رواية ماسة وشيطان الفصل الثالث 3 بقلم نرمين نحمد الله
رواية ماسة وشيطان الجزء الثالث
رواية ماسة وشيطان البارت الثالث
رواية ماسة وشيطان الحلقة الثالثة
_هل تدركين ماذا يمكن أن أفعل بحشرة حقيرة مثلك هنا؟!
هتف بها بقسوة ظاهرة فابتسمت ساخرة لتقول بثبات استفزه:
_أي شئ…وكل شئ!!!
عقد فهد حاجبيه وهو يتفحصها بدقة….
مظهرها هذا يبدو مختلفاً عن المظهر العابث الذي تعمدته -كما يبدو-في لقائهما -الكارثي-الأول…
ثيابها شديدة التحفظ تليق بمهنتها التي عرفها…
حجاب رأسها الفيروزي الذي يلقي بظلال ساحرة على عينيها البندقيتين فتبدوان أكثر فتنة…
بشرتها النقية الخالية من الأصباغ كبشرة طفل رضيع…
شفتاها الرفيعتان الحادتان اللتان تليقان بطلتها المتمردة…
قبل أن يعود بصره يتعلق رغماً عنه بعينيها ليأسره وهج البندق من جديد…
نظرتها القوية الواثقة تجرده من شعوره بالانتصار…
وهو الذي تمني لو يلمح الخوف في عينيها انتقاماً وتشفياً…
لكن…لا بأس…
لنرَ إلي متي ستصمد نظرتها هذه أمام ما ينتوي فعله بها؟!!!
ابتسم بقسوة وهو ينظر إليها من علوّ ليقول بغرور:
_ظننتِ أنني لن أصل إليكِ؟!!
اتسعت ابتسامتها الساخرة وهي تقول بتهكم:
_عيب يا ابن الصاوي!! هل يجرؤ أحد علي التشكيك في قدراتك؟!!
اختفت ابتسامته المتعجرفة أمام ردها المستفز…
فمال عليها ليمسك كتفيها مقترباً بوجهه من وجهها هامساً بلهجة تهديد مخيفة:
_ماذا تظنيني سأفعل بكِ عقاباً علي فعلتك؟!
اشمأزت من لمسته لكتفيها وأنفاسه التي حاصرت وجهها…
و قد ظهر هذا واضحاً على ملامحها النافرة مما أثار جنونه أكثر فهتف بسخط:
_سأجعلكِ تندمين على اليوم الذي ولدتِ فيه…أنتِ وصديقتك ال….
أتبع عبارته بلفظ بذئ فقست ملامحها وهي تقول بصرامة:
_دع صديقتي خارج الموضوع…حسابك معي أنا!!
اعتدل واقفاً وهو يرمقها بنظرات قاسية…ثم قال ببطء:
_حسناً…أنا موافق…ليكن حسابي معكِ أنتِ!!
رمقته بنظرة محتقرة فتناول مدية من جواره ليقترب بها من وجهها هامساً بقسوة:
_والآن …هل نقول العين بالعين…والبادي أظلم؟!!
ابتسمت بسخرية أدهشته في وضعها هذا لتقول بصلابة:
_البادي أظلم؟!!! لا أجد هنا أظلم منك يا ابن الصاوي…لكن يبدو أن عقلك أشد سواداً من روحك!!
ضاقت عيناه وهو عالق بنظراتها الواثقة في صدمة جاهد نفسه كي لا يبديها…
من أين تأتي هذه المرأة بتبجحها هذا…؟؟!!!!!
تحرياته عنها أنها ليست سوى محامية حديثة التخرج…
تكبره بثلاثة أعوام فقط…
وليس لها عائلة…
والدها متوفيان منذ فترة…
وتقيم وحدها في منزلها البسيط…
بعد زواج شقيقتيها…
فما الذي يعزز قوتها النابضة في عينيها هذه؟!!!!
مرّر نصل المدية بخفة علي وجنتها وهو حريص ألا يصيبها…
لكنها حتي لم ترمش بعينيها…
بل شردت ببصرها بعيداً وكأنها تذكرت شيئاً ما…
وقد كان هذا فعلاً حقيقياً…
_لا تخافي يا جنة !! الحقي أنتِ بالفتيات وأنا سأحمي ظهركن مع باقي الشباب!!
هتف بها حسن بحزمه الحنون…
وقد كان هذا آخر ما سمعته منه فاضطرت للهروب مع بقية الفتيات…
قبل أن يصلها خبر وفاته بعدها بيوم واحد…
كانت معه في إحدى التظاهرات المنددة بسوء أوضاع السلطة السابقة قبل سقوطها…
عندما هاجمتهم فرقة من قوات الأمن بغرض تفريقهم…
ليتلقى حسن ضربة من هراوة ثقيلة على رأسه أردته قتيلاً في نفس اللحظة!!!
لا تدري لماذا راودتها هذه الذكرى الآن بالذات…
بل هي تعلم!!!
ذكرى حسن الحبيبة هي ضمادة روحها الجريحة في هذا العالم…
تجتاحها رغماً عنها عندما تشعر بحاجتها للأمان الذي كان هو مصدره….
(لا تخافي يا جنة)
بصوته الحنون شديد الثقة والإيمان تملأ كيانها بالقوة دوماً…
لن أخاف يا حسن…
مهما لقيت ومهما واجهت في سبيل مبادئنا المشتركة….
سأبقى على عهدي معك حتى ألقاك…
لن أخاف…
لن أخاف!!
بينما كان فهد أمامها يتأمل شرودها بتفحص …
غريبة هذه المرأة حقاً!
واحدة مكانها كانت ستبكي وتصرخ …
وربما كانت قبلت يديه وقدميه ليتركها وشأنها…
لكن هذه تبدو واثقة مطمئنة ساخرة…
وكأنه لا شئ في الدنيا يخيفها…
ولو قرأ ما في قلبها لعلم أنها الحقيقة…!!!
