روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم نرمين نحمد الله

موقع كتابك في سطور

رواية ماسة وشيطان الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء الثالث والعشرون

رواية ماسة وشيطان البارت الثالث والعشرون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الثالثة والعشرون

وأخيراً وجد الجرأة ليدخل إلى غرفة نومه التي لم يستطع دخولها منذ أيام…
بالتحديد منذ أخبره فهد بالحقيقة التي كتمها طوال هذه السنوات…
هي كانت خائنة!!!
هي كانت مع رجل غيره هنا…على نفس الفراش!!!
نفس الفراش الذي ظل ينام عليه طيلة هذه السنوات إكراماً لذكراها!!!
هو الذي كان يجلد نفسه كل ليلة بذنبه القديم لأنه تزوج امرأة سواها في “الحلال”..
وهي التي عاشت تخدعه بوجهها البرئ في العلن…لترقص سراً على مسارح “الحرام”!!!!
هو الذي رمى ابنته في العراء خوفاً من أن تعلم هي….
وهي التي هتكت شرفه على مرأىً ومسمع من ابنه؟!!!
فبئست المقارنة!!!!
تقدم نحو الفراش بخطوات متثاقلة…
وعيناه تجتران آخر ذكرى “حية” له معها…بقبلتها الدافئة على وجنته…وابتسامتها التي كانت تجيد صباغتها بالنقاء…وصوتها الذي كان ينافسها في قوة خداعه…
لتحتل صورتها الأخيرة كيانه كله الآن وجسدها مسجىً على ذات الفراش ليلتها مضرجةً بدمائها وقد فارقت الحياة…وهو واقفٌ أمامها يصرخ بابنه يكاد يقتله بسبب فعلته!!!!
وما بين الصورتين كاد رأسه يضج بمشاعره الصاخبة…
صورتان كلتاهما خادعة!!!
فلا هي كانت بالبراءة التي كانت تدعيها؟!!
ولا ابنه قتلها بسبب فساده؟!!
هل تدركون شعور رجلٍ بلغ هذا العمر ليدرك فجأة أنه عاشه كله مخدوعاً؟!!!
هل سمعتم عن الأخسرين أعمالاً؟!!
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؟!!!
هل جربتم حسرة من بلغ آخر الطريق ليدرك في منتهاه أنه …ضالّ!!!
هذا بالضبط ما كان يمور بصدره وهو واقفٌ -بهذا الحمل الثقيل على قلبه- أمام الفراش…
ليرفع كفه الخالي أمام وجهه مباعداً بين أنامله وهو يهمس بذهول:
_كيف تسرب العمر هكذا من بين أصابعي لأجدني في النهاية …مجرد خاسر كبير؟!!!
ثم دمعت عيناه وهو يتذكر طفلة رضيعة حملها بين ذراعيه يوماً …ثم رماها بلا أدنى شعور ودون حتى أن يهتم بمصيرها…
ليعاود همسه الكسير:
_لو كانت على قيد الحياة…فهي شابةٌ يافعة الآن!!
ثم اختنق بغصة حلقه وهو يحدث نفسه بألم:
_أنا حتى لم أعرف اسمها!!!بعتها بلا ثمن فداءً لسراب!!!!
قبل أن تنطلق من حلقه آهة ألم حملت كل انكساره وخيبته…
ليتذكر بعدها مؤخراً ما فعله بابنه وزوجته!!!
وكل هذا لأجل ماذا؟!!!
لأجل حفنة أموال لن تشاركه قبره!!!
لأجل مركز وسلطة لن تدوم له كما لم تدُم لغيره!!!!
لأجل متع زائلة يشعر الآن فقط كم كانت لا تستحق!!!!
وبهذا الإدراك الأخير أخرج قداحته الأنيقة من جيب سترته ليشعل النيران في طرف ملاءة الفراش ….
وكأنه بهذا سيحرق هذا الماضي الذي التهم عمره كله دون أن يشعر…
ثم وقف مكانه يراقب اشتعالها بشرود ….
وضميره الذي استيقظ مؤخراً يعاود جلده بسياط ندمه…
ندم لم يعد ليفيد أحداً بعدما نفد السهم في قلب الضحية!!!
لينتبه أخيراً من شروده على صوت هاتفه الذي رن بجيبه فوجده اتصالاً من مدير حملته الدعائية بخصوص الانتخابات الأخيرة…
وكأنما انقلب حاله بلحظة!!!
ليعاود طمعه دفن ضميره تحت أثقال طموحٍ “شبّ”عليه ويبدو أنه “سيشيب” عليه!!!
نعم…يشيب ابن آدم وتشب معه خصلتان:الحرص وطول الأمل!!
وحصاد سنواتٍ من الذنوب لن ينطفئ بندم ساعة!!!
لهذا وجد نفسه يفتح الاتصال بلهفة ليطمئن من الرجل على آخر تطورات الوضع…
قبل أن يغلق الاتصال منتبهاً للحريق الصغير الذي نشب في الغرفة…
فخرج منها بخطواتٍ متثاقلة قبل أن يلقي نظرة أخيرة على الفراش المشتعل…
ثم نادى أحد الخدم ليأمره بإطفاء هذا الحريق بسرعة وإغلاق هذه الغرفة للأبد!!!!
لكنه ما كاد يغادر المنزل حتى وجد هاتفه يعاود رنينه فانعقد حاجباه بضيق وهو يقرأ اسم المتصل…
أو بالأدق…المتصلة!!!
أشاح بوجهه للحظات في ضيق وهو يفكر في تجاهل الاتصال…
ثم فتحه أخيراً ليهتف بترحاب مصطنع:
_أهلاً يسرا…كيف حالك يا ابنتي؟!!
لكنه اصطدم بصراخها الهستيري :
_أين فهد يا عمي؟!!كيف يسافر ويترك عروسه هكذا ببساطة ولو لأجل العمل؟!!كما أن هاتفه مغلق دوماً؟!!ما الذي تخفيه عني؟!!
فزفر بخفوت وهو يبعد الهاتف قليلاً عن أذنيه اللتين أصمهما الصراخ ..
ليقول بارتباك:
_هو مشغولٌ للغاية يا ابنتي…لا يكاد يجد وقتاً لأي شئ…أنتِ لا تعلمين مدى اهتمامه بعمله!!!
كان يعلم أن حديثه هذا لن يقنع طفلاً صغيراً…فما باله بامرأة كيسرا ؟!!!
فهد الأحمق سيزج به في مشاكل لا قِبل له بها مع رفعت الصباحي وابنته!!!
وهو لا يدري ما الذي ينتوي فعله بعد ما حدث بينهما!!!
لكنه يثق أنه لن يبتعد كثيراً!!!
مادامت هذه المرأة قد اختفت تماماً من حياته فهو سيعود إليه صاغراً…
ربما سيحزن قليلاً وربما يعيش فترة ناقماً عليه…
لكنه حتماً سيعود!!!
لن يستطيع الاستغناء عن حياته الرغدة التي اعتادها !!
سيعود!!!
سيعود!!!
وبهذا اليقين أردف بثقة محدثاً تلك المشتعلة على الجانب الآخر من الاتصال:
_بضعة أيام فقط يا ابنتي…وسيعود إليكِ!!!
بينما أجابته هي بالمزيد من صراخها المعترض…
قبل أن تغلق الاتصال بعنف وهي تلقي هاتفها جانباً تكاد تلهث من فرط انفعالها…
ما الذي يحدث من وراء ظهرها؟!!
أين اختفى فهد؟!!
ولماذا هجرها هكذا بسرعة ؟!!
بل إنه حتى لم يمسها كزوجته!!!
ذاك الصباح الذي عقب ليلة زفافهما استيقظت من نومها مشوشة لتجده جالساً على الأريكة يتشاغل بحاسوبه المحمول عنها…وهكذا كان حاله في اليومين التاليين…
كان يتحاشى الجلوس معها هارباً بالنوم بأسباب ملفقة لم يكن إجهاده أولها ولا آخرها…
وكلماته -مصطنعة الود -لها لم تقنعها بمشاعره…
كما أن نومها “الغريب” المفاجئ كل ليلة أخافها!!!
نعم…لقد خشيت أن يكون هذا تأثير الأقراص التي داومت على تعاطيها مؤخراً بإيعاز من أحد صديقاتها…
تلك الأقراص التي صارت تحتاجها حقاً لتحسين مزاجها الناري الذي يزداد اشتعالاً يوماً بعد يوم!!!
تماماً كما الآن!!!
رأسها يكاد ينفجر وخلاياها كلها تئن بحاجتها لهذه الأقراص!!!
أدمنتها؟!!
وما المشكلة؟!!
مادامت تملك دوماً ثمنها وتعرف الطريق إليها!!!!
هي يسرا الصباحي…ومتى أرادت شيئاً فسيكون تحت قدميها!!!
لهذا عادت تتناول هاتفها لتتصل برقم ما وما كاد الاتصال يُفتح حتى هتفت بعصبية:
_الليلة الساعة العاشرة…دعكِ من هذا “التنقيط”…أريد كمية تكفيني لشهر كامل!!!
===============
_ماذا بكِ يا فتون؟!!
هتفت بها صفا وهي تلاحظ شرودها أثناء غسيلها للأطباق في مطبخ شقتها فشهقت فتون للمفاجأة قبل أن تغمغم بارتباك:
_لا شئ يا سيدتي…شكراً لسؤالك!
تفحصتها صفا باهتمام وهي تلاحظ غرابة حالها منذ أيام …
لكن الصغير محمد كفاها المزيد من التفكير عندما هتف بثرثرته المعهودة:
_حسني يضايقها…هي تبكي كلما تحدث إليها!!
التفتت نحوه أمه بحدة وقد كانت مفاجأتها أكبر لملاحظته هذا الشئ ثم نهرته بكلمات مضطربة…
بينما نقلت صفا بصرها بينهما للحظات قبل أن تقول للصغير بحنانها الفطري:
_محمد حبيب “ماما صفا”…سيذهب الآن لمشاهدة التلفاز ولو حافظت على هدوئك سأعد لك مفاجأة حلوة مثلك!!
صفق الصغير بكفيه في مرح ثم احتضنها بقوة قبل أن يهرول للخارج …
فالتفتت صفا نحوها لتغمغم بقلق:
_من حسني هذا ؟!!ولماذا يضايقك؟!!
انفجرت فتون في البكاء فجأة وهي تترك ما بيدها…فجذبتها صفا إلى مقعد قريب لتربت على كتفها قائلة بحنان مشوب بالقلق:
_تكلمي يا فتون…أنتِ تعلمين مكانتكِ عندي…يشهد الله أنني أعتبرك كشقيقتي …طوال هذه الأيام التي عملتِ فيها هنا وأنا لم أرَ منكِ إلا كل خير….لهذا سأساعدكِ بكل طاقتي…فقط أخبريني.
لكن فتون استسلمت لانهيارها الباكي للحظات…قبل أن تهمس بألم:
_الناس لا ترحم يا سيدتي…وخصوصاً امرأة مثلي في ظروفي…ماذا أقول لكِ عن المغازلات التي أسمعها كل يوم في طريقي لشراء حاجيات المنزل..؟!!!وليت الأمر يقتصر على هذا بل تطور الأمر لمضايقات صريحة…حسني هذا هو “بواب” عمارة مجاورة…فوجئت به بالأمس يطرق عليّ باب غرفتي بمنتهى الجرأة ليلمح لي برغبته في زواج سري !!!
شهقت صفا بدهشة قبل أن ينعقد حاجباها في غضب وهي تهتف:
_السافل!!!ولماذا لم تصفعيه على وجهه وقتها وتطرديه من غرفتك؟!!لماذا لم تصرخي وتستنجدي بأي أحد؟!
فرفعت إليها فتون عينين كسيرتين وهي تهمس بخزي:
_خفت يا سيدتي…خفت!!!
هزت صفا رأسها بأسى فيما أردفت فتون بمرارة:
_لعن الله جمالاً لمن كانت في ظروفي!!!لناس تنظر إليّ وكأنني شيطانة متحركة…أرملة وحيدة بطفلها وفقرها لن تكون في نظرهم سوى غانية تنتظر الإشارة لتقبض الثمن!!
دمعت عينا صفا في تأثر بينما ابتسمت فتون بسخرية مريرة لتكمل نزيف روحها:
_تعلمين ماذا كان سيحدث لو كنت فعلت كما تقولين؟!!!لم يكن أحدٌ ليصدقني!!!كان سيفتري عليّ بالباطل… بل ربما كان سيزعم أنني من كنت أغويه لأحضره لبيتي…صدقيني يا سيدتي…الناس لا يرجمون إلا المرأة بحجارة ظنونهم ….وخاصةً لو كانت مثلي!!
ضمتها إليها صفا بحنان للحظات وهي تفكر في حديثها…
هي -نسبياً- على حق!!!
للأسف امرأةٌ ك”فتون” في هذا المجتمع هي دوماً من يقع عليها العقاب…
هي في نظر الجميع مدانةٌ حتى تثبت براءتها وليس العكس!!!
جمالها المبهر مع وحدتها وفقرها يجعلون منها لقمة سائغة لمن تسول له نفسه إرضاء جوعه بصيد رخيص!!!
وإن كانت “فتون” أكثر حظاً من غيرها لأنها وجدت من يساعدها فهناك ألف “فتون” غيرها لا يجدن من يمد لهنّ يد العون فيتخبطن بين ظلمات العوز وسوء الظن !!!!
لهذا ربتت على ظهرها برفق قبل أن تقول لها بحزم رفيق:
_لا تحملي هماً…أنا سأكلم الشيخ عبد الله ليوقفه عند حده ولن يضايقك بعد…لكنني لا أريدك أن تكوني ضعيفة هكذا…طالما أنتِ لم تخطئي فقفي في وجه العالم كله واصرخي بحقك…ضعفك هذا قد يؤوله البعض على أنه رضا عن الخطأ…هل تفهمينني؟!!
