رواية ماسة وشيطان الفصل الثامن والأربعون 48 بقلم نرمين نحمد الله
رواية ماسة وشيطان البارت الثامن والأربعون
رواية ماسة وشيطان الجزء الثامن والأربعون
رواية ماسة وشيطان الحلقة الثامنة والأربعون
*برتقالي*
=======
_علمتِ ما حدث لزهرة وجهاد ؟!
تهتف بها حسناء بجزع عبر الهاتف لترد طيف بقلق طغا على خشونتها المعهودة :
_ألم يكن ينتوي خطبتها ؟! هل اكتشفت أنه نذل ؟!
تقولها بأقرب ما خطر في ذهنها لتنهار حسناء في البكاء وهي تخبرها بحقيقة إلقاء القبض عليهما معاً بعد اشتباههما في جهاد ..
تشهق طيف بصدمة وهي تخبط بكفها على صدرها هاتفة :
_إرهابي؟!
_لا ! لا مستحيل!! أنا أعرفه جيداً ..وواثقة أنه مظلوم .
_تعرفينه جيداً؟! هكذا هن النساء يعتقدن أنهن يفهمن الرجال حتى يقعن في الفخ!
تهتف بها بمزيج من استنكار وضيق ..
ضيق حقيقي لأجل زهرة المسكينة التي تعلم كم تحب ذاك الفلسطيني ..
_أرجوكِ افعلي شيئاً! أنا أكاد أجن منذ عرفت!
تهتف بها حسناء بين شهقات نحيبها لتهتف طيف بانفعال:
_وماذا يمكنني فعله لها وهي هناك ؟!
_أخوكِ!
تهتف بها حسناء ليخفق قلب طيف بلوعة والكلمة على بساطتها تخزها بالخنجر القديم ..
_نعلم أن أخاكِ رجلٌ ذو شأن عظيم في مصر ..ولديه الكثير من العلاقات ..ربما يمكنه ..
_سأرى ما يمكنني فعله .
تقاطعها بها بفظاظة تناقض هذه الهشاشة التي تذوي بها روحها ..
الحمقاء تظنها قد تطلب يوماً معروفاً من عاصي الرفاعي؟!
فلتمت قبل أن تشعر بحاجتها إليه !!
_أرجوكِ ..أنتِ لا تعلمين ظروف زهرة بعد مصيبة أبيها .
تهتف بها حسناء وهي تخبرها عن حقيقة وضع زهرة ..
ضميرها يخزها لأنها تفشي سر صديقتها لكنها كانت تريد ترقيق قلب طيف بأية طريقة ..فلم تكن تجد لها سنداً سواها .
_لعنه الله هو ومن شابهه!
تهتف بها طيف بحرقة وصورة حماد الرفاعي تغزو مخيلتها ..
لم يكن الأب السيئ الوحيد في هذا العالم على أي حال ..
وكما يقولون في الأمثال الشعبية:
“اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته “!
_سأتصرف!
تغلق بها الاتصال وهي تزفر بقوة قبل أن تتخذ قرارها لتجري الاتصال ..
لا ..لم تتصل بعاصي فلم تغير مبدأها ..إنما ..
_طيف ! ما هذه المفاجأة ؟! أنتِ بخير؟!
صوت ماسة الغارق بعاطفته كالعادة يدغدغها بهذا الشعور الساحر الذي لا تريد الاستجابة إليه ..
شعور أن لها عائلة ..عائلة تنتمي لها وينتمون إليها !
لهذا تنحنحت لتتغلب على تهدج صوتها بانفعاله ثم ترد بفظاظتها المعتادة :
_تذكرين تلك الفتاة زهرة الممرضة؟!
تعقد ماسة حاجبيها دون تعجب من أسلوب طيف الخشن كالعادة لترد بارتباك مستعيدة ما عرفته من رحمة :
_بالطبع! وأعرف أن دكتور جهاد جاء إلى هنا ليخطبها فهو صديق عزيز واستضافه في بيت رحمة عقب وصوله !
_”معرفة الهنا”! استعدي إذن لزيارة قريبك في السجن مادام على علاقة به ..الشرطة ألقت القبض على “المحروس” ! يقولون إنه إرهابي!
تكتم ماسة صرخة دهشتها لكن طيف تهتف بنفس الخشونة :
_هاقد عرفتِ! قولي ل”زوجك” وانظري ماذا يمكنكما فعله لأجل تلك الغبية زهرة التي يوقعها قلبها دوماً في المشاكل !
تغلق الاتصال بعدها بسرعة وهي تلهث بقوة كأنها استنفذت طاقتها كلها في هذه المحادثة الغريبة ..
كأنها كانت تخاف أن تدفعها ماسة للحديث مع عاصي ..
أو أن تسمع صوت الصغيرين فيتصدع قلبها بالاشتياق إليهما !
تهز رأسها بقوة تنفض عنها هذا الخاطر ثم تتصل بحسناء لتقول بنفس الاقتضاب الخشن:
_كلمت ماسة! أخبريني لو علمتِ جديداً وسأخبركِ كذلك!
تشكرها حسناء بامتنان وافر لكنها تغلق الاتصال كذلك بنفس الخوف الذي تغلفه فظاظته ..
هاهم هؤلاء يسحبونها للمنطقة المحظورة ..
الخلطة مع الناس!
وهي التي استكانت لوحدتها في صومعتها!!
ألا يكفيها ما يحدث لها مع مجد وذاك ال ..”يحيى”؟!!
_أخشى أنني أوشك أن أقع في الحب!
تنفرج شفتاها دون وعي وهي تتذكر عبارته التي كتبها لها ك”ضياء”..
ترى ماذا كان يعني ؟!
هي؟!!
هل يخشى الوقوع في حبها هي؟!!
لهذا يصر على تجاهل لقائها منذ تلك الليلة التي باتت فيها مجد معها ..
بل إنه عندما التقاها صباح تلك الليلة ليصطحب مجد تعمد عدم الحديث إليها ..
فقط عيناه عندما التقتا بعينيها يومها كانتا أكثر سخاء بهذا البوح خلف القضبان ..
البوح الذي صدقه قلبها ..
وياويلها لو استجابت!
تتنهد بحرارة وهي تتحرك نحو طاولة زينتها لترتجف شفتاها بابتسامة وهي تتلمس سلسلته بصدفتها ..
منذ متى لم تتلقّ هدية تقع بقلبها هذا الموقع ..
والأدهى أنها لا تجرؤ على ارتدائها !
ليس فقط مخافة أن يراها إنما ..مخافة أن تستسلم لما يعنيه هذا !!
تنقطع أفكارها وهي تسمع صوت صرخة مجد من الخارج فينعقد حاجباها وهي تهرول نحو باب الشقة تفتحه ولاتزال صرخات الصغيرة تتوالى مدوية ..
يُفتح باب المصعد ليخرج منه نزار ممتقع الملامح يحاول تهدئة مجد التي كانت منهارة تماماً فوق كرسيها ..
_ماذا حدث؟! ماذا فعلت بها؟!
تهتف بها بغلظة تناقض عناقها الرقيق لمجد التي استمرت في صراخها الهستيري ليهتف نزار باستنكار:
_تبحثين عن أي مصيبة لتلصقيها بي؟! لم أفعل شيئاً !
يقولها ثم يربت على رأس مجد محاولاً تهدئتها من جديد ليردف بضيق:
_إنه ذاك الصبي في الدور الأول .
_ذاك الوغد أخضر العينين الذي يربي كلباً يشبهه !
تهتف بها طيف بعدوانية ليبتسم نزار رغماً عنه من فظاظتها قبل أن ينعقد حاجباه بقلق حقيقي وهو يحاول تهدئة صرخات مجد المتتابعة ..
_ناداها ب”الكسيحة” وقد رآنا في المصعد قبل أن يغلقه في وجهنا!
_وأنت تركته ؟!
تهتف بها بغيظ ليرد مستنكراً:
_وهل سأجاري طفلاً في سفاهته ؟!
_ابتعد ..ابتعد ..دع لي مجد ..
تهتف بها وهي تزيحه من أمام المصعد الذي دفعت مجد بداخله ليهتف بها معترضاً:
_انتظري! أين تذهبين ؟!
لكنها تغلق المصعد لتضغط زر الهبوط نحو الطابق الأول ولاتزال صرخات مجد الهستيرية تثير المزيد من انفعالها ..
تضغط الجرس ليفتح لها الصبي الباب ولم تكد تراه حتى جذبته من ملابسه بعنف لتهتف له بغلظة :
_اعتذر لها !
يمتقع وجهه وهو ينادي أباه الذي تقدم منهما ليهتف مندهشاً وهو ينقل بصره بين الجميع:
_ماذا حدث؟!
_ابنك تنقصه التربية !
تهتف بها طيف بحدة فيحاول الرجل تخليص ابنه منها هاتفاً بانفعال :
_اتركيه سيدتي وأخبريني ماذا فعل!
_يصفها بالكسيحة ويغلق باب المصعد في وجهها .
تهتف بها بغضب وهي تترك الصغير الذي رمق أباه بنظرة مذنبة ليتنحنح الرجل بحرج وعيناه تناظران الصغيرة التي لم تكف عن صرخاتها فيحاول التربيت على كتفيها مهدئاً ..
لكن طيف تبعدها عنه هاتفة بحمية :
_قل لابنك أنها ليست الكسيحة ..بل هو كسيح العقل ..هي لم تختر مرضها ..لكنه اختار أخلاقه .
_اعتذر لها!
يهتف بها الأب لابنه آمراً ليحمر وجه الصبي وهو يعتذر بكلمات مرتبكة لمجد التي تحولت صرخاتها لبكاء خافت ..
_أنا أيضاً أعتذر لكِ ..لا تبكي .
يهتف بها الرجل بحرج ليطلب منهما الدخول لكن طيف تهتف بفظاظتها المعهودة :
_لم نأتِ للضيافة ..جئت لأجل حق ابنتي ..وأخذته !
_ابنتك؟!
تهمس بها مجد بمفاجأة وهي ترفع إليها عينيها لتتجمد ملامح طيف وهي الأخرى تفاجأ بما قالته !!
تتمالك صدمتها وهي تهتف بها بنبرة قوية:
_قبلتِ اعتذاره أم يكرره ؟!
تمسح مجد دموعها وهي تهز رأسها لكن طيف تعاود هتافها القوي:
_تكلمي!
_قبلته.
_بصوت أعلى!
_قبلته!
تقولها مجد بنبرة قوية بدت وكأنها استعارتها من طيف التي رمقت الصبي بنظرة زاجرة قبل أن تتحرك بمجد لتغادر فتصطدم بنظرات نزار وناطور البناية اللذين كانا واقفين يراقبان المشهد ..