الواقع أنه لا شئ في العالم عاد يعنيها…
هذه التي تبدو قوية واثقة ساخرة…
لم تكن في حقيقة الأمر سوى امرأة خاسرة…
خسرت أعظم ما امتلكته يوماً وبعدها صارت لديها كل الأمور سواء!!!
رفع مديته عن وجهها أخيراً…
فالتفتت إليه من شرودها لتعود ابتسامتها الساخرة علي شفتيها قائلة ببرود:
_والآن…ماذا بعد؟!
ألقي مديته بعيداً وهو يحاول إخافتها أكثر….
لعله يصل لآخر حدود تحملها…..
فنظر إليها متفحصاً مواجهاً عينيها بقسوة عينيه ليقول ببطءواثق:
_اختاري طريقة موتك يا صغيرة!!
اتسعت ابتسامتها الساخرة لتقول بتهكم:
_كريم وابن كرماء…
ثم قلبت شفتيها بامتعاض لتردف باحتقار:
_يا ابن الصاوي!!
هنا مال عليها فجأة وقد فقد أعصابه ليجذبها من ياقة قميصها قائلاً بخشونة:
_لم يجرؤ أحد علي فعلِ ما فعلتِه أنتِ بي…لقد تركت ندبة في وجهي أقسمتُ ألا أعالجها حتى آخذ بثأري منكِ.
واجهته بوهج البندق الآسر في قوته وسحره لتقول بتماسك:
_من يسمعك تتحدث كالرجال لا يصدق حقيقتك الرخيصة!!
هنا هوت صفعته على وجنتها مدوية ليجرح خاتمه شفتيها فتنزف ببطء…!!!!!
لكنها لم تبكِ…
بل أغمضت عينيها بقوة للحظات تحاول التغلب على شعورها بالألم…
لا بأس…
إنها تتوقع منه ما هو أسوأ!!!
بينما كان هو واقفاً أمامها يقبض كفه الذي صفعها بقوة…
إنها أول مرة يصفع فيها امرأة في حياته…
وبرغم يقينه من أنها تستحق فقد استفزته حقاً لأبعد حد…
لكن شيئاً من الندم كان قد عرف طريقه لقلبه قسراً..!!!!
خرج من الغرفة التي يحتجزها فيها لدقائق ثم عاد إليها ليجدها على حالها…
لازالت متجمدة الملامح مغمضة عينيها بقوة!!
عقد حاجبيه وهو يتوجه نحوها بخطوات بطيئة…
ثم مال عليها ليقترب من وجهها ففتحت عينيها تلقائياً…
لتجده يطهر جرح شفتيها بقطعة قطن في يده….
ابتسمت في سخرية رغم الألم الذي تشعر به…ثم قالت بتهكم لاذع:
_وماذا يسمى هذا إذن؟!!! رقة قلبك تذهلني في الواقع!!
رفع إليها عينين مظلمتين ليلتقط وهج البندق في عينيها من جديد…
ثم قال ببرود:
_لا…ليست رقة قلب…لكنكِ صرتِ من ممتلكاتي…وأنا رجلٌ يجيد العناية بما يملك!!
قال عبارته الأخيرة وهو يمرر أنامله على شفتيها ببطء…
فالتمع الغضب في عينيها هادراً وهي تهتف بانفعال:
_ممتلكاتك…أم مسروقاتك…؟!!! أنت ووالدك ومن مثلكما لستم سوى حفنة من اللصوص …طفيليات تمتص دم البلد…صدقني لو كنت أندم على شئ…فهو على أنني لم أغرس مديتي في رقبتك يومها بدلاً من وجهك!!
ظل ينظر للغضب الهادر في عينيها للحظات…
ثم ابتسم…!!!!!
ابتسم ابتسامة جانبية صغيرة…
اتسعت رويداً رويداً…
حتى تحولت لضحكة عالية…
ثم قال لها بنبرة مستفزة:
_أنتِ حقاً أعجبتِني!!
رمقته بنظرة احتقار طويلة…لكنه ربت على وجنتها برفق ثم قال ببرود:
_سأترككِ حتى تتعلمين الأدب…
ثم سار بضع خطوات نحو باب الغرفة ليعود ويلتفت نحوها قائلاً ببرود قاسٍ:
_لو كنت مكانك لمتّ رعباً وأنا أتخيل أسوأ مصير لي هنا!!
فابتسمت بسخريتها المعهودة لتقول ببرود:
_احمد الله اذن أنك لست مكاني!!
رمقها بنظرة مشتعلة أخيرة قبل أن يغادرها بخطوات سريعة….
لتتبدل نظرتها الساخرة لأخرى متألمة وهي تهمس برجاء:
_يارب!
=========
_ما هذا يا دعاء؟!
همست بها ماسة في تساؤل حقيقي مشيرة لتميمة غريبة الشكل علقتها دعاء في صدرها…
فضحكت دعاء لتقول ببساطة لم تُخفِ حرجها:
_أنا أعاني من مشكلة صحية…صراحة أنا مريضة بالصرع!!
التمعت عينا ماسة بشفقة ظاهرة…بينما استطردت دعاء ببساطتها المعهودة:
_والدتي امرأة بسيطة…في طفولتي لم تعتقد أن الأمر له علاقة بمرض ما بل ظنته مساً شيطانياً كما يظن بعض الناس في مدينتنا…لهذا تأخرت كثيراً في علاجي حتى أرشدها بعض الناس لطبيب ماهر في مدينتنا …شخّص حالتي بدقة…ومن يومها وأنا أتناول دوائي بانتظام…حالتي تحسنت كثيراً لكن هناك بعض الأعراض لاتزال ملازمة لي…ورغم هذا تصر والدتي على أن أرتدي هذه التميمة التي منحها لها أحد العرافين….وترفض أن أخلعها…
هزت ماسة رأسها لتقول برقتها المعهودة:
_لكن التمائم هذه من المحرمات…أمي كانت دوماً تقول هذا.