أومأت فتون برأسها وهي ترمقها بنظرة امتنان…
فابتسمت صفا بدورها وهي تردف بإشفاق:
_ولا تجعلي الصغير يشعر بشئ…محمد ذكي…وإدراكه يفوق سنه بكثير… خاصةً وأنك أنتِ كل عالمه!!
تنهدت فتون بحرارة ثم غمغمت بفتور:
_حسناً يا سيدتي.
ثم قامت من مكانها لتعاود عملها وهي تردف بامتنان:
_آسفة لإزعاجك بمشاكلي…جزاكِ الله كل خير!!!
فقامت صفا بدورها لتربت على كتفها بمؤازرة عندما عاود الصغير اقتحام المكان ليهتف بلهفة طفولية:
_لا أستطيع أن أحافظ على هدوئي أكثر من هذا….فأين المفاجأة؟!!
ابتسمت فتون بحنان فيما انطلقت صفا ضاحكةً وهي ترفعه بين ذراعيها لتغرقه بقبلاتها قبل أن تهتف بمرح:
_ألم تكن غاضباً منذ أيام لأنك كنت تريد احتفالاً بيوم ميلادك كابن الجيران؟!!ما رأيك لو نقيم احتفالاً صغيراً الآن؟!!
ضحك الصغير بسعادة فيما غمغمت فتون باعتراض مشوب بالحرج…
لكن صفا أوقفته أرضاً لتتوجه نحو خزانة المطبخ مستخرجةً علبة ضخمة تحوي سيارة بلاستيكية كبيرة أعطتها له فتلقفها منها بلهفة قبل أن يغمغم بغضب طفولي:
_لكن هذا ليس احتفالاً…أين الكعكة والأغاني؟!!
زجرته والدته بعنف لكن صفا أشارت لها بالصمت قبل أن تتوجه نحو ثلاجة المطبخ لتستخرج كعكة كانت قد أحضرتها خصيصاً لأجله…
ثم وضعتها على مائدة المطبخ لتقول له بمرح:
_ها هي الكعكة يا بطل…!!!!
قبل أن تتوجه نحو الحاسوب هناك لتشغل بعض أغاني الأطفال الشهيرة بصوت عالٍ….
فتعالت ضحكات الصغير وهو يضع اللعبة جانباً…
ليتمايل بحركات راقصة ماهرة لا تتناسب وسنه الصغير… جعلت صفا وفتون ينفجران في الضحك للحظات من منظره العجيب…
قبل أن تسحب صفا فتون من ذراعها هاتفة بمرح:
_هيا ارقصي…افرحي مع ابنك…وانسيْ همومك…لا شئ يستحق الحزن!!!
فابتسمت فتون وهي تتقدم نحو صغيرها ليرقص ثلاثتهم بمرح مع تصفيقهم الحاد لدقائق مرح صاخبة طالت ….
_ما الذي يحدث هنا؟!!!
شق صراخه الهادر المكان رغم صخب الألحان فشهقت فتون بخوف وهي تضم صغيرها لتتوقف مكانها مصدومة…
بينما تمالكت صفا نفسها لتتوجه نحو الحاسوب وتغلقه بسرعة هاتفة بارتباك:
_عبدالله!!!لماذا عدتَ مبكراً؟!!
كز على أسنانه بغضب وهو يصيح باستنكار:
_غناء ورقص في بيت الشيخ عبد الله؟!!هل جننتِ يا صفا؟!!
احمرت وجنتاها خجلاً وهي تشعر بالحرج من تعنيفه لها أمام “خادمتها”…
بينما غمغمت فتون مدافعة:
_إنه خطئي أنا يا شيخ عبد الله…الصغير…
_من أذن لكِ بالكلام هنا؟!!
كان هذا صراخه العنيف الذي قاطع حديثها والذي أردف بعده بثورة أكبر وقد فقد السيطرة على أعصابه تماماً:
_مجرد وجودكِ في هذا البيت خطأ…اخرجي حالاً…لم أعد أريد رؤية وجهكِ هنا!!!
انفجر الصغير باكياً بين ذراعيها فكادت صفا تحمله لتهدئ من روعه لكن عبد الله أكمل هديره العاصف:
_خذي ابنك وارحلي …استغنينا عن خدماتك.
ضمت فتون صغيرها لصدرها بقوة وهي تهرول لتغادر المكان بينما اندفع عبد الله لغرفته ليغلق بابها خلفه بعنف تاركاً صفا خلفه مذهولةً مما حدث!!!
هي تعرف عن عصبية طباعه وتشددها أحياناً لكنه اليوم لم يبدُ في حالة طبيعية…
لقد بدا وكأنه بركانٌ خمد عمراً لينفجر فجأة دون سابق إنذار!!!
مهما كان استياؤه مما رآه لم يكن الأمر يستحق أن يطردها من عملها!!!!
وفي غرفته توجه هو نحو النافذة ليفتحها بعنف محاولاً استنشاق بعض الهواء لعله يخمد حرائق روحه…
و”جسده”!!!
نعم.. لازالت صورتها الراقصة بدلال مع صغيرها تحتل عقله بل كيانه كله…
لتجرف في تيارها كل سدود مقاومته التي يحاول التشبث بها…
لقد صارت تلك المرأة “هوسه الخاص”!!!
نهاره صار يقضيه في صراعه مع عقله ليطرد خيالاتها “الماجنة” التي تلهب حواسه…
وليله الذي تغتاله أحلامه الجارفة بها وكأن الأرض فجأة عدمت نساءها فلم يعد يرى سواها!!!!
هل هو حب؟!!!
لا…هو ليس غراً ساذجاً ليخطئ تمييز الحب في قلبه…
شعوره بتلك “الفاتنة” أقرب لرغبة “المدمن” في مخدرٍ يرضي حواسه رغم اعتراض عقله…
فلا هو قادرٌ على إطفاء اشتهاء حواسه….ولا هو بأصمَّ عن صوت عقله وضميره…!!!
وبينهما هو مكبلٌ بقيود شياطين رغبته المحمومة التي تذكيها تلك المرأة يوماً بعد يوم!!!
انقطعت أفكاره عندما سمع صوت باب الغرفة يُفتح لتدخل منه صفا التي اقتربت منه ببطء…
فبادرها بقوله دون أن يستدير نحوها:
_اخرجي الآن…لا أريد الحديث!!!
لكنها بدت وكأنها لم تسمعه فقط امتدت أناملها تمسد كتفيه كعادتها وهي تهمس بحنانٍ تدرك الآن أنه يحتاجه:
_لن أتحدث يا عبد الله…دعني فقط أبقَ جوارك!!
اقشعر جسده لملامستها فانتفض بقوة وهو يهمّ بالابتعاد لكنها تشبثت بكتفيه هامسة بنفس النبرة الحانية:
_لا تبتعد …صدقني أنت تحتاج هذا الآن حتى ولو لم تدرك أنت ذلك.
فزفر بخفوت وهو يستسلم أخيراً للمساتها القوية الحانية…
والتي أشعلت صراعه الداخلي أكثر بين انتمائه “القديم” لها…ورغبته”الحديثة” في التمرد على هذا الانتماء!!!
ليقبض أنامله بقوة مع تشنج جسده الذي شعرت هي به…
فصمتت طويلاً قبل أن تهمس بتردد:
_إنها أول مرة أعجز فيها عن احتواء تعبك…هل فقدت لمساتي قدرتها؟!!
عاد يزفر بقوة قبل أن يزمجر بضيق:
_ألم تقولي أنكِ لن تتحدثي؟!!
تيبست أناملها على كتفيه وهي تشعر بالغرابة…
عبد الله يخفي عنها شيئاً عظيماً لا يقوى على البوح به وهي التي كانت دوماً مستودع أسراره…
فما الذي جدّ عليهما؟!!
ورغم ما تشعر به الآن نحوه من قلق لكن لهجته الجافة أشعرتها ببعض الإهانة فسحبت كفيها جوارها لتهمس بعتاب:
_هكذا إذن ؟!!حسناً…سأتركك كما تريد.
قالتها وهي تهمّ بالمغادرة لكنها ما كادت تخطو بضع خطوات حتى شعرت به يجذبها لصدره بعنف ليخفي وجهه في تجويف عنقها دون كلمة واحدة…
فقط أنفاسه اللاهثة فضحت لها انفعالاً وغضباً استشعرته بقلبها قبل جسدها…
فضمته إليه بكل قوتها للحظات…
قبل أن يصلها تأوهه الخافت الذي سبق همسه :
_لا تتحدثي يا صفا…فقط ضميني هكذا.
زادت من تشبث ذراعيها الحنون به وهي تربت على رأسه برفق…
لتفاجأ به يهمس بعد لحظات مناقضاً قوله:
_لا…بل تكلمي…قولي أي شئ…أغرقي أذنيّ بصوتك فلا أكاد أسمع غيره…امزجي أنفاسكِ بأنفاسي …تكلمي…
ثم اعتصرها بين ذراعيه مردفاً بحرارة:
_ساعديني يا “صفا روحي”…ساعديني!!
انعقد حاجباها بقلق ممتزج بالشك وهي تستمع لهمساته التي مست قلبها بصدقها…
لترفع وجهها نحوه هامسةً بجزع:
_ماذا بك يا حبيبي؟!!
اشتعلت عيناه بلهب الصراع الذي يغزو روحه الآن بعنفوان كاسح للحظات…
قبل أن يخمد بريقهما تماماً وهو يبعدها عنه برفق وقد استرد صوته قوته ليقول باقتضاب:
_لاشئ…أنا شعرت ببعض التعب لهذا عدتُ مبكراً.
قالها ثم استدار عنها ليبدل ملابسه قبل أن يندس في فراشه صامتاً…
فابتسمت بحنان لتذهب إليه فتتمدد جواره وهي تدفن وجهه في صدرها هامسة:
_تريد حكاية قبل النوم؟!
رفع إليها وجهاً استنار ببسمته أخيراً وهو يتشبث بخيوط حنانها اللامعة بعينيها قبل أن يهمس بشرود:
_احكي لي حكايتنا…أحب دوماً سماعها منك.
تنهدت بحرارة وهي تداعب شعيرات لحيته بأناملها لتهمس بفخر امرأة عاشقة :
_وهل هناك أجمل من حكايتنا؟!!حكاية عبد الله وصفا روحه!!
أغمض عينيه باستسلام ليصله همسها الدافئ يهيل التراب على جمرات شيطانه فيخمدها:
_كانت هناك فتاةٌ يتيمة رباها عمها…كبرت بداره وكبر معها احتياجها لرجل يعوضها بحبه عن يتمها…حتى اصطدمت عيناها ذات يوم بذاك الوسيم الذي كان يعمل بمكتبة أمام مدرستها الثانوية…كانت تتذرع بحجج كثيرة لتذهب إليه هناك مع أنه لم يكن ينتبه إليها….لكن وسامته لم تكن فقط ما جذبها إليه…بل تدينه واستقامته…أحبته كمراهقة رأت فيه فارس أحلامها حتى ترك هو العمل بالمكتبة وتركت هي مدرستها لتلتحق بالجامعة ….
ابتسم بحنان وهو يستعيد معها ذكرياتها ثم طبع قبلةً عميقةً على باطن كفها …بينما أردفت هي بنبرتها الدافئة:
_ظنت هي أن حكايتهما انتهت ها هنا..أنهت دراستها الجامعية وعقب نجاحها أهداها عمها سيارة حديثة الطراز وأرسلها لتتعلم القيادة…لكن البائسة في أول محاولة لها للخروج وحدها بسيارتها صدمت أحدهم في الطريق …وعندما ترجلت من سيارتها لتتفحصه فوجئت أنه فارسها القديم!!!
اتسعت ابتسامته وهو يهز رأسه هامساً بتعجب:
_في كل مرة أسمع منكِ هذه الرواية لا أكاد أصدق…أنا لا أذكر أبداً أنني كنت أراكِ أثناء عملي في المكتبة.
فربتت على وجنته لتهمس بفخر:
_أنت كنت تغض بصرك…ليس عني أنا فحسب…بل عن جميع الفتيات…طالما كنت خلوقاً يا حبيبي!!
ازدرد ريقه ببطء وكلماتها تنكأ جرحه من جديد…وتوخز ضميره قبل قلبه….
ليزفر بحرارة قبل أن يهمس بشرود:
_كانت فترة صعبة في حياتي…توفي والداي وتركاني وحدي مع رؤى…لأجد نفسي مسئولاً عن كلينا في هذا السن الصغير…حياتي وقتها لم تكن تسمح لي حتى بالتفكير في رفاهية ملاحظة الفتيات…
قبلت جبينه بعمق وهي تضمه إليها أكثر لتعاود الغوص في بحار ذكرياتها معه وحدها…
مالم تخبره به أنها عانت كثيراً تلك الفترة كي تقنع عمها بالموافقة على زواجه منها خاصةً مع رغبة عمها في تزويجها من أنس…
لكنها آثرت عبد الله رغم أنها كانت تشعر بتردده في التقدم لخطبتها لفارق المستوى الاجتماعي بينهما…
بل إنها ستصدق نفسها وتعترف أنها هي -تقريباً- من دفعته لهذه الخطوة بشبه تصريح له بمشاعرها…
شئٌ ما بداخلها وقتها أخبرها أنه سيكون رجل عمرها كله…
الرجل الذي سينتمي لها وتنتمي له ليكملا معاً الطريق!!!