_ابقي معي قليلاً ..
تقولها مجد برجاء وقد غادروا المصعد بعدها لتهتف طيف :
_تعالي إلى شقتي .
_لا !..أحتاج فراشي .. غطائي..ألعابي ..كتبي ..
تقولها بنبرة متهدجة تخز قلب طيف وهي تدرك أن الصغيرة تتشبث بعالمها الآمن بعيداً عن مضايقات الآخرين ..
تتردد قليلاً في إجابة طلبها لكنها لا تلبث أن تستجيب ..
تدخل بالصغيرة إلى غرفتها فيحملها نزار ليضعها فوق الفراش ثم يغطيها قائلاً بمرحه المعهود :
_تعلمي من الأستاذة فن الرد ..رأيتِ كيف كانت ستأكل الولد بالأسفل؟!
_هو لم يخطئ! قال إني كسيحة وأنا كذلك!
تعود معها الدموع لعيني مجد فتجاورها طيف على الفراش لتضمها لصدرها ثم ترفع ذقنها إليها هاتفة :
_لا أحد في هذا العالم يملك حق محاسبتنا على قدر لم نختره ..من يريد محاسبتنا فلينظر لما اقترفناه بأيدينا ..قوليها لنفسك وآمني بها كي تقذفيها حجراً في صدر كل من يريد إيذاءك ..حجراً خلف حجر تبنين به سلماً تصعدين به نحو القمة .
كلماتها تؤتي ثمارها لا في قلب مجد فحسب ..
بل في قلب ذاك الذي كان يقف مختبئاً خلف جدار الغرفة يراقبهم دون أن يروه وقد عاد لتوه بعدما أخبره الناطور بما كان ..
كلماتها ترش الملح فوق جرحه القديم ليزداد لهيب وجعه ..
آه يا صاحبة السديم المدوّخ ..
تظنين الأحجار دوماً تبني سلماً نحو القمة ؟!
لا تعلمين أنها غالباً تجثم فوق الصدور تجتث منها أنفاس الحياة !!
لماذا تعثرتُ بكِ؟! لماذا تورطت فيكِ؟!
ما كان أغناني عن كل هذا التيه في بحرك الذي ينفر مني مَوجه كما تنفر منه سفينتي ..
فماذا لنا سوى الغرق؟!!
عيناه تتعلقان بجيدها الذي خلا من سلسلته كما توقع ..
فلا يدري هل يفرح فخراً بأنه يفهمها إلى هذا الحد ..
أم يذوب مرارةً وهو يدرك أنه لا يفهمها إلا لكونها تشبهه ..تشبهه حد التماثل ..
علموه أن الأقطاب المتشابهة تتنافر فمن أين لها إذن بكل هذه الجاذبية ؟!!
من أين لها بكل هذه القوة التي تبعثر شتاته فلا يزيده بعده عنها إلا قرباً ؟!!
لقد حاول ..صدقاً حاول ..ولايزال يفعل ..
_احفظي كلامها جيداً يا ميجو!
يهتف بها نزار باستحسان مردفاً:
_ما رأيك لو نذهب في رحلة بحرية على يخت ؟! أفكر في الأمر منذ مدة طويلة .
_بابا لا يحب البحر .
تقولها مجد بضيق ليسترعي الأمر انتباه طيف فتهتف بفضول حاولت مداراته بتهكمها:
_لماذا؟! لا يجيد السباحة ؟!
_من هذا ؟! يحيى سباح ماهر وحصل على بطولات كثيرة ..لكن هذا صار ماضياً للأسف فقد صار يكره البحر ..بل إنه صار مصاباً بما يشبه الفوبيا منه .
ينعقد حاجبا يحيى مكانه وكلمات نزار تسحبه لتلك المنطقة المحظورة ..
خفقات قلبه تتعالى ودوامة الذكريات تسحبه للمزيد من الموج المتلاطم ..
الأنوار المتلألئة ..اليخت الفخم ..زحام الحضور ..
التيوليب الأبيض حملته العروس لتلتفت فتلقيه في البحر ..
عريسها يخلع سترته ليلقي نفسه في الماء خلفه ثم يعود لها به ..
تعانقه بجنون عشق يتشاركانه فلا تأبه لابتلال فستان زفافها ..
كما لم يأبه هو قبلها ..
كل ما كان يعنيهما وقتها أن يشهد العالم أنه سيأتيها دوماً بما تريده مهما كانت العقبات ..
المشهد الذي طالما حلما به ..ليحققه غيره !
_انسَ يا يحيى! انسَ!
ينتزع بها نفسه من هذا البركان الذي يوشك أن تصهره حممه من جديد..
_فوبيا ؟! إلى هذه الدرجة ؟! لماذا؟!
تهتف بها طيف وهي تتذكر رحلتهم يوم عيد ميلاد مجد وكيف ترك نزار يلاعب الصغيرة في الماء بينما بقي هو واقفاً جوارها على الشاطئ !
يهم نزار بالحديث لكن دخول يحيى يقاطعه ..
_بابا!
تهتف بها مجد وهي تفتح له ذراعيها فتغمض طيف عينيها بقوة وهي تنتفض واقفة مكانها ..
كأنما تحتاج لمجرد رؤيته استنفار كل قوتها !!
أناملها تمتد دون وعي لجيدها كأنما تتيقن أن سلسلته ليست هنا!!
هذا الهاجس الذي ينتابها دوماً أن يشعر بما يخفيه قلبها نحوه ..
تفتح عينيها أخيراً على المشهد المؤذي ..
المؤذي جداً ..جداً لعناقه لمجد !!
المؤذي لهذه الطفلة المحرومة بأعماقها ..
المستفز لهذه الأنثى المكبوتة داخلها ..
المتحرش بعروس غرورها التي تحاول دوماً إبراز زينتها ..
والخادش لحياء عذراء عشق أخفتها كهوف الخذلان !
_علمتَ ما فعلوه بي؟!
تهتف بها مجد وقد عاد لها نحيبها ليرتج جسد طيف بالسؤال!!
حرمانٌ رهيب يثقل على جفنيها فتطبقهما وهي تكتف ساعديها ..
هذا السؤال!! هذا السؤال!!
من المخزي أن تكون في هذا العمر ..ولا تعرف شخصاً واحداً يمكنها أن تقولها له ..
أن تلقي رأسها على كتفه فتهتف بكل ما أوتيت من ضعف :
_علمتَ ما فعلوه بي؟!
تقولها حتى وهي توقن أن أحداً لن يرد لها حقاً ولن يعيد لها عمراً إنما يكفيها “نعيم المشاركة”!
_طيف ..كانت مكاني! فعلت ما كنت سأفعله بالضبط .
نطقه باسمها يزيد هذه الرعدة داخلها فتفتح عينيها لتصطدم بقضبان عينيه ..
تود لو تنفتح لها المزيد من الأقفال ..
لكنه يغمضهما هارباً وهو يربت على ظهر مجد التي هتفت بامتنان :
_قالت أنني ابنتها !
ينعقد حاجبا يحيى بشدة مع قولها لتختلج عضلة فكه بانفعال كتمه بصعوبة وأدركته طيف بسهولة ..
هل يغار منها على ابنته ؟!
أم تراه يخشى تعلق الصغيرة بها ؟!
_أنا راحلة !
تقولها طيف بخشونتها الفطرية وهي تتجاهله ظاهرياً كما يفعل ..
لكن مجد تهتف بها برجاء:
_ابقي معي حتى أنام ..أنا أرى ذاك الولد في كوابيسي ..ليست المرة الأولى التي يضايقني فيها عندما يراني ..أراه وهو يطلق كلبه نحوي هاتفاً أنني كسيحة لن أستطيع الوقوف .
_عندما تحلمين به هذه المرة فستقومين واقفة ..تركضين نحوه ..تصفعينه وتركلين كلبه .
تهتف بها طيف بنبرتها القوية وهي تعاود الجلوس على يمينها على الفراش بينما يحيى على يسارها ..
لتبتسم مجد وهي تمسك بأحد كفيها يد طيف وبالآخر يد يحيى ..
_وأنا ابن البطة السوداء؟!
يهتف بها نزار وهو يرى المشهد مدعياً ضيقه لتضحك مجد هاتفة ببراءة:
_لا أقصد ..ليس لي سوى كفين .
تقولها لترسل له قبلة في الهواء فيضحك وهو يتوجه للخارج قائلاً :
_سأداوي جراحي بنفسي ! أنا والثلاجة ! تشربين شيئاً؟!
يخاطب بسؤاله طيف التي ترمقه بنظرة ساخطة كالعادة دون رد فيبتسم بسماجة قائلاً :
_العفو! لا شكر على واجب!
يقولها ثم يغادرهم لتغمض مجد عينيها وكفاها يتشبثان بيديهما ..
_احكي لي حكايتك كتلك الليلة .
تخاطب بها طيف التي تشعر ببعض الحرج من وجوده ..
هاهو ذا يشهد جزءاً شديد الخصوصية من تاريخها ..
حكايتها اليتيمة التي تذكرها بصوت أمها !
_كان ياما كان ..
تبدأ في السرد بصوت منخفض ووجنتاها تتخضبان بهذه الصبغة الغريبة على ألوان عالمها ..
صبغة خجل !!
بينما يغمض هو عينيه بقوة وصوتها يقبض صدره ..
يلسعه بهذا السوط القاسي ..
يقذفه من جديد في حمم بركانه اللاهبة وهو يستعيد ذكرى مشابهة ..
_انسَ يا يحيى ..انسَ ..
ينتزع بها نفسه من شرود أفكاره وهو يحاول السيطرة على جموح قلبه العاصي ..
سلطان عقله لم يخذله يوماً ..وحده تابع القلب مخذول !
عيناه تتعلقان بملامح مجد التي عادت لسكونها ..
كيف يشكر “صاحبة السديم” على كل نجمة زرعتها في سماوات ابنته ؟!
كيف يجزيها عن فيض عطائها بكفه المثقوب؟!!
لقد ظن قبلها أن كأس عذابه امتلأ حد النهاية وهاهو ذا يكتشف أن كئوس العذاب كلما امتلأت عادت لتفرغ كي يصب فيها من جديد ..
أحبها؟!
ملعونٌ لو عاد يضع للكلمة مكاناً في قاموسه ..
حرامٌ على السندباد أن ينتمي لأرض ..
بحره حياته وعيشه وهلاكه !
_نامت.
تهمس بها طيف بخفوت أخيراً لتلتفت نحوه فتروعها ملامحه الذبيحة بوجع لا تفهمه ..