فابتسمت دعاء وهي تربت على كفها لتقول بحنان:
_يبدو أن والدتك امرأة مؤمنة!!
دمعت عينا ماسة وهي تهمس بخفوت:
_جداً!
قالتها وهي تشعر بقلبها يكاد ينفطر اشتياقاً لرحمة….
كم تتمني الآن لو تعود…
وتدفن وجهها في صدرها…
لتغمر أنفها رائحتها المميزة…
رائحتها التي تحمل لها حنان الكون وأمانه…
حضن واحد من رحمة تدفع مقابله الآن عمرها كله!!!
ورغماً عنها راودها خاطر مزعج…
تري ما الذي تفعله رحمة الآن…؟؟؟؟!!!!
ومن الذي سيعتني بها وبصحتها…؟!!!
من المؤكد أن رحمة الآن تفتقدها…
لعل عزيز ينتقل للعيش معها الآن ليعوضها عن فقدانها لها…ويهون عليها وحدتها القاسية…
فبرغم كل شئ هي ستبقى مدينة لرحمة طوال حياتها…
حتى بعدما سمعته منها بأذنيها…
لن تنسى أنها كانت لها نعم الأم طيلة هذه السنوات…!!!
قُطعت أفكارها عندما سألتها دعاء في تفحص:
_ماذا بكِ يا ماسة؟! أشعر أنك تخفين جرحاً كبيراً.
فابتسمت ماسة ابتسامة شاحبة وهي تهمس بفتور:
_ومن منا قد سلم من جروح الحياة؟!!
أومأت دعاء برأسها في تفهم…ثم غمزتها بخبث لتهمس بشقاوة:
_الجميلة عاشقة أم خالية؟!
ابتسمت ماسة وهي تهز رأسها بخجل…فهمست لها دعاء بشقاوتها المعهودة:
_أنا عاشقة…لكن هذا سر بيننا!!
ضحكت ماسة بمرح ثم همست لها بدورها:
_أشك أن مثلك يكون لها سر….ظني أن مدينتكم كلها تعلم عن عشقك هذا!!
ضحكت دعاء بانطلاق لتلتفت نحوهما أنظار الركاب من جديد…
ثم تأبطت ذراعها بحركة ودودة لتهمس بهيام:
_الصب تفضحه عيونه!!
تأملت ماسة ملامحها بحنان عندما استطردت دعاء ببساطة:
_هو زميلي في المكتب الذي أعمل فيه بمدينتنا…لكنه لا يشعر بي…وكيف يفعل؟!! والفتيات في المكتب كلهن يتهافتن على نظرة منه.
تركتها ماسة تكمل حديثها المرح عن معشوقها فاتن النساء…
لتسرح بذهنها لذكرى أخري غالية من ذكرياتها مع عزيز….
_كل عام وأنت بخير يا ماسة.
همس بها عزيز بصوته الحنون…ليلتمع الزمرد العسلي بعينه تلك اللمعة التي تأسرها….
فتهمس بخجل:
_وأنت بخير!
تأمل خجلها الذي يعشقه بحنان ثم همس برقته الخاطفة:
_اليوم أكملت ماستنا واحداً وعشرين عاماً…
اتسعت ابتسامتها الخجول وهي تشيح بوجهها عنه…
فأردف بنفس اللهجة الآسرة:
_كم أتمنى لو نحتفل سوياً بعامك القادم ونحن في بيتنا!
أطرقت برأسها وهي تشعر بأن وجنتيها علي وشك الاحتراق…
فهمس برجاء:
_أغمضي عينيكِ.
رفعت إليه عينيها بحذر متوجسة من سبب طلبه…
فمنحها نظرة مطمئنة وهو يومئ برأسه….
أغمضت بعدها عينيها بقوة…
لتشعر به يلبسها تلك السلسلة وهو حريص ألا يمسها كي لا يثير حفيظتها….
تلك السلسلة التي لم تخلعها من عنقها منذ ذاك اليوم…
ولن تفعلها أبداً!
فتحت عينيها ببطء وهي تتحسسها بأناملها لترفع دلايتها المنقوش عليها اسمه أمام عينيها …
ثم ابتسمت في انبهار طفولي وهي تهمس بسعادة:
_راااائعة يا عزيز…لن أخلعها من عنقي أبداً…لتذكرني بك عندما تكون بعيداً عني.
التمعت عيناه ببريقها الزمردي ليهمس بحزمه الحنون:
_لن أبتعد عنك أبداً…أنتِ في دمي يا ماسة…في دمي وروحي وقلبي.
خفق قلبها بعنف وهمسه الصادق يحتضن خوفها بحنان لا يجيده مثله….
لتهمس بصوت متهدج:
_عزيز…أنا رضيت بحبك تعويضاً عن كل ما لاقيته في حياتي…فلا تعدني لسجن حزني من جديد.
فقبض كفيه بقوة مقاوماً رغبته العارمة بضمها لصدره وهو يهمس بحسم:
_أبداً يا ماسة…أبداً!!!
ابتسمت وهي تشعر بعينيها تضيعان في مروج الزمرد الخضراء….
لتعانق فيهما فرحة أحلامها الوردية بحبهما البرئ….
وتتنفس بين شاطئي حدقتيه الغرام الذي يعدها بغدٍ ينسيها آلام عمرها كلها!
لكنها عادت تهمس بخوف لم تستطع إخفاءه:
_لكنني سأخفيها بين طيات ملابسي حتى لا تراها أمي.
تنهد في حرارة وهو يتأملها بعينيه العاشقتين ليهمس بحنان:
_لن تضطري لهذا طويلاً…فأنا سأفاتح رحمة بنفسي في أمر زواجنا قريباً.
أطرقت برأسها في خجل…فعاد يهمس بخبث:
_ألن تردي لي هديتي؟!
رفعت عينيها إليه لتهمس بدلال طبيعي لا تتكلفه:
_ماذا تريد؟ !
اقترب منها خطوة ليهمس برجاء :
_قوليها يا ماسة…قوليها .