لهذا لم تبخل عليه بشئ قبل زواجهما ولا بعده…
هي اشترت له هذه الشقة والمحل الذي أداره هو بمهارته حتى صارت له سمعته المعروفة…
وهو أيضاً تحمل معها مشاق علاجها وانتظارهما الطويل لطفلهما الذي لم يأتِ بعد…
لكنها واثقةٌ أنه سيأتي…
حب كحبهما يستحق أن يمتد أثره في هذا العالم بقطعة هي منه ومنها…!!!
لهذا ربتت على رأسه برفق هامسة:
_رغم غرابة قصتنا…لكنني أصدق في حسن تصاريف القدر.
فرفع رأسه إليها ليقبل جبينها بعمق قبل أن يهمس بمزيج من مرارة وعشق:
_بل أنتِ رزقي الذي ساقه لي القدر من غير حولٍ مني ولا قوة…رزقٌ أخشى ألا أؤدي حق شكره فأعاقَب بالفقر دونه..
انقبض قلبها بقلق وهي تعاود التطلع لعينيه هامسة :
_لماذا تقول هذا الآن ؟!
أغمض عينيه ليدفن حديثهما تحت أنقاض كتمانه مكتفياً باحتضانه الصامت لها…
فاحترمت سكوته لدقائق قبل أن تهمس بتردد:
_عبد الله…لي لديك رجاء!!
اكتفى بهمهمة صامتة دون أن يفتح عينيه فتنحنحت بارتباك ثم عاودت همسها الراجي:
_محمد لم يكن له ذنب…الصغير كاد يموت رعباً من صراخك…ثم أنك أنت المخطئ. .عدت مبكراً عن موعدك ولم تخبرني.
رفع إليها رأسه بحدة ليهتف باستنكار :
_بعيداً عن أنه ليس من المفترض أن أستأذن قبل دخول بيتي…لكنني فعلت…لقد كلّت يدايَ من طرق الجرس لكنك بالطبع لم تسمعيه مع ذاك “المهرجان” الراقص!!!
عضت على شفتها بخجل ثم غمغمت بدلال تعرف تأثيره عليه:
_الصغير كان يحتاج لاحتفال كهذا…وأنت تعرف نقطة ضعفي…سامحنا يا شيخ!!
أتبعت قولها بقبلة عميقة على وجنته فزفر مشيحاً بوجهه…
بينما أردفت هي باستطراد:
_والمسكينة فتون أيضاً…تصور أن …
ثم حكت له تفاصيل ما روته لها فتون عن مضايقة الناس لها خاصةً ذاك المدعو “حسني”…
فتشنج جسده بغضب مكتوم لم تفصح عنه كلماته بينما أنهت هي حديثها بقولها :
_الشيخ عبد الله صاحب القلب الطيب لن يرضى بظلم أحد…خاصةً امرأة مثلها وابنها…أرجوك يا حبيبي دعها تستمر في عملها هنا…أنا أحتاجها.
تنهد بحرارة وهو يبتعد عنها ليعطيها ظهره ساحباً الغطاء على رأسه دون رد…
فابتسمت وهي تربت عليه من فوق الغطاء لتردف بحنان:
_أنا أعرف أنك لن تخيب رجائي!!!!
===============
جلست على أحد الكراسي في حديقة فناء المدرسة تداعب الأرض بعصا طويلة في يدها وهي تفكر …
حالها مع عبد الله يؤرقها …
جدران عاطفتهما تتصدع ولا تستطيع تبين السبب…
تراه موضوع الإنجاب ؟!!!
لكن عبد الله لم يشكُ من هذا الأمر يوماً…على العكس هي التي كانت تسعى للعلاج بكل عزيمتها حتى كادت تفقد الأمل فقررت الاستسلام لمصيرها…
إذن ماذا عساه يكون؟!!
هل تراه عاد لتلك المواقع المشينة التي كان يتابعها؟!!!
أم لعلها امرأة حقيقية هذه المرة؟!!!
انقبض قلبها عند خاطرها الأخير فألقت عصاها أرضاً ثم كتفت ساعديها لتغمض عينيها في شرود…
عندما وصلها صوته الهادئ:
_ماذا بك يا “صافي”؟!!
فتحت عينيها لتنظر إليه بدهشة عندما جلس على كرسيه جوارها ثم ابتسمت ابتسامة شاحبة وهي تغمغم بمودة ظاهرة:
_لو تعلم كم أحب اسم “صافي”هذا!!!وكأنه يعيدني طفلة في كل مرة أسمعه فيها!!!
ابتسم هو الآخر والحنين يتوج أفكاره مع قوله في شرود:
_هل تذكرين شجرة “الجوافة” التي كنا نلعب تحتها في حيّنا القديم؟!!
فضحكت بانطلاق وهي تتذكر ما يحكي عنه لتقول بمرح:
_كنت تتسلقها لتحضر لي بعض ثمارها…ويوماً ما علقت ثيابك بالأغصان ولم يخلصك إلا عمي قبل أن يعاقبك بحبس أسبوع كامل في المنزل!!
ضحك بدوره وقد اكتست عيناه بعاطفته التي كانت هي غافلةً عنها وهي تردف بنفس الشرود الغارق في الحنين:
_وتلك الخطوط المتقاطعة التي كنا نرسمها ب”الطبشور” على الأرض لنقفز فوقها على ساق واحدة… مع أطفال الحي!!
فتنهد بحرارة ثم غمغم بهدوء لم يُخفِ حزنه:
_بالطبع أذكر…بل إنني لا أستطيع تذكر يومٍ واحد من طفولتي دون أن تشاركيني فيه!!
دمعت عيناها بتأثر وقد استشعرت الحرج هذه المرة…
لازال أنس يحيرها بشأنه…
هي تعلم أنه كان يرغب في الزواج منها قبل عبد الله لكنه لم يلمح لها يوماً بأي مشاعر…
حتى أنها كانت تظن أن الزواج هذا كان فكرة عمها…فهي لم تنظر لأنس يوماً إلا على كونه أخاها ورفيق طفولتها…
لكن إعراضه عن الزواج حتى الآن…واهتمامه الدائم بها…
وتلك النظرات الدافئة التي تتسلل أحياناً رغماً عنه إليها…
كل هذا يشعرها أنه -ربما- يحمل لها بعض المشاعر غير الأخوة…خاصةً مع وصية عمها الأخيرة لها بعد طلاقها -الثاني- من عبد الله أن تتزوجه هو !!!
وعند ذكر طلاقها الثاني هذا تقلصت كل الأفكار في ذهنها لتعاود صورة عبد الله احتلالها لكيانها كله فزفرت بقوة قبل أن تغمغم بشرود:
_ليتنا بقينا صغاراً!!
تفحصها ببصره للحظات وهو يقرأ حزنها على صفحة وجهها فانعقد حاجباه وهو يقول باهتمام:
_لا تبدين سعيدة يا صافي…ما الأمر؟!!
أطرقت برأسها دون رد فأردف بضيق:
_هل عاد عبد الله يضايقك؟!
رفعت رأسها إليه بسرعة لتهتف مدافعة:
_لا…أبداً…عبد الله يبذل قصارى جهده لإسعادي…أنا فقط أشعر أننا….
قطعت عبارتها عاجزة عن إكمالها …فقال بأسف:
_أنتما تتباعدان!!
رفعت إليه عينيها بدهشة للحظة قبل أن تهز رأسها في موافقة…
فنظر للأفق أمامه بشرود قبل أن يردف :
_عبد الله طفل كبير…ظروف نشأته جعلته يكتسب بعض الأنانية وكثرة التطلب…وأنتِ للأسف عمقتِ سلوكه هذا بإسرافك في عطائك معه…هو لم يعد يدور إلا في فلك نفسه…ورغم تدينه الواضح لكنه لازال لا يدرك مفهوم “الرضا”…أن يقنع بما في يده فحسب…وهو لن يسعد أبداً مادام لا يرى في مراياه سوى صورة نفسه…
ازدردت ريقها بتوتر وهي تشعر بصحة حديثه…
خاصةً عندما أردف هو بابتسامة شاحبة:
_أراهن أن عملكِ هنا هو سبب مشكلتكما الحالية…هو لا يقدر حاجتك إليه…يريد اهتمامك كاملاً كما اعتاد منذ بداية علاقتكما.
أومأت برأسها في موافقة وقد أدهشها أنه يلاحظ كل هذا رغم أنها لم تخبره عن شئ من هذا من قبل…
ثم هتفت بتعجب:
_غريبٌ أن تجيد قراءة حياتنا بهذه المهارة.
لكنه أطرق برأسه متمتماً بأسى:
_أنا أحفظ كل تفاصيلك صغيرها وكبيرها…أنتِ لا تدركين قيمتكِ عندي.
قالها ثم أشاح بوجهه في ضيق وكأنه ندم على تسرعه بما لم يشأ البوح به…
فاتسعت عيناها بدهشة لم تلبث أن تحولت لارتباك واضح وهي تشعر بصدق عاطفته في كلماته…
مما جعلها تقوم من مكانها لتهتف بتلعثم:
_سأغادر الآن للأولاد…شكراً على اهتمامك.
لكنها ما كادت تستدير عنه حتى فوجئت بعبد الله أمامها يرمقها بنظراتٍ عاصفة على أقل تقدير…!!!!!
شهقت بحدة وقد تسمرت مكانها مدركةً أنهما مقبلان على “مصيبة”بعد ما سمعه…!!!!
بينما تقدم هو منها ليجذبها من ذراعها بعنف هاتفاً بثورة عارمة:
_هل هذا ما تقضين به نهارك هنا ؟!!
دمعت عيناها خوفاً وارتباكاً بينما قام أنس ليهتف بدوره مدارياً شعوره بالحرج:
_اهدأ يا شيخ عبد الله…إن بعض الظن إثم!!
لكن عبد الله لكمه بعنف في صدره ولازال يتشبث بذراع صفا بقوة آلمتها مع صراخه المجنون:
_سوء ظن؟!!أنا هنا منذ بدأ الحوار أيها ال(…….).
أتبع عبارته بلفظ بذئ غريب على تهذيبه المعهود وقد همّ بالشجار مع أنس عندما تجمع حولهم بعض العاملين لتهدئة الوضع وقد عجزوا عن فهم المشكلة…
فجذب عبد الله صفا من ذراعها خلفه بحدة مخترقاً بها جمع الناس ليغادرا معاً المدرسة مع انهيارها الباكي…
ولم يكد يستقل معها سيارته حتى التفت نحوها ليصفعها على وجهها بعنف هاتفاً:
_حسابي معك في بيتنا يا صاحبة الفضيلة.
قالها ثم أعاد تشغيل سيارته لينطلق بها بسرعة نحو المنزل…
بينما وضعت هي راحتها على وجنتها تتحسس ضربته بذهول …
عبد الله صفعها هي؟!!!
يتهمها هي في شرفها؟!!!
يشكك في إخلاصها له؟!!!
بعد كل هذا العمر؟!!!
بعد كل هذا الحب؟!!
ماذا حدث له؟!!!
بل ماذا حدث لهما؟!!!
لا لا لا…هذا حلم…بل كابوس!!!
انتهت أفكارها الشاردة بوصولهما لبيتهما عندما أغلق الباب خلفه بعنف ليجذبها نحوه بقوة وهو يرفع كفه ليهم بصفعها من جديد…
لكنها أمسكت كفه بكفها لتوقفه في الهواء هاتفةً بصلابة ناقضت دموعها المنهمرة على خدها الآن:
_أنا صفا يا عبد الله…أفق لنفسك!!
اشتعلت عيناه بغضبه الهادر لكن عينيها لم تكونا أقل اشتعالاً ليسودهما صمتٌ صاخب مختنق بدخان أسود من انفعالات مختلفة ….
وقد بقي كفاهما معلقين في الهواء للحظات بدت وكأن الزمن قد توقف فيها…
هو الذي كان يشعر وكأنه سقط فجأة من قمة جبل عالٍ بعدما سمعه بأذنيه بينها وبين أنس بمصادفة قدرية بحتة…
كان قد أحس بالتعب هذا الصباح أيضاً وقد رغب في العودة للمنزل…
لكنه خشي أن يعود فيجد فتون وحدها فيه بعدما ألحت عليها صفا في الرجوع للعمل…
لهذا فكر أن يمر على صفا في المدرسة ليصطحبها معه للبيت ولم يكن يدري أن الظروف ستضعهم جميعاً في هذا الموقف العصيب…
وهي التي كانت تشعر بالصدمة وقد وجدت نفسها معه -لأول مرة-في موضع اتهام!!!
وليس أي اتهام!!!
هي التي أعطت فتون اليوم إجازة لتتفنن في صنع يوم خاص لهما بعد انتهاء عملها في المدرسة…
لم تكن تعلم أن القدر يدخر لها هذه المفاجأة القاسية!!!!
بينما وقف للحظات يتمالك غضبته وهو الآخر لا يصدق أنه صفعها !!!!
قبل أن يسحب كفه من كفها ليعتصر كتفيها بقبضتيه هاتفاً :
_كيف تسمحين لنفسك بعرض أسرار بيتك على رجل غريب؟!!!كيف تسمحين له بانتقاص قدري أمامك؟!!كيف تماديتِ معه إلى حد مغازلته لكِ؟!!!كيف؟!!
نفضت كفيه من على كتفيها لتهتف بين دموعها:
_أنت لا تريد إلا أن ترى الصورة بسوادها؟!!!أنت تقول أنك استمعت لحوارنا من البداية…أي أسرار فضحتها؟!!وعن أي مغازلة تتحدث؟!!!هو ابن عمي وأعتبره كأخي…فلماذا…
لكنه بدا وكأنه لم يسمعها عندما قاطع هتافها بصراخه الثائر:
_هي كلمة واحدة ولن أغيرها…لن تذهبي لهذه المدرسة ثانية…ولن تدخلي بيت عمك هذا ما حييت.
هزت رأسها باعتراض وهي تهتف بحدة:
_لا يا عبد الله…إلا المدرسة!!!!إلا أولادي!!!