منذ عاد من بغداد وهي تشعر به واحداً آخر غير ذاك المستفز المغرور الذي سقط على عالمها كلعنة ..
_أخشى أنني أوشك أن أقع في الحب!
من جديد تتذكر عبارته فتتساءل هل هذا هو السبب؟!
هل كان يعنيها هي؟!
هل يجوز لها أن تصدق؟!
ولماذا إذن هذا الألم الذي يشق ملامحه شقاً؟!!
_لا تتركي كفها ..ليس الآن ..دعيها تنعم به قليلاً ..لا تدرين ما الذي تراه في كوابيسها الآن ..
يهمس بها دون أن ينظر إليها فيرتعد قلبها وهي تشعر بحروفه القوية منغمسة بألم يماثلها قوة ..
ولا تدري لماذا فسر قلبها كلماته أنها منه ..لها هي !
تدمع عيناها فجأة وهي تراه يتحدث بنفس النبرة الذبيحة :
_يقولون إن النوم موتتنا الصغرى ..ما أقسى قبور النائمين وقد تلقفتهم الأنياب بين وحدتهم وخوفهم ..لو كان الأمر بيدي لما تركت كفها لحظة واحدة في نومها ..ماذا لو جعلوا لكل نائم كفاً يعانق كفه ..يخبره أنه معه ..دوماً معه ..يحارب به خوف كوابيسه ..ويهزم به انكسارات الليل الطويل؟!
تزدرد ريقها الجاف بصعوبة وهي تشعر في هذه اللحظة أن كليهما لا يعانق كف مجد ..
بل كف صاحبه !!
يرتعش جسدها للتخيل فتغمض عينيها بوهن تلعنه ..وتشتاقه !!
أين حبست كل هذه المشاعر لسنوات؟!
ومن أخرج المارد من قمقمه ليعيث هكذا فساداً بين جنباتها؟!
ألا ليت لها بالمزيد من قوة كتلك الآن تدحض بها ضعفها المخزي هذا ..المحرج هذا ..اللذيذ بلذة الري بعد طول عطش!!
_لماذا تخاف البحر؟!
سؤالها يخرج منها ك”قذيفة”!
قذيفة مفاجئة بفظاظة لهجتها المعهودة ..
لكن كليهما كان يدرك ما خلفه من نعومة شعور!
خاصة والهمس الخفيض بينهما خشية استيقاظ مجد يشد الوثاق بين قلبيهما بخيوط غير مرئية ..إنما ..لا تنقطع !
_فقدت فيه أغلى ما أملكه .
_حبيبة؟!
همسها يزداد خفوتاً وهمسه يزداد وجعاً :
_بل ..نفسي!
تزم شفتيها بقوة وهي تكتم السؤال الذي يراودها بعنف ..
لكنه يكتسح من جديد ك”قذيفة” ثانية :
_لماذا تكره النساء؟!
صمته يطول هذه المرة لكن أحدهما لا يجرؤ على الالتفات لصاحبه مكتفياً بجلسة البوح الغريبة هذه ..
_تظنين أنني أدين لكِ بسر مقابل ما بحتِ به لي ؟!
_أنا لا أقايض بأسراري ..ببساطة لأنني لا أملك أسراراً ..طيف الصالح صفحة بيضاء لا يسوؤني أن يقرأ أحدهم سطورها ..حتى بقعها السوداء عشت العمر هذا كله أجهر بها قبل أن أعيّر بها .
مزيجٌ آسر من قوة ومرارة يظلل حروفها ويجذبه لدوامتها أكثر ..
كيف تعلق بها إلى هذا الحد ؟!
كيف تسربت عبر شقوق جدار قلبه الضيقة التي ظنها ستحميه ؟!
كيف ومتى جاء اليوم الذي يعاود فيه منح الأمان لامرأة ؟!!
_”ليس” كل الناس مثلك ..”ليت” كل الناس مثلك !
همسه الخفيض شديد الخفوت يصلها مدوياً كقرع الطبول ..
كانت أغرب محادثة خاضها كلاهما يوماً وكل منهما لا ينظر للآخر ..
إنما يستشعر دفئه عبر جسد وسيط !!
تريد المغادرة !
تريد الكلام!
تريد حتى أن تنظر إليه!!
أي شيئ يفك سحره هذا عنها!!
لكنها كانت عاجزة عن فعل أي شيئ سوى البقاء أسيرة هذا الهمس الذبيح الذي يعيد تشكيل روحها ..
رغم وجعه ..لايزال يمنحها النبوءة بحياة الرماد ..
بعودة قوس قزح!
لكن “الساحر” المهيمن يفك سحره بنفسه فيلتفت نحوها أخيراً ليجبرها على النظر إليه ..
ترى قضبان عينيه قد تهاوى بعضها لتبدو خلفها ظلمة سجنه ..
ومن بعيد يلوح لها قمر مراوغ لا يلبث أن يختفي خلف غيومه ..
كيف لعينين أن تكونا بكل هذا الصفاء ..
وبكل هذا الغموض ..
بكل هذا الجمال ..
وبكل هذا الألم ..
يوماً ما ستخلد عينيه هاتين في رواية يعشقهما كل من يقرأها!
الخاطر الأخير يصيبها بغيرة مضحكة ..ومبكية !!
أحقاً لن يبقى لها منه سوى ذكرى تخطها في كتاب؟!!
تسبل جفنيها على هذا الخاطر المقبض بينما تتعلق عيناه هو بخصلات شعرها الأسود الطويل التي تناثرت على كتفيها شديدة القرب منه ..
كم يود الآن لو يلامس هذه النعومة ..
لو يعتصرها بين أنامله بقوة احتياجه ..
لو يتشبث بها بقوة شعوره نحوها ..
لو ترقد فوق رمالها شفتاه فيغازل هذا الليل الأسود الطويل الذي يبدأ من جبينها ويمتد حتى أوسط ظهرها ..
لو ينفضها عنه بقوة رغبته في الابتعاد ..
لو يعطيها ظهره فلا يلتفت مهما خان القلب بالتفات!
تباً! أما لهذا الصراع من آخر؟!!
وكأنما تمنحه الجواب وهي تترك كف مجد أخيراً ببطء ثم تنهض لتقف مكانها ..
فيقف بدوره مواجهاً لها ..
تتحرك نحو الباب لتغادر لكنه يسبقها بخطوة ليقف أمامها ..
_لن أشكركِ لما فعلته لأجل مجد فظني أن مكانتها عندك لم تعد تحتمل مثل هذه الرسميات .
يهمس بها بهذا الخفوت الآسر لتكبح جماح مشاعرها بهمسها الفظ:
_وما دمت تعلم ماذا تريد الآن؟!
_نزار رتب لنا رحلة في جزيرة نوراي ..مجد ستحب حضورك .
الاعتراض يظهر جلياً على وجهها قبل أن تنطقها:
_لا!
فيرمقها بهذه النظرة الآسرة ثم تلتوي شفتاه بهذه الابتسامة المهلكة التي تتسع ببطء وهو يدرك إلى أي مصير ستؤول “لا” هذه !!
و-للعجب- ..هي الأخرى كانت تعلم!!
ربما لهذا أطلقت زفرة ساخطة وهي تغادر متمتمة ببضع كلمات لا تُسمع ..
لتختفي ابتسامته مع تنهيدة عميقة وهو يطلق بصره نحو مجد يطمئن لاستغراقها في النوم ..
قبل أن يغادر إلى غرفته ليفتح حقيبته القطيفية حيث ارتصت قواريره الزجاجية بأصدافها ..
تمتد أنامله نحو هذه الخالية ..أو التي بدت خالية ..قبل أن يفتح سدادتها ليستخرج منها هذه الشعرة السوداء الطويلة ..
والتي لفها حول إصبعه عدة مرات ببطء متلذذاً بشعورها على بشرته ..
لفة بعد لفة بعد لفة ..
وكم من لفة بها القلوب تستقيم !!
========
_أعجبتك الجزيرة؟!
بصوت يحيى تسمعها مخاطباً مجد التي جلست على كرسيها فوق رمال الشاطئ ..
فتشرد طيف ببصرها نحو البحر الساحر الذي تراءى أمامها ..
_جزيرة نوراي من أجمل الجزر هنا ..لا يمكن الوصول إليها إلا عبر القارب أو الطائرة..اسمها مستمد من النور كأنها لجمالها فردوس الأرض ..
صوته الآسر يمتزج بنبرة مجد المستحسنة لما تراه فيمنحانها شعوراً رهيباً بالاسترخاء مكانها على كرسي الشاطئ الطويل ..
المكان هنا خلاب ..
كأنه حقاً قطعة من الجنة !!
ليس فقط نعومة الرمال ..صفاء السماء ..شاعرية البحر ..رفاهية “الفلل” الفندقية التي ترضي شعورها القديم -هي بالذات- بالنقص!
إنما ..كونها جزيرة منعزلة !
منعزلة عن كل هذا العالم الذي تنفر منه بالخارج ..
ماذا لو بقيت هنا طوال العمر ..
طيف فحسب!
دون “الصالح” ..ودون “الرفاعي”!
طيف بكل بساطتها وتعقيدها !!
بكل احتياجاتها التي يرضيها وجود مجد ..و ..هو!!
يحيى!!
رباه!!
لا تزال لاسمه رهبة تشبهه !!
حتى بينها وبين نفسها ..ماذا إذن لو نطقته جهراً فتحررت حروفه من بين شفتيها؟!!
إلى أين تنجرفين يا امرأة؟!
فات أوان السؤال ..بل والجواب!!
_أخشى أنني على وشك الوقوع في الحب .
تذكر رسالته من جديد فتغمض عينيها خلف نظارتها الشمسية العريضة بتلك الماركة العالمية الفخمة ..
تتذكر كيف رد عليه “ضياء” تلك الليلة عقب اعترافه المذهل :
_معقول؟! بعد آرائك الشهيرة عن كراهية النساء؟!
_لهذا خشيت أن تتهمني بالنفاق .
_لماذا هي بالذات ؟!
_استثنائية !
_يمكنك التوضيح أكثر .
_لا .
_لا تثق بي؟!
_بل لا أعرف الجواب .
_ولماذا تخبرني بهذا ؟!
_أحياناً نحتاج لشجاعة البوح لأناس لن نقابلهم سوى خلف شاشة وربما لو كانوا أمامنا لأخرسنا جبننا.
_تعترف بالجبن؟!
_في هذا الأمر ..نعم !
_تعجبني صراحتك .
_ليس بيننا ما يستدعي الكذب .
_لن تخبرني المزيد عنها ؟
سؤالها بقي معلقاً من يومها فلم يرد عليه !