ارتفع حاجباها في تأثر وهي تدرك ما يقصده…. لتهمس ما بيت عتب ودلال:
_وهل تحتاج أن أقولها ؟! أنت تعرف أنني…
قطعت عبارتها وهي تضغط علي شفتها بقوة…
فهمس بعاطفته التي تغرقها عشقاً:
_أحتاج أن أسمعها…مرة واحدة فقط يا ماسة….مرة واحدة…
هنا دمعت عيناها وهي تهمس بصدق:
_أحبك يا عزيز…أحبك.
_ماسة…لقد وصلنا!
قطعت دعاء سيل ذكرياتها عندما هتفت بعبارتها في لهفة…
فنظرت ماسة من نافذة القطار تتأمل ملامح المدينة المجهولة بالنسبة إليها…
ورغماً عنها وجدت أناملها تتشبث بسلسلة عزيز بقوة وهي تتذكر حديث دعاء عن السيد عاصي…
تري ما الذي تخفيه لها أيامها هنا…
مع الشيطان؟!!!!
===========
جلست رحمة في مكانها المعتاد على مائدة مطبخها…
تتأمل الأطباق المتراصة أمامها بشرود…
لا تصدق أن ماسة لن تحضر لها الإفطار كالسابق…
لتستيقظ على صوتها الرقيق وهي تقبلها ثلاث قبلات متتالية على جبينها لتهمس بجملتها المعتادة كل صباح:
_صباح الخير يا (كل الرحمة)!!!!
دمعت عيناها رغماً عنها وهي تزيح الأطباق من أمامها بنفور…
لتفكر في عجز…
ألا زلتُ حقاً كل الرحمة؟!!!!
أم أنني خذلتك كالجميع يا ماسةً أرهَقَتها كثرة الخدوش!!!!
هل حافظت عليكِ حقاً كما سعيتُ طوال عمري؟!!!
أم أنني نقضت غزلي بعد قوة أنكاثاً؟!!!
هل كان حكمي عليكِ هو القاسي…
أم أنه حكم القدر علينا جميعاً تقبلناه صاغرين؟!!!
قطعت أفكارها الملتهبة عندما رن الجرس …فانتفضت مكانها بعنف هامسة بلهفة:
_ماسة!!
اندفعت نحو الباب تفتحه بسرعة…
ليطالعها وجه عزيز الذي لم يكن أفضل منها حالاً…
بشحوب وجهه الواضح…وصوته الذي خرج مهزوزاً وهو يهمس :
_صباح الخير يا أمي!!
نظرت رحمة لعينيه بتفحص ملهوف…
تود لو تسأله هل عرف شيئاً عنها…
لكنها لن تفعلها!!!
لن تفتح هي هذا الأمر معه…
فقد سبق وأغلقته بقرارها الحاسم…
لن يتزوج ماسة!!!
بل ولن تسمح له بلقائها بعد!!!
لا …لن تسأله عنها….
فمن الواضح أنه لا يعرف شيئاً هو الآخر….
لو كان يعلم لقرأتها في عينيه!!!!
آه من القلق الذي ينهش قلبها كذئب جائع!!!!!
آه من حرقتها علي فراق ابنتها!!!!
نعم…ماسة ابنتها …
ربما هي لم تنجبها من رحمها…
لكنها ربتها لتكبر أمام عينيها…
يوماً بيوم…
بل ساعة بساعة…
ولا تصدق أنها قد رحلت هكذا بمنتهى البساطة!!!!
لكنها واثقة أنها لن تبتعد كثيراً…
ربما كانت لدى إحدى صديقاتها وستعود…
حتماً ستعود…
إلى من ستذهب…؟!!!
وهي التي ليس لها في هذه الدنيا سواها!!!
ربما غضبت منها ماسة لما سمعته من حديثها مع عزيز…
لكنها تعرف قلب الماسة جيداً…
لا يعرف ضغينة ولا كرهاً…
ستسامحها وستعود لحضنها الذي اشتاقته …
اشتاقته حقاً!!
تنهدت أخيراً في حرارة وهي تفسح الطريق لعزيز هامسة بضعف:
_صباح الخير يا بني…تعال افطر معي.
أغمض عزيز عينيه بألم وهو يشعر بقبضة باردة تعتصر قلبه…
كل ركن في هذا المنزل يذكره بها…
كيف سيحتمل أن يدخله وهي ليست هنا…؟؟!!!!
كيف سيحتمل فيض ذكرياته الذي يجتاحه الآن بقوة كاسحة…
ليعاتبه بقسوة…
لماذا سمح لها بالرحيل…
لماذا….
لماذا لم يتشبث بها أكثر…؟!!!
لماذا لم يتزوجها ولو رغماً عنها؟!!!
لماذا رضي بفراقها الذي يعلم أنه سيذبحهما معاً؟!
ربما لأنه لم يتصورها جادة في عزمها…
لم يتصور أن ماسة الهشة الرقيقة قادرة على ترك عالمها كله خلف ظهرها لتبدأ من جديد…
لم يتخيل أن قلبها الذي قُسّم- بالعدل -بينه وبين رحمة قادر على الابتعاد عن كليهما!!!!
تري أين ذهبت تلك الغالية؟!!!
لقد بحث عنها في كل مكان…
وسأل كل من كان يعرفها في المعهد وفي المشفى الذي كانت تعمل به…
لكن أحداً لم يمنحه خبراً يريحه…
وكأنها اختفت فجأة…!!!
اختفت لتكون آخر كلماتها له قبل أن يفقد الاتصال بها…
_لن أنساك يوماً يا عزيز…ماستك ستبقى ملكك للأبد!!!
حاول الاتصال بها مراراً بعدها…
لكنه لم يفلح…
الهاتف دوماً مغلق…
تماماً كما هو طريقهما معاً كما صار يراه…
وكما رأته هي قبله…
مغلق…
مغلق!!!!
قطعت رحمة أفكاره التي تكاد تجزم أنها تعرفها…
لتسأله بحزمها المعهود:
_هل ذهبت لرؤية العروس التي اقترحها والدك؟!!