فكز على أسنانه وهو مستمر في صراخه:
_هم ليسوا أولادك…أفيقي من هذا الوهم.
لكنها لوحت بكفها وجسدها كله ينتفض بانفعاله هاتفة بنفس الحدة:
_أولادي يا عبد الله…أولادي…لماذا تريد حرماني من حقي في إحساسي بالأمومة؟!!!أنا لم أحرمك شيئاً…عمري وحبي ومالي!!!
مالي!!!!
مالي!!!
مالي!!!!
وكأنما اختفت كل كلماتها لتدوي هذه الكلمة وحدها في رأسه بطنين رهيب…!!!
لتضغط على جرحه النازف معها دون رحمة….
وهنا تجمدت ملامحه فجأة ليسودهما صمت قصير…وكلاهما يلهث انفعالاً وترقباً مدركاً أن لحظة حاسمة بينهما ستأتي الآن…
قبل أن يقطعه هو بقوله القاسي كنصل سكين:
_إذن هي حقوق!!!لا تريدينني أن أحرمكِ حقك في الأمومة؟!!!!…لا تحرميني إذن حقي في الحصول على طفل!!
اتسعت عيناها في صدمة قبل أن تتمتم مصعوقة:
_ماذا تعني ؟!!
فاقترب بوجهه أكثر ليهمس من بين أسنانه :
_سأتزوج!!
ارتجف جسدها بانفعالها رغم الصدمة البادية على ملامحها وهي تتمتم بانهيار:
_تتزوج غيري يا عبد الله؟!!
قالتها وهي تشعر بغرابة جملتها…
بل بغرابة كل شئ حولها…!!!
حتى حروف اسمه التي خرجت من بين شفتيها الآن بدت وكأنها لا تعرفها…!!!!
لكنه أردف بقسوة أكبر:
_نعم…تعلمين من ستكون العروس؟!! فتون!!!
فتون؟!!!
هكذا إذن؟!!!
هذا هو سبب تغير طباعه طوال الفترة السابقة؟!!
هذا هو سبب شروده وتباعده؟!!!
قلب “عبد الله” عشق امرأة سواها؟!!!
معقول؟!!!
هزت رأسها في عدم تصديق قبل أن تهتف باستنكار:
_فتون؟!!فتون؟!!!خادمتي ؟!!!ستتزوج خادمتي؟!!!
فهتف بدوره بغضب:
_خادمتك التي أوكلتِ أنتِ إليها مهامك…خادمتك التي صارت أهم في بيتي منك…نعم يا صفا…سأتزوجها.
هنا لم تشعر بنفسها وقد أعماها غضبها الذي أشعلته شياطين غيرتها …
فزأرت عيناها ببريق عاصف وهي تهتف دون وعي :
_حقاً…هذا هو مقامك الحقيقي….إذا تركت صفا المعموري فلن تكون إلا لخادمتها!!!!
لم تكد تتم عبارتها حتى هوت صفعته على صدغها أكثر حدة هذه المرة مع صراخه الحاد:
_اخرسي…أنا بكِ وبدونك…أنا الشيخ عبد الله الذي طالما سعيتِ أنتِ خلفه حتى تزوجك.
وقد كانت هذه آخر قشة قصمت ظهر بعير احتمالها فصرخت هي الأخرى بثورتها:
_لن تشاركني امرأة في زوج ما حييت!!!!أنا التي أطلبها هذه المرة…طلقني يا عبد الله…طلقني!!!
لتأتي كلمته أخيراً مسدلةً الستار على هذا الفصل من قصتهما:
_أنتِ…طالق!!!
==============
كان واقفاً في ورشته يراقب العمل بعينين شاردتين…
لقد بدأ العام الدراسي منذ يومين وعادت رؤى لجامعتها كما وعدها…
ورغم أنه سعيدٌ لأنه أوفى بوعده معها لكنه لم يستطع بعد ترويض هذا الوحش الذي يزأر في أعماقه ليحرمه الراحة…
نعم…الشك!!!
إنه يشعر معها وكأنه يسير على أشواك من ماضٍ لا يستطيع نسيانه وإن حاول تناسيه…
ودون وعيٍ وجد نفسه يستجيب لهاجس ما جعله يلقي ما في يده جانباً ليغادر ورشته ويتوجه نحو سيارته التي استقلها نحو جامعتها!!!
نظر في ساعته ليتبين الوقت عندما أدرك أنه موعد مغادرتها كما أخبرته عن “جدولها” الذي أصرت هي أن تعطيه له بنفسها قبل أن تعده أنها ستلتزم بمواعيده فقط وستعود للبيت فور انتهاء محاضراتها…
ظل واقفاً مكانه يراقب الوجوه التي تدافعت أمامه من باب الخروج حتى لمحها تخرج وحدها…
ترددت أنامله على مقود السيارة وهو يهمّ باللحاق بها ليصطحبها معه كما كان ينتوي…
لكن هاجسه أيضاً جعله يفضل تتبعها من بعيد !!!
ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ حانية وهو يتابع تفاصيلها التي بدت له -على بساطتها-أسطورية!!!
لفة حجابها الأنيقة مع تحشمها والتي كادت تغطى نصفها العلوي كله…مع لونها الرقيق الذي منح بشرتها الصافية رونقاً خاصاً…
رداءها الطويل الذي حرصت أن يكون ساتراً لكن نسمات الهواء كانت تتلاعب به لتشعل به نيران خاصة من اشتهاء لن يطفئها مطر صبره بعد!!!
خطواتها الوقور المتمهلة والتي انتهت بوقوفها في المكان المخصص لتستقل سيارة أجرة تبعها هو بسيارته حتى وصلت عند أول شارعهم…
هنا توقف بسيارته لاعناً سوء ظنه وهو يهمّ بالعودة لورشته القريبة عندما لمح أحدهم فجأة يتقدم منها بسرعة ليتحدث إليها ببضع كلمات….
قبل أن يعطيها ورقة مطوية نظرت إليها للحظات قبل أن تعيدها له وهي تتلفت حولها بنظرات مرتبكة وابتسامة زادت تأجج السعير بداخله!!!
انعقد حاجباه بمزيج من الغضب والغيرة وهو يراقب الموقف بتفحص…
عندما فوجئ بالشاب يبادلها ابتسامتها وهو يومئ لها برأسه قبل أن يعيد الورقة لجيبه وينصرف بخطوات سريعة إلى طريق جانبي قبل حتى أن يفكر في اللحاق به!!!
جنّ جنونه وهو يركن سيارته في أقرب مكان وجده قبل أن يغادرها بسرعة محاولاً إدراك الشاب لكنه كان قد اختفى تماماً…
وتلك “الغافلة” أكملت طريقها للبيت بمنتهى البساطة دون أن تنتبه لكل هذا!!!
وقف مكانه في وسط الشارع فجأة وهو يشعر برأسه يكاد ينفجر…
يتلفت برأسه ذات اليمين وذات اليسار كمن فقد شيئاً وهو لا يدري ماذا يفعل…
حتى أن بعض المارة التفتوا نحوه بدهشة وبعضهم ممن يعرفه ألقى عليه السلام لكنه كان في عالمٍ آخر لا يكاد يدرك شيئاً مما حوله سوى زئير وحشه الرابض في أعماقه…
لم يدرِ كم ظل على وقفته -التائهة-هذه لكنه أفاق لنفسه أخيراً عندما سمع هتاف أحد جيرانه بجانبه:
_ما الأمر يا ابني؟!!لماذا تقف هكذا؟!!
التفت نحو الرجل مغمغماً بكلمات لم يتبينها قبل أن يجد بعض قوته ليعاود سيره بخطوات متثاقلة…
لا…لم يعد إلى البيت…
لم يكن قادراً الآن على مجرد رؤيتها أمامه…
لو لمحها الآن فقط فلا يضمن أي رد فعل!!
شكوكه بها حملته لأفكار لم يظن أن تراوده يوماً…رغم تكذيب قلبه الذي كاد يقسم على براءتها…
لهذا كظم غضبه صاغراً ليعود لورشته القريبة والتي قضى فيها بقية النهار حتى أغلقها مساءً ككل ليلة…
قبل أن يعود لمنزله أخيراً وكل ذرة في كيانه تنضح غضباً…
لقد ظن أن الوقت يكفيه لإخماد ثورته وإحكام عقله…
لكنه ما كاد يلمحها خارجةً من باب المطبخ بشقة والدته حتى اشتعلت أعماقه ببراكينها من جديد…
كانت تحمل بين كفيها كعكة كبيرة مزينة وتتبادل ضحكاتها مع والدته التي كانت تهتف بمرح:
_تبدو شهية يا ابنتي!!!سلمت يداكِ.
فهتفت هيام بمناوشاتها المعهودة:
_انتظري حتى نتذوقها أولاً…المظهر ليس هو كل شئ!!
فالتفتت نحوها رؤى لتهتف مدافعة:
_لا شأن لكِ أنتِ هنا…أنا لم أصنعها لأجلك.
_اخرسي!!
كانت هذه هي صيحته هو والتي تزامنت مع صفعة قاسية على وجنتها جعلتها تلتفت نحوه بذهول غلب ألمها…
لتسقط الكعكة من يديها على الأرض مع صيحة والدته المستنكرة …
لكنه أمسك كتفيها بعنف يهزهما مع هتافه الساخط:
_لا ترفعي صوتكِ هذا هنا ثانية!!!هل تفهمين؟!!
تجمدت مكانها مصعوقة وقد عادت لنظراتها ذعرها بينما جذبتها عفاف من بين ذراعيه لتهتف باستنكار:
_ما الأمر يا راغب؟!!الأمر لا يستحق كل هذا؟!!
أشاح بوجهه في غضب لتصطدم عيناه بنظرات هيام الشامتة لكنه لم يبالِ…
فيما ربتت والدته على كتف رؤى التي كانت لا تزال مصدومة مكانها لتقول بإشفاق وهي تتبين أثر صفعته على وجنتها:
_اذهبي يا ابنتي واغسلي وجهك…لا بأس…هو يبدو متعباً ولم يقصد…
لكنه عاد يجذب رؤى من ذراعها بغلظة مقاطعاً والدته وهو يهتف بحدة:
_لن تغادر حتى تنظف هذه الفوضى وتمسح المكان…
ثم نظر لعيني رؤى الذاهلتين مردفاً بقسوة:
_يجب أن تتعلم أن خطأها ستحمله وحدها ولن يشاركها فيه أحد!!!
همت والدته بالاعتراض بكلمات عاتبة لكنه قاطعها بقوله الحاسم:
_لا أحد يتدخل بيني وبين زوجتي!!!
قالها ثم دفع رؤى بخشونة هاتفاً:
_هيا نظفي المكان وبعدها ابكي كما تشائين….لم يعد أحد هنا يأبه ل”دموع التماسيح” هذه!!!
وقف الجميع متسمرين مكانهم مع انتهاء كلماته وكأنهم لا يصدقون تحوله هذا!!!
حتى هيام اختفت من نظراتها الشماتة ليحل محلها الذهول وهي ترى راغب الحنون الخلوق يعامل زوجته بهذه الطريقة!!!!
لكن رؤى كانت أول من أفاقت من ذهولها ربما بدافع ذعرها المعهود لتسرع نحو الداخل حيث أحضرت منشفة كبيرة وبعض الأغراض لتنظيف الأرض كما أمرها…
بينما وقف ثلاثتهم ساكنين يراقبونها بصمت حتى انتهت فغمغم هو بخشونة:
_والآن اصعدي لشقتنا…أنا سأتناول طعامي هنا مع أمي!
كانت تكتم دموعها بكل ما أوتيت من قوة حتى تحافظ على ما بقي لها من كرامة أمامهم…
وما كادت تسمع عبارته حتى هرولت للخارج بخطوات أقرب للعدو…
فالتفتت والدته نحوه لتهتف بعتاب:
_حرامٌ عليك يا ابني!!!هي واقفةٌ على قدميها منذ عادت من الجامعة لتعد لك هذه الكعكة عندما علمت أنك تحبها…!!!
أشاح بوجهه دون رد فتنهدت والدته بحرارة وهي تتمتم له بالدعاء بالهداية…
بينما هتفت هيام باستحسان:
_أكثر ما يعجبني فيك أنك رجلٌ حقيقي…ولا يعجبك الحال المائل!!
فالتفت نحوها بحدة ليهتف بضيق:
_هيام!!!لا تصطادي في الماء العكِر…ودعيني وشأني!!!
مطت شفتيها في شبه استياءٍ غطته نظرات الشماتة الواضحة في عينيها…
لكنه تجاهل هذا ليسألها دونما اهتمام حقيقي ولكن ليغير الموضوع:
_ما هي أخبار شقيقتك مع ذاك الوغد؟!!!هل امتنع عن مضايقتها بعد حديثي معه؟!!
تنهدت هيام في حزن حقيقي أنساها سوء طباعها -لحظياً -ثم غمغمت بحسرة:
_ألسنة الناس لا ترحم…وخاصةً فتاة يتيمة مثلها تعيش وحدها…وتركها خاطبها بعد وقت قصير من خطبتهما…صحيحٌ أن ذاك الوغد وقف عند حده بعد شجارك معه…لكنّ رَميته أصابت هدفها وانتهى الأمر!!!
زفر بضيق وهو يشعر بثقل الحديث يزيد هم صدره أكثر لكنه غمغم بفتور:
_لا تحملي هماً…غداً يرزقها الله من هو أفضل منه.
ثم جلس أخيراً على مائدة الطعام ليقول بنفاد صبر:
_الطعام بسرعة يا أمي!!