تفتح حاسوبها كل يوم تنتظر رده من ساعتها إنما لا يصل ولولا خوفها من انفضاح لهفتها لأعادته حتى يجيب ..
هل يحبها ؟!
والسؤال الأخطر ..
هل تريده أن يحبها؟!
هل يمكنها تخيل الأمر بهذه البساطة ؟!
أن يطلب يدها للزواج من ..عاصي؟!
أن تقيم حفل زفافها هناك في الصعيد ؟!
أن يشهد الناس أنها هي -هي- صارت العروس الأنيقة التي يسلمها أخوها لزوجها ؟!
وهل يقبل بها هو على ماضيها الذي يعرفه؟!
هل يمكنه مواجهة عائلته بها؟!
عائلته؟!
أين عائلته ؟!
هي لا تكاد تعرف شيئاً عنها -بل وعنه هو – أكثر من قشور!!
تنقطع أفكارها فجأة وهي تشعر به واقفاً أمامها ينحني نحوها ليخلع عنها نظارتها برفق يناقض قوة كلماته :
_استمتعي بجمال المكان دون حواجز ..لا تخافي لن تؤذيكِ الشمس .
تشعر بالغضب من جرأته فتهم بردّ فظ كعادتها إنما لقاء عينيه عبر هذا القرب يخرسها ..
قضبان عينيه لا تزال قائمة متحدية إنما تبدو لها في ضوء الشمس الساحر هذا كأنها شرائط عسلية مموجة تحيط صندوق هدايا يناشدها فتحه لتتلقى مفاجأتها !
ابتسامته الملونة بشجن غريب -وحزن أغرب- تعانق عينيها فتستسلم لدفء العناق بلا حول ولا قوة ..
وأمامها لم يكن هو أفضل حالاً وهو يشعر ب”سديمها المدوّخ” يزداد فوضوية ..يزداد جاذبية ..يزداد لمعانا..إنما كذلك يزداد وضوحاً ..
لم تكن ملامحها فقط ما خلت من زيف مستحضرات التجميل ..
إنما عيناها كذلك خلت من زيف التصنع ..
هو الذي لم يكره يوماً شيئاً قدر أن يشعر أن أحدهم يخدعه ..
وهاهي ذي صاحبة السديم تمنحه بغيته في عينين سخيتين بالبوح رغم بخل اللسان ..
يقترب بوجهه رويداً رويداً دون وعي ..وربما بكل وعي ..
دون إرادة ..وربما بكل إرادة ..
دون خوف ..وربما بكل خوف ..
لكنه ينتبه لنفسه وهو يراها تنتفض مكانها لتقف وهي تتلفت حولها لتهتف بنبرتها الفظة :
_أين مجد ؟!
_نزار يسبح معها .
يجيبها باقتضاب وهو يستعيد بعض شتاته لتكتف ساعديها وهي تنظر إليهما من بعيد ..قائلة :
_إنها الحالة الوحيدة التي لا أراك تصطحبها فيها ..هل تخاف البحر حقاً إلى هذا الحد ؟!
تقولها محاولة استدراجه ويبدو أنها قد نجحت ..
هاهو ذا يقترب منها أكثر ليجاورها وهو يشرد في الموج المتلاطم حوله :
_خانني ..فخنته ..لم أعد آمنه ولم يعد يأمنني .
كلماته المقتضبة لا ترضي فضولها فتعاود القول :
_ماذا ؟! أصابتك عقدة عندما رأيت أحدهم يغرق؟!
_عندما رأيت “حلمي” يغرق .
تلتفت نحوه بالمزيد من الفضول وهي تتشرب ملامحه الغارقة في ألمها ..
رغم قوة لهجته الفطرية التي لم تخنه حتى في موقف كهذا ..
إنما لم يمكنها تجتهل هذا الوجع النازف في كلماته ..
تحاول تجميع خيوط قصة ما في خيالها تتناسب مع معطياتها ..
حبيبة خائنة ..بغداد ..بحر غادر ..سندباد يعشق الترحال ..
فقط لو تكتمل الصورة !
لماذا لا يصارحها كما صارحته ؟!!
_سيد يحيى!
يلتفتان معاً نحو منسق الرحلة الذي اقترب منهما ليقول بنبرة مهذبة :
_تحبان الانضمام لبقية الفوج ؟!..لدينا فقرة ترفيهية لمطرب شهير .
يلتفت نحوها يحيى بنظرة متسائلة فيلمح الرفض في عينيها مؤكداٌ فكرته عن رفضها للاختلاط بالناس ..
يهم بالرفض هو الآخر لكنه يجدها تهتف باستدراك:
_اسأل مجد !
يبتسم بامتنان لعاطفتها الجلية نحو ابنته التي قدمت لتوها محمولة بين ذراعي نزار ..
تهرول نحوها طيف لتجفف جسدها وتعرض عليها الأمر فتتردد مجد قليلاً ثم تفاجئهم بالجواب:
_موافقة.
_موعدنا عند الغروب إذن ..لن يكون حفلاً بالمعنى المعروف ..فقد حرصنا أن يكون التنسيق أكثر حميمية .
يقولها الرجل بنفس النبرة المهذبة ليغادرهم فيما تلتفت مجد نحو طيف لتقول بامتنان :
_بفضلك لم أعد أخاف الغرباء ..ليتهم كلهم مثلك .
تبتسم لها طيف التي تعلقت بها عينا يحيى وجملة مجد الأخيرة تظلل رأسه كغيمة واعدة بالمطر ..
إنما من يدريه أنه ليس سيلاً غادراً سيغرقه ؟!!
========
ساعة وتغيب الشمس ساعة ويجينا الليل
وينراد حيل ودمع ومنين اجيب الحيل
روحي حمامة صفت وبيت اهلي الدور
اشتاقيت لأمي انا ولخبزة التنور
الصوت العذب للمطرب الذي جلس وسطهم فيما يشبه مجلساً عربياً بتلك الوسائد التي اصطفت على سجاد أنيق افترش رمال الشاطئ ..
وقد رفع حولهم ما يشبه خيمة بستائر شفافة بيضاء ضُمّت أطرافها بزهور رقيقة الرائحة ..
تربت طيف على رأس مجد التي ضمتها لصدرها وقد جلست جوارهم متخليةً عن كرسيها ..
عيناها تراقبان سندبادها الشارد بحدس لم يخدعها ..
لماذا اختلجت عضلة فكه عند هذا الشطر من الموال (اشتقيت لأمي أنا)؟!
نفس الاختلاجة العنيفة مع شرود ملامحه العاصف التي راودته عندما كانا في الندوة ..
تراه ليس على وفاق مع أمه لهذا يكره النساء؟!!
ما حكاية حبيبته الغادرة إذن؟!
حبيبة واحدة إذن أم أكثر؟!
بديرة هلي بالطعم يختلف ..
حتى الماي وحتى الهوا يم هلي يختلف ..
والله هواي
كل ليلة تسوى العمر لو قعدو اهلي وياي
ومن ايد امي الصبح محلى استكان الجاي
يا منطقتنا حلم ارجع لأصحابي
وكل ساعة صاحب يجي ويدك علي بابي
مشتاق محبوبتي الحلوة ام جفن غافي
واتمنى هسه تجي وتغفى على اكتافي
الموال يسحبها من جديد فتتوقف عند الكلمات الأخيرة التي يغلق هو معها هو عينيه بقوة ليبدو وكأنه يقاوم صراعاً عنيفاً بداخله ..
كل جسده يبدو متشنجاً في جلسته كأنه لم يعد يشعر بما حوله ..
قطرات من عرق خفيف تغزو جبينه الوضاء ..
لم تعد تشك ..!
هذا رجلٌ لدغ من جحر الحب مرة ..وربما أكثر!!
مشتاق للمدرسة والجرس والساحة
واطفال نركض ركض بس نشعر براحة
شما دار بي الزمن ابقى لأهلي ميال ..
ومنين اجيب قلب يتحمل الترحال
(ومنين اجيب قلب يتحمل الترحال)
يكررها المطرب عن عمد فتشعر أنها سوط لاهب يكوي جسد هذا السندباد جوارها ..
خاصة وهو ينتفض من مكانه فجأة ليغادر المكان بخطوات شبه راكضة ..
تلتفت نحو نزار بنظرة قلقة تناقض صوتها الفظ بطبيعته :
_ما به ذاك؟!
لكن نزار ينهض بدوره ليلحق به وقد تبدلت ملامحه العابثة لأخرى جادة ..
_بابا!
تهتف بها مجد بتساؤل فتطمئنها بكلمات مبعثرة وهي تراقبه عبر بياض الستائر الشفافة وقد وقف بعيداً يراقب البحر -غريمه- مكتفاً ساعديه وجواره نزار وقف صامتاً كأنما يؤازره دون كلمات ..
_بابا يحبك كثيراً.
تهتف بها مجد بعفوية فتشهق طيف وهي تعود ببصرها نحو الصغيرة بنظرة ملهوفة لتردف مجد ببراءة:
_لم يكن ليتركني هكذا سوى مع أحد يحبه ويثق به .
تزدرد طيف ريقها الجاف بصعوبة وهي تهم بالرد لكنها تفاجأ بأحد الحضور يطلب منها أن يحتفلوا بالصغيرة احتفالاً خاصاً فتتردد في الموافقة وهي تعود ببصرها نحو يحيى الواقف بعيداً ..
لكن مجد تمنحهم الموافقة وهي تصفق بكفيها في فرحة ..
تستجيب لهم طيف وهي تحمل مجد لتضعها على كرسيها فيتحلق الجميع حولها في دائرة كبيرة وقد انبعثت موسيقا حماسية ملهبة ..
تتقدم إحدى الحاضرات لتمسك كف مجد ثم تدور حول كرسيها برقصة حيوية وقد فردت طرف تنورتها ليتراقص شعرها الطويل حولها قبل أن تعود لدورها في الحلقة لتتقدم أخرى مكررة الرقصة ..
تضحك مجد بسعادة وهي تشعر أولاً بارتباك أن تكون هكذا مركز الحدث ..
لكنها تنخرط معهم بسرعة وعيناها معلقتان بعيني طيف التي جاء دورها في الحلقة لتؤدي نفس الرقصة ..
لم تكن لتفعلها أبداً !
صحيحٌ أنها تملك العديد من “بدل الرقص” في ذاك الدرج السري في دولابها ..
صحيحٌ أنها تشاهد سراً فيديوهات لراقصات شهيرات تتعلم منهن حركاتهن ..