عقد حاجبيه بشدة وهو يهتف بحدة:
_أي عروس في هذه الظروف؟!!!ماسة اختفت ولا نعلم عنها شيئاً.
نظرت إليه طويلاً تكتم عنه مشاعر لوعتها التي تشاركه فيها…
لتقول بعدها بصرامة:
_وما شأنك أنت بماسة؟!!! ماسة لو عادت فستعود لي أنا…لأمها…لكنك لن تكون في حياتها أبداً!!
كاد يرد عليها بحدة …
لكنها قاطعته بنظراتها المسيطرة وهي تلوح بسبابتها هاتفة بحزم:
_تظن أنني منعتها عنك لأجلك فقط؟؟؟!!! لا يا عزيز…أنا منعتها عنك لأجلها هي أيضاً…ربما تكون حقاً قد أحببتها…لكن حبك ضعيف…لن يحتوي حزن ماسة وألمها…لن يسندها في وجه ظروفها الصعبة…لن يصمد أمام أول اختبار بل سيخذلها ….أنا واثقة من هذا!!!
هز رأسه في رفض وهو يهتف باستنكار:
_لماذا تقولين هذا؟!!! أنا أحبها حقاً !!
صمتت للحظات وهي تحدق في وجهه بنظراتها الخبيرة…
قبل أن تقول ببطء:
_هل تستطيع أن تتخلى عن مشروعك الكبير وسيارتك الفارهة وشقتك الفخمة لتقف في وجه والدك وتخبره أنك تريد الزواج من فتاة لقيطة فقيرة…وليس هذا فحسب….لكنها أيضا…
قطع عبارتها وهو يهتف بقوة:
_لا تقوليها يا أمي…أرجوكِ!!
تنهدت في حرارة…
ثم وضعت كفها على كتفه لتقول بحنان يمتزج بالحكمة:
_حتى لو لم أقلها …لن يغير هذا من الواقع شيئاً…لهذا قلت لك أنك لن تصلح لماسة…وهي لن تصلح لك…الحب وحده لا يكفي يا بني…صدقني!
أطرق برأسه وهو عاجز عن الاعتراض…
وفي الوقت نفسه عاجز عن التصديق!!!!
كلام رحمة كمشرط الطبيب قاسٍ لكنه شافٍ…
لكن ما حيلته في حب ماسة الذي يحتله من الشريان إلى الشريان….؟!!!
هل هو حقاً ضعيف هكذا ولا يستحق جوهرة كماسته…
أم أنه مكبل بقيود لا يستطيع الخلاص منها ؟!!!
للأسف…
ماسة كانت أكثر شجاعة منه…
واتخذت القرار الذي ظنته الخير للجميع…
ورغم أن هذا ما يوافقه فيه عقله بشدة…
لكن قلبه كان في وادٍ آخر…
منكسراً…ذاوياً…مجروحاً…
مسحوراً ببريق ماسة كانت ملكه يوماً…
و الآن لم تعد…!!!!!
تحسست حورية بطنها وهي تتنهد بحرارة….
هذا هو الطفل الذي حلم به عاصي الرفاعي منذ عشر سنوات…
عشر سنوات هي عمر زواجها به…
عشر سنوات قضتها مع “الشيطان” كما يطلقون عليه هنا…
عشر سنوات في سجن بلا مشاعر مع رجل تزوجته كُرهاً…
وعاشت معه كُرهاً…!!
وبقدر ما كان الجميع وأولهم “الشيطان” يتمنون هذا الولد…
بقدر ما كانت هي تتمنى ألا تحمل منه يوماً أي طفل…
لا ….لا تريد نسخة منه!
لا تريد -عاصياً -آخر يلوث العالم بقسوته وغلظته…
لا تريد أن ترى الفرحة على وجه عاصي بامتداد ذِكره بالذرية…
هو لا يستحق هذه البشارة …
أبداً لا يستحقها!!
ابتسمت في سخرية مريرة وشريط عمرها الذي أضاعته معه يمر أمام عينيها ببطء…
منذ سلمتها له عائلتها العريقة هنا في مدينتهم لتكون صفقة متبادلة بمسمى الزواج….
مجرد طفلة في الخامسة عشرة من عمرها….
تتزوج رجلاً يكبرها بخمسة عشر عاماً لتعميق أواصر المصالح المشتركة بين العائلتين…
ورغم نفورها منه في البداية…
لكنها لا تنكر أنها تأثرت بطلته الآسرة وهيبته- التي تنحني لها الجباه –
ظنت أن له قلباً سيلين لحالها الذي شرحته له بصراحة…
لكنها ما إن تعايشت مع قسوته وغلظة طبعه حتى ازدادت يقيناً أنها أبداً لن تحبه…
بل إنها كانت تتمنى في كل عام يمر عليهما معاً دون أن تنجب أن يتزوج امرأة أخرى كما جرت العادة هنا….
لعلها تشغله عنها…
وعن مراقبته الدائمة لها …
وخوفها الرهيب من أن تخطئ ولو دون قصد فينالها عقابه…
لكنه -وللعجب-لم يفعل…
ولم تجرؤ هي على سؤاله عن السبب…!!!!
من ذا الذي يجرؤ على سؤال “الشيطان “عن أسباب ما يفعله…؟؟!!!
هنا…
لا كلمة تعلو فوق كلمته…
ولا صوت يعلو على صوته…
الجميع يحنون رأسهم ويصغون للأوامر صاغرين فحسب…
هذا هو قانون عاصي الرفاعي الذي لم ولن يتغير…!!!!
لكنها عرفت كيف تنتقم منه …
ولو أنها غير راضية تماماً عن الوسيلة…
لكنه يستحق!!!
حتى لو قتلها….
ستستمتع بكل لحظة ترى فيها الألم في عينيه…
لعله يعوضها شعورها بضياع عمرها معه!!!!
قطعت أفكارها عندما فتح باب غرفتها بعنف …
فانتفضت على سريرها الذي ترقد عليه بأوامر منه منذ علم عن أمر حملها…
لتتعلق عيناها بعينيه القاسيتين وهو يتقدم نحوها ببطء…
ازدردت ريقها بتوتر ثم عجزت عن احتمال قسوة عينيه أكثر…
فخفضت بصرها عنه….
طال صمته لدقائق أمامها حتى شعرت بقلبها يكاد يتوقف ترقباً وقلقاً….
قبل أن يقول بنبراته القاسية:
_تعلمين عقاب الخطأ عندي !
رفعت عينيها إليه برعب حقيقي وهي تهمس باضطراب:
_ليس الأمر كما تظن…أنا….
قاطعها بعنف هاتفاً بصوته المخيف:
_اخرسي!!
انتفض جسدها رعباً وهي ترمقه بهلع…
غضب الشيطان زاد عن حده هذه المرة…
وتخشى أن تحترق بنيرانه ….
لقد ظنت أنها قد رأت منه أسوأ وجوهه على مدار تلك السنوات…
لكنها كانت مخطئة…
غضبه هذه المرة فاق كل كوابيسها….!!!!
لكن لمَ العجب؟!!
الأمر يستحق…
وهو أيضاً يستحق!!!!
نعم…الشيطان يستحق أن يحترق بنيرانه هذه المرة…
كما أحرق بها غيره طيلة هذه السنوات…
ورغم خوفها مما يمكنه فعله بها…
لكنها بداخلها تشعر بنوع من التشفي وهي تراه لأول مرة منذ عرفته بهذه الحيرة….
نعم…حتى لو ذبحها بيديه عقاباً على خطئها الذي لا يزال غير واثق منه…
حتى لو أحرق بركان غضبه عائلتها كلها…
كفاها أنها انتقمت منه كما تمنت طوال تلك السنوات…
اقترب منها ليحرقها لهيب عينيه الزيتونيتين وهو يرمقها بنظراته المخيفة للحظات…
قبل أن يقول بصرامة:
_الممرضة الجديدة على وشك الوصول…ستنفذين أوامر الطبيب بمنتهى الدقة…لا أريد أي خطأ…هل تفهمين؟!
ازدردت ريقها بتوتر وهي تومئ برأسها إيجاباً في خوف واضح…
ليرفع قبضته أمام وجهها هامساً بحزم:
_أما عن عقابك فتأكدي أنه سيكون بحجم خطئك.
ارتعد جسدها وهي تتعلق رغماً عنها بعينيه المشتعلتين ببريق شيطاني…
ليعتقها هو من هذا الأسر عندما أعطاها ظهره ليغادر الغرفة بخطوات بطيئة واثقة….
وضعت كفها علي صدرها وهي تشعر برغبة عارمة في البكاء…
الشيطان سيبقى لعنة عمرها التي لن تنتهي حتى تزهق روحها…
وهي موقنة من قرب لحظة نهايتها…
بل وللعجب…
تنتظرها!!!
وكأنها الخلاص الوحيد من عذابها معه!!!!
==========
جلست رؤى في غرفتها تبكي في الظلام وهي تشعر بالرعب….
عبد الله يريد تزويجها لذاك الخاطب الذي لا تعرفه…
وماذا سيفيدها لو عرفته؟!!!
هو كغيره…
كارثة ستحل بها بعد خطيئتها مع فهد….
ستنكشف حتماً مصيبتها…
وحينها سيقتلها عبدالله لو لم يسبقه زوج المستقبل في هذا!!!!
ورقة الزواج العرفي التي حصلت عليها جنة بمغامرة خطيرة لن تساوي شيئاً الآن…
وعبد الله لن يسمح لها برفض الخاطب…
لهجته الصارمة وهو يخبرها بموافقته جعلتها تدرك أن الأمر منتهٍ!!!
ازداد نحيبها الصامت وهي تستغفر الله سراً وتدعوه الخلاص من هذه المصيبة…
لكنها كانت تشعر بالقنوط من كل شئ…
كانت خجلة حتى من رفع يدها بالدعاء وهي ملوثة بالخطيئة…
بل إنها كانت تنتظر عقاب السماء…
وتخشاه !!!!
شعرت بطرقات خافتة علي الباب…
لا ريب أنها صفا الرقيقة…
جاءت تواسيها في مصيبتها هذه رغم أنها لا تعلم الحقيقة الكاملة.
قامت بتثاقل لتفتح لها الباب…
فاحتضنتها صفا بقوة لتهمس لها بحنان:
_هل هناك عروس تبكي هكذا؟!!
زادت عبارتها الحانية من دموع رؤى المقهورة…وانتفاضة جسدها الذبيح بخطيئته….
عروس؟!!!!
بئست العروس!!!
وبئست الزيجة!!!!!
جذبتها صفا من ذراعها نحو الفراش…لتجلس وتضمها لصدرها هامسة بحنان:
_لماذا تبكين هكذا؟! عبد الله لن يختار لكِ أي رجل….خاطبك رجل ميسور وسمعته طيبة…ورشته الكبيرة…
قاطعتها رؤي هاتفة بصدمة وسط دموعها:
_ورشته؟!!!!!!
هزت صفا رأسها بأسف لتهمس لها بتعقل:
_لا تتعجلي الحكم عليه….لا تجعلي هذا السبب البسيط عائقاً بينكما….الرجل يشهد له الجميع بحسن الخلق.
اتسعت عينا رؤي باستنكار وهي تهز رأسها في عدم تصديق…
منذ عدة أيام كانت كالأميرة التي تترقب فارسها المنتظر….
تحلم ببيت يضمها مع فهد الصاوي…
الوسيم الأنيق بمركزه المرموق…
والآن انقلب حلمها لكابوس…
هي لم تعد أميرة…
بل خاطئة عاصية!!!!
وفارسها لم يحملها علي حصانه بل دهس قلبها تحت حوافره….
لتجد نفسها مجرد جثة تنتظر أن يحملها رجل غريب على كتفيه…
رجل يختلف تماماً عن الصورة التي طالما تمنتها!!!!
ورشته؟!!!
هل ستتزوج رجلاً بسيطاً يعمل في ورشة طوال النهار ليأتيها آخر الليل بجسد ملوث وثياب مزرية؟!!!
هل ستتزوج رجلاً يقضي أغلب يومه مع العمال ليتشرب ألفاظهم المنحدرة؟!!!
هل هذه نهاية أحلامها العريضة برجل يعوضها بحنانه عن غلظة عبد الله وخشونة طباعه معها طيلة هذه السنوات؟!!!
لكن ما حيلتها هنا….؟!!!
هي لم يعد لها قرار في قبول أو رفض….
ستنتظر مصيرها المحتوم باستسلام …
منذ متى كانت لها قدرة على المقاومة؟!
تجمدت نظراتها في الفراغ وهي تضع كفها على صدرها بخوف…
خوف من وجدت نفسها فجأة في خضمّ موج عاصف…
فلا هي تستطيع العوم…
ولا هي قادرة على الرجوع!!!!
===========
وقفت دعاء تودعها عند محطة القطار بعدما ألحت عليها طويلاً أن تتناول الغداء معها قبل أن تذهب للسيد عاصي…
لكن ماسة رفضت برقة فقد كانت متلهفة بحق لترى عالمها الجديد هنا…
السيدة حورية زوجةالسيد عاصي لازالت في بداية حملها …
وهذا يعني أن أمامها بضعة أشهر هنا…
قبل أن تشغل تفكيرها في البحث عن عمل جديد…
أوصلتها دعاء لمنزل السيد عاصي ثم تركتها عند البوابة الكبيرة للقصر وهي تقول بإشفاق:
_لو احتجتِ شيئاً هاتفيني.
هزت ماسة رأسها وهي تتذكر شريحتها التي ألقتها من نافذة القطار بعد اتصال عزيز…
ثم همست بما يشبه الاعتذار:
_اكتبي لي رقمك وسأهاتفكِ عندما أستطيع.
أعطتها دعاء ورقة مطوية كتبت فيها رقمها ثم احتضنتها بقوة لتهمس بحنان:
_أنا أحببتك جداً يا ماسة….سأنتظر اتصالك لأطمئن عليك.
ضمتها ماسة بقوة وهي تشعر بحاجتها لهذا الحضن…
حمدت الله سراً أن منحها هذا الدعم العاطفي من هذه الفتاة الرائعة قبل أن تلج بقدميها إلى هذا المكان الذي ترهبه…
لوحت لها دعاء بكفها مودعة أخيراً فلوحت لها بدورها…
قبل أن تتوجه نحو بوابة المنزل الكبير…
وتطلب من الحارس أن يدخلها للقاء السيد عاصي…
======
استيقظ فهد من نومه الذي لم يهنأ به بعد ساعات قليلة…
شئ ما يقبض قلبه بقوة…
هذه المرأة تثير جنونه!!!
شئ ما بعينيها يجذبه نحوها بقوة…
ليس الأمر في غرورها ولا عنادها…
فقد قابل مثلها كثيرات ونجح في إطفاء غرورهن هذا…
لكنها تلك النظرة الفريدة في عينيها…
نظرة “ملكة مهزومة”!!!
مزيج القوة الكاسحة مع العجز !!!!
نعم…رغم ما تدعيه من ثبات وصلابة…
هناك شئ من القهر في نظراتها يتسلل شعاعه وسط جبال قوتها ليغشي عينيه رغماً عنه!!!
نفض الغطاء عن جسده …ثم قام من فراشه وهو يشعر بالضيق…
ما هذا الشعور الجديد الذي يملأ قلبه …
وكأنه…وخز ضميره!!!
ضميره؟!!!
ابتسم في سخرية مريرة…
فهد الصاوي ليس عنده ضمير…
فهد الصاوي قتل ضميره منذ زمن والميت لا يعود للحياة!!!
زفر بقوة وهو يهز رأسه في عجز…
عندما راوده خاطر مزعج…
هل من الأمان أن يترك امرأة جميلة مثلها مع رجاله هناك …
في ذاك المكان المنعزل…
وحدها ومقيدة؟؟؟!!!!
لا…ليس الأمر خوفاً عليها…
لكنها صارت من -ممتلكاته -كما أخبرها…
وهو رجل يجيد العناية بما يملك!!
انتفض من مكانه وقتها ثم ارتدي ملابسه على عجل…
وبعدها بقليل كان واقفاً أمامها في غرفتها التي احتجزها فيها…
عقد حاجبيه بشدة وهو يتفحص ملامحها الشاحبة…
والمختلفة تماماً عن تألقها بالأمس…
لكنها حافظت علي قسوة نظرتها الساخرة التي رمقته بها في ثبات…
اقترب منها وهو يسحب كرسياً ليجلس أمامها قائلاً ببرود:
_لماذا ترفضين الطعام منذ الأمس؟! هل تنوين الانتحار؟!
ابتسمت في سخرية وهي تقول بصوت خرج رغماً عنها ضعيفاً من فرط تعبها:
_الانتحار للجبناء ومثلي لا يلقى ربه جباناً كافراً.
ابتسم في إعجاب رغماً عنه وهو يتأملها للحظات…ثم أعاد سؤاله بنفس البرود:
_إذن لماذا ترفضين الطعام؟!
أشاحت بوجهها عن ابتسامته البغيضة-كما رأتها-لتقول بثبات:
_يداي مقيدتان…ولن أسمح لأحد من الثيران الذين بالخارج أن يطعمني!!
اتسعت ابتسامته -البغيضة-وهو يقول بخبث:
_إذن تفضلين أن أطعمك أنا؟!
ضحكت في سخرية لتقول بتهكم:
_لا…الانتحار أفضل!!
