رواية ماسة وشيطان الفصل الثامن عشر 18 بقلم نرمين نحمد الله
رواية ماسة وشيطان الجزء الثامن عشر
رواية ماسة وشيطان البارت الثامن عشر
رواية ماسة وشيطان الحلقة الثامنة عشر
تمدد جاسم الصاوي على فراشه متدثراً بغطائه وهو يسند رأسه إلى ظهر الفراش الوثير…
لقد كان الموت الليلة منه قاب قوسين أو أدنى!!!
ولولا معجزةٌ قدرية لكانت تلك الرصاصات قد عرفت طريقها إليه وإلى ابنه الوحيد!!
“الوحيد”؟؟؟؟!!!
ظلت هذه الكلمة تتردد في عقله بوميض خاص متقطع متزامنٍ مع تلك الذكرى البعيدة…
والتي حاول طمسها في غياهب ذاكرته لسنوات طويلة تتجاوز العشرين عاماً…
حتى ظن أنه نجح!!!
لكن حادث الليلة جعلها تطفو على سطح أفكاره لتحتلها كلها…
فبرغم كل ذنوبه- التي يعلم وحده مدى ثقلها على كاهله- يبقى هذا الأمر -بعينيه-أعظم خطاياه!!!
طرقاتٌ خافتة على باب غرفته قاطعت أفكاره تبعها دخول فهد بخطوات مترددة كعهده كلما دخل إلى هذه الغرفة التي شهدت جريمته منذ سنوات…
لهذا لم يكن يدخلها إلا مضطراً كهذه الليلة …
ويبدو أن أباه قد قرأ أفكاره فقد تفرس ملامحه ببطء ثم قال بلهجة رفيقة غريبة عن قسوته المعتادة معه:
_تعال يا فهد…وأغلق الباب خلفك.
أطاعه فهد باستسلام ثم عاد ليجلس جواره على طرف الفراش مطرقاً برأسه يحاول البحث عن كلمات مناسبة في هذا الموقف …
لقد تعطلت علاقته العاطفية بوالده منذ الحادث وكل يومٍ كان يزيد من حجم هذا “العطل”!!!
والآن لا يدري كيف يعبر له عن شعوره الحقيقي كابنٍ وأبيه في هذه الظروف!!
هو يعلم أن جاسم الصاوي يحتاجه الآن بالذات…
يحتاج فهد…ابنه الوحيد…وليس رجل الأعمال الذي يعده ليكون خليفته على سلطانه !!!
وفهد أيضاً كان يحتاج هذا مثله…
لكنه لم يكن يجد مدخلاً مناسباً…
خاصةً وهذه الغرفة بالذات تهيج الجرح القديم لكليهما فتجعل الأمر أكثر صعوبة!!!
لهذا ساد صمتٌ ثقيلٌ بينهما وكلاهما عالقٌ في شباك أفكاره …
حتى قطع الصمت جاسم وهو يقول بشرودٍ :
_ما حدث الليلة جعلني أعيد تقييم بعض الأمور!
رفع فهد عينيه إليه بترقب وهو يشعر من تعابير وجه والده التي يحفظها أنه سيسمع أمراً جللاً…
عندما عاد جاسم الصاوي لصمته الشارد قليلاً قبل أن يقول بنبرة غريبة:
_هل تدرك كم كنتُ أحب والدتك رحمها الله؟!وماذا كانت مكانتها عندي؟!
أغمض فهد عينيه بألم وهو يشعر ببركان هائج في صدره من مشاعر متباينة…
فتنهد جاسم الصاوي ليردف بنفس النبرة :
_أنا لا أقول هذا لتقريعك على ذنبك القديم…أنا فقط أريدك أن تتفهم ما سأعترف لك به الآن.
ازدرد فهد ريقه بتوتر وهو يعاود النظر إليه بتوجس …
ليكمل جاسم حديثه الذي بدا على قدر كبير من الخطورة:
_لقد تأخرت والدتك في الحمل بعد زواجنا…وساءت نفسيتها كثيراً لهذا الأمر…حتى أنها احتاجت لعلاج نفسي من الاكتئاب لفترة طويلة…وأنا كنت وقتها شاباً في مقتبل عمري …ضعفت أمام رغباتي وتزوجت سكرتيرتي سراً لبضعة أشهر…ولما أفقتُ لنفسي وخشيت أن يتسرب الأمر لوالدتك طلقتها …خاصةً أن والدتك فاجأتني وقتها بنبأ حملها الذي أصلح الأمور بيننا كثيراً وعادت حياتنا بعدها لطبيعتها …
عقد فهد حاجبيه وهو يقول بتوجس وقد أدرك بذكائه أن الأمر يحوي ما هو أعظم من هذا:
_لكن أمر سكرتيرتك هذه لم يقف عند هذا الحد!!
أومأ جاسم برأسه ثم بدا عليه التردد قليلاً قبل أن يحسم أمره قائلاً:
_أنت لست ابني الوحيد…ولست الأكبر كذلك!
اتسعت عينا فهد بصدمة وهو يتراجع برأسه مشدوهاً:
_ماذا؟!
أطرق جاسم برأسه للحظات…ثم قال بأسف:
_لقد اتصلت بي تلك المرأة بعد طلاقنا ببضعة أشهر وهي بين الحياة والموت تخبرني أنها وضعت طفلتنا وأنها لا تريد شيئاً سوى أن أمنحها اسمي….. كانت والدتك لاتزال في شهور حملها الأولى بك…فلم أستطع وقتها صدمتها بأمرٍ كهذا…كما أني خشيت من الفضيحة…لهذا….
انعقد حاجبا فهد بغضب وهو يهز رأسه هاتفاً بحدة:
_لا تقل أن المرأة ماتت وأنت رميت الطفلة لأهل والدتها!!!
تنهد جاسم بحرارة وهو يشيح بوجهه قائلاً:
_للأسف تلك المرأة كانت وحيدة تماماً بلا أهل ولا سند وهذا ما سهّل أمر زواجنا السريّ من البداية…..المرأة ماتت حقاً لكنني لم أعرف شيئاً عن الطفلة…لقد تسلمتها بعد وفاة والدتها ثم أمرت أحد رجالي بأن يتخلص منها فوضعها أمام أحد المساجد في منطقة شعبية…وظل يترقب الأخبار بعدها حتى أخبرني أن امرأة طيبة التقطتها لتربيها وقد منحها أحد رجال الحي اسمه قانوناً فقط !!
تألقت عينا فهد وهو يهتف بلهفة:
_وما هو هذا الاسم؟!
هز جاسم رأسه وهو يهمس بخفوت:
_لا أدري…أنا لم أهتم وقتها بمعرفة التفاصيل..كنت فقط أريد التخلص من هذه الفضيحة بأي طريقة….كل ما أذكره عن الطفلة أنها كانت تشبه والدتها تماماً بعينين رماديتين.
هب فهد واقفاً وهو يلوح بذراعيه هاتفاً بانفعال:
_ولماذا تهتم؟!!! مجرد خطإٍ تجاوزته وانتهى الأمر!!! لتعود لحياتك الطبيعية وتفرح بزوجتك سليلة الحسب والنسب التي ترضي واجهتك الاجتماعية وابنها الذي تفتخر به…صحيح؟!!
انعقد حاجبا جاسم بغضب وكلمات فهد توخز ضميره أكثر ليجد نفسه يهتف بحدة:
_احترم نفسك يا ولد !!
اشتعل غضب فهد أكثر وهو مستمرٌ في ثورته:
_وأنت لماذا لم تحترم آدميتك؟!!كيف استطعت النوم طوال تلك الليالي وأنت تعرف أن لك ابنة لا تعرف عنها شيئاً؟!!كيف ارتضى ضميرك أن تربيني أنا في كل هذه الرفاهية والدلال بينما تتجرع هي كأس الفقر والذل والمعايرة بين الناس بنسبها المجهول الذي لا ذنب لها فيه؟!!
أغمض جاسم عينيه بألم وهو يطرق برأسه من جديد…
فصمت فهد لدقائق يتمالك انفعاله بصعوبة وهو لا يكاد يصدق…
جاسم الصاوي ضحى بابنته لأجل حبه لزوجته؟!!
رمى طفلته التي هي قطعةٌ منه لأجل امرأة؟!!!
ترى ماذا سيكون رد فعله لو علم أنه فعل كل هذا لأجل امرأة خائنة؟!!!
امرأة كانت تستبيح عرضه …وعلى فراشه!!!!!!!
نعم…هذا الفراش الذي يرقد هو عليه الآن …بل كل ليلة…
يتذكرها متحسراً ويلومه هو لأنه شابٌ عابثٌ أضاع حياة والدته بفساده!!!!!
لكن الواقع أنه لم يفعل هذا لأجل حبه لتلك المرأة الراحلة فحسب…
بل لأجل واجهته الاجتماعية أيضاً…!!!
جاسم الصاوي استنكف أن تكون له ابنة من امرأة لا تنتمي لمجتمعه المخملي…
واستكبر أن يتحدث الناس عن زواج ثانٍ له من امرأة لا تليق…
فرد له القدر الضربة مرتين!!!
مرة في زوجته التي يعلم فهد وحده الآن أنها لم تكن تستحق هذه التضحية…
ومرة في ابنه…!!
نعم…جاسم الصاوي ضحى-طوعاً- بزوجة وابنة…. فخسر-قسراً- زوجةً أخرى وابناً آخر!!!
حقاً…ما أعدل السماء!!!
وعند هذه الفكرة الأخيرة تنهد فهد بحرارة ململماً أذيال ذكرياته المشبعة بحسرته…
ليعاود الجلوس جوار أبيه هامساً بلهجة أكثر هدوءاً:
_أبي…أنت تعترف الآن لي بهذا الأمر لأنك تنتوي تصحيحه !
كانت عبارته للجواب أقرب منها للسؤال…
ففتح جاسم عينيه ليتمتم بعجز:
_للأسف…لا أستطيع.
انعقد حاجبا فهد في تساؤل فأردف جاسم بضيق:
_رجلي الذي كان يعرف عن تفاصيل الأمر ترك العمل معي بعدها واختفى…وأنا تناسيت الأمر بدوري…لم أذكره إلا الليلة …لقد صارحتك به فقط حتى أوصيك عليها لو ظهرت يوماً ما تطالب بحقها ولم أكن أنا وقتها على قيد الحياة.
هز فهد رأسه وهو يهتف بقنوط:
_هذا يعني أنك لا تعرف أي شئٍ عنها ولا حتى اسمها أو مكان إقامتها؟!!
هز جاسم رأسه في إجابة واضحة بالنفي…فأردف فهد بضيق:
_وكيف ستعرف هي إذن عن نسبها؟!!
زفر جاسم بقوة وهو يرد بتردد:
_لا أدري…ربما أحد معارف والدتها….أو…
قاطعه فهد هاتفاً بحدة :
_لا تخدع نفسك يا أبي…لو كان أحدٌ يمكنه كشف الحقيقة لفعلها منذ زمن…شقيقتي لن تظهر إلا إذا بحثنا نحن عنها بكل طاقتنا!!
رفع جاسم رأسه لأعلى وهو يقول باعتراضٍ مشوب بخزيه :
_الانتخابات على الأبواب ولا أريد أي تشويش على صورتي….ستكون فضيحة !!
هب فهد واقفاً من جديد وهو يهتف ثائراً:
_فلتذهب الانتخابات هذه للجحيم!!!عمرنا كله كان سينتهي الليلة أنا وأنت…لولا لطف القدر!!