صحيحٌ أنها في كل رواية تكتبها لابد أن تجعل مشهداً لرقصة إحدى بطلاتها فتتخيل نفسها فيها ..
لكن يبقى هكذا كله في إطار وحدتها !
لهذا وقفت متخشبة وهي تنظر يمنة ويسرة ولسانها الفظ يتأهب لإلقاء قذيفة جديدة لكن مجد عادت تهتف برجاء :
_هيا يا طيف ..سهلة ..جربيها!
تدفعها إحداهن فترمقها بنظرة زاجرة ..
سجائرها!!
تحتاج لإحداها الآن ..
أو ربما ل”بديل”يشبهها في إظهار تمردها على ماضيها كله !!
بديل ..كهذا!!
تغمض عينيها بشجاعة لا تدعيها وقد اقتربت من كرسي مجد ..
تمد ذراعها لتلامس كفها ثم تطوي طرف ثوبها البرتقالي الداكن -بهذه الدرجة المقاربة للأحمر- مقلدةً الحركات التي حفظتها ..
تدور وتدور مغمضة العينين متعمدة نثر خصلات شعرها الطويل حولها ..
تعلم أنه لا يراها ..فلا تدري هل تتمنى لو يفعل ؟!
_سبحان الله! شاهد قبل الحذف! عنكبوت يتحول إلى فراشة !
يلكزه بها نزار في خصره وهو يقف مكانه مواجهاً البحر فيلتفت يحيى لتتسع عيناه وهو يراقبها من بعيد ..
فراشة برتقالية مغمضة العينين تراقص قدرها برشاقة تمرد لا خضوع..
“الحرملة العريضة” لثوبها تغطي صدرها وأحد كتفيها وتتراقص بجاذبية مثيرة مع حركاتها ..
لم يكن جسدها مغرياً إنما -هي- كانت كذلك!
كل ذرة فيها تنضح جاذبية غير مفهومة تكاد تقتلع جباله الراسيات من مكانها !!
غيرة عاصفة تدفعه للتقدم إلى هناك كي يوقف هذا العرض لكنه يصل عند انتهاء دورها وعودتها للحلقة ..
تصطدم عيناها بعينيه لتلمح فيهما هذه الشعلة التي لا تخطئها عين راءٍ !
شعلة غيرة ..ونيران عاطفة !
ولأول مرة تجد نفسها لا تقارنه بحسام !!
هذه النظرة مختلفة !!
نظرة رجل يراها الآن الدنيا ومافيها !!
لا ..ليس غروراً منها ..
إنما ..لو لم يميز الظمآن عذوبة الماء فمن يفعل؟!
=======
عند الشروق تخرج من غرفتها لتتمشى على الشاطئ..
ترتدي زي سباحة محتشم -نوعاً ما- بماركة شهيرة كالعادة ..
يلتصق بجسدها فقير الامكانيات الأنثوية إنما تبدو منه رشاقة ساقيها الطويلتين ..
لا تجيد السباحة ولم تفكر يوماً في تعلمها ..ولماذا تفعل وهي التي كانت أسيرة صومعة وحدتها لسنوات ..
إنما الآن تريد أن تجرب سحر البحر الذي يحكون عنه ..
لهذا اختارت هذا الوقت من الصباح حيث الغالبية نيام بعد سهرة الليل الطويلة ..
تخلع خفيها لتلامس الموج البارد بأطراف أصابع قدميها فيرتعد جسدها ارتعادة خفيفة ..
_لا تعومي في الترعة ليلاً يا طيف .
بصوت أمها من الماضي تسمعها فتغمض عينيها بشجن من لوعة الذكرى :
_لا أستطيع العوم نهاراً ..”العيال” يعيرونني ويضايقونني بل ويقذفونني بالطوب !
تهتف بها باكية بقهر لتربت أمها على كتفها قائلة بإشفاق:
_إذن لا تعومي في الترعة لا ليلاً ولا نهاراً !
_بل سأتركها لهم نهاراً وتكون لي وحدي ليلاً!
بعناد تقولها كأنها تتمرد على كل خضوع يفرضه عليها الواقع لتهتف بها أمها مخوفة إياها:
_النداهة تسير ليلاً فوق الماء تغرق من يعوم فيها !
وخافت!
حقاً خافت!!
لم تقرب الترعة ولا الماء من يومها !!
النداهة لم تكن وهماً في صدور الفلاحين يتندرون به في حكاياهم ..
النداهة كانت وحشاً كامناً في صدرها هي يخوفها من الناس ..
يدفعها دوماً للتمرد على كل ما يذكرها بماضيها ك”بنت حرام”..
يحفزها للصعود ..لانتزاع التصفيق من كفوفهم إنما دون النظر لعيونهم ..
عيون الناس غربتها ..
وحدهما عيناه الآن تعداننها بوطن !
الدمع العزيز في عينيها يترقرق خلف صورته بالأمس عندما رآها ترقص ..
يطارد بقايا تلك النظرة في عينيه ..
لم تعد تحتاج اعترافه ..
بل ..تفعل!
تنظر حولها تتأكد من خلو المكان ثم تفتح ذراعيها معانقة الهواء ..
بل معانقةً الحياة !
تشعر أنها في سبيلها لفتح صفحة جديدة في حياتها ..
صفحة! بل كتاب!!
تتوغل أكثر داخل الماء وهي تشعر بنفسها تقهر ذكراها القديمة ..
كلما تتوغل أكثر تقهرها أكثر وأكثر ..
لا “عيال” ..لا معايرة ..لا قذف طوب ..لا تخويف من نداهة غاشمة ..
بل موج ناعم هادئ يعانقها باحتواء ويغريها بالمزيد من الاقتراب ..
أكثر وأكثر ..
فترد له عناقه بعناق !
وفي غرفته فتح يحيى الستار يراقب الشاطئ وقد عجز عن النوم الليلة الماضية ..
وكيف ينام من تآمر عليه أمسه وغده ؟!
بركان ماضيه يعاود استباحة ساحاته فيلهبه بحممه ..
وبقايا من أمل واعد تغريه بثمرة المستحيل !!
المستحيل بعينه أن تعشق من جديد يا يحيى!
وكأنما قفزت ك”حورية بحر” من أفكاره ليراها أمامه على الشاطئ ..
حورية برتقالية تمزج حيوية الأصفر بدفء الأحمر ..
حورية مست في قلبه ذاك الوتر المنسي الذي ظنه لن يعود للعزف أبداً !!
كيف ومتى ولماذا سمح لنفيه بالغرق في كل هذه الفوضى؟!
الغرق!!
الغرق!!
ينعقد حاجباه بقلق ينقلب لرعب حقيقي وهو يراها تصارع الموج هناك ..
الحمقاء ..ألا تجيد السباحة ؟!!
لا يدري كيف غادر غرفته بملابس نومه ولا كيف صار فجأة أمام الشاطئ ..
أنفاسه اللاهثة تعانده كما جسده وهو يشعر بالعجز !!
من يصدق أن هذا الذي يقف الآن مرتعداً أمام البحر هو من نال كئوس بطولات السباحة في مواقف عدة ؟!
يجاهد نفسه ليأخذ خطوة أخرى وهو يتلفت حوله بعجز باحثاً عن مساعدة قريبة لكنه يعود بخيبته ..
زهور التيوليب في الماء تلقيها العروس ليتلقفها عريسها ..
عريس ..ليس هو ..
هو ..
زجاجة العطر المكسورة ..
سائلها الأحمر يلوث عمره كله ..
ظهره المستند على الباب يهوي ويهوي معه ..
حقيبة سفره المفتوحة ك”جرح” سيبقى العمر كذلك!!
العرق يغرق جسده كله رغم برودة الجو ..
يجمده مكانه وهو يرتعد بنفس الخوف القديم ..
الخوف المشوب بالذنب ..
ذنب ليس له إنما سيبقى وزره على كاهله العمر كله !!
_انسَ يا يحيى..انسَ!
هذه المرة لا يستطيع أن ينسى !!
لا يستطيع تجاوز هذا الجبل الجاثم على صدره!!
لا يستطيع ..
لا يستطيع ..
لا يستطيع ..
بل ..لأجلها يستطيع!!
يخلع عنه قميص منامته بسرعة وهو غير واثق من قدرته على فعلها ..
قلبه ينتفض بين ضلوعه بوجع وهو يتقدم في الماء أكثر يكاد يشعر باختناق أنفاسه ..
هل يفعلها حقاً؟!
هل يسبح من جديد؟!
هل صالح السندباد بحره ؟!!
وفي مكانها كانت طيف تلاحق أنفاسها شاعرة بالغدر!!
متى جرفها الموج هكذا لهذه النهاية ؟!!
هل هذه خيانة البحر التي يحكون عنها ؟!!
تحاول الصراخ لكنها لا تستطيع فتوقن من قرب نهايتها ..
الموج الغادر يغشاها صادماً فتستسلم رغماً عنها ..
تشعر بذراعين قويتين تحيطان خصرها وتجذبانها فتتعلق بهما دون وعي ..
المرئيات تتشوش في عينيها وهي لا تفهم ماذا يحدث ..
حتى تفيق أخيراً وهي تجد نفسها تقترب من الشاطئ الذي بدا لها ساكناً مرتاحاّ ..كأنه لم يمنحها مذاق الموت منذ دقائق ..
_أنت..أنقذت حياتي .
بين أنفاسها اللاهثة تهتف بها لا تكاد تصدق ما فعله ..
أناملها تعانق خفقات قلبه التي تكاد تزأر بانفعاله ..
فيعتصرها ذراعاه بهذه القوة التي طالما ناطحتها ..
بهذا الحنان الذي طالما تمنته ..
بهذا الدمع المختنق خلف قضبان عينيه ..
وبهذه الكلمات التي بدت وكأنها تعاند شفتيه لتنطلق قاهرة ..متمردة ..شغوفة ..تشبهه:
_بل أنا ..أنقذت ..حياتي !
لا يدري كيف قالها ولا كيف غادرت سجون شفتيه بهذه البساطة ..
هو لم يكن يشعر في هذه اللحظة سوى بأنه يعنيها!!
يعنيها بكل حروفها!!
“صاحبة السديم” ليست امرأة في تاريخه ..
بل هي توأم روحه ..التوأم الأقوى الذي يستحق أن يفتديه ولو كان فيها هلاكه هو!!
لهذا بقي ذراعاه يعتصرانها بكل ما أوتي من قوة وهو يغمض عينيه بنفس الخوف كأنه لا يزال لا يصدق أنه هزم طغيان بحره!!
وبين ذراعيه كانت طفلة طالما اشتاقت هذا العناق ..
كانت امرأة ولدت من جديد ..