ضحك ضحكة عالية وهو يشعر أن اللعبة حقاً تروقه…
هذه دمية مختلفة…
لا…
من الظلم أن يطلق عليها لفظة “دمية” كالأخريات…
هذه امرأة مختلفة…
واللعب معها سيكون ممتعاً مثيراً لأبعد حد…!!!!!
لهذا قام واقفاً أمام نظراتها المترقبة…
ثم اقترب منها ببطء ليميل عليها بجسده حتي لاصق وجهها صدره وهو يحيطها بذراعيه…
أغمضت عينيها بقوة وجسدها يرتجف بعنف…
عطره الباذخ يخنق أنفاسها ويصيبها بالغثيان…
ما الذي سيفعله…
ياربي!!!
لا تجعله يؤذِني يارب!!!
قطعت دعاءها الصامت عندما أدركت أخيراً ما يفعله…
لقد كان يفك قيد معصميها المربوطين خلف ظهرها..!!!!!
أخذت نفساً عميقاً عندما انتهى من مهمته …
لتمسد معصميها برفق متجاهلة الألم النابض فيهما…
بينما عاد هو يجلس أمامها متأملاً ملامحها بتفحص…
ثم نادي على أحد رجاله ليطلب منه الطعام…
وضع الرجل صينية الطعام أمامها ثم انصرف…
فقال فهد ببرود:
_الآن يمكنكِ تناول طعامك…
ثم أردف بتهكم:
_دون أن يطعمكِ أحد!
أطرقت برأسها للحظات وهي تشعر بالإنهاك والتعب….
جسدها كله يؤلمها بشدة…
عظامها تئن وجعاً…
وتشعر بحاجتها للنوم مع هذا الصداع الرهيب الذي يجتاحها بلا رحمة….
لكنها تكابر أمامه كي تفقده لذة انتصاره-الحقير-بعد اختطافها!!!
وأمامها كان هو يشعر بالضيق من إطراقها هذا….
شغفٌ هائل يملؤه لالتقاط وهج البندق في عينيها من جديد…
في استفزازها بقوة حتى تنطلق شرارة القوة في عينيها ….
تلك التي تثير جنونه …
لكنها تعجبه….تعجبه بحق!!!
لهذا وجد نفسه يقول بوقاحة:
_أريدك بصحة جيدة حتي نتمكن من اللعب كما ينبغي.
رفعت رأسها إليه بحدة…
ليشتعل وهج البندق من جديد كما توقع بالضبط…
ثم رفعت كفها لتصفعه لكنه كان مستعداً لهذا…
فقبض على معصمها بقوة وهو يواجهها بقسوة عينيه هامساً ببطء:
_لستِ غبية إلى هذا الحد…قدري موقفكِ جيداً…أنتِ هنا في قبضتي بالكامل!!
قالها وهو يعيد التفحص في ملامحها لتجذبه بعض خصلات متناثرة من شعرها تفلتت من حجابها …
فانتابته رغبة قوية في أن يري ما تخفيه تحت هذا الوشاح…
ودون أي مقدمات…
مد يده بعنف لينزع عنها وشاحها مع رابطة شعرها…
فتفلتت خصلات شعرها كله لتنسدل علي كتفيها وظهرها…!!!!
هنا خفق قلبه بشعور غريب…
رغم كل النساء اللاتي عرفهن….
لم يرَ شعراً بهذه- الكثافة -من قبل…!!!!!
إنه ينسدل على كتفيها كشلال غزير…
ثريّ…
فياض…
متألق…
تماماً مثلها!!
أما هي فقد شهقت بعنف وهي تحاول تمالك غضبها…
هي ليست في وضع قوة كما قال…
لكنها لن تستسلم!!!
أغمضت عينيها بقوة وهي تحاول التركيز لتفكر في حل للخروج من هذه الورطة…!!!!
بينما كان هو يتأمل خصلات شعرها الملتمعة ببريق ينافس وهج البندق في عينيها…
ليمد أنامله ببطء كي يتلمس شعرها ولازال قابضاً على معصمها بكفه الآخر…
ففتحت عينيها لتهتف بحنق فجّره عجزها:
_لا فائدة!!! ستظل طوال عمرك تعيش على متع مسروقة…كن رجلاً ولو مرة واحدة في حياتك…جرب شعور الرجولة الحقيقية لعله يعجبك!
قبض أنامله بقوة قبل أن تصل لشعرها ….
ثم سحبها من معصمها الذي يمسكه بكفه الآخر ليقف ويوقفها أمامه هاتفاً بغضب:
_رجولة؟!!!! حسناً…سأعرف كيف أخرس لسانك الطويل هذا!
قالها وهو يجذبها لصدره بعنف ملصقاً جسدها بجسده…
لكنها دفعته بكل قوتها عندما لمحت مديته التي ألقاها بالأمس ملقاة على بعد خطوات…
ثم اندفعت نحوها بسرعة لتلتقطها فهتف بسخرية:
_ماذا ستفعلين بمدية واحدة في مواجهتي أنا والرجال بالخارج؟!
نظرت نحوه بثبات وهي ترفع المدية نحو صدرها لتقول بصوت مهزوز من فرط إرهاقها:
_إذا كنت تريدني فخذني جثة !!
قالتها وهي تكاد تهوي بالمدية علي صدرها هي فقد كانت تعلم أن إيذاءه هو لن يفيدها بشئ….
لكنه قطع المسافة بينهما بخطوة سريعة ليدركها في اللحظة الأخيرة فيمسك بكفها ويمنعها مما تريد…
كانت تقاتل باستماتة لتصل بنصل المدية لصدرها لكنه كان أقوى منها….
هنا مادت بها الأرض وهي تشعر بالدوار…
لتنتبه-لحظتها- أنها لم تأخذ دواءها منذ الأمس….
ومع امتناعها عن الطعام ستكون الغيبوبة -المعتادة-مصيراً متوقعاً!!!!
تثاقل جفناها وهي تشعر بطعم الهزيمة المر في حلقها…
لتسقط بعدها بين ذراعيه فاقدة للوعي!!!!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)