أشاح جاسم بوجهه في تردد وقد بدأ الغبار ينزاح عن ضميره المثقل…
فعاد فهد يهتف برجاء هذه المرة:
_أرحْ ضميرك يا أبي…خفف ذاك الوزر عن ظهرك…أخبرني فقط باسم ذاك الرجل الذي يعرف الحقيقة وأنا سأجده بطريقتي .
ازدرد جاسم ريقه بتوتر ثم ذكر له اسم الرجل وهو يلتفت نحوه فاختزنه فهد في ذاكرته…
قبل أن يقول جاسم بعدها بفتور:
_ولو وجدناها؟!!
عقد فهد حاجبيه وهو يقول بحزم:
_لو تأكدتُ أنها هي فسأعترف بها كأختي..حتي ولو لم تفعل أنت!!
زفر جاسم بقوة ثم بدا عليه التفكير لدقائق قبل أن يقول باستسلام:
_دعنا نبحث عنها أولاً…ولو وجدناها سنرى وقتها ما يمكننا فعله.
انحنى عليه فهد ليشد بقبضته على ساعده هاتفاً بحسم:
_سأجدها يا أبي…ولن أستريح حتى تعود لها حقوقها كاملة بدايةً باسمها وانتهاءً بكل شئٍ آخر!!
رفع إليه جاسم عينيه بتردد ولأول مرة في حياته يشعر بعدم قدرته على اتخاذ قرار…
بل إنه لا يدري لماذا قفزت هذه الذكرى بالذات إلى ذهنه بعد حادث الليلة…
جزءٌ ما بداخله يناشده أن يريح ضميره برد ابنته لحضنه…
لكن جزءاً آخر يحذره من أن يكون هذا سبباً في تصدع صرح جاسم الصاوي العظيم خاصةً أن فضيحةً كهذه لن تكون هينة الوقع على الآذان!!!
وبين الخيارين كان هو غارقاً في حيرته حتى حسم الأمر بقوله:
_سنؤجل التفكير في الأمر حتى تنتهي الانتخابات.
هم فهد بالاعتراض لكنه أشار له بكفه هاتفاً:
_هذا آخر كلامي…اخرج الآن وأغلق الباب خلفك.
هز فهد رأسه في عدم رضا لكنه امتثل لأمره وخرج من الغرفة بخطوات سريعة…
بل من المنزل كله…
ولم يكد يستقل سيارته حتى تناول هاتفه ليتصل برقم ما وما إن فُتح الاتصال حتى قال بود:
_كيف حالك يا حسام؟!…لا …لا تقلق…أنا ووالدي بخير الآن …لكنني كنت أريدك في أمر آخر.
ثم صمت لحظة ليقول بعدها بحسم:
_رجلٌ اسمه(…….) كان يعمل مع أبي منذ سنوات ونريد أن نعرف مكانه …لكن بسرية تامة ودون أذى يا حسام…هل تفهمني؟!!
==================
_أنتِ أخطأتِ يا دعاء!!
هتفت بها ماسة بحنق مشوب بإشفاقها أمام هذه التي كانت تبكي بحرقة وهي تهمس بين دموعها:
_رغماً عني يا ماسة!!!
تنهدت ماسة بحرارة وهي تحتضنها بقوة متمنيةً بحق لو تتمكن من مساعدتها…
لقد استيقظت من نومها اليوم صباحاً لتجد هاتفاً جديداً على الكومود المجاور لها فاستنتجت أن عاصي هو من جلبه لها…
وعندما توجهت نحو غرفته لتشكره وجدتها خالية لتعرف بعدها أنه غادر القصر باكراً وأنه سيتغيب لأيام طويلة في مكانٍ لم يخبر به أحداً…
ورغم أنها كانت تشعر بالامتنان نحوه لأنه لم ينسَ أمر هاتفها برغم كل ما حدث…
لكن غيابه هذا أصابها ببعض الضيق …
والكثير …بل الكثير جداً من “عدم الاتزان”!!!
نعم…هي اعتادت وجوده الذي يمنحها الأمان…
حضوره الطاغي الذي يحتل حواسها عنوة…
كلماته التي هي -رغم اقتضابها- ثرية بمعانٍ كثيرة لا تكاد تتبينها إلا عندما تختلي بنفسها لتتذكرها بعقلها الذي يتشرب حروفه حرفاً حرفاً!!!
لكنه للأسف …رحل الآن وحرمها كل هذا!!!
رحل حتى دون أن يخبرها وكأنه استنكف أن تشاركه همه بعدما كان بينهما في آخر لقاء…
نعم…يبدو أن عاصي الرفاعي استكبر أن يراه أحدٌ في أشد لحظات ضعفه خاصةً لو كانت امرأة!!
وبرغم ما ملأتها به هذه الفكرة من حزنٍ وحسرة لكنها لم تستسلم لكل هذا كما عاهدت نفسها منذ زمن…
ماسة لن تنكسر بعد الآن لأي شئ…أو لأي شخص!!!
لهذا هاتفت رحمة لتطمئن عليها وتخبرها بما حدث لكنها حافظت على سر حورية كما عاهدت نفسها أن تفعل…
كما هاتفت دعاء لتطلب منها الحضور إليها هنا فقد كانت بحاجة للتحدث إليها…
لكن دعاء فاجأتها بتفاصيلها الأخيرة التي استنكرتها ماسة بشدة رغم إشفاقها على دعاء التي وقعت ضحية بين ظروف مرضها وحبها لوالديها !!!
لهذا عادت ماسة تربت على كتفها وهي تقول برفق هذه المرة:
_لو كنت مكانك لما قبلتُ الزواج من رجلٍ طالما قلبي معلقٌ بآخر…لكن هذا لم يكن خطأكِ الوحيد…خطؤك الأعظم في نظري أنكِ رضختِ لتصرفات حسام المتسلطة ولم ترفضي عقد القران هذا لمجرد إرضاء والديكِ!!!
هزت دعاء رأسها وهي تهتف بين دموعها:
_لم أستطع…كل الظروف كانت ضدي !!
أومأت ماسة برأسها في تفهم ثم عادت تقول لها بحزم حنون:
_إذن فاقبلي قدركِ مع حسام…لا تقفي هكذا حائرة في مفترق الطرق…طالما اخترتِ هذا الطريق فأكمليه ولا تفكري في شئٍ آخر….انسيْ معتصم تماماً…وامنحي حسام فرصةً أخرى …ومن يدري لعل الحب يعرف طريقه بينكما يوماً!!
ابتسمت دعاء بمرارة ثم رفعت رأسها إليها لتسألها بتردد:
_هل من الممكن أن تشعري يوماً بالحب نحو عاصي الرفاعي؟!!
تنهدت ماسة بحرارة وهي تلاحظ تقارب وضعيهما ثم اغتصبت ابتسامة باهتة على شفتيها لتهمس بفتور:
_أنا حقاً…أحبه!!!
شهقت دعاء بدهشة …
فبرغم كل ما أخبرتها به ماسة من تفاصيل علاقتها بعاصي لكنها لم تتوقع أن تصل الأمور بينهما لهذا الحد…
لكن ماسة أردفت بشرود :
_ربما هو ليس الحب الذي عرفته يوماً مع عزيز…لكنه حبٌ من نوعٍ آخر….أنا أحبه كأبي الذي لم أعرفه…كصديقي التخيليّ الذي طالما رويتُ له حكاياتي …كأخي الذي طالما تخيلت حضنه ولم أتذوق طعمه!!!
ابتسمت دعاء ابتسامة شاحبة وهي تغمغم بيقين:
_لكنه حتماً ليس حب امرأة لزوجها!!!
هزت ماسة رأسها نفياً فتنهدت دعاء لتهتف بعدها بحسرة:
_لكنكِ قد تصلين معه لهذا يوماً…أما أنا فلا أظنني سأعرف هذا الشعور مع حسام…هل تصدقين أنه لم يكلمني منذ ليلة عقد قراننا ؟!!!والدته تتصل دوماً لتطمئن عليّ وقد أخبرتني أنه قد سافر في أمرٍ ما يخص عمله…بينما هو قد تجاهلني تماماً طوال تلك الأيام وكأن كل غرضه مني كان امتلاكي بورقة زواج!!
ربتت ماسة على كتفها وهي تقول بحنان:
_ما رأيكِ لو تبدئيه أنتِ بالمصالحة؟!!ربما هو فقط يحتاج الشعور بأنكِ تريدينه!!
تعلقت دعاء بعينيها في حيرة فأردفت ماسة بأسى:
_أحيانا نضطر لنحني هاماتنا كي لا تصطدم جباهنا بصخور واقعنا….هذه ليست دعوة مني لتتهاوني في كرامتك لكنني فقط أريدكِ أن تمنحيه وتمنحي نفسكِ فرصةً أخرى!
أومأت دعاء برأسها موافقةً فضمتها ماسة لصدرها من جديد…
وهي تشعر أن كلامها لم يكن موجهاً لدعاء وحدها…
بل لنفسها أيضاً…
نعم….هي الأخرى تحتاج لمنح عاصي فرصة أخرى لعل القدر يكتب لهما بدايةً جديدة…
بمشاعر أخرى !!!
========
فتح عزيز باب بيت رحمة ليدخل بهدوء فتقدمت نحوه لتحتضنه بقوة حنانها كالعادة…
قبل أن تتفحص ملامحه المنهَكة لتقول بإشفاق:
_أنت ترهق نفسك كثيراً في عملك الجديد يا ابني…كما أنك لا تنام جيداً!
تنهد بحرارة وهو يبتعد عنها برفق ليتوجه نحو أحد الكراسي هناك فيجلس متأوهاً بقوة…
قبل أن يقول بصوته المُتعب:
_أحتاج أن أعمل كثيراً يا أمي…ليس فقط كي أثبت نجاحي لكن…كي أنسى كل ما خسرته!!
جلست على أحد الكراسي جواره وهي تربت على ساعده لتسأله بتردد:
_هل فكرت ماذا ستفعل مع ميادة؟!
أشاح بوجهه وهو لا يدري بماذا يرد…
هو لا يحاول حتى التفكير بشأن ميادة …
إحساسه بها معطلٌ…ليس بها هي فحسب…
بل بكل شئ…
قلبه الآن يبدو كجديب مقفر …
دقاته فقيرة مفلسة تنبض بخواءٍ لم يعرفه يوماً…
هل هذا هو عقاب القدر له على أنه لم يقدر قيمة الحب الذي كان له يوماً بملء الكون …؟!!!
أم هو الدرس الذي كان يجب أن يتعلمه بثمنٍ غالٍ؟!!
وما أغلى من العمر لو تسرب من بين أناملنا بلا هدف…وبلا معنى؟!!
لهذا زفر بقوة ثم عاود الالتفات نحوها ليقول مغيراً الموضوع:
_كيف حال ماسة؟!
هزت رأسها بأسف وهي تحكي له باقتضاب عن انتحار حورية …
فهب من مكانه ليهتف بانفعال:
_أنا أخبرتكِ عن جبروت هذا الرجل ولم تصدقيني….لقد دفع زوجته للانتحار…فهل سنترك له ماسة ليفعل بها المثل؟!
نظرت إليه رحمة بتفحص وهي تفكر…
هي لا تنكر أن هذه الفكرة جالت برأسها أيضاً عندما علمت عن الأمر واشتعل صدرها قلقاً على ماسة…
لكن ماسة نفسها هي التي بعثت في نفسها الطمأنينة من جديد وهي تشرح لها -دون التطرق لسر حورية المشين- كيف يعاملها عاصي بمنتهى الحنان والاحتواء!!
لهذا صمتت قليلاً ثم قالت بهدوء:
_ماسة سعيدة معه …اطمئن!!
يطمئن؟!!
كيف له أن يطمئن؟!!
كيف له أن يشعر بالراحة أو أن يحاول حتى التفكير في مستقبله مع ميادة وهو مكبلٌ بقلقه على ماسة…؟!!!
بثقل وزر ضميره اللائم له على تفريطه فيها حتى دفعها بين أحضان ذاك الرجل القاسي؟!!
ماسة لم تكن فقط حبيبته التي حرمته منها الظروف…
ماسة ستظل مسئوليته مثل رحمة تماماً…!!!
وعاصي الرفاعي كما يعرف الجميع ليس أهلاً لبريئةٍ نقية مثلها…
بل ووحيدة بلا سند!!!
سيكسرها كما كسر زوجته الأولى ومن يدري ربما دفعها لنفس مصيرها في النهاية…!!!
فكيف بعد كل هذا يطمئن؟!!
لكن ماذا بيده الآن وماذا بقي له في جعبته؟!!!
العروس راضية ورحمة مطمئنة وأي حديثٍ له في هذا الشأن صار محرماً عليه!!!
لهذا عاد يزفر بقوة من جديد ثم توجه نحو غرفته رافضاً دعوة رحمة للطعام بدعوى أنه ليس جائعاً…
قبل أن يغلق الباب خلفه بقوة لتحمله قدماه إلى فراشه الذي استلقى عليه بإنهاك…
نعم…هذا الفراش الذي كان يوماً لماسة قبل أن ترحل من هنا…
لهذا مد أنامله ببطء يتحسس وسادته التي كانت ملقيةً أمامه وهو يسترجع ذكرياتهما البريئة المطعمة بالسحر…!!!
ثم دمعت عيناه وهو يشعر أن الوزر ثقل حقاً على قلبه حتى ما عاد يحتمل…
لابد أن يفيق من أضغاث هذا الحلم…
نعم…ماسته الرائعة لم تعد سوى حلمٍ رقيق داعب خياله يوماً بأروع مشاعر عرفها لكنه للأسف أبى أن يستمر….
وكما أقسم لنفسه أن يتخلص من كل قيود ماضيه فيجب أن يكون قيد ماسة أول ما ينكسر…
حب ماسة الذي بدأ نقياً طاهراً كشعاع شمسٍ بكرٍ أشرق على الدنيا لينير كل ما يسقط عليه…
لكنه انتهى بوزرٍ ثقيل كزجاجة حبرٍ سقطت على أوراق عمره فلطختها للأبد!!!
والآن عليه أن يتجاوز كل هذا الحطام من أشلاء ماضيه لعله يدرك ما بقي من أيامه…
لعله يكمل طريقه الذي بدأه واختاره بنفسه بعيداً عن سلطان أبيه…
وبهذه الفكرة الأخيرة اعتدل في فراشه من جديد ليتناول حاسوبه المحمول من جواره…
ويشرع في الكتابة على مدونته…
قلبي…
وجفت من دموع اليأس مآقيه…
سيرجوكِ ألا ترحلي …
فلا تسمعيه!!
سينهاكِ عن أن تهجري…
فانهريه!!
سيصرخ أنه دونكِ نجمٌ …
فقد الليل الذي يؤويه!!!
بالله لا تترددي…
امضي بعيداً واتركيه!!!
صُبّي عليه لعنات يأسكِ…
ولشأنه دعيه!!
صوبي نحوه رمح الغدر…
وبحزمٍ أطلقيه!!!
أحمقٌ قلبي كملاح الهوى…
يبحث عن بحرٍ يتوه فيه!!
فبالله مهما تضرع إليكِ…
لا ترحميه!!
مَن ذي سواكِ ملكت مفاتِحه؟!
مَن ذي سواكِ تغللت كالسحر في نواحيه؟!!
مَن غير ماسته استباحت هزيمته…
ونثرت الشوك في طرقات ماضيه؟!!
من قال أن السماء تنسى حمائمها…
والشمس تنكر أفقها الذي تعتليه؟!!
يا من غزلتِ العمر نسجاً بين كفيكِ…
كما أجدتِ أسر القلب يوماً…
أعتقيهْ!!
لملمي عنه ثوب عشقكِ…
ومن فردوسكِ اطرديه!!
لا تمنحيه عبير ذكرى تارةً تدميه…
وتارةً تشفيه!!
قد قدّر الهوى لنا فراقاً…
وسخطت علينا لياليه!
وانطفأ نجم الحب في مقلتينا…
فلن أوقظه أنا…ولن تشعليه!!
والقلب بعدكِ ما عاد يعنيني…
عدمٌ…
جمادٌ لا بعث يحييه…
ما عاد يجديني قلبٌ أشقى بحرقته…
ما عاد يجديني قلبٌ أنتِ فيه!!!
وفي مكانها كانت ميادة تقرأ كلماته التي كانت تترقبها كل يوم ….
وهي تراها نافذةً صادقة على ما يدور بقلبه…
لكن عينيها اتسعتا بصدمة وهي تقرأ آخر ما كتبه عزيز بعد هذا…
لقد كتب أنها قصيدته الأخيرة وأنه سيغلق مدونته بعدها نهائياً!!!!
هذه الكلمات التي زلزلت كيانها فلم تعد تدري هل تفرح لأن قلب الشاعر تمرد على ساكنته القديمة…
أم تحزن لأنها -هي- لن تكون له يوماً مليكةً جديدة!!!
للأسف…لقد ظنت أنها انتصرت على “قلب الشاعر” …والحقيقة أن كليهما خرج من حربه مهزوماً جريحاً!!!
“عزيز قلبها” الذي تسلل خلسةً بين دقاته ليعبث بها وينشر الفوضى في أرجاء روحها التي طالماظنت أنها تملكتها بزمام العقل…
والآن تشعر أنها -مثله- تائهة…ضالةٌ في صحراء بلا دليل…
وأن حياتها – كما حياته- أبداً لن تعود كما كانت…
نعم…كلاهما خسر هذه المعركة…
عقلها…و”قلب الشاعر”!!!
=====
_دعاء…دعاء!!!
ظلت زميلتها تكررها مراراً لكن دعاء كانت غارقة في إحدى نوبات شرودها -المرضي- حتى انتبهت لها أخيراً…
فتصبب وجهها عرقاً وهي تشعر بالارتباك كعادتها عندما تفيق من نوباتها هذه لتهتف بتوتر:
_ماذا حدث؟!
نظرت إليها زميلتها بتفحص للحظات ثم قالت بدهشة:
_أنا أناديكِ منذ دقائق وأنتِ لا تردين…أنا حتى خبطتك في كتفكِ لكنكِ لم تكوني تشعرين بشئ.
ازدردت دعاء ريقها بصعوبة وهي تمسح جبينها المندّى بعرقها قبل أن تختلس نظرة نحو معتصم الذي كان يرمقها بنظرات قلقة وقد بدا عليه الاهتمام عندما قالت هي بتلعثم:
_لا شئ…كنتُ شاردة فحسب!!
عقدت زميلتها حاجبيها بشك وهي تعاود قولها بإلحاح:
_لم يكن شروداً عادياً…لقد كنتِ تقريباً فاقدةً لوعيك رغم عينيكِ المفتوحتين…اسمعي نصيحتي وراجعي طبيباً…ربما يكون الأمر…
قاطعتها دعاء بسرعة وهي تهتف بعصبية غريبة على طبعها المرح:
_أنا لست مريضة…والآن أخبريني ماذا كنتِ تريدين؟!
انعقد حاجبا معتصم والقلق يعتصر قلبه أكثر عليها…
هذه ليست المرة الأولى التي يلاحظ فيها نوبات شرودها هذه…لكنه كان يعزو الأمر لانشغال فكرها بشئٍ ما…
لكن انفعالها هذا الآن مع ارتباكها الواضح ربما يعني ما هو أكثر…
أتراها تكون حقاً…مريضة؟!
انقطعت أفكاره عندما رأى زميلتها تخرج غاضبة بخطوات مندفعة فالتفت نحوها وهو يتردد في الكلام حتى حسم أمره ليسألها ببعض التحفظ:
_أنتِ بخير؟!
اختنق قلبها بفرط مشاعره وهي تشعر بهذا الحنان الذي كان يقطر من كلماته رغم تحفظها…
لكنها لامت نفسها على هذا الشعور فهو لم يعد من حقها بعدما اختارت بإرادتها رجلاً آخر…
لهذا أطرقت برأسها وهي تتمتم بخفوت:
_الحمد لله.
أغمض عينيه بألم وهو يتمنى الآن لو يقترب منها أكثر…
أكثر بكثير…لو يغرسها بين ضلوعه…لو يلصقها وشماً على بشرته…لو يمتلك حتى أنفاسها فلا تكاد تلتقطها إلا مشبعةً برائحته…
لو….!!!
ولو…..!!!!
وكم من “لو” في صدره حلم بها لكنها تبقى مجرد أمنيات…!!!
لهذا تنهد في حرارة وهو يطرق برأسه هو الآخر مستحضراً صورتها ليلة عقد قرانها تتأبط ذراع ذاك الرجل -العظيم – الذي أسعدته الظروف بتملك كل شئ…
المال والوجاهة والنفوذ…و”هي”!!!
بينما حرمته هو كل هذا!!!
أما هي فقد كانت هائمةً في وديان حزنها المشبع بحيرتها وعجزها …
لهذا ابتسمت بسخرية مريرة عندما سألها هو بلهجة أكثر مرارة :
_سعيدة؟!
وتنهيدةٌ حارة عقبت تلك الابتسامة قبل أن تغمغم هي بألم شق قلبيهما معاً:
_راضية!!
ثم أردفت بضحكةٍ قصيرة مختنقة:
_مشيناها خُطيً كُتبت علينا…ومن كُتبت عليه خُطيً مشاها!!
زاد ألمها الصارخ بعجزها من ضيقه وهو يتأملها بتفحص…
ما الذي حدث لها؟!!!
وكيف تبدلت هكذا في أيام قليلة؟!!
أين هذه الشاحبة البائسة من “دعاء” محبوبته التي كانت تملأ الدنيا صخباً ومرحاً؟!!!
أين هذه الشاردة دامعة العينين من صورتها القديمة بتألقها وضحكتها الرائقة؟!!!
ألا يُفترض أن تكون الآن سعيدة ؟!!!
لكنها للأسف تبدو على العكس…
لقد ذبلت وردته…جفت بتلاتها النضرة وانثنت على عودها وكأنها تنتظر النهاية!!!
هل هو حقاً من خذلها؟!!
أم هي من خذلته؟!!
أم أن الأيام خذلتهما معاً؟!!!!
وبهذا الشلال الجارف في صدره من شعوره الكاسح والذي انهارت أمامه كل سدود كتمانه وتعقله…وجد نفسه يهتف بانفعال:
_لا!!!لا تتذرعي بالقدر والمكتوب…ربما لم أختر أنا قدري…لكنكِ أنتِ اخترتِ!!
وعند هذه اللحظة سالت دموعها التي طالما حبستها علي وجنتيها وقد تهاوت كلماتها ساجدة أمام صمتها الجريح…
فاستفزته دموعها أكثر ليهتف بانفعال أقوى:
_لم أختر ظروفي…لم أختر مسئولياتي…ولم أختر فقري…
ثم زفر بقوة وهو يشير نحوها بإصبعه المرتعش انفعالاً ليردف:
_أنتِ الشئ الوحيد الذي اخترته …وللأسف…لم يكن لي.
تهدج صوته في عبارته الأخيرة وهو يلوم نفسه -مرة- على اندفاعه…
و-ألف مرة- على اعترافه!!!!
اعترافه الذي استجدى دموعها أكثر والصورة تتضح الآن في ذهنها كاملة…
معتصم لم يتخلّ عنها زهداً بل عجزاً!!!!
الغافل ظنها سترفضه لفقر حاله الذي يعيبه ولم يدرِ أنها مثله “معيبة”!!!
نعم…كلاهما وقف أمام حائط مسدود من “عيب” لم يكن له ذنب فيه…
فقره…ومرضها!!!!
وربما لو كان أحدهما قد مد يده للآخر لتمكنا سوياً من هدم الحائطين معاً!!!
لكن للأسف…بقيت النفوس على صمتها…وبقي الحائط على حاله!!!!!
لهذا رفعت رأسها إليه وهي تهتف بحسرة مشوبة بعتابها:
_تقولها الآن يا معتصم؟!!الآن؟!!
اشتعلت ملامحه أكثر بعاطفته المختنقة بعجزه وهو يخبط بكفه على المكتب ليهتف دون وعي وقد أنساه الموقف الزمان والمكان:
_أنا أتيت حتى باب بيتكِ تلك الليلة…أتيتُ رغم يقيني من أن الثمرة المحرمة لن تكون لي…لكنني فعلتها فقط كي لا ألوم نفسي فيما بعد عن خذلاني لك ولنفسي قبلك.
اتسعت عيناها بصدمة وهي تنظر إليه هامسةً بذهول:
_أتيت لبيتي؟!متى؟!
أغمض عينيه بألم وهو يطرق بوجهه مغمغماً بيأس وهو يشعر أن كل هذا مجرد حلم يقظة من أحلامه التي لا تفارقه بها:
_ليلة عقد قرانك…جئتُ لأراكِ …معه!!
ثم رفع إليها عينين صاخبتين بغيرةٍ سوداء وهو يردف بغضب قاسٍ:
_يده تحتضن يدك…وعيناه متعلقتان بك…وشفتاه تلاصقان أذنكِ بحديث لا أسمعه لكنني أكاد أستشعر حرارته تحرقني.
شهقت بعنف وهي تضع كفها على شفتيها لتجيبه بدموع هي أبلغ من أي حديث…!!!!
لقد جاءها معتصم أخيراً معترفاً بحبه…
شاكياً لوعته وغيرته…وآه لو يعلم!!!
لو يعلم أن يد “الآخر” لم تكن تحتضن يدها…بل…تعتصرها!!!
لو يعلم أن عينيه لم تكونا متعلقتين بها حباً بل…تسلطاً!!!
لو يعلم أن همسه -الذي اكتوى بتخيل حرارته- لم يكن مناجاة عشق بل …أوامر صارمة!!!
لو يعلم أن ما رآه وأحرقه غيرةً هكذا…أحرقها هي قبله لكن بنيرانٍ أخرى…
نيران يأسٍ وعجزٍ…وتخبط بين دوامات ابتلعتها كاملة فما عادت ترى فارقاً بين وهمٍ وحقيقة…
أو صوابٍ وخطأ!!!
بينما كان هو يحتضن ملامحها الباكية بعينين عاجزتين قهراً ليغمغم بعد لحظات صمت طالت:
_لا تبكي يا دعاء…أرجوكِ…أنا آسفٌ لانفعالي …آسفٌ لاعترافي هذا الذي لا أدري كيف غادر سجونه بعدما حرصت أنا طوال تلك الفترة على حبسه…لكنني لن أزعجكِ بعد الآن.
مسحت دموعها بأناملها وهي ترمقه بنظرة متسائلة…
فأردف بحزن قاتم:
_لقد جاءتني فرصة السفر التي طالما حلمت بها…والآن لا أدري هل سيخف الحمل حقاً أم سيزداد ثقلاً..لكن يبدو أن القدر اختار ابتعادي عن هنا هذا الوقت بالذات رحمةً بكلينا!!
رفعت رأسها لأعلى وهي تتمنى الآن لو تصرخ…
صرخة عالية بحجم كل هذا القهر الذي يبسط سلطانه على روحها …
بحجم كل هذا الألم الذي اصطبغت به أيامها…
وبحجم كل هذه الحسرة التي نسجت شباكها على القلب كخيوط العنكبوت…!!!
لكن حتى هذه الصرخة بدت عزيزة المنال…
فدفنتها داخل دوامة الصمت التي عادت تبتلعها وهي تسمعه يقول بلهجته المتحسرة الغريبة على أذنها اليوم:
_أنتِ اخترتِ البديل الأفضل…فلا تلومي نفسك.
لتلتقي بعدها عيناهما فيما بدا كوداعٍ قصير انتهى بقوله :
_فقط…كوني سعيدة لأنكِ تستحقين هذا!
تجمدت وقتها مكانها وهي تشعر أنها صارت جثة بلا روح…
حتى أنها لم تشعر به وهو ينسحب بعدها ليخرج من المكتب تاركاً إياها وحدها …
لتبقى دقائق غارقةً في شرودها -الآثم- به وهي تشعر أنها عالقةٌ بين خيارين أحلاهما مرّ…
رجلين تنازعا السلطة على عالمها البسيط …
أحدهما بحبٍ عاجز…والآخر بقسوة متسلطة…
فهل يمكن لعاقل أن يسلم دفة سفينته لأيٍّ منهما؟!!
ورغماً عنها وجدت نفسها تتساءل ذات السؤال الأزليّ الذي طالما اغتال أحلامها الوردية…
هل سيبقى معتصم على حبه الذي يزعمه لو علم عن مرضها؟!!!
هل ستحتفظ نظراته بوهج عاطفتها لو رآها في إحدى نوبات صرعها؟!!
هل سيشعر وقتها بهذه الغيرة التي يحكي عنها من حسام أم سيحمد له صنيعه أنه خلصه من ورطة كهذه؟!!
تنهدت بحرارة وهي تسند رأسها على كفيها مدركةً أن تساؤلاتها لن تجد لها جواباً…
وأن العقل والمنطق وقبلهما…الضمير يناشدونها الاستسلام لمصيرها مع حسام…
نعم…
ربما يكون معتصم حلماً وردياً لكنه يبقى مجرد حلم…
ووحده حسام هو الواقع الذي منحه لها القدر وربما عليها الآن أن تقبله شاكرة!!!
لم تكد تتم فكرتها حتى سمعت رنين هاتفها باسمه…
نعم…حسام!!!
ابتسمت بسخرية باهتة وهي تفتح الاتصال لتلقي السلام بفتور…
عندما وصلها رده أكثر فتوراً :
_أنا أنتظرك بالأسفل…سنتناول الغداء في بيت أمي.
قالها ثم أغلق الاتصال دون كلمة أخرى!!!
إذن فقد عاد سيادة الرائد من مأموريته أخيراً ليتذكر تلك التي تركها خلفه طيلة تلك الأيام دون حتى سؤال…!!!
وكأنه يؤكد لها أنها ليست سوى دمية امتلكها يلاعبها متى شاء ثم يعيدها مكانها على الرف ريثما يعاوده مزاجه للمزيد من اللعب!!!
نعم…لازالت ترى نفسها تلك “الدمية المعيبة” بَخْسة القدر زهيدة الثمن!!
وبهذه النظرة السوداء ختمت صراع أفكارها ثم تطلعت لساعتها لتجد ميعاد الانصراف حقاً قد آن…
سيادة الرائد يعرف حقاً متى يقتنص فرصته في الموعد المناسب بالضبط!!
زفرت بحرارة مشتعلة وهي تلتقط حقيبتها لتلقي نظرةً حارة على مكتب معتصم -الخالي- قبل أن تتخذ طريقها لتغادر…
=============
ركبت جواره السيارة وهي تختلس نظراتٍ مترقبة لجانب وجهه الذي لم يلتفت به إليها منذ ركبت ولا حتى بتحية !!!
ورغم أن هذا لم يعد يدهشها مع تصرفاته الغريبة التي لا تفهمها لكنها شعرت بضيقٍ زاد من الثقل الجاثم على صدرها…
لتستعيد وقتها كلمات ماسة معها وهي تنصحها بأن تتقبل حسام طالما صار الآن هو خيارها الوحيد…
مع شعورها -الخفيّ- بالذنب نحوه بعدما كان من حديثها منذ قليل مع معتصم …
نعم…حسام- مهما كان -الآن زوجها وكان يجب عليها أن تحترم غيبته …
لكن ما حيلتها وقد سارت الأمور هكذا بلمح البصر ليأتيها اعتراف معتصم في هذا التوقيت بالذات…؟!!!
ك-كسرة خبزٍ فاسدة- لا تسمن ولا تغني من جوع!!!
لهذا تنهدت بحرارة ثم استجمعت قوتها لتغمغم دون أن تنظر إليه:
_متى عدت؟!
التفت نحوها دون رد لتلتقي عيناهما لأول مرة منذ ركبت جواره…
فانتابتها قشعريرة باردة وهي تشعر بعينيه -الصقريتين- تجرحانها!!!
رباه!!!
هل من الممكن أن تكون النظرات هكذا لاسعة حارقة مدببة بسنون من قسوة باردة؟!!!
نعم…لقد بدت لها نظراته وقتها كسياطٍ ألهبت روحها جلداً…
أو كجحيمٍ أسود هوت في قراره دون رحمة!!!
لهذا ازدردت ريقها ببطء ثم أطرقت برأسها هرباً من عينيه لتهمس بصوت خرج رغماً عنها مرتعشاً:
_حسام…اسمعني جيداً…إذا كنا سنمضي في حياتنا معاً فلنغير هذا الأسلوب…دعنا ننسَ كل ما فات…ولنبدأ صفحة جديدة.
ابتسامة ساخرةٌ ولدت الآن على شفتيه ثم اتسعت رويداً رويداً حتى تحولت لضحكة سوداء طويلة قبل أن يقول بتهكم لاذع:
_ممتاز…وماذا نسمي هذا إذن؟!!مبادرة صلح ؟!
ارتجف جسدها دونما سبب وهي تشعر بخوف حقيقي لكنها استدعت بعضاً من قوتها لتهمس ولازالت عاجزةً عن النظر إليه:
_نعم…يمكنك اعتبارها كذلك…أنا حقاً تعبت!!
كان قد وصل ساعتها إلى بيته فأوقف سيارته ثم التفت نحوها لتلتمع عيناه ببريق عابث وهو يقول بلهجته التي مزجت تهكمها بقسوتها:
_هل هذا تأثير غيابي عنكِ طوال هذه الأيام؟!!
أغمضت عينيها تخفي عنه استنكارها لما يقول …
لكن إن كان يروقه أن يفهم هذا فليفهمه!!!
إن كان يريد الشعور بأنها اشتاقته فليفعل!!!
فقط فليكفّ عنها أذاه وليسمح لها بهدنة لتلتقط أنفاسها بعد كل صخب المشاعر هذا!!
فتحت عينيها عندما شعرت به يترجل من السيارة ليفتح الباب جوارها ثم يلتقط كفها – بمنتهى الأناقة- كعادته في الأماكن العامة…
فاستسلمت لشعورها -الزائف-بالرضا وهي تسير جواره حتى صعدا لشقة والدته التي أغلق بابها خلفه…
ليتطلع إليها بنظراتٍ متفحصة زادت ارتباكها…
فتلفتت حولها لتسأله بتوتر:
_هل أساعد والدتك في إعداد الطعام؟!
اقترب منها أكثر حتي لاصقها أمام نظراتها التي تصارعها الخجل والخوف ليكتنف وجهها براحتيه هامساً بقسوته الثلجية:
_نحن وحدنا …أمي ليست هنا.
شهقت بعنف ودقات قلبها تتسارع بجنون لتهمس وسط لهاثها السريع:
_لكن أنت قلت…
تسلل إبهامه إلى شفتيها مقاطعاً حديثها وهو يضغطهما ببعض القوة ليهمس بنفس النبرة المسمومة:
_قلت سنتناول الغداء في بيت أمي…ولم أقل أنها ستكون موجودة!!
ارتجف جسدها أكثر وهي تتشبث بحقيبتها لتهرب بصعوبة من حصار عينيه هاتفةً بارتباكٍ لم يدارِ خوفها:
_هذا لا يليق يا حسام…نحن لازلنا…
قطعت عبارتها مع شهقتها الحادة وهو يجذب منها حقيبتها ليلقيها بعيداً قبل أن تنغرس أنامله بعنف في خصرها فتأوهت بضعف وصوته يصلها قاسياً كعادته:
_كنتِ تريدين ورقة زواج لتضمني فرصتكِ الثمينة…وأنا منحتها لكِ…فماذا تريدين أكثر؟!
تبدل كل خوفها غضباً في لحظات وهي تدفعه بكفيها في صدره لكنه لم يحرك ساكناً بل اشتعلت نظراته أكثر لتهتف هي بانفعال:
_هل ستعود لهذا الحديث؟! ألن تتوقف عن إهاناتك؟!!
هز جسدها بعنف وأنامله تنغرس أكثر في خصرها ليهتف بغضب أسود:
_لماذا تخجلين من الحقيقة؟!ألم تبيعي حبكِ لزميلك ذاك لأجل صيدٍ ثمينٍ مثلي؟!!
ارتخى جسدها كله بين ذراعيه فجأة من وقع صدمتها !!
ثم هزت رأسها هامسة بذهول:
_ماذا تقول؟!
اقترب بوجهه من وجهها ليهمس ببطء حارق:
_أنا …سمعت…كلامكما …في المكتب….منذ قليل.
أغمضت عينيها في انهيار تام وهي تتوقع الأسوأ…
لتجد نفسها تتمتم دون وعي:
_ليس الأمر كما تظن!
كز على أسنانه بغضب وهو يود الآن لو يخنقها خنقاً..
لقد كان يشك في وجود علاقة ما بينها وبين زميلها ذاك منذ رآه معها في المكتب أول مرة…
فنظراتهما العاشقة لم تكن لتفوتها عيناه الصقريتان…
لكنه تأكد اليوم عندما كان ذاهباً إليها بالمصادفة ليستمع لحوارهما كله…
ويفهم الحقيقة -كما صورها له عقله-..
الحقيقة التي جعلته يتوعدها بانتقامه أكثر وهو يراها صورة من نفسه -هو- في الماضي!!!!
نعم…نفس الصورة الدنيئة للمرء عندما يبيع- حبه -لأجل المادة…
عندما يبيح لنفسه الغدر تحت مسمى “المصلحة”!!!
عندما يذبح قلباً آخر لا ذنب له سوى أنه آمن له بعذر “النصيب”!!
لقد فعلها هو يوماً فحصد ندم العمر كله…
والآن يقسم لنفسه أن يجعل هذه المرأة أمامه تحصد مثله!!!
ربما هو لم يقصد في البداية أن يتزوجها لأجل هذا…
بل لغرضٍ آخر…
نعم….كانت مجرد “فرصة مناسبة” لرجلٍ في “ظروفه” …
جمالها الذي يرضي واجهته الاجتماعية التي أقسم ألا يمسها أحد…
ومرضها الذي سيجعلها مجرد جارية تحت قدميه لا تجرؤ حتى على رفع عينيها في وجهه!!
خاصةً مع “عيبه” الذي لم تكن لتقبله امرأة أخرى بسهولة!!!!
لكنه الآن بعد ما عرفه عن ماضيها والذي هو صورةٌ لماضيه سيحرص أن ينتقم منها الانتقام الذي تمنى لو ينتقمه من نفسه هو!!!
نعم…سيأخذ منها حق “طيف” الذي عجز أن يأخذه من نفسه…
ويعلم قلبها الدرس الذي تعلمه هو جيداً لكن بعد فوات الأوان!!
هذه “العابثة” التي تظن نفسها تتلاعب بقلوب الرجال فتوقع زميلها ذاك في حبائلها ثم تضعه على قائمة الانتظار حتى تجد من هو أفضل…!!!
والآن فرصته ليريها ماذا سيفعل بها هذا “الأفضل”!!!
وبهذا التفكير -المريض- الأسود دفعها أمامه ولازال مطبقاً بقبضتيه على خصرها حتى وصل بها إلى إحدى الغرف أمام نظراتها المذعورة…
ثم توقف أمام أحد الأدراج الذي فتحه ليستخرج منه زوجاً من الأساور المعدنية التي أحاط بها معصميها بسرعة ثم أغلقهما بعنف وسط صدمتها المهولة بما يفعله!!!!
لكنها ما كادت تفيق من صدمتها حتى هتفت بحدة رغم ارتجاف صوتها:
_هل جُننت؟! أنت تلبسني الأساور المعدنية كالمجرمين؟!!
برقت عيناه الصقريتان أكثر وهو يدفعها ليجلسها على الأريكة بعنف…
ثم جذب مقعداً ليجلس قبالتها وهو يميل بجذعه عليها هامساً ببرود قارص أمام عينيها المرتعدتين:
_يقولون أنني أفضل ضابط استجواب…أعرف دوماً كيف أنتزع الاعتراف من بين شفتي المرء …وبأي طريقة!!
قست نبراته أكثر في عبارته الأخيرة فتجمدت مكانها وهي تطالعه برعب حقيقي قبل أن تشهق بعنف وقبضته تعتصر عنقها بقسوة مع همسه الذي بدا لها كالفحيح:
_حتى لو فككت عنكِ هذه الأساور…يجب أن يبقى هذا شعوركِ معي دائماً…أنتِ سجينتي…أسيرتي التي لن يكتب لها عتق…هل تظنين نفسكِ ذكية بما يكفي لتبدلي الرجال في حياتكِ كقطع الشطرنج؟!!لا يا صغيرة…لقد وقعتِ في شر أعمالك…حسام القاضي لا يتلاعب به أحد!!
سالت دموعها المذعورة على وجنتيها وهي تشعر بالألم من فرط ضغطه على رقبتها فهمست برجاء مذعور:
_اتركني يا حسام…أنا أختنق!!
ظل يحاصرها لدقائق بين نظراته الصقرية وقبضته المحكمة على عنقها حتى ما عادت تدرك أيهما يخنقها أكثر…
ثم بدأ في فك حصار أنامله حول رقبتها ببطء فتنفست الصعداء ثم صمتت لدقائق تستجمع أنفاسها اللاهثة أمام نظراته القاتلة….
حتى وجدت بعض القوة لتهمس بين عبراتها:
_أنت أخطأت الفهم…هو فقط كان…أقصد …مجرد…
قطعت عبارتها بذعر وهي تراه يقترب منها من جديد لينزع عنها حجابها ببطء قتلها ترقباً…
قبل أن تمتد أنامله بنفس البطء لتفك أزرار ردائها ونظراته تتثاقل عليها مع همسه المرعب:
_لازلتِ تصرين على المراوغة…نجرب إذن طريقة أخرى!!
عادت بظهرها مبتعدةً إلى الوراء وقد أنساها غضبها خوفها لتهتف بانفعال:
_هذا الكلام تقوله للعاهرات اللائي تصادفهن في عملك…وليس لزوجتك…تعقل يا حسام وإلا سأصرخ وستكون فضيحة!!
لم تكد تتم عبارتها حتى فوجئت بقبضته تلجم فكها وهو يميل عليها بجسده الذي جاورها على الأريكة قبل أن يهمس بتهكم قاسٍ:
_لماذا تبالغين هكذا يا “زوجتي العزيزة”؟!!!ألا تريدين تجربة “الجنة” التي بعتِ حبكِ من أجلها؟!!
صرخت بقوة لكن صرختها لم تغادر حلقها مع أنامله التي كتمتها وهي تشعر بلمساته الخشنة تنتهكها بقسوة لا آدمية…
وجسدها ينتفض بقوة ذعرها وإحساسها الرهيب بالقهر والذل…
حتى شعرت بالدوار يلفها لدقائق غابت فيها عن إدراكها الفعلى ….بل عن الحياة ….!!!
لكنها أخيراً وجدت بعض القوة لتدفعه بركبتيها في صدره قبل أن تميل بجسدها للأمام فتفرغ كل ما بمعدتها على الأرض !!!!!
تراجع بظهره للوراء وهو يرمقها بغضب مشتعل…
فمسحت شفتيها بأناملها ثم رفعت عينيها الذابلتين إليه لتهمس باحتقار بين لهاثها السريع:
_هذا ما تثيره فيّ فقط يا سيادة الرائد…اشمئزازي!!!
هنا هوت راحته على وجنتها بصفعة مدوية قبل أن يقف ليهتف بقسوة:
_أنا سأعرف كيف أجعل أيامكِ معي جحيماً حقيقياً…ستتمنين الموت ألف مرة ولن تناليه!!
هبت واقفةً من مكانها وهي ترفع يديها المكبلتين أمام وجهه لتهتف بصوت متقطع غارق في انفعاله:
_لا تظن أن أساورك هذه هي قيودي الوحيدة؟!!لا يا سيادة الرائد…قيدي معك بدأ بمرضي وانتهى بأهلي…أهلي الذين صاروا لا هَمّ لهم سوى الخلاص من وزري الثقيل…أنا لم أفعل ما أخجل أن أصارحك به…نعم …أحببت معتصم لكنه كان مثلي مقيداً بأغلاله فلم يتمكن أحدنا من تحرير الآخر…أنا لم أتلاعب بأحد …أنا رفضت الزواج منك بقدر استطاعتي لكنني فقط رضخت لرغبة والديّ…وربما كان هذا هو ذنبي الوحيد.
ظل يرمقها بنظراته الصقرية للحظات ثم أعطاها ظهره …
فاقتربت منه بحذر لتقول بحزم مشوب بالرجاء:
_طلقني يا حسام…طلقني وصحح هذا الخطأ..لازلنا في مرحلة عقد القران والحمد لله أننا لم نتورط في زواج حقيقي….مادمت تشك في أخلاقي فلماذا تُبقي على زوجة مثلي؟!!
التفت نحوها متفحصاً ملامحها الشاحبة والتي بدت صادقة لأبعد حد…
قبل أن يقول بصوت عاوده بروده القاسي:
_لو كنت أشك في أخلاقك لما خرجتِ أنتِ من مكتبكِ إلا جثة هامدة.
تطلعت إليه بدهشة وهي تشعر أنها حقاً لم تعد تفهم شيئاً…
هذا الرجل كابوسٌ حقيقي…غاصت بقدميها في وحل جنونه وعقده النفسية المريضة…
ويبدو أنها لن تستطيع الخلاص!!
لكن بعض الأمل انتعش في صدرها عندما وجدته يلتقط هاتفه ليجري اتصالاً وقد لمحت على الشاشة رقم والدها…
هل اقتنع بكلامها حقاً وسيطلقها؟!!
أم أنه ينتوي فضحها أمام والديها؟!!
ظلت ترقبه بتوجس وهو يتحدث إلى والدها بتهذيبه -الأنيق- الذي صارت تدرك -بحق- مدى زيفه…
وقلبها يخفق بصدرها في ترقب منتظراً كلماته التالية…
كلماته التي أصابتها في مقتل وهو يعاود الالتفات نحوها معتقلاً عينيها بسجون قسوته وهو يردف بنفس اللهجة الأنيقة:
_لا أجد داعياً لنطيل فترة عقد القران هذه يا عمي…شقتي جاهزة وأنا سأتكفل بما بقي من أشياء…دعنا نحدد موعداً قريباً للزفاف.
رفعت أناملها المقيدة على شفتيها تكتم صرخة دهشتها وقهرها فتألقت عيناه ببريقها الصقري أكثر…
وهو يقول ضاغطاً على حروفه:
_نعم يا عمي…دعاء معي…وهي موافقة!
=
كانت ماسة عائدةً من المشغل بصحبة أحد الحراس الذي لم يكن يفارقها حسب أوامر السيد عاصي…
نعم…برغم أنه لم يعد للمدينة منذ ما يزيد عن عشرين يوماً لكنها فوجئت منذ أيامٍ بأحد الحراس يخبرها أن المشغل قد تم تجهيزه كاملاً وأن بإمكانها الذهاب إليه متى شاءت حسب أوامر السيد عاصي…
وبرغم سعادتها الجارفة بهذه المفاجأة لكنها كانت تتمنى لو يخبرها هو بنفسه…
اشتاقته؟!!
نعم…كثيراً…
كثيراً جداً في الواقع!!
لكن يبدو – للأسف- أنه لا يشاركها هذا الإحساس…
فهو لم يهاتفها طيلة هذه الفترة ولو مرةً واحدة…
وحتى عندما فعلتها هي منذ أيام لتعرف مكانه أو على الأقل تطمئن عليه… لم يرد على اتصالها!!!!
نعم…فعلتها مرة…وأبى عليها كبرياؤها أن تعيدها!!!
فاستسلمت لهذا الوضع كارهة واكتفت بعملها الجديد الذي يستهلك الكثير من وقتها وتفكيرها…
وكم هي بحاجة لهذا الآن…!!!
قُطعت أفكارها عندما وصلت إلي القصر فتركها الحارس لتدخل هي إلي البهو الكبير…
لكنها فوجئت بسيدة كبيرة السن تجلس على أحد الكراسي هناك ويبدو أنها تنتظرها!!!
تقدمت منها ماسة بخطواتٍ بطيئة وهي ترمقها بنظراتٍ متوجسة فقد كانت المرأة تنظر إليها بطريقة غريبة أقرب للقسوة…
حتى صارت ماسة قبالتها تماماً فقالت بهدوء لم يُخفِ دهشتها:
_عفواً يا سيدتي… هل تنتظرين أحداً؟!
لكن الإجابة كانت صفعةً قاسية من كف المرأة الذي هوى على وجنتها وهي تصرخ بجنون:
_أنتظركِ أنتِ يا “خاربة البيوت”!!!!ابنتي قتلت نفسها وابنها حسرةً على زوجها الذي رميتِ شباككِ حوله!!!
وضعت ماسة كفها على وجنتها وقد دمعت عيناها بألم قبل أن تدرك الأمر لتهمس بعد لحظات:
_أنتِ والدة السيدة حورية؟!!
انتحبت المرأة بقوة وهي تنهار جالسةً على كرسيها من جديد لتهتف بين دموعها وهي تلطم خديها :
_ابنتي الغالية ماتت في عز شبابها بسببك أنتِ!!!لا أدري كيف استطعتِ أنتِ سحر رجلٍ مثل عاصي الرفاعي الذي قضى كل هذه السنوات دون زواج رغم أن الله لم يقسم لهما الولد!!!! وعندما يأذن القدر لابنتي بالفرج تأتين أنتِ لتقهري قلبها على زوجها؟!!!!
اتسعت عينا ماسة بصدمة وهي تستمع لكلمات المرأة !!!!
هل ترى الأمر حقاً هكذا؟!!
بالتأكيد!!!
فحورية -بالطبع-لم تخبر أحداً عن خيانتها لعاصي!!!
ومن الطبيعي أن يرى الجميع الأمر الآن هكذا!!!!
السيدة حورية انتحرت يأساً وكمداً بعدما مزقت الغيرة قلبها على زوجها الذي تزوج بممرضتها الفقيرة التي لا أصل لها !!!!
لاريب أن الناس في هذه المدينة الصغيرة الآن ينظرون إليها باعتبارها تلك الشيطانة الصغيرة التي أغوت سيدها لتخطفه من زوجته وتقتلها حسرةً!!!
قطعت أفكارها عندما فوجئت بالخدم يندفعون نحو السيدة الكبيرة التي كانت تصرخ بجنون وسط بكائها الهستيريّ وهي تهمّ بالتهجم عليها من جديد…
ليقفوا بينها وبين ماسة التي كانت لازالت مصدومة…
عندما سمعت بعضهم يرجوها أن تصعد لغرفتها بسرعة بينما شرع البعض الآخر يهدئ والدة حورية وهم جميعاً مشتتون لا يعرفون التصرف الصحيح في هذا الموقف…
فلو علم السيد عاصي أن أحداً ما قد صفع امرأته في بيته فغضبه سيحرق الأخضر واليابس!!!
وفي نفس الوقت هذه المرأة هي والدة السيدة حورية التي كانت سيدة القصر قبل وقتٍ قريب وكانت لها مكانتها هنا!!!
لكن ماسة قطعت عليهم حيرتهم عندما اندفعت بسرعة نحو غرفتها التي أغلقت بابها خلفها لتستلقي بعدها على سريرها وهي تبكي بحرقة!!!
هل كُتبت عليها الفضيحة في كل مكانٍ تسكنه؟!!!
ودونما ذنبٍ منها؟!!!
هل صار لزاماً عليها أن تتقبل الظلم والنظرات المنتقصة لقدرها دون جريرة؟!!!
ازداد نحيبها وهي تشعر بوحدتها هنا تزيد عذابها أكثر…
تناولت هاتفها وهي تفكر في الاتصال برحمة لعلها تخفف عنها…
لكنها لم تشأ أن تثقل عليها بالقلق لأجلها…
فارتجفت أناملها وهي تتلكأ على رقمه هو أمامها وقلبها يستحلفها أن تهاتفه هو الآن…
أن تخبره أنها تحتاجه…!!!
أن ترجوه العودة في أقرب وقت !!!
أن تتجرأ وتشكو إليه ما تعانيه منذ رحل وتركها!!!
لكنها لم تستجب لكل هذا وهي تلقي هاتفها جوارها بعنف لترفع عليها غطاءها وهي تهمس لنفسها بحزم:
_كوني قويةً يا ماسة…به أو دونه!!!
ابني حصنكِ بنفسكِ واحتمي به …
ارفعي بيديكِ أسوار قلعتكِ وتواريْ خلفها…
هو قال لكِ يوماً أن العاقل لا يستمد قوته من ضعيف…
لكنكِ اليوم تدركين أن العاقل لا يستمد قوته من أي أحد …قوياً كان أم ضعيفاً!!!
وبهذه الأفكار أغمضت عينيها بقوة تستجلب النوم الذي عاندها لساعات …
وهي تتململ على سريرها كمن يتقلب على جمر…
حتى انتفضت من فراشها وهي تشعر برأسها يكاد ينفجر من كثرة التفكير…
فتأوهت بقوة وهي تسند رأسها بكفيها قبل أن تنفض عنها غطاءها لتقوم من فراشها وهي تتخذ طريقها لتغادر غرفتها …
لتجد قدميها تحملانها قسراً لغرفته الخالية الآن وقد عجزت عن منع نفسها عن هذا…
طرقت الباب بخفوت كما تفعل كل مرة وهو موجود وكأنها تتمنى أن يرد عليها كالعادة…
لكن الصمت الثقيل كان نصيبها فتنهدت بحرارة وهي تفتح الباب برفق لتدخل وتغلقه خلفها…
دارت عيناها في الغرفة التي لم تدخلها منذ أيام طويلة …
وبالتحديد منذ سافر هو منذ ما يزيد عن عشرين يوماً…
لتتوقف ببصرها على تلك الأريكة هناك حيث كانت هي بين ذراعيه ليلتها تشاركه حزنه بإحساسها الصامت مكتفيةً بوجودها جواره!!
دمعت عيناها وأعماقها كلها تصرخ باحتياجها إليه …
فكتفت جسدها بذراعيها وهي تتقدم ببطء نحو فراشه لتتمدد عليه باستسلام…
ثم ألقت رأسها على الوسادة بإعياء وهي تتذكر عندما كانت تقضي ليلتها هنا معه…
ليحتويها بحنانه الدافئ وأنامله تغرس السكينة بين خصلات شعرها بحركته الفريدة…
فيبوح له لسانها بما عجزت عن البوح به لسواه …
ليستمع إليها بصبرٍ ينافس حنانه في سخائه….
فتنام بعدها قريرة العين مطمئنة وقد غادرتها مخاوفها وكوابيسها بلا رجعة!!!
ابتسمت رغماً عنها ببعض الحنين وهي تتذكر كل هذا…
ثم لم تدرِ بعدها كيف استكانت نبضاتها لمجرد الإحساس بأنها في غرفته…
برائحة عطره التي كانت عالقةً في ذرات الهواء حولها…
والتي تخللت مسام روحها برفق متملك مسيطر يشبهه…
حتى استسلم جفناها لإطباقهما المتهالك…
لتغرق أخيراً في سباتها العميق!!!
==========================
استيقظت من نومها على ملمس أنامله الخشنة على وجنتها ففتحت عينيها ببطء لتنتفض مكانها وهي تنظر حولها في دهشة …
قبل أن تعاود عيناها التعلق بشموسه الزيتونية التي افتقدتها وهي تهمس بصوت لاهث لم يغادره النعاس بعد:
_هل عدت حقاً؟!
اختفت شموسه الزيتونية لتعاود غاباته المشتعلة احتلال نظراته وهو يغمغم بقسوة ولازالت أنامله على وجنتها:
_أين صفعتكِ بالضبط؟!
ازدردت ريقها ببطء وهي تهمّ بسؤاله عمّن أخبره…
لكنها أدركت -للتوّ-مدى سخافة سؤالها…
عاصي الرفاعي لا يخفى عليه شئٌ في قصره سواءً في حضوره أو في غيابه!!!
لهذا لم تتعجب عندما أردف هو بنفس القسوة:
_تذكري مكان صفعتها جيداً لأنك ستصفعينها في نفس المكان قبل أن أنفي تلك العائلة بأسرها من هذه المدينة.
شهقت بعنف وهي تضع كفها على شفتيها ثم همست برجاء:
_لا يا سيد عاصي أرجوك…أنا مسامحةٌ في حقي.
ازداد اشتعال عينيه وهو يمسك كتفيها بقوة ليهزهما هاتفاً بغضب هادر:
_تسامحكِ هذا هو الذي كسركِ مرة…وسيكسركِ ألف مرة…الضعيف لا مكان له في هذا العالم.
وبرغم الألم الذي كانت تشعر به من ضغط أنامله على كتفيها تألقت بحار فضتها بسكينة لا تدعيها وهي ترد بقوة :
_تسامحي ليس ضعفاً بل منتهى القوة…كنت أستطيع أن أفضح السر بمنتهى البساطة…كنت أستطيع أن أصرخ أنني لم أسعَ لهذه الزيجة بل إنك أنت من أجبرني عليها…كنت أستطيع أن أسلط عليها الخدم والحراس هنا ليثأروا لي منها …كنت أستطيع فعل أي شئ وكل شئ في غيابك لكنني لم أشأ فعل هذا…هل تدري لماذا؟!! لأنه لو زلّت قدمي في بئر الانتقام فلن تقوم لي قائمة بعده !!!
ازداد ضغط كفيه علي كتفيها وهو يكاد يعتصرهما ناظراً إليها بغضب للحظات…
وبقدر ما شعر هو أنها تعاظمت قدراً في عينيه بعدما ذكرته الآن…
بقدر ما هيجت كلماتها -البريئة النقية- كل جروحه القديمة….
والتي كادت تهلكه حزناً وكمداً طوال تلك الأيام السابقة التي قضاها وحده في منفاه الاختياري…
وكأنه بهذا سينسى !!!!
لهذا أغمض عينيه بقوة للحظات متمالكاً شعوره العاصف…
قبل أن يقوم من جوارها ليتوجه نحو نافذة غرفته ففتحها بعنف وهو يحاول التقاط أنفاسه الثائرة…
هي محقة…وهو الآن أكثر من يدرك هذا…
الانتقام سلاح ذو شفرتين يؤذي صاحبه قبل أن يؤذي غيره…
لكن ما حيلته في نفسه؟!!
ليت الأمر بهذه السهولة!!!
إنه الآن يقف أمام سنوات عمره التي قاربت الأربعين ليطالب نفسه بتبديل كل ما تربى عليه…
فكيف يفعلها ؟!!
هو الآن يعادي نفسه…!!
يعادي” عاصي الرفاعي” الذي عرفه طوال هذه السنوات…!!
يعادي صورة مرآته بظهرها العاري وآثار الجلد على بشرته…!!
بل إنه يهدم صرح جبروت عاصي الرفاعي الذي عاش عمره كله يبنيه!!!
لهذا هتف باقتضاب حاد وهو يتطلع للفراغ أمامه دون أن ينظر إليها:
_سامحي في حقك كما تريدين…لكنني أنا لن أفعل…هذه المرأة انتهكت حرمة بيت عاصي الرفاعي وصفعت امرأته…وهذا في قانوني يساوي الكثير.
هزت رأسها بأسف وهي تكاد تتوسله العفو عنهم من جديد…
لكنها الآن صارت تفهمه جيداً…
كلماته الحادة المقتضبة ليست مجرد كلمات…
بل قراراتٍ صارمة ربما يكون قد بدأ فيها بالفعل!!
لهذا اضطرت -مرغمةً -لتجاوز الأمر وهي تتقدم نحوه لتطالع ظهره المواجه لها بنظراتٍ غارقة في شعورها الجديد نحوه…
قبل أن تتوقف على بعد خطوة واحدة منه لتهمس بترقب:
_هل عدت فقط لهذا السبب؟!
ظل على وقفته الجامدة وهو يجيبها بنفس الاقتضاب المشتعل:
_نعم…لقد عدتُ فور ما أخبروني بما حدث؟!
خفق قلبها بقوة وهي تراه بعين خيالها يعود في هذا الوقت المتأخر من الليل فقط ليدافع عنها هي!!!
وكم ملأها هذا الشعور فخراً مزيناً بالفرحة!!!
لكن هاجساً آخر قطع عليها فرحتها وهي تفكر أنه -ربما- لم يعد دفاعاً عنها هي…
بل عن جبروت عاصي الرفاعي الذي لا يقبل هو أن يتحداه أحد!!!
عن مكانته ووضعه هنا والذي خشي أن يهتز بعد فعلة تلك المرأة!!!
لهذا أطرقت برأسها للحظات ثم همست بحزنٍ صبغ صوتها رغماً عنها:
_هل ستخبرني أين كنت؟!
زفر بقوة ثم قال ببرود لم يخدعها:
_مكانٌ ما أذهب إليه عندما أريد أن أختلي بنفسي.
أغمضت عينيها بألم وهي تشعر به وكأنه يتعمد إبعادها عن منطقته الخاصة…
ورغم أنها كانت تثق أنه يحتاجها الآن بحق…
لكن شعورها -الخفي-بإهانته الباردة وردوده المقتضبة جعلها تغمغم بما يشبه الاعتذار:
_أنا سأعود لغرفتي…آسفة علي إزعاجك.
قالتها وهي تبتعد عنه بخطواتٍ سريعة لكنه لحق بها ليمسك ذراعها ويديرها نحوه ملتقطاً نظراتها التي مزجت حزنها بعاطفتها في مزيج ساحر…
قبل أن يسألها ببعض الرفق:
_لماذا كنتِ تنامين هنا الليلة؟!!هل عاودتكِ كوابيسك؟!!
انتزعت عينيها قسراً من سجونه الزيتونية لتخفض بصره عنه وهي تهز رأسها نفياً …
فقربها منه أكثر ليرفع ذقنها نحوه هامساً بحنانه الذي عاد يكتسح كلماته:
_كيف حالكِ مع جلسات علاجك؟!
ابتسمت بشحوب وهي تهمس ببعض الامتنان :
_الطبيبة أخبرتني أنها تعطيك تقريراً كاملاً بعد كل جلسة …أنت لست في حاجة لهذا السؤال.
ابتسم بدوره وهو يشعر أن مجرد رؤية ابتسامتها ولو كانت شاحبةً هكذا تكفيه …
ثم عاد يتطلع لعينيها بشعور جارف يجتاحه الآن بعمق…
ويأبى أن يعترف أنه اشتياق…!!
نعم…وسط كل هذه الفوضى من المشاعر التي يغوص فيها الآن حتى النخاع لم يعد قادراً على تمييز أي شئ…
لكن ما هو واثقٌ منه أن هذه التي تقف أمامه الآن تعني له الكثير …
بل الكثير جداً!!
لهذا اتسعت ابتسامته الحانية وهو يعاود سؤالها :
_والمشغل؟!
أومأت برأسها في رضا عندما سمعا صوت أذان الفجر…
فصمتا للحظات قبل أن يقول هو بلهجته التي عادت إليها قوتها المسيطرة:
_سأذهب الآن لصلاة الفجر…انتظريني هنا حتى أعود!
قالها ثم تركها بخطوات متثاقلة لتتأمله هي بتفحص مشوبٍ بحيرتها…
في البداية كانت تتعجب من حرص رجلٍ مثله علي الصلاة في المسجد…
فهي بالطبع لم تكن ترى أفعاله على هذا القدر من التقوى …
لكنها بعد إقامتها هنا أدركت أن عادات هذه المدينة تعتبر هذا من تمام سلطان الرجال هنا…
وعاصي الرفاعي هو كبير هذه المدينة الذي يجب أن يكون في أول صفوف الصلاة في إثبات واضح لهيمنته علي أمور الجميع…
نعم…حتى أمور الدين صار سلطان الدنيا يستغلها لصالحه!!!
تنهدت بحرارة وهي تتوجه لحمام غرفته الصغير حيث توضأت لتخرج وتؤدي صلاتها…
ثم جلست مكانها تنتظره – كما أمرها-!!!
وبرغم بعض النفور الذي انتابها من أمره المتسلط لها بالانتظار…
لم تستطع منع تلك النشوة الخفية التي دغدغت حواسها فرحاً بعودته…
أو -بالأدق-عودة أمانها بين ذراعيه!!
تربعت مكانها وهي تستند برأسها علي كفها مداعبةً طرف ثوبها بشرود وهي تستعيد ذكرياتها -الغريبة- معه…
منذ أول لقاء لهما…وحتى كلماته الحانية هنا منذ قليل…
لتضبط نفسها -متلبسةً- بجُرم ابتسامة حقيقية رسمها قلبها قبل شفتيها…!!!
ابتسامة هي مزيجٌ من امتنان واحتياج وألفة كل هذا مصبوغٌ بإعجابٍ خفيّ وإن كان لا يخلو من بعض التوجس!!!
قطعت أفكارها عندما انتبهت لكفه الممدود أمام عينيها فرفعت رأسها إليه بسرعة…
وعيناها تفضحان شعورها كالعادة…بينما كانت عيناه هو غائمتين بحزنٍ لم يخطئه إحساسها به…
ثم تشبثت بكفه لتقوم واقفةً قبالته قبل أن يقول لها برفقٍ :
_لم تخبريني بعدُ لماذا كنتِ تنامين هنا الليلة!!
هربت بعينيها من حصار نظراته وهي تغمغم بمراوغة:
_لو كان هذا قد ضايقك فلن أكررها.
ابتسم في إدراك وهو يفهم بواطنها كعادته…
يبدو أن ماسته كانت تحتاجه حقاً كما توقع منذ علم عما حدث…
ولهذا قطع سفره ليأتي مسرعاً…
نعم…على الأقل لازال في دنياه ما يستحق أن يعيش لأجله…
حتى ولو كان مجرد فتاة في ورطة وتحتاجه…
لكن…هل هي حقاً كذلك فحسب؟!!!
نفض عنه تساؤلاته الرمادية الخانقة التي صارت تؤرقه مؤخراً…
ثم غمغم بحنانه الذي يخصها هي فقط:
_هل تريدين النوم؟!!أم تفضلين اقتراحاً آخر؟!
رفعت إليه عينيها بتساؤل…فأردف بنفس النبرة الحانية:
_كنت أفكر في مراقبة الشروق من على سطح القصر…هل تحبين مرافقتي؟!
ابتسمت وهي تشعر باستحسانها الشديد للفكرة…
ثم أومأت برأسها لتسير معه حتي صعدا الدرج نحو سطح القصر حيث كانت أشعة الشمس قد بدأت في مداعبة السماء على استحياء…
سارت معه تطوقها غلالة من مشاعرها الرائقة حتى جاورا سور السطح الذي بدا على اتساعه كفضاء عريض بلا حدود…
فترك كفها لتفاجأ به يجلس على الأرض مستنداً إلى حائط السور القصير!!!
ابتسمت لعفويته -الغريبة- على طبعه الوقور ثم انحنت وهي تكاد تفعل مثله…
لكنه هتف بها بحزم:
_لا تجلسي على الأرض!
تجمدت مكانها لكنه لم يدع لها فرصةً لمزيد من الدهشة عندما مد ذراعيه ليتملك خصرها ويجذبها لتجلس على ساقيه كطفلة!!!
احمرت وجنتاها بخجل وقد عجزت عن رفع عينيها إليه …
عندما وصلها همسه الذي يجيد مزج حنانه بقوته:
_أحمقٌ من يترك ماسته تلامس الأرض قبل أن يلتقطها…فهل عهدتني أنتِ أحمقا؟!
خفق قلبها بجنون وهي تشعر بذعرها -المرضي- يعاودها …
لكنها تعترف أنه هذه المرة كان أقل كثيراً مما سبق…
ربما لأن جلسات علاجها قد بدأت تؤتي ثمارها…
وربما لأنها صارت توقن أنه لن يأخذ منها إلا ما تريد – هي- منحه…
وربما لأن شعورها – هي- به اختلف…!!!!
نعم…هي ما عادت تراه ذاك الشيطان الذي يثير نفورها بل على العكس…
هي لا تنكر هذا الظل الوارف من الأمان الذي يحتويها في وجوده…
ذاك الإحساس الغامض الذي يدغدغ خلاياها برقة ساحرة….
تلك السعادة المتخفية خلف ستائر وردية شفافة تتمايل مع نسيم خجلها معه!!!!
بينما شعر هو بارتباكها فربت على ظهرها برفق…
ثم قال ليصرف تفكيرها عما يعرف أنه يشغل ذهنها ويخيفها الآن:
_الكثيرون يعشقون منظر الغروب لكنني أحب مراقبة شروق الشمس أكثر.
ويبدو أن محاولته في شغل انتباهها قد نجحت فقد رفعت عينيها إلى السماء حولها للحظات…
حتى استعادت هدوء خفقاتها لتهمس بعد فترة بأسى:
_كم من الليالي قضيتها ساهرة وكل أملي فقط أن تطلع الشمس حتى أتمكن من النوم دون خوف…لهذا فأنا مثلك أحب الشروق أكثر.
ابتسم وهو يشير بكفه نحو شئ ما هناك قائلاً :
_طائرتكِ الورقية هناك…لقد أمرتهم أن يتركوها مكانها حتى تعودي إليها متى شئتِ!
ابتسمت بدورها وهي تتوجه ببصرها حيثما أشار ثم غمغمت بشرود:
_كنتُ أظنني استرجاع هناءة الماضي بأغنية قديمة وطائرة ورقية…لكنني أدركتُ أن ما مضى لا يعود أبداً حتى لو استجديناه بألف ذكرى وألف ألف أغنية!!!
رفع أنامله ببطء ليداعب خصلات شعرها تحت حجابها الذي أزاحه برفق…
ثم همس بشرود:
_غنّي دوماً يا ماسة…لا تكفّي يوماً عن الغناء…غنّي وأنتِ تطيرين فرحاً…غنّي وأنتِ تذوبين حزناً…غنّي وأنتِ تشعين قوة…غنّي وأنتِ تئنين ضعفاً..غنّي ولو خذلك صوتكِ وضاعت منكِ الألحان…لو هجرتِ الغناء ستموتين …نعم…ستموتين حتي لو خدعتِ الجميع بأنفاس صدرك الرتيبة التي تدّعي الحياة…لكنكِ وقتها ستكونين الشاهد الوحيد علي أشلاء روحك الممزقة بداخلك…فإياكِ أن تفعلي هذا بنفسك!!
التفتت برأسها نحوه لتري عينيه بهذا القرب …
وقد احتل الحزن حدقتيه فما عادت هناك شموسٌ ولا غابات زيتون…
بل صحراء قاحلة من مرارة سوداء جعلت قلبها ينقبض أكثر…
وهي تشعر الآن أنه لا يتكلم عنها هي…بل يتكلم عن نفسه…
نعم…هذا الرجل فقد لبّ روحه يوماً ولن يستريح حتى يستعيده!!
بينما التفت نحوها هو الآخر من شروده ليلتقط رسائلها الفضية الرائقة بمشاعرها الجديدة…
فابتسم ابتسامة باهتة وهو يجذب رأسها ليريحه على صدره هامساً بصوت تضافر حزنه مع حنانه:
_لو طلبتُ منكِ الغناء الآن فهل تفعلينها لأجلي؟!
اتسعت عيناها بدهشة غلبت خجلها وهي لا تدري كيف تصف شعورها الآن…
لو كان أحدهم أخبرها يوماً أنها ستغني في حضرة رجل كهذا لاتهمته بالعته!!!
لكنها الآن وهي تجلس على ساقيه هكذا كطفلة وجدت أمانها بعد طول خوف…
ورأسها يستقر على صدره لتسمع صوت نبضاته الهادرة تحت أذنيها فاضحةً بركان مشاعره الكامن تحت قشرة زائفة…
وأنامله تداعب شعرها بتلك الحركة التي لا تدري كيف ولا لماذا تحتل كل ذرات كيانها بشعور فريد لم تعرفه إلا معه هو…
مع كل هذا…توقن أنها لاريب ستفعلها!!!
نعم…ستغني!!!
ستترك صوتها حراً صادحاً بنفس قوة إحساسها الآن…
وتطارد الألحان كطير طليق حتى تنتشي بها روحها كاملة…
وتنتقي كلماتٍ لن تفكر لماذا اختارتها ولا كيف سيفهمها…
فالآن لا سلطان لعقلٍ أو ذاكرة…
حيث يبسط الإحساس سلطانه فلا مقام لتردد أو تعقل!!!
وبهذا الشعور المنطلق الذي اكتسح روحها…
بدأت تهمهم باللحن المميز لهذه الأغنية للحظات…
قبل أن يرتفع صوتها بالكلمات…
انا بعشق البحر زيك يا حبيبي حنون
وساعات زيك مجنون….
ومهاجر …ومسافر…
وساعات زيك حيران….
وساعات زيك زعلان….
وساعات مليان بالصمت ….
دانا بعشق البحر…
انا بعشق السما علشان زيك مسامحة…
مزروعة نجوم وفرحة…
وحبيبة ……وغريبة….
وعشان زيك بعيدة….
وساعات زيك قريبة…
بعيون متنغمة ….
دانا بعشق السما
انا بعشق الطريق…
لانه فيه لقانا ….
وفرحنا وشقانا….
اصحابنا…. شبابنا …..
وفيه ضحكت دموعنا…..
وفية بكيت شموعنا….
وضاع فيه الصديق….
دانا بعشق الطريق….
انا بعشق البحر ….
وبعشق السما ….
وبعشق الطريق…
لانهم حياة ….
وانت يا حبيبي… انت كل الحياة!!!
بينما كان هو يسمعها وهو يشعر بصوتها يرفعه لأعالي حدود الأفق …
حيث لا شئ سواهما فقط في هذا الفراغ الفسيح…
لا أشباح ماضٍ ولا رؤى مستقبل…
لا ذنب يخنق ولا حزن يشنق ولا ألم يذبح…
بل أطياف مشاعر رائقة تلون الكون حوله بلونها الماسيّ!!!
وكما بدأت بهمهمات اللحن المميزة ختمت بها أيضاً لتبقي بعدها على حالها ورأسها مزروعٌ على صدره لدقائق…
قبل أن ينحني هو برأسه ليقبل رأسها في فعلٍ لم يعرفه إلا لها …هي فقط من بين نساء العالمين!!!
قبل أن يهمس بترقب:
_لماذا هذه الغنوة بالذات؟!
لم تحرك ساكناً وهي ترمق الأفق أمامها بشرود هامسة:
_لا أدري…لقد قفزت إلى ذهني فجأة …ربما لأنني… اشتقت البحر.
ورغم أنه لم يقتنع أن هذا هو السبب الحقيقي لاختيارها رفع ذقنها إليه لينظر لعينيها هامساً :
_غداً آخذكِ لنزهة نيلية…وربما قريباً نتمكن من السفر .
ابتسمت في امتنان وهي تومئ برأسها …
ليحتضن ملامحها بعينيه هامساً بعد شرود طويل:
_هل تعلمين؟!ربما لو كنتُ تزوجت في وقتٍ مناسب لكنتُ حظيت بابنة في عمرٍ يقارب عمرك.
اتسعت ابتسامتها وهي تهز رأسها قائلةً بانطلاقها -الذي ما عادت تتعجبه- في البوح معه:
_لا أخفيك قولاً..أنا أيضاً أشعر بهذا كثيراً…لقد ربتني رحمة على خير وجه ولست أنكر هذا مطلقاً…لكنني طالما كنت أتمنى تجربة الشعور بوجود أب…ذاك السند الذي لا يتهاوى عندما نحتاجه…ذاك المزج المتجانس بين الحزم والحنان…تلك القوة التي تشعر أنها دوماً لك ولن تكون أبداً عليك…والتي هي قادرةٌ على البطش بكل من يفكر في مجرد الإساءة إليك.
أغمض عينيه بتأثر وهو يضمها إليه أكثر فدمعت عيناها وهي تردف بحرارة صادقة:
_شكراً يا “سيد “عاصي…شكراً على هذا الشعور وعلى كل شئ…لم أعد بحاجة لأن أفهم قبل أن أشكرك…فما فعلتَه لأجلي يستحق ما فوق الشكر وأكثر!!!
عادت شموسه الزيتونية لتألقها الدافئ لتشرق بنورها على بحار فضتها التي غشيتها السكينة….
وكلاهما يدرك الآن أن ما بينهما يفوق ما يتحدثان عنه بكثير…
يتجاوز شعور الأب بابنته أو الابنة بأبيها…
ربما بدأ الأمر هكذا…لكنه الآن يتعمق أكثر ليتملك القلب بسحر خاص…
سحرٍ يتملك روحيهما في كل يوم أكثر…
لكن للأسف…كلاهما يأبى الاعتراف بهذا…
خاصةً -هو- الذي كان غارقاً بشعور ماضيه القديم …
ذبيحاً بسيف مزدوج من الذنب والغدر…
وقد أقسم على نفسه ألا يعود لطريق الحب الذي حرمه على نفسه للأبد!!!
لكنه -ومع كل هذا- لم يستطع مقاومة شعوره بالراحة جوار هذه الرقيقة الملائكية…
التي يشعر أن مجرد وجودها أمام عينيه…دواء!!!
لهذا امتدت أنامله تداعب وجنتها برفق حنون حتى وصلت لشفتيها تتحسسهما برقة صاحبت همسه الأجش:
_قولي عاصي فقط يا ماسة…ما عاد هناك مجالٌ لألقاب بيننا.
توردت وجنتاها وهي تخشى أن يستمع لدقات قلبها التي كانت تدوي في صدرها بقوة إحساسها الجارف الآن…
لكنها أرادت تجاوز الأمر فقالت ببساطة رغم قوة نبراتها:
_أوافق لكن بشرط!
ارتفع حاجباه بدهشة وهو يتفحصها بإعجاب لم تخطئه عيناها…
قبل أن يميل رأسه في تساؤل منتظراً إجابتها…
فتنهدت بحرارة ثم قالت بما يشبه الرجاء:
_أريدك أن تصارحني بكل شئ…افتح لي هذا الصندوق المغلق من الأسرار حتى أطمئن…أو على الأقل اسمح لي بمشاركتك ألامك.
رفع رأسه للسماء التي كانت الشمس قد تسيدتها الآن بوضوح ليهمس بقوة لم تخفِ وميض حزنه:
_ليس الآن…ربما يوماً ما!
وعندها تزينت شفتاها بابتسامة صادقة لتمتد أناملها بتردد فتضع كفها على صدره هامسةً بثقة:
_سأعتبر هذا وعد عاصي الرفاعي الذي لا يخلفه أبداً!
عاد ببصره إليها ليلتقط ابتسامتها الرائقة بنَهَم عاطفته…
قبل أن تنتقل عيناه لكفها الموضوع على صدره والذي احتضنه هو بكفه للحظات…
ثم أومأ لها برأسه وعيناه تحملان ألف وعد ووعد…!!
قبل أن يتملك خصرها بكفيه من جديد ليقف ويوقفها معه قائلاً بحزم حنون:
_هيا بنا لنتناول إفطارنا معاً…لم تشاركيني الطعام منذ زمن بعيد.
ابتسمت وهي تعاود السير جواره ليغادرا المكان وهي تشعر بقلبها يكاد يضج بمشاعره…
رغم أنها كانت ترفض تحجيمها في إطار معين…أو مسميً مخصوص…
لقد كانت سعيدة وكفى…
مطمئنةً وكفى…
راضيةً وكفى…
حتى ولو كان بالعقل ألف سؤال يتوق لإجابة…
تعرف أنها حتماً لن تحصل عليها الآن!!!
============
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)