كانت عجوزاً ظلمتها تجاعيد القهر ووجدت فيه عن شبابها عوضاً ..
لم تنطق بكلمة ..
لكن كل جوارحها كانت تهتف ..كانت تصرخ ..كانت تبكي ..كانت تضحك ..
لم ترجُ يوماً اعترافاً بالحب كهذا الذي منحه لها !!
هو تحدى خوفه لأجلها !!
السندباد عاد يصالح بحره ..
وهي ..هي اختارت أن تبقى معه على نفس السفينة !
=========
*أخضر*
======
أخاف اعترافي بأني أراك
سراباً توارى وراء السنين…
وطفلاً يجاذب كم قميصي …
فأخشى عليه اغتراب الحنين…
أخاف عليك إذا ما رحلتُ…
أراك بصحراء يأسٍ تهيم..
أخاف اعترافي بأنك صرت…
مجرد عقدة ذنب أليم…
وقيداً ثقيلاً يمزق،رسغي…
وأنقاض صرحٍ قديم….قديمْ!
وسراً يعاتب فيّ ضميري…
ويلعن قلبي الشقيّ الأثيم…
يعذب نفسي حديثي عنك…
ثقيلاً كبسمة شيخ سقيم…
وحتى غناء الشوق لغدنا…
تكاسل عن نشوة الترنيم…
أخاف عتابك لو قلت عني :
“لعوبٌ تجيد اختراق الحصون”
ونظرة عينيك لن أحتملها
إذا عنفتني وقالت أخون!
أجل قلت يوماً بأني أحبك
وما كنت فيها من الكاذبين
وحبك كان تميمة حظي
ودفء حنان له أستكين
فكيف اليوم أراك غريباً
يشد خطايَ لنهر قديم؟!
_أين إيهاب؟!
تهتف بها عزة بجزع بعدما فتحت لها خديجة الباب لتتفحص الأخيرة ملامحها للحظات قبل أن تشير لها بالدخول في غير ترحاب حقيقي ..
لاتزال بقلبها غصة من هذه العلاقة بين ابنها وهذه المرأة ..
غصة لا تجد لها مبرراً خاصة وعزة تبذل قصارى جهدها -ظاهرياً !-لتسعد إيهاب ..
إيهاب الذي يجاهد بدوره كي يبدو سعيداً-ظاهرياً كذلك! – ويقينها أن الانفجار قادم !
_أرجوكِ أخبريني أين هو!
تهتف بها عزة بلوعة فتعود خديجة لتتفحصها بنظرات أكثر رحمة هذه المرة ..
عيناها الحمراوين تفضحان سهرها الطويل ..
ملامحها تخلت عن بعض تبرجها ليبدو خلفها تعبها الحقيقي ..
شفتاها تشاركان كفيها هذه الرجفة الانفعالية ..
كفّاها اللذين كانا متعلقين بوشاحها الأخضر كعهدها في عادة صارت شبه هوس!!
كأنها تتمسك معه ب”قدس كمالها” الذي صارت تعيش انتهاك حرمته !!
وبوازع من أمومتها ترد خديجة ببعض الرفق:
_منذ قام بتركيب هذه الساق الصناعية وقد تغير حاله قليلاً إذ يحاول التكيف مع السير بها .. لم أره منذ أخذ قراره المفاجئ هذا بالاختفاء ..ألم يترك لكِ رسالة؟! أخبرني أنه سيفعل!
تنهار عزة جالسة فوق أحد الكراسي وهي تتذكر تلك الرسالة التي تركها لها على هاتفها قبل أن يختفي ..
_حبيبتي ..كيف حالك ؟! لم أتصور يوماً أن أسألكِ هذا السؤال وأنا حقاً لا أعرف الجواب ..طالما كان “حالك” هذا أوضح ما يراه قلبي قبل عيني ..والآن صار غامضاً عن كليهما ..لا تشعري بالذنب ..لا تشعري بالذنب ..بالله عليكِ لا تجعلي ما بيننا يقرب هذه المنطقة اللعينة ..اقتربي لأجلك ..أو ابتعدي لأجلك ..لا تحملي هم “الفاجومي” ..تعرفين كيف يجيد فعل ما يريد وقتما يريد وأينما يريد دونما اكتراث للناس ..إنما تبقين أنت بعينيه “كل الناس” ..
تتثاقل الدموع على جفنيها مع ذكرى كلماته الأخيرة لتستعيد ما بقي من رسالته ..
_الأيام القادمة سأختفي من حياتك تماماً ..سأمنحك الفرصة لتتحرري من ثقل الصراع الذي يخفيه لسانك وتفضحه عيناكِ ..سأريكِ أنني لست عاجزاً يستحق شفقتك ..إنما عاشق يستحق حبك ..أعرف أن الموعد الذي اتفقنا عليه لعقد القران قد اقترب ..لو وجدتني قبله فهو دلالة شعور قلبك بي والتي توازي شعوري بكِ .. ساعتها سنتم الأمر ..لا مجرد عقد قران بل زواج ..زواج تكونين فيه رفيقة العمر كله ..أما لو لم تفعلي فهو مفتاح خلاصك وخلاصي من حب لن يجر لنا سوى الألم ..كوني بخير بي ..أو بدوني .
تنهمر دموعها صامتة وهي تتذكر كيف اكتفى بهذه الرسالة مع بعض الصور له التي يرسلها لها كل يوم ..
صور له في صالة الألعاب الرياضية حيث يقوم بتمارينه ..
صورة عقد عمله الإداري الجديد الذي تسلمه بعد فقدانه عمله الأول ..
صور له مع بعض أصدقائه الذين لا تعرفهم وقد جلسوا يتضاحكون بمرح ..
صور مقتبسة من مدونته الشخصية التي ينشر فيها كتاباته باسم “الفاجومي”..
كأنه يخبرها أنه يعيش حياته بصورة طبيعية ولا يحتاج شفقتها النابعة من شعورها بالذنب !!
_تحبينه حقاً ؟!
سؤال خديجة يسبق تربيتة كفها الحنون على كتفها هي لترفع إليها عينيها المشوشتين بالدموع ..وبالمشاعر!!
تظن الجواب هكذا ..هين؟!!
بهذه البساطة؟!!
_اصدقيني ولا تخافي!!
تكررها خديجة بحنانها -الصارم- فتكتف عزة ساعديها وهي تشعر في هذه اللحظة بالذات ب”اليتم” ..
بالوحدة ..كورقة شجر في مهب ريح !!
صرامة خديجة رغم حنانها تذكرها بتسلط هيام ..
فتلتوي شفتاها بابتسامة “تمرد” ساخرة :
_لو كنتِ مكاني هل كنتِ تملكين حق الرفض ؟!
تعقد خديجة حاجبيها بقوة وكلام عزة يؤكد مخاوفها خاصة والأخيرة تردف بين دموع تساقطت رغماً عنها :
_إيهاب لم يمنحني هدية ولا نقوداً ولا حتى مجرد مشاعر ..هو منحني “الهبة” التي لا يمكنني ردها مهما فعلت ..وجودي معه لم يعد خياراً .
_بل يبقى وسيبقى كذلك !
تقولها خديجة بنفس الصرامة وهي تتخذ مجلسها على الكرسي جوارها ..
لتهتف عزة بانفعال:
_لا تحكمي ما دمتِ لم تجربي .
_من أخبركِ أنني لم أفعل؟! هل حكى لكِ إيهاب عني؟!
تهز عزة رأسها بجهل وهي لا تفهم ما تعنيه ..
لتردف خديجة وقد غابت عيناها في شرود قصير:
_أنا تحديت العالم كله يوماً لأجل اختياري ..قلت لا عندما كان ينبغي أن أقول “لا” ..حتى عندما كان الثمن ..ابني!
تدمع عيناها مع ارتجافة صوتها عند الخاطر الأخير لتتسع عينا عزة وهي ترى الوجه الواهن منها لأول مرة ..
_أبي زوجني للمرة الأولى نازعاً مني اختياري ..زوجني رجلاً لم يرَ منه سوى ظاهر الخير ..عشت معه أسوأ سنين عمري ..ظُلمة لم تعرف سوى نور ابني الأكبر منه “إياد” ..معه عرفت لأول مرة في حياتي كيف تمتد عليّ يد بالضرب ..معه سمعت الشتائم التي لم تكن أذناي تسمعانها سوى في الشوارع ..المرفهة المدللة عرفت معه معني الإهانة العوز والاقتراض ..ومع هذا تحملت ..تحملت غيابه بالشهور فيما كان يزعم أنه عمل ! تحملت أن ينفق أبي عليّ وعلى ابني ..لكن الطامة الكبرى عندما علمت أنه متزوج بالعراق حيث سافر ..طلبت الطلاق فهددني بأن يأخذ مني ابني إياد ..ساعتها كان وقت الاختيار ..
تزدرد عزة ريقها الجاف وهي تشعر بانفعالها المتزايد مع كلمات خديجة التي كانت تزداد قوة ووجعاً بينما تلوح بذراعيها:
_إما أن أستعيد حريتي وحياتي وآدميتي وأخسر ابني ..أو أبقى معه أسيريْن لرجل كذاك !
_واخترتِ حريتك!
تقولها عزة بنبرة تقرير وقد خفت صوتها حد الهمس لتطرق خديجة برأسها هامسة :
_وخسرت ابني .
_ليس تماماً ..إيهاب أخبرني أنه عاد يسكن معكم بعدما كبر ..
_بعدما رماه أبوه !
تقولها خديجة مصححة وهي تعاود رفع رأسها نحوها لتهتف بانفعال مرتجف:
_بعد سنوات ألهبت فيها جسدي سياط الناس وهم يلومون “الجاحدة” التي رمت ابنها كي تتزوج ثانية وتبدأ حياتها من جديد ..سنوات قضتها أتمزق كلما نظرت لإيهاب ووجدته يتنعم بحضني وحضن أبيه فيما لا أعلم شيئاً عن قطعة من قلبي تركتها بعيداً عني ..سنوات أتمنى فيها فقط رؤية إياد الذي سافر به أبوه للعراق وقد حُرمتُ من الحق الطبيعي لأي أم أن تشاهد ابنها يكبر أمامها ..سنوات عجاف قضيتها في هذا الجحيم الذي تحكين عنه ..”ثمن الاختيار”..ثمن كلمة “لا” عندما تقال في وقتها ..لا أزعم أن ما فعلته كان الصواب أو الخطأ لكن ما كان يصبرني وقتها أنه كان اختياري ..قراري وحدي الذي تقبلت نتائجه بكل تبعاتها ..هل يكفيكِ هذا لتدركي أنني يوماً ما كنت مكانك !
