رواية ماسة وشيطان الفصل الثالث والأربعون 43 بقلم نرمين نحمد الله
رواية ماسة وشيطان البارت الثالث والأربعون
رواية ماسة وشيطان الجزء الثالث والأربعون
رواية ماسة وشيطان الحلقة الثالثة والأربعون
*أخضر*
=====
_ليس صحيحاً ! ليس صحيحاً!
كانت تهتف بها بما يبدو كالهذيان وهي تغادر غرفتها نحو غرفته في المشفى شبه راكضة ..
دموعها تشوش رؤيتها فتتعثر حركتها عدة مرات لكنها لا تبالي ..
صورة في مرآة قريبة تخبرها كم تشوه وجهها بأثر الضربات لكنها لم تكن ترى..
تسمع بعض الهمهمات الفضولية حولها باسم عزة الأنصاري لكنها -ربما- لأول مرة لا تنتشي بهذا الفخر ..بل تلعنه!
تنتهي خطواتها أمام غرفته فتقف برهبة مكانها تخشى الدخول ..
_ليس صحيحاً ..ليس صحيحاً !
تعاود التلفظ بها كأنما تحيلها من رجاء لواقع!!
كأنما تكفي وحدها لطمس الحقيقة !!
_لا تدخلي!
تلتفت مجفلة نحو مصدر الصوت فتقترب منها المرأة الباكية لتردف بصرامة رغم انهيارها:
_هو لم يسترد وعيه بعد !
_هل ..هل ..صحيح؟!
تتلعثم حروفها وهي تتبين شخصية أمه فقد أراها إيهاب يوماً بعض الصور لهما ..فتنخرط المرأة في بكاء حارق للحظات تجد نفسها تشاركها فيه وهي تمد أناملها نحو كتفيها لكن أمه تنفض ذراعيها عنها لتهتف بحرقة :
_أنا مؤمنة بقضاء الله وقدره ! لكن ..بلطجة واعتداء !! ابني لم يعرف هذه الأشياء طوال عمره ..طالما كان مسالماً يحب الناس ويحبونه ولا يميل للمشاكل ..والآن تناله هذه المصيبة بسببك !!
تغمض عزة عينيها بألم وهي تترنح مكانها للحظة فتستند على الحائط المجاور لها تتشبث فيه بكفيها ..
إذن..فالخبر صحيح!!
_يا ويلي! يا ويلي!!
تتمتم بها بصرخات خافتة وكفاها يزدادان تشبثاً بالجدار خلفها فيما تردف أمه بين شهقات نشيجها الباكي:
_ابني ضاع! سيعيش طوال عمره بهذا الشكل! سيخسر عمله الذي طالما أحبه وتفاخر به ! ابني الذي طالما تباهى أنه لا يبالي برأي الناس في شكله ..هل سيقوى الآن على قولها ؟!
_يا ويلي! يا ويلي!!
لا تزال تتمتم بها مغمضة العينين وهي تكاد تفقد وعيها ..
ليس هو فقط من سيعيش بعاهته طوال عمره ..
هي كذلك ستعيش بذنبه طوال عمرها !!
ليتهم آذوها هي وتركوه !
ليتها لم تقبل مقابلته في تلك الليلة !!
بل ليتها لم تعرفه يوماً ولم يعرفها!!!
أفكارها تنقطع وهي تسمع صوت الغرفة يفتح لتخرج منه الممرضة هاتفة :
_أفاق!
تندفع أمه راكضة نحو الداخل فيما تشعر هي أن قدميها عاجزتان عن حملها ..
_ياويلي!! يا ويلي!!
تهمس بها وهي تلطم خديها ببعض العنف شاعرة بظهرها يكاد يهوي ملتصقاً بالحائط خلفها لكن الممرضة تمسك ذراعيها بقوة تسندها لترفعها هاتفة بإشفاق:
_تماسكي كي تستطيعي معاونته ..هو يحتاجكم جميعاً الآن أقوياء جواره .
تهز رأسها مصدومة وهي تشعر بالممرضة تدفعها برفق نحو الداخل ..
ترى أمه منكبة فوقه بجسدها تقبل كفه وسط دموعها فيما يبدو هو مذهولاً ولايزال وجهه يحمل أمارات الصدمة ..
تلتقي عيناه بعينيها لأول لحظة فتترنح مكانها لتراه يحاول النهوض برأسه كأنه سيسندها!!
حتى وهو في هذا الحال!!
_من تكونان له ؟!
يسأل الطبيب المعالج بنبرة عملية فترد أمه بسرعة مجيبة إياه ليلتفت الطبيب نحوها هي بنظرة متسائلة لكنها كانت تنظر لإيهاب كالمغيبة ..
عيناها لا تكادان تحيدان عن عينيه ..
تقترب منه إنما تشعر أنها تبتعد ..وتبتعد ..
بينما لسانها يبدو وكأنه يتحرك بإرادة خاصة ليفرض عليها الجواب فرضاً :
_خطيبته !
======
*نيلي*
=======
_قطعة مميزة ..ذهب إماراتي ..لماذا تريدين بيعها ؟!
يقولها الصائغ بود مصطنع وهو يقلب السوار الذهبي بين أنامله بينما نظراته نحوها تفضح شكاً واضحاً خاصة وهي تتلفت خلفها خارج المحل بذعر لتجيبه زهرة بصوت مختنق:
_ظروف!
_خسارة ! تبدو وكأنها جديدة لم تستعمل..تبدين سريعة الملل !
يقولها بتظارف حذر وهو يعود ليتفحصها بنظراته فتكتم دموعها بشق الأنفس وهي تعود تجيبه بنفس الاقتضاب:
_كم تساوي؟!
يبخسها ثمنها بمنتهى الظلم لكنها لم تكن تملك رفاهية التردد وهي تتناول منه النقود بسرعة لتغادر المحل ولا تزال تتلفت خلفها بنفس الذعر ..
تشير نحو سيارة أجرة بسرعة تستقلها فيسألها السائق عفوياً:
_إلى أين؟!
ترمقه بنظرة مشدوهة للحظات وكأنما لا تعرف جواب السؤال ..
بل إنها حقاً لم تكن تعلمه !!
المزيد من زخم الدموع يغشي عينيها وهي تحاول التركيز عبثاً ..
أفكارها تبدو لها مبعثرة مرتجفة موجوعة كجسدها ..
لكنها وسط كل هذه الفوضى يبزغ لها اسم فندق بسيط الحال كانت تعرفه قبل سفرها للإمارات منذ سنوات ..فتذكره له بحروف متلعثمة ..
يهيأ إليها أن روحها تنسلخ منها ..تنسحب لتلك “البقعة الآمنة” التي اعتادت الهروب إليها ..
منذ كانت طفلة تختبئ تحت المائدة هاربة من صوت حزام سروال أبيها المخيف وهو يدور به في الهواء مهدداً إياها ..
منذ كانت مراهقة تختبئ خلف باب غرفتها هاربة من صراخه الهادر بها والمنذر بعاصفة من الضربات تليه ..
أيامها كانت تختلق لنفسها جنة من الخيال تهرب إليها ..
والآن تحاول أن تفعل المثل ..
تغمض عينيها تتخيل أن العالم قد خلا إلا منها ومن جهاد !
تراه يفتح لها ذراعيه فتهرع إليه لتخفي وجهها في صدره !
تسمعه يهمس لها بصوته الحبيب أنها وطنه الثاني ..
فيغص حلقها وهي تلملم ثوبها عفوياً لتحتضن جسدها بذراعيها ولاتزال صدمتها تفقدها القدرة على التركيز ..