رمقته والدته بنظرة متفحصة طويلة وهي تشعر بقلبها أن ابنها يخفي هماً ثقيلاً ففعلته مع رؤى منذ قليل غريبةٌ تماماً على طبعه …
لكنها آثرت الصمت الآن فانتظرت حتى انتهيا من تناول طعامهما معاً بعد انصراف هيام…
ثم اقتربت منه لتسأله بحنان:
_ماذا بك يا ابني؟!!لم أرَكَ يوماً هكذا!!
تنهد بحرارة وهو يشيح بوجهه…
ماذا عساه يخبرها عن وجعه الذي يكاد يشطر قلبه نصفين؟!!!
عن جرحه الذي لا تزيده الأيام إلا نزفاً!!!
فاكتفى بصمت قصير أتبعه بقوله المقتضب:
_أريد أن أطلقها!!!
قالها وكأنه يحسم بينه وبين نفسه هذا الصراع الذي استنزفه طوال هذه الأيام…
حياته معها مستحيلة…
وهذا الوضع سيصيبه بالجنون حتماً لو استمر أطول من هذا…
بينما شهقت والدته بحدة وهي تخبط بكفها على صدرها قبل أن تهتف بجزع:
_لا يا ابني!!!إلا الظلم!!!الفتاة طيبة القلب ولم أرَ منها إلا كل خير…أنا…أنا صرت أعتبرها كابنتي تماماً!!!
ازدرد ريقه ببطء وهو يحاول البحث عن سبب…فهداه تفكيره لأن يقول كاذباً:
_لأجل الإنجاب!!
عقدت والدته حاجبيها بشك وهي تقول بحيرة:
_وهل ذهبتما لطبيب ما وأخبرك أنها لا يمكنها الإنجاب؟!!
زفر بقوة وهو يدرك أن هذا الأمر بالذات هو الذي سيقنع والدته بسبب طلاقه….
ثم استمر في كذبه ليقنعها بحجته:
_نعم…هي كذلك!!
ظهرت الخيبة على ملامحها الطيبة فأردف بخشونة:
_لكنكِ ستقسمين لي على كتاب الله أنكِ لن تخبري أحداً بهذا!!
أومأت برأسها في طاعة عندما غامت عيناه بحزنٍ لم تخفه حشرجة صوته بعدها:
_لا نريد أن نسوئ سمعتها لعل الله يرزقها بعدي من هو أفضل!!
هزت والدته رأسها وهي تغمغم بعدم اقتناع:
_لكن يا ابني…العلاج قد…
قاطعها بحسم وهو يقف مكانه هاتفاً بصرامة:
_أنا قررت هذا…وانتهى الأمر…سأنتظر حتى تخف صدمة شقيقها بطلاقه ثم أفاتحه في الأمر.
أطرقت برأسها للحظات في حزن واضح ثم تمتمت بأسى:
_لله الأمر من قبل ومن بعد…فكر مرة أخرى يا ابني…لا تظلمها!!!
لكنه تجاهل عبارتها ليتركها بخطوات متثاقلة نحو “عذابه ” المقيم بالأعلى …فهتفت والدته فجأة من خلفه وكأنها تذكرت شيئاً:
_لكن دع معها نقوداً كافية عند ذهابها للجامعة…اليوم استوقفها محصل رسوم الكهرباء لكنها لم تكن تملك مالاً كافياً…وأنا كنت بالخارج مع هيام نزور قبر والدك كما تعلم!!!
انعقد حاجباه بدهشة للحظة قبل أن يتمتم بارتباك:
_محصل ماذا؟!!!متى كان هذا؟!
عقدت حاجبيها قبل أن تجيبه بالإجابة التي كان يتوقعها!!!!
فعاد يزفر بقوة وهو يشيح بوجهه لاعناً نفسه ألف مرة…
كيف ظن بها سوءاً مع رجلٍ يحدثها أمام باب بيته؟!!!
وهل لو كانت بينهما علاقة لتجرأ على المجئ إلى هنا؟!!
غبي يا راغب…غبي!!!
بل مغيب…!!!
شكك فيها يحتل عقلك بضلالاته ولا يترك المجال لأي منطق!!!
شكك الذي يجعلك تتبعها خفية كضابط يتربص بلص…
والذي يدفعك لأن تؤذيها كل مرة وتؤذي نفسك قبلها!!!!
كانت هذه أفكاره التي احتلت رأسه قبل أن يعود لشقتهما…
لتحمله قدماه إلى غرفتهما التي استلقت هي على فراشها وقد رفعت غطاءها إلى رأسها كعادتها عندما تخاف…
كز على أسنانه بغضب جارف من نفسه ومن كل هذه الضغوط التي صار يرزح تحت أثقالها منذ تزوجها…
بل منذ عشقها…
لكن غضبه كله تلاشى ليحل محله شعورٌ جارف بالندم وهو يلاحظ ارتجافة جسدها الصامتة تحت غطائها…
فتقدم منها ببطء ليجلس على طرف الفراش وقد ذابت كلماته كلها على شفتيه…
ليلاحظ سكون حركتها وقتها وكأنها شعرت به فتظاهرت بالنوم…
ناداها همساً فلم تجب مكملةً تظاهرها “الفاشل”…
لكنه رفع الغطاء من على رأسها برفق ليهمس بصوت مختنق:
_أنا أعرف أنكِ مستيقظة!
كانت متكورةً على نفسها في وضع الجنين تحتضن جسدها بذراعيها…لكنها فتحت عينيها الباكيتين لتقوم من نومتها وهي تتحاشى النظر نحوه هامسة بصوت متقطع من البكاء:
_هل تريد شيئاً؟!!
فامتدت أنامله دونما إرادة منه ليمسح دموعها فاصطدمت عيناه بتلك العلامات الحمراء على خدها مكان صفعته…
انعقد حاجباه بألم وهو يتنهد بحرقة توازي عذاب قلبه بها لتقرأ هي كل هذا على ملامحه فتهمس بلوعة لونت براءتها:
_أنا لم أفعل شيئاً!!
أغمض عينيه عن ملامحها اللائمة ونفسه تحدثه باعتذار…
بل بألف اعتذار!!!
لكن كبرياءه لم يطاوعه في هذا فاكتفى بلمساته الحانية على وجهها…
بينما فاجأته هي بقولها :
_أنا أعلم!!
فتح عينيه ساعتها بحدة فرمقته بنظرة تذوب حسرة وهي تردف بين دموعها:
_أنا رأيت سيارتك تتوقف خلفي وعلمت أنك رأيتني مع ذاك الرجل…لكنني لم أتصور أبداً أن تصل شكوكك لهذا الحد…لقد ظننتك ستتبعني إلى هنا وتعجبت عندما تأخرت…لكن صفعتك تلك جعلتني أستنتج ما آل إليه تفكيرك!!
رفع رأسه بقنوط إلى أعلى وهو لايزال عاجزاً عن الرد فأكملت هي تدافع عن نفسها كما وجدت نفسها مضطرة:
_هو محصل رسوم الكهرباء …الجيران أرشدوه إليّ عندما…
وضع أنامله على شفتيها مقاطعاً وهو يهمس بصوت متحشرج:
_أمي…أخبرتني!!
ثم أردف بنبرة تقطر غيرة :
_لكن حتى لو كا?
قضى ليلته في الغرفة المجاورة وقد عجز أن يبقى معها في نفس الغرفة ككل ليلة…
وبينما بدت ملامحه وكأنما قُدّت من صخر كان قلبه ينتفض بثورته خلف أسوار ضلوعه…
كيف سيفرط فيها هكذا ؟!!
كيف سيتركها؟!!
هو يعلم عن مخاوفها المرضية من الوحدة فماذا ستفعل في بيت عبد الله وحدها بعد طلاقه لصفا وغيابه طوال اليوم؟!!
انعقد حاجباه بغضب وهو يهب من فراشه ليصرخ به عقله…
وماله هو ومالها؟!!!
هل سيبقى عالقاً في هذه الدوامة للأبد؟!!!
بقاؤهما معاً يهذا الوضع ظلمٌ لها نفسها قبل أن يكون ظلماً له…
هي تستحق زوجاً وحياة…
وهو الآخر !!!
نداء العقل لا يدعُ مثقال ذرة لتردد في هذا القرار…
الطلاق هو أسلم حل!!!
وبهذا الإصرار قام من مكانه ليتطلع للساعة جواره وقد أشارت xxxxبها للسادسة صباحاً..
توقيتٌ مناسب لو أراد رحيلها قبل أن يستيقظ أحد كما كانت ترغب…
غادر غرفته إلى غرفتها ليجدها ترتدي ملابسها الكاملة استعداداً للخروج ولم تكد تلمحه حتى تقدمت نحوه لتهمس دون أن تنظر إليه:
_صباح الخير…أنا مستعدة!!
التفت برأسه نحو حقيبة ملابسها التي كانت قد أعدتها هناك وتركتها مفتوحة بينما تناولت هي علبة كبيرة من على طاولة زينتها لتردف بتماسك هش:
_هذه هي كل هداياك…
زفر بقوة دون رد عندما امتدت أناملها لتخلع قلادتها مع بقية كلماتها:
_لا تنقصها سوى هذه!!
لكنه ما كاد يدرك نيتها حتى قبض على أناملها بقوة ليمنعها ….
فالتقت عيناهما في دقيقة صمت حملت دهوراً من مشاعر …
قبل أن يقطعه هو بقوله الخشن وكأنه يبرر لنفسه ولها:
_لا تخلعيها…هي هدية أمي وليست هديتي.
دمعت عيناها في تأثر ثم همست بعاطفة غلبت امتنانها:
_يعلم الله كم أحببت والدتك حقاً…لو كان الأمر بيدي لطلبت منك أن أبقى على اتصال بها…لكنني أعلم أن هذا لن يليق.
سحب أنامله بعيداً عنها وهو يشيح بوجهه كاتماً غصة حلقه…
فتمالكت صلابتها من جديد لتقول بابتسامة شاحبة:
_لم يتبقَ لي سوى بعض الأشياء البسيطة …سأحضرها لنرحل!!
قالتها وهي تغادر الغرفة بخطوات سريعة عندما وقع بصره على دفترها الليموني مندساً بحقيبة يدها المفتوحة …
فلم يستطع مقاومة فضوله ليقرأ ما كتبته…
لآخر مرة…!!!
على الرغم مني قد رحلت…
وخلف سدود يأسي…وقفت…
فما حيلتي…
سوى صمت…وصمت؟!!!
بإثمي أقف على باب حب…
وليتني أمامه ما وقفت!!!
أنتظر رجماً يطهر ذنبي…
فهلّا فعلت!!!
بميدان الخطيئة أنا قد صُلبت…
ووراء قضبان ذنبي سُجنتْ…
وبيني وبينك برقٌ ورعدٌ…
ومطرٌ وبرقْ…
والشمس ماتت على أرضنا…
بلا أي صوت…
فسافر حبيبي حيث شئت…
ارحل وجرب ما أردت…
لكن تذكر مهما ابتعدت…
ستبقى الحياة بعينيّ …أنت!!!
على الرغم مني قد رحلت…
وطوحت شوقي في الهواء…
لأني أعلم مهما اقتربت…
وجودي وغيبتي لديك سواء…
فقل لمن ستجئ بعدي..
أني عشقتك بلا رجاء…
وبأن حبك في دمي …
قد كان أكبر الأخطاء…
قد كان أسلم الأخطاء…
قد كان…أجمل الأخطاء!!!
أغلق الدفتر بأنامل مرتجفة وهو يلعن نفسه التي دفعته للقراءة…
لماذا يصر على جلد نفسه بها؟!!!
ألم يكفهِ ما ناله من عذاباتها؟!!!
هي سوطٌ من ضعف يجلد ظهر كبرياءه…
وهو لم ولن يكون يوماً رجلاً ضعيفاً…
لكن ماذا عساه يفعل في تلك القبضة الثلجية التي تعتصر قلبه بعد كلماتها الآن..؟!!!
وكيف يتركها وهو يدرك الآن بحق أنها تبادله عاطفته؟!!!
آه…لو كان العفو يُشتَرى لافتدى عفوه عنها بكل ما يملك…!!!
لكنه لا يستطيع…
ذنبها القديم لازالت شياطينه تتراقص على ملامحها البريئة فتطمس ملائكيتها لتجعلها أشبه بمسخ مشوه!!!
وليته كان يؤذي نفسه فقط بهذه العلاقة بل يؤذيها هي الأخرى…
صفعته القاسية لها بالأمس لن تكون الأخيرة طالما جواد الشك بقلبه لازال ينطلق بجموح يوازي جموح عاطفته…
العقل يقول أن “البتر” الآن أرحم بهما معاً من علاجٍ طويل مؤلم ربما لن يؤتي ثماره!!!
انقطعت أفكاره عندما شعر بحركتها القريبة فأعاد دفترها مكانه بسرعة قبل أن تدخل هي حاملةً بعض حاجياتها لتضعها في حقيبتها المفتوحة ثم تغلقها بحزم …
قبل أن تهتف بقوة هو يدرك الآن أنها مصطنعة:
_هيا بنا قبل أن يستيقظ أحد!!
أغمض عينيه بألم ونفسه تسول له وداعاً قصيراً…
مجرد إحساس أخير بها بين ذراعيه …!!!
لكنه أخمد كل هذا بقوة سيطرة يُحسد عليها قبل أن يحمل حقيبتها ليغادرا معاً شقتهما نحو الباب الخارجي للمنزل…
بينما كانت هي تهبط معه الدرج وهي تشعر بكل درجة تسحب روحها أكثر…
قلبها صار يخفق بقوة حتى شعرت أنها تفتقد أنفاسها التي تلاحقت بجنون…
وانتابتها ارتعاشة قوية جعلتها تتشبث بحقيبة يدها بشدة وكأنما تستمد منها أي دعم…
هل حقاً سينتهي الأمر ها هنا؟!!!
هكذا بهذه البساطة؟!!!
هل حقاً ستغادر حياته للأبد؟!!!
نعم…هذه هي الحقيقة التي قضت ليلتها تحاول إقناع نفسها بها..
هذا هو الواقع الذي يجب عليها تقبله….
هذا هو عقاب القدر لها على خطيئتها التي لن تمحوها توبة….
هذا هو جزاؤها العادل الذي ستتقبله راضية بمنتهى القوة…
قوة؟!!!
أين هي؟!!!
أين قوتها المزعومة التي ظنت أنها ستسندها في موقف كهذا؟!!
أين قلاع صلابتها التي تعشمت في الاختباء خلف أسوارها؟!!!
أين سحب الأمل التي ظلت تطاردها طمعاً في أن تمطر فرجاً قريباً؟!!!
هي لا تريد الرحيل…
لا تريد العودة لبيت عبد الله البارد لتجد نفسها وحيدة من جديد…
لا تريد أن تُطرد بخطيئتها خارج هذه الجنة التي عاشتها هنا بدفئها وحميميتها معه هو وعائلته…
لا تريد التخبط من جديد كطير ذبيح بين جدران ماضيها الملوث وغدها المجهول….
فلتمت قبلها!!!
فليخرج آخر نفس لها هنا…جواره…في بيته!!!
قلبها يشعر أن أمانها كله سيتلاشى متى غادرت هذا البيت…
قوتها “المستحدثة” التي تدعيها ستنهار مع أول خطوة لها بعيداً عنه…
هو كان مصدر أمانها وقوتها ولو تركها…
ست….!!!!
انقطعت أفكارها عندما وصلا لباب المنزل لتتعلق عيناها بهلع بمفتاحه الذي أخرجه من جيبه …
وما كاد يولجه في مكانه حتى امتدت أناملها المرتجفة لتتشبث به بقوة هامسة بصوت لاهث:
_انتظر…فقط…قليلاً…
تشنج كفه تحت لمستها لكنه لم يشعر به مع تعلق عينيه بملامحها التي شحبت فجأة وصدرها الذي كان يعلو ويهبط في انفعال فضحته أنفاسها اللاهثة…
فانعقد حاجباه بقلق طغا على عاطفته وهو يلاحظ برودة كفها المتشبث به ليهتف بجزع:
_أنتِ بخير؟!!
ازداد كفها تشبثاً به حتى بدت وكأنها تعتصره بقبضتها الصغيرة لتزداد ارتجافة جسدها مع همساتها اللاهثة:
_لا أريد…
وضع حقيبتها جانباً بعنف ليمسك كتفيها مسنداً إياها وقد بدت على شفا فقدان وعيها عندما همست بضعف من بين شفتيها الزرقاوين الآن:
_لا أريد ترك هذا البيت…لا أريد…
لتنقطع عبارتها بسقوطها مغشياً عليها بين ذراعيه!!!
============
أفاقت من إغماءتها القصيرة على همسه الجزع باسمها ففتحت عينيها لتجد نفسها على فراشها بغرفتهما…
كانت تشعر ببرودة أطرافها مع ارتخاء جسدها كله بوهن …
لتنتبه لمذاق الماء المملح في فمها حيث أمسك هو كوباً صغيراً ليسقيها منه هاتفاً ببعض الارتياح رغم القلق المسيطر على نبراته:
_ضغطك كان منخفضاً للغاية…لابد أن نراجع طبيباً!!
رفعت إليه عينيها المتعبتين لتهمس وقد استعادت تركيزها:
_لا داعي لهذا…هي مجرد حالة طارئة!!
ثم تحاملت على نفسها لتقوم من نومتها فتستند على ظهر الفراش مردفة بقلق:
_هل شعر أحدهم بشئ ما؟!!
انعقد حاجباه بضيق وهو يهز رأسه نفياً…
فأومأت برأسها دون رد عندما قام هو من جوارها ليقول بنبرته الخشنة:
_سأحضر لكِ شيئاً تأكلينه …ربما هذا هو سبب إغماءتك!!
لكنها جذبت كفه لتهز رأسها نفياً قبل أن تهمس برجاء:
_اجلس يا راغب…أريد التحدث إليك في أمر ما.
فجذب كفه ببعض الخشونة التي عارضت عبارته الحنون:
_لا حديث قبل أن تأكلي !!!
تنهدت بحرارة مغمضةً عينيها بينما تركها هو ليعود بعد قليل حاملاً بعض الشطائر …
ليلفهما صمتٌ قصير حتى اطمأن على حالها نوعاً بعد تناولها للطعام…
فسألها باهتمام:
_تشعرين أنكِ أفضل؟!!
رفعت إليه عينيها بنظرة طويلة حملت كل مشاعرها قبل أن تهمس بتردد:
_تريدني أن أفعل؟!
تنهد بحرارة وهو يدرك مغزى سؤالها خاصةً بعد إغمائها الانفعالي الذي جعله يتأكد أكثر من مشاعرها نحوه…
ثم ربت على كفها هامساً بألم لم يغادره حنانه بعد:
_افهميني يا رؤى!!!قراري هذا ليس لأجلي أنا فحسب بل لأجلكِ أيضاً…أنتِ تستحقين أن تعيشي حياة طبيعية مع رجل يقدرك…حياتكِ معي ستدفنكِ حية.
فدمعت عيناها وهي تهمس برجاء مشبع بعاطفتها:
_ولو أخبرتك أنني أنا أريد البقاء هنا…لا أريد ترك بيتك هذا…أنا لم أشعر في حياتي كلها بالأمان كما شعرت هنا…
أشاح بوجهه في ضيق وهو يشعر أنه لن يحتمل كل هذا الضغط…
هو بالكاد تحامل على نفسه ليقنعها بوجوب افتراقهما…
توسلها هذا يهد آخر حصون مقاومته…
من سيقدر على إبعادها وهي ترجوه البقاء بكل هذه الحرارة؟!!!
من سيقدر على خذلانها وهي تستنجد برجولته قبل عاطفته ؟!!
من سيقدر؟!!
خاصةً عندما أردفت هي بين دموعها:
_اعتبرني مجرد رفيقة سكن…لو أردت حتى ألا أجعلك تراني فسأفعل…أنا لا أريد منك سوى أن أظل هنا!
عاد يلتفت إليها بملامحه التي فضحت معاناته …فأكملت رجاءها بحرارة:
_تزوج كما تشاء…ولو أردتني أن أشرح حقيقة وضعنا لامرأتك الجديدة فسأفعل.
انعقد حاجباه بشدة وهو يضغط كفها في راحته هاتفاً :
_وما الذي يجبرك على هذا؟!!هل تظنين العمر لعبة؟!!
هزت رأسها نفياً وهي تمسح دموعها هاتفةً بانفعال:
_ولأنه ليس لعبة أنا لا أريد المجازفة…أنا وجدت أماني هنا في بيتك وسط عائلتك…ولا أريد أن أضحي بكل هذا الآن.
هز رأسه دون اقتناع فأردفت برجاء خافت:
_أنت وعدتني أن تكون لي أخاً وصديقاً…وأنا لن أطمع بالمزيد…فقط كن بجانبي!!
قالتها وهي تلقي رأسها بين ذراعيه لتريح جبينها على كتفه فكتم آهة ألم كادت تغادر قلبه قبل شفتيه…
يالصبري عليكِ يا وجعي…
ويالحيرتي معكِ!!!
ماذا أفعل فيكِ وأنتِ تتوسلين قربي بكل هذه الحرارة؟!!!
لقد تواطأتِ مع قلبي عليّ…
كلاكما يحنّ لصاحبه ووحدي أقف بينكما مكبلاً بقيودي…
كلاكما يشدني لطريق لا تشتهيه خطواتي …
كلاكما يذبحني بعاطفة لا طاقة لي بها…ويقهرني بسلطان لا أملك مقاومته…
كلاكما دائي يا رؤى…
أنتِ وقلبي!!!
وكعادته كتم كل هذا بين ضلوعه مكتفياً بتنهيدة حارة وهو يربت على رأسها للحظات…
قبل أن يهمس بخفوت:
_حسناً يا رؤى…كما تشائين.
رفعت إليه عينين ممتنتين رغم الخيبة التي ظللتهما…
وقد شعرت الآن فقط أنه حتى ولو أبقاها على ذمته فهي لن تكون له يوماً زوجة…
وأن وجودها هنا واجبٌ ثقيل تحت رداء مروءته…
لكنها لا تملك خياراً آخر…!!!
قطع أفكارها عندما قام من جوارها ليقول برفق:
_هيا لتذهبي إلى أمي كي أكون مطمئناً عليكِ….أراكِ مساءً.
وعند عودته في المساء كانت تنتظره بترقب …لتفاجأ بطلبه الغريب أن يتناولا العشاء مع والدته وليس في شقتهما كالعادة…!!!
كانت تراقبه بتفحص ملهوف وهي تشعر بانقباض صدرها دونما سبب…
عندما أنبأتها طريقته الجديدة في تحاشي النظر إليها أن شيئاً ما بينهما تغير…
رغم تقبله لرجائها بالبقاء هنا…
حتى انتهيا من طعامهما فذهبت لتعد له الشاي ولم تكد تحضره لتضعه أمامه…
حتى فوجئت بقوله المقتضب لوالدته:
_أخبري هيام أنني أريد الزواج من شقيقتها!!
====================
في أحد المستشفيات الاستثمارية الكبيرة ب”أبو ظبي” جلس على طاولة طعامه في مطعم العاملين يتابع حاسوبه المحمول باهتمام…
غافلاً عن عينيها اللتين كانتا تراقبان تفاصيله بنهم…
شاله الفلسطيني المميز بلونيه الأبيض والأسود والذي يصر على ارتدائه في جميع أوقاته متى خلع معطفه الأبيض…
وكأنه لا يعيش إلا داخل ردائين لا ثالث لهما…
عمله ووطنه…
طبيبٌ…وفلسطيني!!!
وإن دفعته الظروف لمغادرة وطنه قسراً فهو لايزال يحمل رائحته بين أنفاسه…!!!
لتنتقل عيناها بعدها لتفحص باقي ملامحه…
لحيته التي زينت وجهه مع شاربه المنمق…
أنفه الأشم المرتفع دوماً في كبرياء…
عيناه الزرقاوان الصافيتان بلون البحر…
واللتان تعكرتا الآن بمرارة حقيقية جعلتها تدرك ما يطالعه على الشاشة أمامه!!!
دكتور “جهاد” كعادته يتابع الأخبار السياسية أولاً بأول…
ويقينه أنه سيعود يوماً لأرض وطنه ليعيش آمناً دون خوف !!!
_زهرة!!!كُفّي عن هذا!!!
كانت هذه زميلتها التي أردفت بنبرة عاتبة:
_لا تتعبي نفسكِ في التعلق بحبال واهية…الجميع يعلمون أن دكتور جهاد ليس لديه وقتٌ للحب…هو لا يفكر سوى في عمله فحسب!!!
فابتسمت زهرة بحنان لتعاود ترقبه بلهفة حملت عاطفتها قبل أن تجيبها بحالميتها المعهودة:
_وهذا ما يعجبني فيه…هذا الرجل عندما يعشق ستكون امرأته هي وطنه الثاني!!!
فابتسمت زميلتها بدورها وهي تهز رأسها هامسة:
_حتى لو فعل!!هل تظنينه ينظر لممرضة تعمل معه؟!!
مطت زهرة شفتيها في استياء وهي تدرك صحة منطق زميلتها…
لكن من قال أن القلوب تعترف بمنطق؟!!!
الحب شعاعٌ من نور يخترق قلوبنا دونما استئذان…
فيصم آذاننا عن أي صوتٍ عداه!!!
هي تعلم أن الفوارق بينهما كبيرة…
هي مجرد ممرضة حديثة التعيين هنا…وهو أمهر طبيب في هذا المشفى!!
هي عادية الملامح لا يكاد يلاحظها أحد…وهو شديد الوسامة تلاحقه أنظار النساء أينما حلّ…
هي هادئة الطباع ممن يفضلون “السير جوار الحائط” على حد تعبيرنا الشعبي…
وهو صاخب بثورته على الظلم والفساد مهما ناله من مشاكل!!!
باختصار…
هي قطرة ندى حطت برقة على ورقة شجر…
وهو بحرٌ هائج بأمواج هادرة لا تعرف سكوناً !!!
ورغم كل هذا عشقته…
وتعشقه…
وستظل تعشقه بكل كيانها لأنه …يستحق!!!
لهذا تجاهلت اعتراض زميلتها لتحمل كوب “الشاي الأخضر” الذي تعرف أنه يحبه بعد تناول طعامه…
ثم توجهت نحوه لتقول بابتسامة فضحت عشقها للجميع إلا هو:
_”الشاي” يا دكتور!!
رفع إليها عينيه بعدم اكتراث للحظة قبل أن يغمغم بامتنان:
_شكراً يا زهرة…لا تتعبي نفسكِ فيما بعد…أنا سأحضره لنفسي متى رغبت!!
ورغم شعورها بالخيبة من عبارته لكنها تشبثت بابتسامته الواسعة التي منحها لها بعدها واعتبرتها جائزة اليوم كله…!!!
لتغادره بخطواتٍ مرتبكة جعلتها تتعثر في سيرها ليزداد ارتباك خطواتها…
قبل أن تعود لزميلتها التي كانت تراقبها وهي تكتف ذراعيها هامسةً بخبث لا يخلو من مرح:
_رحم الله عقلك يا شهيدة العيون الزرقاء!!!
================
كانت واقفةً أمام نافذة غرفتها ترقب السماء بشرود…
لقد فاتها منظر الشروق اليوم وكم كانت تحتاج إليه…
نعم…هي الآن تفتقد أي شعور بالدفء…بالأمل…بالاحتواء…
ولو حتى من مجرد مراقبة شعاع شمسٍ سيختفي كما ظهر لأنها سنة الحياة!!!
أيامها الأخيرة هنا كانت قطعة من عذاب ولولا مكالماتها اليومية لرحمة لأصيبت بالجنون…
محبوسةٌ طوال اليوم في غرفتها هنا…وعندما طلبت منه الخروج للمشغل رفض بسبب إصابة ذراعها…
نعم…عاصي تغير كثيراً منذ مواجهتهما الأخيرة واستعاد قناع قسوته كاملاً…
بل إنها -بالكاد- تراه …إذ يكتفي بمجرد سؤال عابر عليها في آخر كل ليلة قبل أن يعود وحيداً إلى غرفته…
حتى مواعيد الطعام التي كان يحافظ عليها لأجل تناوله معها أهملها وصار يأكل وحده…
وكأنه يبرهن لها على وضعها الجديد هنا…
مجرد وعاء لطفله المنتظر…!!!
واليوم موعدهما ليذهبا للمشفى للاطمئنان على حال ذراعها ومتابعة طبيبة نسائية كما يريد هو…
أغمضت عينيها في ألم ونفسها تفيض حسرةً …وحيرة!!!!
إنها لا تريد هذا الطفل…وكم تود لو تدعو الله ليل نهار ألا يأتي…
لكنها -للعجب- تتمناه!!!
نعم…تريد طفلاً من الرجل الذي أحبته كما لم تحب رجلاً قبله…
ومنحها ما لم يمنحه لها رجلاً قبله…
وخذلها كما لم يفعلها رجلٌ قبله!!!
نعم…بالأمس خذلها عزيز بضعفه لكنها تقبلته بنفسٍ راضية…
واليوم يخذلها عاصي بقسوته لكنها لا تستطيع تقبل هذا أبداً!!!
ربما لأن حبها لعاصي أقوى …
احتياجها له أشد…
انتماؤها له أرسخ…
ماذا تحكي عن اشتياقها له طوال هذه الأيام رغم نفورها من وجهه الجديد؟!!
وصراع قلبها وعقلها بشأنه صار جحيماً حقيقياً تكتوي بناره كل يوم…
بل كل دقيقة تمر بها دونه…
قُطعت أفكارها عندما انتبهت للخادمة خلفها ترص أطباق الطعام على المائدة وهي تخبرها أن السيد عاصي سيتناول إفطاره هنا معها وليس في غرفته…
فابتسمت بمرارة وهي تدرك مغزى تصرفه…
عاصي لن يدعوها لغرفته من جديد…
هي خرجت منها برغبتها فلتدخلها إذن برغبتها كما أخبرها يومها…
تنهدت بحرارة وهي تتخذ مكانها على المائدة تنتظر حضوره عندما دخل هو بخطواته الثابتة ليصرف الخادمة بأمر صارم…
لكن الخادمة وقفت مكانها لتغمغم بتردد:
_السيدة لا تستطيع تناول طعامها بمفردها …ذراعها…
لكنه قاطعها بصيحة هادرة وهو يعيد أمره لها بالخروج فهرولت للخارج مغلقةً الباب خلفها وكأنها تهرب من عقاب توقن أنه سيلحق بها حتماً…
بينما اكتفت ماسة بإطراقها الصامت للحظات وهي تلمحه يتخذ مقعده أمامها …
فتحاشت النظر نحوه قبل أن تنتبه لأنامله التي امتدت بشطيرة صغيرة أمام شفتيها…
فابتعدت بوجهها في إباء ثم رفعت ذراعها الأيسر السليم لتقول بمكابرة:
_لا تتعب نفسك…يمكنني استخدام هذا.
لم يرد عليها للحظات قاومت فيها النظر إليه باستماتة…
قبل أن يقوم من مكانه ليجلس جوارها ثم تملّك قبضتها اليسرى بأحد كفيه وكأنه يمنعها استخدامها…
ليعاود تقريب الشطيرة من شفتيها بإصرار صامت!!!
أغمضت عينيها بقوة وهي تحاول الحفاظ على ثباتها أمامه بشق الأنفس…
جسدها كله يحسد أناملها المستكينة بدفء قبضته…
يالله…كم افتقدت شعورها بالسكينة معه…
ولولا سدودٌ من تعقل وكبرياء لألقت رأسها على كتفه الآن تستعيد هويةً لم تعد تجدها إلا معه!!!
خاصةً عندما همس بصوته الذي مزج حنانه بسيطرته:
_أنا لن أملّ…وأنتِ تعلمين أنني لا أستسلم!!
فانفرجت شفتاها ببطء وهي تقضم الشطيرة باستسلام غافلةً عن نظراته الدافئة التي كانت تطوق ملامحها بحنانٍ مدموغ باسمها …هي فقط!!!
حتى انتهت منها كاملة فتمتمت دون أن تنظر إليه:
_شكراً..لقد شبعت…يمكنك الآن تناول طعامك!
قالتها وهي تحاول سحب كفها من قبضته لعلها تستعيد سيطرتها على نفسها…
لكنه تشبث بها وهو يبدأ في تناول طعامه بصمت مكتفياً بنظراته المتفحصة نحوها والتي شعرت هي بها لكنها لم ترفع عينيها نحوه…
رحم الله امرئ عرف قدر عشقه!!!
وهي تدرك جيداً أن نظرة واحدة لشموسه الزيتونية الآن كافية لإذابة جليد مشاعرها كله لتفيض أنهارها مغرقةً إياها من جديد…
حتى انتهى من طعامه فقالت هي بفتور:
_متى سنخرج ؟!
قام من مكانه ليوقفها معه قائلاً بحسم:
_الآن…هيا لتبدلي ملابسك.
أومأت برأسها ثم قالت بهدوء مصطنع:
_حسناً…كما تريد!!
رمقها بنظرة طويلة وهو يشعر بعظم مقاومتها لإحساسها به…
نعم…ربما يكون عشقها قوياً لكنها- هي- لا تقل عنه قوة!!!
وهو يثق بقدرتها أن تدهس كل مشاعرها تحت قدميها متى تعارضت مع مبادئها وثوابتها…
تماماً كما يثق بقدرته -هو -على فعل المثل!!!
كلاهما عنيدٌ مكابر…يحتاج لصاحبه…
لكنه لا يعترف!!!
لهذا اقترب منها أكثر ليمسك كتفيها برفق هامساً ببعض الخبث وهو يضغط على حروف كلماته:
_ملابسكِ في غرفتي.
فازدردت ريقها ببطء وهي تتبين أنها لم تنقل ملابسها كاملةً إلى هنا مكتفيةً ببعض القطع المنزلية البسيطة فهي لم تكن بحاجة للخروج من قبل…
لكنها لم تفهم ماذا يريد من كلماته التي تفوق معناها المجرد بكثير…
أن تنقل ملابسها من غرفته إلى هنا؟!
أم تعود هي إلى غرفته؟!!
عقلها وكبرياؤها يوسوسان لها بالأولى…وقلبها يكاد يقسم على الثانية…!!!!!
ووسط حيرتها بينهما عادت تغمغم بفتور:
_هل تريدني أن أنقلها هنا؟!
فشدد ضغط قبضتيه على كتفيها وقد استفزه كثيراً هروبها من لقاء نظراته ليهمس ببرود اكتسى ببعض القسوة:
_أنتِ..ماذا تريدين؟!
خفق قلبها بقوة وهي تشعر أنها تبذل الكثير لتقاوم كل هذا الصراع الذي تعيشه معه…
لتستوعب كل هذا القدر من متناقضاته الغريبة…
حنانه الذي يرفعها لأعلى سماوات الرضا…
وقسوته التي تخسف بها أرض الحرمان!!!
وبينهما يقف هو مكانه راسخاً كجبل مطالباً إياها بالاختيار…
وكأنه أبقى لديها خياراً!!!!
لهذا أخذت نفساً عميقاً تتمالك به قوتها ثم قالت بحسم:
_لا داعي لتلميحك هذا الآن…أنا لم أترك غرفتك تدللاً ولا عصياناً…فأنا امرأة تعرف حقوق زوجها جيداً…أنا فقط لم أشأ إزعاجك أثناء فترة إصابتي…لكن اليوم يمكننا العودة لما كنا عليه!
قالتها وهي تزيح كفيه من على كتفيها برفق لتغادر غرفتها نحو غرفته حيث فتحت خزانة ملابسها ببعض العصبية عندما لحقها هو ليغلق الباب خلفه وهو يرمقها بنظراتٍ متفحصة…
لازالت تلك الماسة تبهره بردودها…
لقد توقع منها المزيد من العناد أو التمرد…
أو ربما -على العكس- استسلاماً عاطفياً حاراً…
لكنها لم تمنحه هذا ولا ذاك!!!!
بل أعطته مجرد طاعة باردة بنكهة النفور !!!
ومن سيرضى بهذا؟!!!!
هو؟!!!
أبداً!!!!
هي عادت لغرفته بإرادتها كما كان يرغب والآن دوره هو ليحيي عنقاء عاطفتها التي تجاهد هي لدفنها تحت رمادها…
وبهذا الإصرار توجه نحوها عندما انتهت من اختيار ملابسها فوضعتها جانباً لتغمغم باقتضاب:
_هلّا دعوت الخادمة لمساعدتي في تبديل ملابسي؟!
لكنه اقترب منها بخطوات ثابتة ليهمس بحزم:
_أنا سأفعل!!
اتسعت عيناها بدهشة للحظة لكنها عادت تغمضهما بقوة عندما امتدت أنامله تفك أزرار منامتها مع همسه الحاني :
_ألم تفتقدي اعتنائي بك كطفلتي؟!!
هنا وجدت أناملها دون وعي تتشبث بأنامله هو على صدرها …تضمها إليها باشتياق…!!!!
كم أحتاجك…
أحتاجك أكثر من أنفاسي…
لا تصدق انعقاد الحاجبين سلني أنا عن مقلتين تحتهما تذوبان اشتياقاً…
لا يغرك برود صوت في حضرتك كم اختنق بدموعه في غيابك…
لا تستمع وسط كل صراخ صمتي إلا لهمسة روحي الصادقة…
أحتاجك!!!
حتى في فورة غضبي…أحتاجك…
في قمة سخطي…أحتاجك…
وكيف لا؟!!
وأنت الدمع والضحكات…
وأنت الحِلّ والترحال…
وأنت البحر…والمرفأ…!!
أحتاجك…
فوق ما يتصور عاشق…
وأكثر مما يتغنى به شاعر…
شعوري بك ليس مجرد عاطفة أنثى لرجلٍ منحته قلبها…
بل شعور لاجئ بوطن…
شعور غريبٍ بسكن…
وشعور خاطئٍ بتوبة!!!
أحتاجك رغم كل سدود الخوف التي تقف بيننا…
رغم الأنواء العاصفة التي تجذب كلينا بعيداً عن صاحبه…
رغم ألف “لا” تغرس مخالبها في صدر عشق يهفو لكلمة”نعم”!!!!
أحتاجك…
أحتاجك!!!!
كانت هذه نداءات قلبها الصامتة التي عاندتها شفتاها باقتدار لكنها وصلته كاملةً دون نقصان…
وكأنها اخترقت صدرها لصدره بنورانيتها لتصيب هدفها برمية سديدة!!!
فاقترب بوجهه أكثر ليهمس آمراً:
_افتحي عينيكِ!
لكنها هزت رأسها نفياً وهي تحاول التشبث بأسوار كبريائها لتهمس بنبرة عاتبة رغم خفوتها:
_لن تقوى على حديثهما!!
فتألقت عيناه بعاطفة خالصة وهو يلصق جبينه بجبينها هامساً:
_تظنين أنكِ بهذا تخفين حديثهما عني؟!!
ذابت الحروف على لسانها وقد عدمت أبجديتها فجأة….
لتعرف شفتاه طريقهما إلى شفتيها بشغف حنون وهو يردف بحسم :
_أنا أجيد انتزاع أسرارك!!
======
انتفضت في غرفتها عندما سمعت صوت إطلاق النار بالخارج فقامت من مكانها لتخرج نحو بهو القصر مستفهمة عن مصدر الصوت فأنبأها أحد الخدم أنه السيد عاصي في مكانه الخاص بالرماية…
عقدت حاجبيها بدهشة وقد توجست خيفة من الأمر…
عاصي لا يمارس تدريبه هذا في هذا الوقت من الليل…
فما الذي يدفعه لهذا الآن؟!!
لكن الخادم أكمل ثرثرته المتعاطفة معها مخبراً إياها أنه -عاصي-يبدو شديد الغضب منذ عاد من الخارج وهذه هي طريقته المفضلة في إفراغ غضبه!!!
فزفرت بضيق ثم صرفت الخادم بأمر رفيق عندما لمحت عاصي يدخل من باب القصر بخطوات مندفعة نحو غرفة مكتبه دون أن يلمحها…
تسمرت مكانها وهي تراقب دخوله العاصف للغرفة قبل أن يصفق بابها خلفه بعنف…
فترددت قليلاً قبل أن تحسم أمرها لتدخل إليه…
ولم يكد يلمحها حتى التمعت عيناه ببريق غريب قبل أن يغمضهما بقوة هاتفاً بحدة:
_ماذا تريدين؟!
لم تكترث لحدة لهجته فقد صارت تدرك ما خلفها….
لهذا تقدمت نحوه بخطوات ثابتة لتجلس أمامه على المكتب قبل أن تقول بترقب:
_ما الأمر؟!!هل جدّ هناك ما يسوؤك؟!!
فتح عينيه فجأة لتشتعل غابات زيتونه ببريقها العاصف وهو يهتف بغضب لم يكبح جماحه كعادته:
_دوماً يكون هناك ما يسوؤني…لكنني أجيد السيطرة على كل شئ!!!
ورغم الثقة التي كان يتحدث بها إليها لكنها شعرت -بحدسها- أنه بداخله يخفي ما هو أكبر…
لهذا امتدت أناملها ببطء لتحتضن كفه على المكتب برفق مع همسها الدافئ:
_عاصي…أنا وأنت الآن في مركب واحد…أخبرني ماذا هناك!!
وكأنما كانت لمستها الدافئة كافية ليخفت بريق اشتعال عينيه مع غرقهما في بحار مرارتهما القديمة في ظلال صمت حاوطهما لدقائق…
قبل أن يغمغم باقتضاب :
_طعنة غادرة لم أكن أتوقعها!!!
عقدت حاجبيها بتساؤل لكنه أشاح بوجهه فعلمت أنه لن يفصح عن المزيد…
خاصةً عندما أردف بنبرة آمرة:
_عودي لغرفتي…لا تقلقي!
تنهدت بحرارة وهي تقف مكانها وقد أدركت عقم محاولتها لاستدراجه بالحديث…
عندما اصطدم بصرها بمظروف ورقي كبير على مكتبه يحمل اسم المشفى الذي ذهبا إليه هنا منذ وقت قصير…
فتناولته بلهفة لتهتف باهتمام:
_هل هذه نتيجة التحاليل والأشعات؟!!
لكنه قبض على كفها بقوة ليهتف بحدة:
_دعيه!!
زأرت أمواج فضتها بقلق هائل وهي تراقب تعابير وجهه التي انقلبت ل”خوفه” النادر…
ذاك الخوف الذي لم ترَه في عينيه إلا عليها هي…و”حورية”!!!!!
الخوف الذي يؤكد لها أن قلب”الشيطان” لازال ينبض بالحياة تحت أنقاض آثامه!!!
لهذا سحبت المظروف بعنف لتبتعد به وتخرج محتوياته…
ثم جرت عيناها على السطور بسرعة قبل أن تهمس بذهول:
_أنا؟!!معقول؟!!
وقف بدوره ليدور حول مكتبه هاتفاً بعنف:
_لماذا تعصين دوماً أوامري؟!!ألم آمركِ ألا تقرئيه؟!!
لكنها بدت وكأنها لم تسمعه…
عيناها كانتا معلقتين بالكلمات الأخيرة التي كتبت في آخر التقرير…
والتي جاءت صدمتها لتقلب لها مشاعرها رأساً على عقب…
فارتجفت أناملها الممسكة بالأوراق بقوة لكنه انتزعها من يديها ليلقيها أرضاً هاتفاً بحدة:
_خطأ!!!هراء!!!سنعيدها مرة أخرى!!!بل مائة مرة!!!
رفعت إليه عينيها المذهولتين وهي تتمتم مصدومة:
_وهل سيغير هذا الحقيقة؟!!
اعتصر ذراعيها بين قبضتيه وهو يهزها بعنف هاتفاً بانفعال:
_أي حقيقة؟!!!أنا لن أصدق إلا حقيقة واحدة …أنتِ ستمنحينني طفلاً!!!
ظلت تنظر إليه صامتة للحظات…
ثم انطلقت فجأة في ضحكات هستيرية عالية جعلته يعقد حاجبيه بقلق…
قبل أن تتحول ضحكاتها لدموع غزيرة صاحبت هتافها الانفعالي:
_كنتَ محقاً…هي طعنةٌ غادرة لم يحسب عاصي الرفاعي حسابها…عاصي الذي اعتاد تملك ما يريد ومن يريد وقتما يريد…الآن يعجز عن الحصول على مجرد طفل!!!!
كز على أسنانه وهو يشعر بحديثها يعرّي ظنونه التي كادت تخنقه منذ علم عن الأمر…
هل هذا هو انتقام الدهر منه على سوءات ماضيه؟!!!
هل بدأ العد التنازلي وآن ميعاد سداد فواتير آثامه؟!!!
هل هي بداية النهاية؟!!!
أن يُحرَم الطفل الذي عاش طوال هذه السنوات يتمناه؟!!!
وبهذه الحرقة التي كوت قلبه وجد نفسه يصرخ فيها بحدة:
_أنا لن أعجز عن الحصول على طفل…منكِ أو من غيرك؟!!
فاتسعت عيناها الدامعتان وهي تتأمل ملامحه العاصفة بغضبها للحظات…
قبل أن تمسح دموعها بأناملها المرتجفة لتقول بنبرة قوية أجهضت حتى عتابها له على ما قاله:
_معك حق!!!العيب مني أنا لحسن الحظ…الآن لم يعد لزواجنا أي معنى…أنت وفيت بدينك القديم…وأنا لن أكون أماً لولي عهد جديد…
اشتعلت غابات زيتونه بغضب متشح بعجزه هذه المرة…
فيما أردفت هي بنفس القوة:
_يمكنك الآن الرهان على جواد آخر ….ماستك فقدت قيمتها يا سيد عاصي…الآن صارت مجرد قطعة زجاج مزيفة لا تستحق عناء الحفاظ عليها.
لم تكد تتم عبارتها حتى جذبها إلى صدره بقوة كاسحة وهو يكاد يخفي جسدها بين ذراعيه…
ثم أغمض عينيه بألم حقيقي شق صدره…!!!!
ألمٍ لأجلها هي قبل أن يكون لأجله…
تلك التي تظن أنها فقدت قيمتها لديه ولا تدرك أنه الآن يكاد يموت حسرة عليها…
فهو منذ علم عن الأمر ورأسه يكاد ينفجر بغضبه…
هل صدقت نبوءتها يوم قالت له أن السماء لا تكافئ الشياطين بالماسات؟!!!
هل هو قدرهما ألا يكملا هذا الطريق لآخره؟!!!
هل صار حبهما عقيماً …مثلها؟!!
وعلى صدره لم تكن هي فقط تفرغ دموعها وألمها…بل كانت ترتشف هذا الأمان الذي تعرف أنها لن تجده إلا معه…
أمانٌ تحتاجه ليبدد ظلمات خوفها ويأسها الآن…
هي لن تكون أماً لطفله؟!!
أو لطفل غيره؟!!!
هي لن تجرب هذا الشعور الذي طالما غزا مخيلتها كأي فتاة…!!!
هي لم تعد “كاملة” في عينيه كما كان دوماً يراها…
شجرتها توشك على فقدان أوراقها بخريفه لتبقى مجرد أغصانٍ عارية…
لوحة “البازل” فقدت إحدى قطعها. ..بل أهمها!!!
والآن في عز شعورها بالضعف والانتقاص أمامه…لا تشعر بحاجتها إلا إليه…!!!!
حتى وإن صرخت في وجهه أن ما بينهما فقد ماهيته تبقى هي وحدها تدرك قيمته لديها…
حتى وإن تصنعت بروداً يغلف قناع قوتها تبقى هي وحدها تكتوي بنيران حسرتها…
حسرتها على طفل منه تمناه قلبها من السماء بكل تضرع…
وإن لعن عقلها أمنيتها !!!
والآن يتوارى القلب بخيبته خلف أستار عجزه ليتسيد العقل الموقف باقتدار…
ماسة لن تفقد قوتها ولو في موقف كهذا…
لقد تراكبت “النصال” على “النصال” في جسدٍ اعتاد طعنات أيامه…
الجروح فقدت مقدرتها على الإيلام وبقي لها فقط مثوبة الصبر!!!
لهذا رفعت إليه عينيها بنزيف فضتها الأليم لتهمس بمزيج من سؤال وجواب:
_انتهينا.
فاعتصرها بين ذراعيه أكثر وأنامله تتحسس طريقها بين خصلات شعرها بحركته -الأثيرة-للحظات …
قبل أن يهمس بحسم:
_أبداً!
التوت شفتاها ب-شبه-ابتسامة وهي تهمس بسخرية مريرة:
_عنادك لن يجدي هنا سيد عاصي…أنت قلت أن ما بيننا لم يكن سوى هذا الطفل والآن…
لكنه قاطعها بقوله الهادر:
_سنحصل عليه!!!
أغمضت عينيها بألم مع حركة أنامله في شعرها والتي اكتسبت الآن بعض القسوة مع همسه الثائر:
_أنا عاصي الرفاعي!!!لم يعاندني يوماً قدر ولم توقفني ظروف!!
فابتعدت عنه لتهمس بأسى:
_للأسف…ستتعلم الدرس هذه المرة …لكن ..بالطريقة الأصعب!!
لكنه عاد يقربها نحوه وكأنه فقط يثبت ملكيته لها ليعلو صوته المسيطر:
_مضى عهد الدروس يا صغيرة!!أنا واجهت اختباراتي ونجحت فيها كلها باقتدار…
غاصت عيناها في غابات زيتونه التي اشتعلت بغضبها للحظات قبل أن تختفي تماماً….
لتستحيل إلى فضاء عريض من مرارة ممتزجة بحسرتها …
عندما همس بصوت خفيض…خفيض جداً يكاد لا يُسمَع:
_أنا لم أتمنَّ شيئاً في حياتي كما تمنيت طفلاً منكِ أنتِ!!
فعادت عيناها تفيضان بدموعها وهي تشعر بشمس عاطفته التي تجاهد لاختراق جدران روحه المظلمة…
أسندت جبينها على صدره وهي تهمس بخفوت بين دموعها:
_أنا أيضاً كنت أتمناه…لكنني الآن أشعر بالرضا عن هذا المصير.
ثم رفعت عينيها إليه لتصطدم بنظراته التي عاد الغضب يحتلها لتردف بنبرة أقوى:
_الآن يمكننا فضّ هذا”الاتفاق” كما تحب أنت دوماً أن تدعوه!!أنا لم أعد أريد البقاء هنا!!
لم تدرِ لماذا قالت له هذا الآن…
هل هو كبرياؤها الذي دعاها لرفضه قبل أن يرفضها هو؟!!
أم هو شعورها بأن ما حدث هو إشارة قدرية لها بوجوب فراقهما؟!!!
أم أنها أرادت أن تنهي هذا الصراع الذي أنهكها بين قلبها وعقلها بشأنه؟!!
أم هو -ببساطة-كل هذا؟!!!!
لكنه بدا وكأنه تفاجأ بعبارتها فعاد يعتصرها بين ذراعيه بقوة آلمتها مع همسه الحازم:
_ليس برغبتك!!!
هنا قست عيناها كما لم تكن من قبل وهي تتذكر شيئاً ما جعلها تضغط على حروفها ببطء هامسة:
_ماذا؟!!! تراك ستنالني غصباً كما كنت تفعل “معها”؟!!
هنا اشتعلت ملامحه ببركان من غضب أسود وذكرياته “الآثمة” مع حورية تعاود تشكيل قناعه الشيطاني من جديد…ليهزها بعنف هاتفاً:
_كيف علمتِ عن هذا؟!!ماذا أخبرتكِ هي أيضاً؟!!
فصمتت للحظة تراقب تغير ملامحه مصعوقة…..ثم هزت رأسها في عدم تصديق وهي تغمغم بذهول:
_إذن كانت صادقة؟!!أنت كنت تقهرها طوال هذه السنوات ؟!!أنت الذي دفعتها لهذه النهاية؟!!
قالتها وهي تشعر بالصدمة تحيط قلبها بطوق من نار!!!
لم تتوقع وهي تستدرجه بكلماتها أن يعترف بهذا…
لهذا أردفت بنبرتها المصدومة:
_لم أكن أصدقها…أنا كذّبت حديثها يومها…قلت لنفسي أن عاصي…عاصي الذي انتزع لي حقي ممن اغتصبني لن يفعلها…لكنك الآن…الآن تؤكد لي حديثها…أنا لم أعد أعرفك…وجوهك العديدة صارت تربكني…من أنتَ حقاً؟!!!بربك أخبرني…من أنت؟!!
علا صوتها ب-شبه انهيار- في جملتها الأخيرة لتنهار تماماً في هتافها بعدها:
_أنت الأب الذي عشت عمري أتمناه؟!!أم الصديق الذي ساندني في أصعب فترات حياتي؟!!أم الزوج الذي أعاد لي شعوري بأنوثتي؟!!أم…أم الشيطان الذي يتبينه الجميع وعجزت عيناي أنا عن رؤيته؟!!!
فدفعها بخشونة ليهتف بقسوة:
_لا تعيدي فتح أبواب ماضٍ كالجحيم!!!الجهل أحياناً نعمة وخاصة لامرأة مثلك لم ترَ من الألوان إلا بياضها!!
هزت رأسها للحظات وكأنها تحاول استيعاب الحقيقة كلها…
هي الآن لم تعد ترى حورية مجرد امرأة خائنة…
الوجه الآخر للحقيقة تبين لها الآن…
قسوة عاصي الرفاعي هي التي دفعتها لهذا المصير…
ولو أن الخيانة لا مبرر لها لكن يبقى هو محملاً بأوزار تسلطه وجبروته….
لهذا اقتربت منه خطوة لتهمس بإدراك:
_دينك القديم معي إذن لم يكن لأختك فحسب…أنت كنت تحاول التكفير بي أنا عن ذنبك معها.
ثم أردفت بعتاب ممتزج بحسرتها:
_ظننتَ أن الحياة ستصفو لك مع امرأة…بعدما لوثت حياة امرأة أخرى؟!!!
أشاح بوجهه للحظة في انفعال وهو يشعر بكلماتها كالصفعات تدوي على صفحة وجه ضميره لتدميه!!!!
ثم عاد يلتفت إليها صارخاً بثورة عارمة:
_عودي لغرفتك الآن…لم يعد هناك ما يُقال!!!
فرمقته بنظرة طويلة قبل أن تهمس بقوتها التي لم تخنها رغم كل شئ:
_نعم يا سيد عاصي…لم يعد هناك ما يقال!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى