:
_هل أخبرتِ الصغيرين؟!
_لم أخبر أحداً قبلك!
قالتها وهي تتأبط ذراعه لتسير جواره على مهل نحو البيت فأشرقت ملامحه وهو يقول بحماس غريب على طبعه الرصين:
_حسناً فعلتِ…أريد أن نفاجئهما بهذا الآن معاً .
أشرقت ضحكتها وهي تمتزج بضحكته ليسرعا الخطى نحو البيت وقد امتزج صوتا نداءاتهما للصغيرين مع هدير الموج هناك …
وعلى رمال الشاطئ استقرت طائرة ورقية اهتزت مع الريح كأنما تتراقص فرحاً كشاهدة على “الحلم الجديد”…
السماء هي الأخرى تشقق غمامها عن أمطار تراقصت لتعكس ألوان قوس قزح …
أجل…مهما اختفى لابد أن يظهر من جديد داعياً معه عرائس البشرى…
ها قد عدت يا قوس قزح!!
========
*حسام ..قذاف الحطب !*
====
_أتسمعني؟! أتسمعني يا ابني؟!
صوت أمه يكاد يخنقه جزعه جواره لكنه لا يملك إلا الاستجابة لهذه الدوامة التي تبتلعه ..
ظلام ..ظلام ..ظلام !
ظلام تضيئه أخيراً “نارٌ “وليس “نوراً “!
نارٌ لا تزال يُلقَى فيها الحطب فوق الحطب !!
_أنا يسرا الصباحي! لماذا أرضى ب”نصف رجل”؟!
يسمعها بصوت يسرا كجلدة سوط فوق ظهر كبريائه !
نصف رجل ! نصف رجل!!
قدماه تركضان وسط هذا الظلام ..تدوران حول حلقة النار التي تتسع ..
المزيد من الحطب فوق الحطب!!
_أنا! أنا طيف الصالح اخت عاصي الرفاعي كاتبة ناجحة وامراة يتمناها اي رجل ..أنت؟! أنت حسام القاضي ..ضابط فاشل باع ضميره لينتهي به الامر بلا عمل ..عملك الذي كنت تتكبر به علي الناس وعليّ ..عاجز عن
الانجاب لفظتك أولى نسائك ..ولحقت بها الثانية هربا من جحيمك ..هل أكمل أم نكتفي بهذا القدر؟!
المزيد من الحطب فوق الحطب !!
_طيف! أنتِ الشي الوحيد في حياتي الذي بقي يذكرني أن لي قلبا !
_ أنت لم تحب يوما الا نفسك ..حسناتك لك وذنوبك تلقيها علي غيرك ومثلك لن يعرف الحب ابدا حتي يحترق بعذاب آثامه ..ربما -وأقول “ربما”- بعدها تكون للرماد حياة !
المزيد من الركض حول حلقة النار التي تتسع وتتسع ..
المزيد من الحطب فوق الحطب ..
دعاء ب”عينها المفقودة”..نظرتها الكسيرة ..وكلماتها له في آخر لقاء ..
_لا تحقد على طيف كثيراً فهي ليست هانئة ..كلاكما مسخٌ شوّهه انتقامه !
وأخيراً يسقط أمام حلقة النار ..يلهث بعنف ولفحها يكاد يحرق بشرته ..
ولايزال المزيد من الحطب يُلقَى فوق الحطب!!
صوت طلقات نار ! امرأة تسقط صريعة مع ابنها الذي تحمله في بطنها !
سيارة تتحرك بسرعة هائلة لتسقط من أعلى المرتفع !!
عاصي الرفاعي يفقد زوجته وطفله ..وبصره!!
حلقة النار تتسع أكثر فيشعر بلهيبها يشوي جسده ..
يحاول كتم ألمه كما اعتاد لكنه يعجز عن فعلها !
صرخاته تتحرر أخيراً واحدة تلو الأخرى فيتردد صداها كشظايا تنفجر داخله !
_حسام ! اهدأ ! تماسك!
الهتاف بصوت فهد يخترق أذنه فيشعر بقبضتي الأخير تشتدان فوق ساعديه تثبتانه مكانه لكنه يعجز عن السيطرة على انتفاضة جسده ..يسمع صوت بكاء أمه ونداءاتها المتضرعة باسمه فتهدأ ارتجافته رويداً رويداً ..
يفتح عينيه أخيراً ليشعر بضوء المصباح كخنجر حاد ينغرس في حدقتيه فيعاود
إغلاقهما بسرعة ..
_الحمد لله ! أفاق! فتح عينيه ! أنا رأيته !
صوت أمه المحتقن ببكائها يجبره أن يعيد المحاولة من جديد فتستقبله نظرة فهد الداعمة هذه المرة وهو يربت على كتفه
قائلاٌ بودّ لم يخلُ من قلق:
_حمداً لله على سلامتك يا صاحبي !
_ماذا حدث؟!
يهمس بها بصعوبة عبر حلقه الجاف وهو يشعر بعناق أمه الدافئ لتهتف الأخيرة بين دموعها :
_ستقتلني يوماً ما خوفاً عليك ! لن تكف عن القيادة بهذه السرعة ؟!
_قيادة ؟!
يهمس بها بتشتت وهو يستعيد آخر ما يذكره عن تلك الليلة ..
احتفال “ليلة العيد” المعهود مع أصدقائه بتلك السجائر “المحشوّة” ..لم تكن مرته
الأولى بطبيعة الحال لكنه يعترف أنه أسرف كثيراً هذه المرة .
_سأنادي الطبيب ليتفحصك !
تهتف بها أمه بلهفة وهي تنهض عنه لتغادر الغرفة فيما يرمقه فهد بنظرة عاتبة دون حديث تجعله هو يهمس بانفعال وقد استعاد بعض وعيه :
_بالله عليك لا تبدأ حديث المواعظ ! حادثة ومرّت!
يقولها بينما يشيح بوجهه فيتنهد فهد بحرارة ليجلس على الكرسي أمامه مكرراً باستنكار مشفق:
_حادثة ومرّت ؟! عمرك كله يمر بلا جدوى يا حسام ! إلى متى ستظل تدور في هذه الحلقة السوداء الضيقة ؟!
يصمت طويلاً وكأنه هو الآخر يبحث عن جواب للسؤال ..يستعيد أحداث كابوسه السابق فيبتسم ابتسامة شاحبة مع جوابه :
_حتى تخنقني!
يهم فهد بالرد وهو يشعر بالمزيد من الإشفاق نحوه لكن دخول الطبيب يقطع محاولته ..الطبيب الذي تقدم ليتفحصه باهتمام ..
_الحالة مستقرة ..صورة
“الأشعة” مطمئنة ..كدمات ورضوض بسيطة ..ستبقى معنا قليلاً فقط ريثما نطمئن على الحالة تماماً وبعدها يمكنك الانصراف يا “سيادة الرائد”!
_سيادة الرائد !!
يهمس بها حسام بسخرية مريرة تجعل الرجل يلتفت نحو الأم بارتباك قائلاً ببعض المرح:
_والدتك أخبرتني أنك ..
_كنت!
يهتف بها بحسم مقاطعاً قول الطبيب الذي يرمقه بنظرة متعجبة قبل أن يتجاوز عن كل هذا بقوله :
_حمداً لله على سلامتك ..ضاعت منك أجازة العيد هنا لكن لا بأس ..المهم أنك نجوت .
_نجوت !
يتمتم بها حسام بشرود فيتنحنح الطبيب ليخاطب الأم بقوله :
_أحتاجك لتوقيع بعض الأوراق يا سيدتي ..تفضلي معي .
تربت المرأة على كتف حسام بحنان ثم تغادر الغرفة ولم تكد تفعل حتى تحرك فهد ليجلس على طرف فراش صديقه ..
العيون تحكي حديثاً يغنيها عن حكايا اللسان ..صمتٌ قصير يقطعه حسام بقوله الذي مزج مرارته بتهكمه :
_نجوت! هذه المرة أيضاً نجوت !! هل من المفترض أن أكون سعيداً ؟!
يتنهد فهد بحرارة وهو يطرق برأسه مدركاً مشاعر صديقه الذي استطرد بضحكة مختنقة :
_تعلم ؟! في كل مرة أشعر أنني نجوت من عقاب أدرك أن ما ينتظرني أشد ! صدقني لم أعد أعيش إلا لأترقب النهاية كيف ستكون .
_عن أي نهاية تتحدث ؟! ارمِ كل أفكارك المحبطة هذه خلف ظهرك ! حياتك كلها لا تزال بين يديك ..أنت الذي تصر أن تضيعها ! لقد مر أكثر من ثلاثة أعوام على نكبتك هذه وأنت لا تفعل شيئاً إلا جلد نفسك سراً فيما تتفنن في إظهار استهتارك ولا مبالاتك للناس ..أفق يا صاحبي ! أَفِق! إن لم يكن
لأجل نفسك فلأجل أمك التي تراك كل ما بقي لها .
يطلق حسام زفرة قصيرة وهو يحاول التخلص من بقايا كابوسه ..يدور ببصره في المكان ثم ينهض ببعض العسر ..يشعر ببعض التنميل في ساقيه مع صداع لعين يكاد يفتك برأسه لكنه يتحامل على نفسه ليتوجه نحو المرآة القريبة فيتفحص مظهره باهتمام بدا مَرضيّاً:
_متى طالت لحيتي هكذا ؟! لن أغادر نحو بيتي بهذا الشكل ..بل لن أبقى دقيقة واحدة هكذا ..أحضر لي ماكينة حلاقة يا فهد .
يبتسم فهد بتفهم وهو يقترب منه ليربت على كتفه قائلاً :
_كنت أعلم أن هذا أول ما ستطلبه ! لا تقلق ..ماكينة الحلاقة ،عطرك الخاص ،طاقم ملابس وحذاء ..كل هذا ستجده في الخزانة ..أنا مررت على بيتك صباحاً قبل حضوري إلى هنا .
يقولها مشيراً للمفتاح الاحتياطي لشقة حسام في جيبه والذي يتركه معه الأخير دوماً مع كل ما يحمله هذا من معانٍ لكليهما !
_سلطانة !!
يهتف بها حسام بجزع وكأنه تذكر فجأة فيضحك فهد وهو يتناول كرسياً قريباً يضعه له أمام المرآة ثم يجلسه وهو يربت على كتفه مهدئاً بقوله :
_لا تقلق! وضعت لها الطعام والشراب ..لكن يبدو أنها تفتقدك ..لم تكف عن النباح .
يطلق حسام ضحكة قصيرة بدت متكلفة كثيراً مع هذه اللمعة الحقيقية في عينيه ..والتي جعلت فهد يرمقه بنظرة مشفقة ناقضت خشونة نبرته :
_لنا حديث آخر عندما تستعيد كامل عافيتك ..لن أتركك لحماقاتك هذه كثيراً .
_تنسى دوماً أنني أكبرك سناٌ يا ولد !
يقولها حسام بمرح مصطنع وهو يراقب فهد يتوجه نحو الخزانة ليستخرج بغيته فيضحك الأخير قائلاً:
_تتحدث مثل الأستاذة ! متى سأقنعكما أن العمر ليس بالسن إنما بالخبرة ..بالتجارب!
_اخرس يا “أرسطو”! أريد التركيز كي لا أجرح ذقني .
يهتف بها حسام بنبرة لا تزال تعاني إعياءها وهو يحاول حلق لحيته النامية أمام المرآة فيغمزه فهد مغمغماً بنبرة عابثة :
_ولماذا تتعب نفسك ؟! أنت رجل منهَك وخرجت لتوك من حادث ! دعني أنادي إحدى الممرضات لتتولى الأمر .
_هذا هو فهد صديقي القديم قبل أن يفسده الزواج ! أخبرني ..ذوقهم جيد في الممرضات في المستشفى هنا؟!
_لا بأس به !
يغمزه بها فهد بمرح فيتشاركان ضحكة قصيرة يقطعها دخول الأم التي تهللت أساريرها وهي ترى حسام يجلس أمام المرآة :
_ما شاء الله لا قوة إلا بالله ! الحمد لله رب العالمين ! حمداً لله على سلامتك يا حبيبي.
تهتف بها وهي تنحني لتطوق جسده فيرفع رأسه نحوها بنظرة أسف طويلة لم تجد ما يوازيها على لسانه ..
أمه ..فهد ..سلطانة ..عمله ..وبضعة من رفاق السوء يزورهم من آنٍ لآخر عندما يضيق برتابة حياته المملة ..
هذا كل ما صارت حياته تدور حوله !
ينهي حلاقة ذقنه بمساعدة فهد ثم ينهض ليبدل ثيابه ..يفرط كعهده في استخدام عطره الباذخ ..يمشط شعره باهتمام ..
_ساعتي؟!
يهتف بها بتساؤل فتستخرجها امه من درج قريب ثم تلبسه إياها بنفسها ..
نظرة راضية يتشاركانها وهو يعاود النظر لنفسه في المرآة ..
الوسامة المفرطة ..الأناقة الباذخة ..نزيف القسوة والخوف الغريب في العينين الصقريتين ..ابتسامة واثقة على الشفاه المرتجفة ..
منتهى الكمال يا “سيادة الرائد”!
منتهى الكمال !
لولا هذا الشحوب الطبيعي فوق ملامحك ..والذي يشبه نظيره فوق قلبك !
_هاتفي؟!
يناوله فهد إياه فيرفعه ليلتقط لنفسه صورة في وضع استعراضي ثم يرسلها على حساب “الفيسبوك” ليكتب تحتها ..
_تأتي الرياح كما تبغي سفينتنا ..نحن الرياح ونحن البحر والسفن .
يتأكد من نشرها فترتسم على شفتيه شبه ابتسامة وهو يراقب تعليقات الأصدقاء من زملائه القدامى في جهاز الشرطة ..ومن بعض الفتيات العابثات اللاتي يتابعن حسابه باهتمام دون معرفة حقيقية بينهم ..
كلها تعليقات تشيد بوسامته وتتمنى له
السلامة بعد الحادث البسيط الذي لم يؤثر عليها كما يبدو !
النظرة الراضية في عينيه تزداد تخمة ..لكنها تصطدم بهذا الخبر الذي قرأه لتوه ..
وفاة رفعت الصباحي ..والد يسرا !
يتابع الخبر باهتمام وهو يطالع صورتها ..
متى عادت هذه للوطن ؟!
بالتأكيد بعد وفاة ابنها !!
شماتة خفية ترفع رايتها فوق أرضه !
هي عيرته يوماً بأنه “نصف رجل”!
رفضته لأجل طفل كهذا الذي مات !!
لكن الشماتة تختفي رويداً رويداً ليحل محلها شعورٌ عارم بالفراغ..
بالضياع!
دعاء كذلك -التي يتابع أخبارها من بعيد- صارت لها ابنة جميلة تشبهها ..تستحق هذه السعادة التي تعيشها بعيدة عنه ..
وحدها طيف لا تزال تشاركه وحدة روحها ..
فهل يزعم أنه يشعر بالشماتة نحوها كذلك ؟!
وكيف تمتزج الشماتة مع هذه الحسرة التي تكوي ضلوعه ؟!
المزيد من “الحطب” لايزال يزكي نيران الصدر لكن يكفيه أنه يحترق به وحده دون أن يراه أحد !
========
_عسى أن تعجبك المفاجأة يا أستاذة!
قالها فهد وهو يغلق علبته الصغيرة التي حوت خاتماً أنيقاً بفص كريستالي سماوي قبل أن يضعها في جيبه .
كان واقفاً بسيارته أمام البناية التي تضم مكتبها البسيط والذي عرض عليها تغيير مكانه بما يتناسب مع وضعهما الجديد …
لكنها رفضت رفضاً قاطعاً متشبثة بهذا المكان الذي بدأت به حياتها العملية !
ابتسم ابتسامة عابثة وهو يتناول هاتفه ليتصل بها وما إن فتحت الاتصال حتى شعر بارتباك صوتها مع قولها ببعض التحفظ:
_لا يزال أمامي الكثير من العمل …يمكنك أن تسبقني إلى البيت .
فاتسعت ابتسامته وهو يخرج من السيارة ليقول مراوغاً:
_أنا أيضاً متعب…سأنتظرك هناك!
قالها ثم أغلق الاتصال بسرعة وهو يردف في نفسه:
_لنجعل المفاجأة كاملة يا أستاذة!
تقدم نحو البناية ليصعد الدرج نحو مكتبها الذي يعلم أنها لا تستقبل فيه أي زبائن في هذه الساعة مكتفية بمراجعة قضاياها …
استقبله مساعدها بترحاب لكنه أشار له
بالصمت وهو يتوجه نحو مكتبها المغلق لكن الرجل أدركه ليقول باعتذار ودود:
_هناك زبون بالداخل …عذراً لكنه حالة استثنائية!
رفع فهد حاجبيه بدهشة وهو يقول بصوت خفيض:
_لاريب أنه حقاً كذلك…حتى تغير الأستاذة قوانين المكتب لأجله .
دعاه الرجل للجلوس ثم قال موافقاً:
_الأستاذة تولي قضيته اهتماماً خاصاً …والحقيقة أنه يستحق …شاب مجتهد…مكافح…أين تجد هذا وسط شباب هذه الأيام الذين ….
غاب عنه تركيزه في كلمات الرجل وهو يرى باب مكتبها يفتح ليخرج منه الرجل الذي ألقى عليهما سلاماً عابراً قبل أن يغادر …
غافلاً عن القنبلة التي ألقاها في صدر فهد وهو يتبين ملامحه بوضوح لن يخطئ فيه مثله …
لقد كان…حسن!
=======
تنهدت بحرارة وهي تتقلب في فراشها عاجزة عن النوم …
وكيف تفعل؟!
وهي المرة الأولى التي يهجر فيها فهد فراشهما ليبيت وحده في الغرفة المجاورة!
حتى ملك الصغيرة تعجبت فعلته وهي تسأله بحروفها المتلعثمة عن السبب ،لكنه تهرب منها بإجابة مراوغة قبل أن ينفذ ما برأسه العنيد !
هي تعذره في موقفه لكن ما حيلتها هنا؟!
فقط لو يفهم …لو يقدّر ما الذي كان يعنيه حسن في حياتها …
ولا يزال!!
حسن لم يكن مجرد حبيب توفي عنها بعد عقد قرانهما !
حسن منحها حياته!
دفع روحه ليمنحها هي الحياة!!
غص حلقها بدموعها في هذه اللحظة فنهضت من رقادها لترتدي مئزرها فوق قميص نومها قبل أن تغادر غرفتها إلى غرفته …
هي لم تكن يوماً جبانة أمام المواجهات فما بالها بهذه المواجهة التي تخص أغلى من في حياتها ؟!
لهذا أخذت نفساً عميقاً وهي تفتح باب الغرفة المظلمة إلا من إضاءة خافتة عبر زجاج النافذة لتتوجه نحو فراشه الذي توقفت جواره تراقبه وقد استلقى على ظهره ،وملامح وجهه العابسة التي لم تفاجأ بها بدت وكأنه كان ينتظرها!
التقت عيناهما في حديث مضطرب قبل أن يصرف بصره عنها ليحدق في السقف فازدردت ريقها الجاف لتهمس بنبرة قوية:
_أذكر واحداً اعتقلني بين ذراعيه ليلة كاملة رافضاً أن يتركني لحظة واحدة عندما شعر بالخوف من أن يفقدني…أين ذهب ؟! أم أن الحب يبهت بعد الزواج حقاً كما يقولون…آآآه…
انقطعت عبارتها بآهتها المندهشة عندما جذبها من يدها نحوه فجأة لتسقط على صدره قبل أن يعتصرها بين ذراعيه بقوة آلمتها قليلاً مع همسه من بين أسنانه:
_تجيدين قلب الأدوار ..لكن ليس هذه المرة!
تلاحقت أنفاسها بقوة وهي تبسط كفيها على صدره ووهج البندق في عينيها يزداد تألقاً مع همسها اللاهث:
_هذا ما كنت أحتاجه بالضبط منذ ما حدث في المكتب …أنا لم أعشق فتىً طائشاً يخاصمني عندما تعترضنا مشكلة كهذه …أنا أحببت رجلاً عاقلاً التحمت حياته بحياتي منذ عرفته .
ازداد انعقاد حاجبيه مع ذاك الغضب الصارخ في عينيه وهو يعتصرها بين ذراعيه أكثر مع همسه:
_حقاً؟! وهل تذكرتِ هذا وأنتِ تخفين عني أمراً بهذه الأهمية ؟!
دمعت عيناها رغماً عنها لكنها تشبثت بقوتها وهي تقول بمكابرة:
_ومنذ متى أطلعك على أسرار عملي ومُوكليَّ؟!
_لا تلعبي بالنار يا أستاذة… أنا بالكاد أتمالك غضبي فلا تستفزيني أكثر!
هتف بها بحدة مكتومة فارتجفت شفتاها وهي تتشبث بنظراته مع قولها:
_هذا بالضبط ما جعلني أخفي
الأمر عنك …هل تدري ما الذي أفتقده الآن في علاقتنا ؟!
ظلت نظراته على غضبها الهادر فتنهدت بحرارة لتخفي وجهها في صدره مجيبةً عن تساؤلها بنفسها:
_صداقتنا! أرجوك يا فهد …كن صديقي هذه الليلة …أحتاج هذا حقاً…أعرف أن الأمر صعب لكنني لن أجد من يفهمني مثلك !
ظل متجمداً على وضعه لدقائق طالت وكأنه لم يسمعها قبل أن تشعر بضغط ذراعيه يخف قليلاً مع همسه المقتضب:
_أسمعك!
رفعت إليه عينيه مترددتين فأدار جسدها ليرقدها جواره محتفظاً بها بين ذراعيه ليردف بنبرة عاتبة:
_لو كذبت..أو أخفيتِ شيئاً…سأعرف!
انفرجت شفتيها وهي على وشك الحديث لكنه هتف بسرعة :
_ولو أفرطتِ في شرح مشاعرك عندما رأيتِه …سأقتلك!
ابتسمت رغماً عنها ثم طبعت شفتاها هدية ناعمة على ندبة ذقنه تسترضيه قبل أن تهمس بخفوت:
_إبراهيم توأم حسن سافر عقب موته هرباً من ترصد البعض له …أنت تعلم ظروف مقتل حسن وظروف البلد كلها وقتها …لم أرَه من ساعتهت …لكنني فوجئت بزيارته منذ أسبوعين يطلب مني المساعدة في قضية إرث تخص عائلته !
ضاقت عيناه وهو يتفحص ملامحها مدركاً أن القادم هو الأصعب وقد صدق ظنه عندما أغمضت عينيها وكأنها تخفي عنه نظراتها لتردف:
_لا أخفيك قولاً…عندما دخل عليّ المكتب أول مرة…كانت من أصعب اللحظات التي مرت عليّ…نظراته العاتبة رغم تفهمها …جعلتني …جعلتني أشعر وكأن…
قطعت عبارتها عاجزة عن إكمالها ليكملها هو:
_وكأن حسن هو من أمامك …يلومك على خيانتك!
فتحت عينيها فجأة تنظر إليه نظرة واحدة …
لتطالعها عيناه الدامعتان من فرط الغضب …
مما جعلها تجهش في البكاء فجأة مع قولها :
_آخر مرة رأيت فيها إبراهيم قبل سفره كانت ذاك اليوم الذي دفنا فيه حسن …نظرات والديه المصدومة كانت تحمل بعض اللوم لي وأعذرهما في هذا لكنه هو وحده لم أرَ في عينيه هذه النظرة…بل
قال لي يومها : لا تشعري بالذنب…لو كنت مكانه لفعلت مثله!
_هذا الذي تريدينني أن أقبل بعملك معه؟!
كاد يهتف بها ووحش غيرته ينهش صدره لكنه حكم عقله في اللحظة الأخيرة ليبتلع كلماته بينما مسحت هي دموعها لتردف:
_لكنني رأيتها في عينيه عندما زارني في مكتبي بعد عودته…رأيت الحسرة اللائمة في نظراته وهو يطالع صورتنا أنا وأنت وملك على مكتبي…لم ينطقها …لكنني سمعتها .
_ربما لا يلومك…ربما هو فقط يتحسر على شقيقه!
يعلم الله كم جاهد نفسه لينطقها بكل هذا الهدوء الذي شجعها لتقول :
_لهذا لا يمكنني التوقف عن مساعدته …هو دين في رقبتي طوال عمري!
_لن تفعلي!
قالها قاطعة فانعقد حاجباها بغضب بينما هو يردف بحسم:
_لازلت أقوم بدور الصديق بالمناسبة…للزوج معك حسابٌ آخر….وبعقل الصديق أقول لكِ إن تعاملكِ مع هذا الرجل لن يجرك إلا للمزيد من الإرهاق النفسي …أنتِ لستِ أمهر محامية في المدينة…يمكنني تسليم قضيته لمن هو أفضل منك مع توصية مناسبة لكن ليس أنتِ!
_هو لن يقبل! أنت لا تعرف عزة نفسه!
هتفت بها باعتراض أجج غضبه أكثر ليردف:
_وأنتِ لا تعرفين كم أجاهد كي لا أفعل بك ما أندم عليه …طوال هذه الأيام وأنت تخفين عني شيئاً بهذه الأهمية!! لن يكون ما يجري في عروقي دماً لو سمحت لك برؤية هذا الرجل مرة واحدة بعد الآن!!
شهقت بعنف لتهتف بحدة مشابهة:
_لست أول امرأة تساعد شقيق زوجها الراحل!
_أنتِ لم تتزوجي غيري!
صرخ بها بجنون أجفلها وهو يميل فوقها لتكتسحها عاطفته بعنف حقيقي …
قبلاته ولمساته الخشنة تكاد تخدش بشرتها واشية بغضبه …
غضبه الذي كاد يدفعها للرد بمثله لكن شعور “أمومتها” نحوه غلب “كبرياء العاشقة” بداخلها …
جعلها تحتوي هذا الغضب برقة أنوثتها التي احتوت هدير عاطفته حتى حولتها بذكائها لما منح كليهما ما يحتاجه في هذه اللحظة…
مزيج من لذة الصخب وسكينة الأمان !
قبل أن تستكين أخيراً على صدره وهي تهمس بين أنفاسها اللاهثة:
_لماذا لا تفهمني هذه المرة؟!
_ولماذا لا تفهمينني أنتِ؟!
همس بها بعتاب رقق نبرته وهو يردف:
_هل تفهمين شعوري وأنا أفاجأ به يخرج من مكتبك غافلاً عن حقيقة شخصيته؟! هل تفهمين شعوري وأنا أشعر أنني كنت مغفلاً طوال هذه الأيام وزوجتي تلتقي نسخة من حبيبها القديم دون علمي؟! هل تفهمين شعوري وأنا أراك ترفضين أمراً بديهياً بقطع علاقتك به ؟!
أغمضت عينيها في يأس من مجادلته وهي تدفن وجهها في صدره …
طالما بدا لها هذا أكثر الأماكن أماناً منه عندما يغضب!
_فكري لدقيقة واحدة …ماذا كنتِ ستفعلين لو كنتِ مكاني …وأنا سأرضى بحكمك يا أستاذة!
همس بها في أذنها وذراعاه يعاودان اعتصارهما التملكي لها فاستجابت لرغبته …
والدقيقة تحولت لخمس دقائق كاملة تحملها هو صابراً رغم الغضب الذي كان يتنامى في صدره مع كل ثانية تزداد من صمتها …
قبل أن تجد نفسها تهمس :
_سأخبره غداً بأنني سأحول القضية لمحامٍ آخر!
ارتخت ملامحه ببعض الارتياح وإن لم تخلُ من عتاب ،بينما رفعت هي إليه عينيها لتهمس :
_ولو أنني كنت أتمنى لو تثق بي وبحبنا أكثر من هذا!
_الأمر لا علاقة له بالشك…بل بالغيرة يا أستاذة…أظنك تعرفين الفارق بينهما!
همس بها مؤنباً فعانقت نظراته بعينيها للحظات حتى أمطرت سحب العشق بينهما ما أخمد نيران الغضب …
لتبتسم أخيراً وهي تهمس له بدلال:
_لا تخجل من الاعتراف بأنك تغار!!
فالتمعت نجوم ليله الأسود في عينيه وهو يلصق جبينه بجبينها هامساً:
_أغار…وأغار ..وأغار…لست أحمق لأنكرها …ولا خجِلاً لأصرخ بها …حقٌ على من عشق مثلك أن يغار!
اتسعت ابتسامتها وهي تتنعم بدفء عناقه للحظات …
قبل أن ترفع إليه عينيها بهمسها:
_لن تكف عن جعلي أرضخ لك في كل مرة نختلف فيها !
_لأنني دوماً على حق!
همس بها بمكابرة وهو يقرص وجنتها مداعباً قبل أن يقول بجدية تامة هذه المرة :
_ستكون هذه آخر مرة تخفين فيها عني شيئاً.
أومأت برأسها في طاعة فرمقها بنظرة طويلة دافئة قبل أن يغمزها هامساً :
_هيا!
_هيا ماذا؟!
همست بها بترقب فرفع حاجبيه ليهمس بغرور مصطنع:
_صالحيني!
أطلقت صيحة مستنكرة لتهتف متعجبة:
_وماذا كنا نفعل منذ قليل؟!
مد أنامله برفق يلملم خصلات شعرها المشعثة ليضعه كله خلف أحد جانبي رأسها هامساً بنبرته اللعوب التي تعشقها:
_لا…هذا كان عقابي…أريدك أنت أن تصالحيني …
ثم طبع قبلة عميقة على عنقها ليردف:
_بضمير!
ضحكت بمزيج من خجل ودلال وهي تضمه إليها بحنان لتغرقه في فيض عاطفتها من جديد هامسة :
_بمنتهى الضمير!
=======
*ابراهيم ……”الدرويش”!
======
_خير الناس من فكّ كفيه ..وكفّ فكّيه ! من منكم يفهمها؟!
يسأل إبراهيم الصبية الذين تحلقوا حوله في المسجد وعيناه تدوران بينهم بذكاء مرِح ليهتف أحدهم ببراءة :
_أمي لا تحب “الفكّة”! تقول إنها تقلل بركة النقود !
فيبتسم “ابتسامته المنقوصة”وهو يراقب آخر يهتف متذاكياٌ مخاطباً صاحبه الأول:
_أحمق! ليست هذه “الفكّة” التي يقصدها ..ربما يقصد الهرب السريع ..رأيت البطل يقولها في مسلسل الأمس: “خد ديله في سنانه ويا فكيك”!
يبتسم من جديد وهو يراقب تناطحهم الصبياني ..وبقدر شعوره بالأسف لأن الدراما التلفزيونية غير المنضبطة تشكل جزءاً كبيراً من وعي هذا الجيل لكنه كان يشعر بقيمة هذه الدروس المجانية التي يمنحها لهم في مسجد الحي كل جمعة .
دروسه لم تكن وعظية جافة المحتوى كغالبية الشيوخ هنا لكنه كان يحرص أن يطعمها بالفكاهة وجو التسابق كي يشحذ عزيمة هؤلاء الصبية ويحبب إليهم دينهم ولغتهم .
الدين كان قدسه الأول ..والوطن قدسه الثاني !
_أقول يا “شيخ”؟!
يهتف بها أحدهم فتلتمع عينا إبراهيم وهو يخبطه بخفة على رأسه قائلاً :
_لا أحب أن يدعوني أحدكم بها ! لست أهلاً للمشيخة ..ألم نتفق أننا إخوة ؟!
_أمي تعنفني عندما تعلم أننا ندعوك باسمك مجرداً .
_قل لها أنها رغبتي أنا ..والآن أجب على السؤال .
يتردد الصبي الذي يبدو أذكاهم فيشجعه إبراهيم بإيماءة رأس لينطلق الصبي في جوابه :
_فك كفيه ..من العطاء ..أظنها تعني الكرم ..كف فكّيه ..من إمساك اللسان ..أظنها تعني ألا ينطق بما هو حرام .
_الله!
يهتف بها إبراهيم باستحسان وهو يربت على كتف الصبي الذي احمرت أذناه بخجل قبل أن يستخرج الأول من جيبه ورقة نقدية بقيمة متوسطة منحها إياه مردفاً باعتزاز:
_تستحقها !
_ولماذا هو بالذات ؟! نحن أيضاً نريد !
يهتف بها أحدهم بتنمر صبياني فيرد إبراهيم بصبر :
_حفظتم السورة التي درسناها الجمعة الماضية ؟!
_نعم!
يجيبون في نفس اللحظة فيبتسم لهم بقوله :
_عظيم! نختبر حفظكم وبعدها لكم الخيار ..إما النقود أو مباراة كرة قدم .
_مباراة ! بالطبع مباراة !!
يهتفون بها جميعاً بذات اللهفة فيضحك وهو يشير لهم بالهدوء قائلاً بلطف حازم :
_ألا نلتزم بالهدوء في بيت الله ؟!
يومئون برؤوسهم في طاعة قبل أن يشرع هو في اختبار حفظهم للآيات ..يصحح لهم أخطاء التجويد بصبر ومستمتعاً بصوت
تلاوتهم الذي يشبه كثيراً صوت تلاوته هو الذي يجيده بحكم دراسته الأزهرية .
_أحسنتم ! تعلمون أن الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ؟!
_نعلم يا إبراهيم ..هيا بنا للساحة الخلفية ..من سيحضر الكرة ؟!
يهتفون بها وهم ينهضون تباعاً بلهفة فيبتسم وهو ينهض بدوره ليسير وسطهم راضياً .
يغادرون المسجد نحو قطعة أرض مجاورة خالية رفعت فوقها يافتة بأنها ملك مستشار شهير وليست للبيع !
هذه التي رمقها إبراهيم بنظرة استهانة موجوعة قبل أن ينخرط بدوره في اللعب مع الصبية كأنه واحد منهم .
_ثلاثة واحد !
_هذا غش! كسبتم لأن إبراهيم يلعب معكم .
_هو لعب معكم الشوط الأول ومعنا الثاني .
_ششششش! لا تتجادلوا وإلا لن نعيدها الجمعة القادمة .
يهتف بها مهدئاً إياهم ب”ابتسامته المنقوصة”وهو يتلقى السيناريو المعهود لنهاية مباراة كهذه في كل أسبوع .
يلوح لهم مودعاً لكنهم يصرون أن يصافحوه واحداً واحداً ..عيونهم البريئة -التي لم تختبر قسوة الحياة بعد- كانت تمنحه نظرة يفتقدها وسط عالمه الرمادي الكئيب ..
نظرة ود ..اعتزاز ..وعد بأن القادم أجمل!
ينصرفون جميعاً عدا الصبي الذكي الذي أجاب سؤاله في المسجد والذي بقي واقفاً مكانه للحظات بتردد فاقترب منه إبراهيم لينحني نحوه متسائلاً :
_ماذا تريد ؟!
يتردد الصبي قليلاً ثم يسأله ببراءة:
_لماذا لا تضحك ؟! تكتفي دوماً بابتسامة كهذه ..
يقولها مقلداً ابتسامة ابراهيم “المنقوصة” والتي ارتسمت على شفتيه بعدها عفوياً ليردف الصبي بفضول :
_هل مات أخوك شهيداً حقاً كما يزعمون ؟! ألهذا أنت دوماً حزين؟! ألهذا سافرت؟! ولماذا عدت ؟!
تشحب ملامحه فجأة كأنما غيضت من وجهه دماؤه ..الغضب يرسم بين حاجبيه ألف شيطان ..والحزن يغرس في عينيه ألف غابة من نيران ..نيران خبت فجأة كما اشتعلت فجأة ..
ليغلب وجعه غضبه !
يتذكر ذاك اليوم الذي وصله فيه خبر موت أخيه في تلك المظاهرة المنددة بنظام الحكم السابق ..
يومها كان من المفترض أن يخرج هو الآخر معه لكن أصابته حمى أقعدته في الفراش ليفيق من رقدته على الخبر الذي ترك ندبته في قلبه إلى الأبد !
حسن لم يكن أخاه التوأم فحسب بل كان رفيق روحه في مشوار حياتهما منذ الصغر ..
ورغم أنهما كانا يتندران أنه هو من كان يكبر حسن ببضع دقائق لكنه كان يشعر دوما
ً بالعكس ..
حسن كان ينتزع ب”كاريزمته” المهيبة المكانة العليا دوماً ..
كان قدوته ومعلمه قبل أن يكون أخاه وصديقه !!
لهذا دمعت عيناه رغماً عنه وهو يسأل الصبي بشرود :
_هل تذكر حسن؟!
_أذكره بالطبع ..كان يشبهك كثيراً .
_جيدٌ أنك لم تنسَه كما فعل غيرك .
يقولها وهو يستقيم بجسده أخيراً ليدور ببصره في ا?
_تعجبني هذه الميدالية التي تحملها دوماٌ يا “أنكل” ..من هذا الصبي؟! ولماذا يعطينا ظهره؟!
يهتف بها أحد أبناء صديقه ريان بينما يجلسان في منزل الأخير الذي دعاه للغداء في منزله بما أسماه “حفلة توديع العزوبية”..
ليرد جهاد بابتسامة طوقها الحنين وأنامله تتلاعب بالميدالية بين أصابعه :
_اسمه حنظلة ..أشهر الشخصيات التي رسمها فنان فلسطيني مشهور يدعى ناجي العلي في كاريكاتيراته ..يمثل صبياً في العاشرة من عمره كسنّه حين أجبر على ترك فلسطين ولن يزيد عمره حتى يستطيع العودة إلى هناك ..يعطينا ظهره ويعقد كفيه كرمز للرفض للحلول الخارجية ..يلبس
الملابس المرقعة ويظهر حافي القدمين كرمز للفقر ..ويظهر أحياناً يرمي الحجارة تجسيداً لأطفال الانتفاضة .
_ستصيب الولد بالصداع كالعادة بهذا الحديث ..
يهتف بها ريان مازحاً ليردف مخاطباً ابنه :
_قاعدة رقم واحد ..عندما تحدث “انكل” جهاد لا تسأله عن أي شيء ..لأن الجواب سيلف ويدور ويتمحور ويتركز عند شيء واحد ..
_فلسطين!
يهتف بها ابنه بضحكة إدراك فيضحك ريان بدوره وهو يربت على كتفه هاتفاً بفخر:
_ذكي ..كأبيك !
_ولماذا ليس كأمه ؟!
تهتف بها فدوى بلغتها العربية التي لا تزال متأثرة بنشأتها الأجنبية بينما تتقدم نحوهما تحمل طبقاً من الطعام وضعته لتوها وعيناها تحملان نظرة متنمرة تجعل ريان يرفع راحتيه أمام وجهه هاتفاً بمهادنة :
_لا لا ! ذكاء أمه ليس له مثيل ! أمه كلها ليس لها مثيل !
_السخرية تكاد تقفز من كلماتك!
تهتف بها بمرح امتزج بمرارة خفية استشعرها جهاد بعينيه المراقبتين للزوجين بقلق ..
لكن ريان بدا غافلاً عن هذا وهو يعطيها ظهره هاتفاً بنفس المرح :
_بدأنا حلقة النكد اليومية ..لكنني لن أسمح لك بإفساد حفل صديقي ..لا تكرّهيه في الزواج ..أنا بالكاد أقنعته .
يقطع حديثه رنين هاتفه الذي يرفعه أمام وجهه ثم يهتف بعجلة :
_مكالمة عمل ضرورية ..سأذهب إلى الشرفة .
يقرن قوله بفعله وهو يهرول نحو الشرفة القريبة تلاحقه نظرات فدوى التي التفتت أخيراً لجهاد لتقول بنفس المرارة الخفية :
_أنا أكرّهك في الزواج حقاً ؟!
فيبتسم بود حقيقي وهو يتابع أولادهم الذين ابتعدوا للعب في الجوار قائلاً :
_تمزحين !! أنا أدعو الله ليل نهار أن يرزقني بأسرة جميلة كأسرتك .
تمتلئ عيناها بدموع لا تسقط فيرمقها بنظرة قلقة :
_ماذا بكِ يا فدوى؟!
_لا شيء! أنا بألف خير .
تقولها بتماسك لم يخدعه فعقد حاجبيه بالمزيد من القلق وهو يشعر بغرابتها هذه المرة ..
يعلم أنها شديدة الغيرة على ريان وهذا ما يسبب لهما المزيد من المشاكل في المعتاد ..
لكنه لم يرَها يوماً بهذا الانطفاء!
_إياك أن تتمم زفافك في مصر قبل حضورنا ..ريان يجهز لنزولنا في إجازة قريبة .
تهتف بها بنبرة عادت إليها نبرة تسلطها الذي يعرفه فابتسم ببعض الارتياح وهو يرد بودّ:
_كيف أفعلها ؟! وهل بقي لي سواكم ؟! أنتم أهلي!
ترتجف ابتسامتها وعيناها تختلسان نظرة جانبية نحو الشرفة التي عاد منها ريان ليهتف بمرحه المعهود :
_جوّعناك يا “حنظلة”!
ثم يبسط ذراعه على كتفي زوجته مردفاً :
_لكن النتيجة تستحق ..فدوى رائقة المزاج هذه الأيام ..وهذا يعني أعلى مستويات المهارة في الطبخ .
يبتسم جهاد ببعض العجب وهو يشعر أن حديث صديقه يناقض حدسه الداخلي نحو فدوى ..
حدسه الذي لم يكذبه يوماً تجاه من يحبهم ..
منذ سنوات وهذه الأسرة الصغيرة هي كل عائلته ..
عائلته التي تّوجت الآن بزهرة !!
ابتسامة عاشقة تحلق فوق شفتيه وتشرق لها روحه كلها مع تذكره إياها ..
افتقدها ؟!
كثيراً جداً في الواقع!!
رغم أنها لم تغادر إلى مصر سوى منذ يومين كي تمهد لعائلتها أمر خطبتهما !
_لا بأس يا صديقي! هي تبدأ هكذا ! شرود فابتسامة فتنهيدة ..وبعدها تجد نفسك فجأة قد اصطدمت بالحائط ! نحن السابقون وأنتم اللاحقون !
يهتف بها ريان بمرحه المعهود وهو يضع طبق الطعام أمام جهاد الذي ابتسم وهو يختلس نظرة جانبية نحو فدوى التي بدت له غريبة حقاً ..
في موقف كهذا كانت لتواجه زوجها بتسلطها المعهود لكنها الآن تكتفي بابتسامة مريرة ودمعة مختنقة في عينيها ..
لهذا وجد نفسه يهتف بحمائية :
_أي حائط يا مغفل! هل كنت تحلم بواحدة مثل فدوى؟!
_من يشهد للعروسة ؟!
يهتف بها ريان بفم مليئ بالطعام وباستخفاف أثار ضيق جهاد نفسه قبل فدوى التي تجاوزت عن هذا لتتكلف ضحكة قصيرة مع قولها :
_أبقاك الله لي يا جهاد ! سأفتقدك كثيراٌ .
_أمي تحب “أنكل” جهاد كثيراً ..طبخت له
الأكل الفلسطيني الذي يحبه .
يهتف بها أحد الأولاد ببراءة لتبتسم فدوى بود وعيناها ترمقان جهاد بنظرة غريبة شاردة :
_هو الذي اختار لي اسمي ..سماني على اسم صديقته التي ماتت صغيرة تحت القصف .
_اختار لك اسمك ؟! كيف؟! هو لا يكبرك بهذا العمر !
يهتف بها آكبرهم بذكاء فيتبادل جهاد وريان نظرات غامضة قبل أن يهتف الأخير مخاطباً ابنه :
_كل ودع كلام الكبار للكبار ..
يقولها ثم يلتفت نحو زوجته مردفاً بنفس السخرية :
_هل أنهينا فقرة النكد ودخلنا فقرة الذكريات ؟!
لم يكد ينتهي منها حتى هبت فدوى واقفة فجأة لتخبط المنضدة براحتها بقوة عصبية كادت تسكب محتوى الأطباق ..
عيناها تصرخان بغضب جنوني احمر له وجهها كله ..
شفتاها تنفرجان كأنها على وشك الصراخ لكنها تغلقهما في اللحظة الأخيرة ..
_فدوى!
يقولها جهاد بقلق فيما يقف ريان ليضم زوجته إليه مهدئاً بقوله :
_ما الأمر يا حبيبتي؟! كنت فقط أمزح!
يقولها ثم يقبل رأسها فتنخرط فجأة في بكاء عنيف ليزيد من قوة ضمه لها مردفاً باعتذار جاد :
_يالله! ظننتك اعتدتِ طبعي بعد كل هذه السنوات !!
_اعتدته !! اعتدته !!
تكررها بنبرة غريبة وسط بكائها فيقوم
الأولاد من مكانهم ليتحلقوا حولهما يربتون بأكفهم الصغيرة على ظهرها فيرمقهم جهاد بالمزيد من القلق ..
ما الذي يحدث هنا ؟!
فدوى ليست طبيعية على الإطلاق!!
_سأنصرف الآن لأجهز بعض حاجياتي للسفر .
يقولها ببعض الحرج شاعراً أن الزوجين يحتاجان لمساحة من الخصوصية الآن ..لكن ريان يهتف به معترضاً:
_لا طبعا! ليس قبل أن تكمل طعامك .
_شبعت!
_اجلس يا جهاد ..بالله عليك لا ترحل الآن ..أنا آسفة لأنني انفعلت ..أنا ..
تهتف بها فدوى بنبرتها الغريبة بين تسلط عصبيتها المعهود ووهنها المستحدث الذي
لا يفهم سببه ..
لكنه يبتسم بلطف مقاطعاً حديثها :
_صدقيني أنا انتهيت ..كما أن وقتي ضيق كما تعلمين .
يحاولان استبقاءه عبثاً مع إصراره الشديد ..يوصله ريان إلى الباب ولم يكد جهاد يشعر أنهما وحدهما حتى همس جوار أذنه:
_فدوى ليست في حالتها الطبيعية .
_على العكس ! هو طبعها المعتاد ..أنا سأمت كآبتها هذه !
يهمس بها بتضجر ملوحاً بكفه ليمط جهاد شفتيه هامساً بعتاب:
_إنها فدوى ! فدوى يا ريان ! نسيت ما فعلته لأجلك .
_لم أنسَه !