_الوضع مختلف ..أنا ..
تقولها عزة بارتباك لتهتف خديجة مقاطعة :
_أنا قلتها لك مرة وهأنذا أعيدها ..لا أحد سيلومك على اختيارك المهم أن تدركي أنتِ تبعاته ..أن تتقبلي الثمن الذي ستدفعينه لأنه لا أحد غيرك سيسدده .
تطرق عزة برأسها بين شتاتها بما حكته خديجة ولا تزال تحكيه ..
_تظنين أن في هذه الحياة العسل الذي لا يخلو من شوائب تكدره ؟! الورد الذي لا يخلو من شوكه ؟! الإجابة الصحيحة تماماً التي لا تحتمل الخطأ ؟! اعلمي إذن يا ابنتي أن كل الأجوبة ..كلها ..تحتمل نسبة الخطأ ..والنجاح ليس في الاختيار ..النجاح في تقبل النتيجة ..أياً ما كانت !!
_تريدينني أن أتركه ؟!
تسألها عزة برهبة لتتنهد خديجة وهي تقف مكانها قائلة :
_اتركيه وعيشي ..أو ابقي معه وعيشي ..المهم أن تعيشي حياتك في الحالتين ..لا أن تبقي هكذا مذبذبة متظاهرة تظنين أنكِ بهذا تفرحينه ..السعادة لا يمنحها المترددون !
تغمض عزة عينيها للحظات وهي لا تدري ماذا تقول ..
تشعر أن كلمات خديجة قد وسّعت القيد حول رسغيها ..لكنها لم تحله تماماً ..
فلتبتعد ..
فلتقل لا ..ببساطة ..ولينته الأمر!!
بساطة؟!
البساطة أبعد ما تكون عن هذا الوضع!!
تنهض من مكانها لتقف في مواجهة خديجة التي تبدو لها الآن صورة مجسدة لما تعنيه مهنتها ..”ناظرة مدرسة “..
وهي أمامها تلميذة بليدة ..لا تعرف جواب السؤال !!
_أين هو؟!
تسألها برجاء من جديد هاربة من الموقف لتهز خديجة كتفيها هاتفة :
_لا أعرف ..هو بخير ..يهاتفني يومياً ..وهذا هو المهم !
_لم يبقَ على موعد عقد القران سوى يومين .
تقولها بنفس التردد اللعين لتطلق خديجة صوتاً ساخراً يليق بعبارتها:
_هذا لو كان هناك عقد قران!
ترمقها عزة بنظرة غريبة لتهتف بها بحدة مفاجئة:
_لماذا أشعر أنكِ لا تريدين إتمام هذه الزيجة ؟!
_هل كلمكِ إيهاب عن ورد ؟!
تسألها خديجة فجأة متجاهلةً ظاهر سؤالها لتعقد عزة حاجبيها بقوة بينما تردف الأم بنبرة ذات مغزى:
_و…مَن سبقتها ؟!!
_إيهاب صديقي قبل أن يكون خطيبي ..بالطبع أخبرني بكل شيء!
تهتف بها عزة بصوت متهدج وهي تشعر أنها ليست بهذه القوة التي تدعيها ..
لتقترب خديجة منها تلوح بسبابتها مع قولها :
_إذن تعلمين بالتأكيد أنني لن أسمح لابني بفشل ثالث .
تزدرد عزة ريقها بنفس التوتر المقيت وهي تتراجع بظهرها خطوة للخلف قبل أن تعدل وضع حقيبتها على كتفها لتغادر ..
لكن خديجة تلحق بها عند الباب لتهتف بنفس النبرة :
_إيهاب سيتزوج هنا ..في هذا البيت .
تلتفت نحوها بدهشة للحظة ثم ينعقد حاجباها بضيق هاتفة:
_لم نتفق على هذا ..هو يملك شقة أخرى .
_كان هذا في الماضي ..قبل إصابته ..الآن لن يأمن قلبي أن أتركه يعيش بعيداً عني .
تقولها خديجة بنفس الصرامة لتنفرج شفتا عزة وهي على وشك الانفجار ..لكن خديجة تقاطعها بقولها:
_ضعي هذا في حسبانك وأنتِ تحسمين اختيارك!
تطبق عزة شفتيها وهي ترمقها بنظرة ضائقة لتخرج دون كلمة زائدة فتراقب خديجة ظهرها المنصرف ..
ثم تغلق الباب برفق لتنقلب ملامحها الصارمة لأخرى متألمة ..
إن كان ابنها منحها مفتاح حريتها ..فهي الأخرى تريد دفعها لهذا الطريق ..
قلب الأم داخلها يخبرها أن عزة بشتاتها الحالي لن تكون لإيهاب عوناً ..بل عبئاً !
عبئاً ثقيلاً لن يحتمله ظهره الموجوع!!
تمسح دمعة خائنة فرت من عينيها وهي تتوجه نحو ذاك الدرج لتستخرج منه ألبوم صور ..
تمتزج ابتسامة شجنها بدموعها وهي تتفحصهم واحدة تلو الأخرى ..
إيهاب المبتسم دوماً في كل الصور ..
وإياد العابس بنظرة يُتم تدرك أنها كانت من أسبابها وتود لو كان قد منحها الفرصة لتمحوها عنه ..
إيهاب المحاط دوماً برفقته من أصدقاء ..
وإياد الوحيد دوماً ..المنعزل دوماً ..الغريب دوماً..
وأخيراً ..
صورة ورد وقد ارتدت ثوب خطوبتها جوار ..إيهاب!
هذه الصورة التي تود لو تحرقها ..
كما أحرقت حقيقتها قلب ابنها البكر !!
_ظلمناك يا ابني! كلنا ظلمناك ! أنت تظنني فضّلت إيهاب عليك كما كنت دوماً تتهمني ..قلب الأم لا يفرق بين أولاده ..لكنه لم يكن بيدي ..والله لم يكن بيدي ..لو كنت أعلم أنك ستترك كل شيئ خلفك وتهجرنا بعدها هكذا لكنت أول من يمنع تلك الخطبة ..لكنها كانت تحبه هو ..ماذا كان بوسعي أن أفعل؟! أنت باركت لأخيك ساعتها ..كتمت لوعتك في قلبك وجعلتني أشعر أنك لا تهتم ..حضرت الحفل بنفسك لآخره ..قبّلت يدي في تلك الليلة بهذه النظرة التي لم أفهمها إلا صبيحتها وأنا أرى البيت خالياً منك ..إياك أن تظن أن قلبي لم ينفطر لأجلك ..قطعة من روحي مزقت برحيلك ولن تعود إلا بك ..كأن قدري كلما التقيت بك أن أُحرَم منك من جديد ..عد يا إياد ..ارجع يابني ..ارجع وكن سندي وسند أخيك ..من فرّقتكما رحلت ولن تعود ..إنما أنت يجب أن تعود ..يجب أن تعود .
=======
_زميلة تشاركني؟! لماذا؟!
تهتف بها عزة بضيق متفاجئة بعدما أنهت تصوير حلقة برنامجها في الاستوديو ..
ليرد المخرج بابتسامة مهدئة :
_لصالح البرنامج بالطبع!
_البرنامج هذا أنا أساسه ! الناس كلها تشاهد “أكلتين وعافية” منذ سنوات لأجل “عزة الأنصاري” ! بأي حق تريد الآن أن تحضر من تشاركني فيه ؟!
تهتف بها باستنكار ليبسط راحتيه في وجهها بحركة مهدئة سبقت قوله :
_لأجل أن أحافظ لك على نجاحه هذا ..تعلمين مثلي أن قبولك لدى الناس لم يعد كالسابق ..نسب المشاهدات تقل يوماً عن يوم ..وأنتِ ترفضين بعض التنازلات ال ..بسيطة ؟!!
_أي تنازلات ؟!
_فيديوهات لك على الانستجرام بصور أكثر حميمية مثلاً !
_تقصد هذه المتظارفة التي أتناول فيها ما أطهوه بتلذذ مبالغ فيه ثم أتقافز كالبهلوان؟!!
تهتف بها باستنكار متهكم وهي تستعيد ما تفعله بعض زميلاتها في المهنة ..
ليرد بإيماءة رأس :
_عالم “السوشيال ميديا” له قواعده ..هذه الأيام لن ينجح فيها إلا من يجيد الاستعراض ..الاستعراض بالجمال ..بالأناقة ..بالرفاهية ..بخفة الدم ..نجاحك هو عدد الأرقام التي تثبتها مشاهداتك ..المنافسة قوية وأنتِ ترفضين تطوير نفسك .
_هذا ليس تطويراً ..هذا ابتذال! أنا متخصصة في الطبخ وليس في الاستعراض!
_اتفقنا! ولهذا أحضرت من تشاركك في البرنامج ! واحدة تجيد هذا الاستعراض الذي لا تحبينه!
يقولها بنبرة من يجيد التفاوض لتدمع عيناها بقهر وهي تعود ببصرها للخلف نحو الحائط الديكوري أخضر اللون الذي حمل “لوجو” البرنامج والذي ارتبط بها -وحدها- لسنوات ..
تضع كفها على شفتيها كاتمة بكاءها ثم تركض نحو غرفتها الجانبية لتغلق الباب خلفها ..
تخونها دموعها للحظات وهي تشعر بالفشل في كل شيئ ..
حتى عملها الذي كان كنز عمرها !!
_لا! لا! لن أفشل! لن أفشل!! يريدون المزيد من التنازل ..فليكن !!
تمسح دموعها بسرعة وهي تتوجه نحو مرآتها لتعيد ضبط زينتها بتبرج أكثر وضوحاً ..
أكثر ..وأكثر ..
تتوجه نحو منضدة قريبة رصت عليها بعض قطع من الحلوى فتتناول إحداها ..
تشغل هاتفها في وضع التصوير ثم تبدأ في تقليد هذه الفيديوهات التي تراها ..
فتتناول قطعة الحلوى ببطء مثير وهي تتمايل بميوعة ..
تضحك لتختم الفيديو بغمزة خفيفة!
توقف التصوير ثم تعيد تشغيل الفيديو ..
تتجمد ملامحها على صورتها وهي تشعر أنها ليست هي ..
تبتسم لضحكتها “الزائفة” في الفيديو ثم غمزتها التي بدت لها فجة لكنها مثيرة ..
قبل أن تتحول ابتسامتها لنحيب مرتفع وأناملها تمتد كي…
تمسح الفيديو ..لا كي تشاركه!!
كانت تعلم !!
كانت تشعر!!
كانت تخاف!!
طريق التنازلات يبدأ بخطوة ..وها هي ذي تنحدر على الدرج لآخره !!
لم تشعر يوماً بالفشل كما هي الآن ..
بالوحدة ..باليتم ..
نجمة تركوا لها السماء وحدها يوماً ..والآن جاء الدور لتحترق!!
طرقات خافتة على الباب تجعلها تمسح دموعها وهي تعيد إحكام وشاحها حول عنقها ..
وشاحها الذي لطخته دموعها وبقايا زينتها لكنها لم تعد تهتم ..
هو لن يعود أبداً لرونقه القديم!!
تغادر غرفتها لتصطدم بالمخرج الذي لانت ملامحه مع دموعها ليهتف بضيق:
_عزة! الأمر لا يستحق كل هذا ..هي فقط محاولة..
_لن أشارك نجاحي مع أحد ..لو لم يناسبك الأمر ..ألغِ العقد بيننا .
تقاطعه بها بصرامة بدت ساخرة مع كل هذه الدموع الهشة التي تغرق وجنتيها ..
قبل أن تتخذ طريقها لتغادر الاستوديو نحو سيارتها ..
تستقلها لتشغلها فتنطلق بها عدة أمتار ثم توقفها على جانب الطريق ..
لتستند برأسها على المقود ..
_أين أذهب؟! لمن أذهب؟!!
تهتف بها بين دموعها والجواب الوحيد الذي يملأ رأسها هو الآن ما تهرب منه ..
إيهاب!!
تهز رأسها بعجز وهي تدرك أن اليوم هو آخر مهلة تركها لها ..
من المفترض أن يكون عقد القران غداً ..
لكنها لم تجده ..
وهل حاولت؟!!
تعود دموعها للانهمار وهي تتصل به للمرة التي لا تدري عددها منذ اختفى لكنه كالعادة لا يجيب ..
كأنه يمنحها فرصتها كاملة للتأقلم دون وجوده ..
مكتفياً بطمأنتها بصوره !
لو تعلمين كم أحب عينيكِ عندما تتسعان بهذه الطريقة ..تبدين لي كطفلة لازالت تخشى عبور الطريق وحدها وتنتظر يدي كي تمنحها الأمان !
كلماته تسطع فجأة في ذهنها ..
تغرسها في هذه المنطقة الآمنة بعيداً عن موج حيرتها ووحدتها ..
فتجد نفسها تهتف وهي تهز هاتفها بحدة راجية :
_رد!! رد!! أنا أفتقدك ..أنا أحتاجك ..أنا أحب..
تقطع كلمتها الأخيرة بآهة طويلة وهي تخشى الكذب على نفسها كما تكذب عليه !!
هو لم يعد في حياتها رفاهية اختيار ..بل قدراً !!
قدراً يجب أن تقبله !!
======
في غرفته بأحد الفنادق لمدينة ساحلية كان إيهاب يقف في شرفة غرفته ..
يلتقط لنفسه صورة ضاحكة يرسلها لها ثم يعيد هاتفه مكانه لتختفي ضحكته وهو يعاود الجلوس ..
يرفع طرف سرواله ليرمق ساقه الصناعية بهذه النظرة الموجعة ..
صحيحٌ أنه قد بدأ اعتياده لها لكنه كلما يراها يدرك قيمة ما خسره ..
ليس فقط جزءاً من جسده ..
ليس فقط عمله ..
إنما ..شيئ في نظرتها -هي- سقط ولن يعود !!
اليوم تنتهي آخر مهلتها..
المهلة التي تركها لها راضياً كي يعفيها من حرج الرفض وإن كان واثقاً أنها لن تتركه ..
هذه الثقة التي بدأت في التراجع كلما ازدادت الأيام مروراً ..
لا ..لا ..
هي تحبني ..حتى لو لم تكن هي نفسها تعلم !!
يكررها لنفسه عدة مرات كأنه يغرسها في أرض يقينه !
_عفواً سيدي ! لم أنتبه أنك ..
الصوت الأنثوي لعاملة الفندق يصيبه بصدمة مقتلعاً إياه من أفكاره!!
يعيد تغطية ساقه بسرواله بسرعة لتصطدم عيناه بهذه النظرة في عينيها ..
نظرة تقزز!
اشمئزاز أخفته خلف تعاطف مبالغ فيه وهي تكرر اعتذارها :
_أنت تركت البطاقة على الغرفة من الخارج تطلب التنظيف ..وأنا طرقت الباب كثيراً ..لم أنتبه أنك هنا ..
تدمع عيناه دون وعي وهو ينتفض مكانه ليقف بقوة كأنه يقهر شعوره بعجزه ..
يهيأ إليه أن عينيها تسخران من وقفته وقد ازداد التقزز فيهما ..
بقايا من قناع “الفاجومي” تجعله يبتسم لها هاتفاً بمرح:
_لا بأس ..إنه خطئي ..صوت البحر هنا في الشرفة يجعلني لا أسمع ..كما أنني نسيت البطاقة على الباب في ذاك الوضع .
_أكرر اعتذاري ! سآتي في وقت لاحق!
تقولها مغمضةً عينيها بحرج يراه بعين نقصه مزيداً من الاشمئزاز وهي تسحب العربة التي حوت معدات التنظيف لتهم بالمغادرة ..
لكنه يتصنع المزيد من المرح وهو يهتف بانطلاق:
_لا ..أنا من سيغادر ..إياكِ أن تدعي عليّ بينما تنظفين المكان ..أنا كائن بوهيمي يفعل ما يحلو له .
تبتسم له بلطف وهي تتراجع مكانها ..
فيتحرك ليغادر لكنه يتوقف فجأة ونفسه تسول له بتصرف غريب ..
_هذا التلفاز لا يقدم قنوات عربية ؟!
كان يعلم الجواب لكنه انتظره منها ..
_بل يفعل..أي قناة تريدها ؟!
_قناة (….)! “خطيبتي” تذيع برنامجها فيها!
يتعمد الضغط على حروف “خطيبتي” بثقل فتسأله بفضول:
_من خطيبتك؟!
_عزة الأنصاري!
يقولها بنفس البطء المتثاقل وهو يتشرب نظرة العاملة التي تحولت للكثير من الانبهار ..
فتلتوي شفتاه بابتسامة مرتجفة وهو يرفع هاتفه ليريها الصورة :
_لا تصدقين؟!
تتسع عيناها بالمزيد من الانبهار الذي يرضي المزيد من شعوره بالنقص فيغمض عينيه بقوة وهو يسحب هاتفه ليغادر الغرفة ..
يتوقف قليلاً مكانه وهو يشعر بالغضب من نفسه !!
منذ متى يستغل علاقته بها هذا الاستغلال المخزي؟!
منذ متى يكترث “الفاجومي” برأي الناس؟!
ربما ..منذ لم يعد كاملاً في عيني نفسه !!
يطلق زفرة ساخطة تنقلب لتنهيدة وجع وهو يهمس لنفسه :
_اليوم ينتهي الأمر ..توضع كل النقاط على حروفها ..
ينظر لساعته بقنوط وهو يتحرك بهذه الطريقة الغريبة التي لم يألفها بعد ..
افتقدها؟!!
كثيراً ..حد الألم!!
لكن اشتياقه هذه المرة يمتزج بمشاعر أكثر مرارة ..أكثر تخبطاً !!
هل يلومها لو هجرت ؟!
أو لم يمنحها هو حق الاختيار؟!
يرى ذاك المصعد فيهم بركوبه كي لا يثقل على ساقه خاصة وهو لم يعتد السير بها طويلاً بعد لكن عناداً متمرداً يجعله يفضل هبوط الدرج ..
هو ليس عاجزاً ..
ليس عاجزاً !!
تنقطع أفكاره فجأة وهو يراها واقفة تناظره من بعيد ..
هي!!
هي جاءت هنا؟!
عرفت مكانه وحدها ؟!!
هل يحلم؟!!
يغمض عينيه بقوة للحظة ثم يعاود فتحهما كأنه يتأكد من وجودها ..
ليراها تركض نحوه قبل أن تلقي نفسها بين ذراعيه !!
يضمها إليه بقوة وهو يجرب شعور من أعادوا إليه روحه في الرمق الأخير ..
يغرس رأسها بين ضلوعه وأنفاسه تنهل من رائحتها التي اشتاقها ..
جسدها ينتفض ببكاء خفيض فيربت على ظهرها لترفع عينيها إليه هامسة بعتاب:
_إياك أن تفعلها ثانية !
_كيف وجدتني؟!
يهمس بها عبر أنفاسه المرتجفة وهو يمسح دموعها بأنامله لترد بهمس خفيض:
_الطفلة التي تنتظر يدك كي تعبر بها الطريق لن يتعذر عليها أن تجدك ..أنا أحفظ تفاصيلك كما تحفظ تفاصيلي .
تتعجب من الصدق الحار الذي نطقت به حروفها ..
تتعجب من اندفاعها المحموم نحوه عندما رأته لتعدو إليه محتمية بعناقه ..
وتتعجب أكثر من شعورها الآن بدفء هذا العناق وقد كانت تراه مجرد سجن ثقيل ..
هل تحبه حقاً؟!
أم لا تزال متشبثة بقناع التظاهر؟!!
لا تعرف ..ولا تريد أن تعرف ..
هي سارت خلف قدرها فحسب!!
لم يعد لديها خيار!!
_لكنك تأخرت !
يهمس بها أخيراً ببعض العتاب لتهز رأسها وهي تنتبه لوقفتهما فتتراجع وهي تطرق برأسها هامسة :
_المهم ..أنني وصلت قبل فوات الأوان .
يتفحص ملامحها بخبرته المعهودة بها فيخفق قلبه بجنون وهو يميز هذه النظرة التي افتقدها في عينيها ..
نظرة اشتياق حقيقية بعيدة عن تلك “الآلية” التي تدثرت بها بعد الحادث ..
نظرة ود لو يغرقها تقبيلاً ثم يغرق فيها بكل ما فيه ..
جنيّته عادت !!
عادت لتمنحه السكينة !!
يبتسم وهو يعانق وجنتيها براحتيه هامساً بنبرة عاد إليها مرحها :
_تعلمين ماذا يعني حضورك اليوم …وغداً ؟!
يغمزها بخفة فتغمض عينيها مخفيةً غيوم الخوف التي عادت تحتل سماواتها ..
ما هذا الذي تفعله ؟!
من جديد تهوي في بئر شتاتها الأخضر ..
من جديد تعود لمعركة لا تملك فيها سيفاً ولا درعاً ..
ألا هدنةً قصيرة من كل هذا الصراع أيها القدر ..
ألا رفقاً بقلب يجهل شفرة دقاته !!
=======
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)