هل كُتِب عليه أن يُنتَهَك كل وطن اختاره للسكنى ؟!
أم كُتب عليها هي أن تبقى جنتها في الخيال فحسب تهيم فيها روحها فيما يبقى جسدها معذباً بجحيم الواقع؟!
تحين منها نظرة لمرآة السيارة الجانبية فتروعها هذه الكدمة جوار فمها ..
تطبق شفتيها على صرخة كادت تغادرهما وأنياب الحقيقة تنتزعها قسراً من جنة الخيال التي تحاول عبثاً الهروب إليها ..
لم يكن كابوساً إذن!!
لم يكن كابوساً!
_اهربي يا زهرة ! اهربي!!
تكاد تسمعها بصوت أمها الواهن ..بنظرة عينيها المرتعبة ..بوجهها الشاحب الذي تناثرت عليه قطرات الدم ..
لم يكن كابوساً !
_هنا؟!
ينتزعها بها السائق من شرودها فتلتفت نحوه بتشتت ثم تعود ببصرها للفندق بسيط الحال ..
لم تدر كيف غادرت السيارة ولا كيف توجهت نحو مكتب الاستقبال الذي تناسب بساطة حاله المكان حولها ..
لكنها عندما استقرت أخيراً في هذه الغرفة التي تفوح منها رائحة “بخور” قديمة ذكرتها بأيام طفولتها ..
عندما استند ظهرها للباب المغلق لتجد نفسها أخيراً آمنة بين أربعة جدران ..
عندما واجهتها صورتها في مرآة مقابلة لتبصر فيها امرأة تشبهها إنما مفزوعة الملامح شاحبة الوجه كأنها جثة ..
ساعتها فقط تفجرت كل دموعها التي حبستها لتغرق وجهها كالطوفان بينما يسقط جسدها لتهوي على الأرض فيعود إليها إدراكها وتعود معه جلدات الذكرى البشعة التي لن تنساها ما عاشت ..
صرخة خلف صرخة تكتمها بكفها مع كل ومضة تجتاحها من الذكرى ..
_أنقذ ابنتك ! حرامٌ عليك !
صوت أمها يدوي كالقصف في أذنها بينما تخوض هي معركتها الخاصة مع ذاك الثور صديقه ..
صدمتها الأولى بما يحدث تجعلها لا تستوعب هذه الصاعقة !!
لكنها ما إن شعرت بأنامل الرجل تدنس جسدها حتى انتفضت كعنقاء وكل ما يملأ رأسها أنها لن تسمح لوطن جهاد أن يغتصب مرتين!
لا تدري من أين أتتها هذه القوة وهي تقاوم الرجل صارخة باسم أبيها حتى يأست منه لكنها لم تيأس من المقاومة !!
ولو تخلت عنها الدنيا كلها كانت ستبقى تقاوم ..تنتفض..
لم تكن لتستسلم ..لم تكن لتغتَصب!!
صرخات أمها تتضافر مع صرخاتها قبل أن تسمع صوت ارتطام مدوٍّ يجعلها تلتفت خلفها لتروعها صورة أبيها وقد سقط أرضاً والدم ينزف من رأسه ..
_دعها !
تصرخ بها أمها بشراسة غريبة على طبعها الخانع وهي تمد أناملها بطرف الزجاجة المكسور الذي لايزال ملطخاٌ بدم زوجها نحو ذاك الوغد الذي دارت عيناه حول محجريهما وهو يدرك وسط فوران سكرته مع رؤية جسد صديقه النازف أي مأزق هو فيه فيفر هارباً من المكان ..
_أمي! ماذا حدث لأبي؟!
تصرخ بها وهي تنحني فوق جسد أبيها تحاول تفحصه لكن أمها تدفعها عنه هاتفة بشراسة قطة تدافع صغيرتها :
_ليس أباكِ! من يفعل هذا ليس بأب! لكن لماذا أعاتبه وأنا كدت أضيعك مثله بجبني وضعفي طوال هذه السنوات ؟! اهربي يا زهرة من هنا ..انسينا وارمي كل هذا خلف ظهرك ..سافري وابتعدي ..تزوجي من اختاره قلبك ..
ثم يرتعد صوتها ببكائها وهي تردف :
_عيشي يا ابنتي وافرحي ..ربما ساعتها فقط أسامح نفسي على تقصيري في حقك طوال هذه السنوات !
تسمعان صوت أبيها يتمتم ببضع كلمات ساخطة وهو يتحسس رأسه وسط تأوهاته فتهتف بها أمها وهي تدفعها نحو غرفتها :
_غادري قبل أن يفيق لن تسلمي من بطشه !
_وأنت؟!
_لا تحملي همي ..أنا اعتدت طبعه .
_تعالي معي إذن ..نسافر سوياً !
تهتف بها برجاء وهي تتشبث بها لكن الأم تقاطعها هاتفة بقوتها المستحدثة :
_لن أكون بعد الآن حملاً فوق كتفيكِ ..سأبقى هنا جواره كي أكفيكِ بطشه .
ترمقها بنظرة مصدومة وهي تشعر أنها ترى الآن امرأة غير التي عرفتها طوال عمرها أماً ..
أمها الخانعة الضعيفة المستسلمة دوماً دونما مقاومة !!
_كنتِ ستضيعين!
هل قالتها أمها مفسرة ؟!
معتذرة؟! متحسرة ؟! ساخطة ؟! راجية ؟! مبتهلة ؟!
ربما هو كل هذا !!
لهذا عندما عانقتها زهرة بعدها وسط عاصفة الدموع التي اجتاحتهما سوياً شعرت أنها لن تعيش معها لحظة أمومة أصدق من هذه !!
_اهربي يا زهرة ..اهربي!
تهتف بها أمها وهي ترى زوجها يسترد المزيد من وعيه فتطيعها شاعرةً أن سلطان خوفها منه يغلب سلطان خوفها عليها !!
_أمي فعلت هذا ؟! بل ..أبي ..أبي فعل هذا؟!
تهمس بها لنفسها مصعوقة وقد عاد إليها إدراكها بينما تتلفت حولها أخيراً في أرجاء الغرفة الغريبة عنها ..
ورغم أنها اعتادت العيش في جلباب وحدتها لسنوات في غربتها الطويلة لكنها في هذه اللحظة كانت تشعر أن الوحدة لم تعد جلباباً بل ..كفناٌ !!
ترفع ساقيها لتحتضن جسدها المنهك وهي لاتزال ترفض تصديق الحقيقة ..
هل رضي أبوها أن يبيعها في مقامرة ؟!
هل استباح شرفها وشرفه ؟!
ماذا سيكون مصيرها أمها الآن ؟!
وكيف ستتصل بها دون أن تضمن أن يتعقبها هو؟!
تشهق بحدة عند الخاطر الأخير وهي تتناول حقيبتها الملقاة جوارها لتلتقط منها هاتفها فتنتزع منه شريحته القديمة بعدما احتفظت بأرقامها قبل أن ترميها لتضع الأخرى الجديدة التي اشترتها .
جهاد!
اسمه الحبيب يغزو خاطرها فتعود لتجهش في البكاء من جديد ..
لم تكن تظن يوماً أنها ستُلفظ من وطنها مثله لتعيش عمرها في منفى الغربة ..
لم تكن تظن أنها ستشاركه المصير كما شاركته الوجع والحب !
لم تكن تظن وهي تعد عدتها لتكون له “عروس” الحب و”
“أم”القلب أن تصير ”
“طفلة” هائمة شريدة تترقب المأوى!
لم تكن تظن أنها ستعيش هذا الكابوس بكل تفاصيله ..
لا ..لم يكن كابوساً ..
وليته كان !
======
*برتقالي*
======
_أستغفر الله العظيم !
تهتف بها وهي تنتفض من نومها فجأة لتتحسس شفتيها قبل أن تطلق زفرة قصيرة وهي تحيط وجنتيها براحتيها تستعيد تفاصيل حلمها “الكارثيّ” :
كانت ترتدي ثوباً بلون “السيمون” الهادئ وبتصميم أنثوي رقيق برزت منه مفاتنها -على غير حقيقتها- ليبدو لها جسدها أكثر جمالاً وهي تجلس فوق كرسي مجد لكنه كان مزين الذراعين بالزهور الملونة ..
والأجمل أنه هو ..هو ذاك المستفز من كان يدفعها !
يدفعها بهذه السرعة الرشيقة وسط حقل من الزهور فتتعالى ضحكاتها التي لم تسمعها هكذا عالية منذ زمن بعيد ..بعيد جداٌ ..
ترفع إليه عينيها فتلتقي بنظراته الخطيرة التي لا تدري من أين تستمد قوتها القاهرة هذه والتي لا تملك معها حق الفرار ..
يبتسم لها هذه الابتسامة الحنون التي لم ترها سوى لمجد فيخفق قلبها وعيناها تتسمران فوق شفتيه تلاحقان هذه الابتسامة كأنما تود لو تسجنها في حدقتيها للأبد ..
تشعر به يوقف كرسيها فجأة فتضطرب خفقاتها أكثر بترقب مجنون وهي تراه ينحني نحوها بوجهه ببطء مثير لتلتقي الشفاه لقاء شوق يزداد عصفه بجسديهما معاً قبل أن تشعر به يطوقها بذراعه ليوقفها فيشدها إليه أكثر ..
_أستغفر الله العظيم ! أستغفر الله العظيم !
تعاود ترديدها بمزيد من حنق وخجل وهي تحاول التخلص من أثر الحلم فتنفض عنها غطاءها لتغادر الفراش نحو الحمام القريب ..
تغتسل وجسدها يرتجف بهذه الفوضى الجديدة عليها كلياً ..
فتزيد حرارة الماء للدرجة القصوى كأنها بهذا تذيب هذه اليد الخفية التي تشعر بها تعيث فساداً في شرايينها !
ما الذي يفعله بها قربها من هذا الرجل الذي يزداد خطورة يوماً بعد يوم ؟!
إنها لم تجرب طغيان المشاعر القاهر هذا حتى مع حسام القاضي!!
ربما لأنه يلعب على أكثر أوتارها وهناً وهو يلعب أمامها دور الأب الذي طالما افتقدته عروض مسارحها !
لم تغادر شلال الماء إلا عندما رأت حمرة بشرتها بأثر سخونته واستشعرت هذا الألم الطفيف فأغلقت الصنبور لتجفف جسدها فتلفه بمنشفة ثم تتحرك نحو خزانة ملابسها كي تنتقي لنفسها منامة مناسبة ..
لكنها بدلاً من هذا وجدت أناملها تخونها لهذا الدرج السري ..والسحري!!
الدرج الذي تخجل من نفسها أحياناً لما تعلمه عن محتوياته لكن عزاءها أنه سرها الخاص!!
تفتحه بأنامل مترددة تراقب محتوياته ورغم يقينها أنها وحدها تماماً لكنها تلفتت حولها بحركة عفوية قبل أن تفتح الدرج أكثر لتستخرج محتوياته وتفردها أمامها ..
قمصان نوم ناعمة شديدة الأنثوية تحمل أسماء ماركات شهيرة ..
وبكل الألوان التي يمكن تخيلها !
هل يمكنها الآن الاعتراف أنها مهووسة بشراء مثل هذه الأشياء؟!
لا ..ليست فقط قيمتها الغالية التي تعيد شحن ذاكرتها بواقعها الجديد كي تطمس الماضي ..
إنما هي عادتها الخفية في ارتدائها وحدها أمام مرآتها !
كم من مشهد عاطفي كتبته تخيلت فيه نفسها مكان البطلة ترتدي مثل هذا وترنو إلى نظرة إعجاب في عين عاشق!
كم من حوار خطّته يدها في رواية وتمنت لو تكون كلماته منها ولها!
كم من عناق ..قبلة ..لمسة حب كتبته روحها العطشى قبل أناملها !
ربما لهذا لم تكتب نهاية سعيدة واحدة لأي من رواياتها العديدة ..
هل هو عدم إيمانها بالحب نفسه؟! أم هو كفرها بلقياه لامرأة بوضعها؟!
تخونها عيناها ببادرة دمع لكنها تئدها في مهدها ..
إن كانت طيف الصالح لا تبكي فطيف الرفاعي أجدر ألا تفعلها!!
لهذا تهز رأسها بقوة كأنما تنفض عنها هذا الوهن المستحدث ثم تعيد إغلاق الدرج بسرعة كأنما تهرب من مارد !!
تتناول ثوباً صيفياً بألوان مشرقة عاري الذراعين ترتديه على عجل ثم تمشط شعرها الطويل لتسدله على ظهرها فتتذكر مقولة مجد ..
يحيى لا يحب الشعر طويلاً ..
ربما لأنه يذكره بأم مجد !!
من هي ؟!
تراها كانت معشوقته ؟!
لكن هل هو من النبل أن يربي ابنة امرأة كان يعشقها ؟!
وأين هي؟! ولماذا تركت له ابنتها؟!
عقلها يرسم آلاف القصص بما يناسب عقل امرأة خصبة الخيال مثلها لكنها تهتف لنفسها أخيراً :
_خرِب بيتك! اخرج من رأسي !
تقولها ثم تردف لنفسها بهذه الطريقة التي اعتادت بها تجاوز أزماتها:
_اسمعي يا طيف! لا تكبري الموضوع! هو مجرد رجل عادي لكنكِ تظنين نفسك قد تعلقتِ به ..ربما لأنك تتمنين حباً يشبه حبه لمجد ..ليس أكثر ! هل تذكرين نصيحتك لزهرة يوماً عندما أخبرتك عن حبها لذاك الطبيب ..
(لا تمنحي رجلاً نظرة قبل أن يمنحكِ هو عيناه ..لا تقتربي منه خطوة قبل أن تسمعي لهاث هرولته إليك ..لا تسمعيه صوت دقاتك حتى يهبكِ قلبه كاملاً ..لا تهديه عشقاً قبل أن يلقي حياته تحت قدميك ..ما عدا ذلك فستنتهين مجرد متسولة على أرصفة الهوى!)
تأخذ نفساً عميقاً وكأنما منحتها نصيحتها الأخيرة لنفسها بعض القوة فتبتسم ابتسامة حماسية وهي تتحرك لتصنع لنفسها كوباً من القهوة ..لا ليست تلك العالمية غالية الثمن التي تكرهها ..إنما اختارت هذه العادية التي تعشق مذاقها فحسب!
تفتح الشرفة لتعانق ضوء الصباح فتتسع ابتسامتها وهي تتأمل جمال المكان حولها ..جمالاً يليق بوضعها الجديد وبمكانة طيف الصالح العظيمة !
تجلس على المنضدة فتفتح حاسوبها ..
تتردد قليلاً وهي تلمح رسالة منه على بريدها المزيف الذي كان حلقة الوصل بينهما لأيام سابقة ..
لم يساعدها حوارها معه على فهم أي شيء عن طبيعته الغامضة فقد كان مناوراً بارعاً ..لكنه أكد لها أنه لا يملك طبيعة عابثة خلف واجهته المتحفظة ..كرهه للنساء حقيقة وليس ادعاء !
بل ربما ما دفعه لإكمال حواره معها بشخصيتها المزيفة هذه أنها ادعت إيمانها بأفكاره وانتحلت له قصة زائفة عن كرهها لطبيعتها الخائنة !!
ماذا عساه كتب لها ؟! لماذا تشعر بهذا الخوف من فتح رسالته ؟! كأنها في كل مرة تفعلها تفتح لنفسها باباً آخر يقودها لشبكة جديدة من شباكه التي تطوقها ..
ربما لهذا تجاهلت قراءة الرسالة عامدة لتشغل نفسها بكتابة تغريدتها الصباحية على تويتر ..ثم تتبعها بشبيهاتها على بقية مواقع التواصل ..تقرأ آخر “الريفيوهات” التي حصدتها روايتها الأخيرة على موقع “جود ريدز” فتشعر بالمزيد من الفخر الذي يدفعها لمواصلة كتابة روايتها الأخيرة التي ستفي بعهدها أنها لن تكون عاطفية ..
_إذا أردت الانتصار في جميع معاركك فأطل النظر لمرآتك واعلم ساعتها أنك تنظر لأشد أعدائك بأساً..فإن أنت هزمته صارت هزيمتك لغيره أسهل!
تكتنفها حماسة قوية وهي تكمل كتابة مشاهدها التي اتسمت بالعنف والغموض فلم تشعر بمرور الوقت إلا عندما سمعت صوت رنين الجرس ..
إنه موعد مجد اليومي الذي صار روتينهما الخاص إذ يمررها يحيى عليها قبل ذهابه للعمل ..
تأبى الاعتراف بهذه القشعريرة التي تجتاحها وهي تنهض من مكانها لتتوجه نحو الباب ..نفسها تسول إليها النظر للمرآة كي تطمئن على مظهرها لكنها ترفض الأمر ..ربما لأنها تخشى دلالته !
تفتح الباب ببعض العنف لكنها تفاجأ بنزار هذه المرة :
_صباح الأنوار !
نبرته العابثة تثير بعض تحفظها فترمقه بنظرة سوداء وهي تمط شفتيها بحركة سمجة تجعله يبتسم بمكر قبل أن تتجاهله تماماً وهي تنحني بوجهها نحو مجد لتقبل وجنتيها بحنان حقيقي دافئ يناقض لهجتها الجافة :
_ادخلي .
الخادمة تدخل بالصغيرة فيما يبقى نزار واقفاً مكانه فتهتف بها هي بغلظة :
_خيراً!
_اليوم عيد ميلاد ميجو ..لو تحبين الانضمام إلينا في حفل ..
يقولها بنبرته التحببية لكنها تقاطعه هاتفة :
_لا!
تقولها بفظاظتها المعهودة وهي تغلق الباب في وجهه فيرتد برأسه للخلف متمتماً بخفوت:
_أعوذ بالله ! “جكمة”!
واللفظة العراقية الأخيرة تشير للمرأة قبيحة الشكل لكنه هاهنا لم يقصد مظهرها فحسب بل دواخلها “المتقنفذة” كذلك !!
_كان الله في عونك يا سندباد !
يتمتم بها لنفسه ضاحكاً بتهكم وهو في طريقه نحو المصعد ليلحق بصاحبه ..
فيما تنظر هي لمجد فيذوب برد ملامحها مع دفء نظراتها الحقيقي وهي تنحني لتجلس على ركبتيها أمام الصغيرة قائلة :
_كل عام وأنتِ بخير ! العقبى لمائة عام!
_لا أريد أن أكبر ..”بابا” يقول دوماً أن العمر يسرق منا الفرحة !
_خرب بيتك ! بومة ! بومة بشارب ولحية !
تهمس بها لنفسها سراً وهي تستحضر صورة يحيى لكنها تبتسم للصغيرة قائلة برفق:
_ليس دوماً ! العمر يمنحنا الفرشاة ونحن من نرسم اللوحة ..نحن من نختار الطريق ..نصنع السعادة أو نستعذب الألم !
_كلامك جميل .
تقولها مجد بابتسامة تشرق في قلب طيف التي تضمها لصدرها بقوة فتعانقها الصغيرة بدورها لتهمس لها برجاء:
_إن أردتِ لي عاماً سعيداً فاقبلي دعوتي لحفل عيد ميلادي!
_لا أحب خلطة الناس والزحام .
تقولها طيف بنبرتها الجافة التي تناقض كل هذا الحنان الذي تفضحه لغة جسدها ..
فتهتف مجد بحماس:
_أنا كذلك لا أحب الخلطة و الزحام ..”بابا” سيقيم مساء حفلاً لنا وحدنا ..على شاطئ جزيرة (…) ..أنا وهو وعمو”نزار” ..تعالي!
تزيغ عينا طيف بشرود وهي تتخيل نفسها تسير معه على الشاطئ حافية ..يدغدغ الرمل قدميها ويغازل الموج كعبيها فيما تتطاير خصلات شعرها لتلامس كتفيه !!
_أستغفر الله العظيم ! أستغفر الله العظيم !
تنتزع بها نفسها من خيالاتها قسراً وهي تشعر بشعور غريب هو للخوف أقرب منه للضيق ..
إنها حقاً صارت تخشى قربه ..ولولا ارتباطها بهذه الصغيرة وارتباطها هي بها لأغلقت في وجهه كل باب يمكن أن يفتح بينهما !
_ستأتين؟!
تسألها مجد بإلحاح وهي ترمقها بنظرة راجية لكنها تهز رأسها نفياً قائلة :
_لن أستطيع ..
تقولها ثم تحاول صرف انتباه الصغيرة خائبة الأمل لشيء آخر فتتحرك لتحضر لها بعض ألعابهما اليومية التي اعتادتا تمضية الوقت بها ..
يحيى العراقي صار هاجسها الذي يهدد أماناً عاشت تبنيه طوال هذه السنوات ..
ولن تسمح لأحدهم مهما كان أن يهدمه !
=======
_كنت أعلم أنكِ ستأتين!
تهتف بها مجد خلفه وهي تصفق بكفيها بينما يفتح يحيى باب شقته ليجد طيف أمامه ..
تتسع عيناه ببعض الدهشة من حضورها فقد أخبره كل من نزار ومجد برفضها ..
تلتقي نظراتهما للحظة فتشيح هي بوجهها بما بدا له كنفور جعله يلتفت نحو ابنته قائلاً بنبرته المتحفظة :
_اصبري قليلاً يا “حبيبة بابا”! لعلها لن تأتي .
لكن طيف تسيئ تأويل عبارته فتهتف به بحدة :
_ومادمت لا تريدني أن آتي فلماذا دعوتني؟!
يعاود التفاته نحوها ليهتف بحدة مشابهة :
_أولاً ..أنا لم أدعكِ ..نزار ومجد فعلاها! ..ثانياً ..أنا لم أقل أنني لا أرغب في حضورك .
_وهل سأنتظرك لتقولها ؟! إنه خطئي أنا لأنني ..
_انظري ماذا أحضرت صديقتك لكِ !!
يقاطعها بها نزار مخاطباً مجد ومتداركاً الموقف كي لا يتحول لشجار كالعادة بين هذين الديكين ،فتهتف الطفلة بانبهار:
_هذه الهدايا لي؟! كلها !
تلتقط طيف أنفاسها وهي تشيح بوجهها ..ليصلها صوت يحيى المتحفظ يغمغم بمزيج من حرج وضيق:
_هذا ..كثير!
تغمض عينيها بقوة وهي تشعر أن هذه التجربة مع مجد تستخرج كل عقدها الدفينة ..
هاهي ذي ذهبت لتشتري لها هدية فوجدت نفسها تبتاع ما يقارب ربع المحل!!
لم تكن تشتري الهدايا لمجد وحدها ..كانت تشتريها لنفسها!!
أجل ..كل لعبة تمنت شبيهتها في صغرها ابتاعتها وكأنها تراضي هذه الطفلة اليتيمة بداخلها !!
كأنها تخبرها دون صوت ..إن كان أبوكِ قد رحل دون أن يشتري لكِ اللعب فهاهو ذا ماله اشتري به ما شئتِ !
لكن ..هل يكفيها هذا عوضاً؟!!
_ادخلي وافتحيهم معي ..أرجوكِ !
تهتف بها مجد بإلحاح لكن طيف تتراجع خطوة للخلف قائلة ببؤس لا تدعيه :
_يمكننا أن نفتحهم غداً عندما تأتينني صباحاً ..استمتعي بحفلك !
تقولها وهي تعطيهما ظهرها كي لا تصطدم بنظرة مجد الراجية لتتحرك نحو شقتها من جديد ..
لكن صوته يصلها وقد لحق بها :
_انتظري.
تلتفت لتتلاحق أنفاسها رغماً عنها وهي تجده على بعد خطوة واحدة منها ونظراته تقصفها بهذا القصف غير الرحيم ..
_ماذا تريد؟!
حدتها الفظة كانت سيفها الوحيد الذي بدا لها عديم القيمة أمام هيمنة غزوه وهو يبدو لها -رغم قوة نظراته- حائراً مثلها ..
حيرة جعلتها تشعر ببعض التشفي وجعلته هو يصمت للحظات قبل أن يصلها صوته القوي من جديد :
_أنا حقاً لم أدعكِ للحضور لكن هأنذا أفعل ..هل تقبلين؟!
يالله !
كيف يفعلها؟!
كيف يتحدث بهذه الطريقة التي تمزج الغطرسة بالرجاء؟!
والتي تجد نفسها كل مرة عاجزة عن مقاومة صداها في نفسها ..
خاصة وهو يردف :
_لأجل مجد !
عيناها تتسع ببعض الخيبة فلا تدري هل تفرح تشفياً برجائه غير المنطوق ..أم تصدق كل هذه الإشارات التي يرسلها لها أنه حقاً ضائق بوجودها هذا حوله؟!
تراه يخشاها كما تخشاه ؟!!
تراها تطاردها في أحلامه كما يفعل هو؟!
تراه يرهب تهديدها لأمانه كما تفعل هي؟!
نظراتهما تتصادم للحظة تقرأ هي فيها رجاء ”
عزيز “ويقرأ هو فيها رفض “راغبة” !
ربما لهذا تحول رجاؤه غير المنطوق لآخر صريح :
_رجاءً ..من فضلك .
ورغم أن نسبة الغطرسة في صوته لم تقل ولو بنسبة واحد بالمائة لكنها وجدت نفسها تستجيب لإلحاح مجد التي تقدمت نحوهما بكرسيها !
_أوافق . لكن بشرط ..
تقولها طيف رافعة أنفها لتضيق عينا يحيى بترقب كأنه يدرس ردود أفعالها ..لهذا كانت دهشته كبيرة عندما وجدها تنحني نحو مجد لتخاطبها كأنها وحدها من تعنيها الآن:
_أن ألبسكِ أنا الثوب الذي اخترته وأمشط لكِ شعرك .
تصفق مجد بكفيها في فرحة عارمة فيما ترفع طيف رأسها تشير نحو يحيى ونزار بسبابتها مردفة بفظاظة :
_وأنتما تنتظرانا هنا !
_حسناً !
يهتف بها نزار فيما يزداد انعقاد حاجبي يحيى وهو يشعر أن مثلثه مع مجد وطيف هذه تزداد أضلاعه ضيقاً وحميمية !
لقد تمنى طيلة الأيام السابقة أن يكون ارتباطها بمجد مجرد رغبة فضولية منها في كشف أسراره أو محاولة بائسة للتقرب إليه ..
لكنه يستشعر في كل لحظة تجمعهم سوياً أن حبها لمجد صادق حقاً ..بل إنه بقراءته لماضيها يكاد يقسم أنها ترى فيها صورة نفسها ..
كل هذا بعيداً عن دائرته هو ..
“القنفذ” لايزال يبرز أشواكه في وجه كل من يريد الاقتراب من منطقة أمانه وهو ليس استثناء!
فهل يشعره هذا بالراحة أم بالضيق؟!
_لا تقلق هكذا ! لن تأكلها !
يهتف بها نزار ملاطفاً ليلتفت نحوه هاتفاً بحدة مكتومة :
_إنه خطئي أنا أن سمحت لهما بهذا التقارب من البداية ..لو تأذت مجد بسبب هذا فلن أسامح نفسي أبداً !
_لن تتأذى ! على العكس ..ميجو تحبها وقد صار مزاجها أفضل كثيراً في الآونة الأخيرة بفضلها .
_حقاً؟! وماذا لو …؟!
يقطع يحيى كلامه بينما يشعر بهما تعودان لتتسع عيناه بدهشة وهو يميز ثوب الصغيرة الأسطوري الذي التف حول جسدها كأميرة بلونه الوردي الهادئ ..مع هذا التاج الفضي الذي وضعته فوق رأسها ..و..شعرها!!
شعرها!!
دهشته تتحول لضيق لم يستطع إخفاءه وهو يرى رابطة الشعر التي ثبتتها لها والتي منحت شعرها مظهراً خادعاً بالطول بهذه الخصلات الصناعية التي انسدلت على كتفيها وظهرها ..
_صار شعري طويلاً يا “بابا” ! لا تغضب ..سأزيل كل هذا عندما نعود ويرجع قصيراً كما تحبه !
تهتف بها مجد بفرحة طاغية وهي تتلمس الشعر الصناعي على كتفيها فيزم شفتيه شاعراً ببعض الذنب وهو يتقدم نحو الصغيرة ليقبل جبينها برقة هامساً بابتسامة حنون:
_تدللي!
_ما شاء الله ! الأستاذة طيف لديها حلول لكل المشاكل ..لاريب أنها كاتبة عاطفية ناجحة .
يهتف بها نزار بتودد لترد طيف بفظاظة سمجة :
_لا دخل لكتاباتي بالأمر ..كل رواياتي نهاياتها بائسة !
_يا ستّير!
يتمتم بها نزار بخفوت وهو يشيح بوجهه في نفور فيما يصله صوت يحيى الضائق:
_هيا بنا كي ندرك الشمس قبل الغروب!
=====
على الشاطئ الرملي جلس أربعتهم يغنون أغنية عيد الميلاد الشهيرة لمجد التي بدت في أقصى حالاتها سعادة وهي تتلمس خصلات الشعر الطويلة فوق كتفيها ..
يضع يحيى كفه فوق أناملها الصغيرة ليجعلها تمسك بالسكين ثم تقطع الكعكة وسط ضحكاتها الرائقة :
_ أجمل عيد ميلاد ! شكراً !
تهتف بها الطفلة وهي تترك ما بيدها لتعانق يحيى أولاً ثم تلتفت للجانب الآخر لتعانق طيف مردفة :
_أنتِ جعلتِ حياتي أجمل!
تضمها طيف لصدرها بقوة مغمضة عينيها وهي تشعر بكلمات الصغيرة على بساطتها هي أفضل ما حصلت عليه منذ أعوام..
ربما منذ ذاك اليوم الذي عانقها فيه عاصي الرفاعي معترفاٌ بأخوّة حقيقية بينهما !!
لو كان هذا مشهداً في رواية تكتبها لصاغت عشرات الأسطر في سرد مشاعرها لكنها الآن حقيقةً لا تملك سوى الصمت ..الصمت الصاخب بفوضى المشاعر هذه !
_تفضلي!
يهتف بها نزار وهو يعطيها طبقاً من الطعام فتفتح عينيها لترمقه بهذه النظرة المنفرة ثم تتناول منه الطبق ببعض العنف..
فيما يناول يحيى مجد كوباً من العصير لكن الصغيرة ترتبك قليلاً مع طيران خصلة من شعرها الاصطناعي بفعل الهواء فيسقط العصير فوق ذراعها وذراع طيف!!
تتسع عينا طيف بصدمة وهي ترى يحيى عفوياً يسحب بعض المناشف الورقية ليضعها دون تفكير وفي نفس اللحظة على ذراع الصغيرة و..ذراعها هي!!
يرتجف جسدها للحظة وهي ترفع عينيها نحوه لتروعها هذه النظرة الغريبة في عينيه وكأنه مثلها قد فوجئ بتصرفه !!
يعتذر بكلمات مبهمة وهو ينتفض مكانه واقفاً فيما تشعر هي برجفتها تستحيل لرعدة تسري في أوصالها وهي تستعيد شعورها بأنامله فوق بشرتها لهذه اللحظة الخاطفة ..
لم يكن حلماً هذه المرة !!
لم يكن حلماً !!
لقد عاملها حقاً كابنته في لحظة عفوية لينتابها هذا الشعور المعهود بالجوع!!
الجوع لهذا الحنان الممنوح دون مسمى ..دون قيد ..دون شرط ..ودون اعتبار لماضٍ أو هوية !!
_آسفة !
تهتف بها مجد بخجل لكن نزار يقف ليحمل الصغيرة بين ذراعيه هاتفاً بمرحه المعهود :
_عقابكِ أن ألقيكِ في الماء!
تطلق مجد صيحات مرحة وهي تتعلق بعنقه فيما يتحرك بها نحو الماء فيهتف به يحيى بجزع:
_لا تتمادَ! لا تخيفها !
فيما تقف طيف بدورها تراقبهما ونزار يلاعب الصغيرة في الماء فيصلها هتاف مجد المرح:
_لو ابتل الثوب فلن تسامحنا طيف .
_مسامحة ! لكن كوني سعيدة !
تهتف بها طيف وهي تكور كفيها حول فمها شاعرةً بانطلاق غريب على طبيعتها المنغلقة دوماً ..
ربما هو الجو الساحر حولها في هذا الوقت من المساء وقد بدت الشمس كأم حنون دافئة تلوح لأبنائها قبل الغروب ..
أو ربما هي نسائم الهواء اللطيفة التي تمنح شهقاتها الحيوية وتنتزع من زفراتها شعورها المبهم بالضيق ..
أو ربما هو شعورها المستحدث أنها هي نفسها تتغير ..
تعيش طفولتها من جديد بعيني مجد ..
وتتنفس أنوثتها المنسية بعينيه هو!!
هو الذي تشعر بنظراته تكاد تخترقها الآن في وقفتها الجانبية لكنها تتجاهلها بما يليق محاولة الانشغال بمراقبة الصغيرة ..
تخلع عنها حذاءها بحركة سريعة لتداعب الرمال بأصابع قدميها فتراه يفعل المثل لتزداد خفقاتها عبثاً !!
_لماذا تقيمين وحدك هنا؟!
_وما شأنك أنت؟! ما شأنك أنت؟!
ترد له بضاعته مقلدة لهجته العراقية وأسلوبه الهجومي فتلتمع عيناه هذه اللمعة الخطيرة وهو يطيل النظر نحوها للحظات ..
ابتسامة أشد خطورة تولد ببطء على شفتيه لتصل وسامته حد الفتك فتشعر بخفقات قلبها تتراقص على حافة الجنون ة.
وبينما كانت تشيح بوجهها فيما بدا كعدم اكتراث لتطلق ما أرادته كزفرة ساخطة كانت وحدها تعلم أنها تنهيدة تأثر!
_خرب بيتك!
تهمس بها لنفسها سراً وهي تضبط وجنتيها في وضع تلبس بتهمة “حمرة خجل”!
هذه التي شعرت بحرارتها تكاد تنبثق من كل ذرة في وجهها لكن صوته يعود يغزوها :
_لا بأس! كما تريدين! رغم أنه من حقي أن أعرف المزيد عنكِ ما دامت ابنتي تعلقت بكِ إلى هذا الحد !
_أنا لم أفرض نفسي عليكم ..بل أنتم من فعلها! لهذا يحق لي أنا القلق وليس العكس!
تهتف بها بنفس الفظاظة الظاهرة وإن كانت داخلها تشعر بالجبن من مجرد النظر إليه لكنه هو يتحرك ليقف قبالتها مجبراً إياها على النظر إليه :
_لو كنت شعرتُ للحظة أنكِ لست راضية لما سمحت لكما بهذا التقارب ..ظننت علاقتكما تبادلية ..هي تحتاجك كما تحتاجينها ..لكن لو كنت تسمين الأمر ب”أننا نفرض نفسنا عليكِ” فأعدكِ أن تكون هذه آخر مرة ترينها فيها !
يقولها باعتداده المغيظ ثم يعطيها ظهره ليقترب أكثر من الماء ملوحاً لابنته من بعيد بكفه فتشعر هي ببعض الندم على ما تفوهت به ..
_أنا …..أحبها !
تخرج منها أخيراً متثاقلة بما يبدو له كاعتذار خاصة وهي تردف بنفس التثاقل الفظ:
_لست شخصية اجتماعية ..ولا أجيد المجاملات ..بل لا أكاد أسمح لأحدهم أن يخترق حدود خصوصيتي ..لكنني فعلتها لأجلها هي .
يبقى صامتاً للحظات قبل أن يصلها صوته القوي دون أن ينظر إليها :
_مجد كذلك لا تتقبل الغرباء بسهولة ..أمها تخلت عنها منذ علمت عن إعاقتها لترميها خلفها لأبيها وتتزوج غيره كي تنجب أطفالاً أصحاء بزعمها ..أبو مجد كان هو كل حياتها حتى كانت تلك الليلة التي اقتحمت فيها الشرطة بيتهم لتعتقل أباها في تهمة أساسية ويموت بعدها في السجن ..
تنفلت منها شهقة عنيفة تكتمها بكفها لكنه يردف دون أن ينظر إليها :
_لكن أحداً لم يخبرها ..لا تزال تنتظر عودته ..كما تنتظر عودة أمها الجاحدة ..ولا تعلم أن أيا منهما لن يعود !
_ومن تكون أنت لها؟!
تسأله بتشتت وهي تقاوم غصة حلقها ودموعها بانعقاد حاجبيها فيجيبها دون أن يغير وضعه :
_أنا ونزار ويحيى أصدقاء منذ عدة سنوات ..بل إن صداقتنا تطورت لما يقارب الأخوّة ..اسمه يحيى العراقي مثلي ..كان تشابه الأسماء هذا ما دفعنا للتعارف أول مرة والنادل في المطعم ينادي الاسم فيتوجه كلانا نحوه ..يزعمون أن هناك أرواحاً نألفها منذ أول لقاء ..ويحيى لم يشبهني في اسمي فحسب ..بل ..
يقطع عبارته فجأة دون أن يكملها كأنه شعر أنه على حافة الوقوع في بئر المزيد من البوح ..
لكنها -وللعجب- كانت تشعر أنها مثله لا تريد معرفة المزيد !
لا تريد المزيد من الغرق في بحر لا تأمن أمواجه ..
فليبقَ ملثماً بغموضه خيراً له ..ولها!!
_لا تتحدثي مع مجد عن شيء من هذا ..أنا أحذرها دوماً من ذكر قصتها للآخرين ولا أريدها أن تكسر هذا الحاجز .
يقولها وهو يلتفت نحوها أخيراً لتتسع عيناه وهو يميز لون عينيها البراقتين في ضوء الشمس ..
طالما ظن أن رموشها تحتجز شمساً صغيرة ..
لكنه الآن يشعر أنها ليست شمساً فقط بل سديماً بأكمله !
نظراته تتلكأ فوق ذراعيها السمراوين وثوبها الأصفر الذي أحب أخيراً صراحة لونه ..
لتتوقف رحلته عند خصلات شعرها الأسود الطويل الذي يكره أشباهه !!
فيما كانت هي غافلة عن كل هذا ،شاردة فيما رواه وشفقتها على مجد تغلب شعورها بأي شيء آخر ..
لا تتصور أن تكون أمها بهذا الجحود فترمي طفلتها المعاقة لتستكمل حياتها !
لاريب أنه يشعر بهذا الحنق نحو النساء ولو أنها لا تظنه تجربته الوحيدة !!
تفيق من شرودها لتدرك تحديقه فيها فيعود جسدها لارتجافة خوفه و..تأثره !
لم تسع يوماً لمعرفة رأي أحدهم في جمالها الفقير وزينتها الباهظة ..
لكنها أمام هاتين العينين -ذاتي القضبان – تود لو تعلم كيف يراها !
نظراته الموصدة دوماً ..الغامضة دوماً ..تبدو لها سجينة وسجانة ..مأسورة وآسرة ..متعِبة ومتعَبة !
_مساء الأنوار!
يقطع بها نزار حديث نظراتهما بنبرته العابثة وهو يصل أخيراً حاملاً مجد فتشيح طيف بوجهها فيما يتناول يحيى منشفة قريبة بسرعة ليجفف ما ابتل من جسد الصغيرة ..
_ماذا تفعل أنت؟! ستحتاج لتبديل الثوب!
تقولها طيف مخاطبة يحيى بفظاظتها المعهودة ومخفية شعورها الحقيقي وهي تنحني لتبحث بين حاجياتهم عن الثوب الاحتياطي الذي أحضرته معها ..
_أين يمكنني فعلها ؟!
تسأل نزار هاربة من الحديث مع يحيى ليتحرك معها نزار وهو يدفع كرسي مجد نحو الجوار قبل أن يعود وحده ليحيى فيرمقه بنظرة ماكرة مع غمزته :
_لا يبدو عليك أثر “القَرص” ! يبدو أن السيدة “عنكبوت” راضية هذه المرة !
_”زعطوط”!
يهتف بها يحيى موبخاً كعهده وهو يلكمه في كتفه بخفة فيضحك نزار وهو يجلس مكانه ليتناول قطعة من الكعكة فيأكلها بشهية ..
فيما ينحني يحيى ليجلس على الرمال متربعاً وعيناه ترنوان إلى الشمس التي أوشكت على المغيب ..
ثم إلى البحر الذي تلاطمت أمواجه البعيدة فيما بقيت أمواجه القريبة هادئة خادعة ..
ثم إلى السماء التي تموهت ألوانها بين بشرى نور ونذير ظلمة ..
فتمتد أنامله لترسم على الرمال دائرة مغلقة قبل أن يهمس لنفسه بعبارته المأثورة وكأنه يذكر نفسه بعهده القديم :
_تذكر أيها السندباد ..وحدها الرمال لا تغدر ..لا تغدر ولا تخون .
======
_نوّرت مصر يا ابني!
تهتف بها رحمة بحنانها الأصيل مخاطبة جهاد الجالس في صالة بيتها والذي كان يشعر ببعض الحرج من بقائه هنا لولا إصرار عزيز الذي هتف به بحفاوة :
_الحمد لله أن عروسه من هنا ..هكذا نضمن ألا ينقطع حبل الود بيننا !
يبتسم له جهاد بامتنان من ترحيبه الودود لتتعلق عيناه للحظة بصورة ماسة المعلقة على الجدار مع زوجها ..
تتسع ابتسامته ببعض العجب وهو يتذكر مشاعره المذبذبة التي عاشها يوماً نحوها ..
هذه التي اكتشف زيفها وهو يقارنها الآن بشعوره العاصف نحو زهرة ..
والتي صار يدرك أنها لم تكن يوماً إلا لكونها كانت تشبه فدوى صديقته الطفلة التي ماتت برصاصة اسرائيلية غادرة .
خاطر مزعج ينتابه وهو يتذكر فدوى “الأخرى” التي تركها خلفه في “أبو ظبي” !!
تلك التي تبدلت أحوالها فجأة مع ريان في الآونة الأخيرة ولايزال يجهل السبب!!
_لماذا تبدو شارداً ؟!
يسأله عزيز باهتمام بعد انصراف رحمة إلى الداخل فيلتفت نحوه ليتنهد بحرارة وقد تذكر همه الحقيقي :
_لا أدري ..زهرة تبدو مختلفة منذ عادت إلى هنا .
_مختلفة؟!
يسأله عزيز باهتمام ليرد ملوحاً بكفه :
_متباعدة ..متحفظة ..كتوم ..كأنها واحدة أخرى غير التي عرفتها هناك .
_ربما هناك ما يقلقها بشأن أهلها ! ربما لديهم تحفظاتهم بشأن ارتباطكما العاطفي هناك ..تعلم أن الأمور هذه ليست منفتحة تماماً في كل البيئات .
_ربما !
يقولها بعدم اقتناع فيعتذر منه عزيز ليلحق برحمة وهو يشعر،برغبة صديقه في الاتصال بخطيبته -باعتبار ما سيكون –
وهو ما فعله جهاد حقاً لكن لم يصله منها رد !!
رسالة خلف رسالة يرسلها لها إنما لا يعود بجواب سوى انتظاره !!
يتنهد بقلق وهو يشرد ببصره للحظات قبل أن يرن هاتفه في يده فيرفعه لأذنه هاتفاً بسرعة :
_زهرة ..أين أنتِ؟!
_أنا فدوى يا جهاد !
يعقد حاجبيه بمزيج من ضيق وخيبة وهو يعاود النظر لشاشة هاتفه مدركاً ما فعلته به لهفته ليغتصب ضحكة مصطنعة وهو يرد بمرح:
_لا بأس! اعذري مستجداً في أمور العاشقين ! الحمد لله أن الأمر لم يكن معكوساً ..كانت لتكون مأساة !
يشعر أن ضحكتها هي الأخرى مختنقة مع ردها بعربيتها الكسيرة :
_كفاك الله شر المآسي! زهرة عاقلة وتدرك جيداً أنك في مكانة أخي .
_ماذا بكِ يا فدوى؟! أنتِ بخير؟! ريان والأولاد بخير؟!
يهتف بها بقلق لتصله ضحكتها مختنقة من جديد بحروفها متصنعة التماسك :
_لا تقلق ..أنا فقط أريد العودة !
_العودة لماذا ؟!
يسألها بدهشة قلقة ليجدها تنخرط فجأة في بكاء هستيري مع جوابها :
_لكل شيء يا جهاد ! لكل شيء !
_حسناً ! اهدئي فقط وأخبريني..
يقطع عبارته وهو يسمع الاتصال قد أغلق فجأة فيعاود هو الاتصال لكنه يجد الهاتف قد أغلق تماماً !!
كعهدها تأبى مشاركة حزنها مع أي أحد سوى ريان !!
لماذا هاتفته إذن؟! وماذا تعني بشأن العودة هذا ؟!
لهذا اتصل بصديقه ليصله صوته المرح :
_عريسنا! ما أخبارك؟!
يعقد حاجبيه بدهشة وهو يرى صوته المرح يناقض حالة فدوى فيسأله بارتباك:
_أنت لست في البيت؟!
_لا ! أنا منتدب في مؤتمر طبي في لندن ..لماذا تسأل؟!
_فدوى! أظنها ليست بخير!
_هي صارت دوماً كذلك ..لا تشغل بالك ! ناقصات عقل ودين ! مهما اختلف المنشأ والتعليم والبيئة ..كلهن يبحثن عن الغمّ بمِلقاط!
يقولها ريان في استخفاف يزيد من ضيق جهاد الذي يهتف به محذراً:
_لا تتمادَ في الضغط عليها ..هي هاتفتني من قليل وتبدو لي في أسوأ حالاتها !
_هل أخبرتك عن السبب؟!
القلق الذي يتحدث به صاحبه ينبئه أنه يخفي عنه شيئاً فيسأله بجزع:
_ماذا فعلت ؟!
زفرة ساخطة تكاد تصله حرقتها عبر الهاتف ليرد ريان باقتضاب:
_لم أفعل بعد !
_ريان!!
يهتف بها جهاد بانفعال لينتفض مكانه واقفاً بينما يردف بعصبية :
_إياك أن تجعلني أشعر بالذنب لأنني من جمع بينكما ..لا تحتاج لأن أذكرك بأي شيء ضحت فدوى لأجلك !
_لا تحتاج لأن تذكرني فعلاً لأنها هي تفعل في كل ساعة ..بل في كل لحظة ..خنقتني !
يجفل جهاد من نبرة صديقه العصبية الغريبة على طبيعته الهادئة فيهتف به بقلق:
_اهدأ وأخبرني ما الذي يحدث بالضبط!! طالما كنت صديقك وكاتم سرك !
يصمت ريان للحظات ثم يجيبه بنبرة عاد إليها برود اقتضابها :
_لا تقلق ..سأعود غداً وأسترضيها ..تعلم أنني أجيد ذلك دوماً .
_لا تراهن يا صديقي! هناك دوماً مرة أولى لكل شيء!
يقولها جهاد محذراٌ فلا يقابله سوى صمت صاحبه قبل أن يغلق الاتصال !!
يتنهد بحرارة وهو يتذكر كيف عرف فدوى لأول مرة ..
كيف لم يتصور وقتها أن النفور الذي غزاه من لقائها الأول سيتحول لهذه الأخوة الوثيقة بينهما!
نفور؟!
أجل ..منذ التقاها في ذاك المؤتمر الطبي العالمي باسم “يولاند” طبيبة فرنسية من أصل يهودي!!
هذا الذي كان دافعه ليتجنبها طوال أيام المؤتمر رغم وجود رفقة جمعتهما ..فلم يكن وقتها قادراً بعد على التفرقة بين اليهودية والصهيونية ولاتزال آثار ماضيه ملوثة بلون الدم !
الصدفة تلعب لعبتها فيلتقيها ثانية في مؤتمر آخر قبل أن يجمعهما عمل قصير الأجل في إحدى مستشفيات باريس الشهيرة لتفاجئه وقتها بتصريحها بإيمانها بالقضية الفلسطينية ضد الفكر الصهيوني ..
ربما هذا ما خفف حدة نفوره منها خاصة وهو يلمس في تعاملاتها العفوية معه ومع زملائهما روحها القوية المشبعة بالرقة والعطاء ..
لقد ظن وقتها بعد انتهاء عمله القصير معها في فرنسا أنه سيكون لقاءهما الأخير لكنه التقاها بعد بضعة أشهر في إحدى رحلاته للندن ..وهذه المرة لم يكن وحده ..ريان صديقه كان معه !!
لا ينكر أنه لم يكن مرتاحاً في البداية لهذا الانجذاب الشديد بينها وبين صديقه والذي امتد عقب عودته معه إلى “أبو ظبي” عبر محادثاته الطويلة معها عبر الانترنت ليفاجأ بريان يخبره ذات يوم أنهما قررا الزواج وأنها ستستقر معه في الإمارات بعدما أشهرت إسلامها !!
فرحته وقتها بها كانت تشبه فرحته بمولود جديد ..كان يشعر نحوها بنوع من المسئولية ربما لأنه كان سبب معرفتها بصديقه الذي قلب حياتها رأساً على عقب ..”يولاند” اليهودية تحولت إلى “فدوى” المسلمة التي اختار لها هو اسمها بعدما هجرت وطنها وأهلها فلم تعد تعرف لها هوية سوى حب ريان الذي ازداد نسيجه قوة بإنجابهما لثلاثة أبناء !
طوال هذه السنوات وهما مضرب الأمثال في السعادة باستثناء غيرتها المنطقية عليه وهي تراه عالمها كله ..
فما الذي جد عليهما ؟!
ربما لو كان رجلاً آخر غير ريان لظن أن الأمر يخص غزو امرأة جديدة لحياته ..
لكنه يعرف صديقه جيداً ..يعرف أنه لا يخون !
_أنهيت مكالماتك ؟!
يقاطع بها عزيز سيل أفكاره فيلتفت نحوه لتتشح نظرته بالمزيد من العاطفة وهو يراه يحمل طفلته ميادة فيتناولها منه ليلاعبها بلفظته التحببية التي اعتادت بها جدته قديماً وصف الصغيرات الجميلات المتبخترات بدلال طفولي في شوارع القدس القديمة :
_”غندورة”!
_عيناك زرقاوان كالبحر .
تهتف بها الصغيرة بانبهار طفولي وهي تلاعب شاله المميز بلونيه الأبيض والأسود بأناملها الصغيرة .. فيضحك جهاد وهو يستمر بملاعبتها لتسقط منه ميداليته التي يلتقطها بخفة بينما يهتف به عزيز ضاحكاً :
_لا تزال تحتفظ بها !
_لا أفرط فيها أبداً!
يقولها باعتزاز وهو يرمق ميداليته بمجسم ” الطفل حنظلة” -بما يحويه من رمزية انتمائه- بنظرة فخر ثم يقبله ليمس به جبينه للحظة في حركة ذات مغزى ..
صوت رنين جرس الباب يصدح ليتوجه عزيز لفتحه ..
تشحب ملامحه للحظة وهو يستدير نحو جهاد عفوياً بحرج قبل أن يعود ببصره نحو ماسة التي وقف خلفها عاصي فيقول أخيراً بارتباك:
_مرحباً ..ما هذه المفاجأة ؟!
يقولها ثم يصافح عاصي ببعض التحفظ مردفاً :
_البقاء لله !
لم تكن المرة الأولى التي يقدم له فيها واجب التعزية في ابنة عمه خالة سند لكنها فرضت نفسها على لسانه الآن وهو يرى الصغير نفسه معهما جوار نور وضياء ..
دموعه الصامتة تملأ عينيه وتسيل على وجنتيه فيما ينكمش ذعراً بين ذراعي ماسة !
_أين أمي؟!
تهتف بها ماسة بلهفة وهي تدلف إلى الداخل تجذب الصغير نحوها لتتجمد نظراتها للحظة مصدومة وهي تلمح جهاد الذي وقف يحدق فيها بدوره ..
تشحب ملامحها بقلق وهي تدعو الله ألا يذكر عاصي شأن تلك الصورة التي أرته إياها يوماً على الهاتف ..
لكنها تلتفت نحوه فيهولها اشتعال غابات الزيتون في عينيه !
لقد تذكّر!!
======
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)