يطلق معها زفرة قصيرة وأنامله تتلاعب بخصلات شعره التي بدأ المشيب غزوها على استحياء فيرمقه جهاد بنظرة عاتبة تجعله يردف بنبرة أكثر حدة :
_لم تعد تفهمني ..لم تعد تحتوي هذه الضغوطات التي تحيطنا من كل جانب ..ترى كيف صارت الآن؟! أين هي من حبيبتي القديمة المتوهجة التي كانت تغار منها نجوم السماء ؟!
_أحمق! النساء أوطاننا لا نهجرها متى استوحشنا بل نبقى ونجملها ..وهي لم تكن لك وطناً فحسب بل عالماً بأكمله .
_دوماً تأخذ صفها في نزاعاتنا .
_لأنها تشبهني ! تركت وطنها قسراً وهاجرت إليك وحدك ..ويعز عليّ ألا تجد منك بعدها سوى الخذلان .
يهمس بها برجاء عاتب فيزفر ريان بقوة ثم يهرب بعينيه من صديقه للحظات سبقت همسه :
_لا تقلق! لا تجعلني أشعر أننا نقدم لك أسوأ عرض دعاية للزواج يا عريس !
يربت بها على كتفه فيرمقه جهاد بنظرة راجية أخرى يقابلها هو بنظرة مطمئنة تجد أثرها في نفس الأخير الذي يودعه بابتسامة ..وبعبارته المعهودة له بلكنته الفلسطينية :
_”روق يا ضاوي” .
يضحك ريان وهو يميز معنى العبارة التي تعني “اهدأ يا مجنون” والتي يخصه بها جهاد دوماً في آخر كل محادثة بينهما عن نزاعه مع زوجته .
فيما يغادر جهاد ولم يكد يستقل سيارته حتى تناول هاتفه ليجد رسالة من “زهرته”:
_افتقدتني؟!
_لن أخبركِ حتى تراني عيناكِ فتشهدان .
يهيأ إليه أنه يسمع صدى تنهيدتها الساحرة كعهدها كلما سمعت منه حديث الغزل ..
فتتحول ابتسامته لضحكة رائقة وهو يضغط زر الاتصال بها ..
لكنه يعود ليغلق الاتصال متذكراً رغبتها في ألا يتصل بها قبل أن تمهد لأهلها أمر الخطبة .
_أما أنا فلم أفتقدك ..كيف يفتقدك من يعيش بك ولك ؟! سنوات مرت وأنا أستنشق حبك عبر أنفاسي..كل تفاصيلك تحيطني كجنة تعزلني عن الدنيا بأسرها ..أنت معي ..حولي ..داخلي ..
أنت أنا وإن اختلف المكان ..أنت أنا وإن تغير الزمان ..أنت أنا !
تتلاحق أنفاسه وهو يكاد يسمع كلماتها بصوتها العذب الذي لايزال يرن في أذنيه ..
لم تكن أجمل امرأة قابلها ..ولا أكثرهن أنوثة ..بل إنه يتعجب كيف كانت جواره لأيام طويلة ولم يكن يشعر بها من
الأساس ..
لكنه الآن يحس وكأنما احتلته هذا الاحتلال الشرعي الذي لم يملك معه أي مقاومة !
هي سمراؤه النيلية التي أنبتت ريحانها وسط بيدائه فلا جدب بعدُ ولا ظمأ !
_تعلمين؟! حرّمت “الشاي الأخضر” على نفسي منذ سافرتِ ..أذوب اشتياقاً لأول كوب أشربه معك من جديد .
_أما أنا فأشربه كل يوم..أستحضر معه رائحتك ..حتى وإن غادرتني تفاصيلك الدقيقة لا تفعل .
_تغلبينني يا “نيلية”!
يكتبها لها ضاحكاً وهو يعدل وضع شاله الفلسطيني المميز فوق كتفيه ..فتصله رسالتها :
_طالما غلبتني ! أنت بدربك في جهاد ..وأنا بحبك في جهاد .
يبتسم لعبارتها المعهودة التي تلقي دوماً سهمها الصائب في قلبه ..
هو لا يذكر عن نفسه قبلها سوى أنه كان مجرد عابر ثقيل الخطا ..معها فقط نبتت له أجنحة !!
لهذا تلمست أنامله شاشة هاتفه أخيراً باشتياق حلّق حراً فوق صورتها ..قبل أن يكتب :
_حسبي من الحب سمراء نيلية ..هي القمر ونساء العالمين نجوم ..إذا حضر ماء عشقها بطل بما سواه التيممُ !
========
*إيهاب…..”الفاجومي”!
=======
_هل أعجبتك مارينا إلى هذا الحد ؟! صرت تقضي كل إجازة هناك ؟!
تهتف بها عزة عبر الهاتف فيبتسم مكانه في مطعم الفندق الذي يقيم فيه مع رده :
_في البداية كنت آتي مضطراً استجابةً لرغبة أصدقائي لكن الآن لا أخفيكِ قولاً ..صرت أحب عزلتي هنا ..المكان هنا رائع ..
ثم يصمت مردفاً بتلذذ :
_والطعام أروع! عثرت على مطعم “مشاوي” هنا ممتاز !! خلطة سحرية تجعلكِ تنسين مذاق الطعام الذي عرفتِه في حياتك كلها !
_ألم تقل لي أنك ستسير على نظام “الكيتو” الغذائي؟!
تقولها بنفس النبرة العاتبة ليرد بسرعة :
_قلت سأنظر فيه ! وبصراحة وجدته نظاماً مائعاً ..لم أقتنع به !
_جرب نظام “قاراطاي” إذن ..أو “الصيام المتقطع” ..مادمت جربت “اللقيمات” من قبل ولم يعجبك!
تهتف بها بإصرار ليقول بنبرة هادئة:
_أنا متصالح مع نفسي جداً في موضوع الوزن هذا ! أعرف أنني على قدر من البدانة لكن هذا لا يسوؤني ..وبمنتهى الصراحة ..أنا “فاجومي” قديم ولن أغير طبعي!
يقولها وهو يغرس الشوكة في طبق سلطة الفواكه الذي وضعه النادل أمامه لتوه ..لتهتف هي باستنكار:
_وما “فاجومي” هذه أيضاً؟!
_لو كنتِ تهتمين بي لعرفتِ وحدك ! إنه لقبي الذي وضعته ل”مدونة” أفكاري العبقرية ! لا بأس ..لا بأس ..الاهتمام لا يُطلَب!
يقولها بمسكنة مصطنعة فتصله ضحكتها القصيرة المعتذرة تليق بجوابها :
_تعلم أني لا أحب القراءة ..أفضل أن أسمع كلامك منك مباشرة ..هيا أخبرني ..ماذا تعني فاجومي؟!
يلوك الطعام في فمه بتلذذ للحظة ثم يجيبها :
_الفاجومي هذا لقب الراحل الشهير أحمد فؤاد نجم ..والكلمة صارت بعده رمزاً
للانسان الذي لا يفعل إلا ما يمليه عليه شعوره دون تفكير ..دون حسابات ..بعضهم يسميها همجية ..ثورة عاطفية ..فوضى
خلاقة ..لكنني أحسها رمز الصراحة وعدم مبالاة الشخص برأي الآخرين فيه مادام هو راضياً عن نفسه متصالحاً معها ..العمر أقصر من أن نضيعه في حسابات بلا طائل ..أو في تقصي صورتنا في عيون الآخرين ..
ثم يصمت لحظة ملتقطاً أنفاسه ليردف بنبرة أكثر مرحاً:
_أنا “فاجومي” قلباً وقالباً!! فاجومي وأفتخر!!
كلماته تمسها كعهدها وهي تشعر بأفكاره تناقض طبيعتها هي ..
ليتها كانت مثله تعتنق هذا المذهب “الفاجومي” ..
تعيش حياتها كما يحلو لها دون قيود ..
هي التي كانت -ولا تزال- أسيرة نظرات الناس لاهثة خلف صورتها المزينة في عيونهم !
كانت تجلس فوق فراشها شاعرةً بألم متوسط في جانب بطنها والذي بدأ منذ قليل ..
لكنها تجاهلته وهي تحتضن “دب الباندا” الكبير الذي أحضره لها ..تستعيد ملامح له رسمتها في خيالها ..
لكنها -للعجب- لا تشبهه كثيراً ..
أجل ! لهذا لا تحب رؤيته ..ربما لأنها تصدمها ببعده هو عن “صورة الخيال” التي تعيش فيها ..
صورة شديدة المثالية الشكلية ..الجسد الرياضي ..القوام الممشوق ..
الأناقة المفرطة .
صورة تليق بمكانتها الحالية ..لا تخجل من الظهور معها أمام الناس ..تكمل القالب النموذجي الذي ترتجيه بعد كل ما عانته في حياتها !!
لهذا جاءت كلماتها مندفعة خاصة وهذا الألم في بطنها يزداد أثراٌ :
_أنت تستسهل!! تهمل !! وتدعي أنها حرية !! لن أقول لك فكر في شكلك ..إنما في صحتك !
_ما بها صحتي؟! كألف حصان!! أرجوكِ لا تسوئي سمعتي وأنا لازلت شاباً في ريعان شبابه ينتظر “بنت الحلال” التي سيختطفها فوق جواده ..احم ! لا ..لا ..دعكِ من الجواد لن يحتملني ..فلنقل فوق جمَله ..لا لا ..ربما لن يحتمل أيضاٌ !! ماله الفيل؟! سأكون أول فارس أحلام يختطف حبيبته فوق فيله !!
نبرته المرحة تخفي الكثير من مشاعره التي لا يزال يعجز عن البوح بها ..
كم يتمنى الآن لو ينتهج مبدأ “الفاجومي” هذا الذي يؤمن به فيعترف لها صراحة بحبه دون تفكير ..دون حسابات ..
لكنه معها هي بالذات يخشى من فعلها !!
ربما لأن خوفه من فقدها يغلب طبيعته التي يحبها !!
لكنها لم تضحك من مرحه هذه المرة بل جاءت كلماتها مندفعة متقطعة ربما بفعل
الألم:
_حسناً ..كما ترغب يا “فاجومي”! سأغلق
الاتصال الآن كي أنام .
_أنتِ بخير؟!
يقولها بقلق وهو يشعر بتغير لهجتها لتغتصب ضحكة مفتعلة وهي ترد بسرعة :
_اقلق على نفسك ..صدقني أنت الأولى بفعلها ! سلام!
تغلق الاتصال بعدها دون انتظار رده لتحرر صرختها القصيرة وهي تمسد بطنها بأناملها ..
لقد انتابتها اليوم بالذات رغبة في تناول أقراص “الطعمية” التي لم تأكلها منذ زمن بعيد ..
اشتهتها وقد شمت رائحتها في طريقها فتوقفت أمام ذلك المحل البسيط مدارية وجهها بنظارة شمس كبيرة كي لا تفتضح !
ها هي ذي مرة واحدة اتبعت مبدأ “الفاجومي” الذي يحكي عنه وفعلت ما اشتهته دون محاذير ..
والنتيجة ..هذا المغص الذي يكاد يمزق أحشاءها!!
تقوم من الفراش بمزاج متعكر لتبحث عن قرص هاضم أو مسكن عندما أعلن هاتفها عن وصول رسالة ..
_افرحي بوجهك وجسمك الجميلين جيداً قبل أن أشوههما لكِ!
تشحب ملامحها وهي تحرر صرخة قصيرة ..
لم تكن المرة الأولى التي تتلقى فيها مثل هذه الرسائل ضمن معاكسات كثيرة لا تنتهي ..إما للفت الانتباه أو لتكدير صفو حياتها من منافسيها في مجال عملها ..
أجل! كانت هذه واحدة من سوءات عملها هذا للأسف!!
لكن تزامنها هذه المرة مع هذا الألم الذي ازداد كثيراً في بطنها جعلها تجهش فجأة في البكاء عندما رن هاتفها من جديد باسم إيهاب ..
تجاهلته مرة تلو مرة لكنه بقي مصراً على
الاتصال ..فاستجابت أخيراً:
_عزة ! أنتِ لستِ بخير ..ماذا بكِ؟!
يهتف بها بقلق فتخونها نبرتها الباكية وهي تهتف بين دموعها :
_ألم فظيع في بطني .
_أنت وحدك ؟!
_كالعادة !
_أغلقي الاتصال الآن ..أنا قادم لأصطحبك
لأي مشفى! لا تذهبي لأي مكان وحدك !
_قادم؟! ألست ..؟!
لكنه يغلق الاتصال بسرعة فتظل تحدق في شاشة الهاتف بدهشة لم تغادرها لوقت طويل بعدها ..
الألم يخدر تفكيرها حتى تتلقى اتصاله التالي ..
_الطريق ليس مزدحماً ..سأصل إليكِ قريباً ..لو كان الكلام يتعبكِ فلا تتحدثي ..فقط لا تغلقي الاتصال ..ابقي معي!
كان يحدثها في طريقه بسيارته إليها ونبرته المتحشرجة تفضح قلقه قبل عاطفته ..
هذا الذي دغدغ مشاعرها بإحساس غريب غلب إحساسها بالألم ..
كانت كلماتها -ظاهراً- تتهمه بالمبالغة وترجوه ألا يقطع سفره لأجل أمر تافه كهذا ..
لكن بداخلها كانت “طفلة” تشتاق هذا الدلال ..بل تكاد تتوسله !!
_أنا تحت البيت!
يقولها أخيراً فترتدي حجابها على عجل لتهبط إليه ..نظراته تتفحصها وهي تستقل السيارة جواره بهذه الطريقة التي تشعرها بأمان عجيب ..
لكنها كانت تهتف وسط شهقات أنينها :
_لم يكن الأمر يستحق كل هذا !
_اسكتي واستريحي حتى نصل ..أنا كلمت أحد أصدقائي الأطباء في مشفى (….) وهو ينتظرنا .
ترمقه بنظرة ضائقة لكنها كانت تمتزج بامتنانها في تجانس عجيب ..
تطيل النظر لجانب وجهه المجاور لها وهي تشعر بنفس النفور الذي ينتابها كلما تراه ..
كيف يمكن أن تكن له هذه الأحاسيس الدافقة عبر البعد وتتبخر تماماً عندما تناظره عيناها؟!!
الألم يغلبها حقاً هذه المرة فيطمس أفكارها حتى يصل بها إلى المشفى ..
صديقه يتولى أمرها بمنتهى الاهتمام خاصة عندما يتعرف على شخصيتها ..
وأخيراً ينتهي الألم بحقنة سريعة المفعول!
_لا داعي للقلق لكننا سنجري بعض الفحوص للاطمئنان ..
يقولها صديقه الطبيب بلطف ليردف بابتسامة ساحرة وهو ينظر في عينيها :
_الشاشة تظلمك! عزة الأنصاري على الطبيعة أكثر تألقاً بكثير !
تدمع عيناها بقهر وهي تقارن وسامته الظاهرة وبنيته الرياضية بإيهاب الذي بدا جواره ك”جوال قطن”!!
خيالها يصوره لها الآن أكثر ضخامة من أي مرة عرفته فيها !!
تباً!! تباً!!
لماذا لا يتبادلان الأجساد ؟!!
فتكون هذه النظرة العاشقة والقلب الحنون والعقل الراجح لهذا الجسد المتناسق المثالي ؟!!
بل لماذا لا يفقد هذا الأحمق بعضاً من وزنه ؟!
لماذا لا يهتم بهذا الأمر كما تفعل هي؟!!
_شكراً! أتعبتك!
يقولها إيهاب بمرح مخاطباً صديقه وهو يحاول قمع شعور غيرته بعدما رآه من نظرات صديقه نحوها ..
والذي كان ينقل الآن بصره بينهما ليقول بمرح لم يخف ترقبه:
_لم أكن أعلم أنك تعرف مشاهير! أنتما …؟!
يقطع سؤاله بحذر متسائل عن طبيعة
العلاقة بينهما لترد عزة بسرعة :
_صديقان!
_بالضبط ..صديقان!
يكررها إيهاب خلفها بابتسامة مصطنعة وهو يراقب بضيق نظرة الارتياح التي طفت فوق وجه صديقه ..
والذي شكرته عزة بحرارة قبل أن تغادر المشفى مع إيهاب !
ظلت ترمق جانب وجهه طوال الطريق بنظرة متفحصة وجلة وصمتها الصاخب يكاد يشعل خفقاتها ..
لم تعتد منه هذا الصمت لكنها كانت عاجزة عن دعوته للكلام ..
هل تبالغ لو زعمت أنها تخاف أن يلتفت ..
أن يفسد صورة خيالها عنه ؟!
ربما لهذا أفلحت علاقتهما طوال هذه السنوات ..
لأن لقاءاتهما كانت قصيرة متباعدة بحكم ظروف عمله !!
فليبتعد إذن !
وليتركها هي لخيالاتها !!
وصلت سيارته أخيراً لبيتها فأطرقت برأسها وهي تقول بنبرة مشتتة :
_شكراً يا إيهاب! أنت صديق رائع!
_طوال عمري!
يقولها بفخر مصطنع وعيناه الدافئتان تطوقانها بعاطفتهما فتهرب منهما وهي تضع كفها على مقود الباب :
_تصبح على خير .
لكنها تفاجأ به يميل نحوها ليبسط كفه فوق كفها ..يحتضنه بقوة غريبة على طبيعته الحذرة معها ..
_لا تفعليها من جديد ! لا تجعليني أجرب هذا الشعور بأنك تعانين وحدك بينما أنا بعيد عاجز ! لا تجعليني أبحث عن صفة تتيح لي حمايتك ..
تتسع عيناها بصدمة وصدرها يعلو ويهبط بسرعة جنونية ..
همساته شديدة الدفء بدت وكأنها تغادر قلبه نحو قلبها دون محاذير ..
تسرقها من أرضها الثابتة “الجافة” وتحلق بها فوق غيمة ممطرة ..
تعانق هذه “الطفلة عاشقة الدلال ” داخلها ..تهدهدها ..تلبسها ثوب عيد !!
تود لو يبقى كفها أسير كفه للأبد !
لو يبقى صدى خفقاته يدوي في أذنيها هكذا بلا نهاية !
لو تبقي أنفاسهما هكذا يؤنس بعضها بعضاٌ دون هواجس من خوف أو قلق !
لكنها تغلق عينيها فجأة هاربة من صورته “الضخمة” في عينيها !!
ليس هذا!! ليس هذا!!
ليس بعد كل ماعانته !!
فليبقَ بعيداً ..بعيداً!!
أو فلتهرب هي!!
حلقها يجف وهي تشعر بالصراع المحتدم داخلها يصيبها بالدوار ..
لكن هذا لم يكن شيئاً عندما ألقى “الفاجومي”قنبلته فجأة :
_تزوجيني يا عزة !
=======
_لا أصدق أن هذا الهراء يتصدر الأعلى مبيعا! ونفس دار النشر الخاصة بي !!
تتمتم بها طيف من بين أسنانها بغيظ وهي تقلب ذاك الكتاب بين كفيها بعنوانه المريب:
_ “لماذا تخون المرأة ؟! لأنها امرأة!”
تتأفف بضيق وهي تكمل قراءة بعض الصفحات حتى تصل لهذه العبارة :
_كل امرأة هي أرملة عنكبوتية سوداء تنتظر الفرصة كي ترقص على جثة رجل انتهت منفعتها منه ..تماما كما تحكي الأساطير الهندية عن المعبودة كالي التي تتلذذ بتعذيب المعبود شيفا وتظهرها الصور وهي تدوس على صدره ..وكما تفننت معظم
الأساطير في إظهار الطبيعة السادية للمرأة خلف قناعها الرقيق المتصنع ..كلهن قنابل موقوتة للخيانة تنتظر فقط من يشد الفتيل!
_لقد تجاوز حدوده حقا!
تهتف بها بحدة وهي تقذف الكتاب جانبا بعنف لتتصل بمدير دار النشر خاصتها:
_مهزلة! كتاب يحيى العراقي هذا مهزلة ! كيف تسمح بنشر هذه السخافات ؟! ألا تخشى أن تتهم دارك بالعنصرية ؟!
_غريب أن تقولي أنت بالذات هذا! عنصرية! ألم نفعلها من قبل يا عزيزتي؟!
يقولها الرجل بهدوء ماكر مشيرا لكتاباتها هي المشابهة إنما في الاتجاه المضاد ..
لتزيد ثورتها وهي تهتف:
_وضعي مختلف ! أنا لا أقصد شخصا بعينه ..لكنه هو يقصدني ..الجميع يعلم أن لقب الأرملة السوداء هذا يلقبني البعض به .
_لا تكوني شديدة الحساسية هكذا ! إنه مجرد مصطلح عام ولا أظنه يعنيك .
_لماذا تتحمس له هكذا؟! إنه كتابه الأول ولم يسمع أحد به من قبل .
_لماذا؟! تسألين لماذا؟! كتابه الأول هذا حطم المبيعات في شهر واحد .
يهتف بها الرجل باستنكار يوازي حماسه لتهتف هي بمكابرة :
_مسروق! افكاره مقتبسة من أعمال مشهورة ولا يملك سوى التلاعب اللغوي بالألفاظ مع عنوان مثير للجدل .
_ربما! لكنه ماهر فيما يفعله .
تكز على أسنانها بغيظ يصل منتهاه والرجل يتنحنح ليقول بتردد:
_مقدمتك هذه لا تشجعني على ما أريد الحديث معك بشأنه .
_قل!
تهتف بها بغيظ مكتوم يجعله يطلق ضحكة مكتومة ليقول بنبرة عملية :
_ندوة ثقافية لمناقشة أعمالكما.
_أعمالنا؟! أعمالنا!!! إنه مجرد عمل واحد كتبه ذاك الأحمق!
_عمل واحد تخطى عدد طبعاته عدد طبعاتك انت لكتبك مجتمعة !
يقولها الرجل بحسم فتكاد تحطم أسنانها غيظا ..
ليردف هو بحماس وكأنها لم تقاطعه :
_ندوة تجمعكما معا! عدوة الرجل وعدو المراة ! تتصورين حجم الإقبال و الحضور ..
_ماذا؟! هل تمزح؟!
تصرخ بها بغيظ ليحرر الرجل ضحكته هذه المرة مع رده:
_لم أحدثك بعد عن إمكانية كتابة عمل مشترك بينكما !
_ماذا؟!
تهتف بها باستنكار تقابله ضحكة الرجل المكتومة مع رده البارد :
_تعلمين كم مرة قلت “ماذا” هذه من أول المكالمة ؟!
عبارته تثير المزيد من غيظها لتهتف ثائرة :
_انس هذا الأمر ولو على جثتي .
_راجعي عقدنا يا أستاذة طيف ..أظن أمر الندوة هذا على الأقل من حقي .
يقولها ببعض الصرامة فتغلق الاتصال بعصبية فجأة !
تشعل سيجارة فتسحب منها نفسا طويلا ثم تنفثه في الهواء هاتفة بحنق :
_فليذهب هو وعقده للجحيم ..وخلفهما نقود الشرط الجزائي .
وكأنما الرجل يقرأ أفكارها فقد وصلتها رسالته للتو :
_ليس الشرط الجزائي فحسب ..نحن بدأنا إعلانات الندوة المشتركة بالفعل ..انسحابك الآن سيكون اعترافا منك أمام الجميع أنك غير قادرة على مناطحته أفكاره .
يحمر وجهها بالمزيد من الانفعال الذي تترجمه سرعة انهائها لسيجارتها قبل أن تسحق مابقي منها في مطفأة قريبة ..
لا بأس!
ستناظره في الندوة هذه!
إنها طيف الصالح التي شقت طريقها وسط الصخور حتى استوت فوق الغمام نجمة تجاور القمر ..
هل يستعصي عليها مجابهة فتى مثل هذا؟!
فتى؟!
بالتأكيد فتى مخنث من هؤلاء الذين يسقطون سراويلهم ويمشطون شعرهم بهذه الطريقة التي تشبه عرف الديك !
لاريب أن “سوسو” خانته أو “لولو” باعته ..أو “توتو” فضلت عليه “فورمة ساحل” !
زفرة ساخطة تغادر حلقها وهي تتناول هاتفها لترى كيف يبدو هذا ال”يحيى” المستفز !
تبحث عن حسابه الالكتروني لتدخل فتصطدم بصورته الأنيقة التي تلقي عليها الظلال ستارا يخفي نصفها ..
ليس فتى! بل رجلا ثلاثينيا يبدو ناضجا..رياضي القوام بهذه السترة الأنيقة والوقفة الواثقة ..
وسيم إنما ليس بهذه الطريقة التي ظنتها بل هذه الوسامة الماكرة الخطرة التي أجفلتها قليلا ..
ابتسامته وقحة فظة مثل كتاباته كأنما تقول لمن يراها : أنا أفهم أكثر منك فلا تجادل!
عيناه!
شيء ما بعينيه يحملها لبعيد ..بعيد جدااا ..
كأنها قد رأته من قبل !!
ربما لأنهما بلا سبب تذكرانها ب..حسام!
نفس النظرة الواثقة ..والغرور الذي -ستكون منصفة فتعترف- أن له ما يبرره !
ذكرى حسام تثير المزيد من حفيظتها فتغمض عينيها بقوة كأنما تحاول دفع الذكرى عنها ..
قبل أن تعاود فتحهما لتتسعا بقوة مع هذا الهاجس الذي انتابها ..
لقد رأت يحيى هذا من قبل!
ملامحه ليست غريبة عنها ..
الاسم كذلك مألوف!
هو ..
هو ؟؟؟؟
معقول ؟!!!
هو!!!
تشهق بحدة وهي تلتفت جانبا نحو باب شقتها لتكز على أسنانها بقوة هامسة بمزيج من غيظ وحنق:
_إنه هو !
لن تنسى تلك الليلة التي طلبت له فيها الشرطة بعدما رأته يقتحم النافذة ..
الأحمق كان يقتحم نافذة بيته !!
_هاهو ذا ! هاهو اللص! الطفلة !! أين الطفلة ؟! أنقذوها أولاً إنها مقعدة لا تستطيع الحركة !
كانت تصرخ بها بجنون وهي تقف خلف الضابط الذي جاء مع رفقته بسرعة فائقة عقب إبلاغها عما رأته ..
ميزة جيدة حقاً في البلد هنا !!
ليهتف هو بنبرة حادة فظة بينما ينظر إليها شذراً:
_من هذه المختلة ؟! وبماذا تهذي؟!
_مختلة؟! أنا المختلة أيها اللص مغتصب
الأطفال؟! تفتح الباب بنفسك أيضاً كأنك صاحب البيت؟!!
_أنا فعلاً صاحب البيت !! ما هذا الجنون الذي يحدث هنا؟!
الصدمة تكسو ملامحها للحظات فتخرسها ليتنحنح الضابط قائلاً بحيرة:
_السيدة اتصلت بنا تطلب الدعم ..تقول إنها رأتك تقتحم النافذة ثم شرعت في خلع
ملابسك لتغتصب طفلة !!
يقولها مشيراً ليحيى الذي كان لايزال عاري الجذع فارتفع حاجبا الأخير بإدراك لتنفرج شفتاه وهو على وشك الرد لكن ..
_بابا! ما الذي يحدث ؟!
تخرج بصوت الطفلة التي تقدمت منهما بكرسيها الذي كان يقوده أحدهم ..
لتشحب ملامح طيف فيما تتمتم :
_بابا!!
يهرول يحيى نحو الطفلة فيجثو على ركبتيه أمام كرسيها ..وبلهجته العراقية يقول بلطف حانٍ:
_لا تخافي ! لا تخافي! هم أصدقاء .
_سيأخذونك ..سيأخذونك مثله !
تهتف بها بهلع وهي تتشبث بذراعيها في عنقه بكل قوتها ليربت يحيى على ظهرها بحنان للحظات ..قبل أن يهتف لها بحزم:
_حبيبة “بابا”! انظري إليّ ! الآن ..الآن يا مجد !
ترفض الطفلة في البداية ليعاود قولها بحزم أكبر فترفع عينيها الدامعتين نحوه بتردد ليقول لها بصوت متحشرج :
_أنا لن أتركك ..لن أتركك أبداً ..أبداٌ !
يقولها ثم يقبل جبينها بعمق تحت نظرات الجميع المحدقة ليهتف الضابط بضيق لم يخلُ من حرج:
_ما الذي يحدث ..
_من فضلك اسكت الآن!
يقاطعه بها يحيى بنبرة مهذبة لكنها فاضت بهذه الهيبة الفطرية التي تحيط بهالته الخاصة ..
أجل برغم عدد الحضور الكثير لكنه بدا وكأنه قد احتكر المشهد وحده ..
_خذها لغرفتها يا نزار .
يخاطب بها يحيى الرجل الذي كان يدفع كرسيها فتهتف الصغيرة معترضة بعبارات متلعثمة لكنه يعاود تهدئتها بقوله :
_كل شيء سيكون بخير !
_”قيمر”؟!
تقولها وهي تبسط كفها على صدره فيبتسم وهو يعاود تقبيل جبينها :
_”قيمر” يا حبيبة “بابا”.
_عندما ينصرفون ستنام جواري وتحكي لي حكايتين بدلاً من واحدة !
_تدللي!
يقولها لها بحنان يجد صداه في قلب تلك “المتقنفذة” التي وقفت تراقب الموقف من بعيد بترقب ..
“حنان الرجل”!
شيء يشبه الجان الذين نسمع عنهم ولا نراهم !
أسطورة وهمية يهونون بها “ليل الخذلان” الطويل!
طالما ظنت أن الإنسان قد خلق من طين ..تراب وماء!
..لكن طين الرجل يختلف عن طين المرأة ..المرأة يغلب على طينها الماء .. “ماء عاطفتها” !
والرجل يغلب على طينه التراب .. “تراب قسوته”!
_هذه أوراقي ! سليمة كلها!
ينتزعها بها من شرودها وهو يخاطب الشرطي فتنتبه لغياب الطفلة
بالداخل ..وتنتبه أكثر لموقفها المخزي هنا !!
يلتفت نحوها الضابط بنظرة متهمة فتهتف بتنمرها المعهود :
_سل هذا المعتوه لماذا كان يقتحم النافذة
ليلاً؟! ولماذا خلع قميصه بعد دخوله .
_أنا المعتوه أم أنتِ المضطربة نفسياً ؟! سرقة واغتصاب !! أي عقل مريض تملكينه؟! أي مستنقع قذر هذا الذي ..
يهتف بها بفظاظة حادة ليقاطعه الضابط
قائلاً :
_اهدأ يا سيد يحيى!
_عقل مريض ومستنقع قذر!! أنا؟! أم أنت بأفكارك الشاذة أيها المختل؟!
تصرخ بها طيف بحدة وهي تشعر بكلماته تلطمها على وجهها ..تردها لأيام الإهانة الطويلة التي كادت تنساها !!
لهذا انساب لسانها بشتائم طويلة كطلقات مدفع متتابعة رغم محاولات الضابط تهدئتها والذي صرخ أخيراً بحدة :
_اهدئي يا سيدتي وإلا سأذهب بكِ لمركز الشرطة في هذه اللحظة بتهمة بلاغ كاذب .
احمر وجهها بغضب وهي تزم شفتيها قسراً ليرمقها يحيى بنظرة مزدرية ردتها له بمثلها ..
قبل أن يخاطب الضابط بنبرة مهذبة :
_ابنتي مقعدة كما ترى ..نحن حديثو العهد بالانتقال إلى هنا وهي لا تتكيف مع الأماكن الجديدة بسهولة ..مهووسة ب”سبايدر مان” وتسلقه للجدران والنوافذ ..لهذا فكرت في فعل هذا لأضفي على أمسيتها بعض المرح !!
يقولها مشيراً لقميصه المخلوع هناك والذي كان بلون بدلة “سبايدر مان” المميزة بلونيها الأزرق والأحمر ..والتي كان لايزال يرتدي سروالها ..
شعرت طيف وكأن دلواً من الماء البارد سقط على وجهها خاصة وهو يشير نحوها هاتفاً بنبرة تحولت من التهذيب للفظاظة ب”قدرة قادر”:
_لم أكن أعلم أن هناك مريضة نفسية تراقبني !! مريضة نفسية لا تعرف شكل أشهر شخصية كارتونية وتكتفي بإطلاق العنان لخيالها الملوث!!
_أنا المريضة ؟! تتسلق نافذة من هذا
الارتفاع فقط لترضي طفلة وتنعتني أنا بالمختلة ؟!
_وما شأنكِ أنتِ؟! ما شأنكِ أنتِ؟!
يصرخ بها في وجهها بغيظ لتصرخ بدورها :
_ظننتك لصاٌ وأشفقت على الطفلة يا “…”!!
تتبع قولها بسبة ما تجعله يهمّ برد سيل شتائمها هذه لكن الضابط يقف بينهما هاتفاً بصرامة :
_اهدئا أنتما الاثنان وإلا فستمضيان الليلة محجوزين عندي في المركز .
تزفر طيف بقوة وقد تحول وجهها لجمرة من نار ..فيما بدا يحيى أكثر ثباتاً وسيطرة على أعصابه وهو يواجه الضابط بقوله :
_لقد رأيت أوراقي وتبينت موقفي ..أرجوك أن تنهي الموقف بسرعة فالطفلة مذعورة
بالداخل .
يعاود الضابط التطلع للأوراق في يده والتي بدت سليمة تماماً بما فيها بطاقة هويته وعقد إيجاره للشقة وشهادة ميلاد الفتاة ..
مجد يحيى العراقي !
يلتفت نحوه أخيراً بنظرة معتذرة قائلاً :
_جواز سفرك يشي بكثرة الأسفار ..نعتذر على إزعاجك ..بارك الله لك في ابنتك .
_لا عليك ..إنه واجبك ..مشكورٌ !
يقولها يحيى مبتسماٌ له ابتسامة وقور زادت من هذه الهالة المهيبة التي تحيطه ..
من يراه هكذا لا يصدق أنه نفس الرجل الذي كان يتسلق النافذة بملابس هزلية !!
ابتسامة انتقلت للضابط الذي رمقه بنظرة إعجاب ناسبت قوله :
_كم من مصائب جرها لنا هؤلاء الصغار!
_المصائب يجرها الكبار أيضاً!
يقولها يحيى من بين أسنانه وهو يحدج طيف بنظرة ساخطة ردته لها هي بمثلها ..
ليتنحنح الضابط محاولاً تخفيف الوضع بقوله :
_ما سر كلمة “قيمر” هذه ؟! لقد هدأت فور ما سمعتها! أخبرني ربما استخدمتها مع أولادي كذلك!
يستجيب يحيى لمحاولته تلطيفه الأجواء فيبتسم بقوله :
_”القيمر” لدينا في العراق هي قشطة لبن الجاموس ..أنا تركت العراق منذ زمن طويل لكنني أحب أن أربط بعض ذكرياتي هناك بتربيتي لابنتي ..ابنتي تخاف الناس ولا تطمئن بسهولة لهذا جعلنا بيننا “كلمة سر ” تفيد الاطمئنان ..فاخترت لها هذه ..”قيمر”!
يضحك الضابط ضحكة قصيرة وهو يعيد له أوراقه فيما ترمقه طيف بنفس النظرة الساخطة التي تخللها شعور غريب ..
عراقي..مغترب كثير الأسفار ..يعتز ببقايا وطنه فيه ..يحب طفلته إلى هذا الحد …
نظرتها السوداوية للرجال تخبرها أن هذه الصفات لاريب تخفي كارثة !!
ماذا عن أم الطفلة؟! زوجته؟! أين هي ؟!
تساؤلاتها تنقطع عندما يلتفت نحوها الضابط بنظرة ضائقة فتنسحب للخلف مرددة بكلمات مبهمة وقد استنكفت أن تعتذر ..
يغادرهما الضابط مع رفقته ولم يكد يفعل حتى اختلست هي نظرة نحو ذاك المستفز ..
نظرة قابلها هو بنظرة ساخطة إغلاقه للباب بقوة في وجهها ..
تنتفض مكانها عائدة لواقعها وكأنها تشعر بالباب يصفع وجهها من جديد !!
لقد كادت تنسى تلك الواقعة وسط خضم مشاغلها ..
خاصة وهي لم تلتقِ به بعدها ولو مصادفة !
صحيحٌ أنها بقيت تسترق النظر ل”مجد” عبر النافذة كلما حانت لها الفرصة بفضول لم تعرف سببه ..
لكن جزءاً عنيداً بداخلها كان يصر أن يطمس ذكرى هذا الرجل للأبد !
لماذا ؟!
ربما لأنه أحرجها كما لم يفعل أحدهم منذ عهد بعيد ..
أهانها كما لم يفعل أحدهم منذ عهد بعيد ..
جذبها كما لم يفعل أحدهم منذ عهد بعيد ..
أجل !
هو اخترق “صومعتها” الحامية التي كانت تفر إليها من كل أذى!
والآن يزيد الطين بلة بهذه الندوة التي يصرون أن تواجهه فيها !!
ينعقد حاجباها بشدة مع الخاطر الأخير لكنها تشعل سيجارة أخرى لتأخذ منها نفساً عميقاً ..
التدخين لديها أكثر من مجرد عادة ..إنه صوت صرختها المتمردة على عاداتها القديمة ..
لهذا تشعر بقوة غامرة تملأها عندما تنفث دخانه ..
تماماً كما يحدث الآن وعيناها تضيقان بنبرة متوعدة :
_سنرى أيها “اليحيى العراقي”! من الأفضل أن تبدأ من الآن البحث عن “قطع غيار ” لكرامتك!
========
*يحيى ……”السندباد”!
=======
_لا تزال تهوى هذا العبث؟!
يهتف بها نزار وهو يدخل عليه غرفته بينما يراه يلون إحدى الأصداف ..هذه التي سقطت بين قدمي يحيى فأطلق سبة عابرة وهو ينحني ليلتقطها هاتفاً :
_كم مرة أخبرتك ألا تدخل الغرفة دون أن تطرق الباب؟!
_وهل بيننا أسرار يا “سندباد”؟!
يقولها بمرحه المعهود وهو يغمزه بخفة بهذا اللقب الذي يخصه به ..رغم كثرة أسفارهما معاً لكن يحيى بقي بناظره سندباد العراق ..
فيتفحص يحيى الصدفة بعينيه الخبيرتين قبل أن يعود ليعالجها بألوانه قائلاً :
_سليمة ! لو كان نالها كسر أو تلطخت ألوانها كنت لأوسعك ضرباً .
_يا خسارة هذا الرأس العبقري في مثل هذا العبث؟! لا أزال لا أدري سر شغفك بأن تجمع من كل بلد نزوره صدفة تلونها مع حفنة مع رماله ! بل إنك وفرت لها حقيبة مميزة صنعتها خصيصاً لزجاجاتك العجيبة هذه !!
يقولها مشيراً لهذه الحقيبة القطيفية الكبيرة التي فتحها يحيى أمامه ..والتي صممت داخلها أماكن مخصوصة لهذه الزجاجات المميزة بسداداتها المطاطية والتي حوى بعضها حفنة صغيرة من الرمال مع صدفة ملونة ..وبقي البعض الآخر خالياً ..
يبتسم يحيى بغموضه المعهود وهو يعاود تلوين صدفته بحرص ..هذه المرة يختار لها اللونين الأحمر والأصفر ..الأحمر لون الجنون ..والأصفر لون الحياة ..
لكن فرشاته تخونه لتتلون منطقة وسطى بينهما ب”البرتقالي” ..هذا اللون الذي يمقته كما يمقت كل الألوان الفرعية ..
هو لا يحب من الألوان إلا صريحها ..أما هذه الألوان “المركبة” فتشعره بالخداع ..
وهو لا يمقت في حياته قدر أن يخدعه أحدهم !!
لهذا تأفف بضيق وهو يرمق الصدفة بين أنامله هاتفاً:
_لأول مرة تخونني فرشاتي !
_بسيطة! ارمها وأحضر لنفسك تذكاراً آخر من هنا !
_لا! لم أفعلها يوماٌ ! مادام القدر وضعها في طريقي فهي تذكاري الذي سأحمله من هنا ..ربما كانت هذه فقط إشارة أن ما سيحدث في هذا البلد لن يروقني!
_معقد كعهدك ! أنا مثلك آخذ تذكاراتي من كل بلد نزورها ..لكن تذكاراتي أكثر حرارة ..أكثر ليونة ..أكثر حياة !
يقولها نزار وهو يرسم بكفيه في الهواء معالم جسد أنثى ليضحك يحيى باستهانة هاتفاً :
_معك حق! النساء لا يصلحن إلا لأغراض كهذه ! لكنني لا أحب تذكاراتي مدنسة ..أحبها نقية لم تسبقني إليها يد ..لهذا أفضل الصدف على النساء ..وإن كانا سوياً يشتركان في كونهما مجرد تذكار عابر لن يدوم !
فيخبط نزار كفيه ببعضهما هاتفاً:
_أنا أعرف أن يحب الناس البحر ..السماء ..النسيم ..أما أن يكونوا مهووسين بالرمال مثلك فهذا عجيب!!
يتنهد يحيى بحرارة وعيناه تسافران لبعيد ..بعيد جداٌ ..
كأنما حلقت روحه نفسها خارج الزمان والمكان ..
_البحر قد يخون ..السماء قد تغدر ..والنسيم قد يبخل..وحده الرمل يبقى على
حاله ..يحتفظ بأثر قدمك الثابت عليه ..يمنحك بكرمٍ حبيباته كي تبني بها قصراً من خيال ..وحتى عندما يهدمه الموج يحتفظ لك برائحة الحلم ..الرمال لا تخون يا صديقي ..لا تبخل ولا تخون !
يرمقه نزار بنظرة متفهمة وهو يدرك إلى أي حد سحبته أفكاره الآن ..
يحترم صمته لدقيقة كاملة قبل أن يفيق يحيى من شروده ليضع صدفته جانباً كي تجف ألوانها ..
_مجد تقرأ؟!
_كعهدها ! دودة قراءة!! لا أدري من أين أتت “البنت” بحب الثقافة هذا! أنا صعلوك وأنت …!
يهتف بها نزار ضاحكاً ليقاطعه يحيى بقوله :
_اخرس يا صعلوك! من تستهزئ به هذا صاحب أعلى الكتب مبيعاً !
يقولها يحيى بفخر مصطنع فيلكمه نزار في كتفه هاتفاً :
_حظوظ!
_بل هذا!! هنا ألماس وليس خلايا مخ!!
يهتف بها يحيى باعتزاز مشيراً لجانب رأسه فيضحك نزار هاتفاً :
_كنت أتمنى وصفك بالغرور ..لكنك بائس مثلي ! افرح يا صاحبي بإنجازك والعقبى للبقية !
يغمزها بها بمكر فيبتسم يحيى وعيناه تلتمعان بلمعة عابثة تناقض طلته المهيبة ..
_”زعطوط”!
يهتف بها يحيى بلهجته العراقية وهو يرى نزار يختطف الصدفة فجأة ليركض بها خارج الغرفة ..فيركض خلفه ليلحق به ويطوق ظهره بذراعيه ..يحاول نزار التملص منه لكن يحيى يختطفها منه مكرراً سبته التي يخصه بها ..”زعطوط”!
_ما “زعطوط” هذه؟!
تقولها الخادمة بعربيتها الكسيرة بدهشة وضحكة عابرة تطوق شفتيها فتعود ليحيى هالة وقاره الغامضة وهو يستقيم بجسده مجيباً إياها:
_لفظة عراقية تعني قليل الشأن ..أحمق كما تسمونها !
_قولي الصدق! هل هذا مظهر “زعطوط”؟!
يقولها نزار بنبرته الرخيمة وهو يقترب منها بعينين ماكرتين فتتلعثم هاتفة بحرج:
_سأعود ل”مجد” كي لا أتركها وحدها في الغرفة !
يضحك نزار ضحكة عالية وهو يميز أثره عليها فيما تتوقف هي قليلاً لتستخرج من جيبها ما عادت به نحوهما ..والذي رفعته أمام وجه يحيى قائلة بارتباك زادته لكنتها العربية الكسيحة :
_أحد معارفي عاد من العراق قريباً ..أحضر لي فواحة العطر هذه من حي “المنصور” ببغداد ..يقول إنه أرقى حي هناك..رأيت أنه قد يعجبك.
شحبت ملامح يحيى فجأة وعيناه تشتعلان بوهج مخيف ..جسده ينتفض فجأة كأنما مسه صاعق وهو يكز على أسنانه بقوة ..
فيما رمقه نزار بنظرة وجلة قبل أن يتدارك الموقف ليتناول منها هديتها هاتفاً بنبرته العابثة :
_مقبولة! سلِم “المنصور” وما جاء منه !!
تحمر وجنتاها بخجل وقد شغلتها نظرات نزار الوقحة عن الانتباه ليحيى الذي بدا كتمثال من صخر ..
تمثال عادت له الحركة أخيراً وهو يغادرهما نحو الغرفة التي أغلق بابها خلفه ..
المنصور ..!
حيّه الراقي ببغداد والذي نشأ فيه مرفهاً
كالملك بين أقرانه ..معالم الحي تتشكل أمام ناظريه ملونة بطيف الحنين ..
تمثال أبي جعفر المنصور ..برج بغداد ..بدالة المأمون ..مطاعم الساعة وصمد ونينوي ..”أسواق النجاة” الذي يعد أقدم أسواق بغداد ..جامع الرحمن ودراغ ..بيوت أصدقائه القدامى وقصر أبيه الفخم ..
أبيه !!
دمعة مريرة تمتزج ببسمة ساخرة فوق شفتيه !!
دمعة تنسف كل أبراج الحنين لتذرها هباء منثوراٌ !!
يرفع كفه الذي يحوي الصدفة الملونة نحو عينيه بنظرة غامضة غريبة ..كأنه يهرب من شيء ..يبحث عن شيء ..يحتمي بشيء!!
تنهيدة حارقة تغادر صدره قبل أن يتوجه نحو الحقيبة القطيفية ..
يضع الصدفة في القنينة الزجاجية المستعرضة والتي حوت بعضاً من رمال هذا البلد ..
يغلق القنينة بسدادتها ثم يضعها مكانها جوار رفيقاتها..
سندبادٌ هو يجوب بحاراً لا يأنس إليها إنما يجد سكينته فوق رمالها ..
سندباد كتب على نفسه الشتات في الأرض لأنه كفر بأي مسمى للوطن ..
سندباد أحرقوا قلبه ..وأجبروه أن يتنشق رماده ..فاستعذب الرائحة ..وأدمنها!
وما أقسى أن يُسجَن وسط الرماد ..سندباد!
=======

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى